الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان يقطع الأراضي قبل فتحها، لأن الله ملكه الأرض كلها. وأفتى الغزالي بكفر من عارض أولاد تميم الداري فيما أقطعهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقطع أرض الجنة فأرض الدنيا أولى.
رحمة، ذكره ابن القاص، وتبعه الإمام والبيهقي، ولا يلتفت لقول من أنكره، "وكان يقطع الأراضي قبل فتحها" بخلاف غيره من الأئمة، فإنما يقطع بعد فتحها؛ "لأن الله ملكه الأرض كلها"، ولا ينقض شيء مما أقطعه بعده بحال، "و" لذا "أفتى الغزالي بكفر من عارض أولاد تميم الداري فيما أقطعهم النبي صلى الله عليه وسلم" من الأرض بالشام، "وقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقطع أرض الجنة" ما شاء منها لمن شاء، "فأرض الدنيا أولى" ونقله عن الغزالي ابن العربي في القانون، وأقره، وأفتى به السبكي أيضًا، روى الشافعي والبيهقي عن طاوس مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عادي الأرض لله ولرسوله، ثم لكم من بعد" قال الرافعي: يقال: للشيء القديم عادي نسبة إلى عاد الأولى، والمراد هنا الأرض غير المملوكة الآن، وإن تقدم ملكها ومضت عليه الأزمان، فلا يختص ذلك بقوم عاد، فالنسبة إليهم للتمثيل لما لم يعلم مالكه، وقوله:"لله ولرسوله" أي: مختص بهما، فهو فيء يتصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
الفصل الرابع: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات:
الفصل الرابع: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات:
"الفصل الرابع" وفي بعض نسخ: القسم الرابع، "ما"، أي: شيء "اختص به" على الأمة، وإن شاركه الأنبياء في بعضها "صلى الله عليه وسلم" وتفسير ما بشيء لا يقتضي حصرًا ولا استيعابًا، ولا يفسر بالذي لأنه يصير معرفة، فيقتضي الحصر، والواقع أنه لم يستوعب جميع ما اختص به "من الفضائل" جمع فضيلة، وهي الفضل والخير، وهو خلاف النقيصة والنقص؛ كما في المصباح، وقضيته إنما لا نقص فيه ولا كمال، يسمى فضيلة وفضلا؛ لأنه خلاف النقص، والظاهر كما قال شيخنا أنه غير مراد، وأن الفضيلة ما فيه مزية لصاحبها على غيره، فما لا كمال فيه، ولا نقص، واسطة بين الفضيلة والنقيصة، انتهى.
وقد قال القرطبي في المفهم: الفضائل جمع فضيلة، وهي الخصال الجميلة التي يحصل لصاحبها بسببها شرف وعلو منزلة، إما عند الحق، وإما عند الخلق، والثاني لا عبرة به إلا إن أوصل إلى الأول، انتهى. "والكرامات" عطف خاص على عام: جمع كرامة أمر خارق للعادة غير مقرون بالتحدي، فيظهر على يد أولياء الله، ودرجة الأنبياء قبل النبوة لا تقصر عن الولاية، فيجوز
منها: أنه أول النبيين خلقًا، كما تقرر في أول هذا الكتاب، وأنه كان نبيًا وآدم بين الروح والجسد، رواه الترمذي من حديث أبي هريرة.
ومنها: أنه أول من أخذ عليه الميثاق كما مر.
ومنها: أنه أول من قال: "بلى" يوم "ألست بربكم" رواه أبو سهل القطان في جزء من أماليه.
ومنها: أن آدم وجميع المخلوقات خلقوا لأجله، رواه البيهقي وغيره.
ومنها: أن الله كتب اسمه الشريف على العرش.
ظهورها على يدهم.
"منها: أنه أول النبيين خلقًا" وآخرهم بعثًا، رواه ابن أبي حاتم وغيره عن أبي هريرة، مرفوعًا بلفظ:"كنت أول"
…
إلخ، ورواه هو والديلمي، وأبو نعيم، وغيرهم عن أبي هريرة، مرفوعًا بلفظ:"كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث"؛ "كما تقرر في أول هذا الكتاب" بأدلته وتفسير معناه، "وأنه كان نبيًا وآدم بين الروح والجسد" ظرف زمان، بمعنى أنه محكوم بها ظاهرة بين خلق روح آدم وجسده، حيث نبأه في عالم الأرواح، وأمرها بمعرفة نبوته والإقرار بها، "رواه الترمذي" وقال: حديث حسن "من حديث أبي هريرة" أنهم قالوا: يا رسول الله! متى وجبت لك النبوة؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد".
"ومنها: أنه أول من أخذ عليه الميثاق" يوم ألست بربكم؛ "كما مر" أول الكتاب.
"ومنها: أنه أول من قال: بلى" أنت ربنا "يوم ألست بربكم، رواه أبو سهل القطان في جزء من أماليه" عن علي بإسناد ضعيف.
"ومنها: أن آدم وجميع المخلوقات خلقوا لأجله رواه البيهقي وغيره"، كشيخه الحاكم، وصححه عن ابن عباس:"أوحى الله إلى عيسى أن آمن بمحمد وأمر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار" الحديث، وهو لا يقال رأيًا، فحكمه الرفع.
وروى ابن عساكر: "لقد خلقت الدنيا وأهلها، أعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي ولولاك ما خلقت الدنيا".
"ومنها: أن الله كتب اسمه الشريف على العرش" لفظ الرواية عن كعب على ساق العرش كما مر في الأسماء، أي: قوائمه.
وروى ابن عدي: "لما عرج بي، رأيت مكتوبًا على ساق العرش لا إله إلا الله محمد
وعلى كل سماء، وعلى الجنان وما فيها. رواه ابن عساكر عن كعب الأحبار.
ومنها: أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين، آدم فمن بعده، أن يؤمنوا به وينصروه، قال الله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] قال علي بن أبي طالب: لم يبعث الله نبيًا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على قومه.
