الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مقال للمؤلف حول تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل]
تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل (1) الحمد لله والصلاة والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أيده الله بروح من عنده، أيده في التشريع بالوحي وعصمه من الإخبار عن الكذب:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]
وما كان منه عليه الصلاة والسلام عن اجتهاده أقره الله تعالى عليه إن أصاب فيه، وكشف له عن الحق وأبان له الصواب إن أخطأ، فكان بفضل الله وتوفيقه على بينة وبصيرة من أمره على كل حال، لم يكله الله لنفسه، ولم يدعه لحسن تفكيره، بل هداه سبحانه في كل شئونه إلى سواء السبيل.
(1) مقال للمؤلف نشر في مجلة أنصار السنة المحمدية.
لقد أنزل الله عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدي والفرقان.
وأوحى إليه من الأحاديث ما فيه بيان لما أجمل في القرآن، وتفصيل لقواعده، وشرح للعقائد والشرائع، فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم.
قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] ؛ فوجب تصديق ما جاء في كتاب الله وما صح من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها في كل شأن من الشئون، والرضا والتسليم لحكمها دون حرج أو ضيق في الصدور تحقيقًا للإيمان، وتطيرًا للقلوب من درن الشرك والنفاق، قال الله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]
ولا يغتَرَّنَ إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة
في التفكير، وبسطة في العلم، فيجعل عقله أصلا، ونصوص الكتاب والسنّة الثابتة فرعًا، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه دينًا، وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرَّفه عن موضعه، وأوَّله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره، وإلا رده ما وجد في ظنه إلى ذلك سبيلا- ثقة بعقله- واطمئنانًا إلى القواعد التي أصَّلها بتفكيره واتهامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تحديدًا لمهمة رسالته وتضييقًا لدائرة ما يجب اتباعه فيه واتهامًا لثقاة الأمة وعدولها، وأئمة العلم، وأهل الأمانة الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة، ووصلت إلينا عن طريقهم قولا وعملا.
فإن في ذلك قلبًا للحقائق، وإهدارًا للإنصاف مع كونه ذريعة إلى تقويض دعائم الشريعة وإلى القضاء على أصولها. إذ طبائع الناس مختلفة واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متباينة، وقد تتسلط عليهم الأهواء، ويشوب
تفكيرهم الأغراض، فلا يكادون يتفقون على شيء، اللهم إلا ما كان من الحسيّات أو الضروريات.
فأي عقل من العقول يُجعَل أصلا يُحَّكم فيِ نصوص الشريعة فتُرَدُّ أو تنزل على مقتضاه فهمًا وتأويلا.
أعقل الخوارج في الخروج على الولاة، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء؟ أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الأسماء والصفات وتحريفها عن موضعها وفي القول بالجبر.
أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة؟
أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات (1) والغلاة في سلب المكلفين المشيئة والقدرة على الأعمال.
(1) الظاهر أنه يريد الممثلة الذين غلوا في إثبات الأسماء والصفات حتى مثلوا ما يختص منها بالله عز وجل بما يختص بالمخلوقين.
أم عقل من قالوا بوحدة الوجود. . الخ. ولقد أحسن العلَاّمة أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رضي الله عنه إذ يقول: " ثم المخالفون للكتاب والسنَّة، وسلف الأمّة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج.
فإن من ينكر الرؤية بزعم أن العقل يحيلها، وإنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يجهل أن لله علمًا وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد، والأكل والشرب الحقيقيين في الجنّة، يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل.
ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوَّز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله.
فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنَّة، فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أو كلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء انتهى (1) .
هذا وإن فريقًا ممن قدّسوا عقولهم، وخدعتهم أنفسهم، واتهموا سنَّة نبيهم قد أنكروا رفع الله نبيه عيسى ابن مريم عليه السلام إلى السماء حيًّا بدنًا وروحًا، ونزوله آخر الزمان حكمًا عدلا، لا لشيء سوى اتباع ما تشابه من الآيات دون ردها إلى المحكم منها، واتباعًا لما ظنوه دليلا عقليًّا، وما هو إلا وهم خيال.
وردوا ما ثبت من سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم نزولا على ما أصَّلُوه من عند أنفسهمٍ من أن العقائد لا يستدل عليها بأحاديث الآحاد، واتهاما لبعض الصحابة ومن إليهم فيما نقلوا من الأحاديث، وفي ذلك جرأة منهم على الثقات الأمناء من
(1) مجموع الفتاوى: (5 / 28، 29) .
أهل العلم والعرفان دون حجة أو برهان.
وتطاولوا على علماء الحديث وتناولوا رجال الجرح والتعديل بألسنة حداد جهلا منهم بما قدموه من خدمة للدين وحفظ الأصل الثاني من أصول الإسلام وهو السنَّة النبوية، وعجزًا منهم عن أن يبخسوا ما دوّن أولئك الأئمة الأخيار من كتب في قواعد علوم الحديث ودواوين في تاريخ رواة الحديث، وبيان درجاتهم، ومراتبهم في الرواية، وطبقاتهم ومواليدهم ووفياتهم، ولقاء بعضهم بعضًا أو سماعه تمييزًا لمن تُقبل روايته ممن ترد روايته، وما يقبل من الأحاديث وما يرد وذبًّا عن السنَّة النبوية وحفاظًا عليها.