الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة.
حوضه أعرض الحياض وأكثرها واردًا، قال القرطبي: وقول البكري المعروف بابن الواسطي: لكل نبي حوض إلا صالحًا، فحوضه ضرع ناقته، لم أقف على ما يدل عليه أو يشهد له، انتهى
"ومنها: الوسيلة" لما في مسلم مرفوعًا: "إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الوسيلة حلت عليه الشفاعة". "وهي أعلى درجة في الجنة" كما قال صلى الله عليه وسلم: "الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله لي الوسيلة"، رواه أحمد.
قال ابن كثير: الوسيلة علم على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، وقال غيره: فعليه من وسل إذا تقرب، وتطلق على المنزلة العلية؛ كما في الحديث؛ فإنها منزلة في الجنة على أنه ممكن ردها إلى الأول، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فتكون كالقرية التي يتوسل بها، ولما كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية، وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله، وأمر أمته أن يسألوها لينالوا بهذا الدعاء الزلفى وزيادة الإيمان، وأيضًا فالله قدرها له بأسباب، منها: دعاء أمته له بما نالوه على يده من الهدى.
وأما الفضيلة، فهي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أنها منزلة أخرى، وتفسير للوسيلة.
ولابن أبي حاتم عن علي: إن في الجنة لؤلؤتين، إحداهما بيضاء، واسمها الوسيلة لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، والصفراء لإبراهيم وأهل بيته.
قال ابن كثير: هذا أثر غريب، ذكره المصنف في المقصد الأخير، وقال عبد الجليل القصري في شعب الإيمان: الوسيلة هي التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى الله، وذلك أنه في الجنة بمنزلة الوزير من الملك بغير تمثيل، لا يصل إلى أحد شيء إلا بواسطته، وهذا كما قال بعض: وإن كان حسنًا، لكنه تفسير للشيء بخلاف ما فسره هـ صاحبه على أنه يحتاج إلى توقيف.
خصائص أمته صلى الله عليه وسلم:
وأما خصائص أمته صلى الله عليه وسلم
خصائص أمته صلى الله عليه وسلم:
"وأما خصائص أمته صلى الله عليه وسلم" في الدنيا والآخرة، أي: بعضها في الدارين لتركه كثيرًا فيهما،
وزادها شرفًا، فأعلم إنه لما أنشأ سبحانه وتعالى العالم على غاية من الإتقان، وأبرز جسد نبينا صلى الله عليه وسلم للعيان، وظهرت عنايته بأمته الإنسانية، بحضوره وظهوره فيها، وإن كان العالم الإنساني والناري كله أمته، ولكن لهؤلاء خصوص وصف، فجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وجعلهم ورثة الأنبياء، وأعطاهم الاجتهاد في نصب الأحكام، فيحكمون بما أدى إليه اجتهادهم.
وكل من دخل في زمان هذه الأمة من الأنبياء عليهم السلام بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، كعيسى عليه السلام.
"وزادها شرفًا" والمراد أمة الإجابة، "فاعلم أنه لما أنشأ سبحانه وتعالى العالم على غاية من الإتقان، وأبرز جسد نبينا" أي: شخصه، وهو الصورة التي يرى عليها "صلى الله عليه وسلم للعيان" بكسر العين، "وظهرت عنايته" رعايته واهتمامه "بأمته الإنسانية" بمعاملته لهم معاملة من يريد نفع غيره، "بحضوره وظهوره فيها" عطف تفسير، "وإن كان العالم الإنساني والناري" أي: عالم الجن "كله أمته" لبعثه إليهم إجماعًا، "ولكن لهؤلاء" أي العالم الإنساني "خصوص وصف" من إضافة الصفة للموصوف، أي: وصف خاص بهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم وهو الخيرية المشار إليها بقوله: {فَجَعَلَهُمْ} جواب لم دخلت عليه الفاء على قلة، أو هو عطف على مقدر، أي: لما أنشأ العالم على ما ذكر، وخص الأمة المحمدية بصفة زائدة، ميزهم على غيرهم، وفضلهم فجعلهم {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية وجعلهم ورثة الأنبياء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم"، رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما.
وأما خبر: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، فقال الحافظ، ومن قبله الدميري والزركشي: لا أصل له، وسئل عنه الحافظ العراقي، فقال: لا أصل له، ولا إسناد بهذا اللفظ، ويغني عنه:"العلماء ورثة الأنبياء"، وهو صحيح، وأخرج ابن عدي وأبو نعيم والديلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء، وورثتي وورثة الأنبياء". "وأعطاهم الاجتهاد في نصب الأحكام" من الكتاب والسنة وغيرهما، "فيحكمون بما أدى إليه اجتهادهم" ويؤجرون ولو أخطئوا فيه، ولعل هذين من عطف بعض الأسباب على المسبب؛ لأن كونهم ورثة الأنبياء وإعطاءهم الاجتهاد من أسباب الخيرية المبينة في الآية بقوله:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية، وكان هذا هو الحامل على إدخال الأمرين في الخيرية، "وكل من دخل في زمان هذه الأمة من الأنبياء عليهم السلام بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، كعيسى عليه السلام"، فإنه حين ينزل من هذه الأمة اتفاقًا مع بقائه على نبوته، بل ذهب جمع من العلماء إلى أنه
أو على تقدير دخوله كالخضر، فإنه لا يحكم في العالم إلا بما شرعه محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، فإذا نزل سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام فإنما يحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بإلهام أو اطلاع على الروح المحمدي، أو بما شاء الله تعالى
صحابي لاجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي، مؤمنًا ومصدقًا، وكان اجتماعه به مرات في غير ليلة الإسراء.
روى ابن عساكر عن أنس: قلنا يا رسول الله! رأيناك صافحت شيئًا ولا نراه؟ قال: "ذاك أخي عيسى ابن مريم، انتظرته حتى قضى طوافه، فسلمت عليه".
وروى ابن عدي عن أنس: بينا نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ رأينا بردًا ويدًا، فقلنا: يا رسول الله! ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال: "قد رأيتموه"؟ قلنا: نعم، قال:"ذاك عيسى ابن مرين سلم عليّ"، "أو على تقدير دخوله، كالخضر" على أنه نبي، وإلياس على أنهما باقيان، "فإنه لا يحكم في العالم إلا بما شرعه محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة" لا بشرائعهم التي كانت قبله، "فإذا نزل سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، فإنما يحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم" ويكون وصولها إليه "بإلهام" بأحكامها، "أو اطلاع على الروح المحمدي" فيخبره بشريعته، "أو بما شاء الله تعالى" من استنباطه لها من الكتاب والسنة ونحو ذلك، وقد سئل السيوطي بأي طريق تصل أحكام شريعتنا إلى عيسى، فأجاب بأن الأنبياء كانوا يعلمون في زمانهم بجميع شرائع من قبلهم، ومن بعدهم بالوحي من الله على لسان جبريل وبالتنبيه على بعض ذلك في الكتاب الذي أنزل عليهم وبأن عيسى ينظر في القرآن، فيفهم منه جميع أحكام هذه الملة من غير احتياج إلى مراجعة الأحاديث؛ كما فهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من القرآن، فإنه قد أنطوى على جميع أحكام الشريعة وفهمها نبينا بفهمه الذي اختص به، ثم شرحها لأمته في السنة، وإفهام الأمة تقصر عن إدراك ما أدركه صاحب النبوة، وعيسى نبي، فلا بد أن يفهم من القرآن كفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن عيسى معدود في الصحابة لأنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، فلا مانع أنه تلقى منه أحكام شريعته المخالفة لشريعة الإنجيل؛ لعلمه بأنه سينزل في أمته، ويحكم فيهم بشرعه، فأخذها عنه بلا واسطة، وإلى هذا أشار جماعة من العلماء.
قال: ورأيت عبارة السبكي نصها: إنما يحكم عيسى بشريعة نبينا بالقرآن والسنة، فترجح أن أخذه السنة بطريق المشافهة بلا واسطة، وبأنه إذا نزل يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأرض، كما صرح به في أحاديث فلا مانع من أن يأخذ عنه ما احتاج إليه من أحكام شريعته. واستدل السيوطي لكل واحد من هذه الأربع بما يطول ذكره، وذكر أنه اعترض عليه في الجواب الأول بلزوم أن القرآن مضمن في الكتب السابقة فأجاب بأنه لا مانع من ذلك، فقد دلت الأحاديث على ثبوت هذه اللازم، وقال تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} ؛ ثم ساق أدلة ذلك في نحو ورثة، ثم قال:
فيأخذ عنه ما شرع الله له أن يحكم به في أمته، فلا يحكم في شيء من تحريم وتحليل إلا بما كان يحكم به نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا يحكم بشريعته التي أنزلت عليه في أوان رسالته ودولته، فهو تابع لنبينا صلى الله عليه وسلم، وقد نبه على ذلك الترمذي الحكيم في كتاب ختم الأولياء، وأعرب عنه صاحب "عنقاء مغرب" وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح عقائد النسفي
إن السائل نفسه سأله ثانيًا: هل ثبت أن عيسى ينزل عليه الوحي بعد نزوله؟ فأجاب: نعم. روى مسلم وغيره أثناء حديث: "أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عبادًا من عبادي لا يد لك بقتالهم"، فهذا صريح في أنه يوحى إليه بعد نزوله، والذي نقطع به أن الجائي إليه جبريل لأنه السفير بين الله وبين أنبيائه كما صرحت الآثار بذلك وساقها، ثم قال: وقد زعم أن عيسى إذا نزل لا يوحى إليه حقيقة بل وحي إلهام وهو ساقط مهمل لمنابذته لحديث مسلم وغيره، ولأن ما توهمه من تعذر الوحي الحقيقي فاسد لأنه نبي، فأي مانع من نزول الوحي إليه؟ فإن تخييل أنه ذهب منه وصف النبوة فهو قول يقارب الكفر لأن النبوة لا تذهب أبدًا ولا بعد موته، وإن تخيل اختصاص الوحي بزمن دون زمن فهو قول لا دليل عليه، ويبطله ثبوت الدليل على خلافه، انتهى.
"فيأخذ عنه ما شرع الله له أن يحكم به في أمته فلا يحكم بشيء من تحريم وتحليل إلا بما كان يحكم به نبينا صلى الله عليه وسلم ولا يحكم" عيسى "بشريعته التي أنزلت عليه في أوان رسالته ودولته فهو" أي عيى تابع لنبينا صلى الله عليه وسلم وقد نبه على ذلك الترمذي الحكيم" محمد بن علي من طبقة البخاري حافظ واعظ زاهد له تصانيف "في كتاب ختم الأولياء" أحد تصانيفه، "وأعرب" بمهملة بين "عنه صاحب عنقاء" بالمحد مجرور بالفتحة لا ألف التأنيث الممدودة "مغرب" قال الدميري: طائر غريب يبيض بيضًا كالجبال ويبعد في طيرانه، وقيل سميت بذلك لأنه كان في عنقها بياض كالطوق، وقيل هو طائر يكون عند مغرب الشمس وأطال الدميري الكلام فيها، فعلى الأخير ميمه مفتوحة وعلى الأولين مضمومة، واقتصر عليه القاموس فقال: عنقاء مغرب بالرفع على الوصف وبالجر مضافة وهي بضم الميم، طائر معروف الاسم مجهول الجسم وهو اسم كتاب للعارف القطب محيي الدين بن علي بن محمد بن عربي الطائي الأندلسي، مات بدمشق سنة ست وثلاثين وستمائة، وعند الشعراوي كتابه هذا من الكتب التي لا يكاد يفهم العلماء منها معنى مقصودًا لقائله أصلًا لأنه لسان قدسي لا يعرفه إلا من تجرد عن هيكله من البشر. "وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح عقائد النسفي" أبي الفضل محمد بن محمد بن محمد ثلاثية المعروف بالبرهان الحنفي له مختصر تفسير الرازي ومقدمة في الخلاف وتصانيف كثيرة في علم الكلام وغيره، وأجاز للبرزالي، وتوفي
وصحح أنه يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل منه، فإمامته أولى، انتهى.
فهو عليه السلام وإن كان خليفة في الأمة المحمدية، فهو رسول ونبي
سنة سبع وثمانين وستمائة وهو متأخر عن النسفي عمر بن محمد صاحب التفسير والفتاوى وغيرهما.
توفي سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وغير صاحب الكنز والمدارك والمنار وغيرها، واسمه عبد الله بن أحمد بن محمود وغير أبي المعين ميمون بن محمد، وكلهم حنفيون من نسف بفتح النون والسين المهملة وبالفاء مدينة بما وراء النهر.
"وصحح أنه" أي عيسى "يصلي بالناس ويؤمهم" يصلي بهم إمامًا ويقتدي به المهدي" محمد بن عبد الله الحسني الحسيني الخليفة الآتي آخر الزمان، وفي حديث ضعيف المهدي بعد المائتين "لأنه" أي عيسى "أفضل منه" أي المهدي "فإمامته أولى انتهى" كذا جزم به اعتمادًا على تعليله وورد ما يشهد له في بعض الآثار وعورض بحديث الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم" ولمسلم أيضًا: "كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيقال صل بنا فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرهه لهذه الأمة ولا حمد" ومن حديث جابر: فإذا هم بعيسى فيقال: تقدم، فيقول: ليتقدم إمامكم فليصل بكم، ولابن ماجه في حديث أبي أمامة وكلهم أي: المسلمين ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح قد تقدم ليصلي بهم إذ نزل عيسى فرجع الإمام ينكص ليتقدم عيسى فيقف عيسى بين كتفيه ثم يقول: تقدم فإنها لك أقيمت. وروى أبو نيم عن أبي سعيد مرفوعًا: "منا الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه" أي: منا أهل البيت. وجمع بأن عيسى يقتدي بالمهدي أولا ليظهر أنه نزل تابعًا لنبينا حاكمًا بشرعه، ثم بعد ذلك يقتدي المهدي به على أصل القاعدة من اقتداء المفضول بالفاضل. قال ابن الجوزي: لو تقدم عيسى إمامًا لوقع في النفس إشكال ولقيل أتراه تقدم نائبًا أو مبتدئًا شرعًا فيصلي مأمومًا لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه قوله: "لا نبي بعدي" وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال أن الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة، وقيل: معنى وإمامكم منكم أنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل كما في رواية لمسلم وإمامكم منكم، قال ابن أبي ذئب: معناه أمكم بكتاب ربكم وعليه لم يتبين أن عيسى إذا نزل يكون إمامًا أو مأمومًا لكن يعكر عليه رواية أحمد ومسلم فإنهما صريحتان لا يقبلان هذا التأويل، وقال أبو الحسن: ألا ترى في مناقب الشافعي تواترت الأخبار أن المهدي من هذه الأمة وأن عيسى يصلي خلفه، ذكر ذلك رد الحديث ابن ماجه عن أنس ولا مهدي إلا عيسى "فهو عليه السلام وإن كان خليفة في الأمة المحمدية فهو رسول ونبي
كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتي واحدًا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما ذكر من وجوب اتباعه لنبينا صلى الله عليه وسلم والحكم بشريعته.
فإن قلت: قد ورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية"، وأن الصواب في معناه: أنه لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام أو القتل.
كريم على حاله لا كما يظن بعض الناس أنه يأتي واحدًا من هذه الأمة" بدون نبوة ورسالة وجهل أنهما لا يزولان بالموت كما تقدم فكيف بمن هو حي؟ "نعم هو واحد من هذه الأمة" مع بقائه على نبوته ورسالته لما ذكر من وجوب اتباعه لنبينا صلى الله عليه وسلم والحكم بشريعته" لا بشرع الإنجيل لنسخه.
"فإن قلت: قد ورد في صحيح مسلم" والبخاري أيضًا: فما هذا الإبهام، كلاهما عن أبي هريرة، "قوله صلى الله عليه وسلم":"والذي نفسي بيده ليوشك" بكسر المعجمة، أي: ليقربن، أي لا بد من ذلك سريعًا "أن ينزل فيكم"، أي: في هذه الأمة، فإنه خطاب لبعضها ممن لا يدرك نزوله "ابن مريم حكمًا" أي: حاكمًا "مقسطًا" أي: عادلا بخلاف القاسط، فهو الجائر، ولمسلم أيضًا:"إمامًا مقسطًا"، ولفظ البخاري:"حكمًا عدلا ".
وفي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعًا:"ينزل عيسى ابن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق" وفي الصحيحين عنه، رفعه:"ينزل عيسى، فيقتل الدجال". "فيكسر الصليب" تفريع على عدله، أي: فسبب عدله يكسره حقيقة، أو يبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه، "ويقتل الخنزير" فيبطل دين النصرانية، وفيه تحريم اقتناء الخنزير، وتحريم أكله ونجاسته؛ لأن الشيء المنتفع به لا يشرع إتلافه، لكن في الطبراني الأوسط، بإسناد لا بأس به، عن أبي هريرة: ويقتل الخنزير والقرد، فلا يصح الاستدلال به على نجاسة عين الخنزير، لأن القرد ليس بنجس العين اتفاقًا، وفيه أيضًا تغيير المنكرات، وكسر آلة الباطل، زاد في رواية لمسلم:"ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاد". "ويضع الجزية" وفي رواية: "ويضع الحرب"، وبقية الحديث في الصحيحين:"ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها". ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] الآية.
قال الحافظ: والمعنى أن الذين يصيرون واحدًا، فلا يبقى أحد من أهل الذمة يؤدي الجزية، وقيل: معناه يكثر المال، فلا يبقى من يمكن صرف مال الجزية له، فيترك الجزية استغناء عنها.
وقال عياض: يحتمل أن المراد بوضعها تقريرها على الكفار من غير محاباة وتكون كثرة المال بسبب ذلك، وتعقبه النووي، "و" قال:"أن الصواب في معناه؛ أنه لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، أو""القتل" إن امتنعوا منه.
وهذا خلاف ما هو حكم الشرع اليوم، فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها ولم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام، وإذا كان كذلك، فكيف يكون عيسى عليه السلام حاكمًا بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: أنه لا خلاف أن عيسى عليه الصلاة والسلام إنما ينزل حاكمًا بهذه الشريعة المحمدية ولا ينزل نبي برسالة مستقلة وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة.
وأما حكم الجزية وما يتعلق بها فليس حكمًا مستمرًا إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بنسخه، وليس عيسى عليه السلام هو الناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، فدل على أن الامتناع في ذلك الوقت من قبول الجزية هو شرع نبينا صلى الله عليه وسلم. أشار إليه النووي في شرح مسلم.
قال الحافظ: ويؤيده رواية أحمد من وجه آخر، وتكون الدعوى واحدة، "وهذا خلاف ما هو حكم الشرع اليوم، فإن الكتابي إذا بذل" أي: أعطي "الجزية وجب قبولها، ولم يجز" بالزاي "قتله" لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} الآية، وفي نسخة: لم يجب بالباء بدل الزاي، وكأنه عبر بها لمطابقة ظاهر الآية، فلا ينافي أنه لا يجوز قتله وعلى قاتله ديته؛ لأن ذلك ثبت بدليل آخر، "ولا إكراهه على الإسلام، وإذا كان كذلك، فكيف يكون عيسى عليه الصلاة والسلام حاكمًا بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، فالجواب: أنه لا خلاف أن عيسى إنما ينزل حاكمًا بهذه الشريعة المحمدية" لحديث عبد الله بن مغفل: "ينزل عيسى ابن مريم مصدقًا بمحمد على ملته" رواه الطبراني، "ولا ينزل نبي برسالة مستقلة وشريعة ناسخة" لأن هذه الشريعة لا تنسخ، "بل هو حاكم من حكام هذه الأمة" كقاض بين الخصوم بالملة المحمدية.
"وأما حكم الجزية وما يتعلق بها" من إقرارهم على إبقاء صليبهم وخنزيرهم ونحوهما حيث لم يظهروها، "فليس حكمًا مستمرًا إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى" فوضعها بعد نزوله من شريعتنا.
"وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بنسخه" بهذا الحديث، كما في عبارة النووي "وليس عيسى هو الناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ"، بقوله: ويضع الجزية، "فدل على أن الامتناع في ذلك الوقت من قبول الجزية، وهو شرع نبينا صلى الله عليه وسلم" في ذلك الوقت لا قبله، "أشار إليه النووي في شرح مسلم" ولخصه الحافظ بأوجز عبارة، بقوله قال النووي معنى وضع الجزية، مع أنها
فإن قلت: ما المعنى في تغيير حكم الشرع عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في قبول الجزية؟
فأجاب ابن بطال: بأنا إنما قبلناها نحن لاحتياجنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى عليه الصلاة والسلام عند خروجه إلى مال، لأنه يفيض في أيامه المال حتى لا يقبله أحد، فلا يقبل إلا القتل أو الإيمان بالله وحده، انتهى.
وأجاب الشيخ ولي الدين ابن العراقي: بأن قبول الجزية من اليهود.
مشروعة في هذه الشريعة؛ أن مشروعيتها مقيدة بنزول عيسى؛ كما دل عليه هذا الخبر، وليس عيسى بناسخ لحكمها، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ بقوله هذا.
"فإن قلت: ما المعنى" أي: السر والحكمة "في تغيير حكم الشرع عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في" منع "قبول الجزية" أهو تعبدي أم معقول المعنى، "فأجاب" أي: فأقول في ذلك، أجاب: فلا حاجة للفاء لدخولها على ماض مترف، وهو صالح لكونه جواب الشرط، ونقل البدر بن مالك جوازه، اعترض بأن ظاهره الإطلاق، وليس كذلك، بل الماضي المتصرف، المجرد ثلاثة أضرب: ضرب لا يجوز اقترانه بالفاء، وهو المستقبل الذي لم يقصد به وعد أو وعيد، نحو: إن قام زيد قام عمرو، وضرب يجب اقترانه بالفاء، وهو المستقبل الماضي لفظًا ومعنى، نحو:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} ، وقد معه مقدرة، وضرب يجوز اقترانه بالفاء وهو المستقبل معنى، وقصد به وعد أو وعيد، نحو: ومن جاء بالسيئة فكبت، لأنه إذا كان وعدًا أو وعيدًا حسن أن يقدر ماضي المعنى، فعومل معاملة الماضي حقيقة، وقد نص أبوه على هذا التفصيل في شرح كافيته "ابن بطال" أبو الحسن علي في شرح البخاري، "بأنا إنما قبلناها نحن لاحتياجنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى عليه الصلاة والسلام عند خروجه" أي: ظهوره ونزوله من السماء إلى الأرض "إلى مال لأنه يفيض" بفتح أوله، وكسر الفاء، وبالضاد المعجمة، أي: يكثر "في أيامه المال حتى لا يقبله أحد" كما قال في الصحيحين ولمسلم في رواية: وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد.
قال الحافظ: وسبب كثرته نزول البركات بسبب العدل وعدم الظلم، وحينئذ تخرج الأرض كنوزها ويقل الراغب في اقتناء المال لعلمهم بقرب الساعة، "فلا يقبل إلا القتل" أي: لا يحكم إلا به، فعبر بنفي القبول عن فعل القتل تجوزًا، نحو: وزججن الحواجب والعيونا، "أو الإيمان بالله وحده، انتهى" جواب ابن بطال.
"وأجاب الشيخ ولي الدين" أحمد "ابن العراقي؛ بأن قبول الجزية من اليهود
والنصارى لشبهة ما بأيديهم من التوراة والإنجيل، وتعلقهم بزعمهم بشرع قديم، فإذا نزل عيسى عليه الصلاة والسلام زالت تلك الشبه بحصول معاينته، فصاروا كعبدة الأوثان في انقطاع شبهتهم وانكشاف أمرهم، فعوملوا معاملتهم في أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، والحكم يزول بزوال علته. قال وهذا معنى حسن مناسب لم أر من تعرض له. قال: وهذا أولى مما ذكره ابن بطال، انتهى.
والنصارى لشبهة" بالضم، أي: التباس "ما بأيديهم من التوراة والإنجيل" عليهم، فظنوا بسبب الالتباس حقية ما هم عليه، "وتعلقهم بزعمهم بشرع قديم" وهذه الشبهة، والتعلق وإن كانا باطلين لقيام الأدلة الواضحة على حقية الإسلام وبطلان ما سواه، لكنهم عذروا في الجملة لذلك، فاكتفى منهم بما دل على ذلهم وانقيادهم لبعض أحكام الإسلام، قهرًا عليهم، "فإذا نزل عيسى عليه الصلاة والسلام زالت تلك الشبهة بحصول معاينته، فصاروا كعبدة الأوثان في انقطاع شبهتهم وانكشاف أمرهم، فعوملوا معاملتهم في أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام والحكم يزول بزوال علته" وهذا أيضًا ملحظ جواب ابن بطال.
"قال: وهذا معنى حسن مناسب لم أر من تعرض له، قال: وهذا أولى مما ذكره ابن بطال، انتهى" وكان وجه أولويته، أنه مبني على علة معنوية معقولة دون جواب ابن بطال، وهو ظاهر في زوال شبهة النصارى بنزول.
وأما زوالها عن اليهود بنزوله، فكأنه لأنهم زعموا هم والنصارى بقاء شرعهما مع شريعة الإسلام، وفي الفتح قال العلماء: الحكمة في نزول عيسى دون غيره من الأنبياء للرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه، فبين الله كذبهم؛ وأنه الذي يقتلهم، أو نزوله لدنو أجله ليدفن في الأرض، إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غرها، وقيل: إنه دعا الله لما رأى صفة محمد وأمته أن يجعله منهم، فاستجاب الله دعاءه وأبقاه حتى ينزل في آخر الزمان مجددًا لأمر الإسلام، فيوافق خروج الدجال فيقتله، والأول أوجه.
وفي مسلم عن ابن عمرو: أنه يمكث في الأرض بعد نزوله سبع سنين، وروى نعيم بن حماد في كتاب الفتن من حديث ابن عباس: أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض، ويقيم بها تسع عشرة سنة، وبإسناد فيه مبهم عن أبي هريرة: يقيم بها أربعين سنة.
وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح، عن أبي هريرة مرفوعًا:"ينزل عيسى عليه السلام وعليه ثوبان ممصران، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، وتلعب الصبيان بالحيات، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون"، انتهى.
.............................................................................
قال ابن كثير: يشكل عليه خبر مسلم أنه يمكث في الأرض سبع سنين، اللهم إلا أن تحمل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله، وتكون مضافة إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء، وكان عمره إذ ذاك ثلاثًا وثلاثين سنة على المشهور، قال في مرقاة الصعود: وقد أقمت سنين أجمع بذلك، ثم رأيت البيهقي قال في كتاب البعث والنشور في هذا الحديث: إن عيسى يمكث في الأرض أربعين سنة، وفي مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في قصة الدجال: فيبعث الله عيسى ابن مريم فيطلبه فيهلكه ثم يلبث الناس بعده سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة.
قال البيهقي: ويحتمل أن قوله: ثم يلبث الناس بعده، أي: بعد موته، فلا يكون مخالفًا للأول، انتهى، فترجح عندي هذا التأويل من وجوه، أحدها: إن حديث مسلم ليس نصًا في الإخبار عن مدة لبث عيسى، وخبر أبي داود نص فيها، والثاني: أن ثم تؤيد هذا التأويل، لأنها في التراخي. والثالث: قوله: يلبث الناس بعده، فيتجه أن الضمير فيه لعيسى؛ لأنه أقرب مذكور، والرابع: أنه لم يرد في ذلك سوى هذا الحديث المحتمل، ولا ثاني له، وورد مكث عيسى أربعين سنة في عدة أحاديث من طرق مختلفة، فحديث أبي داود، وهذا هو صحيح، وأخرج الطبراني، عن أبي هريرة مرفوعًا:"ينزل عيسى ابن مريم، فيمكث في الناس أربعين سنة" وأخرج أحمد في الزهد عنه، قال:"يلبث عيسى في الأرض أربعين سنة لو يقول للبطحاء سيلي عسلا لسالت"، وأخرج ي المسند، عن عائشة مرفوعًا في حديث الدجال:"فينزل عيسى فيقتله، ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إمامًا عادلا وحكمًا مقسطًا". وورد أيضًا من حديث ابن مسعود عند الطبراني: فهذه الأحاديث المتعددة الصريحة أولى من ذلك الحديث الواحد المحتمل، انتهى.
ويؤيده أن حديث رفعه، وهو ابن ثلاث وثلاثين، إنما يروى عن النصارى، فعند الحاكم عن وهب بن منبه، قال:"إن النصارى تزعم"، فذكر الحديث إلى أن قال:"وإنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين"، وفيه عبد المنعم بن إدريس كذبوه، ولو صح، فهو عن النصارى كما ترى، والثابت في الأحاديث النبوية أنه رفع، وهو ابن مائة وعشرين.
روى الطبراني والحاكم في المستدرك عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه لفاطمة: " إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين، وأخبرني أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف الذي قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبًا على رأس الستين". ورجاله ثقات وله طرق، وذكر ابن عساكر؛ أن وفاة عيسى تكون بالمدينة، فيصلي عليه هنالك، ويدفن بالحجرة النبوية، وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام، قال: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه،
وكذلك من يقول من العلماء بنبوة الخضر.
واختلف في موته قبل رفعه لظاهر قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55] الآية.
قال الحافظ: وعليه إذا نزل إلى الأرض، ومضت المدة المقدورة له يموت ثانيًا، وقيل: معنى متوفيك رافعك من الأرض، فعليه لا يموت إلا في آخر الزمان، وقال في موضع آخر: رفع عيسى وهو حي على الصحيح، ولم يثبت رفع إدريس وهو حي من طريق مرفوعة قوية، انتهى.
وفي الإصابة: عيسى ابن مريم بنت عمران رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، ذكره الذهبي في التجريد مستدركًا على من قبله، فقال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وسلم عليه، فهو نبي وصحابي، وهو آخر من يموت من الصحابة، وألغزه القاضي تاج الدين السبكي في قصيدته التي في أواخر القواعد له، فقال:
من باتفاق جميع الخلق أفضل من
…
خير الصحاب أبي بكر ومن عمر
ومن علي ومن عثمان وهو فتى
…
من أمة المصطفى المختار من مضر
وأنكر مغلطاي على من ذكر خالد بن سنان في الصحابة، كأبي موسى المديني، وقال: إن ذكره لكونه ذكر النبي صلى الله عليه وسم، فكان ينبغي له أن يذكر عيسى وغيره من الأنبياء، أو من ذكره هو من الأنبياء غيرهم، ومن المعلوم أنهم لا يذكرون في الصحابة، انتهى.
ويتجه ذكر عيسى خاصة لأمور اقتضت ذلك، وهي رفعه حيًا على أحد القولين، وأنه ينزل إلى الأرض، فيقتل الدجال، وأنه يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فبهذه الثلاث يدخل في تعريف الصحابي، وهو الذي عليه عول الذهبي، انتهى كلام الإصابة.
ويؤيده اجتماعه بالمصطفى مرات في غير ليلة الإسراء في الطواف وغيره؛ كما تقدم قريبًا من رواية ابن عساكر وابن عدي عن أنس، ونقل السيوطي عن العلم القرافي؛ أنه تعقب قول الناظم وهو فتى؛ بأنه إن كان عني عيسى؛ فلا يطلق اسم الفتى على الأنبياء، إنما يسمى به الصبيان والعبيد والخدم، وإن أراد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يطلق عليه فتى، فقد نص الأزهري على أن الصبي لا يسمى فتى حتى يراهق، وإن أراد الحسن فأبو بكر أفضل منه، فلو قال شخص بدل فتى صح على عيسى وعلى إبراهيم وعلى فاطمة؛ لحديث:"فاطمة بضعة مني"، قال مالك: لا أفضل على بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا، انتهى.
"وكذلك من يقول" وهم الجمهور؛ كما قال ابن عطية، والمازري، والبغوي، والقرطبي "من العلماء بنبوة الخضر" قائلين: لأن قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} الآية، يدل على أنه نبي يوحى إليه، ولأن النبي لا يتعلم ممن هو دونه، ولأن الحكم بالباطن لا يطلع عليه إلا الأنبياء، ثم اختلفوا في أنه رسول الله أم لا؟ فقال الثعلبي: الخضر نبي بعثه الله بعد شعياء، وقالت
وأنه باق إلى اليوم، فإنه تابع لأحكام هذه الملة.
طائفة منهم القشيري: هو ولي، وأجابوا عن الآية باحتمال بعيد جدًا، هو: أن الله أوحى إلى نبي ذلك العصر، بأن يأمر الخضر بذلك، وهو بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين، وقد تسكن مع كسر الخاء، وكنيته أبو العباس.
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة مرفوعًا:"إنما سمي الخضر، لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من تحته خضراء".
زاد عبد الرزاق: الفروة الحشيش الأبيض وما أشبهها، قال عبد الله بن أحمد: أظن هذا تفسيرًا من عبد الرزاق، وبه جزم عياض، ويوافقه قول الحربي: الفروة من الأرض قطعة يابسة من حشيش، وقال ابن الأعرابي: الفروة أرض بيضاء، ليس فيها نبات، وبه جزم الخطابي ومن تبعه، وحكى مجاهد: أنه قيل له الخضر، لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، واختلف في اسمه واسم أبيه ونسبه، فالأصح الذي نقله أهل السير وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال البغوي وغيره: أن اسمه بليا، بفتح الموحدة، وسكون اللام، فتحتية، فألف، وبخط الدمياطي في أول الاسم نقطتان، وقيل: كالأول بزيادة ألف بعد الباء، وقيل: اسمه إلياس، وقيل: اليسع، وقيل: عامر، وقيل: إرميا بكسر أوله، وقيل بضمه وأشبعها بعضهم واوًا، وقيل: المعمر، وقيل: خضرون، وقيل غير ذلك ابن ملكان، بفتح الميم، وسكون اللام ابن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وعلى هذا فمولده قبل إبراهيم؛ لأنه يكون ابن عم جد إبراهيم.
وحكى الثعلبي قولين في أنه كان قبل الخليل أو بعده، وروى الدارقطني عن ابن عباس، قال: هو ابن آدم لصلبه، قال الحافظ: وهذا ضعيف منقطع، وحكى أبو حاتم السختياني أنه ابن قابيل بن آدم، وقيل: ابن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد، وقيل: ابن غاييل بن معمر بن عيصور بن إسحاق بن إبراهيم، وقيل: الخضر بن فرعون صاحب موسى، وهو غريب جدًا، وقيل: ابن بنت فرعون، وقيل: كان أبوه فارسيًا.
وحكى السهيلي عن قوم أنه كان ملكًا من الملائكة وليس من بني آدم، قال النووي: وهو غريب ضعيف أو باطل، وقيل: إنه من ذرية بعض من آمن بإبراهيم، وقيل: إنه الذي أماته الله مائة عام، ثم بعثه، فلا يموت حتى ينفخ في الصور، رواه الدارقطني وزاد: مد للخضر في أجله حتى يكذب الدجال.
ونقل عبد الرزاق عن معمر، قال: بلغني أن الخضر هو الذي يقتله الدجال ثم يحييه، "وأنه باقٍ إلى اليوم، فإنه تابع لأحكام هذه الملة" قال ابن الصلاح: هو حي عند جمهور العلماء، والعامة معهم في ذلك، وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين، وتبعه النووي، وزاد: وفي ذلك متفق
.................................................................
عليه بين الصوفية وأهل الصلاح، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به، والأخذ عنه، وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر.
قال في الإصابة: لا يقال يستفاد من هذه الأخبار التواتر المعنوي؛ لأن المتواتر لا يشترط فيه عدالة، إنما العمدة على وروده بعدد تحيل العادة تواطأهم على الكذب، فإن اتفقت ألفاظه فذاك، وإن اختلفت فمهما اجتمعت فهو التواتر المعنوي، وهذه الحكايات تجتمع في أن الخضر حي، لأنا نقول بطرق حكاية القطع قول جماعة من الصوفية لكل زمان، وأنه نقيب الأولياء، وكلما مات نقيب أقيم نقيب مقامه، وسمي الخضر، فلا نقطع مع هذا أن الذي ينقل عنه الخضر صاحب موسى، بل هو خضر ذلك الزمان، ويؤيده اختلافهم في صفته، فمنهم من يراه شيخًا، أو كهلا، أو شابًّا، وهو محمول على تغاير المرئي وزمانه، انتهى.
وروى ابن إسحاق في المبتدأ عن أصحابه: أن آدم أخبر بنيه عند الموت بأمر الطوفان، ودعا لمن يحفظ جسده حتى يدفنه بالتعمير، فجمع نوح بينه لما وقع الطوفان، وأعلمهم بذلك، فحفظوه حتى كان الذي تولى دفنه الخضر.
وروى خيثمة بن سليمان، عن جعفر الصادق، عن أبيه: أن ذا القرنين كان له صديق من الملائكة، فطلب منه أن يدله على شيء يطول به عمره، فدله على عين الحياة، وهي داخل الظلمة، فسار إليها والخضر على مقدمته، فظفر بها الخضر، فشرب منها، وتوضأ، واغتسل فيها، ولم يظفر بها ذو القرنين، فلا يموت حتى يرفع القرآن.
وأخرج ابن عدي بسند ضعيف عن عمرو بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع وهو في المسجد كلامًا، فقال:"يا أنس اذهب إلى هذا القائل، فقل له يستغفر لي". فذهب إليه، فقال: قل إن الله فضلك على الأنبياء بما فضل به رمضان على الشهور، وفضل أمتك على الأمم مثل ما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام، فذهبوا ينظرونه، فإذا هو الخضر.
وروى ابن عساكر نحوه، عن أنس بإسناد، أوهى منه، قال ابن المنادى: حديث واهٍ منكر الإسناد سقيم المتن، لم يراسل الخضر بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، واستبعده ابن الجوزي من جهة إمكان لقيه له صلى الله عليه وسلم، واجتماعه معه ثم لا يجيء إليه وجاء في اجتماعه ببعض الصحابة أخبار أكثره واهي الإسناد، وقد جزم بموته، وأنه غير موجود الآن: البخاري وإبراهيم الحربي، وأبو جعفر بن المناد، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو طاهر العبادي، وأبو بكر بن العربي وطائفة.
قال ابن عطية: أخرج النقاش أخبارًا كثيرة تدل على بقائه، لا يقوم بشيء منها حجة، قال: لو كان باقيًا كان له في ابتداء الإسلام ظهور، ولم يثبت شيء من ذلك؛ انتهى، وعمدتهم الحديث المشهور عن ابن عمر وجابر، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر حياته: "لا يبقى
وكذلك إلياس..................................................
على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد". قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قرنه، وأجاب: من أثبت حياته، بأنه كان حينئذ على وجه البحر، أو هو مخصوص من الحديث؛ كما خص منه إبليس باتفاق، ومن حجج من أنكر ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية، وحديث ابن عباس: "ما بعث الله نببيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه". ولم يأت في خبر صحيح، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا قاتل معه، وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض"، فلو كان الخضر موجودًا لم يصح هذا النفي، وقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله موسى، لوددنا لو كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما"، فلو كان الخضر موجودًا لما حسن هذا التمني ولأحضره بين يديه، وأراه العجائب، وكان أدعى لإيمان الكفرة لا سيما أهل الكتاب، وقد بسط الكلام فيه في الإصابة بنحو كراس، وألم بشيء منه في فتح الباري من جملته: روى يعقوب بن سفيان في تاريخه، وأبو عروبة عن رياح بتحتية ابن عبيدة، قال: رأيت رجلا يماشي عمر بن عبد العزيز معتمدًا على يديه، فلما انصرف، قلت له: من الرجل؟، قال: رأيته؟ قلت: نعم، قال: أحسبك رجلا صالحًا، ذاك أخي الخضر، بشرني أني سألي وأعدل، لا بأس برجاله، ولم يقع لي إلى الآن خبر، ولا أثر بسند جيد غيره، وهذا لا يعارض الحديث في مائة سنة؛ لأنه كان قبل المائة، انتهى.
قال في الإصابة: وعلى بقائه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وحياته بعده، فهو داخل في تعريف الصحابي على أحد الأقوال، ولم أر من ذكره فيهم من القدماء، مع ذهاب الأكثر إلى الأخذ بما ورد من أخباره في تعميره وبقائه.
"وكذلك إلياس" بهمزة قطع اسم عبراني، وأما قوله تعالى:{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} الآية، فقرأه الأكثر بصورة الاسم المذكورة، وزيادة ياء ونون في آخره، وقرأه أهل المدينة:"آل ياسين"، بفصل آل من ياسين، وبعضهم تأول أن المراد آل محمد، وهو بعيد، ويؤيد الأولى أن الله تعالى إنما أخبر في كل موضع ذكر فيه نبيًا من الأنبياء في هذه السورة بأن السلام عليه، فكذلك السلام في هذا الموضع على المبدأ بذكره في قوله تعالى:{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية، وإنما زيدت فيه الياء والنون، كما قالوا في إدريس إدراسين، ونقل بعضهم الإجماع على أن إدريس جد نوح، وفيه نظر؛ لأنه إن ثبت قول ابن عباس: أن إلياس هو إدريس، لزم أن إدريس من ذرية نوح؛ لقوله تعالى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} الآية، إلى أن قال:{وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} الآية، سواء كان ضمير ذريته لنوح أو لإبراهيم؛ لأن من كان من ذريته هو من ذرية نوح لا محالة.
وذكر ابن إسحاق: أن إلياس هو ابن نسي بن فينحاس، ابن العزر بن هارون أخي موسى بن
على ما صححه أبو عبد الله القرطبي أنه حي أيضًا.
وليس في الرسل من يتبعه رسول إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا شرفًا لهذه الأمة المحمدية زادها الله شرفًا.
فالحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ علينا هذه النعمة، ومن علينا بما عمنا به من الفضائل الجمة، ونوه بنا في كتابه العزيز بقوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] ، فتأمل قوله {كُنْتُمْ} .
عمران، "على ما صححه أبو عبد الله" محمد بن فرج "القرطبي" المفسر، "أنه حي أيضًا" ذكر وهب في المبتدأ أن إلياس عمر، كما عمر الخضر، وأنه يبقى إلى آخر الزمان.
وروى الدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا: "يجتمع الخضر وإلياس كل عام في الموسم، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله، ما شاء الله، لا يسوق الخير إلا الله، لا يصرف السوء إلا الله، بسم الله، ما شاء الله، ما كان من نعمة فمن الله، بسم الله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله"، وإسناده ضعيف، ورواه ابن الجوزي بسنده واهٍ جدًا، وزاد: قال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد قالها في كل يوم إلا أمن من الغرق والحرق والسرق، وكل شيء يكرهه حتى يمسي، وكذلك حتى يصبح"، ورواه أحمد في الزهد بسند حسن، لكنه معضل، عن عبد العزيز بن أبي رواد، وزاد:"ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل، ويصومان رمضان ببيت المقدس".
وروي عن كعب الأحبار، قال: أربعة من الأنبياء أحياء، اثنان في الأرض، الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى.
وروى الحاكم في المستدرك عن أنس: أإلياس اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكلا جميعًا، وأن طوله ثلاثمائة ذراع، وأنه قال: إنه لا يأكل في السنة إلا مرة واحدة، قال الذهبي: هذا خبر باطل.
وفي الإصابة: يلزم من ذكر الخضر في الصحابة أن يذكر إلياس، ومن أغرب ما روي فيه: أنه هو الخضر، فأخرج ابن مردويه في تفسير سورة الأنعام عن ابن عباس مرفوعًا:"الخضر هو إلياس".
"وليس في الرسل من يتبعه رسول" عاملا بشريعته، تاركًا للشرع الذي أوحي إليه به، "إلا نبينا صلى الله عليه وسلم" لأنه نبي الأنبياء، "وكفى بهذا شرفًا لهذه الأمة المحمدية، زادها الله شرفًا، فالحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ" أفاض وأتم "علينا هذه النعمة، ومن علينا بما عمنا به من الفضائل الجمة" الكثيرة "ونوه بنا" أي: رفع ذكرنا "في كتابه العزيز، بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الآية، "فتأمل قوله: {كُنْتُمْ} الدال على
أي: في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم في علم الله.
فينبغي لمن هو من هذه الأمة المحمدية أن يتخلق بالأخلاق الزكية، ليثبت له ما لهذه الأمة الشريفة من الأوصاف المرضية، ويتأهل لما لها من الخيرية.
قال مجاهد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} إذا كنتم على الشرائط المذكورة، أي:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
وقيل: إنما صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أشهر.
وقيل: هذا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني
ثبوت قدم الخيرية لهم من قبل وجود الأمم، "أي: في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم في علم الله" والقصد بهذين القولين تحقيق معنى المضي، وقيل: معنى: {كُنْتُمْ} أنتم؛ كقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا} الآية، وفي موضع آخر:{إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} الآية.
وأشار البغوي إلى ترجيح الأول بما أخرجه هو وأحمد والترمذي وغيرهم عن معاوية بن حيدة؛ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، قال:"إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله". "فينبغي لمن هو من هذه الأمة المحمدية أن يتخلق بالأخلاق الزكية" بملازمة الطاعات واجتناب المنهيات، "ليثبت له ما لهذه الأمة الشريفة" بشرف نبيها "من الأوصاف المرضية" لله وعباده التقين، "ويتأهل لما لها من الخيرية".
"قال مجاهد" في تفسير قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} : إذا كنتم على الشرائط المذكورة، أي" قوله:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية؛ لأن ذلك استئناف لبيان الخيرية فهو شرط فيها فمن لم يكن كذلك لم يتصف بالخيرية.
"وقيل: إنما صارت" أي كانت ووجدت "أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة؛ لأن المسلمين منهم أكثر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أشهر" وهذا كله على أن الخطاب للأمة كلهم، "وقيل: هذا" الخطاب "لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" كما قال عليه الصلاة والسلام" في الصحيحين وغيرهما: "خير الناس" وفي رواية: خير أمتي، "قرني" أي: أهل عصري، يعني
ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل من بعدها. وإلى هذا ذهب معظم العلماء.
وإن من صحبه صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة من عمره أفضل من كل من يأتي بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، هذا مذهب الجمهور.
وذهب أبو عمر بن عبد البر: إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وإن قوله عليه الصلاة والسلام:"خير الناس قرني" ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه عليه الصلاة والسلام جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان، وأهل الكبائر الذين أقام عليهم وعلى بعضهم الحدود، وقد روى أبو أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى سبع مرات
الصحابة، ومدتهم من البعثة مائة وعشرون سنة أو دونها، أو فوقها بقليل على الخلاف في وفاة آخر الصحابة موتا أبي الطفيل، وإن اعتبر من وفاته صلى الله عليه وسلم كان مائة أو تسعين أو سبعا وتسعين، "ثم الذين يلونهم" أي: القرن الذين بعدهم، وهم التابعون، ومدتهم نحو سبعين أو ثمانين سنة إن اعتبر من سنة مائة، "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين من خمسين إلى حدود عشرين ومائتين، فمدة القرن تختلف باختلاف أعمار كل زمان، ومر الحديث قريبًا.
"وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل من بعدها، وإلى هذا ذهب معظم العلماء، وإن من صحبه صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة من عمره أفضل من كل من يأتي بعده، وإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل" عطف علة على معلول، "هذا مذهب الجمهور" إطناب مساو لقوله معظم العلماء.
"وذهب أبو عمر بن عبد البر إلى أنه قد يكون فين يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة" كمن رآه مرة، "وإن قوله عليه الصلاة والسلام:"خير الناس قرني"، ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه عليه الصلاة والسلام جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان" لكن في الاستظهار بذكر هؤلاء على الدعوى شيء، إذ هؤلاء كفار، والكلام في المؤمنين، "وأهل الكبائر الذين أقام عليهم وعلى بعضهم الحدود" وفي الاستظهار بهم أيضا شيء، فالحدود جوابر على الصحيح، "وقد روى أبو أمامة" الباهلي، صدي بالتصغير ابن عجلان، صحابي مشهور، سكن الشام، ومات بها سنة ست وثمانين، "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى" تأنيث أطيب، أي: راحة وطيب عيش، حاصل "لمن رآني وآمن بي، وطوبى سبع مرات"، المتبادر أنه قال: هذا اللفظ، لا أنه كرر طوبى سبعًا
لمن لم يرني وآمن بي".
وفي مسند أبي داود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتدرون أي الخلق أفضل إيمانًا؟ " قلنا: الملائكة.
"لمن لم يرني وآمن بي" لأن الله مدح المؤمنين بإيمانهم بالغيب، وإيمان الصحابة بالله واليوم الآخر غيبًا، وبالنبي صلى الله عليه وسلم شهودًا للآيات والمعجزات، ومن بعدهم آمنوا غيبًا بما آمنوا به شهودًا، فلذا أثنى عليهم، وحديث أبي أمامة هذا أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ، وابن حبان والحاكم بلفظ:"طوبى لمن رآني وآمن بي مرة، وطوبى لمن لم يرني وآمن بي سبع مرات"، فزاد مرة وأخر سبع مرات، وصححه الحاكم وتعقب، لكن له شاهد من حديث أنس عند أحمد.
وروى الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: أرأيت من آمن بك ولم يرك، وصدقك ولم يرك؟ قال:"أولئك إخواني أولئك معي، طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني ثلاث مرات"، ولا يعارض ما قبله؛ لأنه أخبر بما علمه أولا، ثم زيد فأخبر به، ويدل على ذلك حديث الطبراني عن ابن عمر، وابن النجار عن أبي هريرة رفعاه:"طوبى لمن أدركني وآمن بي، وطوبى لمن لم يدركني، ثم آمن بي"، فأخبر أن كلا له طوبى، ولم يذكر عددًا، لأنه قبل أن يوحى إليه بالعدد.
وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد، أن رجلا قال: يا رسول الله! طوبى لمن رآك وآمن بك، فقال صلى الله عليه وسلم:"طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني"، فقال رجل: يا رسول الله! وما طوبى؟ قال: "شجرة من الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها".
وروى الطبراني برجال ثقات، والحاكم عن عبد الله بن يسر، مرفوعًا:"طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن رأى من رآني، وطوبى لمن رأى من رأى من رآني، طوبى لهم وحسن مآب".
"وفي مسند أبي داود" سليمان بن داود بن الجارود "الطيالسي"، البصري، ثقة، حافظ، روى له مسلم والأربعة، ومات سنة أربع ومائتين، "عن محمد بن أبي حميد" إبراهيم الأنصاري، الزرقي، المدني، ضعيف روى له الترمذي وابن ماجه، "عن زيد بن أسلم" العدوي، المدني ثقة، عالم من رجال الجميع مات سنة ست وثلاثين ومائة، "عن أبيه" أسلم مولى عمر، ثقة مخضرم، روى له الجميع ومات سنة ثمانين، وقيل: بعد سنة ستين، وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة، "عن عمر" بن الخطاب، "قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أتدرون أي الخلق أفضل إيمانًا؟ " قلنا: الملائكة" لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون،
قال: "وحق لهم، بل غيرهم". قلنا: الأنبياء، قال:"وحق لهم، بل غيرهم"، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل الخلق إيمانًا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني فهم أفضل الخلق إيمانًا".
وروي أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن أكتب إلى بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر فأنت أفضل من عمر، لأن زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر، قال: وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب بمثل قول سالم.
قال أبو عمر: فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها، التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها في فضل العمل، إلا أهل بدر والحديبية. ومن تدبر هذا
"قال: وحق" بفتح الحاء من حق لازمًا، أي: ثبت "لهم"، وبضم الحاء من المتعدي، أثب: أثبت ويبنى منه للمفعول، فيقال: حق لك أن تفعل كذا بالضم؛ كما في القاموس، واقتصر المصباح على اللازم "بل" مرادي "غيرهم" أو غيرهم المراد، فهو بالرفع، ويحتمل النصب بتقدير أريد غيرهم، "قلنا: الأنبياء، قال:"وحق لهم، بل غيرهم"، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل الخلق إيمانًا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني فهم أفضل الخلق إيمانًا" أعاده تأكيدًا، والمراد: من أفضل، فلا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم:"أفضل المؤمنين إسلامًا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا". رواه الطبراني بإسناد حسن.
وروى ابن ماجه، وصححه الحاكم مرفوعًا:"أفضل المؤمنين أحسنهم خلقًا"، ولا قوله صلى الله عليه وسلم:"أفضل المؤمنين إيمانًا المقل، الذي إذا سأل أعطى، وإذا لم يعط استغنى"، رواه ابن ماجه والخطيب، ويجمع بينهما أيضًا باعتبار الجهة، أي: أفضل الخلق من جهة الإيمان بالغيب، وهكذا.
"وروي أن عمر بن عبد العزيز" الإمام العادل "لما ولي الخلافة، كتب إلى الم بن عبد الله" بن عمر، أحد الفقهاء:"أن اكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر، فأنت أفضل من عمر؛ لأن زمانك ليس كزمان عمر ولا رجالك كرجال عمر" أي: ولا يمكنك ذلك، لأنه يتصور، فالتعليق على محال.
"قال: وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب بمثل قول سالم"، ترغيبًا له، وحثا على العدل الذي رامه.
"قال أبو عمر" عبد البر بعد ذكر هذا، وأحاديث آخر:"فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها" تواترًا معنويًا لاتفاقها على تفضيل العامل في أي زمان، "وحسنها" باعتبار المجموع
الباب بأن له الصواب، انتهى.
وإسناد حديث أبي داود الطيالسي عن عمر ضعيف فلا يحتج به، لكن روى أحمد والدارمي والطبراني عن أبي عبيدة -ابن الجراح: يا رسول الله، أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ قال:"قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني". وإسناده حسن وصححه الحاكم.
والحق ما عليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدلائل على أفضلية الصحابة على غيرهم كثيرة متظاهرة لا نطيل بذكرها وسيأتي بقية مباحث ذلك في فضل الصحابة من المقصد السابع إن شاء الله تعالى.
وقد خص الله تعالى هذه الأمة الشريفة بخصائص لم يؤتها أمة.
"التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية" لنصه صلى الله عليه وسلم على أفضلية أهلهما على من سواهما، فمحل النزاع فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة، "ومن تدبر هذا الباب؛ بأن له الصواب، انتهى؛ وإسناد حديث أبي داود الطيالسي، عن عمر ضعيف" لضعف محمد بن أبي حميد، "فلا يحتج به" فتحسين ابن عبد البر ما حكم على المجموع؛ لأنه قال: وحسنها بعد أحاديث عدة، وأبرز سند حديث عمر، أو باعتبار شاهده الذي استدركه بقوله:"لكن روى أحمد والدارمي، والطبراني عن أبي عبيدة" عامر "ابن الجراح" أحد العشرة، أنه قال:"يا رسول الله! أحد" بتقدير أداة الاستفهام همزة، أو هل أحد "خير منا، أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ "قال: خير منكم " قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني"، وإسناده حسن، وصححه الحاكم" وهو بمعنى حديث عمر، فهو شاهده.
"والحق ما عليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل؛ لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة، وذلك لا يكون لمن بعد الصحابة ولو بلغوا ما بلغوا، "والدلائل على أفضلية الصحابة على غيرهم كثيرة متظاهرة، لا نطيل بذكرها، وسيأتي بقية مباحث ذلك في فضل الصحابة من المقصد السابع إن شاء الله تعالى" بما منه ما محصله: أنه يمكن تأويل الأحاديث المتدمة، بأن زيادة الأجر والخيرية بسبب الإيمان بالغيب دون مشاهدة الآيات، لا تستلزم الأفضلية المطلقة، فإنما يقع التفاضل بالنسبة إلى ما يماثله، وما فاز به من شاهده صلى الله عليه وسلم لم يفز به من لم يقع له ذلك، فلا يعدله فيه أحد.
"وقد خص الله تعالى هذه الأمة الشريفة" أي: أمة الإجابة "بخصائص لم يؤتها أمة
قبلهم، أبان بها فضلهم، والأخبار والآثار ناطقة بذلك.
فخرج أبو نعيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة
قبلهم" كالصفة الكاشفة لما قبلها، فإن عدم إيتائها لمن قبلهم هو معنى تخصيصهم بها، "أبان" أظهر "بها فضلهم" على غيرهم، وكذلك خص أمة الدعوة برفع ما كان من أنواع العذاب في الأمم السابقة، كالخسف ونحوه؛ لكن لم تعد كمالات لهم لكفرهم، ولأنها لم تنجهم من العذاب الأشد، ومتاع الدنيا قليل، "والأخبار والآثار" عطف خاص على عام، أو مباين "ناطقة بذلك" أي: دالة دلالة قوية، كالنطق، وبين بعضها مقتصرًا عليه؛ لأن دلالتها أوضح، وكافية في المقصود بقوله: "فخرج أبو نعيم" أحمد بن عبد الله الأصفهاني، "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة" بالأوصاف الحميدة التي لم توجد لغيرها، "قال: يا رب إني أجد في الألواح" التي أنزلت التوراة فيها، وكانت تسعة ألواح، وقيل: عشرة، وفي الحديث: "كانت من سدر الجنة، طول اللوح اثنا عشر ذراعًا" وقال الحسن: كانت من خشب، والكلبي: كانت من زبرجدة خضراء، وسعيد بن جبير: من ياقوت أحمر، والربيع بن أنس: كانت من برد، وابن جريج: من زمرد، أمر الله جبريل حت جاء بها من عدن، وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر، واستمد من نهر النور.
قال وهب: أمره الله بقطع ألواح من صخرة صماء، لينها الله له، فقطعها بيده، ثم شققها بأصبعه.
قالت الرواة: كانت التوراة سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفعت سنة أسباعها، وبقي سبع، فرفع ما كان من أخبار الغيب، وبقي ما فيه المواعظ والأحكام، والحلال والحرام؛ كذا في المعالم. "أمة هم الآخرون" زمانًا في الدنيا، "السابقون" أهل الكتاب وغيرهم منزلة وكرامة في الحشر والحساب، والقضاء لهم قبل الخلائق، وفي دخول الجنة قبل الأمم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أتوا الكتاب من قبلنا". الحديث.
وفي رواية مسلم: "نحن الآخرون من أهل الدنيا، والسابقون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق"، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة
أناجيلهم في صدورهم يقرءونها فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم يؤجرون عليها فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة
أناجيلهم" مصاحفهم، أي: ما فيها محفوظ "في صدورهم" أي: قلوبهم.
قال في الإتقان: فيه تسمية القرآن إنجيلا، وروى ابن الضريس وغيره عن كعب، قال: في التوراة يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، ففيه تسمية القرآن توراة، ومع هذا لا يجوز الآن أن يطلق عليه ذلك، وهذا كما سميت التوراة فرقانًا في قوله تعالى:{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} الآية، وسمى صلى الله عليه وسلم الزبور قرآنًا في قوله:"خفف على داود القرآن". "يقرءونها" وكان من قبلهم يقرءون كتبهم ولا يحفظونها.
قال الربيع بن أنس: نزلت التوراة سبعون وقر، بعير الجزء منها في ستة، لم يقرأها إلا أربعة: موسى، ويوشع، وعزير وعيسى، وبتفسير الأناجيل بالمصاحف يكون تجوز بكتاب عيسى عن بقية الكتب تسمية للمطلق باسم المقيد، ثم استعملها في القرآن خاصة، وجمعه نظرًا إلى أن ما يلفظ به قارئ مغاير لما يلفظ به غيره من حيث التلفظ، وإن كان المقروء واحدًا، إذ القرآن اللفظ المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتعدد بتعدد محله، فالمقروء على لسانه عليه الصلاة والسلام هو المتلو الآن، والمختلف التلفظ لا نفس الألفاظ، وإلا لكان ما يقرؤه المصطفى غير ما قرأه جبريل، وهو باطل قطعًا، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم" أي: ما يصرفونه على أنفسهم وأهاليهم "يؤجرون" أي: يثابون "عليها" ثواب الصدقة بالمال على الغير؛ لأنه ينكف بذلك عن السؤال، ويكف أهله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"كل معروف صدقة، وما أنفق المسلم من نفقة على نفسه وأهله كتب له بها صدقة" الحديث، رواه عبد بن حميد، والحاكم، وصححه عن جابر، وفي كتاب البشر لابن ظفر: هكذا الرواية، يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم، ومعنى ذلك أنهم يطعمونها مساكينهم، ولا يحرقونها، كما كانت الأمم تفعل، وجاء في حديث غير هذا مما هو منسوب إلى كتب الله السالفة: يأكلون قرابينهم في بطونهم، فالمراد بهذا اللفظ الضحايا وما يؤكل من الهدايا، انتهى.
وتبعه بعضهم، فقال: أي يأكلها فقراؤهم الذين هم منهم، وكان من قبلهم إنما تأكل صدقاتهم وقرابينهم نار تنزل من السماء إن كانت مقبولة، وإلا بقيت بحالها، انتهى، وهو وإن صح في نفسه، إلا أن اللفظ والامتنان عليه بذلك ينبو عنه ويبعده، فالحمل الأول أولى لا سيما ويؤيده أحاديث: "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة
يأكلون الفيء فاجعلها أمتي قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشر حسنات فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة
يأكلون الفيء" أي: ما أخذ من الكفار بلا قهر أو به فيشمل الغنيمة؛ لأن كلا منهما إذا انفرد عم الآخر هكذا ثبتت هذه الجملة في أصل صحيح عليه خط المصنف، وسقطت في غالب النسخ. "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة" أي: عقد عزمه عليهم، "فلم يعملها"، بفتح الميم، "كتبت له حسنة واحدة" كاملة لا نقص فيها، وإن نشأت عن مجرد الهم، سواء كان الترك لمانع، أو لا، قيل: ما لم يقصد به الإعراض عنها، وإلا لم تكتب.
وفي الصحيحين: فمن هم بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، أي: قدرها أو أمر الحفظة بكتابتها، "وإن عملها" بكسر الميم "كتبت له عشر حسنات" لأنه أخرجها من الهم إلى العمل ومن جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها.
وفي الصحيحين: فإن هم بها، فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، فالعشرة أقل ما وعد به من الأضعاف حتى قيل: المراد بها الكثرة لا العدد، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد: قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة، إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها" بجوارحه ولا بقلبه، "لم تكتب عليه" سيئة، بل تكتب حسنة؛ كما في الصحيحين، وإن هم بسيئة لم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، "وإن عملها كتبت سيئة واحدة" لم توصف بكاملة تفضلا منه؛ ولمطابقة قوله تعالى:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} الآية، ولإفادة أنها لا تتضاعف.
قال العز بن عبد السلام: ولإفادة أنها لا تكتب اثنتين، واحدة للعمل، وواحدة لهم، حيث انضم له العمل، واستثنى بعضهم الحرم المكي، فتضاعف فيه السيئات كالحسنات لتعظيم حرمته، والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة، ولا يرد على ذلك قوله تعالى:{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الآية؛ لأنه ورد تعظيمًا لحقه صلى الله عليه وسلم، لأن وقوعه من نسائه يقتضي أمرًا زائدًا على الفاحشة، وهو أذاه، وقوله تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية، قال قتادة ومجاهد: الإلحاد هو الشرك وعبادة غير الله، وقال عطاء: دخول الحرم بلا إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد، أو قطع شجر.
فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والعلم الآخر، فيقتلون المسيح الدجال، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب فاجعلني من أمة أحمد، فأعطي عند ذلك خصلتين، فقال: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخذ ما آتيك وكن من الشاكرين، قال: قد رضيت يا رب".
وقال ابن عباس: هو أن تقتل من لا يقتلك، أو تظلم من لا يظلمك، وقال قوم: هو كل شيء كان منهيًا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم، ولكنه لا يدل على تضعيف العدد، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول" الذي أنزل على الأنبياء قبل المصطفى، "والعلم الآخر" الذي نزل على نبينا صلى الله عليه وسلم من الأحكام التي ليست من الشرائع السابقة، "فيقتلون المسيح الدجال" نسبه إليهم لقتله في زمانهم على يد عيسى عليه السلام، وهو واحد منهم، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب فاجعلني من أمة أحمد، فأعطي عند ذلك خصلتين" أي: أخبر بأن الله أكرمه بهما، فلا ينافي أن الرسالة والكلام سابقان على ذلك.
وفي رواية كعب الأحبار: فلما عجز موسى، قال: يا ليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بها، "فقال:{يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} الموودين في زمانك وهارون، وإن كان نبيًا، كان مأمورًا باتباعه، ولم يك كليمًا، ولا صاحب شرع، {بِرِسَالَاتِي} بالتوحيد قراءة أهل الحجاز، وبالجمع قراءة غيرهم، {وَبِكَلَامِي} تكليمي إياك، "فخذ ما آتيتك" من الفضل، "وكن من الشاكرين" لأنعمي.
قال البغوي: فإن قيل ما معنى اصطفائه بالرسالة، وقد أعطاها غيره لما لم يكن على العموم في حق الناس كافة، استقام قوله:{اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} الآية، وإن شاركه فيه غيره، كما تقول: خصصتك بمشورتي وإن شاورت غيره إذا لم تكن المشورة على العموم ويكون مستقيمًا، وفي الفقه أن موسى لما كلمه ربه لم يستطع أحد أن ينظر إليه، غشى وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات، وقالت له امرأته: أنا أيم منك منذ كلمك ربك، فكشف لها عن وجهه، فأخذها مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها على وجهها وخرت لله ساجدة، وقالت: ادع الله أن يجعلني زوجك في الجنة، قال: ذاك إن لم تتزوجي بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها، انتهى.
وفي الأنوار روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وإعطاء التوراة كان يوم النحر، "قال: قد رضيت يا رب"، وروى البغوي من طريق أبي العباس السراج بسنده عن كعب الأحبار: هذا
وروى ابن طغر بك في "النطق المفهوم" عن ابن عباس رفعه: "قال موسى: يا رب، فهل في الأمم أكرم عليك من أمتي، ظللت عليهم الغمام، وأنزلت عليهم المن والسلوى، فقال: سبحانه وتعالى: يا موسى، أما علمت أن فضل أمة محمد على سائر الأمم، كفضلي على جميع خلقي؟ قال: يا رب فأرينيهم، قال: لن تراهم، ولكن أسمعك كلامهم، فناداهم الله تعالى، فأجابوا كلهم بصوت واحد: لبيك اللهم لبيك، وهم في أصلاب آبائهم وبطون أمهاتهم فقال سبحانه: صلاتي عليكم، ورحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق
الحديث مطولا غير مرفوع، وقال في آخره: فلما عجز موسى عن الخير الذي أعطى الله محمدًا وأمته، قال: يا ليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله ثلاث آيات يرضيه بهن:{يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} الآية، إلى قوله:{سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} ، {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} الآية، قال: فرضي موسى كل الرضا.
"وروى ابن طغر بك" بضم الطاء المهملة والراء، بينهما معجمة ساكنة، ثم موحدة مفتوحة، كأنه علم مركب من طغر وبك لقب للإمام، العلامة المحدث سيف الدين أبي جعفر عمر بن أيوب بن عمر الحميري التركاني الدمشقي، الحنفي، لم أر له في ابن خلكان ترجمة، إنما فيه آخر من الأمراء بهذا الضبط، وزيادة لام ساكنة بعد الراء، وقدمت هذا في أول الكتاب "في" كتاب "النطق المفهوم"، عن ابن عباس رفعه": لفظة استعملها المحدثون بمعنى، قال صلى الله عليه وسلم:"قال موسى: يا رب، فهل من الأمم أكرم عليك من أمتي، ظللت عليهم الغمام" سترتهم بالسحاب الرقيق من حر الشمس في التيه، "وأنزلت عليهم" فيه "المن والسلوى" هما الترنجبين، والطير السماني، بتخفيف الميم والقصر، "فقال" الله "سبحانه وتعالى: يا موسى أما علمت أن فضل أمة محمد على سائر" باقي "الأمم كفضلي على جميع خلقي" وتلك مزايا لا تقتضي التفضيل، "قال: يا رب فأرينيهم، قال: لن تراهم، ولكن أسمعك كلامهم، فناداهم الله تعالى، فأجابوا كلهم بصوت واحد، لبيك اللهم لبيك" إجابة لك بعد إجابة، "وهم في أصلاب آبائهم وبطون أمهاتهم" أي: بعض أصول هذه الأمة، كان حينئذ في أصلاب الآباء، وبعضهم في بطون الأمهات بخلافه حين أخذ العهد على الذرية، فلم يكن أحدًا موجودًا في بطون الأمهات، ولذا لم تذكر في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، "فقال سبحانه وتعالى: صلاتي" رحمتي ومغفرتي "عليكم، ورحمتي سبقت" وفي رواية: غلبت، أي: غلبت آثار رحمتي على آثار "غضبي" والمراد لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، وإليه أشار بقوله:"وعفوي سبق عذابي" وفي مسلم، عن
عذابي، أستجيب لكم قبل أن تسألوني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله غفرت له ذنوبه".
أبي هريرة مرفوعًا: قال الله تعالى: "سبقت رحمتي غضبي" وفي البخاري، عنه رفعه:"إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي".
قال في الفتح: في رواية غلبت، والمراد من الغضب لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، والسبق والغلبة باعتبار التعلق، أي: تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب؛ لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة، وأما الغضب، فيتوقف على سابقه عمل من العبد الحادث، وبهذا التقرير يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن، كمن يدخل النار من الموحدين، ثم يخرج بالشفاعة وغيرها، وقيل: معنى الغلبة الكثيرة والشمول، تقول: غلب على فلان الكرم، أي: هو أكثر أفعاله، وهذا كله بناء على أن الرحمة والغضب من صفات الذات.
وقال بعض العلماء: إنهما من صفات الفعل، لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدم بعض الأفعال على بعض، فتكون الإشارة بالرحمة إلى إسكان آدم الجنة أول ما خلق مثلا، ومقابله ما وقع من إخراجه منها، وعلى ذلك استمرت أحوال الأمم تتقدم الرحمة في حقهم بالتوسيع عليهم في الرزق وغيره، ثم يقع بهم العذاب على كفرهم.
وأما ما أشكل من أمر من يعذب من الموحدين، فالرحمة سابقة في حقهم أيضًا، ولولا جودها لخلدوا أبدًا.
وقال الطيبي: في سبق الرحمة إشارة إلى أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، فالرحمة تشمل الشخص جنينًا، ورضيعًا، وفطيمًا، وناشئًا قبل أن يصدر منه شيء من الطاعات، ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك، انتهى.
وفي المصابيح: الرحمة إرادة الثواب، والغضب إرادة العاب، والصفات لا توصف بغلبة، ولا يسبق بعضها بعضًا، لكن هذا ورد على الاستعارة، ولا منع من جعل الرحمة والغضب صفتي فعل لا ذات، فالرحمة الثواب والإحسان، والغضب الانتقام والعذاب، فتكون الغلبة على بابها، انتهى.
"أستجيب لكم قبل أن تسألوني" زيادة في الإكرام، "فمن لقيني منكم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، غفرت له ذنوبه" وفي مسلم، عن عبادة مرفوعًا:"من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله حرم الله عليه النار".
قال صلى الله عليه وسلم: "فأراد الله أن يمن عليّ ذلك فقال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] "، أي: أمتك حتى أسمعنا موسى كلامهم.
ورواه قتادة، وزاد: فقال: يا رب، ما أحسن أصوات أمة محمد صلى الله عليه وسلم أسمعني مرة أخرى.
وفي الحلية لأبي نعيم، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله تعالى إلى موسى، نبئ بني إسرائيل أنه من لقيني وهو جاحد بأحمد أدخلته النار، قال: يا رب، ومن أحمد؟ قال: ما خلقت خلقًا أكرم علي منه
وفي الصحيحين مرفوعًا: "من شهد أن لا إله إلا الله، وجبت له الجنة". وفي الطبراني رفعه: "من شهد أن لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه، دخل الجنة، ولم تمسه النار". وفي بسط الكلام في هذا طول.
قال صلى الله عليه وسلم: "فأراد الله أن يمن عليّ بذلك، فقال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} "، الجبل {إِذْ نَادَيْنَا} ، أي: أمتك حين أسمعنا موسى كلامهم. وفي البغوي: قيل نادينا موسى: خذ الكتاب بقوة، وقال وهب: قال موسى: يا رب أرني محمدًا، قال: إنك لن تصل إلى ذلك، وإن شئت ناديت أمته، وأسمعت صوتهم، قال: بلى يا رب، قال الله تعالى: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم.
وقال أبو زرعة عن عمرو بن جرير: "نادى يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني".
وروى عن ابن عباس ورفعه: "بعضهم قال الله: يا أمة أحمد، فأجابوا من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات: لبيك الله، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، قال تعالى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي عقابي، قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني، وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني، وقد غفرت لكم من قبل أن تعصوني، من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدي ورسولي دخل الجنة، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر"، انتهى.
ورواه قتادة، وزاد:"فقال يا رب ما أحسن أصوات أمة محمد صلى الله عليه وسلم أسمعني مرة أخرى" أصواتهم ولم أر هل أسمعه أم لا؟
"وفي" كتاب "الحلية" أي: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء "لأبي نعيم" أحمد بن عبد الله الأصفهاني، الحافظ الشهير، "عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله تعالى إلى موسى نبئ" خبر "بني إسرائيل" يعقوب، "أنه من لقيني وهو جاحد بأحمد، أدخلته النار" خالدًا فيها لكفره به، "قال: يا رب ومن أحمد؟ قال: ما خلقت خلقًا أكرم عليّ منه".
كتبت اسمه مع اسمي في العرش قبل أن أخلق السماوات والأرض، إن الجنة محرمة على جميع خلقي حتى يدخلها هو وأمته، قال: ومن أمته؟ قال: الحمادون، يحمدون صعودًا وهبوطًا وعلى كل حال، يشدون أوساطهم
بل هو الأكرم، وكان الظاهر في جواب السؤال أن يقال، هو: أحمد بن عبد الله الهاشمي، من ذرية عمك إسماعيل بن إبراهيم، مثلا ليتميز عند السائل عن غيره، لكنه عدل عن ذلك إلى ما يفهم منه الجواب زيادة في تبجيله؛ كما أشار إليه بقوله:"كتبت اسمه مع اسمي في العرش" أي: عليه "قبل أن أخلق السماوات والأرض" حين خلقت العرش فاضطرب، وهو أول المخلوقات بعد النور المحمدي.
روى أبو الشيخ والحاكم، وصححه، عن ابن عباس:"أوحى الله إلى عيسى آمن بمحمد ومر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة، ولا النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا الله، محمد رسول الله فسكن". وهذا لا يقال رأيًا فحكمه الرفع.
"إن الجنة" دار الثواب، "محرمة" ممنوعة "على جميع خلقي حتى يدخلها هو وأمته" حكم على الجملة، فلا ينافي أن الأنبياء تدخلها قبل هذه الأمة؛ كما رواه ابن ماجه، وللطبراني والدارقطني، عن عمر مرفوعًا:"إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلا أمتي"، "قال: ومن أمته؟ قال: الحمادون" صيغة مبالغة، أي الكثيرون الحمد، وتعريف الطرفين يفيد الحصر، فكثرة الحمد مختصة بهم، وهو بالنظر إلى الغالب، أو المجموع، أو الموفقين منهم، أو هذا من شأنهم، وكأنه قيل: ما سبب وصفهم بالمبالغة، فأجاب بقوله: "يحمدون" على الاستئناف البياني، جوابًا لسؤال اقتضته الأولى، ولذا ترك العاطف "صعودًا" إلى المحل العالي "وهبوطًا" إلى الأسفل. وقال ابن القيم: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا علو الثنايا كبروا، وإذا هبطوا سبحوا، فوضعت الصلاة على ذلك، "وعلى كل حال" من قيام، وقعود، واضطجاع، وحضر، وسفر، وسراء، وهو سعة العيش والسرور، وضراء، كالأمراض والمصائب، فهم راضون عن الله في كل حال.
وروى النسائي عن ابن عباس مرفوعًا: "المؤمن بخير على كل حال تنزع نفسه من بين جنبيه، وهو يحمد الله" ولما أحس معاذ بالموت، قال: مرحبًا بحبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، الحمد لله، والحمد لا يلزم كونه في مقابلة نعمة كالشكر، فلا يحتاج الحمد في الضراء للتوجيه بمنفعة الثواب عليها، "ويشدون أوساطهم" بالأزر، كما ثبت في هذا الحديث المرفوع، ومثله نقل عن التوراة والإنجيل، وللديلمي مرفوعًا: "ائتزروا، كما رأيت الملائكة تأتزر عند ربها
ويطهرون أطرافهم، صائمون بالنهار، رهبان بالليل، أقبل منهم اليسير وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله، قال: اجعلني نبي تلك الأمة، قال: نبيها منها، قال: اجعلني من أمة ذلك النبي، قال: استقدمت واستأخر، ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال".
إلى أنصاف سوقها"، ولذا عد من خصائص هذه الأمة، وتوقف فيه، بأنه ليس فيه أن الأمم الماضية لم تكن تأتزر، ولا تثبت الخصوصية بالاحتمال، ويدفع بأن المتبادر من وصفهم بذلك الاختصاص، ولا يلزم النص على لفظ الخصوصية.
نعم، يحتمل أن المراد بشد الأزر الاجتهاد في العبادة، بحيث يقومون لها بنشاط وفراغ قلب، نحو ما قيل في خبر:"كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد مئزره" ويكون وجه الاختصاص إتيانهم بها على وجه أكمل من الأمم السابقة، "ويطهرون أطرافهم" أي: يتوضئون، "صائمون بالنهار، رهبان" عباد "بالليل، أقبل منهم" العمل "اليسير" وأثيبهم عليه الثواب الكثير رحمة منه بهم.
روى مالك، وأحمد، والبخاري وغيرهم عن ابن عمر مرفوعًا:"إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها، حتى إذا انتصف النهار، عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن أكثر عملا، قال: هل ظلمتكم من أجركم شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء".
قال السيوطي: والمراد تشبيه من تقدم بأول النهار إلى الظهر والعصر في كثرة العمل الشاق والتكليف، وتشبيه هذه الأمة بما بين العصر والليل في قلة ذلك وتخفيفه، وليس المراد طول الزمن وقصره، إذ مدة هذه الأمة أول من مدة أهل الإنجيل.
قال إمام الحرمين: الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي لضرب الأمثال، انتهى.
"وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله" يعني: وأن محمدًا رسول الله، فاكتفى بأحدهما عن الأخرى، لكونهما صارا كالشيء الواحد.
"قال" موسى: "اجعلني نبي تلك الأمة" فإن قيل: كيف ساغ سؤال موسى عليه السلام ذلك مع إخبار الله تعالى أنهم أمة أحمد، قلت:"قال نبيها منها، قال: اجعلني من أمة ذلك النبي، قال: استقدمت" في الوجود الزماني، "واستأخر" أحمد فيه، بحيث كان خاتم النبيين، فلا يمكن أن تكون من أمته. "ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال" يوم القيامة في الجنة،
وعن وهب بن منبه قال: أوحى الله إلى سعيا: إني باعث نبيًا أميًا، أفتح به آذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، وأعينًا عميًا، مولده بمكة ومهاجره طيبة، وملكه بالشام، عبدي المتوكل المصطفى المرفوع الحبيب المنتخب
ولا يرد اجتماعه به ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماوات له مرار عديدة في أمر الصلوات؛ لأن المراد الاجتماع المتعارف في الدنيا بلا موت.
"وعن وهب بن منبه" بضم الميم، وفتح النون، وكسر الباء، ابن كامل اليماني، أبي عبد الله الأنباري، التابعي، الثقة من رجال الصحيحين، مات سنة بضع عشرة ومائة، "قال: أوحى الله تعالى إلى سعيا" بسين مهملة وإعجامها لغة ابن أبي أمصيا نبي بشر بعيسى؛ كما في القاموس: "إني باعث" إلى جميع العالمين "نبيًا أميًا" لا يقرأ ولا يكتب "أفتح به آذانًا صمًا" بضم الصاد، وشد الميم جمع صماء كعمى وعمياء، لا تسمع، وفتحها إزالته مجاز، استعير الصمم لعدم الإذعان للحق والانتفاع به؛ لأنها لما لم تسمع السمع المعتد به، نزل منزلة الصمم، فلما أرشدهم صلى الله عليه وسلم للحق، وكشف عنهم الحجب المظلمة، وانقادوا مذعنين، كانوا كمن زال صممه، "وقلوبًا" جمع قلب العضو المعروف: ويراد به العقل، وبه فسر، وهو الظاهر؛ لقوله: "غلفًا" بضم المعجمة، وسكون اللام: جمع أغلف، أي: مغطاة في أكنة، ومعناه: أن قلوبهم كانت محجوبة عن الهداية، فأزال الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم حجابها، وكشف غطاءها حتى اهتدت، "وأعينا" جمع قلة لعين، عدل عن عيونًا جمع كثرة، وإن كان أنسب هنا؛ لأن جمع القلة قد يكون للكثرة، كعكسه، أو لعده قليلا بالنسبة لقدرة الله، أو لأنها كانت قليلة في الابتداء "عميًا" جمع عمياء، وهو عدم البصر عما هو من شأنه استعير لعدم انتفاعهم بها فهي كالمفقودة، ولا ينافيه قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} الآية؛ لأنه فيمن طبع على قلبه، وهذا في غيره: "مولده" يكون "بمكة، ومهاجره" أي: هجرته، أي مكان هجرته "طيبة" المدينة المنورة، "وملكه"، أي ظهوره "بالشام" لاشتماله على الأمراء الذين يتصرفون في الدنيا تصرف الملوك بخلاف الحجاز، وإن كان مبدؤه فيهم، لكنهم لم يكونوا كالملوك، بل كانوا حريصين على اتباع خلافة النبوة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"الخلافة بالمدينة، والملك بالشام" رواه البيهقي، أي: خلافة النبوة التي ذكرها بقوله الخلافة بعدي ثلاثون، ثم تكون ملكًا عضودًا "عبدي المتوكل" الذي يكل أمره إلى الله، فإذا أمره بشيء نهض بلا جزع "المصطفى" أي: المختار من أشهر أسمائه، وفي أحاديث: إن الله اصطفاه، " المرفوع" الدرجات على جميع الخلائق، "الحبيب" فعيل من المحبة بمعنى مفعول؛ لأنه محبوب الله، أو بمعنى فاعل، لأنه محب له تعالى، "المنتخب" بالخاء المعجمة، أو بالجيم، كلاهما بمعنى المختار، وهما من أسمائه عليه السلام.
المختار، لا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، رحيمًا بالمؤمنين، يبكي للبهيمة المثقلة، ولليتيم في حجر الأرملة، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفحش.