رسول الله أيدته بعلي، "وعلى كل سماء" من السموات السبع، "وعلى الجنان وما فيها" من قصور وغرف، وعلى نحور الحور العين، وورق شجرة طوبى، وسدرة المنتهى، وأطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، "رواه ابن عساكر عن كعب الأحبار" قال:"أنزل الله على آدم عصيًا بعدد الأنبياء والمرسلين، ثم أقبل على ابنه شيث، فقال: أي بني أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى، فكلما ذكرت الله، فاذكر اسم محمد، فإني أيت اسمه مكتوبًا على ساق العرش" الحديث بطوله، قدمه المصنف في الأسماء، وهو من الإسرائيليات، وحكم بعض الحفاظ بوضعه.
وأجاب شيخنا بأن الحكم بوضع جملة ألفاظه، لا يستلزم عدم ثبوت معانيها، إذ يجوز ثبوت معاني بعضها في أحاديث، فنظروا إليها من حيث وجودها في غير حديث كعب، كذا قال، وهو تجويز عقلي لا يلتفت إليه المحدثون، إذ كلامهم إنما هو في الإسناد الذي هو المرقاة وثبوت معنى الموضوع، ولو في القرآن فضلا عن تجويز ثبوته بأحاديث لا يؤيد الموضوع، فينفي عنه الوضع، كما هو مقرر عند أدنى من له إلمام بالفن.
"ومنها: أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين آدم، فمن بعده" حتى عيسى إن قلنا بالمشهور، أنه ليس بينه وبين المصطفى نبي، أو من بعده أيضًا، كخالد بن سنان "أن يؤمنوا به وينصروه، قال الله تعالى: {وَ} اذكر {إِذْ} حين {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} عهدهم {لَمَا} بفتح اللام للابتداء، وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق، وكسرها متعلق بأخذ، وما موصولة على الوجهين، أي: للذي {آتَيْتُكُمْ} إياه، وقرئ: "آتيناكم"، {مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} من الكتاب والحكمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} الآية، جواب القسم وأممهم تبع لهم في ذلك. "قال علي بن أبي طالب" في تفسير هذه الآية فيما رواه ابن جرير: "لم يبعث الله نبيًا من آدم، فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث، وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على
ومنها: أنه وقع التبشير به في الكتب السالفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنه لم يقع في نسبه من لدن آدم سفاح. رواه البيهقي والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل.
ومنها: أنه نكست الأصنام لمولده رواه الخرائطي -في الهواتف- وغيره.
قومه" الرواية بنصب يأخذ؛ كما أفاده عياض بالعطف على تؤمنن، بتقدير نون التوكيد الخفيفة، كذا وجهها الشمني والمصنف، ورد بأنه حينئذ يكون من جزاء الشرط، فيلزم أن الأخذ من الأمة بعد بعث المصطفى، وليس المقصود، فالعطف على جملة: لئن بعث
…
إلخ على أنها في موضع مفرد، والوجه أن التقدير، وأمر أن يأخذ على حد:
وزججن الحواجب والعيونا
وفي البغوي: اختلف في معنى الآية، فقيل: أخذ ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم، وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده، وينصره إن أدركه، وأن يأمر قومه بنصره، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد، وقيل: إنما أخذ عليهم الميثاق في محمد صلى الله عليه وسلم.
واختلف على هذا، فقيل: الأخذ على النبيين وأممهم، واكتفى بذكر الأنبياء؛ لأن العهد على المتبوع عهد على التابع، وقيل: المراد أن الله أخذ عهد النبيين، أن يأخذوا الميثاق على أممهم بذلك، انتهى بحروفه، وقد مر بسط ذلك في أول هذا الكتاب.
"ومنها: أنه وقع التبشير به في الكتب السالفة" كالتوراة والإنجيل، ونعته فيها، ونعت أصحابه وخلفائه؛ "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في النوع الرابع من المقصد السادس.
"ومنها: أنه لم يقع في نسبه من لدن آدم" أي: زمنه؛ لأن لدن وإن كان الأصل أنها ظرف مكان بمعنى عند، لكنها قد تستعمل للزمان، كما هنا، "سفاح" أي: زنا، بكسر السين المهملة من سفح الماء أو الدم أو الدمع إذا انصب؛ لأن الزاني يصب المني في غير حقه لعدم ثبوت النسب والتوارث فيه، ولكونه من الكليات الخمس التي لم تبح في ملة من الملل. قال بعض المحققين: والمراد بالسفاح ما لم يوافق شريعة، "رواه البيهقي والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الدلائل" بإسناد حسن عن علي مرفوعًا: "خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء".
"ومنها: أنه نكست الأصنام لمولده، رواه الخرائطي في الهواتف وغيره" كابن عساكر، عن عروة، أن نفرًا من قريش منهم ورقة بن نوفل، كانوا في صنم لهم يجتمعون إليه، فدخلوا عليه ليلة، فرأوه مكبوبًا على وجهه، فأخذوه، وردوه إلى حاله، فلم يلبث حتى انقلب
ومنها: أنه ولد مختونًا مقطوع السرة، رواه الطبراني وغيره، وتقدم ما فيه من البحث أول الكتاب.
ومنها: أنه خرج نظيفًا، ما به من قذر، رواه ابن سعد.
ومنها: أنه وقع ساجدًا رافعًا إصبعيه كالمتضرع المبتهل. رواه أبو نعيم من
انقلابًا عنيفًا، فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فقالوا: إن هذا لأمر حدث، فكان ذلك ليلة ولد صلى الله عليه وسلم، وشاركه في هذه الخصوصية عيسى عليه الصلاة والسلام، روى عبد الرزاق عن وهب: لما ولد عيسى أتت الشياطين إبليس، فقالوا: أصبحت الأصنام منكوسة، فقال: هذا حادث حدث، فطاف خافقي الأرض، فلم ير شيئًا، ثم البحار فلم يقف على شيء، ثم طاف أيضًا، فوجد عيسى عليه السلام قد ولد، والملائكة قد حفت حوله فرجع إليهم، فقال: إن نبيًا ولد البارحة.
"ومنها: أنه ولد مختونًا" أي: على صورة المختون، إذ الختن القطع، ولا قطع هنا. "مقطوع السرة" الأولى، حذف التاء؛ لأن السر، بالضم ما تقطعه القابلة من سرة الصبي، كما في النهاية وغيرها، إلا أن يكون سمي السرسرة مجاز العلاقة المجاورة، أو فيه حذف، أي: مقطوع منه ما يتصل بالسرة.
