الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ج - ضحية من ضحايا الاستعمار (الشيخ عبد الحليم بن سماية)
.
ومرة أخرى، قد يكون من الأفضل العودة إلى ما كتبه الشيخ المجاهد أحمد توفيق المدني في مذكراته: (أذكر حادثا وقع لي، عرفني بعالم جليل، ومنه عرفت ما آل إليه حال الذين رفضوا التعامل مع الاستعمار. ولم يركنوا إليه. والذين اختنقت أنفاسهم بما لاقوه من مرارة ظلم وإرهاق
…
كنت على موعد معه في مزرعة السيد محمد بن الأكحل، غير بعيد عن بلدة الأربعاء. ودخلت المكان مع صاحب الدعوة. وكان الشيخ يتوسط القاعة، وكأنه بجلاله وهيبته يحتل كامل الغرفة
…
كان حقا شيخا جليلا، قام للسلام علي، ولم تتغير ملامحه، ولم تبد على وجهه أدنى بشاشة
…
قال لي: مرحبا بك. ثم سكت طويلا، ولا يتحرك، ولا يبدي إشارة - ليشارك في الحديث - حتى كأنه صورة مجسمة من الشمع الملون. قلت للسيد محمد بن الأكحل هامسا: أهذا هو الشيخ عبد الحليم بن سماية، العالم الشهير، الذي طبق صيته آفاق العالم الإسلامي؟ قال لي: نعم. وهذه هي حاله مئنذ أن أصبح ملازما للوحدة والعزلة، وستكون محظوظا إن أنت ظفرت منه بكلمة. قلت: ومنذ متى وهو يلازم هذه الحالة؟ قال لي: منذ بدأت الأحاديث تتردد عن احتفال فرنسا بصفة صاخبة بمرور مائة عام على احتلالها الجزائر.
فهمت. وعلمت أن الرجل البائس يكاد يقتله الهم والحزن، وأن سكوته هذا هو نوع من الفرار من الدنيا. ولكنني اتجهت إليه
ضحية من ضحايا القهر الاستعماري (الشيخ عبد الحليم بن سماية) وهو يظهر في الصورة أعلاه، وإلى جانبه الإمام الشيخ محمد عبده أثناء زيارته للجزائر سنة 1903.
بكليتي، وأخذت أستفز منه الشعور والإحساس، وأثير في قلبه الآلام والأحزان حتى أسمع حديثه، وأطلع على ما يخفيه في فؤاده الجريح من هم وألم. فقلت له: بالله يا أستاذنا العظيم، وأنت رجل العلم ومربي الجيل، وحامل لواء القرآن. إن قلبي يذوب ويلتهب وأنا أرى حال هذا البلد الذي كان أمينا، فأصبح مهانا ذليلا، حتى أن الخنازير ورعاة الخنازير يريدون الاحتفال باحتلاله. فازداد وجهه احمرارا، وازدادت نظراته حدة، وازدادت ملامح وجهه قسوة، حتى لقد خيل إلي أنه يثور ثورة عنيفة مرعبة. غير أنه سيطر على نفسه، وقال في حدة:(بل قل أنه أصبح مثل المومس الداعرة يتناولها من يشاء من الأشقياء دون أن تنال منهم شيئا. لكن هذا هو قضاء الله. ولا راد لقضائه) ثم هدأت ملامحه. وعاد إلى صمته. فقلت له فورا: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فلتغيروا ما بأنفسكم من ذلة واستكانة ورضوخ وتشتت شمل وقلة الناصح، وخوف العالم، وانهيار الإيمان، يغير الله حالكم إلى أحسن حال. فتململ قليلا، وقال في ألم يحز القلب ويهد القوى:(لقد قال الله ذلك لقوم يعقلون، وما نزلت آية من القرآن هي أهدى للأمم وأدل على طريق الحرية والسعادة كهذه الآية، لكن أين من يفهم، وأين من يسمع وأين من يعي؟) قلت: (يا أستاذي العظيم، لقد ربيت في المدرسة الثعالبية جيلا، بل أجيالا من الرجال. بثثت في صدورهم العلم، وألهمتهم الحكمة والصواب، أليس فيهم من يقول اليوم كلمة الحق أو يدعو إلى الخير؟) وأجاب مضعضعا: ليس فيهم
…
