الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الرد على أهل المسلك الثالث القائلين برد السنة لأنها أخبار آحاد]
الرد على أهل المسلك الثالث القائلين برد السنة لأنها أخبار آحاد والذين يعترضون على الأحاديث، أو على بعض الأحاديث: يؤمنون بما تواتر من الأحاديث لفظًا ومعنى، وهو عدد قليل من الأحاديث؛ كحديث:«من كذب عليَّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار» (1) أو الأحاديث المتواترة معنى، كأحاديث رؤية الله تعالى (2) وأحاديث المسح على الخفين، وأحاديث عذاب القبر ونعيم القبر (3) .
يؤمنون بمثل هذا: إما لمجيئه في القرآن، وإما لتواتره
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (1 / 241) ، ومسلم في صحيحه (1 / 65) .
(2)
رؤية الله جل وعلا ثابتة بالقرآن والسنة الصحيحة، انظر: صحيح البخاري (554) ، ومسلم (633)، وانظر: كتاب الرؤية للإمام الدارقطني، وحادي الأرواح لابن القيم (204) ، وشرح السنة للالكائي ص240، وانظر: تعليق العلامة ابن عثيمين على العقيدة الواسطية (1 / 448) ، (2 / 57) .
(3)
انظر: الأزهار المتناثرة للأحاديث المتواترة للإمام السيوطي، والنظم المتناثر في الحديث المتواتر للكتاني.
في السنَّة، وإما لوجوده في الاثنين جميعًا. لكنهم لا يؤمنون بأحاديث الآحاد، وذلك لأنهم يرون أنها لا تفيد إلا ظنا غير غالب.
فيردون أمثال هذه الأحاديث ولا يحتجون بها أصلا، أو يحتجون بها في الفروع دون الأصول.
أما شبهتهم في رد حجية (حديث الآحاد)(1) فهم يقولون: إن الراوي يخطئ ويصيب، وإن الراوي قد يكون عدلا فيما يظهر؛ وهو كذاب أو منافق في باطن أمره.
ويقولون: إن عمر بن الخطاب ردَّ على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما حديثه في الانصراف بعد الاستئذان ثلاثًا.
فيقولون: هذا عمر بن الخطاب لم يقبل رواية صحابي جليل لحديث، فهذا يدل على أن في رواية الواحد دخنًا،
(1) عقد ابن قيم الجوزية فصلا نفيسا جدا في تفنيد هذه الشبهة في كتابه الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، كما في مختصره 2 / 362 و363.
وأنه مثار تهمة فلا نعملُ به حتى يتأيد بغيره (1) وقد ورد مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أعرابي.
* الجواب على هذه الشبهة: وهذا وأمثاله يُرد عليه بأمرين: الأمر الأول:
أن عمر بن الخطاب لم يكذبه إنما أراد:
1 -
أن يتثبت من جهة.
2 -
وإلى جانب التثبت:
خاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يجترئ الناس على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأظهر لهم القوة حتى يحتاطوا لأنفسهم عند البلاغ فلا يبلغ إلا وهو واثق مما يتكلمِ به، هذا جانب بدليل أنه قَبلَ خبر الواحد في مرات أخر:
- قبل خبر الواحد في إملاص المرأة.
(1) لو كان عمر رضي الله عنه رد حديث أبي موسى لأنه خبر واحد لاشترط التواتر ولما اكتفى بشهادة واحد على صدق أبي موسى؛ لأن شهادة الواحد والاثنين لا يتحقق بها التواتر، ولا يخرج بها الحديث عن كونه حديث آحاد كما هو مقرر.
- ثم الرسول صلى الله عليه وسلم قد اعتمد خبر الواحد، فكان يُرسل رسولا واحدًا بكتابه (1) وما أدرى أولئك أن هذا صادق في أن هذا كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس عندهم بصمة له، ولا عندهم صورة لخاتمه.
ما الذي يدريهم بأن دحية الكلبي (2) رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف لزمهم البلاغ؟ وكيف أصيب كسرى (3) بعذاب من عند الله حينما مزق الكتاب؛ كيف لزمتهم الحجة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسل الواحد؛ إلا وهو يعتقد أن الحجة تقوم به، وهذا أمر معلوم بالضرورة من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم أفرادًا إلى جهات لنشر الدعوة وإقامة الحجة، وقد أرسل
(1) راجع في ذلك كتاب أخبار الآحاد من صحيح البخاري 13 / 244.