"رواه الطبراني وغيره" وفي عده من الخصائص نظر إذ ولد سبعة عشر نبيًا مختونين؛ كما مر نظمًا، وجماعة من هذه الأمة ولدوا مختونين، ولذا قال ابن القيم: ليس هذا من خصائصه، فإن كثير من الناس ولد مختونًا، قال الشامي: حتى في عصرنا أخبر بعضهم أنه ولد مختونًا، انتهى، ويمكن أن الخصوصية مجموع الختن وقطع السرة، وقيل: ختنه جده يوم سابعه، وصنع له مأدبة، وقيل: ختنه جبريل عند حليمة، والأرجح الأول، فقد قال الحاكم: به تواترت الأخبار، وابن الجوزي: لا شك أنه ولد مختونًا.
قال الخيضري: وأدلته مع ضعفها أمثل من أدلة غيره، انتهى، بل له طريق جيدة، صححها الضياء المقدسي وحسنها مغلطاي، وهي ما رواه الطبراني، وأبو نعيم، وابن عساكر، عن أنس، رفعه:"من كرامتي على ربي أني ولدت مختونًا، ولم ير أحد سوأتي". "وتقدم ما فيه من البحث أول الكتاب" مع فوائد جليلة.
"ومنها: أنه خرج نظيفًا ما به قذر" مما جرت العادة به في المولود عقب ولادته، وهي صفة موضحة للمبالغة في نظافته، إذ القذر ضد النظافة، "رواه ابن سعد" من طريق همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله، عن آمنة.
"ومنها: أنه وقع" خرج من بطن أمه "ساجدًا" حقيقة، "رافعًا إصبعيه" أي: سبابتيه إلى السماء، قابضًا بقية أصابعه، "كالمتضرع، المتذلل، المبتهل، رواه أبو نعيم" في خبر طويل "من
حديث ابن عباس. ورأت أمه عند ولادته نورًا خرج منها أضاء له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات الأنبياء. رواه أحمد، وكان مهده صلى الله عليه وسلم يتحرك بتحريك الملائكة، كما ذكره ابن سبع في الخصائص، وكان القمر يحدثه وهو في مهده، ويميل إليه حيث أشار إليه، رواه ابن طغر بك في "النطق المفهوم" وغيره. وتكلم في المهد، رواه الواقدي وابن سبع.
حديث ابن عباس" عن آمنة بلفظ: فوضعت محمدًا، فنظرت إليه، فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه إلى السماء، كالمتضرع المبتهل، وللطبراني: لما وقع إلى الأرض وقع مقبوضة أصابع يده، مشيرًا بالسبابة، كالمسبح بها، "ورأت أمه" رؤية عين بصرية، لا منامية، كما زعم، "عند ولادته نورًا خرج منها، أضاء له قصور الشام" أي: أضاء النور وانتشر حتى رأت قصور الشام، وأضاءت تلك القصور من ذلك النور، "وكذلك ترى أمهات الأنبياء" نورًا يخرج منهن عند الولادة، وإن لم يكن كالذي رأته آمنة من كل وجه، بحيث أن كل واحدة تضيء منها قصور الشام، هكذا ترجاه شيخنا، "رواه أحمد" والبزار، والطبراني، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث العرباض مرفوعًا، وأحمد أيضًا من حديث أبي أمامة وابن إسحاق عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: وفيه أضاءت له قصور بصري من أرض الشام، "وكان مهده" أي: ما هيئ له لينام فيه، "يتحرك بتحريك الملائكة" له، قال بعض: ولم ينقل مثله لأحد من الأنبياء؛ "كما ذكره ابن سبع" بإسكان الموحدة، وقد تضم؛ كما في التبصير "في الخصائص" له، "كان القمر يحدثه، وهو في مهده، ويميل إليه حيث" أي: في أي وقت "أشار إليه" بأصبعه، فحيث هنا للزمان، "رواه ابن طغربك" بضم الطاء المهملة، وإسكان الغين المعجمة، وضم الراء، وفتح الموحدة، "في" كتاب "النطق المفهوم وغيره" كالبيهقي، والصابوني، والخطيب، وابن عساكر، عن العباس بن عبد المطلب، قلت: يا رسول الله! دعاني إلى الدخول في دينك إمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر، وتشير إليه بأصبعك، فحيث أشرت إليه مال، قال:"إني كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش"، "وتكلم في المهد، رواه الواقدي" إن أول ما تكلم به لما ولد جلال ربي الرفيع، وروي أنه لما وقع على الأرض رفع رأسه، وقال بلسان فصيح:"لا إله إلا الله، وإني رسول الله"، وعند ابن عائذ: أول ما تكلم به حين خرج من بطن أمه: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا" وطريق الجمع؛ أنه قال ذلك كله، "وابن سبع" لكن عده من الخصائص فيه نظر، إذ ليس من خصائصه، ولا من خصائص الأنبياء، فقد تكلم فيه ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، رواه أحمد، والحاكم مرفوعًا: "وابن المرأة من
وظللته الغمامة في الحر، رواه أبو نعيم والبيهقي، ومال إليه فيء الشجرة إذا سبق إليه، رواه البيهقي.
ومنها: شق صدره الشريف. رواه مسلم وغيره.
وغطه جبريل عند ابتداء الوحي ثلاث غلطات. عد هذه بعضهم من خصائصه كما نقله الحافظ ابن حجر، قال: ولم ينقل عن أحد من.
أصحاب الأخدود"، رواه مسلم ومبارك اليمامة، رواه البيهقي، وكذا الطفل الذي مرت عليه أمة تنسب إلى الزنا، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ولدي مثلها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهؤلاء ستة تكلموا في المهد، وليسوا بأنبياء، وللسيوطي نظم شهير في جملة من تكلم، "وظللته الغمامة" السحابة "في الحر، رواه أبو نعيم والبيهقي" عن ابن عباس: كانت حليمة لا تدعه يذهب مكانًا بعيدًا، فغفلت عنه، فخرج مع أخته في الظهيرة، فخرجت حليمة تطلبه حتى تجده مع أخته، قالت: في هذا الحر، قالت: ما وجد أخي حرًا، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، حتى انتهى إلى هذا الموضع
…
الحديث، وهذا كان قبل النبوة، فهو من الكرامات.