والله رجل رشيد. ما فيهم إلا المخنث والخصي، فهالني أن أسمع من ذلك العلامة العظيم،
مثل هذه الكلمات السوقية، وظهر علي الإمتعاض والاعتراض، وقلت: يقولون إن الناس على دين ملوكهم والطلبة على دين أساتذتهم و .. فقاطعني قائلا: أما الناس فهنا على دين ملوكهم الملاعين حقا؛ السفه والزيف والفساد والنفاق، والتكالب على الدنيا ونكران الآخرة، أما أن الطلبة على دين أساتذتهم، فلا. لا. لا. وأطال في لفظ (لا) الأخيرة طولا انتهى بنفسه، قلت له: ما حكم الله في
…
فقاطعني بحدة قائلا: (هنا لا يوجد حكم الله. هذه دار حرب. سقطت فيها الأحكام الشرعية. وانتهى فيها أمر الإسلام) قلت: يا ويلاه! أنت تقول هذا؟ إن هذا القول هو غاية ما يريده المستعمر كي يتم له ابتلاع الأرض الجزائرية وما فوقها وما تحتها من خيرات. قال: (وهل بقي فيها شيء لم يبتلعه ولم يهضمه؟) قلت: نعم: بقي فيها الإسلام، بقي فيها الإيمان، بقيت فيها الروح التي لا تغلب، بقيت فيها النفوس المتألمة الظمأى، بقي فيها حب الانتقام من الظالمين. إنك تعيش يا استاذي الكبير في معزل عن الشعب، بعيدا عن الطبقات العامة، لا تعرف نفسيتهم ولا تفكيرهم
…
إنهم والحمد لله لا يسمعون كلامك، ولا يختلطون بك. ولو أنهم استمعوا إليك أو اختلطوا بك لتقولوا عليك الأقاويل، ولكفروا بك بعد إيمان. فتنهد، ونزلت دمعة من عينيه، وقال:(لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع) ثم عاد إلى صمته وسكوته كأنما هو أبو هول القرن العشرين.
قال لي الأخ محمد بن الأكحل: منذ أمد طويل، لم نر الشيخ تكلم كما تكلم اليوم
…
هذا رجل أصابه اليأس في الصميم، واصطلى من الاستعمار الإفرنسي بنار الجحيم. وأصبح يحيا في
نفسية لا تنتظر معها سلامة: إما موت وإما جنون. وقد كانت الثانية لسوء الحظ، فلم يمض أمد طويل على لقائنا حتى علمت بأن الشيخ عبد الحليم بن سماية قد فقد عقله، وأخذ يهذي ولا يعرف ما يقول.
غير أن الشيخ لم يفقد حتى وهو في حالته الأخيرة، مهابته أو سلامة محاكمته، ومما يحكى عنه في هذه الفترة: أنه دخل مرة حديقة (بور سعيد) وكانت تدعى (السكوار) وهو يمتطي جواده، وأخذ يتجول بين مساربها، وأفواج العامة تسير في ركابه. ففاجأه شرطي الحراسة بقوله: هنا ممنوع ركوب - أو مرور - الخيل، أخرج. فأجابه الشيخ محتدا: أنا لا يمتعني أحد! فأخذه إلى محافظ الشرطة، والعامة تتبعه، وكان المحافظ يعرف عنه الكثير، فقال له: يا سيدي الشيخ، ممنوع منعا باتا مرور الخيل بالمنتزهات العامة، خوفا على الضعفاء والأطفال. فرد عليه الشيخ: عجبا! صبرنا على حصانكم موضوعا بساحتنا العمومية مائة سنة (يقصد بذلك تمثال الدوق دومال - فاتح الجزائر) ولا تصبرون على حصاننا ربع ساعة. قال محافظ الشرطة وقد ترجموا له ذلك: هذا كلام عدو عاقل لا كلام صديق مجنون. وأذن له بالانصراف.
هذه الحادثة، وأمثالها، أكدت أن ما أصاب الشيخ لم يؤثر أبدا على ملكته العلمية، وإنما أثرت على سلوكه ووجوده في المجتمع بين الناس. أو قل بأنها (عقدة الاضطهاد) التي أفقدته القدرة على التكيف مع محيطه، وهي الظاهرة التي تحمل طبيا اسم (المونوماني) والتي لازمته حتى انتقل إلى جوار ربه، مأسوفا عليه