وفي نسخة: المتحبب، بكسر الباء اسم فاعل من تحبب إليه تودد، وأظنها تصحيفًا، ولم يذكره المصنف في الأسماء، "المختار" اسم مفعول من الاختيار، وهو الاصطفاء؛ كما في الصحاح، وهما أيضًا معدودان في أسمائه؛ كما مر. "لا يجزي" بفتح أوله "بالسيئة" لأنه خلقه القرآن، وفيه جزاء سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح، فأجره على الله، وقال فاصفح عنهم، ولذا قال:"ولكن يعفو"، فلا يسيء لمن أساء عليه، "ويصفح" يعرض عنه إغضاء وتكرمًا، فلا يقول: لم فعلت كذا يا فلان، بل يقول:"ما بال أقوام يفعلون كذا"، "ويغفر" يستر ويدفع بالتي هي أحسن وذكر الغفر بعد العفو تأكيد إن كانا بمعنى أو يعفو تارة ويستر أخرى، واستدرك، لأنه لا يلزم من عدم جزائها بمثلها الغفر، لجواز أن يكله إلى الله ويؤخره للآخرة، "رحيمًا بالمؤمنين" كما في الكتاب المبين:"يبكي للبهيمة المثقلة" لشدة شفقته على خلق الله، "ويبكي لليتيم في حجر الأرملة" ويقوم به، "ليس بفظ" سيئ الخلق جاف، "ولا غليظ" قاسي القلب، وهو موافق لقوله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية، ولا يعارضه قوله تعالى:{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية، لأن النفي محمول على طبعه الذي جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة، أو النفي بالنسبة للمؤمنين، والأمر بالنسبة للكفار والمنافقين، كما هو مصرح به في نفس الآية، "ولا صخاب" بصاد وسين روايتان، وهما لغتان، والصاد أشهر وأفصح، والسين لغة أثبتها الفراء وغيره، وضعفها الخليل وخاء معجمة ثقيلة، أي: لا يرفع صوته على الناس لسوء خلقه، ولا يكثر الصياح عليهم "في الأسواق" بل يلين جانبه، ويرفق بهم، وفيه ذم أهل السوق، الموصوفين بصفة مذمومة من صخب ولغط، وزيادة مدح وذم لما يتبايعونه وأيمان خانثة، ولذا ورد أنها شر البقاع لما يغلب على أهلها من الأحوال المذمومة
"ولا متزين" روي بزاي منقوطة وتحتية ونون، وروي بدال مهملة من الدين، وروي متزي، بزاي بلا نون من الزي، وهو اللباس والهيئة، أي: لا يتلبس "بالفحش" أو يتحمل أو يباهي وهو القبح، والقول السيئ، ولا يرد إبهام ظاهره؛ أنه قد يأتي به غيره متزين به؛ لأنه لا مفهوم له، لجريه على عادة أرباب الفحش في المباهاة به.
وقيل: التزين بمعنى الاتصاف على التجريد، أو المراد؛ أنه لا يرى الفحش زينة وهذا من علاماته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نشأ بين قوم يتزينون بالفواحش، كالقتل والطواف عراة، فأتى بخلافهم.
ولا قوال للخنا، ولو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب الرعراع لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرًا ونذيرًا إلى أن قال: وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وتوحيدًا لي وإيمانًا بي، وإخلاصًا لي، وتصديقًا لما جاءت به رسلي، وهم رعاة الشمس والقمر، طوبى لتلك القلوب والوجوه والأرواح التي أخلصت لي، ألهمهم التسبيح والتكبير والتحميد والتوحيد،
"ولا قوال" صيغة مبالغة، أي: كثير القول "للخنا" بخاء معجمة، ونون، مقصور قبيح الكلام، وهذا مع ما قبله يفيد أنه لا يصدر عنه شيء منه لا قليل ولا كثير؛ لأن الفحش بمعناه أو فعال هنا للنسبة كتما ونبال، أي: ليس بذي قول للخنا، "ولو يمر إلى جنب السراج" المصباح، والجمع سرج، ككتاب وكتب، "لم يطفئه" بفتح أوله "من سكينته" بفتح السين، وكسر الكاف مخففة.
وحكى عياض في المشارق كسر السين، وشد القاف، وبها قرئ شاذًا فعلية من السكون، أي: وقاره وطمأنينته، "ولو يمشي على القصب" كل نبات يكون ساقه أنابيب وكعوبًا، قاله في مختصر العين الواحدة قصبة "الرعراع" أي: الطويل؛ كما في القاموس: "لم يسمع من تحت قدميه" لأن مشيه بتؤدة، وهو نبي، "أبعثه مبشرًا" من صدقه بالجنة، "ونذيرًا" منذرًا من كذبه بالنار، وهذا كله من صفاته عليه الصلاة والسلام "إلى أن قال: وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر" تمييز، أي: من جهة الأمر والنهي، أو حال بمعنى أمرين وناهين، "وتوحيدًا لي وإيمانًا بي" كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية، "وإخلاصًا لي وتصديقًا لما جاءت به رسلي" والمنصوبات تمييزًا وأحوال، كما علم، "وهم رعاة الشمس والقمر" للعبادة والذكر، قال صلى الله عليه وسلم: "إن خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة لذكر الله تعالى". رواه الحاكم والطبراني، أي: يرصدون دخول الأوقات بها لأجل ذكر الله من الأذان للصلاة، ثم إقامتها، ولإيقاع الأوراد في أوقاتها المحبوبة.
وأخرج الطبراني والخطيب مرفوعًا: لو أقسمت لبررت أن أحب عباد الله إلى الله لرعاة الشمس والقمر، وإنهم ليعرفون يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله" وقال في عدهم:"ورجل يراعي الشمس لمواقيت الصلاة".
"طوبى" فرح وقرة عين، وشجرة في الجنة "لتلك القلوب" بإخلاصها في الإيمان والعبادة، "والوجوه والأرواح التي أخلصت لي" صفة، قامت مقام التعليل، "ألهمهم التسبيح والتكبير، والتحميد، والتوحيد" وثواب ذلك لا يعلمه إلا الله، وفي الحديث: "أفضل الذكر:
في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، ويصفون في مساجدهم كصفوف الملائكة حول عرشي، هم أوليائي وأنصاري، أنتقم بهم من أعدائي عبدة الأوثان، يصلون لي قيامًا وقعودًا وركعًا وسجودًا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألوفًا، ويقاتلون صفوفًا، أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان، فمن أدركهم فلم يؤمن بكتابهم، ويدخل في دينهم.
لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله". رواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، وقال صلى الله عليه وسلم: "أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت". رواه مسلم والنسائي.
وروى البزار بإسناد حسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يستطيع أحدكم أن يعمل كل يوم مثل أحد عملا"؟ قالوا: ومن يستطيعه؟ قال: "كلكم يستطيع ذلك" قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "سبحان الله أعظم من أحد، والحمد لله أعظم من أحد، ولا إله إلا الله أعظم من أحد، والله أكبر أعظم م أحد"، وأحاديث الباب كثيرة.
"في مساجدهم" جمع مسجد في الصلاة ودونها، "ومجالسهم، ومضاجعهم، ومتقلبهم" منصرفهم لأشغالهم بالنهار، "ومثواهم" مأواهم إلى مضاجعهم بالليل، والمراد، أنه يلهمهم ذلك على أي حال كانوا، "ويصفون في مساجدهم" مصلاهم "كصفوف الملائكة حول عرشي" قال صلى الله عليه وسلم:"ألا تصافون، كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف"، رواه مسلم وغيره.
"هم أوليائي" فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، "وأنصاري" كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} الآية، والمراد: أنصار دينه ورسوله، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} الآية، "أنتقم بهم من أعدائي عبدة الأوثان" إكرامًا لهم وابتلاء؛ كما قال:{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا} الآية، الآيتين، "يصلون لي قيامًا وقعودًا" للعذر في الفرض وبدونه في النفل، والمراد: يصلون على أي حال كانوا، "وركعًا وسجدًا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي، ألوفًا" لأجل الجهاد، "ويقاتلون في سبيلي" جهاد الكفار "صفوفًا" بعضهم بجنب بعض من شدة حبهم للقتال، وفي القرآن:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} الآية، أي: ملزق بعضه إلى بعض ثابت، "أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان" فلا كتاب ولا شرع ينسخ كتابهم ودينهم، "فمن أدركهم فلم يؤمن بكتابهم ويدخل في دينهم
وشريعتهم فليس مني، وهو مني برئ، وأجعلهم أفضل الأمم، وأجعلهم أمة وسطًا شهداء على الناس، إذا غضبوا هللوني، وإذا تنازعوا سبحوني، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب إلى الأنصاف، ويهللون على التلول والأشراف، قربانهم دماؤهم، وأنا جيلهم في صدورهم، رهبانًا بالليل ليوثًا بالنهار، طوبى لمن كان معهم، وعلى دينهم ومنهاجهم وشريعتهم، وذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. رواه أبو نعيم.
وقد ذكر الإمام فخر الدين: أن من كانت معجزاته أظهر يكون ثواب أمته أقل، قال السبكي: إلا هذه الأمة، فإن معجزات نبيها أظهر وثوابها أكثر من سائر الأمم.
وشريعتهم فليس مني" لكفره، "وهو مني بريء، وأجعلهم أفضل الأمم، وأجعلهم أمة وسطًا" خيارًا عدولا، "شهداء على الناس" يوم القيامة، إن رسلهم بلغتهم، "إذا غضبوا هللوني" قالوا: لا إله إلا الله، ولا يعملون بمقتضى الغضب، "وإذا تنازعوا" في شيء بينهم "سبحوني" فهم يذكرونه في جميع أحوالهم، "يطهرون الوجوه والأطراف" الأيدي والأرجل في الوضوء، "ويشدون الثياب إلى الأنصاف" من سوقهم، اقتداء بنبيهم، ولا يرخونها إلى أسفل من ذلك تيها وتكبرًا، "ويهللون على التلول" جمع تل الأمكنة العالية، "والأشراف" جمع شرف، بفتحتين المكان العالي، فالعطف مساوٍ حسنه اختلاف اللفظ ومراعاة الفاصلتين، "قربانهم دماؤهم" أي: أضاحيهم وهداياهم، أو المراد أنهم متهيئون للجهاد في سبيل الله، فكأنهم يتقربون إلى الله بدماء أنفسهم، أو بدماء من قتلوه من الكفار؛ كما قال كعب بن زهير في مدح الأنصار:
يتقربون يرونه نسكا لهم
…
بدماء من علقوا من الكفار
وفي الأنموذج قربانهم ودماؤهم، وروى ابن عدي مرفوعًا:"إن الصلاة قربان المؤمن"، وفي حديث:"الصلاة قربان كل تقي"، أي: الصلاة من المتقي بمنزلة الهدايا والضحايا لفاقدهما. "وأناجيلهم" مصاحفهم محفوظة "في صدورهم، رهبانًا" عبادًا "بالليل ليوثًا" أسدًا على الأعداء، "بالنهار طوبى" فرح وقرة عين وشجرة في الجنة، "لمن كان معهم وعلى دينهم ومنهاجهم" طريقتهم، "وشريعتهم، وذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل" الإحسان "العظيم" فلا حجر في تخصيصهم بهذه الفضائل دون غيرهم، "رواه أبو نعيم" الأصبهاني.
"وقد ذكر الإمام فخر الدين" الرازي: "أن من كانت معجزاته أظهر، يكون ثواب أمته أقل"، لأن قوة ظهورها يلجئ إلى الإيمان.
قال السبكي: "إلا هذه الأمة، فإن معجزات نبيها أظهر، وثوابها أكثر من سائر الأمم".
ومن خصائص هذه الأمة إحلال الغنائم، ولم تحل لأحد قبلها
فضلا من الله ونعمة.
"ومن خصائص هذه الأمة إحلال الغنائم" وابتداء ذلك في غزوة بدر، وفيها نزل:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} الآية، كما في الصحيح من حديث ابن عباس، وعند ابن إسحاق: أول غنيمة خمست غنيمة السرية التي كان عليها عبد الله بن جحش، وهو قبل بدر بشهرين.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بما ذكر ابن سعد؛ أنه صلى الله عليه وسلم أخر غنيمة تلك السرية حتى رجع من بدر، فقسمها مع غنائم أهل بدر، "ولم تحل لأحد" من الأمم، وفي نسخة لأمة "قبلها" والمراد بها ما أخذ من الكفار بقهر وغيره، فنعم الفيء؛ إذ كل منهما انفرد عن الآخر.
روى النسائي، عن أبي هريرة رفعه:"إن الله أطعمنا الغنائم، رحمة رحمنا بها، تخفيفًا خففه عنا، لما رأى من ضعفنا وعجزنا، فأحلها لنا".
وفي حديث جابر في الصحيحين: "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي".
قال الخطابي: كان من تقدم على ضربين منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم يكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا اغتنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته.
وقيل: المراد أنه خاص بالتصرف في الغنيمة، يصرفها حيث شاء، والأقل الأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلا، ذكره الحافظ، ويرجع ما صوبه قوله:"ولم تحل لأحد قبلي"؛ لأنه التقييد بالقبلية بطريق المفهوم؛ أنها حلت له ولأمته.
وروى الترمذي بسند صحيح، عن أبي هريرة رفعه:"لم تحل الغنائم لأحد، سود الرءوس من قبلكم، كانت تجمع فتنزل نار من السماء فتأكلها".
قال في الفتح: كان من مضى يغزون ويأخذون أموال أعدائهم وإسلابهم، لكن لا يتصرفون فيها، بل يجمعونها، وعلامة قبول غزوهم أن تنزل نار من السماء فتأكلها، وعلامة عدم قبوله أن لا ينزل، ومن أسباب عدم القبول الغلول، وقد من الله على هذه الأمة بشرف نبيها عنده، فأحل لهم الغنيمة، وستر عليهم الغلول، وستر عليهم فضيحته، ودخل في عموم أكل النار الغنيمة السبي وفيه بعد، لأن مقتضاه إهلاك الذرية ومن لم يقاتل من النساء، ويمكن أن يستثنوا من ذلك، ويلزم منه استثناؤهم من تحريم الغنائم عليها، ويؤيده أنه كانت لهم عبيدًا وإماء، فلو لم يجز لهم السبي لما كان لهم أرقاء، ولم أر من صرح بذلك انتهى، ونظر فيه شيخنا بأنه كان في شرع يعقوب إذا سرق إنسان شيئًا، ووجد عنده جعل السارق رقيقًا للمسروق منه، وجزم بعضهم باستثناء الذرية من أكل
وجعلت لهم الأرض مسجدًا ولم تكن الأمم تصلي إلا في البيع والكنائس، وجعلت تربتها لهم طهورًا وهو التيمم. وفي رواية أبي أمامة عند البخاري:"وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا وطهورًا". وفي رواية مسلم من حديث حذيفة: "وجعلت لنا الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا إذا لم نجد الماء".
النار، يفهم منه أنها كانت تحل لغير هذه الأمة. وفي شرح المشارق للشيخ أكمل الدين أنهم كانوا إذا أغنموا حيوانات تكون ملكًا للغانمين دون أنبيائهم، وإذا أغنموا غير الحيوانات، جمعوها، فتجيء نار فتحرقها.
"وجعلت لهم الأرض مسجدًا" أي: موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أنه مجاز عن المكان المبني للصلاة من مجاز التشبيه؛ لأنه لما جازت الصلاة جميعها كانت كالمسجد في ذلك.
"ولم تكن الأمم تصلي إلا في البيع" كنائس النصارى، وقيل: اليهود، فقوله "والكنائس" عطف تفسير على الأول: جمع كنيسة، متعبد النصارى، وقيل: اليهود، وعبارة المصنف فيما مر عن الفتح إلا في نحو البيع والصوامع، أي: متعبد الرهبان، فإن تعذر مجيئهم لها لنحو سفر، لم يصلوا على ظاهره، فيسقط عنهم أداؤها، ويقضون إذا رجعوا؛ كما جزم به بعض شراح الرسالة في فقه المالكية.
ويؤيده ظاهر قوله في حديث ابن عباس: "ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه"، فما قيل: هل تسقط عنهم مطلقًا أو محل الحضر في نحو البيع في الحضر.
أما في السفر، فتباح في غيرها، ويكون محل خصوصيتنا الصلاة بأي محل، ولو بجوار المسجد، وسهولة الصلاة فيه تقصير، ويمنع الثاني أن القيد لا بد له من دليل، مع أن ظاهر قوله حتى يبلغ محرابه يمنعه، وتقدم هذا مرتين:"وجعلت تربتها لهم طهورًا" بفتح الطاء على المشهور، أي مطهرًا لغيره، لا طاهرًا، وإلا لزم تحصيل الحاصل، ولم تثبت الخصوصية، "وهو التيمم" لفقد الماء حسدًا، أو حكمًا بعدم القدرة على استعماله.
وفي رواية أبي أمامة عند البخاري: "وجعلت الأرض كلها لي، ولأمتي مسجدًا وطهورًا" فصرح بمشاركة أمته له فيهما.
وفي رواية مسلم من حديث حذيفة: "وجعلت لنا الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا، إذا لم نجد الماء". أو لم نقدر على استعماله، وبه احتج للشافعي وأحمد على تخصيص التيمم بالتراب، وأجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره، وقد قال تعالى
ومن خصائص هذه الأمة أيضًا الوضوء، فإنه لم يكن إلا للأنبياء دون أممهم، ذكره الحليمي، واستدل بحديث البخاري:"إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء".
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ، والصعيد: ما صعد على الأرض ترابًا أو غيره، وفي حديث جابر في الصحيحين:"وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" وبهذا احتج لمالك وأبي حنيفة على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض.
وأما قوله في رواية ابن خزيمة وغيره: "وجعل ترابها طهورًا"، وقوله في حديث علي:"وجعل التراب لي طهورًا"، رواه أحمد والبيهقي بإسناد حسن، فالنص على التراب في هاتين الروايتين لبيان أفضليته، لا لأنه لا يجزئ غيره، وليس مخصصًا لعموم قوله: وطهورًا، لأن شرط المخصص أن يكون منافيًا للعام، ولذا قال القرطبي هو من باب النص على بعض أشخاص العموم، كقوله تعالى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} الآية، "ومن خصائص هذه الأمة أيضًا الوضوء، فإنه لم يكن إلا للأنبياء دون أممهم" بخلاف هذه الأمة، فهو لها كنبيها، "ذكره الحليمي" قال السيوطي: وهو الأصح، ونوزع بما يأتي بيانه، "واستدل بحديث البخاري" ومسلم، عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم:"إن أمتي" أمة الإجابة لا الدعوة، "يدعون" بضم أوله، أي: ينادون أو يمون، ولفظ مسلم: يأتون "يوم القيامة" أي: موقف الحساب، أو الميزان، أو الصراط، أو الحوض، أو غير ذلك "غرًا" بالضم والتشديد، جمع أغر، أي: ذي غرة، بضم الغين، بياض في جبهة الفرس فوق درهم، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، شبه به ما يكون لهم من النور في الآخرة، ونصب مفعول يدعون، أو حالا، أي: إذ دعوا يوم التناد على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، أو كانوا على هذا النعت.
قال الطيبي: ولا يبعد التسمية باعتبار الوصف الظاهر؛ كما يسمى رجل به حمرة الأحمر، للمناسبة بين الاسم والمسمى، "محجلين" من التحجيل، وهو بياض في قوائم الفرس أو في ثلاث منها، أو في غيره قل أو أكثر بعدما تجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين.
"من آثار الوضوء" بضم الواو، وجوز ابن دقيق العيد فتحها على أنه الماء، وظاهر هذا، كقوله في رواية لمسلم:"أنتم الغر المحجلون يوم القيامة، من إسباغ الوضوء" أن هذه السيما إنما تكون لمن توضأ في الدنيا، ففيه رد لما نقله الزناتي الفاسي في شرح الرسالة عن العلمي: إن الغرة والتحجيل لهذه الأمة من توضأ منهم ومن لا؛ كما يقال لهم أهل القبلة من صلى ومن لا. انتهى.
وفي القياس على الإيمان نظر؛ لأنه التصديق والشهادة، وإن ترك الواجب وفعل الحرام،
لكن قال في فتح الباري: فيه نظر: لأنه ثبت في البخاري في قصة سارة عليها السلام مع الملك الذي أعطاها هاجر: لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي.
بخلاف الغرة والتحجيل، فمجرد فضيلة وتشريف للمتوضئ، فلا يكونان لسواه، ومن ثم قال شيخ الإسلام زكريا في شرح البخاري، لا تحصل الغرة والتحجيل إلا لمن توضأ بالفعل، أما من لم يتوضأ، فلا يحصلان له.
قال شيخنا في حواشي الرملي: ومن نقل عنه خلاف ذلك فقد أخطأ إنما هو قول للزناتي لا لشيخ الإسلام، وينبغي على قوله أن ذلك خاص بمن توضأ حال حياته، فلا يدخل من وضأه الغاسل، وبقي أيضًا ما لو تيمم ولم يتوضأ، هل يحصل له ذلك أم لا؟ وفيه نظر، وينبغي أن يحصل لقيامه مقام الوضوء، انتهى.
"لكن قال في فتح الباري: فيه" أي: استدلاله بهذا الحديث "نظر" لأن الذي دل على أنه خصوصية إنما هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء، "لأنه ثبت في البخاري في قصة سارة" بخفة الراء، وقيل بتشديدها، واختلف في اسم أبيها، فقيل: هاران ملك حران، تزوجها إبراهيم لما هاجر من بلاد قومه إلى حران، وإن هذا هو السبب في إعطاء الملك لها هاجر، وأنه قال لإبراهيم: رأيتها تطحن، وهي لا تصلح أن تخدم نفسها، وقيل هي بنت أخيه، وكان ذلك جائزًا في شرعه، حكاه ابن قتيبة والنقاش واستبعد، وقيل: بنت عمه، وتوافق الاسمان، وقيل: اسم أبيها نويل "عليها السلام" وهي إحدى النسوة اللاتي قيل بنبوتهن "مع الملك الذي أعطاها هاجر" بالهاء، رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، وبهمزة بدلها، رواه في البيوع، وكذا مسلم، وفتح الجيم عليهما اسم سرياني، يقال: إن أباها كان من ملوك القبط، من حفن، بفتح المهملة، وسكون الفاء قرية بمصر كانت مدينة، وهي الآن كفر من عمل أنصنا بالبر الشرقي من الصعيد، وفيها آثار عظيمة باقية، "لما هم الملك" عمرو بن امرئ القيس بن سبأ، وكان على مصر، ذكره السهيلي، وهو قول ابن هشام في التيجان.
وقيل: اسمه صادف، وكان على الأردن، حكاه ابن قتيبة، وقيل سنان بن علوان بن عبيد بن جريج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، حكاه الطبري، ويقال: إنه الضحاك الذي ملك الأقاليم: "بالدنو منها، قامت تتوضأ وتصلي"، ففيه أن الوضوء كان مشروعًا للأمم قبلنا، وليس مختصًا بهذه الأمة، ولا بالأنبياء لثبوت ذلك عن سارة، والجمهور أنها ليست نبية.
أخرج البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هاجر إبراهيم بسارة، فدخل بها قرية ملك من الملوك، أو جبار من الجبابرة، فقيل: دخل إبراهيم
.........................................
بامرأة، وهي من أحسن النساء، فأرسل إليه أن يا إبراهيم من أين هذه التي معك؟ فقال: أختي، ثم رجع إليها، فقال: لا تكذبي حديثي فإني أخبرتهم أنك أختي، والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأرسل بها إليه، فقام إليها، فقامت تتوضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي الكافر، فغط حتى ركض برجله".
قال الأعرج: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال: قالت: اللهم إن يمت يقال هي قتلته، فأرسل، ثم قام إليها، فقامت تتوضأ وتصلي، وتقول: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي هذا الكافر، فغط حتى ركض برجله، قال الأعرج: قال أبو سلمة: قال أبو هريرة: قالت: اللهم إن يمت يقال هي قتلته، فأرسل في الثانية أو في الثالثة، فقال: ما أرسلتم إلي إلا شيطانًا، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها أجر، فرجعت إلى إبراهيم، فقالت: أشعرت أن الله كبت الكافر، وأخدم وليدة، أخرجه أيضًا مسلم وأحمد وغيرهما من طرق في ألفاظها اختلاف، ليس هذا موضع بيانه.
قال في فتح الباري: قوله: فأرسل إليه ظاهر في أنه سأله عنها أولا، ثم أعلمها بذلك لئلا تكذبه عنده، وفي رواية هشام بن حسان عن ابن سرين عن أبي هريرة عند البزار والنسائي وابن حبان، أنه قال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، وإنك أختي في الإسلام، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، فأتاه، فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فيجمع بينهما بأن إبراهيم أحس بأنه سيطلبها منه، فأوصاها، فلما وقع ما خشيه، أعاد عليها الوصية، واختلف في السبب الحامل له على الوصية، مع أن مراده غصبها أختًا كانت أو زوجة، فقيل: كان من شأنه أن لا يتعرض إلا لذات الزوج، فأراد إبراهيم دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما؛ لأن اغتصابه واقع لا محالة، لكن إن علم لها زوجًا حملته على قتله، أو حبسه وإضراره، بخلاف الأخ، فالغيرة حينئذ من قبله خاصة، لا من قبل الجبار، فلا يبالي به، وهذا تقرير جاء صريحًا عن وهب بن منبه، رواه عبد بن حميد عنه.
وذكر ابن الجوزي في مشكل الصحيحين، وتبعه المنذري في حواشي السنن عن بعض أهل الكتاب، أن الجبار كان من رأيه أن لا يقرب ذات زوج حتى يقتله، فلذا قال إبراهيم: هي أختي؛ لأنه إن كان عادلا خطبها منه ثم يرجو مدافعته عنها، وإن كان ظالمًا خلص من القتل، وليس هذا يبعد من الأول.
وقيل: كان من دين الجبار أن الأخ أحق بأن أخته زوجته، فقال: هي أختي اعتمادًا على
وفي قصة جريج الراهب: أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام.
ما يعتقده الجبار، فلا ينازعه فيها، وتعقب بأنه لو كان كذلك لقال: هي أختي وأنا زوجها، فلم اقتصر على قوله هي أختي، وأيضًا فهذا الجواب إنما يفيد لو كان الجبار يريد أن يتزوجها لا أن يغصبها نفسها، وقيل: أراد إبراهيم أنه إن علم أنك امرئتي ألزمني بالطلاق، ولا يشكل قوله: ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك بلوط، وقد قال تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} الآية، لأن مراده بالأرض التي وقع له فيها ذلك، ولم يكن لوط معه فيها، وقوله: فغط بضم المعجمة.
وحكى ابن التين: فتحها والصواب الضم حتى ركض برجله، يعني أنه اختنق كأنه مصروع، وفي رواية مسلم: فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت قبضة شديدة، ويمكن الجمع بأنه عوقب تارة بقبض يده، وتارة بصرعه، ويجاب عن قولها إن كنت تعلم أنها قاطعة بأنه تعالى يعلم ذلك، بأنها قالته على سبيل الفرض هضمًا لنفسها، وفيه إجابة الدعاء بإخلاص النية، وكفاية الرب، لمن أخلص بعمله الصالح، ونظيره قصة أصحاب الغار، وابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم، ويقال: إن الله كشف لإبراهيم حتى رأى حال الملك مع سارة معاينة، وأنه لم يصل منها إلى شيء ذكره في التيجان، ولفظه: فأمر بإدخال إبراهيم وسارة عليه ثم نحى إبراهيم إلى خارج القصر، وقام إلى سارة، فجعل الله القصر لإبراهيم، كالقارورة الصافية، فصار يراهما ويسمع كلامهما، انتهى.
"وفي قصة جريج" بجيمين مصغر "الراهب" روى أحمد عن أم سلمة: كان رجل يقال له جريج من بني إسرائيل تاجرًا، وكان ينقص مرة ويزيد أخرى، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبى صومعة، وترهب فيها، الحديث.
قال الحافظ: دل أنه كان بعد عيسى ومن أتباعه، لأنهم الذين ابتدعوا الترهب، وحبس النفس في الصوامع "أنه قام، فتوضأ وصلى" ركعتين، كما في حديث عمران، "ثم كلم الغلام"، نفيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة خلافًا لزاعمه، روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج يصلي، جاءته أمه، فدعته، فقال: أجيبها، أو أصلي؟ فقالت اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة، فكلمته، فأبى، فأتت راعيًا، فأمكنته من نفسها فولدت غلامًا، فقالت: من جريج، فأتوه، فكسروا صومعته، فأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين"
…
الحديث.
فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء.
قال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرق على اسم أم جريج، ولا على اسم الزانية، لكن في حديث عمر أنها كانت بنت ملك القرية، ولأحمد: فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج، فقالت: بغي منهم إن شئتم لأفتننه، قالوا: قد شئنا فأتته، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأمكنت نفسها من راعٍ كان يؤوي غنيمة إلى أصل صومعته، وله من وجه آخر، وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم، وفي أخرى: كان عند صومعته راعي ضأن، وراع معز، ويمكن الجمع بين هذه الروايات، بأنها خرجت من دار أبيها بغير علم أهلها متنكرة، وكانت تعمل الفساد إلى أن ادعت أنها تستطيع أن تفتن جريجًا، فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية، ليمكنها أن تأوي إلى ظل صومعته لتتوصل بذلك إلى فتنته، وفي رواية: أنه طعن الغلام بأصبعه، فقال: بالله يا غلام من أبوك؟ قال: أنا ابن الراعي.
وفي مرسل الحسن عند ابن المبارك؛ أنه سألهم أن ينظروه، فأنظروه، فرأى في المنام من أمره أن يطعن في بطن المرأة، فيقول: أيتها السخلة من أبوك؟ ففعل، فقال: راعي الغنم.
وفي رواية: ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ قال: راعي الضأن، ولأحمد: فوضع أصبعه على بطنها، وفي رواية: فأتى بالمرأة والصبي وفمه في ثديها، فقال له جريج: يا غلام من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثدي، وقال: أبي راعي الضأن، وفي أخرى: فلما أدخل على ملكه، قال جريج: أين الصبي الذي ولدته؟ فأتى فقال له: من أبوك؟ فسمى أباه، ولم أقف على اسم الراعي، ويقال: اسمه صهيب.
وأما الابن، فللبخاري في أواخر الصلاة بلفظ، فقال: يا ناموس، وليس اسمه كما زعم الداودي، إنما المراد به الصغير.
وفي حديث عمران: ثم انتهى إلى شجرة، فأخذ منها غصنًا، ثم الغلام، وهو في مهده فضربه بذلك الغصن، فقال: من أبوك؟ ولأبي الليث السمرقندي بلا إسناد، قال للمرأة: أين أصبتك؟ قالت: تحت شجرة، فقال: يا شجرة أسألك بالذي خلقك من زنى بهذه المرأة؟ فقال: كل غصن منها راعي الغنم، ويجمع بين هذا الاختلاف بوقوع جميع ما ذكر، بأنه مسح رأس الصبي، ووضع أصبعه على بطن أمه، وطعنه بأصبعه وضربه بطرف العصا التي كانت معه، وأبعد من جمع بينها بتعدد القصة؛ وأنه استنطقه، وهو في بطن أمه مرة قبل أن تلد ثم بعد أن ولد، زاد في رواية: فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه، وفي أخرى: فأبرأ الله جريجًا، وأعظم الناس أمره، انتهى ملخصًا، وحيث ثبت وضوء سارة وجريج وليسا نبيين.
"فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل" زاد بعضهم أو التثليث أو الكيفية، أو مزيد الحث عليه، والمبالغة في التأكيد "لا أصل الوضوء" وقول ابن بطال: يحتمل
وقد صرح بذلك في رواية لسملم عن أبي هريرة مرفوعًا، قال:"لكم سيما ليست لغيركم". أي: علامة.
ومنها مجموع الصلوات الخمس، ولم تجمع لأحد غيرهم، أخرج الطحاوي عن عبيد الله بن محمد.
أن يكون جريج نبيًا، فيكون معجزة لا كرامة، إنما هو احتمال لا تثبت به نبوته، "وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن حوضي أبعد من أيلة من عدن، لهو أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه، كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه"، قالوا: يا رسول الله أتعرفنا يومئذ؟ قال: "نعم لكم سيما" بكسر، فسكون "ليست لغيركم" لفظ مسلم:"ليست لأحد من الأمم، تردون الحوض علي غرًا محجلين من أثر الوضوء". هذا لفظ مسلم تامًا في الوضوء، وأخرج نحوه من حديث حذيفة، وقوله: سيما، "أي: علامة" كقوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} الآية، وهي نور وبياض يعرفون به في الآخرة أنهم سجدوا في الدنيا، وقد قال صاحب المطامح: تعلق بحديث أنتم الغر المحجلون إلى آخره الداودي، وغيره من ضعفاء النظر على أن الوضوء من خصائصنا، وهو غير قاطع؛ لاحتمال أن الخاص بنا الغرة والتحجيل بقرينة خبر هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء من قبلي، وقصره على الأنبياء دون أممهم برده أن الوضوء إذا كان معروفًا عند الأنبياء، فالأصل أنه شرع ثابت لأممهم حتى يثبت خلافه، انتهى.
وتعقب بأن حديث: هذا وضوئي، ضعيف لا حجة فيه، مع احتمال أن الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة على أنه صرح فيه بأن الوضوء للأمم المتقدمة.
روى الطبراني عن بريدة: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بوضوء، فتوضأ واحدة واحدة، قال:"هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة به إلا مرتين"، وقال:"هذا وضوء الأمم قبلكم"، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال:"هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي".
"ومنها مجموع الصلوات الخمس" على هذه الكيفية، "ولم تجمع لأحد غيرهم" من الأنبياء والأمم، والحجة لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"اتقوا الله وصلوا خمسكم"، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وابن حبان والحاكم، فإضافتها إليهم تعطي ذلك، ولا يعارضه قول جبريل في حديث المواقيت حين صلى الخمس بالنبي صلى الله عليه وسلم، هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك، لأن المراد، كما قال الرافعي أنه وقتهم إجمالا، وإن اختص كل منهم بوقت فقد. "أخرج الطحاوي عن عبيد الله" بضم العين "ابن محمد" بن حفص بن عمر بن موسى بن عبد الله بن معمر التيمي،
ابن عائشة قال: إن آدم لما تيب عليه عند الفجر صلى ركعتين فصارت الصبح، وفدى إسحاق عند الظهر، فصلى أربع ركعات، فصارت الظهر، وبعث عزير عند العصر، فقيل له: كم لبثت قال: يومًا، فرأى الشمس فقال: أو بعض يوم فصلى أربع ركعات فصارت العصر، وغفر لداود عند المغرب، فقام يصلي أربع ركعات فجهد فجلس في الثالثة فصارت المغرب ثلاثًا. وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم.
ثقة، رمي بالقدر ولا يثبت، مات سنة ثمان وعشرين ومائتين، روى له أبو داود والترمذي والنسائي، ويقال له "ابن عائشة"، والعائشي، والعيشي، نسبة إلى عائشة بنت طلحة، لأنه من ذريتها، "قال: إن آدم لما تيب عليه عند الفجر صلى ركعتين، فصارت الصبح" فكان يصليها إلى أن مات، "وفدى إسحاق عند الظهر" من الذبح، ففيه حجة لقول الجمهور أنه الذبيح؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "الذبيح إسحاق". رواه الدارقطني وغيره بإسناد جيد، ومر بسطه، وتسمح من قال بناء على أنه الذبيح، والصحيح أنه إسماعيل؛ لأن هذا إخبار عن بلاغ، فلا يبنى على خلاف العلماء، "فصلى" إبراهيم "أربع ركعات" سقط إبراهيم من قلم المصنف أو نساخه مع أنه في رواية الطحاوي: فأوهم سقوطه أن المصلي إسحاق وليس كذلك، "فصارت الظهر؛ وبعث عزير" بالصرف ابن سروحا لما مر على قرية هي بيت المقدس، أو غيرها راكبًا على حمار ومعه سلة تين وقدح عصير بعد ما خرب القرية بختنصر، قال: استعظامًا لقدرة الله تعالى أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام، ثم بعثه: أحياه ليريه كيفية ذلك "عند العصر، فقيل له: كم لبثت؟ " مكثت هنا، "قال: لبثت يومًا، فرأى الشمس، فقال: أو بعض يوم" لأنه نام أول النهار، فقبض وأحيي أثناء نهار غيره فظن أنه يوم النوم، "فصلى أربع ركعات" وقد اختلف أهل التفسير في المراد بقوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} الآية، فالمشهور أنه عزير، وأخرجه الحاكم وغيره عن علي، والخطيب عن عبد الله بن سلام وعن ابن عباس، وقيل: كان نبيًا اسمه أرميا، وقيل الخضر، وقيل: حزقيل، وقيل: هو كافر بالبعث، وقيل غير ذلك؛ إلا أن ما أفاده بقوله: "فصارت العصر" أنها كانت له مخالف لما في شرح المسند للرافعي أن العصر لسليمان "وغفر لداود" بن إيشاء، بكسر الهمزة، وسكون التحتية، ومعجمة ابن عوبد، بمهملة، وموحدة، بزنة جعفر، ابن باعر، بموحدة، ومهملة مفتوحة، ابن سلمون بن يارب، بتحتية، آخر ابن رام بن حضرون، بمهملة، ثم ابن فارض بفاء، وآخره مهملة، ابن يهود بن يعقوب، "عند المغرب، فقام يصلي أربع ركعات، فجهد" تعب، "فجلس في الثالثة، فصارت المغرب ثلاثًا"، وفيه مخالفة لنقل الرافعي أن المغرب ليعقوب، "وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم" فهي من خصائصنا، وعورض بما في شرح المسند أن
وأخرج أبو داود في سننه، وابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في سننه عن معاذ بن جبل قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة ليلة حتى ظن الظان أنه قد صلى، ثم خرج فقال:"أعتموا بهذه الصلاة فإنكم فضلتم بها على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم".
العشاء ليونس؛ لكن يؤيد خبر الطحاوي حديث معاذ، وهو المذكور بقوله:"وأخرج أبو داود في سننه" في الصلاة، "وابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في سننه" بإسناد حسن، "عن معاذ بن جبل، قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة" أي: العشاء الآخرة "ليلة، حتى ظن الظان أنه قد صلى" لفظ الرواية: حتى ظن الظان أنه ليس بخارج، والقائل منا يقول قد صلى، "ثم خرج" فقالوا له كما قالوا: كما في الحديث، أي: القول الذي قالوا قبل خروجه، فقال:"أعتموا" بفتح الهمزة، وكسر الفوقية "بهذه الصلاة" صلاة العشاء. والباء للتعدية، أي: أدخلوها في العتمة، وهي ما بعد غيبوبة الشفق، أو للمصاحبة، أي: ادخلوا في العتمة متلبسين بها، قال البيضاوي: أعتم الرجل: دخل العتمة، وهي ظلمة الليل، أي: صلوها بعدما دخلتم في الظلمة، وتحققتم سقوط الشفق، ولا تستعجلوا فيها، فتوقعوها قبل وقتها، وعليه فلا يدل على أفضلية التأخير، ويحتمل أنه من العتم الذي هو الإبطاء، يقال: أعتم الرجل إذا أخر. انتهى. "فإنكم فضلتم" بالبناء للمفعول "بها على سائر الأمم، ولم تصها أمة قبلكم".
وأورد الحافظ الولي العراقي ما المناسبة بين تأخيرها واختصاصها بنا دون سائر الأمم، حتى يجعل الثاني علة للأول، وأجاب بأن المراد إذا أخروها منتظرين خروج النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في صلاة، وكتب لهم ثواب المصلي، فقوله: فضلتم بها يعارض رواية أن العشاء ليونس، ورواية ابن سعد: أن إبراهيم وإسماعيل أتيا منى، فصليا بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، وهو ظاهر قول جبريل: هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك، وجمع الهروي وغيره بأن المصطفى أول من صلاها مؤخرًا لها إلى ثلث الليل أو نحوه، أما الرسل فكانوا يصلونها عند أول مغيب الشفق، ويدل لذلك، بل يصرح به قوله في أثر الطحاوي نفسه العشاء إلا آخره، وجمع البيضاوي في شرح المصابيح؛ بأن العشاء كانت تصليها الرسل ناقلة لهم، ولم تكتب على أممهم كالتهجد، وجب على نبينا دوننا. انتهى.
واحتج بحديث معاذ من قال: الأفضل تأخير العشاء، وإليه ذهب جمع شافعية ومالكية، والمعتمد في المذهبين تفضيل التقديم، وورد ما يدل على نسخ التأخير.
روى أحمد والطبراني بسند حسن عن أبي بكرة، قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء تسع ليال إلى ثلث الليل، فقال له أبو بكر: يا رسول الله لو أنك عجلت لكان أمثل لقيامنا من الليل، فعجل بعد ذلك.
ومنها الأذان والإقامة.
ومنها البسملة، قال بعضهم فيما نقله الشيخ شهاب الدين الحلبي النحوي في تفسيره، قال: ولم ينزلها الله على أحد من الأمم قبلنا إلا على سليمان بن داود، فهي مما اختصت به هذه الأمة، انتهى.
ومنها التأمين، روى الإمام أحمد من حديث عائشة: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ استأذن رجل من اليهود، فذكر الحديث.
"ومنها الأذان والإقامة" للصلاة بدليل تحيرهم فيما يجتمعون به للصلاة، حتى رأى عبد الله بن زويد الرؤيا المشهورة كما تقدم، ولا يعارضه ما روى عند الحاكم وابن عساكر، أن آدم لما نزل بالهند استوحش، فنزل جبريل فنادى بالأذان، لأن مشروعيته للصلاة هي الخصوصية، "ومنها البسملة" أي قول: بسم الله الرحمن الرحيم، بهذه الألفاظ العربية على هذا الترتيب، وما روي أن آدم لما أراد الخروج من الجنة قالها، فقال له جبريل: لقد تكلمت بكلمة عظيمة، قف ساعة، لعل أن يظهر من الغيب لطف لا يرد، لأنها لم تنزل عليه، وإنما ألهمها، ومحل الخصوصية نزولها على نبينا، وصارت لأمته، كما "قال بعضهم فيما نقله الشيخ شهاب الدين" أحمد بن يوسف بن عبد الدائم، "الحلبي النحوي" نزيل القاهرة، الشهير باسمين.