وفي الصحيح: فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، ولذا قال ابن جماعة: من زعم أن حديث إظلال الغمامة لم يصح، فهو باطل، نعم قال السخاوي وغيره: لم يكن دائمًا لما في حديث الهجرة: أن الشمس أصابته، وظلله أبو بكر بردائه، وثبت أنه كان بالجعرانة ومعه ثوب قد أظل عليه، وإنهم كانوا إذا أتوا على شجرة ظليلة تركوها له عليه الصلاة والسلام وغير ذلك، "ومال إليه فيء" ظل "الشجرة إذ سبق إليه" إكرامًا له، "رواه البيهقي" والترمذي، وحسنه، والحاكم، وصححه، وغيرهم عن أبي موسى الأشعري، قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش الحديث، وفيه: أن بحيرا الراهب صنع لهم طعاًا، وأتاهم به، وكان صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل، فقال بحيرا: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظرا إلى فيء الشجرة مال عليه.
"ومنها: شق صدره الشريف" أربع مرات ولم تثبت الخامسة، "رواه مسلم وغيره" وتقدم بسطه كجميع ما ذكره المصنف من أول هذا الفصل إلى هنا في المقصد الأول إلا كتابة اسمه على العرش وغيره، ففي المقصد الثاني، "وغطه" بغين معجمة، فطاء مهملة مشددة: ضمه وعصره "جبريل عند ابتداء الوحي ثلاث غطات" ليشغله عن الالتفات لشيء آخر، ولإظهار الشدة والجد في الأمر وأن يأخذ الكتاب بقوة، وقيل غير ذلك، كما مر، "عد هذه بعضهم من خصائصه؛ كما نقله الحافظ ابن حجر، قال: ولم ينقل عن أحد من
الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحي.
ومنها: أن الله ذكره في القرآن عضوًا عضوًا، فقلبه بقوله:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، وقوله:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 194]، ولسانه بقوله:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، وقوله:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97]، وبصره بقوله:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، ووجه بقوله:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] . يده وعنقه بقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]، وظهره وصدره بقوله:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 1-3]، أخرجه البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد قال: كان أبو طالب يقول:
الأنبياء؛ أنه جرى له عند ابتداء الوحي" لا مرة ولا أكثر.
"ومنها: أن الله ذكره في القرآن" أي: ذكر أعضاءه التي أريد الإخبار عنها بصفة تعلقت بها فيها، ثناء عليه، مبينة، "عضوًا عضوًا" وهو بهذا المعنى لا يستلزم ذكره الجميع، فلا يرد أن بقي من أعضائه الفخذان والرجلان وغيرهما، "فقلبه" أي: فذكر قلبه "بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} الآية، أي: ما رآه بقلبه، أي: ما أنكر قلبه ما رآه، ببصره من صورة جبريل، أو الله تعالى؛ فإن الأمور القدسية تدرك أولا بالقلب، ثم تنتقل منه إلى البصر أو ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك، لأنه عرفه بقلبه، كما رآه ببصره، والمعنى أنه ليس تخييلا، ويدل له أنه صلى الله عليه وسلم سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: "رأيته بفؤادي"، رواه ابن جرير عن ابن عباس.
"وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} " وفي قراءة بتشديد نزل ونصب الروح، والفاعل الله، "وذكر لسانه بقوله:{وَمَا يَنْطِقُ} " بما يأتيكم به {عَنِ الْهَوَى} الآية، هوى نفسه، "وقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاه} " سهلنا القرآن {بِلِسَانِكَ} الآية، لغتك، "وبصره بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} " الآية، أي: ما مال بصره صلى الله عليه وسلم عن مرتبة المقصود له ولا جاوزه تلك الليلة، "ووجهه بقوله: {قَدْ} للتحقيق {نَرَى تَقَلُّبَ} تصرف {وَجْهِكَ فِي} جهة {السَّمَاءِ} الآية، متطلعًا إلى الوحي، ومتشوفًا إلى الأمر باستقبال الكعبة، وكان يود ذلك، لأنها قبلة إبراهيم ولأنه أدعى لإسلام العرب، "ويده وعنقه بقوله:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية، أي: لا تمسكها عن الإنفاق كل المسك، "وظهره وصدره بقوله:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} بالنبوة وغيرها، {وَوَضَعْنَا} حططنا {عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ} أثقل {ظَهْرَكَ} ، الآية، وهذا كقوله:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} الآية، ويأتي
واشتق اسمًا من اسم المحمود، ويشهد له ما أخرجه البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد، قال: كان أبو طالب يقول:
وشق له من اسمه ليجله
…
فذو العرش محمود وهذا محمد
وهو مشهور لحسان بن ثابت.
وسمي أحمد، ولم يسم به أحد قبله. رواه مسلم. ولأحمد من حديث عليّ: "أعطيت أربعًا لم يعطهن أحد قبلي
…
". وذكر منها: "وسميت أحمد".
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت جائعًا، ويصبح طاعمًا يطعمه ربه ويسقيه من الجنة، كما سيأتي البحث فيه في صيامه صلى الله عليه وسلم من مقصد عباداته.
بيانه إن شاء الله تعالى.
"واشتق اسمًا من اسم المحمود" بالجر بدل والنصب، بتقدير أعني، والرفع بتقدير وهو، وقيل: من اسمه الحميد، ولكن المحمود أتم في الاشتقاق؛ لأن فيه ميمين، كمحمد بخلاف الحميد، "ويشهد له ما أخرجه البخاري في تاريخه الصغير من طريق عليّ بن زيد" بن عبد الله، بن زهير بن عبد الله، بن جدعان القرشي، التيمي، البصري، ضعيف من صغار التابعين، "قال: كان أبو طالب يقول: وشق" بالبناء للفاعل من شق الشيء، جعله قطعتين، أي: اشتق الله تعالى "له من اسمه" بقطع الهمزة للضرورة، اسمًا "ليجله" ليعظمه، "فذو العرش محمود، وهذا محمد" وقدم المصنف هذا الحديث بلفظه في أسمائه عليه السلام، "وهو مشهور لحسان بن ثابت" الأنصاري، المؤيد بروح القدس، فتوارد حسان مع أبي طالب، أو ضمنه شعره، وبه جزم بعض، "وسمي أحمد" أيس أحمد الحامدين لربه فالأنبياء حمادون وهو أحمدهم أي أكثرهن حمدًا "ولم يسم به أحد من قلبه" منذ خلقت الدنيا، حماية من الله لئلا يدخل، لبس على ضعيف القلب، أو شك في أنه المنعوت بأحمد في الكتب السابقة، هكذا قاله الأكثرون، وبه جزم عياض وغيره، وهو الصواب، والقول بأن الخضر اسمه أحمد مردود رواه، وكذا لم يتسم به أحد في حياته، وأول من سمي به بعده والد الخليل بن أحمد على المشهور؛ كما مر مفصلا.