(2)
بعث النبي صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي بكتابه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى هرقل، أخرجه البخاري من حديث ابن عباس (6) .
(3)
كسرى لقب لكل من تملك الفرس، وقصة إرسال النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه إليه مع عبد الله بن حذافة السهمي، أخرجها البخاري (4424) .
معاذ بن جبل رضي الله عنه ليقضي، ويكون أميرًا في اليمن، وأرسل عليًّا رضي الله عنه وأرسل أبا موسى الأشعري رضي الله عنه.
القصد: أن إرسال الواحد من الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكرَّر مرات، وَهو لا يرسله إلا إذا كان يعتقد أن الحجة تقوم به، وأن خبرهُ يجبُ أن يُصَدَّق.
والمهم فيه أن يتخير عدلا، أمينًا، صادقًا، وأنه يقوى على البلاغ.
وليس من المهم أن يكون عددًا بدليل أنه أرسل فردًا فردًا إلى دول، وليس إلى أفراد، وفى أصل الدين وهو العقيدة وليس في الفروع فقط.
فهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم يُحتج به على قبول خبر الواحد، ضد هؤلاء الذين يتهمون الراوي إذا كان واحدًا، وإن كان: - عدلا، ضابطًا. - مع اتصال الإسناد.
- ومع عدم مخالفة من هو أوثق منه.
- ومع عدم الوقوف على علة قادحة يُرَدُّ بها الحديث.
هذا العمل من الرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم، وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَبلَ خبر الواحد عدة مرات، فلماذا يتمسكون بهذه القصة، ولا يتمسكون بغيرها وغيرها أكثر منها.
الأمر الثاني: في عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان عنده قوة في التثبت وكان يجتهد ويستوثق أكثر، لا لأنه مُتَّهم لمن استوثق في خبره، كما جاء في حادث التحقيق مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما كان- في العراق- أميرًا وقاضيا وقائد السرية، وإمامًا في الصلاة وخطيبًا في الجمعة، اشتكاه واحد من العراقيين إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكتب إليه كتابا؛ يقول فيه:" إنه لا يخرج بالسرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يحسن الصلاة "، فأرسل شخصًا يُحقِّقُ في الموضوع، مع أنه واثق من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، لكن لا يريد
الفتن ولا القلاقل، ويريد أن يستوثق أكثر، وفعلا حقَّقَ داخل المساجد ومرَّ على أناس هنا وهناك، فكلهم يثنون خيرا على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، إلا المكان الذي فيه بؤرة الفساد والرجل الذي بلَّغ فانتصَبَ له، فحكى نفس الكلمة وسعد يسمع، فقال:" اللهم إن كان كاذبًا فأطل عمره، وأدم فقره، وأكثر عياله، وعرّضه للفتن "(1) أربع دعوات نظير أربع تهم وجهها الرجل إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فطال عمر الرجل، وكثر عياله، ودام فقره، وكبر في السن حتى صار وهو يمشي في الطريق ينظر إلى النساء بعين خائنة، وقد سقط حاجبه على عينه، فيقال له: ما بك وقد شبت؟ فيقول: مسكين، أصابتني دعوة سعد. أقول: عمر بن الخطاب (لما استخلفَ ستة)(2) حينما طُعن، وأيس من أن يبقى، فقالوا: استخلف؟ فقال: لا أحملكم حيًّا وميتًا، ولما ألحوا عليه استخلف ستة يختارون
(1) رواه البخاري.
(2)
أخرجه البخاري (3700) .
من بينهم خليفة، واستجاب لهم في الجملة، ثم جعل من الستة سعدًا رضي الله عنه، ثم قال: اعلموا أني لم أعزله لشكِّي فيه ولا اتهامًا له، ولهذا رضي به خليفة باختيارهم إياه، ثم إذا لم تصبه نصحهم بأن يستشيروه، وأن يرجعوا إليه فيما يبرمون من أمور الدولة.
فهذا يدل على اتجاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قبول خبر الآحاد.
والقصد أن هذا جواب لاعتمادهم على طلب عمر من أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، أن يأتيه بآخر يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث
وأسأل الله أن يوفقني، وإياكم لما فيه رضاه، وأن يشرح صدورنا بالعلم النافع، وأن يجعل لنا بصيرة في إصابة الحق، وأن يوفقنا للعمل بما علَّمنا، فإنه مجيب الدعاء.