قال الحافظ ابن حجر: تعالى النحو فمهر فيه، ولازم أبا حيان، إلى أن فاق أقرانه، وأخذ القراءات عن التقي الصائغ، ومهر فيها، وولى تدريس القرآن بجامع ابن طولون، والإعادة بالشافعي، وناب في الحكم، وله تفسير القرآن، وإعراب القرآن، وشرح التسهيل، وشرح الشاطبية، مات في جمادى الآخرة، سنة ست وخمسين وسبعمائة "في تفسيره" وهو كبير في عدة أجزاء غير إعراب القرآن له، كما علم، "ولم ينزلها الله على" نبي "أحد من الأمم قبلنا إلا على سليمان بن داود" وما شرع لنبي شرع لأمته، فالمراد بقوله:"فهي مما اختصت به هذه الأمة" أي: نزر لها قرآنًا يتلى.
وأما بالنسبة لسليمان فلعله التبرك بها كذا قال: شيخنا، وأحسن منه قول بعض المحققين: الأصح أنها بهذه الألفاظ العربية على هذا الترتيب من خصائص المصطفى وأمته، وما في سورة النمل جاء على جهة الترجمة عما في الكتاب، لأنه لم يكن عربيًا، "انتهى".
نقله الشهاب الحلبي، وقد روى الطبراني بريدة، رفعه:"أنزل علي آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم". "ومنها التأمين" عقب الفاتحة، للمأموم على ما يفهمه قول خلف الإمام، "وروى الإمام أحمد من حديث عائشة: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ استأذن رجل من اليهود، فذكر الحديث" وهو فأذن له، فقال: السام عليك، فقال النبي: "وعليك"،
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنهم لم يحسدونا على شيء كما حسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها
قالت فهممت أن أتكلم، ثم دخل الثانية، فقال: مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل الثالثة، فقال: السام عليك، قالت: قلت: بل السام عليكم، وغضب الله إخوان القردة والخنازير، أتحيون رسول الله بما لم يحيه به الله، فنظر إليّ، فقال:"مه إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قالوا: قولا فرددناه عليهم، فلم يضرنا شيئًا ولزمهم إلى يوم القيامة". "وفيه" عقب هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنهم لم يحسدونا" كذا في النسخ، وفي مسند أحمد: لا يحسدونا، فلعله حذف نون الرفع تخفيفًا، وقد اختلف في أن لا تخلص الفعل للاستقبال أم لا "على شيء، كما حسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها" بأن نص لنا عليها أو بالاجتهاد، ويشهد له أثر ابن سيرين في جمع أهل المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أنه صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، وقد جاء بذلك حديث ابن عباس عه الدارقطني، ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما ذكر ابن إسحاق وغيره، فحصلت الهداية بجهتي البيان والتوفيق، قاله الحافظ، ملخصًا وأسقط من الحديث هنا قوله:"وضلوا عنها"، أي: لأنه فرض عليهم يوم من الجمعة يقيمون فيه شريعتهم، ووكل إلى اختيارهم، فاختلفوا في أي الأيام؟ وهو لم يهتد، واليوم الجمعة، قاله ابن بطال، وقواه عياض، ورجح الحافظ أنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، فاختاروا السبت.
فقد روى ابن أبي حاتم عن السدي: أن الله فرض على اليهود الجمعة، فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئًا، فاجعله لنا، فجعل عليهم، وليس هذا بعجيب من مخالفتهم كما وقع لهم في قوله تعالى:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} الآية، وغير ذلك، وهم القائلون: سمعنا وعصينا، وأسقط أيضًا من الحديث قوله:"وعلى القبلة التي هدانا الله لها". أي: بصريح البيان بالأمر المكرر، أولا لبيان تساوي حكم السفر وغيره، وثانيًا للتأكيد، "وضلوا عنها" لأنهم لم يؤمروا باستقبال الصخرة، بل كان عن مشورة منهم، كما عند أبي داود عن خالد بن يزيد بن معاوية، وعنده أيضًا أن يهوديًا خاصم أبا العالية في القبلة، فقال أبو العالية: كان موسى يصلي عند الصخرة، ويستقبل البيت الحرام، وكانت الكعبة قبلته، وكانت الصخرة بين يديه.
وقال اليهودي: بيني وبينك مسجد صالح النبي عليه السلام، فقال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح وقبلته إلى الكعبة، وفي مسجد ذي القرنين وقبلته إليها.
وفي البغوي في قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} الآية، روى ابن جريج عن ابن
وعلى قولنا خلفا الإمام آمين".
قال الحافظ ابن حجر: وهذا حديث غريب لا أعرفه بهذه الألفاظ إلا من هذا الوجه، لكن لبعضه متابع حسن في التأمين.
عباس، قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه، انتهى.
وقد رجح الحافظ العلائي: أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم، كما دلت عليه الآثار، قال بعضهم: وهو الأصح، واختار ابن العربي وتلميذه السهيلي أن قبلة الأنبياء بيت المقدس، قال بعضهم، وهو الصحيح المعروف، فعد صاحب الأنموذج من خصائص المصطفى وأمته: استقبال الكعبة إنما هو على أحد قولين مرجحين، نعم ذكر فيما اختص به على جميع الأنبياء والمرسلين الجمع له بين القبلتين، "وعلى قولنا خلف الإمام آمين" فإنها مختصة بنا بقيد الخلفية في الصلاة، وكذا عقب الدعاء، لكن شارك هارون في ذلك كما روى الحارث بن أسامة، وابن مردويه، عن أنس مرفوعًا:"أعطيت ثلاث خصال: أعطيت الصلاة في الصفوف، وأعطيت السلام، وهو تحية أهل الجنة، وأعطيت آمين، ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم، إلا أن يكون الله أعطاها نبيه هارون، فإن موسى كان يدعو الله ويؤمن". أي: أعطي الخصلة الثالثة، فإنه كان يؤمن على دعاء موسى، كما قال تعالى:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} الآية، وفي أول الآية، وقال موسى: ربنا، فدل على أنه الداعي، وهارون يؤمن، فسماه داعيًا، لأنه لتأمينه عليه مشارك له.
وفي مسند الفردوس، مرفوعًا:"الداعي والمؤمن في الأجر شريكان" فعلم أن الخصلتين الأوليين من خصوصيات هذه الأمة مطلقا، وكذا الثالثة بالنسبة لغير هارون في غير الصلاة.
"قال الحافظ ابن حجر: وهذا حديث غريب لا أعرفه بهذه الألفاظ إلا من هذا الوجه" وقال شيخه الزين العراقي: دخول اليهودي عليه ثلاثًا، واستئذانه وما بعده الألفاظ لم أره في شيء منها، أي: الأحاديث غير هذا، "لكن لبعضه متابع" بكسر الباء، أي: عليه، "حسن في التأمين" متعلق بمتابع بيان لبعضه، أي: دون الجمعة والقبلة، "أخرجه ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، كلاهما من رواية سهيل" بالتصغير، "ابن أبي صالح" ذكوان المدني، أبي يزيد، صدوق، تغير حفظه بآخره. وروى له الستة، إلا أن البخاري روى له مقرونًا، وتعليقًا "عن أبيه" ذكوان السمان الزيات المدني، تابعي، ثقة، ثبت، كان يجلب الزيت إلى الكوفة، مات سنة إحدى ومائة.
"وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم"، قال:"ما حسدتنا اليهود على شيء ما حسدتنا" أي: مثل حسدهم، أو مثل الذي حسدتنا "على السلام" عند التلاقي، ففيه دلالة على أنه مختص بنا دونهم، "والتأمين" أي ختم القارئ قراءته في الصلاة وغيرها، بقول: آمين أو الداعي دعاء بلفظ
أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة كلاهما من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما حسدتنا اليهود على شيء ما حسدتنا على السلام والتأمين".
ومنها الاختصاص بالركوع، عن علي رضي الله عنه قال: أول صلاة ركعنا فيها العصر، فقلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال:"بهذا أمرت". رواه البزار والطبراني في الأوسط.
ووجه الاستدلال منه أنه عليه السلام صلى قبل ذلك الظهر، وصلى قبل فرض الصلوات الخمس قيام الليل، فكون الصلاة السابقة بلا ركوع قرينة لخلو صلاة الأمم السابقة منه. قاله بعض العلماء.
قال: وذكر جماعة من المفسرين في قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] أن مشروعية الركوع في الصلاة خاص بهذه الأمة، وأنه لا ركوع في صلاة بني إسرائيل، ولذا أمرهم بالركوع
آمين، لكن خص من هذا هارون كما روى ابن ماجه بإسناد ضعيف عن ابن عباس رفعه:"ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين، فأكثروا من قول آمين".
"ومنها" أي: خصائص الأمة "الاختصاص بالركوع" في الصلاة، وكأنه زاد الاختصاص زيادة تأكيد، لأن فيه نزاعًا، وميله للاختصاص، وإلا فالكلام فيه وأيضًا ضمير منها عائد له، "عن علي رضي الله عنه، قال: أول صلاة ركعنا فيها العصر، فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ " الفعل الذي لم نعرفه قبل، قال:"بهذا أمرت"، رواه البزار والطبراني في" معجمه "الأوسط" الذي ألفه في غرائب شيوخه، كان يقول هذا الكتاب روحي؛ لأنه تعب عليه، "ووجه الاستدلال منه؛ أنه عليه السلام صلى قبل ذلك الظهر" فالصلاة التي ركع فيها هي عصر صبيحة الإسراء، "وصلى قبل فرض الصلوات الخمس قيام الليل" وكذا غيره مما كان يصليه نهارًا، "فكون" أي: وجود "الصلاة السابقة بلا ركوع قرينة لخلو صلاة الأمم السابقة منه" بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ويمكن بناؤه على القول الآخر، وتقدر القرينة بأنه لو كان في صلاة الأمم السابقة ركوع لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بأنه لا يصلي بدونه صلاة واحدة، لئلا تكون صلاة غيره أتم من صلاته، "قاله بعض العلماء" يعني الجلال السيوطي، كما يعلم من الشامية.
"قال: وذكر جماعة من المفسرين في قوله تعالى" لبني إسرائيل: " {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} الآية، أن مشروعية الركوع في الصلاة خاص بهذه الأمة، وأنه ركوع في صلاة بني إسرائيل، ولذا أمرهم بالركوع" إظهارًا في محل الإضمار، زيادة في البيان، "مع أمة
مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا يعارضه قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] ، المفسر بأمرت بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها.
قالوا: وقدم السجود قبل الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم، أو للتنبيه على أن "الواو" لا توجب الترتيب.
وقيل: المراد بالقنوت إدامة الطاعة، لقوله تعالى:{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] وبالسجود الصلاة والركوع الخشوع والإخبات الخضوع.
ومنها الصفوف في الصلاة، كصفوف الملائكة.
محمد صلى الله عليه وسلم" إذ لو كان في صلاتهم لم يحسن أمرهم به مع قوله قبله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الآية، "وهذا يعارضه قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} الآية، المفسر" صفة، أي: إنما يعارضه على تفسيره "بأمرت بالصلاة في الجماعة، بذكر أركانها" من سجود وركوع "مبالغة في المحافظة عليها" ومريم من بني إسرائيل، فهو ظاهر في أن الركوع ليس من خواص هذه الأمة، "قالوا: وقدم السجود على الركوع، إما لكونه كذلك في شريعتهم" أي: بني إسرائيل، "أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب" بل مجرد العطف، وكلا الجوابين تقوية للمعارضة لا دفع لها؛ كما هو ظاهر، وأجيب عن المعارضة بأن المراد به من مريم ليس كذلك، بدليل ما بعده على أن المعارضة إنما تتم لو كان المفسر بهذا هم الجماعة المتقدمون، أما إن كانوا غيرهم فلا، لأنه مقبل أولئك ومثبت الخصوصية معترف بذلك بقوله: ذكر جماعة من المفسرين.
"وقيل: المراد بالقنوت إدامة الطاعة لقوله تعالى: {أَمْ مَنْ} بتخفيف الميم {هُوَ قَانِتٌ} قائم بوظائف الطاعات {آَنَاءَ اللَّيْلِ} ساعاته {سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} الآية، أي: كمن هو عاص بالكفر وغيره، وفي قراءة: "أم من" بمعنى بل والهمزة، "وبالسجود الصلاة" تسمية للكل باسم البعض، "والركوع الخشوع" لا مقابل السجود، فلا معارضة على هذا التفسير أصلا، "والإخبات" عطف تفسير قال البيضاوي: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} : اطمأنوا إليه وخشعوا له من الخبت، وهي الأرض المطمئنة.
"ومنها الصفوف في الصلاة كصفوف الملائكة" أي: التراص وإتمام الأول فالأول،
رواه مسلم من حديث حذيفة.
ومنها تحية الإسلام لحديث عائشة السابق.
وكانت الأمم السابقة يصلون منفردين، وكل واحد على حدة، قال بعضهم: وحكمة الأمر بتسوية الصفوف، أن المصلين دعوا إلى حالة واحدة مع الحق، وهي الصلاة، فساوى في هذه الدعوة بين عباده، فلتكن صفتهم فيها إذا أقبلوا إلى ما دعاهم إليه تسوية الصفوف لأن الداعي إنما دعاهم ليناجيهم من حيث أنهم جماعة على السواء، لا يختص واحد عنهم دون آخر، فلا يتأخر واحد عن الصف، ولا يتقدم بشيء من بدنه يؤدي إلى اعوجاجه.
وقال ابن العربي: شرعت الصفوف في الصلاة ليتذكر الإنسان بها وقوعه بين يدي الله يوم القيامة في ذلك المواطن المهول، والشفعاء من الأنبياء والملائكة والمؤمنين بمنزلة الأئمة في الصلاة يتقدمون الصفوف، وصفوفهم في الصلاة كصفوف الملائكة عند ربها، وقد أمرنا بذلك، وإن كانت الملائكة لا يلزم من خلل صفوفها لو اتفق أن يدخلها خلل كصفوفنا، إذ السماء ليست محلا لدخول الشياطين، وإنما تتراص الملائكة لتناسب الأنوار حتى يتصل بعضها ببعض، فتتنزل متصلة إلى صفوف المصلين، فتعمهم تلك الأنوار، فإن كان فيها خلل ودخلت فيه الشياطين أحرقتهم تلك الأنوار، "رواه مسلم من حديث حذيفة" بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"فضلنا على الناس بثلاث، جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة"
…
الحديث، وتقدم بتمامه أول مبحث الخصائص، فيستحب انضمام بعض المصلين إلى بعض، بحيث لا يبقى بينهم فرجة ولا خلل، كأنهم بنيان مرصوص، فإن الشيطان إبليس، أو أعم إذا رأى فرجة دخلها، كما في الحديث.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله". رواه النسائي، وصححه الحاكم على شرط مسلم، أي: وصله برحمته، ورفع درجته، وقطعه بإبعاده عن ذلك وعن الثواب، فالجزاء من جنس العمل.
"ومنها تحية الإسلام" أي: السلام عند التلاقي؛ لأنه فتح باب المودة وتأليف للقلوب، مؤد لكمال الإيمان، وفي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعًا:"لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم". "لحديث عائشة السابق" قريبًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حسدتنا اليهود على شيء ما حسدتنا على السلام والتأمين" ففيه أنه شرع لنا دونهم، وفي مسلم عن أبي ذر في قصة إسلامه: وكنت أول من حياه بتحية الإسلام، فقال:"وعليك السلام ورحمة الله". للطبراني والبيهقي عن أبي أمامة، رفعه:"إن الله جعل السلام تحية لأهل ملتنا، وأمانا لأهل ذمتنا"، ولأبي داود عن عمران بن حصين: كنا نقول
ومنها الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد
في الجاهلية أنعم الله بك عينًا وأنعم صباحًا، فلما جاء الإسلام نهينا عن ذلك. ورجاله ثقات، لكنه منقطع.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان، قال: كانوا يقولون في الجاهلية: حييت مساء، حييت صباحًا، فغير الله ذلك بالسلام، ففي هذا كله أنه خاص بهذه الأمة دون من تقدمهم، لكن عورض بحديث الصحيحين عن أبي هريرة رفعه:"خلق الله آدم على صورته، وطوله ستون ذراعًا، ثم قال له: اذهب، فسلم على أولئك النفر من الملائكة، فاسمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله". الحديث.
قال القرطبي: فيه دليل على تأكيد السلام، وأنه من الشرائع القديمة التي كلف بها آدم، ثم لم ينسخ في شريعة، انتهى، وجمع بأن المراد بالذرية بعضهم، وهم المسلمون، أو المراد تحية ذريته من جهة الشرع، وكلاهما تعسف، وقد ذكر المعارضة في الفتح وما تنزل للجمع.
"ومنها الجمعة" بضم الميم على المشهور، وقد تسكن، وقرأ بها الأعمش، وحكى الواحدي عن الفراء فتحها، وحكى الزجاج الكسر أيضًا، سمي بذلك مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية العروبة، بفتح المهمة، وضم الراء، وبالموحدة، لأن خلق آدم جمع فيه أصح الأقوال.
قال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون" زمانًا، "السابقون" أي: الأولون منزلة "يوم القيامة" والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة؛ بأنهم أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة.
وفي حديث حذيفة عند مسلم: "نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق". وقيل: المراد بالسبق هنا فضيلة، اليوم السابق بالفضل وهو يوم الجمعة، وإن سبق بسبب قبله، لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقًا، وقيل: المراد بالسبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب، فقالوا: سمعنا وعصينا. قال الحافظ: والأول أقوى.
"بيد" بموحدة، فتحتية ساكنة مثل غير وزنًا ومعنى، وبه جزم خليل والكسائي، ورجحه ابن سيدة، وقال الشافعي: معنى بيد من أجل، واستبعده عياض، ولا بعد فيه، إذ المعنى إنا سبقنا بالفضل، مع تأخرنا في الزمان، بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم، ويشهد له ما وقع في فوائد ابن المقري بلفظ نحن الآخرون في الدنيا، ونحن أول من يدخل الجنة، لأنهم أتوا الكتاب من قبلنا.
أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه
وفي الموطأ رواية سعيد بن عقير عن مالك، بلفظ:"ذلك أنهم أوتوا الكتاب"، وقال الداودي: هي بمعنى على أو مع، قال القرطبي: إن كانت بمعنى غير، فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى مع فنصب على الظرف، وقال الطبري: هي للاستثناء، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، والمعنى: نحن السابقون للفضل، غير "أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا" أي: التوراة والإنجيل، فاللام للجنس، قال: ووجه التأكيد فيه ما أدمج فيه من معنى النسخ، لأن الناسخ هو السابق في الفضل وإن تأخر في الوجود، وبهذا التقرير يظهر قوله: نحن الآخرون مع كونه أمرًا واضحًا.
وقال القرطبي: المراد بالكتاب التوراة، وفيه نظر لقوله: وأوتينا من بعدهم، فأعاد الضمير على الكتاب، فلو كان المراد التوراة لما صح الإخبار، ولأنا إنما أوتينا القرآن، وسقط من الأصل، وأوتيناه من بعدهم، وهي ثانية في رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان، شيخ البخاري، فيه أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، وكذا مسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد، وذكره البخاري تامًا بعد أبواب من وجه آخر، عن أبي هريرة:"ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم" كذا للحموي، ورواه الأكثر بإسقاط الجلالة، أي: فرض تعظيمه، وأشير إليه بهذا، لكونه ذكر في أول الكلام عند مسلم من طريق آخر عن أبي هريرة، ومن حديث حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا".
قال ابن بطال: ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه، فتركوه لأنه لا يجوز لأحد ترك ما فرض عليه وهو مؤمن، وإنما يدل، والله أعلم، أنه فرض عليهم يوم من الجمعة، وكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم فاختلفوا في أي الأيام هو، ولم يهتدوا ليوم الجمعة، ومال عياض إلى هذا، ورشحه بأنه فرض عليهم بعينه، لقيل: فخالفوا بدل "فاختلفوا فيه" وقال النووي: يمكن أنهم أمروا به صريحًا، فاختلفوا هل يلزم بعينه، أم يسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا في ذلك، فأخطئوا انتهى، ويشهد له ما رواه الطبري بإسناد صحيح، عن مجاهد في قوله تعالى:{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية، قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه ويحتمل أن يراد بالاختلاف اختلاف اليهود والنصارى في ذلك، وقد روى ابن أبي حاتم عن السدي التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فأبوا، ولفظه: أن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئًا فاجعله لنا، فجعل عليهم، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} الآية، وغير ذلك، وكيف لا وهم القائلون: سمعنا وعصينا، قاله في فتح الباري.
قال المصنف: ويشهد له بقوله: هذا يومهم الذي فرض عليهم، فإنه ظاهر، أو نص في
فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد"
التعيين، وذكر أبو عبد الله الأبي عن بعض الآثار، أن موسى عين لهم يوم الجمعة، وأخبرهم بفضله، فناظروه بأن السبت أفضل، فأوحى الله:"دعهم وما اختاروا"، أي: بأن قالوا هو يوم فراغ وقطع عمل، فإن الله فرغ من خلق السماوات والأرض، فينبغي انقطاعنا عن العمل فيه للتعبد، قالت النصارى: الأحد لأنه يوم الخلق الموجب الشكر والتعبد، ووفق الله هذه الأمة للصواب، فعينوا الجمعة، لأن الله خلق الإنسان للعبادة، وكان خلقه يومها، فالعبادة فيه أحق، لأنه أوجد سائر الأيام ما ينفع الإنسان، وفي الجمعة أوجد نفس الإنسان، فالشكر على نعمة الوجود، "فهدانا الله له" بالنص عليه، أو بالاجتهاد، ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن ينزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يومًا يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل في ذلك، فهلم، فلنجعل يومًا نجتمع فيه، فنذكر الله، ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله بعد ذلك:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] الآية، وهذا وإن كان مرسلا، فله بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وغير واحد من حديث كعب بن مالك، قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة
…
الحديث، فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي، وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، ثم وقد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني، ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما حكاه ابن إسحاق وغيره.
وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق، وقيل: في حكمة اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة، فناسب الاشتغال بها، ولأن الله أكمل في الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها، فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة، ذكره الحافظ.
"فالناس لنا فيه تبع اليهود غدًا" أي: السبت، "والنصارى بعد غد" أي: الأحد، وفي رواية ابن خزيمة:"فهو لنا، ولليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد". والمعنى: أنه لنا بهداية الله، ولهم باختيارهم، وخطئهم في اجتهادهم.
قال القرطبي: غدا منصوب على الظرف، متعلق بمحذوف، تقديره اليهود يعظمون غدًا، وكذا قوله بعد غد، ولا بد من هذا التقدير، لأن ظرف الزمان لا يكون خبرًا من الجنة، وقال: ابن مالك: الأصل أن يكون المخبر عنه بظرف الزمان من أسماء المعاني، كقولك: غدًا التأهب، وبعد غد الرحيل، فيقدر هنا مضافان، يكون ظرفا الزمان خبرين عنهما، أي: تبعية اليهود غدًا، وتبعية النصارى بعد غد. انتهى.
رواه البخاري.
ومنها ساعة الإجابة التي في الجمعة، واختلف في تعيينها على أقوال تزيد على الثلاثين
قال الحافظ: وسبقه إلى نحو ذلك عياض وهو أوجه من كلام القرطبي، وفيه فرضية الجمعة، كما قال النووي لقوله: فرض عليهم، فهدانا الله له، فإن التقدير فرض عليهم وعلينا، فضلوا وهدينا، وفي رواية لمسلم، بلفظ: كتب علينا، وفيه إن الهداية والإضلال من الله، كما هو قول أهل السنة، وإن سلامة الإجماع من الخطأ، مخصوص بهذه الأمة، وإن استنباط معنى من الأصل يعود عليه بالإبطال باطل، وإن القياس مع وجود النص فاسد، وإن الاجتهاد في زمن الوحي جائز، وإن الجمعة أول الأسبوع شرعًا، ويدل عليه تسمية الأسبوع كله: جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع: سبتًا، كما في حديث أنس في الاستسقاء: فمطرنا سبتًا، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود، فتبعوهم في ذلك، وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السالفة، زادها الله تعالى. انتهى. "رواه البخاري" ومسلم، والنسائي عن أبي هريرة.
"ومنها: ساعة الإجابة التي في" يوم "الجمعة" المشار إليها بحديث الصحيحين، من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال:"فيها ساعة لا يوافقها مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى فيها شيئًا إلا أعطاه إياه". وأشار بيده يقللها، وقوله: شيئًا، أي: مما يليق بالمسلم سؤاله من ربه.
وفي رواية لمسلم، كالبخاري في الطلاق:"يسأل الله خيرًا"، وفي ابن ماجه من حديث أبي لبابة:"ما لم يسأل حرامًا"، ولأحمد عن سعد بن عبادة:"ما لم يسأل إثمًا أو قطيعة رحم"، وهو خاص على عام للاهتمام به، فقطيعة الرحم من الإثم.
وروى البزار وأبو يعلى، عن أنس مرفوعًا:"أتاني جبريل في يده مرآة بيضاء، فيها نكتة سوداء، قلت: ما هذه؟ قال: الجمعة فرضها عليك ربك لتكون لك عيدًا ولقومك؟ قلت: ما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذه الساعة". وحقيقة الساعة هنا جزء من الزمان مخصوص ويطل على جزء من اثني عشر من مجموع النهار أو على جزء ما غير مقدر من الزمان، فلا يتحقق أو على الوقت الحاضر.
وفي حديث جابر مرفوعًا عند أبي داود وغيره بإسناد حسن ما يدل للأول، ولفظه:"يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة فيها ساعة"
…
إلى آخره، قال ابن المنير: الإشارة إلى تقليلها للترغيب فيها والحض عليها ليسارة وقتها وغزارة فضلها.
"واختلف في تعيينها على أقوال تزيد على الثلاثين" وقال غيره: على نحو خمسين
ذكرتها في "لوامع الأنوار في الأدعية والأذكار".
قولا، "ذكرتها في لوامع الأنوار"، اسم كتاب للمصنف "في الأدعية والأذكار"، وقد سردها في فتح الباري ثنتين وأربعين قولا، هل رفعت، وكذب أبو هريرة قائله: أو في جمعة واحدة من كل سنة أو مخفية في جميع اليوم، أو تنتقل يوم الجمعة، ولا تلزم ساعة: لا ظاهرة ولا مخفية، أو عند أذان الغداة، أو من الفجر إلى طلوع الشمس، أو منه كذلك، ومن العصر للغروب، أو في هذين الوقتين، وما بين النزول من المنبر حتى يكبر، أو أول ساعة بعد طلوع الشمس، أو عند طلوعها، أو آخر الساعة الثالثة من النهار، أو الزوال، حتى يصير الظل نصف ذراع، أو كذلك حتى يصير ذراعًا، أو بعد الزوال بقليل إلى ذراع، أو إذا زالت الشمس، أو إذا أذن المؤذن للجمعة، أو من الزوال حتى يدخل الرجل في الصلاة، أو منه حتى يخرج الإمام، أو منه إلى الغروب، أو ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة، أو عند خروجه، أو ما بين خروجه إلى انقضاء الصلاة، أو ما بين حرمة البيع وحله، أو ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة، أو ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، ويمكن اتحاد هذا القول مع اللذين قبله، أو عند التأذين، وعند تذكير الإمام، وعند الإقامة، أو إذا أذن وإذا رقى، وإذا أقيمت وهذا مثل ما قبله، أو إذا أخذ الخطيب في الخطبة، أو عند الجلوس بين الخطبتين، أو عند نزوله من المنبر، أو حين الإقامة حتى يقوم الإمام في مقامه، أو من إقامة الصف إلى تمام الصلاة، أو هي الساعة التي كان عليه السلام يصلي فيها الجمعة، ومغايرته لما قبله من جهة إطلاقه وتقييد هذا، أو من صلاة العصر إلى الغروب، أو في صلاة العصر أو بعده لآخر وقت الاختيار، أو بعده مطلقًا، أو من وسط النهار إلى قرب آخره، أو من الصفرة للغروب، أو آخر ساعة بعد العصر، أو من حين يغيب نصف قرص الشمس، أو تدليها للغروب إلى تكامل غروبها، وبسط الكلام عليها بأدلتها، مع بيان الصحة، أو الضعف، أو الرفع، أو الوقوف، والإشارة إلى مأخذ بعضها بما يصلح أنه تأليف مفرد.
قال: وليست كلها متغايرة، بل كثير منها يمكن اتحاده مع غيره، ثم نقل ابن المنير الجمع، بأن ساعة الإجابة واحدة منها لا بعينها، فيصادفها المجتهد في الدعاء في جميعها، وليس المراد من أكثرها، أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين، بل إنها تكون في أثنائه؛ لقوله: يقللها.
وقوله في رواية أخرى: "وهي ساعة خفيفة"، وفائدة ذكر الوقت؛ أنها تنتقل فيه، فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلا، وانتهاؤه انتهاء الصلاة، وكان كثيرًا من القائلين عين ما اتفق له وقوعه فيها من ساعة في أثناء وقت من الأوقات، فبهذا التقريب يقل الانتشار جدًا، ولا شك أن أرجح الأقوال حديث أبي موسى، وحديث عبد الله بن سلام، وما عداهما إما ضعيف الإسناد، أو موقوف، استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد؛ أنه صلى الله عليه وسلم أنسيها بعد أن علمها؛ لاحتمال أنهما سمعا ذلك منه قبل أن ينسى، أشار إليه البيهقي وغيره.
......................................
فأما حديث أبي موسى، فروى مسلم، وأبو داود، عن أبي موسى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة".
وأما حديث ابن سلام، فروى الإمام مالك، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، عن أبي هريرة، أنه قال لعبد الله بن سلام، أخبرني، ولا تضن عليّ، فقال عبد الله بن سلام:"هي آخر ساعة من يوم الجمعة" قال أبو هريرة: قلت: كيف تكون آخر ساعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي"، وتلك ساعة لا يصلى فيها، فقال ابن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي"، قال أبو هريرة: فقلت: بلى، قال: هو ذلك. ولذا استشكل قوله في حديث أبي هريرة السابق وهو قائم، وكان ابن وضاح يأمر بطرحه لأنه لو كان ثابتًا عند أبي هريرة لاحتج به على ابن سلام، ولم يعارضه بأنها ليست ساعة صلاة، وقد ورد النص على الصلاة، وأجابه بالنص الآخر؛ أن منتظر الصلاة في حكم المصلي، وسلم له أبو هريرة الجواب، وارتضاه وأفتى به بعده، وأجيب بحمل الصلاة على الدعاء، أو الانتظار وحمل القيام على الملازمة، أو المواظبة، ولفظ:"وهو قائم"، ثابت عند أكثر رواة الموطأ، وهي زيادة محفوظة عن أبي الزناد من رواية مالك وورقاء وغيرهما عنه.
واختلف السلف في أي الحديثين أرجح، فقال مسلم: حديث أبي موسى أجد شيء من هذا الباب وأصحه، وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف، فلا يلتفت إلى غيره.
وقال النووي: هو الصحيح، بل الصواب، وجزم في الروضة، بأنه الصواب، ورجح أيضًا بكونه مرفوعًا صريحًا، وفي أحد الصحيحين، ورجح آخرون قول ابن سلام كإسحاق بن راهويه وأحمد، فقال: أكثر الأحاديث عليه. وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب.
وروى سعيد بن منصور، بإسناد صحيح، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن ناسًا من الصحابة اجتمعوا، فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة.
وحكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني كان يختاره، ويحكيه عن نص الشافعي، وأجابوا بأن الترجيح بما في الصحيحين، أو أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ؛ كحديث أبي موسى هذا؛ فإنه أعل بالانقطاع والاضطراب، وبينهما بما يطول، ثم قال: واختار صاحب الهدى انحصارها في أحد الوقتين المذكورين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر؛ لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت، وعلى الآخر في وقت آخر، وهذا كقول ابن عبد البر: الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد، وهو أولى في طريق الجمع.
ومنها: أنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله تعالى إليهم، ومن نظر إليه لم يعذبه، أبدًا، وتزين الجنة فيه، وخلوف أفواه الصائمين.
وقال ابن المنير: إذا علم أن فائدة إبهام هذه الساعة كليلة القدر بعث الدواعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بين لاتكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها، انتهى.
وقال السيوطي: هنا أمر، وهو أن ما أورده أبو هريرة على ابن سلام وارد على حديث أبي موسى أيضًا لأن حال الخطبة ليست ساعة صلاة، ويتميز ما بعد العصر، بأنها ساعة دعاء، وقد قال:"يسأل الله شيئًا"، وليس حال الخطبة ساعة دعاء لأنه مأمور فيها بالإنصات، وكذا غالب الصلاة، ووقت الدعاء منها إما عند الإقامة، أو في السجود أو التشهد، فإن حمل الحديث على هذه الأوقات اتضح، ويحمل قوله: وهو قائم يصلي على حقيقته في هذين الموضعين، وعلى مجازه في الإقامة، أي: قائم يريد الصلاة، وهذا تحقيق حسن، فتح الله به، وبه يظهر ترجيح رواية أبي موسى على قول ابن سلام لإبقاء الحديث على ظاهره من قوله: يصلي ويسأل، فإنه أولى من حمله على انتظار الصلاة؛ لأنه مجاز بعيد، ويوهم أن انتظار الصلاة شرط في الإجابة، ولأنه لا يقال في منتظر الصلاة قائم يصلي، وإن صدق أنه في صلاة، لأن لفظ قائم يشعر بملامسة الفعل، انتهى.
وفي الفتح: فإن قيل ظاهر الحديث حصول الإجابة لكل داع بالشرط المتقدم مع اختلاف الزمان باختلاف البلاد والمصلي، فيتقدم بعض على بعض، وساعة الإجابة متعلقة بالوقت، فكيف تتفق مع الاختلاف؟ أجيب: باحتمال أن ساعة الإجاب متعلقة بفعل كل مصل، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة، ولعل هذه فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها، وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أنه عبر عن الوقت بالفعل، فيكون التقدير وقت جواز الخطبة أو الصلاة ونحو ذلك، قال: وقول صاحبنا العلامة شمس الدين الجزري في الحصن الحصين: وأذن لي في روايته عنه: الذي أعتقده أنها وقت قراءة الفاتحة في صلاة الجمعة، إلى أن يقول آمين، جمعًا بين الأحاديث التي صحت، يخدش فيه أنه يفوت على الداعي حينئذ الإنصات لقراءة الإمام. انتهى.
"ومنها: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله تعالى إليهم" أي: الأمة المحمدية نظر رحمة وغفران، "ومن نظر إليه" كذلك "لم يعذبه أبدًا" لأن الكريم لا يرجع فيما أعطى، ولا أكرم منه سبحانه، "وتتزين الجنة فيه" تبشيرًا للصائمين، فإذا علموا ذلك بخبر الصادق، زاد نشاذهم، وتلقوه بمزيد القبول والمحبة، وإعلامًا للملائكة، أنه بمنزلة عظيمة عند الله، "وخلوف" بضم الخاء وفتحها خطأ، وقيل: لغة قليلة، أي: تغير ريح "أفواه الصائمين" لخلو معدتهم عن
أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة في كل يوم وليلة حتى يفطروا، وإذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعًا. رواه البيهقي بإسناد لا بأس به.
الطعام، "أطيب عند الله" أي: في الآخرة؛ كما جزم به العز بن عبد السلام؛ لأن في رواية لمسلم يوم القيامة، أو في الدنيا والآخرة معًا، كما جزم به ابن الصلاح لأن رواية ابن حبان:"لخلوف فم الصائم حين يخلف أطيب عند الله" وروى الحسن بن سفيان من حديث جابر: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا"، قال:"وأما الثانية فإنهم يمسون، وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك"، فكل واحد من الحديثين صريح في أنه وقت وجود الخلوف في الدنيا، يتحقق وصفه بذلك، قال: وقد ذكر العلماء شرقًا وغربًا معنى ما ذكرته، ولم يذكر أحد تخصيصه بالآخرة، بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدارين، وأما ذكر يوم القيامة في رواية مسلم، فلأنه يوم الجزاء، وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة، طلبًا لرضا الله حيث يؤمر باجتنابها، واجتلاب الرائحة الطيبة للمساجد والصلوات وغيرها من العبادات، فخص يوم القيامة بالذكر في تلك الرواية لذلك؛ كما خص في قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} الآية، وأطلق في باقي الروايات نظرًا إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين، "من ريح المسك" اختلف في معناه؛ لأنه تعالى منزه عن استطابة الروائح، فقال الماوردي: هو مجاز؛ أنه جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة لنا، فاستعير ذلك لتقريب الصوم من الله، فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم، أي: أنه يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم.
وقيل: إن ذلك في حق الملائكة، إنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك.
وقيل: المعنى أن الله يجزيه في الآخرة بكونه نكهته أطيب من المسك كما يأتي المكلوم، وريح جرحه يفوح مسكًا.
وقيل: المعنى أن الخلوف أكثر ثوابًا من المسك المطلوب في الجمع والأعياد، ومجالس الذكر والخير، وصححه النووي.
ونقل القاضي حسين في تعليقه: إن للطاعات يوم القيامة ريحًا يفوح، قال: فرائحة الصيام فيها بين العبادات كالمسك، "وتستغفر لهم" أي: للصائمين "الملائكة في كل يوم وليلة حتى يفطروا" حين انقضاء الشهر، "وإذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعًا".
وزاد في رواية للبيهقي، وأحمد والبزار: قيل: يا رسول الله! هي ليلة القدر، قال:"لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره عند انقضاء عمله". "رواه البيهقي بإسناد لا بأس به" أي: مقبول عن
بلفظ: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا لم يعطهن نبي قبلي
…
وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا". رواه البزار. "وتصفد مردة الشياطين" رواه أحمد والبزار.
جابر، "بلفظ" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا لم يعطهن نبي قبلي أما واحدة؛ فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم، ومن نظر إليه لم يعذبه أبدًا، وأما الثانية: فإن خلوف أفوافهم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك، وأما الثالثة: فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة، وأما الرابعة: فإن الله عز وجل يأمر جنته، فيقول لها: استعدي، وتزيني لعبادي، أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي، وأما الخامسة: فإنه إذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعًا". فقال رجل من القوم: أهي ليلة القدر؟ قال: "لا، ألم تر العمال يعملون، فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم". وهذا لفظ رواية البيهقي.
وأخرجه الحسن بن سفيان من حديث جابر أيضًا، وحسنه أبو بكر بن السمعاني في أماليه، وتبعه ابن الصلاح، وله شاهد بنحوه من حديث أبي هريرة، رواه أحمد والبزار والبيهقي، "وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا". رواه البزار، وأحمد، والبيهقي من حديث أبي هريرة المذكور، ورواه أبو الشيخ بلفظ: الملائكة بدل الحيتان، "وتصفد" تشد وتربط بالأصفاد، وهي القيود "مردة الشياطين" أي: عتاتهم، وفي حديث ابن عباس عند البيهقي:"ويقول الله: يا جبريل اهبط إلى الأرض فاصفد مردة الشياطين وغلهم بالأغلال، ثم اقذفهم في البحار حتى لا يفسدوا على أمة محمد صيامهم". "رواه أحمد والبزار" من حديث أبي هريرة، فزيادة:"فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره". وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين".
قال القاضي عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته، وذلك علامة للملائكة بدخول الشهر وتعظيمه، والتصفيد ليمنعوا من إيذاء المؤمنين والتهويش عليهم، ويحتمل أنه مجاز عن كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم، فيصيرون كالمصفدين، ويكون تصفيدهم عن أشياء لناس دون ناس، ويحتمل أن فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عمومًا؛ كالصيام والقيام، وفعل الخيرات، والانكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها، وكذا تغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات، ومعنى صفدت: غلت، والصفد، بفتح الفاء الغل، انتهى.
ونقله النووي، ولم يزد عليه، ورجح ابن المنير الأول، وقال: لا ضرورة تدعو إلى صرف
ومنها السحور، وتعجيل الفطر، رواه الشيخان
اللفظ عن ظاهره، وكذا رجحه القرطبي، وقال: فإن قيل: فكيف ترى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرًا، فلو صفدت لم يقع ذلك، فالجواب إنها إنما تغل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه، والمصفد بعض الشياطين، وهو المردة لا كلهم؛ كما في رواية الترمذي وغيره مردة الجن، والمقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس؛ فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابًا غير الشياطين، كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة، والشياطين الإنسية.
وقال الحليمي: يحتمل أن المراد بالشياطين مسترقوا السمع منهم؛ لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع، فزيدوا التسلسل في رمضان مبالغة في الحفظ.
وقال الطيبي: فائدة تفتيح أبواب الجنة توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وإذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق، زاد في نشاطه، وتلقاه بأريحية.
"ومنها: السحور" بفتح السين وضمها، ويحصل بأقل ما يتناوله المرء من مأكول أو مشروب؛ كما في الفتح وغيره، "وتعجيل الفطر" عند تحقق الغروب، وما يفعله الفلكيون من التمكين بعد الغروب بدرجة، فمخالف للسنة، فلذا قل الخير، قاله المصنف.