"رواه مسلم" عن علي مرفوعًا: "أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم". ولأحمد من حديث علي: "أعطيت أربعًا لم يعطهن أحد قبلي" وذكر منها: "وسميت أحمد" وقدم لفظه أوائل الخصائص.
"ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت جائعًا، ويصبح طاعمًا، يطعمه ربه ويسقيه من الجنة، فكان يواصل، "كما سيأتي في البحث فيه في صيامه صلى الله عليه وسلم من مقصد عبادته" التاسع، "وكان
وكان يرى من خلفه كما يرى أمامه. رواه مسلم.
ويرى في الليل وفي الظلمة كما يرى بالنهار والضوء. رواه البيهقي.
وكان ريقه يعذب الماء الملح، رواه أبو نعيم. ويجزي الرضيع، رواه البيهقي.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى في الصخر غاصت قدماه فيه وأثرت فيه، كما هو مشهور قديمًا وحديثًا على الألسنة، ونطق به الشعراء في منظومهم، والبلغاء في منثورهم، مع اعتضاده بوجود أثر قدمي الخليل إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام في حجر المقام المذكور في التنزيل في قوله تعالى:{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وهو البالغ تعيينه -وأنه أثره- مبلغ التواتر، القائل فيه أبو طالب:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة
…
على قدميه حافيًا غير ناعل
يرى من خلفه، كما يرى من أمامه، رواه مسلم" عن أنس رفعه، وفيه: "أيها الناس إني أمامكم، لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، فإني أراكم من أمامي ومن خلفي". "ويرى في الليل وفي الظلمة" بضم، فسكون وبضمتين ذهاب النور، واحترز به عما إذا كان قمر، "كما يرى بالنهار وفي الضوء، رواه البيهقي" في الدلائل عن ابن عباس به، وعنده أيضًا عن عائشة نحوه، وقدم المصنف بسط هذين في بصره من المقصد الثالث، "وكان ريقه يعذب الماء الملح، رواه أبو نعيم" وغيره، عن أنس: بزق في بئر في دار أنس، فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها، "ويجزي" يكفي "الرضيع" عن اللبن، "رواه البيهقي" في الدلائل بلفظ: أنه كان يدعو يوم عاشوراء برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة، فيتفل في أفواههم، ويقول للأمهات: "لا ترضعنهم إلى الليل". فكان ريقه يجزيهم، وقدم هذين في ريقه من المقصد الثالث.
ويقع في بعض النسخ هنا زيادة، وهي:"منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى في الصخر، غاصت قدماه فيه وأثرت فيه، كما هو مشهور قديمًا وحديثًا على الألسنة، ونطق به الشعراء في منظومهم، والبلغاء في منثورهم" وأنكره الحافظ السيوطي، وقال: لم أقف له على أصل، ولا سند، ولا رأيت من خرجه في شيء من كتب الحديث، وكذا أنكره غيره، وحاول المصنف خلافه، فقال:"مع اعتضاده" تقويته "بوجود أثر قدمي الخليل إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام في حجر المقام المذكور في التنزيل في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} منها {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} ، الآية أي: الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت، فأثر قدماه فيه، "وهو البالغ تعيينه؛ وأنه أثره" أي: إبراهيم "مبلغ التواتر القائل فيه أبو طالب" في قصيدته اللامية، "وموطئ" بالجر عطفًا على المجرور قبله من قوله: أعوذ برب الناس، أي: محل وطء "إبراهيم في الصخر" الحجر "رطبة" حتى أثر فيه "على قدميه حافيًا غير فاعل" صفة كاشفة، "وبما
وبما في البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا من معجزة تأثير ضرب موسى في الحجر ستًا أو سبعًا إذ فر بثوبه لما اغتسل. إذ ما خص نبي بشيء من المعجزات والكرامات إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم مثله، كما نصوا عليه، مع ما يؤيد ذلك: وهو وجود أثر حافر بغلته الشريفة -على ما قيل- في مسجد بطيبة، حتى عرف المسجد بها، فيقال مسجد البغلة، وما ذاك إلا من سره الساري فيها ليكون ذلك أقوى في الآية. وأوضح في الدلالة على إيتائه عليه الصلاة والسلام هذه الآية التي أوتيها الخليل في حجر المقام على وجه أعلى منه.
بل قال الزبير بن بكار فيما نقله المجد الشيرازي في المغانم.
في البخاري" ومسلم "من حديث أبي هريرة، مرفوعًا:"من معجزة تأثير ضرب موسى في الحجر" الذي كان يحمله معه في الأسفار، فيتفجر منه الماء "ستًا" من الآثار، "أو سبعًا" بالشك من الراوي، ولعله أوحي إليه أن يضربه، "إذ فر بثوبه لما اغتسل"، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، قالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل، معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في أثره يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربًا". قال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة، رواه الشيخان.
قال الحافظ: فيه معجزة ظاهرة لموسى، وأن الآدمي يغلب عليه طباع البشر؛ لأن موسى مع علمه أن الحجر ما سار بثوبه إلا بأمر الله، عامله معاملة من يعقل حتى ضربه، ويحتمل أنه أراد بيان معجزة أخرى لقومه بتأثير الضرب بالعصا في الحجر، انتهى، وذكر وجه استشهاده به بقوله:"إذ ما خص نبي بشيء من المعجزات والكرامات إلا ولنبينا صلى الله عليه وسلم مثله، كما نصوا عليه" لكن المثلية التي للمصطفى إما من جنسها، أو بغيرها أعلى أو مساوٍ؛ كما نصوا عليه، فمثل هذا لا يدفع إنكار وروده، "مع ما يؤيد ذلك، وهو وجود أثر حافر بغلته الشريفة على ما قيل في مسجد بطيبة حتى عرف المسجد بها، فيقال: مسجد البغلة" وهذا لو ثبت لا ينتج الدعوى، إذ لا يلزم من تأثير حافر بغلته، وإن كان إكرامًا له ومعجزوة، إن نفس قدميه يؤثر الذي هو المطلوب، "وما ذاك إلا من سره الساري فيها ليكون ذلك أقوى في الآية، وأوضح في الدلالة على إيتائه عليه الصلاة والسلام هذه الآية التي أوتيها الخليل في حجر المقام على وجه أعلى منه" وهذا تصريح منه، بأنه لم يؤت مثله بخصوصه، فلم يثبت المطلوب، "بل قال الزبير بن بكار فيما نقله المجد الشيرازي" صاحب القاموس "في" كتابه "المغانم
المطابة بعد ذكره لأثر البغلة ومسجدها، وفي غربي هذا المسجد أثر كأنه أثر مرفق يذكر أن عليه الصلاة والسلام اتكأ ووضع مرفقه الشريف عليه، وعلى حجر آخر أثر الأصابع، والناس يتبركون بهما.
وقال السيد نور الدين السمهودي في كتابه "وفاء الوفا" بعد إيراد ذلك: قلت ولم أقف في ذلك على أصل إلا أن ابن النجار قال في المساجد التي أدركها خرابًا بالمدينة ما لفظه، ومسجدان قرب البقيع، أحدهما يعرف بمسجد الإجابة، والثاني يعرف بمسجد البغلة، فيه إسطوان واحد، وهو خراب، وحوله نشز من الحجارة، فيه أثر يقولون إنه أثر حافر بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وكان إبطه صلى الله عليه وسلم لا شعر عليه، قال القرطبي، وكان أبيض غير متغير اللون، كما ذكره الطبري وعده من الخصائص، وذكره بعض الشافعية، لحديث أنس -المتفق عليه- أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه.
وقال الشيخ جمال الدين.
المطابة" في فضائل طابة، "بعد ذكره لأثر حافر البغلة ومسجدها، وفي غربي هذا المسجد أثر؛ كأنه أثر مرفق".
"ويذكر أنه عليه الصلاة والسلام اتكأ عليه، ووضع مرفقه الشريف عليه، وعلى حجر آخر آثر الأصابع والناس يتبركون بهما" أي: أثر المرفق وأثر الأصابع، "وقال السيد" الشريف "نور الدين" على "السمهودي في كتابه وفاء الوفاء" تاريخ المدينة "بعد إيراد ذلك: ولم أقف في ذلك على أصل إلا أن ابن النجار" الحافظ الشهير، "قال" في تاريخ المدينة "في المساجد التي أدركها خرابًا بالمدينة ما لفظه: ومسجان قرب البقيع، أحدهما يعرف بمسجد الإجابة"؛ كأنه لإجابة الدعاء فيه، "والثاني يعرف بمسجد البغلة فيه أسطوان" عمود "واحد، وهو خراب وحوله نشز" بالزاي: مرتفع "من الحجارة فيه أثر، يقولون: إنه أثر خافر بغلة النبي صلى الله عليه وسل، انتهى" كلام السمهودي، وهذا آخر ما في بعض النسخ، وأكثرها سقوطها، ولعله أولى، "وكان إبطه عليه الصلاة والسلام لا شعر عليه، قاله القرطبي".
"وكان أبيض غير متغير اللون" قيد به دفعًا لتوهم أن خلوه من الشعر لمرض منع ظهوره، "كما ذكره الطبري" الحافظ محب الدين المكي، "وعده في الخصائص، وذكره بعض الشافعية" كالأسنوي؛ "لحديث أنس المتفق، عليه" أي: الذي رواه الشيخان؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه" لفظ الحديث عندهما: كان لا يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، فاقتصر المصنف على حاجته منه، "وقال الشيخ جمال الدين"
الأسنوي في "المهمات" إن بياض الإبط كان من خواصه صلى الله عليه وسلم، انتهى.
قال في شرح تقريب الأسانيد: وما ادعاه من كون هذا من الخصائص فيه نظر، إذ لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، بل لم يرد ذلك في شيء من الكتب المعتمدة، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره، بياض إبطيه أن لا يكون له شعر، فإن الشعر إذا نتف بقي المكان أبيض، وإن بقي فيه آثار الشعر، ولذلك ورد في حديث عبد الله بن أقرم الخزاعي، أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كنت أنظر إلى عفرة إبطيه إذا سجد، خرجه الترمذي، وحسنه، والنسائي، وابن ماجه. وقد ذكر الهروي في "الغريبين"، وابن الأثير في "النهاية" أن العفرة بياض ليس بالناصع ولكن كلون عفرة الأرض، وهو وجهها، وهذا يدل على أن آثار الشعر هو الذي جعل المكان أعفر، وإلا فلو كان خاليًا من نبات الشعر جملة لم يكن أعفر.
عبد الرحيم بن الحسن بن علي "الأسنوي" شيخ الشافعية وصاحب التصانيف السائرة، إمام زمانه البارع، توفي سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وله أربع وسبعون سنة، "في" كتاب "المهمات: أن بياض الإبط كان من خواصه صلى الله عليه وسلم، انتهى".
"قال في شرح تقريب الأسانيد" الولي العراقي: "وما ادعاه من كون هذا من الخصائص فيه نظر، إذ لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، بل لم يرد ذلك في شيء من الكتب المعتمدة، والخصائص لا تثبت بالاحتمال" القائم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه، وإنما تثبت بالنص الصريح، "ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه؛ أن لا يكون له شعر" لاحتمال أنه كان يديم تعاهده، "فإن الشعر إذا نتف بقي المكان أبيض، وإن بقي فيه آثار الشعر، ولذلك ورد في حديث عبد الله بن أقرم" بفتح الهمزة والراء، بينهما قاف ساكنة، ثم ميم، ابن زيد "الخزاعي" أبي معبد المدني، صحابي، نقل له حديثان، "أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت أنظر إلى عفرة" بضم المهملة، وسكون الفاء "إبطيه إذا سجد، خرجه الترمذي، وحسنه النسائي، وابن ماجه، وقد ذكر الهروي" بفتح الهاء والراء أحمد بن محمد، أبو عبيد المشهور "في الغريبين" للقرآن والحديث نسبة إلى هراة مدينة بخراسان، وليس هو عليًا أبا الحسن بن إدريس، كما توهم، "وابن الأثير في النهاية، أن العفرة بياض ليس بالناصع" أي: الخالص، "ولكن" هو "كلون عفرة الأرض، وهو وجهها، وهذا يدل على أن آثار الشعر هو الذي جعل المكان أعفر، وإلا فلو كان خاليًا من نبات الشعر جملة لم يكن أعفر" وقد تمنع
نعم الذي يعتقد فيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن لإبطه رائحة كريهة، بل كان نظيفًا طيب الرائحة، كما ثبت في الصحيح.