"رواه الشيخان" عن سهل بن سعد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما علوا الفطر" زاد أبو داود، وابن ماجه، وغيرهم من حديث أبي هريرة:"لأن اليهود والنصارى يؤخرون". ولابن حبان، والحاكم من حديث سهل:"لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم". وليس في رواية الشيخين تصريح، بأنه من خصوصياتنا، إنما هو في غيرهما كما رأيت.
وأما السحور، فروى مسلم عن عمرو بن العاصي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور". وفصل، بصاد مهملة، وقراءته بمعجمة تصحيف، ولم يخرجه البخاري، نعم رويا معًا أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة" ، وهذا لا تصريح فيه بالخصوصية.
قال في الفتح: بفتح السين وضمها روايتان لأن المراد بالبركة الأجر والثواب، فيناسب الضم لأنه مصدر بمعنى التسحر أو البركة، كونه يقوى على الصوم وينشط له، ويخفف مشقته، فيناسب الفتح لأنه ما يتسحر به، وقيل: البركة ما تضمنه من الاستيقاظ والدعاء في السحر، والأولى أنها تحصل بجهات متعددة: اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوي على العبادة، والزيادة في النشاط، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء ومظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام، ووقع لبعض
وإباحة الأكل والشرب والجماع ليلا إلى الفجر، وكان محرمًا على من قبلنا بعد النوم، وكذا في صدر الإسلام ثم نسخ.
المتصوفة: أن حكمة الصوم كسر شهوة البطن والفرج: والسحور قد يباين ذلك.
قال ابن دقيق العيد: والصواب أن من زاد قدره حتى تعدم هذه الحكمة بالكلية لا يستحب، كتأنق المترفين في المآكل، وكثرة الاستعداد لها، وما عداه تختلف مراتبه، انتهى، وقيل: المراد بالبركة نفي التبعية.
روى البزار والطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "ثلاثة ليس عليهم حساب فيما طعموا إن شاء الله إذا كان حلالا: الصائم، والمتسحر، والمرابط في سبيل الله". وذكره في الفردوس، بلفظ:"ثلاثة لا يحاسب عليها العبد: أكلة السحور، وما أفطر عليه، وما أكل مع الإخوان". وقيل: يبارك في قليله، بحيث يعين على الصوم، فروى ابن عدي:"تسحروا ولو بشربة من ماء"، وللطبراني:"ولو بتمرة، ولو بحبات من زبيب" هذا والخصوصيتان للأمة على الأمم، لا على الأنبياء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنا معاشر الأنياء أمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة". رواه الطيالسي بإسناد صحيح.
"وإباحة الأكل والشرب والجماع" للصائم "ليلا" ولو نام "إلى الفجر" كما قال تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} الآية، "وكان محرمًا على من قبلنا بعد النوم، وكذا كان" محرمًا علينا "في صدر الإسلام، ثم نسخ" روى البخاري عن البراء: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا، فحضر، فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري، كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال: هل عندك طعام؟ فقالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عينه، وجاءت امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية، ففرحوا بها فرحًا شديدًا، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] .
وأخرج أحمد وابن جرير عن كعب بن مالك، قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل، فأمسى فنام، حرم عليه الطعام والشراب والنساء، حتى يفطر من الغد، فرجع عمر من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده، فأراد امرأته، فقالت: إني قد نمت، قال: وأنا ما نمت ووقع عليها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك، فغدا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت الآية.
وروى البخاري عن البراء: لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، فكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] الآية.
ومنها: ليلة القدر، كما قاله النووي في شرح المهذب.
وهل صيام رمضان من خصائص هذه الأمة أم لا؟ إن قلنا إن التشبيه الذي دلت عليه كاف "كما" في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] على حقيقته فيكون رمضان كتب على من قبلنا.
وذكر ابن أبي حاتم عن ابن عمر رفعه: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم". وفي إسناده مجهول.
وإن قلنا المراد مطلق الصيام دون قدره ووقته فيكون التشبيه واقعًا على مطلق الصوم، وهو قول الجمهور.
وروى الباري عن سهل بن سعد، قال: نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} الآية، ولم ينزل من الفجر، فكان رجال إذا أرادوا الصوم، ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد:{مِنَ الْفَجْرِ} ، فعلموا إنما يعني الليل والنهار.
"ومنها: ليلة القدر" لخبر الديلمي عن أنس، مرفوعًا:"إن الله وهب لأمتي ليلة القدر، ولم يعطها من كان قبلهم". "كما قاله النووي في شرح المهذب" وعبارته: "ليلة القدر مختصة بهذه الأمة، لم تكن لمن قبلنا"، هذا هو الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم، وجمهور العلماء، قال الحافظ: وجزم به ابن حبيب من المالكية وسبقهم كلهم الحكيم الترمذي فجزم بذلك، "وهل صيام رمضان من خصائص هذه الأة" كما ذهب إليه الجمهور، منهم معاذ، وابن مسعود، وجماعة من الصحابة والتابعين، والحجة لهم قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله افترض صوم رمضان، وسننت لكم قيامه" رواه النسائي والبيهقي بإسناد حسن، عن عبد الرحمن بن عوف، فهو ظاهر في الاختصاص "أم لا؟ " كما ذهب إليه جمع، منهم الحسن والشعبي.
"إن قلنا: إن التشبيه الذي دلت عليه" لفظة، "كما في قوله تعالى:{كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية، على حقيقته" أي: تشبيهًا تامًا، "فيكون رمضان كتب على من قبلنا" من جميع الأمم، وعن السدي هم النصارى كتب عليهم رمضان، "وذكر" أي روى ابن أبي حاتم عن ابن عمر، رفعه:"صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم". فهذا يؤيد تمام التشبيه، ويرد على السدي تخصيصهم بالنصارى، "و" لكن "في إسناده مجهول" فهو ضعيف، لكن له شاهد في الترمذي.
"وإن قلنا: المراد مطلق الصيام دون قدره ووقته" وهو شهر رمضان، "فيكون التشبيه واقعًا على مطلق الصوم" فلا ينافي اختصاصنا برمضان، "وهو قول الجمهور" من الصحابة
ومنها أن لهم الاسترجاع عند المصيبة، قال سعيد بن جبير فيما رواه ابن جرير والبيهقي وغيرهما عنه: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم يعط الأنبياء عليهم السلام مثله: إنا لله وإنا إليه راجعون. ولو أعطيت الأنبياء لأعطيه يعقوب عليه السلام إذ قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] .
ومنها: أن الله تعالى رفع عنهم الإصر الذي كان على الأمم قبلهم، قال تعالى:
والتابعين وغيرهم.
قال الزمخشري: وبالجملة، فالصوم عبادة أصلية قديمة، ما أخلى الله أمة من افتراضه عليهم.
"ومنها: أن لهم الاسترجاع عند المصيبة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون"، رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس.
"قال سعيد بن جبير، فيما رواه ابن جرير، والبيهقي، وغيرهما عنه: "لقد أعطيت هذه الأمة"، أي: أمة الإجابة أن يقول المصاب منهم "عند المصيبة"، أي مصيبة كانت، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء ساء المؤمن فهو مصيبة"، رواه ابن السني، "ما لم يعط الأنبياء عليهم السلام مثله" وهو "إنا لله" ملكا وعبدا يفعل بنا ما شاء، "وإنا إليه راجعون" في الآخرة فيجاز بنا.
وروى أبو داود في مراسيله: إن مصباح النبي صلى الله عليه وسلم طفئ، فاسترجع، فقالت عائشة: إنما هذا مصباح، فقال:"كل ما ساء المؤمن فهو مصيبة".
وفي الحديث: "من استرجع عند المصيبة، آجره الله فيها، وأخلف عليه خيرا". وظاهره أن المأمور به مرة واحدة فورا، وذلك في الموت عند الصدمة الأولى، وخير إذا ذكرها، ولو بعد أربعين عاما، فاسترجع، كان له أجرها يوم وقوعها، كما ورد؛ لأنه زيادة فضل، لا ينافي الطلب بفور وقوع المصيبة.
"ولو أعطبت الأنبياء لأعطيه يعقوب عليه السلام، إذ قال: {يَا أَسَفَى} " الألف بدل من ياء الإضافة، أي: يا حزني {عَلَى يُوسُفَ} وهذا ظاهر في أنه من خصوصيات هذه الأمة، حتى على الأنبياء، إذ قوله:"لقد أعطيت"، لا دخل للرأي فيه، فلا يكون إلا عن بلاغ.
وأما: ولو أعطيت
…
إلخ، فإن كان من البلاغ فواضح، وإن كان استنبطه، فهو استظهار وتقوية لسابقه ببعض أفراده، فلا يقال: لا يلزم منه أنه لم يشرع لغيره من الأنبياء.
"ومنها: أن الله تعالى رفع عنهم الإصر" الأمر الذي يثقل حمله عليهم، أي: لم يوجبه عليهم، ولم يجعله من شرعهم، لا أنه جعله عليهم، ثم رفعه "الذي كان على الأمم قبلهم" أي: على بعضهم، وهم بنو إسرائيل؛ كما "قال تعالى": {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، أي: ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة، وقطع كتعيين القصاص في العمد والخطأ وقطع الأعضاء الخاطئة، وقطع موضع النجاسة، وقتل النفس في التوبة.
يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} ثقلهم، {وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فأتى بالآية دليلا على أن من قبلهم كان عليهم الإصر، فالوضع عن بني إسرائيل الذين آمنوا بالمصطفى حقيقي، وبه يستدل على رفعه عن الأمة بطريق الأولى، بمعنى أنه لم يوضع عليهم بدليل:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} الآية، "أي: ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة" فالأغلال استعارة شبه الأمور الشاقة التي كلفوا بها بالأغلال التي تجعل في الأعناق: جمع غل، وهو طوق حديد.
وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قاموا يصلون، لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم، وربما نقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة، وأوثقها إلى السارية، يحبس نفسه على العبادة "كتعيين القصاص في العمد والخطأ" لخبر البخاري: كان في بني إسرائيل القصاص، أي: تحتمه حتى في الخطأ، ولم تكن فيهم الدية في نفس أو جرح؛ وذلك قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة: 45] الآية، فهو شرع اليهود.
أما النصارى، فيتعين عندهم العفو عن القود، والمراد بالخطأ العمد، وهو أن يقصد شيئا، فيخالف لغيره ما قصد، لا ضد الصواب؛ كما زعم، لأن تعمد الإثم يسمى خطأ بالمعنى الثاني، ولا يمكن إرادته هنا.
"وقطع الأعضاء الخاطئة" كاللسان في الكذب، والذكر في الزنى، وفقء العين في النظر للأجنبية، "وقطع موضع النجاسة" أخرج البخاري عن أبي وائل، قال: كان أبو موسى يشدد في البول، ويبول في قارورة، ويقول: إن بني إسرائيل كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه، فقال حذيفة: ليته أمسك
…
الحديث، أي: قطعه.
قال الحافظ: ووقع في مسلم جلد أحدهم، قال القرطبي: مراده الجلد، واحد الجلود التي كانوا يلبسونها، وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الإصر الذي حملوه، ويؤيده رواية أبي داود: كان إذا أصاب أحدهم، لكن رواية البخاري صريحة في الثياب، فلعل بعضهم رواه بالمعنى، انتهى.
"وقتل النفس في التوبة" كما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية، قال الجلال: أي ليقتل البريء منهم المجرم، فأرسل سحابة سوداء لئلا يبصر بعضهم بعضًا، فيرحمه، حتى قتل منهم نحو سبعين ألفًا.
وقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب فيصبح قد كتب على باب بيته: إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما.
وأصل الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه من الحراك لثقله.
ومنها أن الله تعالى أحل لهم كثيرًا مما شدد على من قبلهم، ولم يجعل عليهم في الدين من حرج، قال تعالى:
وروى ابن أبي حاتم عن علي، قال الذين عبدوا العجل: يا موسى ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضًا، فأخذوا السكاكين، فجعل الرجل يقتل أباه وأمه وأخاه، حتى قتل سبعون ألفًا، فأوحى الله إليه، فليرفعوا أيديهم فقد غفر لهم.
وروى من طرق نحوه عن ابن عباس وغيره، وقول البيضاوي: أو المراد بالقتل قطع الشهوات؛ كما قيل: من لم يعذب نفسه لم ينعمها، ومن لم يقتلها لم يحيها.
قال السيوطي: هذا ذكره بعض أرباب الخواطر، قال جماعة: ولا يجوز أن يفسر به بإجماع المفسرين على أن المراد القتل الحقيقي، انتهى. وفي الجليل استبعده جماعة بإجماع المفسرين على أن المراد القتل الحقيقي؛ بأن يسلم من عبد العجل نفسه للبريء ليقتلها، فلا يرد عليه قول بعضهم: أجمع المفسرون على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، إذ لو كانوا مأمورين بذلك؛ لصاروا عصاة بتركه، "وقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب، فيصبح قد كتب على باب بيته إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما" وروى ابن جرير مرفوعًا: "كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزيًا في الدنيا، وإلا كانت له خزيًا في الآخرة، "وقد أعطاكم الله خيرًا من ذلك ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه"، وروى البيهقي مرفوعًا: "كان بنو إسرائيل إذا أذنب أحدهم ذنبًا، أصبح وقد كتبت كفارته على أسكفة بابه، وجعلت كفارة ذنوبكم قولا تقولونه، تستغفرون، الله فيغفر لكم".
"وأصل الإصر الثقل" بكسر المثلثة، وفتح القاف، وتسكن للتخفيف ضد الخفة، وأما واحد الأثقال، فبالسكون، كحمل وأحمال والثقل، بفتحتين متاع المسافر وحشمه، أو مطلق المتاع "الذي يأصر"، بكسر الصاد "صاحبه أي: يحبسه من الحراك" بفتح أوله وثانيه، "لثقله"، فلا يقدر على التحرك.
"ومنها: إن الله تعالى أحل لهم كثيرًا مما شدد على من قبلهم" يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله رضي لهذه الأمة اليسر، وكره لها العسر"، رواه الطبراني برجال الصحيح، "ولم يجعل عليهم في الدين من حرج" بل سهله، "قال تعالى" {هُوَ
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] أي: ضيق بتكليف ما اشتد القيام به عليهم، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه، يعني من لم يستطع أن يصلي قائمًا فليصل قاعدًا، وأباح للصائم الفطر في السفر، والقصر فيه.
وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجًا، وفتح لهم باب التوبة، وشرع لهم الكفارات في حقوقه، والأروش والديات في حقوق العباد. قاله البيضاوي.
وروى عن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الإصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة.
اجتباكم {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الآية.
روى أحمد عن حذيفة: سجد صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه حتى ظننا أن نفسه قبضت، فلما فرغ، قال:"ربي استشارني" الحديث، وفيه:"وأحل لنا كثيرًا مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، فلم أجد شكرًا إلا هذه السجدة"، "أي: ضيق بتكليف ما اشتد القيام به عليهم، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه، ولا عذر لهم في تركه" لعدم مشقة فعله عليهم، "يعني: من لم يستطع أن يصلي قائمًا، فليصل قاعدًا" ومن لا فمضطجعًا على ما بين في الفروع، "وأباح للصائم الفطر في السفر" وإن كان الصوم أفضل، "والقصر فيه" للصلاة، وجعله أفضل من الإتمام، بل ذهب الحنفية إلى أنه عزيمة، فلا يجوز الإتمام.
زاد البيضاوي: أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث شق عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، "وقيل ذلك"، أي: معنى الآية "بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجًا" بأن رخص لهم في المضائق، هكذا في البيضاوي قبل قوله:"وفتح لهم باب التوبة، وشرع لهم الكفارات في حقوقه" كالحنث في اليمين به، "والأروش والديات في حقوق العباد" دون تعين القود، "قاله البياوي" في تفسير الآية.
"وروي" عند ابن أبي حاتم، "عن ابن عباس، أنه" قيل له: أما علينا في الدين من حرج في أن نسرق أو نزني؟ قال: "بلى"، قيل: فما جعل عليكم في الدين من حرج؟ "قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الإصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة" بمعنى أنه لم يجعله عليهم، قال تعالى:{وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} الآية، قال البيضاوي: حملا مثل حملك إياه من قبلنا، أو مثل الذي حملته إياهم، فيكون صفة لإصرًا،
وعن كعب، أعطى الله هذه الأمة ثلاثًا لم يعطهن إلا الأنبياء: جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال: ادعوني أستجب لكم.
ومنها: إن الله تعالى رفع عنهم المؤاخذة بالخطأ.
أو المراد به ما كلف به بني إسرائيل من قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة، وخمسين صلاة في اليوم والليلة، وصرف ربع المال للزكاة، أو ما أصابهم من الشدائد والمحن.
قال السيوطي: قول خمسين صلاة غلط، فلم يفرض على بني إسرائيل خمسون صلاة قط، بل ولا خمس صلوات، ولم تجتمع الخمس إلا لهذه الأمة، وإنما فرض على بني إسرائيل صلاتان فقط؛ كما في الحديث.
وقال شيخ الإسلام: نسب التكليف بها إلى بني إسرائيل لم يفرض عليهم خمسون، بل ولا خمس صلوات، مع أن من حفظ حجة على من لم يحفظ؛ كذا قال وفيه ما لا يخفى، فكون المراد من بني إسرائيل اليهود، لا يدفع الرد بأن الخمسين لم تفرض عليهم، فليس ملحظ الرد إبهامه أنها فرضت على جميع بني إسرائيل، مع أنها إنما فرضت على اليهود منهم، فيجاب، بأنهم المراد من بني إسرائيل، وكون من حفظ حجة لا يجدي هنا؛ لأن النافي صحبه دليل نفيه، وهو قوله: كما في الحديث، يشير إلى ما في حديث المعراج في مراجعة موسى لنبينا، وفيه ما لفظه: فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتان، فما قاموا بهما، أخرجه النسائي من حديث أنس.
"وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاثًا" لفظه ثلاث خصال، "لم يعطهن إلا الأنبياء، كان النبي يقال له: بلغ، ولا حرج، وأنت شهيد على أمتك، وادع أجبك، "جعلهم شهداء على الناس" يوم القيامة، بأن رسلهم بلغتهم، "وما جعل عليهم في الدين من حرج" بل سهله، وقال صلى الله عليه وسلم: "خير دينكم أيسره"، أي: ما لا مشقة فيه ولا إصر، لكن بعضه أيسر من بعض، فأمر بعدم التعمق فيه، فإنه لن يغالبه أحد إلا غلبه، وجاءت الأنبياء السابقة بتكاليف، وآصار بعضها أغلظ من بعض، "وقال: ادعوني" اسألوني "أستجب لكم" دعاءكم، وقيل: المعنى اعبدوني أثبكم بقرينة، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية، وأجاب من فسر الدعاء بالسؤال، بأن الاستكبار الصارف عنه منزل منزلته للمبالغة، أو المراد بالعبادة الدعاء؛ لأنه من أبوابها.
أخرج الفريابي عن كعب: أعطيت هذه الأمة ثلاث خصال لم يعطهن الأنبياء، كان النبي يقال له: بلغ ولا حرج، وأنت شهيد على أمتك، وادع أجبك، وقال لهذه الأمة:{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية، فاقتصر المصنف على حاجته منه.
"ومنها: إن الله تعالى رفع عنهم المؤاخذة بالخطأ" أي: إثمه لا حكمه، إذ حكمه من
والنسيان، وما استكرهوا عليه، وحديث النفس، وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئًا مما أمروا أو أخطئوا في شيء عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
الضمان لا يرتفع، أو عن حكمه على القول الثاني أو عنهما، قيل: وهو أقرب لعموم التناول وعدم المرجح، ولا ينافيه ضمان المال والدية، ونحوهما لخروجه بدليل منفصل، "والنسيان" بالكسر ضد الذكر والحفظ، ويطلق على الترك، وليس بمراد هنا، "وما استكرهوا عليه" أي: حملوا على فعله قهرًا، وخص بغير الزنا، وقتل المسلم وقطعه، فلا يبيح ذلك الإكراه، "وحديث النفس" رفع عن هذه الأمة المؤاخذة به، أي: ما يقع في قلوبهم من القبائح ظهرًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل"، رواه الشيخان.
روى أحمد، ومسلم، وغيرهما، عن أبي هريرة قال: لما نزلت {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية، اشتد ذلك على الصحابة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجثوا على الركب، وقالوا: قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال:"أتريدون أن تقولوا، كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها {آمَنَ الرَّسُولُ} الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} الآية، إلى آخرها.
وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه، وعند الفريابي عن محمد بن كعب، قال: ما بعث من نبي، ولا أرسل من رسول، أنزل عليه الكتاب إلا أنزل عليه هذه الآية:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية، فكانت الأمم تأتي على أنبيائهم ورسلهم ويقولون: نؤاخذ بما تحدث به أنفسنا، ولم تعمل جوارحنا، فيكفرون ويضلون، فلما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم اشتد على المسلمين ما اشتد على الأمم قبلهم، فقالوا: أنؤاخذ بما تحدث به أنفسنا ولم تعمل جوارحنا، قال:"نعم، فاسمعوا وأطيعوا" فذلك قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] الآية، فرفع الله عنهم حديث النفس إلا ما عملت الجوارح، "وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئًا مما أمروا به أو أخطئوا في شيء، عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب" عقوبة من الله لهم "على حسب ذلك الذنب" من كبر وصغر، "وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله وضع"، وفي رواية: رفع "عن أمتي" أمة الإجابة، فقوله: أمتي دليل على أن ذلك كان على من قبلهم "الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" حديث جليل، قال بعض العلماء: ينبغي أن
رواه أحمد وابن حبان والحاكم وابن ماجه.
ومنها أن الإسلام وصف خاص بهم، لا يشركهم فيه غيرهم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لقوله تعالى:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج: 78]{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] إذ لو لم يكن خاصًا بهم لم يكن في الامتنان عليهم بذلك فائدة.
يعد نصف الإسلام؛ لأن الفعل إما عن قصد واختيار أولا، الثاني: ما يقع عن خطأ، أو نسيان، أو إكراه، وهذا القسم معفو عنه اتفاقًا، وإنما اختلف هل المعفو عنه الإثم أو الحكم، أو هما معًا؟ وهو ظاهر الحديث وما خرج عنه، كضمان الدم الخطأ وإتلاف المال خطأ ونحوهما، فبدليل منفصل، وفيه:"إن طلاق المكره لا يقع"، "رواه أحمد، وابن حبان، والحاكم، وابن ماجه" والطبراني، والدارقطني، بأسانيد جيدة، وفي بعضها كلام لا يضر، كما بينه النور الهيثمي، وتليمذه الحافظ، وحسنه النووي في الروضة، وأخرجه الطبراني عن ثوبان، بلفظ:"رفع عن أمتي"
…
إلخ، وخفي على الكمال بن الهمام، فقال: هذا الحديث يذكره الفقهاء بهذا اللفظ، ولا يوجد شيء من كتب الحديث، كذا قال والكمال لله.
قال البيضاوي: ومفهوم الخبر أن الخطأ والنسيان كان مؤاخذًا بهما أولًا، أي: في الأمم السابقة ولا يمتنع ذلك عقلًا، فإن الذنوب كالسموم، فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك، وإن كان خطأ، فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب، وإن لم يكن عزيمة؛ لكنه تعالى وعدنا التجاوز عنه رحمة وفضلا، ومن ثم أمر الإنسان بالدعاء، استدامة واعتدادًا بالنعمة.
"ومنها: أن الإسلام وصف خاص بهم، ولا يشركهم فيه غيرهم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" كما ذهب إليه جمع من العلماء، فشرفت هذه الأمة بأن وصفت بالوصف الذي كان يوصف به الأنبياء، تكريمًا لها؛ "لقوله تعالى":{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} الآية في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، وفي التوراة والإنجيل وسائر كتبه على أن ضمير هو عائد لله؛ كما قاله جمع من المفسرين، كابن عباس ومجاهد عند ابن المنذر، وعلى بن زيد عند ابن أبي حاتم، وكذا روى عن قتادة وابن عيينة ومقاتل، قالوا:{وَفِي هَذَا} ، يعني القرآن، وأيد بأنه قرئ "الله سماكم المسلمين" الآية، فلو لو يكن ذلك خاصًا به، كالذي ذكر قبله لم يكن لتخصيصه بالذكر، ولا لاقترانه بما قبله معنى، وهذا ما فهمه السلف من الآية، ولقوله تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] الآية، فإنه ظاهر في الاختصاص، "إذ لو لم يكن خاصا بهم لم يكن في الامتنان عليهم بذلك فائدة" لأنه لو
وقد يجاب: بأن رضي الإسلام دينًا لهم، وتسميه إبراهيم إياها بذلك، لا ينفي اتصاف غيرهم بذلك. وفائدة ذلك: الإعلام بالإنعام عليهم بما أنعم به على غيرهم من الفضائل.
وقيل: لا يختص بهم، بل يطلق على غيرهم أيضًا، وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعًا. كما أجاب به ابن الصلاح لقوله تعالى: حكاية عن وصية يعقوب {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] .
رضيه لغيرهم ما حسن الامتنان به عليهم ولا تقديم لكم، "وقد يجاب بأن رضا الإسلام دينًا لهم" في هذه الآية، "وتسمية إبراهيم إياها بذلك" في الآية التي ساقها قبلها؛ بناء على أن الضمير لإبراهيم؛ لأنه أقرب مذكور، كما قاله جماعة، كابن زيد في أحد قوليه، قال: وهو إبراهيم ألا ترى إلى قوله: {مِنْ ذُرِّيَّتِنَا} الآية، {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ، "لا ينفي اتصاف غيرهم بذلك" الوصف، "وفائدة ذلك" أي: الامتنان على هذه الأمة مع الاشتراك "الإعلام بالإنعام عليم بما أنعم به على غيرهم من الفضائل" ودفع السيوطي هذا الجواب بأنه جهل بقواعد المعاني؛ فإن تقديم "لكم" يستلزمه؛ كما قال صاحب الكشاف في قوله تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} الآية، أن تقديم "هم" تعريض بأهل الكتاب؛ وأنهم لا يوقنون بالآخرة، وكما قال الأصفهاني في قوله:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} الآية، أن تقديم "هم" يفيد أن غيرهم يخرجون منها، وهم الموحدون.
"وقيل: لا يختص بهم، بل يطلق على غيرهم أيضًا، وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعًا، كما أجاب به ابن الصلاح؛ لقوله تعالى حكاية عن وصية يعقوب"{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الآية.
قال السيوطي: هذا من قول إبراهيم ويعقوب لبنيهما، وفي بني كل الأنبياء، فلا يحسن الاستدلال به على غيرهم، مع أنه لا يلزم منه طرده في أمة موسى وعيسى، لما علم أن ملة إبراهيم تسمى الإسلام، وبها بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أولاد إبراهيم ويعقوب، عليها فصح أن يخاطبوا بذلك، ولا يتعدى إلى من ملته اليهودية والنصرانية، قال: وأما قوله تعالى حكاية عن أولاد يعقوب: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآية، فجوابه أن ذلك إما على سبيل التبعية له إن لم يكونوا أنبياء، مع أن فيهم يوسف وهو نبي قطعًا، فلعله هو الذي تولى الجواب، وأخبر عن نفسه بالإصابة، وأدرج أخوته معه تغليبًا، وإن كانوا أنبياء كلهم، فلا إشكال من أدلة العموم قوله:{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وأجاب عنه السيوطي بما حققه صاحب القول الراجح:
إلى غير ذلك. ولأن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب كثير من العلماء، وليس خاصًا بهذه الأمة، بل يوصف به كل من دخل في شريعة مقرًا بالله وبأنبيائه.
أن هذا الوصف يطلق على الأنبياء والبيت المذكور بيت لوط، ولم يكن فيه مسلم إلا هو وبناته، وهو نبي فصح إطلاقه عليه بالأصالة، وعلى بناته بالتغليب أو على التبعية، إذ لا مانع أن تختص أولاد الأنبياء بخصائص لا يشاركهم فيها بقية الأمة، كما اختصت فاطمة؛ بأنه لا يتزوج عليها وأخوها إبراهيم بأنه لو عاش لكان نبيًا، وذكر أمورًا استظهارًا على ذا الجواب "إلى غير ذلك" كقوله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} الآية، وأجاب السيوطي بحمله على التغليب؛ لأنه خاطبهم وفيهم هارون ويوشع، وهما نبيان، فأدرج بقية القوم في الوصف تغليبًا، أو يحمل على أالمراد: إن كنتم متقادين لي فيما آمركم به، قال: والتحقيق الذي قامت عليه الأدلة ما رجحناه من الخصوصية بالنسبة إلى الأمم، وأن كل ما ورد من إطلاق ذلك فيمن تقدم فإنما أطلق على نبي، أو ولده تبعًا، أو جماعة فيهم نبي غلب لشرفه، ومن ذلك قوله تعالى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} الآية، فإن الحواريين فيهم أنبياء منهم الثلاثة المذكورون في قوله تعالى:{إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} الآية، نص العلماء على أنهم من حواري عيسى، وأحد قولي العلماء، أن الثلاثة أنبياء، ويرشحه ذكر الوحي إليهم؛ "ولأن الإيمان" لكونه التصديق القلبي "أخص من الإسلام" لأنه الانقياد للأحكام المأمور بها، فإن صحبه تصديق قلبي فمسلم فقط تجري عليه أحكام الدنيا، ولا ينفعه ذلك عند الله، "كما هو مذهب كثير من العلماء، وليس خاصًا بهذه الأمة بل يوصف به" أي: بالإيمان "كل من دخل في شريعة مقرًا بالله تعالى وبأنبيائه كما قاله الراغب" فقياس الوصف بالأخص الوصف بالأعم، وجوابه أنه قياس في معرض النصوص الظاهرة بخلافه، فلا يعتبر. وقد حكى السيوطي القولين في تأليف سماه إتمام النعمة، ورجح القول بالاختصاص، وذكر له ثلاثة وعشرين دليلا، منها ما رواه ابن راهويه، وابن أبي شيبة عن مكحول: كان لعمر على رجل حق، فأتاه يطلبه، فقال عمر: لا والذي اصطفى محمدًا على البشر، لا أفارقك، فقال اليهودي: والله ما اصطفاه، فلطمه عمر، فأتى النبي فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم:"بل يا يهودي آدم صفي الله، وإبراهيم خليل الله، وموسى نجي الله، وعيسى روح الله، وأنا حبيب الله، بل يا يهودي تسمى الله باسمين سمى بهما أمتي هو السلام، وسمى أمتي المسلمين، وهو المؤمن، وسمي أمتي المؤمنين" الحديث، وهو صريح في اختصاصنا بوصف الإسلام، وإلا لم يحسن إيراده في معرض التفضيل، إذ كان اليهودي يقول: ونحن وسائر الأمم كذلك.
كما قال الراغب.
وأخرج البخاري في تاريخه، والنسائي، وابن مردويه، عن الحارث الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من دعا بدعوى الجاهلية، فإنه من جثا جهنم" قال رجل: وإن صام وصلى، قال:"نعم، فادعوا الله بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله". ولابن جرير عن قتادة: ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله، ويعدهم الخير حتى يجيء الإسلام، فيقول: يا رب أنت السلام وأنا الإسلام، فصريحه اختصاص الإسلام بنا لفرقه بينه وبين الإيمان المتعلق بأهل الأديان، وقوله تعالى:{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} الآية، دليل على الخصوص، وإلا لقال: الكتابيون نحن مسلمون وديننا الإسلام، وذكر في آخره قول السبكي: القصد من تكثير الأدلة أن الآية الواحدة والآيتين قد يمكن تأويلها، ويتطرق لها الاحتمال، فإن كثرت قد تترقى إلى حد يقطع بإرادتها ظاهرًا، ونفي الاحتمال والتأويل، قال: ولذا ذكرت ثلاثة وعشرين دليلا؛ لأن كلا على انفراده يمكن تأويله، وتطرق الاحتمال، فلما كثرت غلب على الظن إرادة ظاهرها، ونفي الاحتمال والتأويل، وعبرت بغلب على الظن دون القطع، لأجل ما عارضها من الآيات التي استدل بها للقول الآخر.
ومنها: قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} الآية، والجواب أن مسلمين اسم فاعل مراد به الاستقبال على حقيقته، وهو الأصل لا الحال ولا الماضي الذي هو مجاز، والتقدير: إنا كنا من قبل مجيئه عازمين على الإسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا، ويرشحه أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الإخبار بحقية القرآن، وإنهم كانوا على قصد الأسلام به إذا جاء به صلى الله عليه وسلم لما عندهم من صفاته وقرب زمانه، وليس قصدهم الثناء على أنفسهم، بأنهم كانوا بصفة الإسلام؛ لأنه ينبو عنه المقام أو يقدر في الآية:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} الآية، توصف الإسلام سببه القرآن لا التوراة والإنجيل ويرشحه ذكر الصلة في قوله:{قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} الآية، فدل على أنها مراده في الثانية، وحذفت كراهة لتكرارها مرتين في آية واحدة لذكرها في قوله:{آمَنَّا بِهِ} الآية، أو وصفهم به من أول أمرهم اعتبارًا بما ختم لهم من الدخول في الإسلام؛ كقول الأشعري: من كتب الله أن يموت مؤمنًا، فيسمى عند الله مؤمنًا، ولو في حالة كفر سبقت منه، وكذا عكسه فإذا وصف الكافر حال كفره بالإيمان للخاتمة، فلأن يوصف بالإسلام من كان على دين حق لما قدر له من دخوله فيه من باب أولى، انتهى.
هذا ومن خصوصيات الإسلام، أنه يجب ما قبله، أي: يقطع، روى ابن سعد والطبراني،
ومنها أن شريعتهم أكمل من جميع الشرائع المتقدمة، وهذا مما لا يحتاج إلى بيانه لوضوحه. وانظر إلى شريعة موسى عليه السلام، فقد كانت شريعة جلال وقهر، أمروا بقتل نفوسهم في التوبة، وحرمت عليهم الشحوم، وذوات الظفر وغيرها من الطيبات، وحرمت عليهم الغنائم وعجل لهم في العقوبات ما عجل، وحملوا من الآصار والأغلال.
عن الزبير وجبير بن مطعم، مرفوعًا:"الإسلام يجب ما كان قبله" وفي رواية: يهدم، أي: من كفر وعصيان، وما يترتب عليهما من حقوق الله، أما حقوق عباده، فلا تسقط إجماعًا، ولو كان المسلم ذميًا والحق ماليًا، وظاهره أساء بعده أو أحسن، وأما خبر:"من أحسن في الإسلام لم يؤخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر". رواه الشيخان، فوارد على نهج التحذير.
وروى مسلم عن عمرو بن العاصي، قلت: يا رسول الله تبايعني على أن تغفر لي، فقال:"أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله". ففيه أن كل واحد بمفرده يكفر ما قبله.
قال ابن تيمية: واختص صحبه صلى الله عليه وسلم باسم الأنصار والمهاجرين، فهما اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة، وسماهما الله بهما، كما سماهم بالمسلمين.
"ومنها: أن شريعتهم أكمل من جميع الشرائع المتقدمة" لا زيادة تشديد فيها، فيصعب القيام بها، ولا زيادة تخفيف، بل على غاية الاعتدال وخير الأمور أوسطها، "وهذا مما لا يحتاج إلى بيانه لوضوحه" لأنك إذا تدبرت في أي حكم منها وجدته معتدلا، واستظهر على ذلك بقوله:"وانظر إلى شريعة موسى عليه السلام، فقد كانت شريعة جلال، وقهر أمروا بقتل نفوسهم في التوبة" وقد امتن الله علينا بعدم ذلك، وذكرنا بهذه النعمة في قوله:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} الآية، أي: إنه رحمنا فلم يكتب علينا ذلك، كما كتبه على بني إسرائيل، "وحرمت عليهم الشحوم" وهي الثروب وشحم الكلى من البقر والغنم، إلا ما حملت على ظهورهما
…
إلخ، "وذوات الظفر" وهو ما لم تفرق أصابعه كالإبل والنعام والطيور، "وغيرها من الطيبات" بعد حلها؛ كما قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية، وقال تعالى:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} ، أي: الإبل لما حصل له عرق النسا، بالفتح والقصر، فنذر إن شقي لا يأكلها، فحرم عليه، "وحرمت عليهم الغنائم" وعلى غيرهم سوانا، فجعلت لنا من أحل أموالنا، "وعجل لهم من العقوبات ما عجل" من عذاب وغيره، كعقابهم بتحريم ما كان لهم حلالا، "وحملوا من الآصار والأغلال" عطف تفسير، أي: التكاليف الشاقة، "ما لم يحمله
ما لم يحمله غيرهم.
وكان موسى عليه السلام من أعظم خلق الله هيبة ووقارًا وأشدهم بأسًا وغضبًا لله، وبطشًا بأعداء الله، فكان لا يستطاع النظر إليه.
وعيسى عليه السلام كان في مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان، وكان لا يقاتل ولا يحاب، وليس في شريعته قتال ألبتة، والنصارى يحرم عليهم في دينهم القتال، وهم به عصاة، فإن الإنجيل يأمر فيه: من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك، ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ونحو هذا، وليس في شريعتهم مشقة ولا آصار ولا أغلال.
غيرهم" بسبب ظلمهم، "وكان موسى عليه السلام من أعظم خلق الله هيبة ووقارًا" كسحاب رزانة، "وأشدهم بأسًا" شدة، "وغضبًا لله وبطشًا بأعداء الله، فكان لا يستطاع النظر إليه" لذلك، ونبينا صلى الله عليه وسلم: وإن كان أعظم في كل ذلك منه، لكنه كان يعامل أمته بالرفق واللين، فيقدمون عليه ويكلمونه، "وعيسى عليه السلام كان في مظهر" أي: محل ظهور "الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان" لا من كل وجه، بل فيها بعض تشديد، لكنها تخفيف بالنسبة لشريعة موسى؛ لقوله "وكان لا يقاتل ولا يحارب، وليس في شريعته قتال البتة، والنصارى يحرم عليهم في دينهم القتال وهم به عصاة" لحرمته عليهم، "فإن الإنجيل" كتابهم، "يأمر فيه" بقوله: "من لطمك" ضربك بكفه، مفتوحة، ويكون على الخد وعلى غيره من الجسد، ولذا قال: "على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر" إشارة إلى عدم الانتقام، "ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك، ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ونحو هذا" مما كله كناية عن المساهلة مع الناس في الأخذ والعطاء والمعاشرة؛ كما يدل عليه سوقه في مقام تخفيف شرع عيسى، لا الأمر بشيء مما ذكر حقيقة، "وليس في شريعتهم مشقة، ولا آصار، ولا أغلال" تفسيري؛ كما في شرع موسى، فلا يخالف قول ابن الجوزي: بدء الشرائع كان على التخفيف، ولا يعرف في شرع صالح ونوح وإبراهيم تثقيل، ثم جاء موسى بالتشديد والأثقال، وجاء عيسى بنحوه، وجاءت شريعة نبينا بنسخ تشديد أهل اكتاب، ولا يطلق على تسهيل من كان قبلهم، فهي على غاية الاعتدال، فقوله: وجاء عيسى بنحوه ظاهر في خلاف كلام المصنف، لكن يمكن تأويله، بأنه تشديد نسبي، وإن كان بعيدًا يأباه لفظ الإنجيل المذكور، فإن ظاهره أن لا تشديد فيها البتة، فلعل أصل العبارة: وجاء عيسى بضده فتحرفت بنحوه.
وأما النصارى فابتدعوا تلك الرهبانية من قبل أنفسهم ولا تكتب عليهم.
وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فكان مظهر الكمال، الجامع لتلك القوة والعدل والشدة في الله، واللين والرأفة والرحمة فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، ولذلك تأتي شريعته صلى الله عليه وسلم بالعدل إيجابًا له وفرضًا، وبالفضل ندبًا إليه واستحبابًا، وبالشدة في موضع الشدة، وباللين في موضع اللين، ووضع السيف موضعه، ووضع الندى موضعه، فيذكر الظلم ويحرمه، والعدل ويأمر به، والفضل ويندب إليه في بعض آية، كقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] الآية، فهذا عدل.
"وأما النصارى، فابتدعوا تلك الرهبانية" وهي رفض النساء واتخاذ الصوامع "من قبل أنفسهم، ولا تكتب عليهم" أي: لم يؤمروا بها؛ كما قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} الآية، وهو منقطع، أي: لكن فعلوها ابتغاء
…
إلخ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا خزم، ولا زمام، ولا سياحة، ولا تبتل، ولا ترهب في الإسلام" رواه عبد الرزاق، وقال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام"، رواه أحمد وقال عليه الصلاة والسلام:"تزوجوا فأني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى"، رواه البيهقي.
"وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فكان مظهر" بفتح الميم محل ظهور، "الكمال الجامع لتلك القوة، والعدل والشدة في الله، واللين والرأفة، والرحمة، فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، ولذلك" المذكور من كونه مظهر
…
إلخ، "تأتي" بمعنى أتت "شريعته بالعدل"، أي: الحكم المشمل عليه وهو القصد، أي: التوسط في الأمور، ثم تنوع ذلك الحكم إلى واجب وغيره؛ كما قال "إيجابًا له" أي: للعدل بمعنى الحكم، كما علم، "وفرضًا" مساوٍ "وبالفضل ندبًا إليه واستحبابًا" لا فرضًا وإيجابًا كالعفو عن الجاني، "وبالشدة في موضع الشدة" كقتال الكفار ونحوهم، "وباللين في موضع اللين" كالعفو عن الأسارى، "ووضع السيف موضعه، ووضع الندى" أي الخير "موضعه" أي: المحل اللائق به شرعًا، "فيذكر الظلم ويحرمه والعدل ويأمر به، والفضل ويندب" أي: يدعو "إليه في بعض آية؛ كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، سميت الثانية بذلك لمشابهتها للأولى صورة، وإن كانت عدلا لوقوعها جزءًا، والسيئة هي الفعلة القبيحة.
قال الجلال: وهذا ظاهر فيما يقتص منه من الجراحات، قال بعضهم: وإذا قال له: أخزاك الله، فيقول له: أخزاك الله، "فهذا عدل" ولذا قال صلى الله عليه وسلم لهبار بن الأسود:"سب من سبك"، لما
{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، فهذا فضل {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] ، فهذا تحريم للظلم.
وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، فهذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] ندب إلى الفضل.
وكذلك تحريم ما حرم على هذه الأمة صيانة وحمية لهم، حرم عليهم كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، فتحريمه عليهم رحمة، وعلى من كان قبلهم لم يخل من عقوبة، كما أشرت إليه قريبًا.
وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم كيوم الجمعة، كما سأذكره إن شاء الله تعالى في.
كانوا يسبونه بعد إسلامه بما كان منه قبله، فكفوا عنه، {فَمَنْ عَفَا} عن ظلمه {وَأَصْلَحَ} الود بينه وبينه بالعفو عنه، {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي: إن الله يأجره لا محالة، "فهذا فضل.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من عفا عند القدرة عفا الله عنه يوم العسرة"، رواه الطبراني، وقال:"من عفا عن دم لم يكن له ثواب إلا الجنة". رواه الخطيب.
وقال عليه السلام: "من عفا عن قاتله دخل الجنة"، رواه ابن منده، أي: مع السابقين، أو بلا سبق عذاب أو هو إعلام بوفاته على الإسلام وإلا من سوء الخاتمة {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي: البادين بالظلم فيرتب عليه عقابهم، "فهذا تحريم للظلم" وفي الحديث القدسي:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا". "وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، هذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم" وهو العقاب بغير مثل ما عوقبوا به، {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} عن العقاب، {لَهُوَ} أي الصبر {خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} ندب على الفضل دون إيجابه فترتاح النفوس، بذكره وتسمح به، "وكذلك تحريم ما حرم الله على هذه الأمة صيانة وحمية لهم" عما يضرهم كالميتة والدم المسفوح، "حرم عليهم كل خبيث" كما قال {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ، "وضار" كالخنزير، "وأحل لهم كل طيب" أي: مستلذ لا ضر فيه؛ كما قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ، "ونافع" للبدن والعقل، "فتحريمه عليهم رحمة وعلى من كان قبلهم لم يخل من عقوبة؛ كما أشرت إليه قريبًا" في قوله:"وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئًا مما أمروا به وأخطئوا عجلت لهم العقوبة"، فحرم عليه شيء من مطعم أو مشرب، "وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم؛ كيوم الجمعة كما سأذكره إن شاء الله تعالى في
مقصد عباداته عليه السلام، وتقدم ما يشهد له.
ووهب لهم من علمه وحلمه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم، كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله، كما كمل في كتابهم من المحاسن ما فرقه في الكتب قبله، وكذلك في شريعته.
فهذه الأمة هم المجتبون، كما قال إلههم:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وجعلهم شهداء على الناس، فأقامهم في ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم، أشار إليه ابن القيم.
ومنها: أنهم لا يجتمعون على ضلالة. رواه أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير، وابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبي بصرة.
مقصد عباداته عليه السلام وتقدم ما يشهد له" قريبًا، "ووهب لهم من علمه وحلمه" كمالات كثيرة لم تحصل لغيرهم، "وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم" فجمعوا محاسن كل أمة، "كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله" وزاده عليهم "وكما كمل في كتابهم من المحاسن ما فرقه في الكتب قبله، وكذلك في شريعته فهذه الأمة هم المجتبون" أي: الذين اختارهم الله لدينه ولنصره؛ "كما قال إلههم" جل وعلا: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، أي: ضيق "وجعلهم شهداء على الناس، فأقامهم في ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم أشار إليه ابن القيم"، وذكر ابن عبد السلام أنهم نزلوا منزلة العدول من الحكام فيشهدون على الناس أن رسلهم بلغتهم ما جاءوا به عن الله، قال تعالى:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، قال: وهذه خصيصية لم تثبت لغيرهم.
"ومنها: أنهم لا يجتمعون على ضلالة" أي: محرم، باعتقاد خلاف لواقع، فيشمل كل حكم اعتقد فيه خلاف ما هو عليه في نفس الأمر، فلا يجتمعون على نفي مكروه، لا ندب مندوب، ولا إباحة مباح، بل متى اجتمعوا على حكم، كان عند الله كذلك؛ كما أفاده كلام الشيخ ولي الدين، ويأتي، ولكن قيدوا الأمة هنا بالعلماء، لأن العامة عنها تأخذ دينها، وإليها يفزع في النوائب، فاقتضت الحكمة حفظها، "رواه أحمد في مسنده والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب "في" معجمه "الكبير، وابن أبي خيثمة" أحمد بن زهير بن حرب البغدادي "في تاريخه" وهو كبير، قال في محمد بن سلام الجمحي: لا أعرف أغزر من فوائده، "عن أبي بصرة" بفتح الموحدة، وإسكان الصاد المهملة، واسمه حميل، بضم الحاء المهملة، ولام آخره،
الغفاري مرفوعًا في حديث: "سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها". ورواه ابن أبي عاصم والطبراني أيضًا من حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "إن الله أجاركم من ثلاث، -وذكر منها- وأن لا تجتمعوا على ضلالة".
وقيل: بفتح أوله، وقيل: بالجيم ابن بصرة، بفتح الموحدة، ابن وقاص بن حبيب بن غفار، وقيل: ابن حاجب بن غفار "الغفاري" روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه أبو هريرة، وجماعة، وهو وأبوه وجده صحابة، قال ابن يونس: شهد فتح مصر واختط بها، ومات بها، ودفن في مقبرتها، وقال أبو عمر: كان يسكن الحجاز، ثم تحول إلى مصر، ويقال: إن عزة صاحبة كثير من ذريته، وأنكر ذلك ابن الأثير، "مرفوعًا في حديث:"سألت ربي أن لا تجتمع أمتي" أي: أمة الإجابة "على ضلالة، فأعطانيها" أي: هذه الخصلة، "ورواه ابن أبي عاصم" الحافظ الكبير، الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن النبيل، أبي عاصم الشيباني الزاهد، قاضي أصبهان، له الرحلة الواسعة والتصانيف النافعة.
قال ابن أبي حاتم: ذهبت كتبه بالبصرة في فتنة الزنج فأعاد من حفظه خمسين ألف حديث.
وقال ابن الأعرابي: كان من حفاظ الحديث والفقه، ظاهري المذهب، مات في ربيع الآخر سنة سبع وثمانين ومائتين، "والطبراني أيضًا" وغيرهما، كلهم "من حديث أبي مالك الأشعري".
قال الحافظ في تخريج أحاديث المختصر: اختلف في أبي مالك راوي هذا الحديث؛ فإن في الصحب ثلاثة، يقال لكل منهم أبو مالك الأشعري، أحدهم راوي حديث المعازف، مشهور بكنيته، وفي اسمه خلف الثاني الحارث بن الحارث، مشهور باسمه أكثر الثالث كعب بن عاصم، مشهور دون كنيته، حتى قال المزي في ترجمته: لا يعرف له كنية، وتعقب بأن اليخين والنسائي كنوه، وذكر المزي هذا الحديث في ترجمة الثاني، ووضح لي أنه الثالث؛ لأن ابن أبي عاصم لما خرج الحديث المذكور، قال في سابق سنده، عن كعب بن عاصم الأشعري، فدل على أنه هو إلا أن يكون ابن أبي عاصم تصرف في التسمية بظنه وهو بعيد. "إن الله تعالى أجاركم" حماكم ومنعكم، وأنقذكم "من ثلاث" خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعًا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، هذا ما أشار إلى حذفه، بقوله:"وذكر منها" تلو هذا ما لفظه: "وأن لا تجتمعوا على ضلالة".
قال الطيبي: حرف النفي في القرآن زائد؛ كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ} الآية، وفائدته معنى الفعل وتحقيقه، وذلك أن الإجارة إنما تستقيم إذا كانت الخلال مثبتة لا منفية.
قال شيخنا: وبالجملة، فهو حديث مشهور المتن، وأسانيده كثيرة وله شواهد متعددة في المرفوع وغيره.
ومنها: إن إجماعهم حجة.
"قال شيخنا" يعني السخاوي في المقاصد: "وبالجملة، فهو حديث مشهور المتن" أي: لفظ الحديث، وإنما قال السخاوي هذا القول شيخه الحافظ في إسناده انقطاع، وله طرق لا يخلو واحد منها من مقال، لكنه قال في موضع آخر: إسناده حسن؛ لأنه من رواية أبي بكر بن عياش عن الشاميين، وهي مقبولة.
قال: وله شاهد عند أحمد، رجاله ثقات، لكن فيه راوٍ لم يسم، "وأسانيده كثيرة" متعددة الطرق والمخارج، وذلك علامة القوة، فلا ينزل عن الحسن، فأخرجه أبو نعيم والحاكم، وأعله اللالكائي في السنة له، وابن منده، ومن طريقه الضياء في المختارة، عن ابن عمر رفعه:"أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدًا، وإن يد الله مع الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإن من شذ شذ في النار"، وكذا أخرجه الترمذي، لكن بلفظ:"هذه الأمة"، أو قال:"أمتي"، ورواه ابن ماجه، والدارقطني وغيرهما، عن أنس مرفوعًا:"أن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم"، والحاكم عن ابن عباس، رفعه:"لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة، ويد الله مع الجماعة". وابن أبي عاصم وغيره، مرفوعا عن عقبة بن عمر الأنصاري، مرفوعًا في حديث:"عليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة"، والطبري في تفسيره عن الحسن مرسلا بلفظ أبي بصرة، "وله شواهد متعددة في المرفوع" إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كقوله:"أنتم شهداء الله في الأرض"، "و" في "غيره" أي: غير المرفوع، وهو الموقوف؛ كقول ابن مسعود: إذا سئل أحدكم، فلينظر في كتاب الله، فإن لم يجد، ففي سنة رسول الله، فإن لم يجد، فلينظر ما اجتمع عليه المسلمون وإلا فليجتهد، هذا، والاختلاف شامل لما كان في أمر الدين كالعقائد، أو الدنيا كالإمامة العظمى، ومعنى:"فعليكم بالسواد الأعظم". الزموا متابعة جماهير المسلمين الذين يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك المنهج القويم، فهو الحق الواجب، والفرض الثابت الذي يحرم خلافه، فمن خالفه مات ميتة جاهلية.
"ومنها: أن إجماعهم حجة" قاطعة، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله، إذ الواحد منهم غير معصوم، بل كل أحد يؤخذ من قوله، ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال مالك.
قال الحافظ الولي العراقي: والمراد به الاتفاق، أي: الاشتراك في القول، أو الفعل، أو الاعتقاد، أو ما في معناها من السكوت عند من يقول به، ويتناول الأمور الشرعيات واللغويات بلا
وإن اختلافهم رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذابًا، روى البيهقي في المدخل في حديث من رواية سليمان بن أبي كريمة، عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال:
نزاع، والعقليات والدنيويات على الراجح، "وأن اختلافهم" أي: الأمة، أي: مجتهديها في الفروع التي يسوغ الاجتهاد فيها "رحمة" أي: توسعة على الناس، ونعمة كبيرة، وفضيلة جسيمة بجعل المذاهب كشرائع متعددة، بعث صلى الله عليه وسلم بكلها لئلا تضيق بهم الأمور، فالمذاهب التي استنبطها الصحابة فمن بعدهم من أقواله وأفعاله على تنوعها كشرائع متعددة له، وقد وعد بوقوع ذلك، فوقع، فهو من معجزاته.
أما الاجتهاد في العقائد فضلال، والحق ما عليه أهل السنة والجماعة، فإنما الحديث في الاختلاف في الأحكام؛ كما في تفسير البيضاوي، قال: فالنهي مخصوص بالتفرق في الأصول لا في الفروع.
قال السبكي: لا شك أن الاختلاف في الأصول ضلال، وسبب كل فساد؛ كما أشار إليه القرآن، قال: وما ذهب إليه جمع؛ أن المراد الاختلاف في الحرف والصنائع، فمردود بأنه كان المناسب أن يقال: اختلاف الناس إذ لا خصوصية للأمة، فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف، فلابد من خصوصية، قال: وما ذكره إمام الحرمين، كالحليمي؛ أن المراد اختلافهم في المناصب والدرجات والمراتب، فلا ينساق الذهن من لفظ الاختلاف إليه، "وكان اختلاف من قبلهم عذابًا" ومن جملته أنه كان في شرع بني إسرائيل نسخ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حاكم آخر يرى خلافه، كما في الخصائص بخلاف شرعنا فيرفع، فتصير المسألة، كالمجمع عليها، فليس لحاكم آخر نقضه، بل عليه تنفيذه، وإن كان يرى غيره أصوب على الأرجح، إلا أن يكون مما ينقض.
"روى البيهقي" وفي نسخة: رواه بالضمير، والأول أصوب؛ لأنه لم يروِ الترجمة إلا أن يكون المراد بمعناه، فقد ذكر السمهودي، وغيره أن اختلاف الصحابة في معنى اختلاف الأمة "في المدخل" إلى السنن الكبرى "في حديث من رواية سليمان بن أبي كريمة عن جويبر" تصغير جابر، ويقال اسمه: جابر وجويبر لقب ابن سعيد الأزدي، أبي القاسم، نزيل الكوفة، راوي التفسير، مات بعد الأربعين ومائة، "عن الضحاك" بن مزاحم الهلالي الخراساني، صدوق، مات بعد المائة، روى له الأربعة.
"عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "مهما أوتيتم من كتاب الله، فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله، فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني،
"واختلاف أصحابي لكم رحمة".
فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم". "واختلاف أصحابي لكم رحمة" ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني، والديلمي بلفظه سواء، فاقتصر المصنف على حاجته منه، والأوجه أن المراد اختلافهم في الأحكام، ويؤيده ما رواه البيهقي في المدخل، عن عمر بن عبد العزيز: ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة؛ وكذا قول يحيى بن سعيد الآتي: أهل العلم
…
إلخ، وقول مالك لما سأله الرشيد الخروج معه إلى العراق، وأن يحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان الناس على القرآن، أما حمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه؛ لأن الصحابة افترقوا في الأمصار، فعند كل أهل مصر علم صريح في أن المراد الاختلاف في الأحكام، وما نقله ابن الصلاح عن مالك؛ أنه قال في اختلاف الصحابة: مخطئ ومصيب، فعليك بالاجتهاد، وليس كما قال ناس فيه توسعة، فإنما هو بالنسبة إلى المجتهد؛ لقوله "فعليك بالاجتهاد"، فالمجتهد مكلف بما أدى إليه اجتهاده، فلا توسعة عليه في اختلافهم، وإنما التوسعة على المقلد، فقوله: اختلاف أمتي وأصحابي رحمة للناس، أي: المقلدين.
وفي قول مالك: مخطئ ومصيب، رد على القائل إن المجتهد يقلد الصحابة دون غيرهم؛ كما أفاده السمهودي، ثم لا يرد على هذا كله نهي الله عن الاختلاف بقوله:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} الآية، وبقوله:{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} الآية، لأن المنهي عنه الاختلاف على الرسل فيما جاءوا به.
قال ابن العربي وغيره: إنما ذم الله كثرة الاختلاف على الرسل كفاحًا بدليل خبر: "إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة اختلافهم على أنبيائهم"، أما هذه الآية، فمعاذ الله أن يدخل فيها أحد من العلماء المختلفين، لأنه أوعد الذين اختلفوا بعذاب عظيم، والمعترض موافق على أن اختلاف الأمة في الفروع، مغفور لمن أخطأ منهم، فتعين أن الآية فيمن اختلف على الأنبياء، فلا تعارض بينها وبين الحديث، وفيه رد على المتعصبين لبعض الأئمة على بعض، وقد عمت به البلوى.
قال الذهبي: وبين الأئمة اختلاف كثير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات، وزلقات، ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صوابًا، وتجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة، وكل ما خالفوا فيه لقياس أو تأويل، فإذا رأيت فقيهًا خالف هذين أورد حديثًا أو حرف معناه، فلا تبادر لتغليطه، وقد قال علي لمن قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل، يا هذا إنه ملبوس عليك أن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله، وما زال الاختلاف بين الأئمة في الفروع وبعض الأصول مع اتفاق الكل على تعظيم البارئ وأنه ليس
وجويبر: ضعيف جدًا، والضحاك عن ابن عباس: منقطع.
وهو كما قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: حديث مشهور على الألسنة، وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في مباحث القياس بلفظ:"اختلاف أمتي رحمة للناس". قال: وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطردًا، وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن والآخر ملحد، وهما: إسحاق.
كمثله شيء، وأن ما شرعه رسوله حق، وأن كتابهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، وإنما وضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأزكى العلم لمن دونه وتنبيه الأغفل الأضعف، فإن داخلها هو من الأكمل وانكسار من الأصغر فذاك دأب النفوس الزكية في بعض الأحيان غفلة عن الله، فما الظن بالنفوس الشريرة، انتهى.
"وجويبر ضعيف جدًا، والضحاك عن ابن عباس منقطع" لأنه لم يسمع منه، والضحاك كثير الإرسال، وقد عزاه العراقي لآدم بن أبي إياس في كتاب العلم والحلم، بلفظ:"اختلاف أصحابي رحمة لأمتي"، قال: وهو مرسل ضعيف.
"وهو كما قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: حديث مشهور على الألسنة" لفظ المقاصد: قرأت بخط شيخنا، يعني الحافظ ابن حجر، أي حديث "واختلاف أصحابي لكم رحمة"، معنى حديث مشهور على الألسنة، وبهذا يتضح قوله:"وقد أورده ابن الحاجب في المختصر" الأصولي في مباحث القياس بلفظ: "اختلاف أمتي رحمة للناس" وإنما كان بمعناه؛ لأن اختلاف الصحابة في معنى اختلاف الأمة، كما أفصح به غيره، وكذا أورده نصر المقدسي في كتاب الحجة له، والبيهقي في الرسالة الأشعرية، ولم يذكرا له سندًا، ولا صحابيًا، وكذا إمام الحرمين والقاضي حسين.
قال السيوطي: ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إليها، "قال" الحافظ:"وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة؛ أنه لا أصل له" بهذا اللفظ، "لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطردًا" مصدر ميمي، أي: استطرادًا لمناسبة.
"وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن" بكسر الجيم: اسم فاعل من مجن مجونًا، طلب وغلظ، ومنه الماجن لمن لا يبالي قولا وفعلا كأنه صلب الوجه، "والآخر ملحد" طاعن في الدين، قال بعض الأئمة: وهم في زماننا الباطنية المدعون أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا، وأنهم يعلمون الباطن، فأحالوا بذلك الشريعة، لأنهم تأولوا بما يخالف العربية التي نزل بها القرآن، وقال أبو عبيدة: ألحد إلحادًا، جادل ومارى، ذكره المصباح، "وهما إسحاق
الموصلي، وعمرو بن بحر الجاحظ وقالا جميعًا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، قال: ثم تشاغل الخطابي برد هذا الكلام، ولم يقع في كلامه نص في عزو الحديث، ولكن أشعر بأن له أصلا عنده.
ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، أشار إليه شيخنا في المقاصد الحسنة.
ومنها أن الطاعون لهم شهادة ورحمة، وكان على الأمم عذابًا.
الموصلي" بفتح، فسكون وكسر المهملة، نسبة إلى مدينة بالجزيرة، الماجن المغني في الدولة العباسية، "وعمرو بن بحر الجاحظ" لقب لعمرو الملحد لجحظ كان بعينيه، وكان قبيح الشكل جدًا حتى قيل فيه:
لو يمسخ الخنزير مسخًا ثانيا
…
ما كان إلا دون قبح الجاحظ
رجل ينوب عن الجحيم بوجهه
…
وهو القذى في عين كلا ملاحظ
"وقالا جميعًا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، قال" الحافظ: "ثم تشاغل الخطابي برد هذا الكلام، ولم يقع في كلامه نص في عزو الحديث، ولكن أشعر بأن له أصلا عنده" وهو من كبار الحفاظ، "ومن حديث" عطف على قوله: من رواية سليمان، أي: وروى البيهقي أيضًا في المدخل من حديث "الليث بن سعد" بن عبد الرحمن الفهمي، المصري، الإمام، الثقة، الثبت، الفقيه، المشهور، مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، "عن يحيى بن سعيد" بن قيس الأنصاري، المدني، ثقة، ثبت، من رجال الجميع، مات سنة أربع وأربعين ومائة أو بعدها، "قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا" لأنه بحسب فهم الأدلة في الأحكام الاجتهادية، "أشار إليه شيخنا" السخاوي "في المقاصد الحسنة" في الأحاديث المشهورة على الألسنة.
"ومنها: أن الطاعون" فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله، ووضعوه دالا على الموت العام، كالوباء، ذكره الجوهري، "لهم شهادة" أي: سبب لكون الميت به شهيدًا، وظاهرًا يشمل الفاسق، فيكون شهيدًا، لكنه لا يساوي مرتبة مسلم غير فاسق في أنه يغفر له جميع ذنوبه، وإنما يغفر له غير حق الآدمي، أخذًا من خبر: إن الشهداء يغفر لهم كل ذنب إلا الدين، قال شيخ الإسلام زكريا وهو ظاهر، "ورحمة" رحم بها المؤمنين، وهل المراد بهم الكمل أو أعم احتمالان، "وكان على الأمم عذابًا" ففيه مزيد عناية بهذه الأمة، حيث جعل ما كان عذابًا
رواه أحمد والطبراني في الكبير، عن حديث أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورجال أحمد ثقات ولفظه: "الطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكافرين".
لغيرهم وبلاء رحمة لهم؛ لحصول الشهادة لهم به، وأن العادة لا تؤثر بنفسها؛ لأنه كان بلاء بنفسه لمن تقدم، ثم عاد بنفسه وصفته رحمة، والصفة واحدة لم تتغير، "رواه أحمد والطبراني في الكبير من حديث أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" مشهور بكنيته، قيل: اسمه أحمر براء آخره، وقيل: سفينة، قال في الإصابة: والراجح أنه غيره.
ووقع في الاستيعاب أحمر بن عسيب، وتعقب: ويحتمل أن كنيته وافقت اسم أبيه، "ورجال أحمد ثقات، ولفظه: "الطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز" بكسر الراء، أي: عذاب "على الكفار" ووقع في بعض الأصول رجس، بسين بدل الزاي، والمعروف بالزاي.
وروى أحمد والبخاري عن عائشة: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فقال:"الطاعون كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، فليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد"، وسر التعبير بمثل أن من لم يمت به له مثل أجره، وإن لم يحصل له درجة الشهادة نفسها.
قال الحافظ: ويؤخذ منه أن من اتصف بالصفات المذكورة، ثم مات بالطاعون له أجر شهيدين، ولا مانع من تعدد الثواب بتعدد الأسباب، كمن يموت غريبًا، أو نفساء بالطاعون، والتحقيق أنه يكون شهيدًا بوقوعه له، ويضاف له مثل أجر شهيد لصبره، فإن درجة الشهادة شيء وأجرها شيء، قال: ويؤخذ منه أن من لم يتصف بذلك لا يكون شهيدًا؛ وإن مات بالطاعون، وذلك ينشأ من شؤم الاعتراض الناشئ عن الضجر والسخط للقدر، وفي الصحيحين مرفوعًا:"الطاعون رجز أو عذاب، أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها".
قال الخطابي: أحد الأمرين تأديب وتعليم، والآخر تفويض وتسليم، وروى أحمد برجال ثقات عن عائشة مرفوعًا:"الطاعون غدة كغدة البعير المقيم به، كالشهيد والفار منه كالفار من الزحف".
وروى الطبراني وأبو نعيم بإسناد حسن، عن عائشة مرفوعًا:"الطاعون شهادة لأمتي، ووخز أعدائكم من الجن غدة كغدة الإبل، تخرج في الآباط والمراق، من مات منه مات شهيدًا، ومن أقام به، كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كالفار من الزحف".
وروى الحاكم، عن أبي موسى مرفوعًا:"الطاعون وخز أعدائكم من الجن"، وخز بفتح الواو وسكون المعجمة، ثم زاي: أي: طعن، وفي النهاية تبعًا للهروي، إخوانكم، قال الحافظ:
ومنها أنهم إذا شهد اثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة، وكانت الأمم السالفة إذا شهد منهم مائة.
ومنها أنهم أقل الأمم عملا، وأكثرهم أجرًا.
ولم أره بلفظ إخوانكم بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرق الحديث المسندة، ولا في الكتب المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة، وعزاه بعض لمسند أحمد، والطبراني وابن أبي الدنيا، ولا وجود له فيها.
قال السيوطي: وأما تسميتهم إخوانًا في حديث المطعم، فباعتبار الإيمان، فإن الأخوة في الدين لا تستلزم الاتحاد في الجنس.
"ومنها: أنهم إذا شهد اثنان منهم" عدلان، لا نحو فاسق ومبتدع، "لعبد بخير" بعد موته؛ بأن أثنيا عليه بخير، فليس المراد الشهادة عند القاضي، ولا لفظ أشهد بخصوصه، "وجبت له الجنة" قال الحافظ: أي ثبتت، أو هو في صحة الوقوع كالواجب، إذ لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضل، والعقاب عدل، لا يسأل عما يفعل، والمراد مع السابقين الأولين، أو من غير سبق عذاب، وإلا فكل من مات مسلمًا دخلها، ولا بد شهد له أحد، أم لا.
روى أحمد والبخاري والنسائي عن عمر، مرفوعًا:"أيما مسلم شهد له أربعة أدخله الله الجنة" قيل: وثلاثة؟ قال: "وثلاثة"، قيل: واثنان؟ قال: "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد.
قال النووي: في معناه قولان: أحدهما: أن هذا الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، وكان ثناؤهم مطابقًا لأفعاله، فيكون من أهل الجنة، فإن لم يكن كذلك، فليس هو مراد بالحديث.
والثاني: وهو الصحيح المختار، أنه على عمومه وإطلاقه، وإن كل مسلم مات فألهم الله تعالى الناس أو معظمهم الثناء، عليه كان ذلك دليلا على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك، أم لا؟ لأنه وإن لم تكن أفعاله تقتضيه فلا تتحتم عليه العقوبة، بل هو في المشيئة، فإذا ألهم الله الناس الثناء عليه، دل ذلك على أنه شاء المغفرة له، وبهذا تظهر فائدة الثناء، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وجبت وأنتم شهداء الله"، ولو كان لا ينفعه ذلك إلا أن تكون أعماله تقتضيه، لم يكن للثناء فائدة، وقد أثبت صلى الله عليه وسلم له فائدة، انتهى، وترك الشهادة بالشر لفهم حكمه قياسًا أو اختصارًا، وهو أظهر؛ كما قال الحافظ، وبه صرح حديث أنس في الصحيحين مرفوعًا:"من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض". "وكانت الأمم السالفة إذا شهد منهم مائة" لحديث أبي يعلى، أن الأمم السابقة المائة، أمة إذا شهدوا لعبد بخير وجبت له الجنة، وأن أمتي الخمسون، منهم أمة، فإذا شهدوا لعبد بخير وجبت له الجنة.
"ومنها: أنهم أقل الأمم عملا، وأكثرهم أجرًا" لخبر مالك، وأحمد، والبخاري، عن ابن
وأقصرهم أعمارًا، وأوتوا العلم الأول والآخر، وآخر الأمم فافتضحت الأمم عندهم ولم يفتضحوا.
ومنها: أنهم أوتوا الإسناد، وهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة.
عمر مرفوعًا: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار، عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن أكثر عملا! قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء".
قال السيوطي: والمراد تشبيه من تقدم بأول النهار إلى الظهر والعصر في كثرة العمل الشاق والتكليف، وتشبيه هذه الأمة بما بين العصر والليل في قلة ذلك، وتخفيفه، وليس المراد طول الزمن وقصره، إذ مدة هذه الأمة أطول من مدة أهل الإنجيل.
قال إمام الحرمين: الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي لضرب الأمثال، "وأقصرهم أعمارًا" رحمة من الله بهم، وعطفًا عليهم أخرهم في الأصلاب حتى أخرجهم إلى الأرحام بعد نفاذ الدنيا، وجعل أعمالهم قصيرة ليقل التباسهم بالدنيا وتدنسهم بها، وكان الأمم الماضون أعمارهم، وأجسادهم، وأرزاقهم أضعاف ذلك، كان أحدهم يعمر ألف سنة، وحبة القمح ككلية البقر، والرمانة يحملها عشرة، وهكذا، فلطف الله بهذه الأمة ليأخذوا من الدنيا أرزاقًا قليلة بأجسام ضعيفة في مدة قصيرة، لئلا يأروا ويبطروا، ثم ضاعف لهم الحسنات، فجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما لا يعلمه إلا الله.
"وأتوا العلم الأول" الذي أوتيه الأمم قبلهم "والآخر" الذي أوتوه، فجمع لهم ما فرق في غيرهم وزيدوا، "وآخر الأمم، فافتضحت الأمم عندهم" بما قص عليهم في القرآن من وقائع بعضهم الشنيعة، ومخالفتهم، وتعنتهم على أنبيائهم، وكفى بقول بني إسرائيل لموسى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ، {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} الآية، وغير ذلك، "ولم يفتضحوا".
"ومنها: أنهم أوتوا الإسناد" وهو حكاية طريق المتن، والسند الطريق الموصلة إلى المتن، وقد يستعمل أحدهما في الآخر، والأمر سهل، "وهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة لم يؤتها أحد من الأمم قبلهم، "وسنة بالغة من السنن المؤكدة".
قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وعنه مثل الذي
وقد روينا من طريق أبي العباس الدغولي قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد موصول، إنما هو صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتخذوها عن غير الثقات.
وهذه الأمة الشريفة -زادها الله شرفًا بنبيها- إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف
يطلب أمر دينه بلا إسناد، كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم، وقال سفيان الثوري: الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح، فبأي شيء يقاتل؟ وقال الشافعي: مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد، كمثل حاطب ليل.
وفي تاريخ الحاكم عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: كان عبد الله بن طاهر إذا سألني عن حديث فذكرته له بلا إسناد سألني عن إسناده، ويقول: رواية الحديث بلا إسناد من عمل الزمنى. فإن إسناد الحديث كرامة من الله تعالى لأمة محمد، وقيل في قوله تعالى:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} : إسناد الحديث، وقال بقية: ذاكرت حماد بن زيد بأحاديث، فقال: ما أجودها لو كان لها أجنحة، يعني إسنادًا.
"وقد روينا من طريق" الإمام "أبي العباس" محمد بن عبد الرحمن "الدغولي" بفتح الدال المهملة، والغين المعجمة، فواو، فلام، نسبة إلى دغول رجل، ويقال للخبز الذي ليس رقيقًا بسرخس دغول.
قال ابن الأثير: فلعل بعض أجداد المنتسب كان يخبزه، "قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة، وشرفها، وفضلها، بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد موصول، إنما هو صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتخذوها" أي: نقلوها "عن غير الثقات".
قال ابن حزم: نقل الثقة حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال شيء خص به المسلمون دون جميع الملل، أما مع الإرسال والإعضال، فيوجد في اليهود، لكن لا يقربون به من موسى قرينًا من نبينا، بل يقفون حيث يكون بينهم وبينه أكثر من ثلاثين نفسًا، وإنما يبلغون به إلى مانوح وشمعون.
وأما النصارى، فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق، "وهذه الأمة الشريفة زادها الله شرفًا بنبيها إنما تنص" أي: تروي "الحديث عن الثقة المعروف في
في زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقصر مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهًا وأكثر، حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدوه عدًا، فهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنستودع الله تعالى شكر هذه النعمة وغيرها من نعمه.
وقال أبو حاتم الرازي: لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله تعالى آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذا.
زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم" لكن هذا الحصر إنما يكون لرواة الصحيح، والحسن؛ إذ الضعيف بأنواع قد رووه كثيرًا، "ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ، فالأحفظ، والأضبط فالأضبط" لما حفظ في صدره، بأن يثبت ما سمعه، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء، أو بكتابه، بصيانته عنده منذ سمع فيه، وصححه إلى أن يؤدي منه، "والأطول مجالسة لمن فوقه" أي: شيخه "ممن كان أقصر مجالسة" له؛ فإن قدم السماع من أقسام العلو النسبي، "ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهًا" تارة "وأكثر" أخرى، "حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه، ويعدوه عدًا" ويبينوا الألفاظ التي اختلفت فيها الرواة، وعذر أصحاب الحديث في تكثير طرق الحديث، الواحد ليعتمد عليه، إذ المقبول ما اتصل سنده، وعدلت رجاله، أو اعتضد بعض طرقه ببعض حتى تحصل القوة بالصورة المجموعة، ولو كان كل طريق منها لو انفردت لم تكن القوة فيها مشروعة، والإعراض عن ذلك يستلزم ترك العمل بكثير من الأحاديث، اعتمادًا على ضعف الطريق التي فيها مقال، وقد قال عبد الله بن جعفر بن خالد: سألت إبراهيم بن سعيد الجوهري، ابغدادي، يعني شيخ مسلم، وأصحاب السنن، عن حديث لأبي بكر الصديق، فقال لجاريته: أخرجي لي الجزء الثالث والعشرين من مسند أبي بكر، فقلت: لا يصح لأبي بكر خمسون حديثًا فمن أين ثلاثة وعشرون جزءا؟ فقال: كل حديث لا يكون عندي من مائة وجه، فأنا فيه يتيم، "فهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنستودع الله تعالى شكر هذه النعمة وغيرها من نعمه" فإنه إذا استودع شيئًا حفظه.
"وقال أبو حاتم" محمد بن إدريس بن داود "الرازي" الحنظلي، عن أحمد وقتيبة، وخلق، وعنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وآخرون، قال الخطيب: كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، مشهورًا بالعلم، مذكورًا، بالفضل، وثقه النسائي وغيره، قال ابن يونس: قدم مصر قديمًا، وكتب بها، وكتب عنه، مات بالري سنة خمس، وقيل سنة سبع وسبعين ومائتين، "لم يكن في أمة من الأمم مذ" أي: حين "خلق الله آدم أمناء" جمع أمين، "يحفظون آثار الرسل إلا في هذه
الأمة.
ومنها: أنهم أوتوا الأنساب والإعراب، قال أبو بكر محمد بن أحمد: بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد والأنساب والإعراب، انتهى. وهو مروي عن أبي علي الجياني.
الأمة" وهذا رواه ابن عساكر، عن الرازي المذكور بلفظ: "لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمة يحفظون آثار نبيهم وأنساب خلفهم كهذه الأمة".
وفي تاريخ ابن عساكر أيضًا، عنه:"لم يكن في أمة من الأمم أمة يحفظون آثار نبيهم غير هذه الأمة" فقيل له: ربما رووا حديثًا لا أصل له، قال علماؤهم: يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم للواهي للمعرفة ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار فيه وحفظوها.
وأخرج الحاكم، وأبو نعيم، وابن عساكر، عن علي مرفوعًا:"إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده؛ فإن يك حقًا كنتم شركاء في الأجر، وإن يكن باطلا كان وزره عليه"، وفيه شرف أصحاب الحديث، ورد على من كره كتابته من السلف، والنهي عنه في خبر آخر منسوخ أو مؤول.
"ومنها: أنهم أوتوا الأنساب" أي: معرفتها "والإعراب" أي: الإبانة والكلام الفصيح، وكل منهما مما يتنافس فيه المتنافسون، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منساة في الأثر"، رواه أحمد، والترمذي، والحاكم صحيحًا عن أبي هريرة، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم:"علم النسب علم لا ينفع، وجهالة لا تضر"، رواه أبو نعيم وغيره عن أبي هريرة؛ لأن المنهي عنه الاسترسال فيه، بحيث يشتغل به عما هو أهم منه، كما يفيده قوله:"وجهالة لا تضر".
أما علمه بقدر ما يصل به رحمه، فمحبوب مطلق، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، ثم انتهوا وتعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله، ثم انتهوا" رواه ان زنجويه.
"قال أبو بكر محمد بن أحمد" بن عبد الباقي، بن منصور البغدادي، الحافظ، الإمام، القدوة، كان فاضلا، حسن القراءة للحديث، ورعًا، ثبتًا، زاهدًا، ثقة، قائمًا باللغة، علامة في الأدب، مات في ثاني ربيع الأول، سنة تسع وثمانين وأربعمائة، "بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء، لم يعطها من قبلها من الأمم الإسناد، والأنساب والإعراب، انتهى، وهو مروي عن أبي علي" الإمام، الحافظ، الثبت، الحسين بن محمد الأندلسي، "الجياني" بفتح الجيم، والتحتية الثقيلة، ونون. بلدة كبيرة بالأندلس، ولد في محرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وأخذ
ومنها: أنهم أوتوا تصنيف الكتب، ذكره بعضهم.
ولا تزال طائفة منهم ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله. رواه الشيخان.
عن الباجي، وابن عتاب، وابن عبد البر، وخلق، ولم يخرج من الأندلس، وكان من جهابذة الحفاظ، بصيرًا باللغة، والعربية، والشعر، والأنساب صنف في كل ذلك، ورحل إليه الناس، وتصدر بجامع قرطبة، وأخذ عنه الأعلام مع التواضع والصيانة، توفي ليلة الجمعة، ثاني عشر شعبان، سنة ثمان وتسعين وأربعمائة.
"ومنها: أنهم أوتوا تصنيف الكتب، ذكره بعضهم" قال ابن العربي في شرح الترمذي: لم يكن قط في أمة من الأمم من انتهى إلى حد هذه الأمة من التصرف في التصنيف والتحقيق، ولا جاراها في مداها من التفريع والتدقيق، وتصنيف الكتب، وتدوين العلوم، وحفظ سنة نبيهم، أي: أقواله وأفعاله، فتدوين العلوم، وتصنيفها، وتقرير القواعد، وكثرة التفريع وفرض ما لم يقع، وبيان حكمه، وتفسير القرآن والسنة، واستخراج علوم الأدب، وتتبع كلام العرب أمر مندوب إليه، وأهله خير الخليقة.
وقال العراقي في شرح المحصول: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الواحد من أمته يحصل له في العمر القصير من العلوم والفهوم ما لم يحصل لأحد من الأمم السابقة في العمر الطويل، ولهذا تهيأ للمجتهدين من هذه الأمة من العلوم، والاستنباطات، والمعارف ما تقصر عنه أعمارهم انتهى.
وقال قتادة: أعطى الله هذه الأمة من الحفظ ما لم يعطه أحدًا من الأمم، خاصة خصهم بها، وكرامة أكرمهم بها، انتهى.
"ولا تزال طائفة منهم" أي: من أمة الإجابة "ظاهرين" أي: غالبين "على الحق" منصورين على من خالفهم، واحتمال أن المراد بالظهور الشهرة، وعدم الاستتار بعيد، "حتى يأتي أمر الله" وهو وقوع الآيات العظام التي يعقبها قيام الساعة، ولا يتخلف عنها إلا قليلا.
وفي مسلم عن جابر بن سمرة، رفعه:"لن يرح هذا الدين قائمًا، تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة"، أي: إلى قرب قيامها، أو المراد: تقوم ساعتهم وهي حين تأتي الريح فتقبض روح كل مؤمن، فلا تنافي بينه وبين خبر مسلم:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"، وخبر مسلم والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله". "رواه الشيخان" من حديث المغيرة بن شعبة، رفعه:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك".
قال البخاري في الصحيح: والطائفة أهل العلم، وقال النووي في التهذيب: حمله العلماء
ومنها: أن فيهم أقطابًا.
أو جمهورهم على أهل العلم، وقد دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"نضر الله امرأ، سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها". وجعلهم عدولا في حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالبين وانتحال المبطلين". وهذا إخبار منه بصيانة العلم وحفظه، وعدالة ناقليه، وأنه تعالى يوفق له في كل عصر عدولا يحملونه وينفون عنه، وهو من أعلام نبوته، ولا يضر معه كون بعض الفساق يعرفون شيئًا من العلم؛ لأن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرف منه شيئًا.
وقال النووي أيضًا: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع الأمة، ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومفسر، ومحدث، وقائم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم اجتماعهم في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وتفرقهم في الأقطار، وأن يكونوا في بعض دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله بقيام الساعة. انتهى.
وفيه معجزة بيته، فإن أهل السنة لم يزالوا ظاهرين في كل عصر إلى الآن، فمن حين ظهرت البدع على اختلاف نوفها من خوارج، ومعتزلة، ورافضة وغيرهم؛ لم يقم لأحد منهم دولة، ولم تستمر لهم شوكة، بل كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بنور الكتاب والسنة، وزعمت المتصوفة أن الإشارة إليهم، لأنهم لزموا الاتباع بالأحوال، وأغناهم الاتباع عن الابتداع.