وكان عليه الصلاة والسلام يبلغ صوته وسمعه ما لا يبلغه صوت غيره ولا سمعه.
وكان تنام عينه ولا ينام قلبه. رواه البخاري.
وما تثاءب قط. كما رواه ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه من مرسل يزيد ابن الأصم قال: ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط، وأرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد
دلالته على ذلك يقول الحافظ: إن شأن المغابن أن يكون لونها في البياض دون لون بقية الجسد، "نعم الذي يعتقد فيه صلى الله عليه وسلم" وجوبًا، "أنه لم يكن لإبطه رائحة كريهة، بل كان نظيفًا، طيب الرائحة؛ كما ثبت في الصحيح" عن أنس وغيره، وقد روى البزار عن رجل، قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسال علي من عرق إبطيه مثل رائحة المسك، "وكان عليه الصلاة والسلام يبلغ صوته وسمعه ما لا يبلغه صوت غيره ولا سمعه" من الأصوات والأسماع المعتادين، فقد كان يخطب، فتسمعه العواتق في البيوت، ويسمع أطيط السماء؛ كما مر بسط ذلك في شمائله، "وكان تنام عينه ولا ينام قلبه" وكذلك الأنبياء، فهو خصوصية له على الأمم؛ كما مر مبسوطًا، "رواه البخاري" ومسلم، وغيرهما بلفظ:"يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي"، وأخرجه بلفظ المصنف الحاكم من حديث أنس:"كانت تنام".... إلخ.
وتقدم أيضًا. "وما تثاءب" بالهمز تثاؤبًا، وزان تثاقل تثاقلا، قيل: هي فترة تعتري الشخص، فيفتح عندها فمه وتثاوب بالواو عامي؛ كما في المصباح، وقال غيره: هو التنفس الذي ينفتح منه الفم لدفع البخار المنخفق في عضلات الفك "قط" وكلك الأنبياء، لأن سببه ناشئ عن إبليس، لأنه يدعو إلى الشهوات التي منها الامتلاء من الطعام الذي ينشأ عنه التثاؤب غالبًا، وهم معصومون من ذلك؛ "كما رواه ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه من مرسل يزيد" بباء قبل الزاي، "ابن الأصم" ضد السامع، ونسخة الأعصم بزيادة عين تصحيف من الجهال، واسم الأصم عمرو، وقيل: يزيد بن عمرو بن عبيد العامري، البكائي، بفتح الموحدة، والكاف الثقيلة، ابن أخت ميمونة أم المؤمنين، من الثقات، مات سنة ثلاث ومائة، "قال: ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط" وظاهر هذا اختصاصه، لكن في رواية عن يزيد المذكور عند ابن أبي شيبة أيضًا، بلفظ: "ما تثاءب نبي قط"؛ كما قدمه المؤلف في الصوت الشريف وهذا يعم جميع الأنبياء ونحوه قوله هنا: "وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك" بن مروان الأموي، الأمير، مقبول،
الملك، قال: ما تثاءب نبي قط ويؤيده ذلك. أن التثاؤب من الشيطان. رواه البخاري.
وما احتلم قط، وكذلك الأنبياء. ورواه الطبراني. وكان عرقه أطيب من المسك. رواه أبو نعيم وغيره.
وإذا مشى مع الطويل طاله، رواه البيهقي، ولم يقع له ظل على الأرض، ولا رؤي له ظل في شمس ولا قمر.
روى له أبو داود، ولم يلق أحدًا من الصحابة، مات سنة خمس وعشرين ومائة أو بعدها، "قال: ما تثاءب نبي قط" هذا يعم الجميع، فهو من خصائصهم على الأمم.
"ويؤيده ذلك أن التثاؤب من الشيطان" لأنه الحامل على سببه بتزيين الشهوات، "رواه البخاري" ومسلم، عن أبي هريرة مرفوعًا:"التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع"، "وما احتلم قط" أي: ما رأى من منامه ما يقتضي خروج المني؛ لأنه من الشيطان ولا سبيل له عليك، "وكذلك الأنبياء" هذا هو المراد، إن أطلق الاحتلام لغة على الرؤيا المنامية، لا بهذا القيد، "رواه الطبراني" عن ابن عباس، قال: ما احتلم نبي قط، وإنما الاحتلام من الشيطان؛ كما قدمه في جماعة صلى الله عليه وسلم، "وكان عرقه أطيب من المسك، رواه أبو نعيم وغيره" بلفظ: كان عرقه في وجهه مثل اللؤلؤ، أي: في البياض والصفاء أطيب من المسك الأذفر بالمعجمة، أي: الطيب الريح، ومر بسط هذا في الشمائل.
"وإذا مشى مع الطويل طاله" أي:" زاد عليه في الطول، مع أنه ربعة إكرامًا من الله حتى لا يزيد عليه أحد صورة، كما لا يزيد معنى، فمثل ارتفاعه في عين الناظر يراه رفعة حسية، وهذا من المعجزات.
رواه البيهقي" وغيره عن عائشة، قالت: لم يكن بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردد وكان ينسب إلى الربعة إذا مشي وحده، ولم يكن على حال يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول الإطالة، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه ينسب إلى الربعة.