"ومنها أن فيهم" أي: الأمة "أقطابًا" ولا يلزم منه تعددهم في زمن واحد، فلا يخالف قوله الآتي: والغوث واحد وتصريح غيره بأن القطب واحد كلما مات أبدل، قال اليافعي في الكفاية: سمي قطبًا لدورانه في جهات الدنيا الأربع كدوران الفلك في أفق السماء، وقد سترت أحوال القطب وهو الغوث عن العامة والخاصة غيره من الحق عليه غير أنه يرى عالمًا كجاهل وأبله كفطن آخذًا تاركًا قريبًا بعيدًا سهلا عسرًا آمنًا حذرًا. وقال غيره: الأقطاب جمع قطب وهو الخليفة الباطن وسيد أهل زمانه سمي قطبًا لجمعه جميع المقامات والأحوال ودورانها عليه مأخوذ من القطب، وهو الحديدة التي تدور عليها الرحى ولا يعرف القطب من الأولياء إلا القليل جدًا، بل قال جمع: لا يراه أحد إلا بصورة استعداد الرائين فإذا رآه لم يره حقيقة. وذهب قوم إلى أن مرتبة القطبانية ثقيلة جدًا قل أن يقيم فيها أحد أكثر من ثلاثة أيام، وجمع إلى أنها كغيرها من الولايات يقيم فيها صاحبها لا ينعزل إلا بموت، وأول من تقطب بعد النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة على ترتيبهم في الخلافة، ثم الحسن هذا ما عليه الجمهور، وذهب بعض الصوفية إلى أن أول من تقطب بعده ابنته فاطمة، قال بعضهم: ولم أره لغيره. وأول من تقطب بعد الصحابة عمر بن عبد العزيز، وإذا مات القطب خلفه أحد الإمامين لأنهما بمنزلة الوزيرين له أحدهما مقصور على
وأوتادًا ونجباء وأبدالا.
عن أنس مرفوعًا: "الأبدال أربعون رجلا
عالم الملكوت والآخر على عالم الملك، والأول أعلى مقامًا من الثاني. "وأوتادًا" أربعة في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون وهم العمد وهم حكم الجبال في الأرض، ولذا سموا أوتادًا يحفظ الله بأحدهم المشرق، والآخر المغرب، والآخر الجنوب، والآخر الشمال. وروى ابن عساكر من حديث علي الأوتاد من أبناء الكوفة، أي: أصلهم لا أنها مقرهم. وروى الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء أن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قومًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة لكن بحسن الخلق والنية وصدق الورع وسلامة القلوب للمسلمين والنصح لله في ابتغاء مرضاته بصبر وحلم ولب وتواضع في غير مذلة فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه، واستخلصهم لعلمه يدفع الله بهم المكاره عن الأرض والبلايا عن الناس وبهم يرزقون ويمطرون. قال الحكيم: فهؤلاء أمان هذه الأمة فإذا ماتوا أفسدت الأرض وخربت الدنيا؛ وذلك قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} "ونجباء" سبعون مسكنهم مصر ورتبتهم فوق النقباء ودون الأبدال على ما يأتي، "وأبدالا" بفتح الهمز جمع بدل سموا بذلك؛ لأنه إذا مات واحد أبدل مكانه آخر أو لأنهم أعطوا من القوة أن يتركوا بدلهم حيث يريدون، أي: أخلفوا صورة تحاكي صورتهم بحيث أن كل من رآها لا يشك في أنه هو، وهو لفظ مشترك يطلقونه على من تبدلت أوصافه الذميمة لمحمودة، ويطلقونه على عدد خاص مختلف في قدره، قاله ابن عربي. وأخرج الحاكم في كتاب الكنى له عن عطاء بن أبي رباح مرسلا، الأبدال من الموالي ولا يبغض الموالي إلا منافق، قال الحافظ ابن حجر في فتاويه: الأبدال ورد في عدة أخبار منها ما يصح وما لا. وأما القطب فورد في بعض الآثار، وأما الغوث بالوصف المشتهر بين الصوفية فلم يثبت، انتهى. عن أنس مرفوعًا:"ألإبدال أربعون رجلا" وفي حديث عبادة: ثلاثون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم، وكل منهم يعكر على قول الرافعي الأصح أنها سبعة، وقيل: أربعة عشر. وجمع بين الحديثين بأن ثلاثين منهم قلوبهم على قلب إبراهيم والعشرة ليسوا كذلك؛ كما صرح به خبر الحكيم الترمذي عن أبي هريرة؛ ومرده حديث ابن مسعود: "لا يزال أربعون رجلا من أمتي على قلب إبراهيم". وجمع بأن البدل له إطلاقًا كما يفيده الأحاديث في تخالف علاماتهم وصفاتهم أو أنهم يكونون في زمان أربعين وفي آخر ثلاثين، ورد بقوله: ولا الأربعون، أي: ينقصون كلما مات رجل
…
إلخ، أو أن تلك الأعداد اصطلاح لوقوع الخلاف في بعضهم كالأبدال فقد يكون في ذلك العدد نظروا إلى مراتب عبروا عنها بالأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد، وغير ذلك، والحديث نظر إلى مراتب أخرى والكل متفقون
وأربعون امرأة، كلما مات رجل أبدل الله رجلا مكانه، وإذا ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة". رواه الخلال في "كرامات الأولياء".
ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ: "لن تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، فبهم يسقون وبهم ينصرون
على وجود تلك الأعداد وبعد هذا لا يخفى، والأولى في الجمع بين الحديثين أن الإخبار بالثلاثين كان قبل أن يعلمه الله بالأربعين بدليل زيادة النساء في حديث أنس هذا، بقوله:"وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله رجلا مكانه وإذا ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة" فإذا كان عند قيام الساعة ماتوا جميعًا، "رواه" أبو محمد الحسن بن أبي طالب بن محمد بن الحسن بن علي "الخلال" بفتح الخاء المعجمة وشد اللام الحافظ البغدادي ولد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وسمع ابن شاذان وغيره وعنه الخطيب وعدة، قال الخطيب: كان ثقة خرج المسند على الصحيحين، مات سنة تسع وثلاثين وأربعمائة "في" كتابه المؤلف في "كرامات الأولياء" وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، ثم سرد أحاديث الأبدال وطعن فيها واحدًا، وحكم بوضعها وتعقبه السيوطي بأن خبر الإبدال صحيح وإن شئت قلت متواتر، وأطال في بيان ذلك مثل هذا بالغ حد التواتر المعنوي بحيث يقطع بصحة وجود الأبدال ضرورة، "ورواه" أي: حديث أنس "الطبراني في الأوسط" قال الحافظ نور الدين الهيثمي بإسناد حسن بلفظ: "لن" قال الطيبي لتأكيد النفي في المستقبل وتقريره "تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام" أي: انفتح لهم طريق إلى الله على طريق إبراهيم، وفي إيثار الرحمن والخلة مزيد مقام وإيماء إلى مناسبة المقام إذ من كان مرضيًا للرحمن حقه أن ينشأ عنه صفة الرحمة من نفع البلاد والعباد، "فبهم يسقون وبهم ينصرون" على الأعداء، أي: بوجودهم أو بدعائهم وهو الأظهر فقد فسره ابن مسعود ولتفسيره مزية لأنه أدرى بما يسمع روى أبو نعيم عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل في الخلق ثلاثمائة قلوبهم على قلب آدم ولله في الخلق أربعون قلوبهم على قلب موسى ولله سبعة في الخلق قلوبهم على قلب إبراهيم، ولله في الخالق خمسة قلوبهم على قلب جبريل، ولله في الخلق ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل، ولله واحد قلبه على قلب إسرافيل فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة، وإذا مات من الخمسة أبدل الله مكانه من السبعة، وإذا مات من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين، وإذا مات من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلاثمائة، وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله مكانه من العامة فيهم يحيي ويميت ويمطر وينبت ويرفع البلاء". قيل لابن مسعود: كيف يحيي ويميت؟ قال: لأنهم يسألون الله إكثار الأمم فيكثرون،
ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه آخر".
ورواه ابن عدي في كامله بلفظ: "البدلاء أربعون، اثنان وعشرون بالشام وثمانية عشر بالعراق، كلما مات منهم أحد بدل الله مكانه آخر، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم، فعند ذلك تقوم الساعة".
وكذا يروى كما عند أحمد في المسند، والخلال، من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا. "لا يزال في هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم خليل الرحمن، كلما مات واحد أبدل الله تعالى مكانه
ويدعون على الجبابرة فيقصمون، ويستقون فيسقون، ويسألون فتنبت الأرض، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء، قال في الفتوحات: معناه أنهم يتقلبون في المعارف الإلهية تقلب ذلك الشخص إذا كانت واردات العلوم الإلهية إنما ترد على القلوب فكل علم لم يرد على قلب ذلك الكبير من ملك أو رسول يرد على هذه القلوب التي هي على قلبه، وربما يقول بعضهم فلان على قدم فلان، ومعناه ما ذكر. وقال اليافعي في الكفاية عن بعض العارفين: الواحد الذي على قلب إسرافيل هو القطب ومكانه في الأولياء كالنقطة في الدائرة التي هي مركز لها به يقع صلاح العالم، وقال عن بعضهم: لم يذكر أن أحدًا على قلبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يخلق الله في عالم الخلق والأمم أعز وألف وأشرف من قلبه، فقلوب الأنبياء والملائكة والأولياء بالإضافة إلى قلبه كإضافة سائر الكواكب إلى كامل الشمس، انتهى. وهذا يرد قول ابن عربي أحد الأوتاد على قلبه عليه السلام، وله ركن الحجر الأسود "ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه آخر" بأن إقامته في التصرف الذي كان أمر به في حياته، فلا يرد أن الأولياء يتصرفون بعد موتهم بتصرفات خاصة تمكنوا منها وفعلوها لا لكونهم مأمورين بها لزوال التكليف بالموت، رواه ابن عدي في كامله بلفظ:"البدلاء أربعون اثنان وعشرون بالشام وثمانية عشر بالعراق، كلما مات منهم أحد أبدل الله مكانه آخر، فإذا جاء الأمر". قرب الساعة وهو الريح التي تأتي بقبض روح كل مؤمن ومؤمنة "قبضوا كلهم" وليس المراد بالأمر النفخة الأولى، لأن هؤلاء من خيار الخلق وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". رواه مسلم. وقال هنا: "فعند ذلك" أي: مجيء الأمر "تقوم الساعة" وجعل قيامها بعقب موتهم؛ لأنه يقرب من قيامها والقريب من الشيء يعده العرف عنده أو المراد ساعتهم كما مر نظيره، "وكذا يروى كما عند أحمد في المسند والخلال" نسبة إلى الخل المأكول "من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا" بإسناد حسن:"ولا يزال في هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم" وفي لفظ لأحمد من حديث عبادة: "الأبدال في هذه الأمة ثلاثون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم". "خليل الرحمن كلما مات واحد" وفي لفظة: رجل " أبدل الله تعالى
رجلا".
وفي لفظ الطبراني في الكبير: "بهم تقوم الأرض وبهم يمطرون وبهم ينصرون".
ولأبي نعيم في الحلية، عن ابن عمر رفعه:"خيار في كل قرن خمسمائة والأبدال أربعون، فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأربعون كلما مات رجل أبدل الله مكانه آخر، وهم في الأرض كلها".
وفي الحلية أيضًا عن ابن مسعود رفعه: "لا يزال أربعون رجلا من أمتي على
مكانه رجلا"، قيل: فلذا سموا أبدالا، وقيل: لأنهم بدلوا الأخلاق السيئة حسنة وراضوا أنفسهم حتى صارت محاسن أخلاقهم حلية أعمالهم، قال العارف المرسي: كنت جالسًا بين يدي أستأذي الشاذلي، فدخل جماعة فقال: هؤلاء أبدال فنظرت ببصيرتي فلم أرهم أبدالا فتحيرت، فقال الشيخ: من بدلت سيآته حسناته فهو بدل فعلمت أنه أول مراتب البدلية، وعند ابن عساكر أن ابن المثنى سأل أحمد بن حنبل: ما تقول في بشر بن الحارث؟ قال: رابع سبعة من الأبدال، وقال المرسي: جلت في الملكوت فرأيت أبا مدين معلقا بساق العرش رجل أشقر أزرق العين، فقلت: ما علومك وما مقامك؟ قال: علومي أحد سبعون علمًا ومقامي رابع الخلفاء ورأس الأبدال السبعة، قلت: فالشاذلي قال ذاك بحر لا يحاط به، فظاهر هذا كله أن مراتب الثلاثين مختلفة.
"وفي لفظ الطبراني في الكبير" بإسناد صحيح من حديث عبادة الأبدال: "في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض" أي: تعمر وينتظم أمر أهلها ببركتهم ودعائهم "وبهم يمطرون وبهم ينصرون على الأعداء". "ولأبي نعيم في الحلية" بإسناد ضعيف لا موضوع كما زعم ابن الجوزي والذهبي، فغاية ما في إسناده رجلان مجهولان، وذلك لا يقتضي اوضع بحال، "عن ابن عمر" بن الخطاب "رفعه:"خيار أمتي في كل قرن خمسمائة" من الناس "والأبدال أربعون" رجلا، "فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأربعون" ينقصون "كلما مات رجل أبدل الله مكانه آخر" وبقية هذا الحديث في الحلية، قالوا: يا رسول الله دلنا على أعمالهم؟ قال: "يعفون عمن ظلمهم ويحسنون إلى من أساء إليهم ويتواسون فيما أتاهم الله". "وهم في الأرض كلها" فلا يختص وجودهم بمكان دون آخر ويؤيد هذا ما رواه الحكيم الترمذي: "إن الأرض شكت إلى ربها انقطاع النبوة، فقال تعالى: فسوف أجعل على ظهرك أربعين صديقًا كلما مات منهم رجل أبدلت مكانه رجلا". ولا يعارضه حديث: "الأبدال بالشام" لجواز أنها مقرهم ولكن يتصرفون في الأرض كلها.
وفي الحلية أيضًا عن ابن مسعود رفعه: "لا يزال أربعون رجلا من أمتي على قلب
قلب إبراهيم، يدفع الله بهم عن أهل الأرض، يقال لهم الأبدال، إنهم لم يدركوها بصلاة ولا بصوم ولا بصدقة"، قال: فيما أدكروها يا رسول الله؟ قال: "بالسخاء والنصيحة للمسلمين".
إبراهيم" أي: على حال مثل قلبه، فتخصيصه وقلبه لإفادة الصبر على البلاء بذبح الولد الاحتساب بالمولى والرضا مع التلذذ بما يرضاه الحبيب والتحبب إلى الخلق والبذل والكرم، المبادرة إلى التكاليف بأصدق الهم. "يدفع الله بهم عن أهل الأرض". كلها وخبر: "الأبدال في أهل الشام وبهم ينصرون وبهم يرزقون"، رواه الطبراني بسند حسن عن عوف بن مالك ونحوه حديث علي عند أحمد لا يخالفه، لأن نصرتهم لمن هم في جوارهم أتم وإن كانت أعم. "يقال لهم الأبدال إنهم لم يدركوها بصلاة ولا بصوم ولا بصدقة". قال: فبم أدركوها يا رسول الله؟ قال: "بالسخاء والنصيحة للمسلمين". ولا يرد هذا على قول أبي طالب في قوله يصير الأبدال أبدالا بالصمت والعزلة والجوع والسهر؛ لأن من بهذه الصفات يتصف بالسخاء والنصيحة. ولابن أبي الدنيا عن علي، قلت: يا رسول الله صفهم لي؟ قال: "ليسوا بالمتنطعين ولا بالمبتدعين ولا بالمتعمقين لم ينالوا ما نالوا بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسخاء الأنفس وسلامة القلوب والنصيحة لأئمتهم". قال ابن عربي في كتاب حلية الأبدال: أخبرني صاحب لنا قال: بينا أنا ليلة في مصلاي قد أكملت وردي وجعلت رأسي بين ركبتي أذكر الله تعالى إذ أحسست بشخص قد نقض مصلاي من تحتي وبسط حصيرًا بدلها، وقال: صل عليه فداخلني منه فزع، فقال: من يأنس بالله لم يجزع، ثم قال: اتق الله في كل حال ثم ألهمت الصبر، فقلت: بماذا تصير الأبدال أبدالا؟ قال: بالأربعة التي ذكر أبو طالب في القوت الصمت والعزلة والجوع والسهر، ثم انصرف ولا أعرف كيف دخل ولا خرج وبابي مغلق. قال ابن عربي: وهذا رجل من الأبدال اسمه معاذ بن أشرس والأربعة المذكورة هي عماد هذا الطريق وقوامه زمن لا قدم له فيها ولا رسوخ فهو تائه عن طريق الله، قال: وإذا رحل البدن عن موضع ترك فيه بدله حقيقة روحانية تجتمع إليها أرواح أهل ذلك الموطن الذي رحل عنه هذا الولي، فإن ظهر شوق شديد من أناس ذلك الموطن لهذا الشخص تجسدت لهم تلك الحقيقة الروحانية التي تركها بدله فكلمتهم وكلموه وهو غائب عنهم، وقد يكون هذا في غير البدن لكن الفرق بينهما أن البدن يرجع ويعلم أنه ترك غيره، وغيره البدل لا يعرف ذلك وإن تركه، لأنه لم يحكم هذه الأربعة المذكورة، قال: وفي ذلك قلت:
يا من أراد منازل الأبدال
…
من غير قصد منه للأعمال
لا تطمعن بها فلست من أهلها
…
إن لم تزاحمهم على الأحوال
وعن معروف الكرخي: من قال اللهم ارحم أمة محمد في كل يوم كتبه الله من الأبدال. وهو في الحلية بلفظ: من قال في كل يوم عشر مرات اللهم أصلح أمة محمد، اللهم فرج عن أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد كتب في الأبدال.
وعن غيره قال: من علامة الأبدال أن لا يولد لهم، ويروى في مرفوع معضل:"علامة أبدال أمتي أنهم لا يلعنون شيئًا أبدًا".
واصمت بقلبك واعتزل عن كل من
…
يدينك من غير الحبيب الوالي
وإذا سهرت وجعت نلت مقامهم
…
وصحبتهم في الحل والترحال
بيت الولاية قسمت أركانه
…
ساداتنا فيه من الأبدال
ما بين صمت اعتزال دائم
…
والجوع والسهر النزيه العالي
"وعن معروف" بن فيروز "الكرخي" بفتح فسكون فخاء معجمة نسبة إلى كرخ ببغداد الإمام شيخ السلسلة، أستاذ السري السقطي، لم يكن في العراق من يربي المريدين في زمنه مثله، حتى عرف جميع المشايخ فضله، وكان ابن حنبل وابن معين يختلفان إليه يسألاه ولم يكن مثلهما في علم الظاهر، فيقال لهما مثلكما يفعل ذلك، فيقولان: كيف نفعل إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب الله ولا سنة رسوله، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"سلوا الصالحين". وكرامته كثيرة وكان يهدى إليه طيبات الطعام فيأكل، فقيل له: إن أخاك بشرا الحافي لا يأكل، فيقول: أخي قبضه الورع وأنا بسطتني المعرفة، إنما أنا ضيف في دار مولاي مهما أطعمني أكلت، مات سنة إحدى ومائتين. "من قال: اللهم ارحم أمة محمد في كل يوم كتبه الله من الأبدال" إن فعل الطاعات واجتنب المنهيات أو أن قائل ذلك وإن كان مرتكبًا للحرام، يوفق للتوبة النصوح إلى أن يكون منهم، ثم لا يلزم من كتبه منهم في الأجر كونه منهم حقيقة نحو حديث: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا"، وخبر: "أعطي أجر الشهيد" "وهو في الحلية" عن معروف "بلفظ من قال في كل يوم عشر مرات: اللهم أصلح أمة محمد، اللهم فرج عن أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد كتب من الأبدال" مصاحبة ووصفًا بحيث يحشر معهم لا ذاتًا، فلا ينافي أن قائل ذلك يكون منهم وإن ولدهم أولاد كثيرة "وعن غيره قال: من علامة الأبدال أن لا يولد لهم" لئلا يشغلوا عما أقيموا فيه، ولا يرد على ذلك الأنبياء ونحوهم لأن البدلاء لم يصلوا إلى مقامهم، "ويروى في مرفوع" إلى النبي صلى الله عليه وسلم "معضل" بأن سقط من سنده اثنان ففوق، وهذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء عن بكر بن خنيس بمعجمة، ونون ومهملة مصغر الكوفي صدوق له أغلاط قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "علامة أبدال أمتي أنهم لا يلعنون شيئًا" من المخلوقات "أبدًا" لأن اللعن: الطرد والبعد عن الله وهم إنما يقربون إلى الله ولا يبعدون عنه ويروى عن معاذ مرفوعًا: "ثلاث من كن فيه فهو من الأبدال الرضا
وقال يزيد بن هارون: الأبدال هم أهل العلم، وقال الإمام أحمد، إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم؟
وفي تاريخ بغداد للخطيب، عن الكتاني، قال: النقباء ثلاثمائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام.
بالقضاء والصبر عن محارم الله والغضب في ذات الله"، رواه الديلمي. "وقال يزيد" بتحتية أوله فزاي "ابن هارون" السلمي مولاهم أبو خالد الوسطى، ثقة متقن من رجال الجميع عابد، مات سنة ست ومائتين، وقد قارب التسعين "الأبدال هم أهل العلم" النافع، وهو علم الظاهر والباطن لا الظاهر وحده، "وقال أحمد" الإمام ابن حنبل: "إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم" قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في فضل الشام له: مراد أحمد بأصحاب الحديث من حفظه وعلمه وعمل به، فإنه نص أيضًا من عمل بالحديث لا من اقتصر على طلبه، ولا ريب أن من علم سنن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل بها وعلمها الناس، فهو من خلفاء الرسل وورثة الأنبياء ولا أحد أحق بأن يكون من الأبدال منه، انتهى. وقال غيره مراده من هو مثله ممن جمع بين علمي الظاهر والباطن، وأحاط بالأحكام والحكم والمعارف كسائر الأئمة الأربعة ونظرائهم، فهؤلاء خيار الأبدال والنجباء والأوتاد، فاحذر أن يسوء بأحد منهم وأن يسول لك الشيطان، ومن استولى عليه ممن لم يهتد بنور المعرفة إن المجتهدين لم يبلغوا تلك المرتبة، وقد اتفقوا على أن الشافعي كان من الأوتاد، وقيل: إنه تقطب قبل موته، "وفي تاريخ بغداد للخطيب" وتاريخ الشام لابن عساكر كلاهما، "عن الكتاني" بالفتح والفوقية نسبة إلى الكتان، وعمله الإمام المحدث المتقن أبي محمد عبد العزيز بن محمد بن علي التميمي الدمشقي محدث دمشق، ومفيدها سمع الكثير وألف وجمع. قال الذهبي: ويحتمل أن يوصف بالحفظ في زمنه، ولو وجد في زماننا لعد في الحفاظ. وقال ابن الأثير: حافظ كبير متقن: روى عن تمام بن محمد وغيره وعنه الخطيب وابن ماكولا وغيرهما، مات سنة تسع وثمانين وثلاثمائة "قال: النقباء ثلاثمائة" لعلهم الذين قال فيهم: قلوبهم على قلب آدم، "والنجباء سبعون والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة" وهم الأوتاد "والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب ومسكن النجباء مصر" المدينة المعروفة، فلا تصرف كقوله: {ادْخُلُوا مِصْرَ} ، "ومسكن الأبدال الشام" أي: أكثرهم فلا يخالف ما مر أن ثمانية عشر بالعراق إن صح، ثم المراد محل إقامتهم، فلا ينافي تصرفهم في الأرض كلها كما مر في حديث: "وهم في الأرض"، "والأخيار سياحون في الأرض" لا يستقرون بمكان، "والعمد" الأوتاد "في زوايا الأرض، أي: جهاتها الأربع" واحد بالمشرق وآخر بالمغرب، وآخر بالجنوب، وآخر بالشمال. قال ابن عربي: ولكل ركن من البيت، ويكون على قلب
ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فلا تتم مسألته حتى تجاب دعوته، انتهى.
ومنها أنهم يدخلون قبورهم بذنوبهم، ويخرجون منها.
إبراهيم العراق وقلب عيسى اليماني وقلب محمد له ركن الحجر الأسود. كذا قال وهو مخالف لما سبق أن قلب المصطفى لا يضارعه أحد، فلذا لم يذكر أن أحدًا على قلبه "ومسكن الغوث" وهو القطب الفرد الجامع "مكة" وقيل اليمن، رواه ابن عساكر عن أبي سليمان الداراني، والأصح أن إقامته لا تختص بمكة ولا بغيرها، بل جوال وقلبه طواف في حضرة الحق يقدس لا يخرج من حضرته أبدًا، ويشهده في كل جهة ومن كل جهة مما جاء فيه كما قال بعض المحدثين: خبر أبي نعيم مرفوعًا: "إن لله تعالى في كل بدعة كيد بها الإسلام وأهله، وليًا صالحًا يذب عنه ويتكلم بعلاماته، فاغتنموا حضور تلك المجالس بالذب عن الضعفاء وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلا". "فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء، ثم النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العمد فإن أجيبوا" بخصوص تلك الحاجة "وإلا ابتهل الغوث" فلا يخاف ما ورد أن دعوة المؤمن لا ترد، لا سيما وحال هؤلاء يقتضي إجابة دعائهم دائمًا، إلا أن الإجابة قد تكون بخصوص المسئول وقد تكون بغيره، قد تدخر للقيامة، وقد تؤخر الإجابة فتشد الضرورة لحصول المطلوب في ذلك الوقت، فيبتهل الغوث لتنجيز المسئول دفعًا للضرورة ما أمكن، "فلا تتم مسألته حتى تجاب دعوته" لطفًا من الله بعباده، وقد زعم ابن الجوزي أن أحاديث الأبدال كلها موضوعة، ونازعه السيوطي، وقال: خبر الأبدال صحيح وإن شئت قلت: متواترًا يعني: تواترا معنويًّا كما أشار إليه بعده. وقال السخاوي له طرق عن أنس بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة، ثم ساق ما ذكره المصنف وزيادة، ثم قال: وأحسن مما تقدم ما رواه أحمد من حديث شريح، يعني: ابن عبيد قال: ذكر أهل الشام عند علي وهو بالعراق، فقالوا: العنهم يا أمير المؤمنين، قال: لا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "البدلاء يكونون بالشام، وهم أربعون رجلا، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا يستقي بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام العذاب". رجاله من رواة الصحيح إلا شريحًا، وهو ثقة، انتهى. وقال السيوطي حديث أخرجه أحمد والطبراني، والحاكم من طرق أكثر من عشرة، انتهى. قال السخاوي: ومما يقوي الحديث ويدل لانتشاره بين الأئمة، قول الشافعي في بعضهم: كنا نعده من الأبدال، وقول البخاري في غيره كانوا لا يشكون أنه من الأبدال، وكذا وصف غيرهما من النقاد والحفاظ والأئمة غير واحد بأنهم من الأبدال، ويقال: ما تغرب الشمس يومًا ويطوف بالبيت رجل من الأبدال، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا ويطوف به واحد من الأوتاد، وإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض.
"ومنها: أنهم يدخلون قبورهم بذنوبهم" غير معرضين عنها ولا تائبين، "ويخرجون منها
بلا ذنوب، تمحص عنهم باستغفار المؤمنين لهم. رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمة مرحومة تدخل قبورها بذنوبها، وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تمحص عنها باستغفار المؤمنين لها
بلا ذنوب تمحص عنهم باستغفار المؤمنين لهم"بيان لسبب خروجهم بلا ذنوب، كأنه قال: لأنها تمحص عنهم بسبب طلب المغفرة لهم، والتمحيص تنقيص الشيء شيئًا فشيئًا إلى أن يذهب، فاستغفار المؤمنين يزيل الذنوب شيئًا فشيئًا، حتى تذهب، فيخرج من قبره طاهرًا منها، وقد يكون بحسابه في قبره، ويستوفي منه فيه إما بعقابه على جميعها، أو على بعضها، مع العفو عن باقيها، فيخرج أيضًا طاهرًا منها.
قال الحكيم الترمذي: إنما حوسب المؤمن في قبره ليكون أهون عليه في الموقف، فتمحص ذنوبه في البرزخ، فيخرج منه، وقد اقتص منه، وأيضًا لسرهم في المحشر حيث لم يكن عليهم ما يفتضحون به على رءوس الأشهاد، "رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمتي" أي: أمة الإجابة "أمة مرحومة" من الله، أو من بعضهم لبعض، مغفور لها من بارئها، متوب عليها من الله، بمعنى: أنه لا يتركا مصرة على الذنب، ورواه ابن ماجه والبيهقي في البعث، بلفظ: "إن هذه الأمة مرحومة". "تدخل قبورها بذنوبها" والروايتان متفقتان معنى في صدر الحديث، ولفظًا ومعنى في باقيه، "وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تمحص عنها باستغفار المؤمنين لها" فنزول جميعها حقيقة أو حكمًا بزوال معظمها للأدلة القطعية أنه لا بد من دخول طائفة من عصاة هذه الأمة النار، لكنه لما قل بالنسبة لما ذهب نزل منزلة العدم، حتى كأنها غفرت جميعها.
وروى أبو داود وغيره: "أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، إنما عذابها في الدنيا في الفتن، والزلازل، والقتل، والبلايا"، ونفي عذابها في الآخرة، بمعنى أن من عذب منهم لا يحس بألم النار إلا قليلا؛ كما ورد مرفوعًا:"إذا أدخل الموحدين النار أماتهم فيها إماتة، فإذا أراد أن يخرجهم منها أمسهم ألم العذاب تلك الساعة"، رواه الديلمي ولخفة ألمها، قال صلى الله عليه وسلم:"إنما حر جهنم على أمتي كحر الحمام". رواه الطبراني برجال ثقات، ولا تناقض بين الخبرين؛ لأنها تكون عليهم عند إحيائهم، والأمر بإخراجهم كحر الحمام اللطيف الذي لا يؤذي الجسم ولا يوهنه.
وروى الدارقطني عن ابن عباس رفعه: "إن حظ أمتي من النار طول بلائها تحت التراب" وزعم أن المراد لا عذاب عليها في عموم الأعضاء؛ لأن أعضاء الوضوء لا تمسها النار تكلف مستغنى عنه، وقوله:"الفتن"، أي: الحروب والهرج بينهم، والبلايا التي منها استيفاء الحد ممن فعل موجبه، وعجلت العقوبة على الذنب في الدنيا؛ لأن شأن الأمم السالفة كان يجري على
ومنها أنهم اختصوا في الآخرة بأنهم أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم. رواه أبو نعيم عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: "وأنا أول من تنشق الأرض عني وعن أمتي ولا فخر".
ومنها: أنهم يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء، رواه البخاري.
والغرة: بياض في وجه الفرس. والتحجيل: بياض في قوائمه وذلك مما يكسبه حسنًا وجمالا.
فشبه صلى الله عليه وسلم النور الذي يكون يوم القيامة في أعضاء الوضوء بالغرة والتحجيل، ليفهم أن هذا البياض في أعضاء الإنسان مما يزينه لا مما يشينه، يعني أنهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، أو كانوا على هذه الصفة.
سبيل العدل وأساس الربوبية، وشأن هذه الأمة يجري على نهج الفضل، فمن ثم ظهر في بني إسرائيل السياحة والرهبانية، وعليهم في شريعتهم الأغلال والآصار، وظهرت في هذه الأمة السماحة، ففك عنهم الأغلال، ووضع عنهم الآصار؛ كما مر.
"ومنها: أنهم اختصوا في الآخرة؛ بأنهم أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم" بعد الأنبياء، "رواه أبو نعيم عن ابن عباس، مرفوعًا" في حديث، "بلفظ:"وأنا أول من تنشق الأرض عني"، قيل الأنبياء، وعن أمتي" قبل الأمم، "ولا فخر" أعظم من ذلك، أو لا أقول ذلك، افتخارًا، بل تحدثا بالنعمة.
"ومنها: أنهم يدعون يوم القيامة" إلى موقف الحساب، أو الميزان، أو الصراط، أو الحوض، أو غير ذلك "غرًا" بضم المعجمة والتشديد: جمع أغر، أي: ذي غرة "محجلين من آثار الوضوء" رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، "والغرة بياض في وجه" أي: جبهة "الفرس" فوق الدرهم "والتحجيل" أصله من الحجل، بكسر الحاء: الخلخال، "بياض في قوائمه" الأربع، أو في ثلاث منها أو في غيرها، "وذلك مما يكسبه حسنًا وجمالا، فشبه صلى الله عليه وسلم النور الذي يكون يوم القيامة في أعضاء الوضوء بالغرة والتحجيل، ليفهم أن هذا البياض في أعضاء الإنسان مما يزينه" بفتح أوله "لا مما يشينه" دفعًا لتوهم البرص لو قال: يدعون بيضًا مثلا، "يعني: أنهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف" بأن يقال لهم: يا غر يا محجلون، "أو كانا على هذه الصفة" وهي النور الكائن في أعضائهم، وإن نودوا بأسمائهم، وظاهره حجة للشافعي من ندب إطالة الغرة بغسل زائد على ما وجب من اليدين والرجلين ومع الوجه مقدم الرأس، وصفحة العنق، وذهب الأئمة الثلاثة
ومنها أنهم يكونون في الموقف على مكان عال. رواه ابن جرير وابن مردويه من حديث جابر مرفوعًا بلفظ: "أنا وأمتي على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد له أنه بلغ رسالة ربه".
وعند ابن مردويه من حديث كعب قال صلى الله عليه وسلم: "أنا وأمتي على تل".
ومنها: أن لهم سيما في وجوههم من أثر السجود. قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] . وهل هذه العلامة في الدنيا أو في الآخرة؟، فيه قولان:
أحدهما: أنها في الدنيا، قال ابن عباس في رواية أبي طلحة: السمت الحسن. وقال في رواية مجاهد: ليست السيمات بالتي ترون، هي سمة الإسلام وسيماه وخشوعه.
إلى عدم ندب ذلك، وأولوا الإطالة في قوله:"فمن استطاع منكم أن يطيل غرته، فليفعل بإدامة الوضوء".
"ومنها: أنهم يكونون في الموقف" مع نبيهم "على مكان عال" عبر عنه في الحديث تارة بكوم، وأخرى بتل، "رواه ابن جرير، وابن مردويه، من حديث جابر، مرفوعًا بلفظ: "أنا وأمتي" نكون "على كوم" فهو صلة محذوف، "مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ود" تمنى "أنه منا" لنيل هذا المقام والاستراحة، مما في الموقف من الزحام، "وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد له أنه بلغ رسالة ربه" كما قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] الآية، قال ابن عد السلام: وهذه خصوصية لم تثبت لغيرهم.
"وعند ابن مردويه من حديث كعب" من مالك الأنصاري، قال صلى الله عليه وسلم:"أنا وأمتي على تل" مكان عال، زاد في الأنموذج: ولهم نوران كالأنبياء، وليس لغيرهم إلا نور واحد.
"ومنها: أن لهم سيما" فعلى من سامه إذا أعلمه، وقد قرئت ممدودة، "في وجوههم من أثر السجود، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ} علامتهم مبتدأ {فِي وُجُوهِهِمْ} ، خبره {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} متعلق بما علق به الخبر، أي: كائنة، وأعرب حالًا من ضميره المنتقل إلى الخبر، "وهل هذه العلامة في الدنيا أو في الآخرة، فيه قولان، أحدهما: أنها في الدنيا".
"قال ابن عباس في رواية أبي طلحة" عنه: هي "السمت الحسن" أي: السكينة والوقار، "وقال" ابن عباس "في رواية مجاهد" عنه:"ليست السيمات بالتي ترون" من الأثر في جباه الساجدين، بل "هي سمة الإسلام، وسيماه وخشوعه"، وفي البيضاوي تفسيرها بالأثر،
وقيل: الصفرة في الوجه من أثر السجود، فتحسبهم مرضى وما هم بمرضى.
والقول الثاني: أنه في الآخرة يعني أن مواضع السجود من وجوههم تكون أشد بياضًا يوم القيامة، يعرفون بتلك العلامة أنهم سجدوا في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وعن شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر.
قال: يريد السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود، "وقيل" هي "الصفرة في الوجه من أثر السجود، فتحسبهم مرضى وما هم بمرضى" وذلك محمود بخلاف ما إذا لم يكن للغير سجود ولا علة.
روى أبو نعيم في الطب، عن أنس، رفعه:"إذا رأيتم الرجل أصفر الوجه من غير مرض ولا عبادة فذاك من غش الإسلام في قلبه" وروى الديلمي عن ابن عباس مرفوعًا: "احذروا صفر الوجوه؛ فإنه لم يكن من علة أو سهر، فإنه من غل في قلوبهم للمسلمين".
"والقول الثاني: أنه في الآخرة، يعني: أن مواضع السجود من وجوههم تكون أشد بياضًا يوم القيامة" من بقية أجسادهم، "يعرفون بتلك العلامة؛ أنهم سجدوا في الدنيا، رواه العوفي" بفتح المهملة، وسكون الواو، وبالفاء عطية بن سعد بن جنادة، بضم الجيم، بعدها نون خفيفة، أبو الحسن الكوفي، صدوق، يخطئ كثيرًا، وكان شيعيًا مدلسًا، مات سنة إحدى عشرة ومائة، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي، وهو المراد عند الإطلاق؛ كما في الأنساب من التقريب، فليس المراد به يحيى بن يعمر، قاضي مرو، كما توهم من قول اللباب، يروي عن ابن عباس وابن عمر، "عن ابن عباس، وروى "عن شهر بن حوشب" الأشعري، الشامي، مولى أسماء بنت يزيد بن السكن، تابعي، صدوق: كثير الإرسال والأوهان، مات سنة اثنتي عشرة ومائة، روى له مسلم وأصحاب السنن: "تكون" يوم القيامة "مواضع السجود من وجوههم، كالقمر ليلة البدر" وأيد ذ القول بقوله صلى الله عليه وسلم:"أمتي يوم القيامة غر من السجود، محجلون من الوضوء"، رواه الترمذي عن عبد الله بن بسر، بضم الموحدة، وسكون المهملة، أي: من أثر سجودهم في الصلاة، أثر وضوئهم في الدنيا، وقد سجدت الأمم قبلهم، فلم يظهر على جباههم ذلك النور، وتطهروا فلم يظهر على أطرافهم من ذلك شيء، فهو علامة هذه الأمة في الموقف، بها يعرفون، ذكره الحكيم الترمذي.
ولا تنافي بين هذا الحديث وبين حديث الصحيحين: "أن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء" لأن وجه المؤمن يكسى في القيامة نورًا من أثر السجود، ونورًا من أثر الوضوء، نور على نور، فمن كان أكثر نورًا، وأكثر وضوءا في الدنيا، كان وجهه أعظم ضياء
وقال عطاء الخراساني: ودخل في هذه الآية من حافظ على الصلوات الخمس.
ومنها أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم. رواه البزار.
ومنها: أن نورهم يسعى بين أيديهم. أخرجه أحمد بإسناد صحيح.
ومنها: أن لهم ما سعوا، وما يسعى لهم، وليس لمن قبلهم إلا ما سعى، قاله عكرمة.
وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، ففيها
وأشد إشراقًا من غيره، فيكونون فيه على مراتب في عظم النور والأنوار لا تتزاحم، ألا ترى أنه لو أدخل سراج في بيت ملأه نورًا، فإذا أدخل فيه آخر وآخر تزايد النور، ولا يزاحم الثاني الأول، ولا الثالث الثاني، وهكذا.
"وقال عطاء" بن أبي مسلم أبو عثمان "الخراساني" واسم أبيه ميسرة، وقيل: عبد الله صدوق، يهم كثيرًا ويرسل ويدلس، مات سنة خمس وثلاثين ومائة، روى له النسائي وابن ماجه ولم يصح أن البخاري أخرج له:"ودخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس" فليس المراد النوافل فقط، فما تقرب متقرب إلى الله بأحب من أداء ما افترضه عليه.
"ومنها: أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، رواه البزار" وغيره.
"ومنها: أن نورهم يسعى بين أيديهم" أمامهم على الصراط، ويكون بإيمانهم، قال تعالى:{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] الآية، أي: إلى الجنة، "أخرجه أحمد بإسناد صحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إني لأعرف أمتي يوم القيامة من بين الأمم، أعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم"، زاد الأنموذج:"ويمرون على الصراط كالبرق والريح، ويشفع محسنهم في مسيئهم".
"ومنها: أن لهم ما سعوا" أي: عملوا، فكتب لهم ثواب أعمالهم، "وما يسعى لهم" أ: يعمل لأجلهم من صدقة ودعاء وغيرهما على ما يأتي، "وليس لمن قبلهم إلا ما سعى، قاله عكرمة" رواه ابن أبي حاتم وغيره عنه.
"وما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} قال البيضاوي: إلا سعيه، أي: كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير، لا يثاب بفعله، وما جاء في الأخبار من أن الصدقة والحج ينفعان الميت، فلكون الناوي له كالنائب عنه، "ففيها" أي: ففي الجواب عنها
أجوبة:
أحدها: أنها منسوخة، روي ذلك عن ابن عباس، نسخها قوله تعالى:{وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] ، فجعل الولد الطفل في ميزان أبيه، ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء، والأبناء في الآباء، بدليل قوله تعالى:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] .
"أجوبة" فالظرفية هنا اعتبارية، فلا يقال كان المتبادر فعنها، وليس من معاني عن في، فلا ترد بمعناها، فقد ذكر صاحب المغني جملة ما ذكر لعن عشرة معان ليس فيه ورودها بمعنى في، "أحدها: أنها منسوخة، روى ذلك عن ابن عباس نسخها، قوله تعالى" {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ} معطوف على آمنوا {ذُرِّيَّتُهُمْ} الكبار والصغار {بِإِيمَانٍ} من الكبار ومن الآباء في الصغار، ثم الذين آمنوا مبتدأ، والخبر قوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُْ} الآية، المذكورين في الجنة، فيكونون في درجتهم وإن لم يعملوا بعملهم تكرمة للآباء باجتماع الأولاد إليهم، "فجعل الولد الطفل في ميزان أبيه" أي: في درجته أو في دخول الجنة، "ويشفع الله تعالى للآباء في الأبناء، والأبناء في الآباء" أي: يأذن لكل منهم في الشفاعة فيشفع، وإذا شفع قبل شفاعته، "بدليل قوله تعالى:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} مبتدأ، خبره {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} الآية، في الدنيا والآخرة، فظان أن ابنه أنفع له فيعطيه الميراث فيكون الأب أنفع وبالعكس، وإنما العالم هو الله تعالى، ففرض لكم الميراث.
أخرج ابن مردويه، وصححه الضياء المقدسي، عن ابن عباس، رفعه:"إذا دخل الرجل الجنة، سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك أو عملك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بالإلحاق به"، وأخرجه الطبراني، والبزار، وأبو نعيم، عن ابن عباس مرفوعًا، بلفظ:"ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه"، ثم قرأ:{وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية، إلى قوله:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ، قال: ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين هذا، وقد ضعف ابن عطية هذا القول بالنسخ، بأن قوله:{وَأَنْ لَيَسَ} الآية خبر، والخبر لا ينسخ؛ ولأن شروط النسخ ليس هنا، قال: اللهم إلا أن يتجوز في لفظ النسخ، وقال ابن القيم في كتاب الروح: ذهبت طائفة إلى أنها منسوخة.
وروي عن ابن عباس، وهو ضعيف، ولا يرفع حكم الآية بمجرد قول ابن عباس ولا غيره أنها منسوخة، قال: والجمع بين الآيتين غير متعذر؛ كذا قال: وفيه أنه إن صح ما روي عن ابن عباس، كان حكمه الرفع؛ لأنه لا مجال للرأي فيه.
الثاني: أنها مخصوصة بالكافر، وأما المؤمن فله ما سعى غيره. قال القرطبي: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، وقال صلى الله عليه وسلم للذي حج عنه غيره:"حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، وعن عائشة أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه.
وقال سعد للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت.
"الثاني: أنها مخصوصة بالكافر" أي: كافرًا وكافر مخصوص اختلف فيه على ما يأتي، "وأما المؤمن، فله ما سعى" أي: عمل "غيره" عنه بنيته على تفصيل وخلاف مقرر في الفروع.
"قال القرطبي: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره" عنه بالنية، "وفي الصحيح" للبخاري ومسلم عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من مات" عام في المكلفين بقرينة قوله: "وعليه صيام" وهذا لفظ الصحيحين، ولم يصب من عزاه لهما بلفظ صوم، "صام عنه" ولو بغير إذنه، "وليه" جوازًا لا لزومًا، وإليه ذهب الشافعي في القديم وعمل به الجمهور.
وقال في الجديد: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك: لا يجوز الصوم عن الميت؛ لأنه عبادة بدنية، والمراد بوليه على الأول كل قريب أو الوارث أو عصبته، وخرج الأجنبي، فإنما يصوم بإذنه أو وليه بأجر أو دونه.
"وقال صلى الله عليه وسلم للذي حج عن غيره" كما روى أبو داود، وابن ماجه، برجال ثقات، ن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال:"من شبرمة"؟ فقال: أخ أو قريب لي، قال:"حججت عن نفسك"؟ قال: لا، قال:"حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة" بضم الشين المعجمة، وإسكان الموحدة، وضم الراء، قال الحافظ في تخريج أحاديث الشرح الكبير: زعم ابن باطيس أن اسم الملبي تبيشة، ومن النوادر أن بعض القضاة ممن أدركنا صحف شبرمة، فقال: شبرمنت، بلفظ القرية التي بالجيزة، انتهى، فمن عليه حج الفرض لا يصح حجه عن غيره، فإن أحرم عنه وقع عن نفسه وعليه الشافعي، وصححه أبو حنيفة ومالك مع الكراهة، والجمهور على كراهة إجارة الإنسان نفسه للحج، لكن حمل على قصد الدنيا، أما لقصد الآخرة لاحتياجه للأجرة ليصرفها في واجب أو مندوب، فلا.
وعن عائشة: أنها اعتكفت عن أخيها" شقيقها "عبد الرحمن، وأعتق عنه" بعد موته فجأة، سنة ثلاث وخمسين، وقيل بعدها في طريق مكة، "وقال سعد" بن عبادة سيد الخزرج "للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي" عمرة بنت مسعود الصحابية "توفيت" سنة خمس والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة
أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم"، قال: فأي الصدقة أفضل؟، قال:"سقي الماء".
وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته أنها حدثته عن جدته: أنها جعلت على نفسها مشيًا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس: أنها تمشي عنها.
ومن المفسرين من قال: إن "الإنسان" في الآية، أبو جهل، ومنهم من قال: عقبة بن أبي معيط، ومنهم من قال: الوليد بن المغيرة، ومنهم من قال: إخبار عن شرع من قبلنا
دومة الجندل في شهر ربيع ومعه سعد، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتى قبرها، فصلى عليها، ذكره سعد، "أفأتصدق عنها، قال: "نعم"، قال: أي الصدقة أفضل؟ قال: "سقي الماء" ولعله كان وقت السؤال، الناس أحوج إلى الماء من غيره لقلته في ذلك الموضع، أو لشدة حرارته، كما هو الغالب في الحجاز، وإلا فالصدقة بالطعام وإن قل عند كثرة الماء وتيسره أفضل والنبي صلى الله عليه وسلم سيد الحكماء، فيجيب كل سائل بما هو الأفضل في حقه.
قال ابن القيم في كتاب الروح: وأفضل الصدقة ما صادف حاجة من المتصدق عليه، وكان دائمًا مستمرًا، ومنه قوله:"أفضل الصدقة سقي الماء" وهذا في موضع يقل فيه الماء، ويكثر العطش، وإلا فسقي الماء على الأنهار والقنى لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة.
"وفي الموطأ" للإمام مالك، "عن عبد الله بن أبي بكر" بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، المدني القاضي، مات سنة خمس وثلاثين ومائة، وهو ابن سبعين سنة، "عن عمته" أم كلثوم أو أم عمرو، فهي عمته الحقيقية لا المجازية التي هي عمرة بنت حزم جد عبد الله الصحابية؛ لأنه لم يدركها؛ "أنها حدته عن جدته؛ أنها جعلت على نفسها مشيًا إلى مسجد قباء، فماتت ولم تقضه" أي: لم تفعله، "فأفتى عبد الله بن عباس أنها تمشي عنها" ففي هذا كله دلالة على أن للمؤمن ما سعى غيره، لكن هذا مذهب صحابي، وقد عقبه في الموطأ بقوله: قال يحيى: سمعت مالكًا يقول: لا يمشي أحد عن أحد، على أن الراجح أن من نذر مشيًا إلى غير بيت الله الحرام وما ألحق به، لا يجب عليه لا لعبادة ولا لغيره عند الشافعية، وقال مالك: من نذر المشي إلى المدينة أو إيلياء فليس عليه ذلك إلا أن ينوي صلاة بمسجديهما، فيركب.
"ومن المفسرين من قال: إن الإنسان في الآية أبو جهل" فرعون هذه الأمة، "ومنهم من قال: عقبة بن أبي معيط" الكافر المقتول بعد انصرافهم من بدر صبرًا، "ومنهم من قال: الوليد بن المغيرة" الميت على كفره قبل وقعة بدر، فعمومها على هذه الأقوال مخصوص بواحد مختلف في تعيينه، "ومنهم من قال" الآية "إخبار عن شرع من قبلنا" لأن قبلها أم لم ينبأ بما في صحف موسى
وقد دل شرعنا على أن الإنسان له سعيه، وما سعى له، ومنهم من قال: الإنسان بسعيه في الخير وحسن صحبته وعشرته اكتسب الأصحاب، وأهدى لهم الخير وتودد إليهم فصار ثوابهم له بعد موته من سعيه.
ومنهم من قال "الإنسان" في الآية للحي دون الميت. ومنهم من قال: لم ينف في الآية انتفاع الرجل بسعي غيره له، وإنما نفي ملكه لسعي غيره، وبين الأمرين فرق:
فقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} : فإن
وإبراهيم، "وقد دل شرعنا على أن الإنسان له سعيه وما سعى له" وهذا قول عكرمة.
"ومنهم من قال: الإنسان بسعيه في الخير، وحسن صحبته وعشرته اكتسب الأصحاب" أي: تسبب في وقوع الصحبة بينه وبين غيره، "وأهدى لهم الخير، وتودد إليهم، فصار ثوابهم له بعد موته من سعيه" لأن الدال على الخير كفاعله، وقد انتفع أصحابه منه بمعرفة الخصال الحميدة، فعملوا بها فحصل له بتسببه في حصول ذلك لهم مثل ثواب ما عملوه.
"ومنهم من قال: الإنسان في الآية للحي دون الميت" يعني إن الحي لا يسقط عنه الحج مثلًا ما دام حيًا، يحج غيره عنه بخلاف ما لو فعل عنه بعد موته، فينفعه عند هذا القول.
قال ابن القيم في كتاب الروح: وهذا أيضًا من النمط الأول في الفساد، وكله من سوء التصرف في اللفظ العام، وصاحب هذا التصرف لا ينفذ تصرفه في دلالات الألفاظ وحملها على خلاف موضوعها وما يتبادر إلى الذهن منها، وهو تصرف فاسد قطعًا، يبطله السياق والاعتبار، وقواعد الشرع وأدلته وعرفه، وسبب هذا التصرف السيئ أن صاحبه يعتقد قولا، ثم يرد كل ما دل على خلافه بأي طريق اتفقت له، فالأدلة المخالفة له كالصائل لا يبالي بأي شيء دفعه، وأدلة الحق لا تتعارض ولا تتناقض، بل يصدق بعضها بعضًا، انتهى.
"ومنهم من قال: لم ينف في الآية انتفاع الرجل بسعي غيره له، وإنما نفى ملكه لسعي غيره"، لأن قاتل ذلك يرى أن اللام في الإنسان للملك، وو أخص من مجرد انتفاع الإنسان بمال غيره، وهو المراد هنا؛ فمن تصدق عن غيره مثلا بمال لا يصير المال مقصورا نفعه على من تصدق عنه، بحيث ينتفي ثوابه بالكلية عن المتصدق، وإليه أشار بقوله:"وبين الأمرين فرق" وإذا أردت بيانه، "فقال الزمخشري" ما يفيده "في قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ، فإن قلت: أما صح في الأخبار الصدقة عن الميت والحج عنه"، وهما سعي غيره؟ "قلت: فيه جوابان".
قلت: أما صح في الأخبار الصدقة عن الميت والحج عنه؟ قلت: فيه جوابان.
أحدهما: إن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيًا على سعي نفسه، وهو أن يكون مؤمنًا مصدقًا، كان سعي غيره كأنه سعي نفسه لكونه تبعًا له، وقائمًا مقامه.
والثاني: إن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه له فهو في حكم الشرع كالنائب عنه، والوكيل القائم مقامه.
والصحيح من الأجوبة أن قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ، عام مخصوص بما تقدم من الأجوبة.
وقد اختلف العلماء في ثواب القراءة، هل يصل للميت؟
"أحدهما: أن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيًا على سعي نفسه، وهو أن يكون مؤمنًا مصدقًا" فالصدقة على الكافر ونحوها لا تنفعه، بل يحرم على المسلم فعل ذلك عنه، وإنما تنفعه الصدقة ونحوها إذا كان مسلمًا، فهو أس، وسبب في حصول فعل غيره له، فذلك "كان سعي غيره كأنه سعي نفسه؛ لكونه تبعًا له وقائمًا مقامه" أي: موجود الأجل وجود الإيمان منه، فنزل إيمانه الذي هو سبب في حصول ذلك له منزلة ما لو تصدق هو عن نفسه.
"والثاني: أن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه" أي: الغير، "ولكن إذا نواه له، فهو في حكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه" فيصل ثوابه إليه تنزيلا له منزلة المتصدق، واستبعده إمام الحرمين؛ بأنه لم يأمر به، وأوله بأنه يقع عن المتصدق، وينال الميت ببركته، ورده ابن عبد السلام؛ بأن ما ذكروه من وقوع الصدقة نفسها عن الميت حتى يكتب له ثوابها هو ظاهر السنة، "والصحيح من الأجوبة إن قوله:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ، عام مخصوص بما تقدم من الأجوبة" فالآية محكمة، كما عليه الجمهور لا منسوخة.
قال ابن عطية: والتحرير عندي أن ملاك المعنى في اللام من قوله للإنسان، فإذا حققت الشيء الذي حق لإنسان أن يقول لي، كذا لم يجز إلا سعيه، وما زاد من رحمة لشفاعة، أو رعاية أب صالح، أو ابن صالح، أو تضعيف حسنات ونحو ذلك، فليس هو للإنسان، ولا يصح أن تقول لي كذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو له حقيقة، وسأل عبد الله بن طاهر والي خراسان، الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فقال: ليس له بالعدل إلا ما سعى، وله بفضل الله ما شاء الله.
"وقد اختلف العلماء في ثواب القراءة هل تصل للميت فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو المشهور من مذهب الشافعي" لكن المحققون من متأخري مذهبه على الوصول،
فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو المشهور من مذهب الشافعي ومالك، ونقل عن جماعة من الحنفية.
وقال كثير من الشافعية والحنفية: يصل وبه قال أحمد بن حنبل رحمه الله بعد أن قال: القراءة على القبر بدعة، بل نقل عن الإمام أحمد: يصل إلى الميت كل شيء من صدقة وصلاة وحج واعتكاف وقراءة وذكر وغير ذلك.
أي: وصول مثل ثواب القارئ للميت وأولوا المنع على معنى وصول عين الثواب الذي للقارئ، أو على قراءته لا يحضره الميت ولا بنية القارئ ثواب قراءته له، نواه ولم يدع.
قال ابن الصلاح: وينبغي الجزم بنفع اللهم أوصل ثواب ما قرأناه، أي: مثله، فهو المراد؛ وأن يصرح به لفلان؛ لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعي، فما له أولى، ويجري ذلك في سائر الأعمال.
"ومالك" لكن قال الإمام ابن رشد في نوازله: إن قرأ، ووهب ثواب قراءته لميت جاز، وحصل للميت أجره ووصل إليه نفعه، وقال أبو عبد الله الأبي: إن قرأ ابتداء الميت وصل إليه ثوابه، كالصدقة والدعاء، وإن قرأ، ثم وهبه له لم يصل؛ لأن ثواب القراءة للقارئ لا ينتقل عنه إلى غيره.
وقال العلامة الشهاب القرافي: الذي يتجه أن يحصل للموتى بركة القراءة، كما يحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده، ووصل القراءة للميت، وإن حصل الخلاف فيها، فلا ينبغي إهمالها، فلعل الحق الوصول، فإن هذه الأمور معيبة عنا، وليس الخلاف في حكم شرعي إنما هو في أمر هل يقع كذلك أم لا؟ وكذلك التهليل الذي عادة الناس يعملونه اليوم، ينبغي أن يعمل ويعتمد فضل الله وجوده وإحسانه، هذا هو اللائق بالعبد، انتهى.
"ونقل عن جماعة من الحنفية، وقال كثير من الشافعية والحنفية: يصل، وبه قال أحمد بن حنبل بعد أن، قال: القراءة على القبر بدعة" مكروهة، وهو أصل مذهب مالك، "بل نقل عن الإمام أحمد يصل إلى الميت كل شيء من صدقة وصلاة وحج واعتكاف وقراءة وذكر وغير ذلك" كالدعاء له، فقد صح خبر:"إن الله يرفع درجة العبد في الجنة باستغفار ولده له"، ومعنى نفعه بالدعاء حصول المدعو له إذا استجيب، واستجابته محض فضل منه تعالى، ولا يسمى في العرف ثوابًا.
أما نفس الدعاء وثوابه فللداعي، لأنه شفاع أجرها للشافع، ومقصودها للمشفوع له، نعم دعاء الولد يحصل ثوابه نفسه للوالد الميت؛ لأن عمل ولده لتسببه في وجوده من جملة عمله،
وذكر الشيخ شمس الدين بن القطان العسقلاني: إن وصول ثواب القراءة إلى الميت من قريب أو أجنبي هو الصحيح، كما تنفعه الصدقة والدعاء والاستغفار بالإجماع.
وقد أفتى القاضي حسين: بأن الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر جائز، كالاستئجار للأذان وتعليم القرآن.
لكن قال الرافعي وتبعه النووي: عود المنفعة إلى المستأجر شرط في الإجارة، فيجب عود المنفعة في هذه الإجارة إلى المستأجرة أو ميته، لكن المستأجر لا ينتفع بأن يقرأ الغير له، ومشهور أن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة، فالوجه تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة وذكروا له طريقين.
أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت من قريب أو أجنبي، فإن الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أقرب إلى الإجابة وأكثر بركة.
والثاني: ذكر الشيخ عبد الكريم الشالوسي:
كما صرح به خبر: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، ثم قال:"أو ولد صالح" أي: مسلم يدعو له، فجعل دعاءه من جملة عمل الوالد، وإنما يكون منه، ويستثنى من انقطاع العمل إن أريد نفس الدعاء لا المدعو به.
"وذكر الشيخ شمس الدين بن القطان العسقلاني: إن وصول ثواب القراءة إلى الميت من قريب أو أجنبي هو الصحيح" مع النية، وهو المعتمد عند متأخري الشافعية؛ "كما تنفعه الصدقة" عنه، "والدعاء والاستغفار" له "بالإجماع" المؤيد بصريح كثير من الأحاديث، "وقد أفتى القاضي حسين؛ بأن الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر جائز" وإن قلنا بكراهة القراءة على القبر؛ لأن المكروه من الجائز، كالاستئجار للأذان وتعليم القرآن. لكن قال الرافعي، وتبعه النووي: عود المنفعة إلى المستأجر شرط في الإجارة، فيجب عود المنفعة في هذه الإجارة إلى المستأجر أو ميته، لكن المستأجر لا ينتفع بأن يقرأ الغير له، ومشهور أن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة" عن نيته بها أو الدعاء بوصول ثوابها له، "فالوجه تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة، وذكروا له طريقين".
"أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت من قريب أو أجنبي، فإن الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أقرب إلى الإجابة، وأكثر بركة".
"والثاني: ذكر الشيخ عبد الكريم" بن أحمد بن الحسن بن محمد الفقيه "الشالوسي" بشين معجمة، ولام مضمومة، ثم سين مهملة؛ كما ضبطه ابن السمعاني وغيره، نسبة إلى شالوس
أنه إن نوى القارئ بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، لكن لو قرأ ثم جعل ما حصل من الأجر له، فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت فينتفع الميت.
قال النووي في زيادات الروضة: ظاهر كلام القاضي حسين صحة الإجارة مطلقًا وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة وتنزل الرحمة. وهذا مقصود: بنفع الميت.
وقال الرافعي وتبعه النووي في الوصية: الذي يعتاد من قراءة القرآن على رأس القبر قد ذكرنا في باب الإجارة طريقين في عودة فائدتها إلى الميت كالحي الحاضر، فترجى له الرحمة ووصول البركة إذا أهدى الثواب إليه القارئ.
وقال الشالوسي: إذا نوى بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، إذا جعل
قرية كبيرة بنواحي آمل بطبرستان، كان فقيه عصره بآمل ومدرسها، واعظًا، زاهدًا، وبيته بيت العلم والزهد، مات سنة خمس وستين وأربعمائة.
قال الأسنوي: ووهم النووي في التهذيب، فأهمل سينه الأولى أيضًا، وأهل المشرق، خصوصًا ابن السمعاني أعرف ببلادهم من أهل الشام، ولا شك أن النووي هنا لم ينظر إلى ابن السمعاني ولا غيره، وإنما اعتمد على ما يتعلق به كثير من المتفقهة الذين لا اطلاع لهم على ذلك، "أنه إن نوى القارئ بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه" قال شيخنا: المعتمد أنه يلحقه ثوابها حيث قرأ بحضرته أو دعا له عقبها أو نواه بها، وإن لم يكن عنده ولا دعا له؛ "لكن لو قرأ، ثم جعل ما حصل من الأجر له، فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت، فينتفع الميت" بذلك الدعاء.
"قال النووي في زيادات الروضة: ظاهر كلام القاضي حسين صحة الإجارة مطلقًا وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة وتنزل الرحمة، وهذا مقصود بنفع الميت".
"وقال الرافعي: وتبعه النووي في" باب "الوصية: الذي يعتاد" مبني للمجهول "من قراءة القرآن على رأس القبر، قد ذكرنا في باب الإجارة طريقين" هما السابقان "في عود فائدتهما إلى الميت".
"وعن القاضي أبي الطيب طريق ثالث، وهو أن الميت كالحي الحاضر، فترجى له الرحمة ووصول البركة إذا أهدى الثواب إليه القارئ" قريبًا أو أجنبيًا، "وقال" أبو عبد الله "الشالوسي: إذا نوى بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه إذا جعل ذلك قبل حصوله" أي: الثواب، "وتلاوته عبادة البدن فلا تقع عن الغير، وإن قرأ، ثم جعل ما حصل من الثواب
قبل حصوله، وتلاوته عبادة البدن فلا تقع عن الغير، وإن قرأ ثم جعل ما حصل من الثواب للميت فينفعه، إذا قد جعل من الأجر لغيره.
لكن إطلاق أن الدعاء ينفع الميت، اعترض عليه بعضهم بأنه موقوف على الإجابة.
ويمكن أن يقال: الدعاء للميت مستجاب -كما أطلقوه- اعتمادًا على سعة فضل الله.
وقال الرافعي وتبعه النووي: يستوي في الصدقة والدعاء، الوارث والأجنبي. قال الشافعي: وفي وسع الله أن يثيب المتصدق أيضًا.
وقال الأصحاب: يستحب أن ينوي المتصدق بالصدقة عن أبويه مثلا، فإن الله ينيلهما الثواب ولا ينقص من أجره شيئًا.
وذكر صاحب العدة: أنه لو أنبط بعلمه عينًا أو حفر بئرًا، أو غرس شجرًا، أو
للميت، فينفعه إذا قد جعل من الأجر لغيره" أي: لأنه جعل بدعائه عقب القراءة شيئًا من أجرها للميت، فينفعه؛ "لكن إطلاق أن الدعاء ينفع الميت اعترض عليه بعضهم، بأنه موقوف على الإجابة" ونحن لا نعلمها، "ويمكن أن يقال" في الجواب:"الدعاء للميت مستجاب، كما أطلقوه اعتمادًا على سعة فضل الله" فلا اعتراض، وهو جواب لين.
"قال الرافعي، وتبعه النووي: يستوي في الصدقة والدعاء الوارث والأجنبي" على ظاهر الأخبار.
"قال الشافعي: وفي وسع الله" من فضله "أن يثيب المتصدق أيضًا، و" من ثم "قال الأصحاب: يستحب أن ينوي المتصدق الصدقة عن أبويه مثلا، فإن الله ينيلهما الثواب ولا ينقص من أجره شيئًا" وقول الزركشي: ما ذكر في الوقف يلزمه تقدير دخوله في ملكه وتمليكه الغير، ولا نظير له، رد بأن هذا يلزم في الصدقة أيضًا، وإنما لم ينظر له؛ لأن جعله كالمصدق محض فضل، فلا يضر خروجه عن القواعد لو احتيج لذلك التقدير، مع أنه غير محتاج إليه، بل يصح نحو الوقف عن الميت، وللفاعل ثواب البر، وللميت ثواب الصدقة المرتبة عليه، ذكره الرملي.
"وذكر صاحب العدة؛ أنه لو أنبط" بفتح الهمزة، وإسكان النون، فموحدة مفتوحة، فطاء مهملة، أي: استخرج "بعمله عينًا، أو حفر بئرًا، أو غرس شجرًا" ويأتي الحديث نخلا؛ فكأنه لأنه غالب شجر المدينة، "أو وقف مصحفًا في حال حياته، أو فعل غيره" ذلك "عنه بعد موته يلحق الثواب بالميت".
وقف مصحفًا في حال حياته، أو فعل غيره عنه بعد موته، يلحق الثواب بالميت.
وقال الرافعي والنووي: إن هذه الأمور إذا صدرت من الحي فهي صدقات جارية يلحقه ثوابها بعد الموت، كما ورد في الخبر، ولا يختص الحكم بوقف
"وقال الرافعي والنووي: إن هذه الأمور إذا صدرت من الحي، فهي صدقات جارية يلحقه ثوابها بعد الموت؛ كما ورد في الخبر" كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا نشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه، ومسجدًا بناه أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته"، رواه ابن ماجه عن أبي هريرة بإسناد حسن.
وروى البزار، عن أنس مرفوعًا:"سبع يجري للعبد أجرها بعد موته وهو في قبره من علم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدًا، أو ورث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته".
وروى ابن عساكر عن أبي سعيد، رفعه:"من علم آية من كتاب الله أو بابًا من علم، أنمى الله أجره إلى يوم القيامة".
وروى أحمد والطبراني، عن أبي أمامة، رفعه:"أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: من مات مرابطًا في سبيل الله" الحديث، فتحصل من هذه الأحاديث أحد عشر أمرًا تلحق بعد الموت نظمها السيوطي، فقال:
إذا مات ابن آدم ليس يجري
…
عليه من فعال غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل
…
وغرس نخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر
…
وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي
…
إليه أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرآن كريم
…
فخذها من أحاديث بحصر
ولا يرد أن هذه أحد عشر، فينافي قوله غير عشر؛ لأنه نوع التاسع لشيئين، أو ترجم لشيء وزاد عليه، أو قال البيت الأخير بعد ذلك، ويدل له أنه بخطه في شرح ابن ماجه لم يذكر الأخير، وهو وتعليم لقرآن، ولا يعارض هذه قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا مات الإنسان"، وفي رواية:"ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة؛ لأن هذه الثلاثة في الحقيقة أمهات يرد إليها كثيرًا من الأنواع.
"ولا يختص الحكم بوقف المصحف، بل يلتحق به كل من وقف" كما صرح به الحديث في قوله: "مسجدًا"
…
إلخ، ومعنى قوله في الخبر: ومصحفًا ورثه بالتشديد، خلفه
المصحف، بل يلتحق به كل من وقف، وهذا القياس يقتضي جواز التضحية عن الميت، فإنها ضرب من الصدقة، لكن في التهذيب: أنه لا تجوز التضحية عن الغير بغير أمره، وكذا من الميت إلا أن يكون أوصى به.
وقد روي عن علي أو غيره من الصحابة أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وعن أبي العباس محمد بن إسحاق السراج قال: ضحيت عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعين أضحية.
وأما إهداء القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعرف فيه خبر ولا أثر، وقد أنكره جماعة منهم الشيخ برهان الدين بن الفركاح لأن الصحابة لم يفعله أحد منهم.
وحكى صاحب "الروح":
لوارثه، قال بعض: ويظهر أن مثله كتب الحديث كالصحيحين، "وهذا القياس يقتضي جواز التضحية عن الميت" بلا كراهة، "فإنها ضرب من الصدقة، لكن في التهذيب؛ أنه لا يجوز التضحية عن الغير بغير أمره، وكذا عن الميت إلا أن يكون أوصى به" وهذا هو المعتمد في المنهاج وغيره.
"وقد روي عن علي أو غيره من الصحابة أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته"؛ لأنه أوصاه بذلك.
روى الترمذي عن علي: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضحى عنه على أن جماعة ذكروا في خصائصه جواز التضحية عنه.
"وعن أبي العباس محمد بن إسحاق" بن إبراهيم بن مهران "السراج" الثقفي، مولاهم النيسابوري، الإمام الحافظ، الثقة شيخ خراسان، صاحب المسند والتاريخ، مات سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، "قال: ضحيت عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعين أضحية" لأنه خصوصية.
"وأما إهداء القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعرف فيه خبر ولا أثر، بل أنكره جماعة، منهم الشيخ برهان الدين بن الفركاح" بكسر الفاء، وإسكان الراء؛ "لأن الصحابة لم يفعله أحد منهم" وهم أحق بالاتباع، لكن اختار السبكي وغيره خلاف ذلك، وكذا أنكر البرهان القراري قولهم: اللهم أوصل ثواب ما تلوته إلى فلان خاصة، وإلى المسلمين عامة؛ لأن ما اختص بشخص لا يتصور التعميم فيه، وده الزركشي؛ بأن الظاهر خلاف ما قاله، فإن الثواب يتفاوت فاعلاه ما خصه، وأدناه ما عمه، وغيره والله تعالى يتصرف فيما يعطيه من الثواب، على أن المراد مثل ثواب ما تلوته لفلان خاصة، ومثل ذلك عامة، وهذا متصور.
"وحكى صاحب الروح" الشمس بن القيم، والروح جزء نحو خمسة عشر كراسة، سماه بذلك لتكليمه فيه على الروح وما يتعلق بها: "أن من الفقهاء المتأخرين من استحبه، ومنهم
أن من الفقهاء المتأخرين من استحبه ومنهم من رآه بدعة، قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم غني عن ذلك، فإن له أجره من عمل خيرًا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيء.
قال الشافعي: ما من خير يعمله أحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا والنبي صلى الله عليه وسلم أصل فيه.
قال في تحقيق النصرة: فجميع حسنات المسلمين وأعمالهم الصالحة في صحائف نبينا صلى الله عليه وسلم زيادة على ما له من الأجر، مع مضاعفة لا يحصرها إلا الله تعالى، لأن كل مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر ولشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة، وللرابع ثمانية وهكذا، تضعيف كل مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وبهذا تعلم تفضيل السلف على الخلف. فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون.
من رآه بدعة" مذمومة، "قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم غني عن ذلك" لكن ليس في كونه غنيًا ما يقتضي منع ذلك، بل يجوز أن يكون إهداؤها سببًا في ثواب يصل إليه زائدًا على الثواب الواصل له من كل خير عملته أمته، "وأن له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيء" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجر من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا"، رواه مسلم أصحاب السنن، عن أبي هريرة، ومن ثم "قال الشافعي: ما من خير يعمله أحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا والنبي صلى الله عليه وسلم أصل فيه" لأنه إنما علم بإرشاده.
"قال في تحقيق النضرة" للزين المراغي المحدث: "فجميع حسنات المسلمين وأعمالهم الصالحة في صحائف نبينا صلى الله عليه وسلم زيادة على ما له من الأجر مع مضاعفة لا يحصرها إلا الله تعالى، لأن كل مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر" لدلالته له عليه، "ولشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة، وللرابع ثمانية، وهكذا تضعيف كل مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
"وبهذا تعلم تفضيل السلف على الخلف" لأن السلف يحصل لهم ثواب ما عملوه، ويزيد عليه ثواب بمن أخذ منهم بواسطة أو بدونها، مضاعفًا على ما علم، فيفضلون الخلف، وهو من تأخر عنهم بذلك، "فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون" لعل ذلك بواسطة ما يحصل لكل عامل من المضاعفة، مضمومًا إلى بقية أعمال من دونه، مثلا ما يكتب للرابع من الثمانية يكتب للنبي مثله، مع عمل من دونه من الأول
فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر صار أجر النبي صلى الله عليه وسلم ألفين وثمانية وأربعون، وهكذا كلما ازداد واحد يتضاعف ما كان قبله أبدًا، كما قاله بعض المحققين، انتهى، ولله در القائل، وهو سيدي محمد وفا:
فلا حسن إلا من محاسن حسنه
…
ولا محسن إلا له حسناته
وبهذا يجاب عن استشكال دعاء القارئ له صلى الله عليه وسلم بزيادة الشرف مع العلم بكماله عليه الصلاة والسلام في سائر أنواع الشرف. فكأن الداعي لحظ أن قبول قراءته يتضمن لمعلمه نظير جزء، وهكذا حتى يكون للمعلم الأول -وهو الشارع صلى الله عليه وسلم نظير جميع ذلك كما قدرته.
ومن ذلك ما شرع عند رؤية الكعبة من قوله: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا، فثمرة الدعاء بذلك عائد إلى الداعي، لاشتماله على طلب قبول القراءة، وهذا كما قالوا في الصلاة عليه -زاده الله شرفًا لديه- إن ثمرتها عائدة على المصلي أشار لنحوه الحافظ ابن حجر.
والثاني والثالث، "فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر صار أجر النبي صلى الله عليه وسلم ألفين وثمانية وأربعين، وهكذا كلما ازداد واحد يتضاعف ما كان قبله أبدًا؛ كما قاله بعض المحققين، انتهى" كلام تحقيق النصرة، "ولله در القائل، وهو سيدي محمد وفا" إمام العارفين، العالم المشهور:
فا حسن إلا من محاسن حسنه
…
ولا محسن إلا له حسناته
لأنه الجامع لذلك والدال عليه، "وبهذا" المذكور عن تحقيق النصرة، "يجاب عن استشكال دعاء القارئ له صلى الله عليه وسلم بزيادة الشرف، مع العلم بكماله عليه الصلاة والسلام في سائر أنواع الشرف، فكان الداعي لحظ أن قبول قراءته يتضمن لمعلمه نظير جزء، وهكذا حتى يكون للمعلم الأول، وهو الشارع" صلى الله عليه وسلم "نظير جميع ذلك كما قدرته، ومن ذلك ما شرع عند رؤية الكعبة من قوله" أي: الرائي المفهوم من رؤية: "اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا، فثمرة الدعاء بذلك عائدة على الداعي لاشتماله على طلب قبول القراءة، وهذا كما قالوا في الصلاة عليه زاده الله شرفًا لديه أن ثمرتها عائدة على المصلي" وهذا نظيره عند من قال به، وإلا فالراجح أنها تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الكامل يقبل التكميل، "أشار لنحوه الحافظ ابن حجر" ووقع السؤال عما يقع من الداعين عقب الختمات من قولهم: اللهم اجعل ثواب ما قرئ زيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: واجعل مثل ثواب ذلك وأضعاف أمثاله إلى روح فلان، أو في صحيفته، أو نحو ذلك هل يجوز أم يمتنع لما فيه من إشعار تعظيم المدعو له
ومن خصائص هذه الأمة أنهم يدخلون الجنة قبل سائر الأمم، رواه الطبراني -في الأوسط- من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا:"حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي".
ومنها: أنه يدخل منهم الجنة سبعون ألفًا بغير حساب رواه الشيخان
بذلك، حيث اعتنى به، فدعا له بأضعاف مثل ما دعا للنبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب شيخنا؛ بأن الظاهر أن ذلك لا يمتنع؛ لأن الداعي لم يقصد بذلك تعظيم غيره صلى الله عليه وسلم، بل كلامه محمول على إظهار احتياج غيره للرحمة منه سبحانه، فاعتناؤه بل للاحتياج المذكور، وللإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لقرب مكانته من الله جل وعز الإجابة بالنسبة له محققة، وغيره لبعد رتبته عما أعطيه صلى الله عليه وسلم لله، لا تحقق الإجابة له، بل قد لا تكون مظنونة، فناسب تأكيد الدعاء له وتكريره رجاء الإجابة، انتهى، وهو توجيه وجيه، لكن الأولى ترك ما يوهم ببادئ الرأي، ولا يصحح إلا بمزيد تحقيق وتدقيق.
"ومن خصائص هذه الأمة: أنهم يدخلون الجنة قبل سائر الأمم" كما رواه ابن ماجه عن عمر، "وروى الطبراني في الأوسط من حديث عمر بن الخطاب، مرفوعًا" إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"حرمت" أي: منعت "الجنة على الأنبياء" زاد في رواية الدارقطني: كلهم "حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي" أي: أن المطيع الذي لم يعذب من أمته يدخلها قبل المطيع الذي لم يعذب من أمة غيره، والداخل للنار من أمته يدخل الجنة قبل الداخل للنار من أمة غيره، فالمراد أن جملة أمته، وتمام دخولها الجنة سابق على دخول أمة غيره، فلا يرد ما قد يتوهم أنه لا يدخل أحد من سابقي الأمم الطائفين إلا بعد خروج العاصين من الأمة المحمدية من النار، وقد أخذ من الحديث أن هذه الأمة يخفف عن عصاتها أو يخرجون قبل عصاة غيرها.
قال ابن القيم: فهذه الأمة أسبق الأمم خروجًا من الأرض، وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف، وإلى ظل العرش، وإلى فصل القضاء، وإلى الجواز على الصراط، وإلى دخول الجنة.
"ومنها: أنه يدخل منهم الجنة سبعون الفًا" زمرة واحدة "بغير حساب" ولا عذاب، بدليل رواية:"ولا حساب عليهم ولا عذاب"، "رواه الشيخان" عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدخل الجنة من أمتي زمرة، هم سبعون ألفًا، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر"، فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم؟ فقال: "اللهم اجعله منهم". ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم؟ فقال: "سبقك بها عكاشة".
وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، ورفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم
............................................................
أمتي، فقال جبريل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك وهؤلاء سبعون ألفًا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم؟ قال: لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"، وفي رواية: "هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون".
وروى الشيخان أيضًا عن سهل بن سعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليدخلن من أمتي الجنة سبعون ألفًا أو سبعمائة ألف متماسكين، آخذًا بعضهم ببعض، حتى يدخل أولهم وآخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". قال السبكي في شفاء الغرام: ظاهر قوله سبعون ألفًا، أنهم لا يزيدون على ذلك، وأنهم كلهم بالصفة المذكورة ورجح غيره أن المراد الكثرة باختلاف الأخبار في المقدار، فروى:"مائة ألف، ومع كل ألف سبعون ألفًا، ومع كل واحد سبعون ألفًا". وليس في الحديث نفي دخول أحد على الصفة المذكورة غير هؤلاء، كالأنبياء، والشهداء والصديقين والصالحين.
قال عياض: ويحتمل أن معنى كونهم متماسكين أنهم على صفة الوقار فلا يسابق بعضهم بعضًا بل يكون دخولهم جميعًا.
وقال النووي: معناه أنهم يدخلون معترضين صفًا واحدًا، بعضهم بجنب بعض، فيدخل الجميع دفعة واحدة، وفي ذلك إشارة إلى سعة الباب الذي يدخلون منه، ووصفهم بالأولية والآخرية باعتبار الصفة التي جازوا فيها الصراط، ثم هذا الحديث يخص عموم الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي برزة الأسلمي، رفعه:"اتزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن علمه ما عمل فيه، وماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه"؛ لأنه وإن كان عامًا لأنه نكرة في سياق النفي، لكنه مخصوص بمن يدخل الجنة بغير حساب، وبمن يدخل النار من أول وهلة، على ما دل عليه قوله تعالى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} ، الآية، قال القرطبي.
قال الحافظ: وفي سياق حديث أبي برزة إشارة إلى الخصوص، لأنه ليس كل أحد عنده علم يسأل عنه، وكذا المال، فهو مخصوص بمن له علم ومال دون من لا علم له ولا مال، وأما السؤال عن الجسد والعمر فعام، ويخص من المسئولين من ذكر، انتهى.
وجزم ابن عبد السلام؛ بأن هذه الخصوصية لم تثبت لغير نبينا.
وقال السبكي: لم يرد فيه شيء بنفي ولا إثبات في الأمم السابقة، واستظهر أبو طالب، عقيل بن عطية أن فيهم من هو كذلك، انتهى، وفيه أن الاستظهار لا دخل له هنا، إذ هو من الأشياء التي لا تكون إلا بمحض النقل.
وروى الحاكم والبيهقي عن جابر مرفوعًا: "من زادت حسناته على سيئاته، فذاك الذي
وعند الطبراني والبيهقي في البعث: "إن ربي وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفًا لا حساب عليهم، وإني سألت ربي المزيد فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا".
وبالجملة: فقد اختصت هذه الأمة بما لم يعطه غيرها من الأمم تكرمة لنبيها عليه الصلاة والسلام وزيادة في شرفه، وتفضيل فضلها وخصائصها يستدعي سفرًا بل أسفارًا، وذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته، فذاك الذي يحاسب حسابًا يسيرًا، ومن أوبق نفسه فهو الذي يشفع فيه بعد أن يعذب". وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله يدخل الجنة من أمتي يوم القيامة سبعين ألفًا، ومع كل ألف سبعين ألفًا"، رواه الترمذي.
"وعند الطبراني والبيهقي في البعث" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ربي وعدني أن يدخل من أمتي" أمة الإجابة، وفي إضافتها إليه إخراج غيرها من الأمم من العدد المذكور "الجنة سبعين ألفًا لا حساب عليهم" أي: ولا عذاب، "وإني سألت ربي المزيد فأعطاني مع كل واحد" المراد بالمعية مجرد دخولهم الجنة بغير حساب، وأن دخولها في الزمرة الثانية أو ما بعدها، "من السبعين ألفًا سبعين ألفًا" زاد في رواية البزار من حديث أنس:"وهم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"، ومر في حديث ابن عباس وصف السبعين ألفًا بذلك أيضًا، فيكون الكل موصوفين به.
وأخرج أحمد والديلمي عن أبي بكر، مرفوعًا:"أعطيت سبعين ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي، فزادني مع كل واحد سبعين ألفًا".
"وبالجملة فقد اختصت هذه الأمة بما لم يعطه غيرها من الأمم، تكرمة لنبيها عليه الصلاة والسلام، وزيادة في شرفه وتفضيل" بصاد مهملة، "فضلها" بمعجمة، "وخصائصها يستدعي سفرًا، بل أسفارًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" النبي أو أمته، "والله ذو الفضل العظيم" وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا، ولله الحمد على ما أنعم.