وروى عبد الله بن أحم عن علي: كان صلى الله عليه وسلم ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة، إذا جامع القوم غمرهم، بفتح المعجمة والميم، أي: زاد عليهم في الطول من غمر الماء إذا علا، ولذا زاد رزين وابن سبع: أنه كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين، وتوقف بعض فيه؛ بأنه لم يره إلا في كلام رزين، وكلام الناقلين عنه تقصير، فإنه المجامعة شاملة للجلوس والمشي.
"ولم يقع له ظل على الأرض، ولا رؤي له ظل في شمس ولا قمر" رواه الحكيم الترمذي مرسلا، قال ابن سبع: لأنه كان نورًا كله، وقال رزين: لغلبة أنواره، قيل: وحكمته صيانته
ويشهد له أنه صلى الله عليه وسلم لما سأل الله تعالى أن يجعل في جميع أعضائه وجهاته نورًا، ختم بقوله: واجعلني نورًا.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يقع على ثيابه ذباب قط. نقله الفخر الرازي، ولا يمتص دمه البعوض، كذا نقله الحجازي وغيره، وما آذاه القمل، قاله ابن سبع في "الشفاء" والسبتي في "أعظم الموارد".
ومنها: انقطاع الكهنة عند مبعثه، وحراسة السماء من استراق السمع.
عن أن يطأ كافر ظله، وإطلاق الظل على القمر مجاز؛ لأنه إنما يقال ظلمة القمر ونوره، وروى ابن المبارك وابن الجوزي عن ابن عباس: لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ظل، ولم يقم مع الشمس قط إلا غلب ضوءه ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوءه ضوء السراج، وتقدم هذا كله في مشيه صلى الله عليه وسلم. ويشهد له أنه صلى الله عليه وسلم لما سأل الله تعالى أن يجعل في جميع أعضائه وجهاته نورًا، ختم بقوله:"واجعلني نورًا" أي: النور لا ظل له، وبه يتم الاستشهاد، "وكان صلى الله عليه وسلم لا يقع على ثيابه ذباب قط، نقله الفخر الرازي" عن بعضهم، "ولا يمتص دمه البعوض؛ كذا نقله الحجازي وغيره" ونوزع بعدم ثبوته، "وما أذاه القمل" لعدم وجوده فيه، "قاله" أبو ربيع سليمان "بن سبع" بإسكان الموحدة، وقد تضم السبتي "في" كتاب "الشفاء" أي: شفاء الصدور في إعلام نبوة الرسول وخصائصه، ولفظه: لم يكن فيه قمل، لأنه نور، ولأن أصله من العفونة، ولا عفونة فيه، وأكثره من العرق، وعرقه طيب.
"والسبتي" بفتح، فسكون، نسبة إلى سبتة بالمغرب، وجزم الرشاطي؛ بأن سبتة، بالفتح، والذي ينسب إليها السبتي، بالكسر "في" كتابه "أعظم الموارد" وأطيب الموالد، وقدم المصنف في اللباس، أنه يشكل عليه حديث عائشة: كان يفلي ثوبه، ومن لازمه وجود شيء يؤذيه قمل أو برغوث أو نحو ذلك، ويجاب بأن التفلي لاستقذار ما علق بثوبه من غيره، وإن لم يؤذه، وفيه: إن أذاه غذاؤه من البدن، وإذا امتنع الغذاء لم يعش الحيوان غالبًا، انتهى ملخصًا، ومر أن شيخنا دفع بحثه، بأن التفلية لإزالة القذر الحاصل من غيره، لا القمل ونحوه، ولا يلزم أنه حيوان، وبتقديره حيوانًا يجوز أنه فلاه قبل مضي مدة، لا يصبر فيها على عدم الغذاء.
"ومنها: انقطاع الكهنة" بمعنى الكهانة تجوز العلامة التعلق بينهما: فأطلق اسم المتعلق، وأراد به المتعلق، فهو مجاز لغوي، أو هو من مجاز النقص، أي: إخبار الكهنة؛ إذ نفس الكهنة لم ينقطعوا: جمع كاهن، وهو المخبر ببعض المغيبات كتابيًا أو غيره، "عند مبعثه" أي عقبه "وحراسة السماء من استراق السمع" أي: استراق الشياطين لاستماع ما تقوله الملائكة
والرمي بالشهب، قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها، فيلقون على الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها.
فيخبرون به غيرهم، "والرمي" بالجر بباء مقدرة، أي: وحراسة السماء بالرمي "بالشهب"، أي: رمي الملائكة للشياطين عند استراق السمع، قال تعالى:{فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} الآية، قيل: الأولى تأخير عند مبعثه عن هذا ليتعلق بالثلاثة، وجوابه أنهما عطف علة على معلول والعلة تقارن معلولها، في الزمان، فيفيد أن الثلاثة عند مبعثه، فلا فرق بين تقديمها وتأخيرها، ثم المتبادر من المصنف؛ أنه لم يتخلل زمن بين المبعث والرمي بالشهب، وذكر ابن الجوزي؛ أن قريشًا وبني لهب، بكسر اللام رأت الرمي بالنجوم بعد المبعث بعشرين يومًا، فاجتمعوا إلى كاهن اسمه حظر، أتت عليه مائتان وثمانون سنة، فذكر الخبر مطولا جدًا، وفي آخره أنه من أجل مبعوث عظيم الشأن، يبعث بالتنزيل والقرآن، من نجل هاشم الأكارم، يبعث بالملاحم، وقتل كل ظالم، هذا هو البيان، أخبرني به رئيس الجان أغمي عليه، فما أفاق إلا بعد ثالثة، فقال: لا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلم:"لقد نطق عن مثل نبوة، وإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده"، وفي سيرة ابن إسحاق: لما تقارب أمره صلى الله عليه وسلم، وحضر مبعثه، حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تسترق فيها، فرموا بالنجوم، فعرف الجن أنه أمر حدث فأول من فزع من ذلك ثقيف، فأتوا عمرو بن أمية بن علاج، وكان أدهى العرب، وأفكرها رأيًا، فقال: إن كانت هي النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر، ويعرف بها الأنواء، فهو طي الدنيا وهلاك الخلق، وإن كانت غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهو لأمر أراد الله به هذا الخلق.
"قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة" وفي تفسير ابن عطية: روي في الرمي بالشهب أحاديث صحاح، مضمونها أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء، فتقعد لتسمع واحدًا فوق واحد، فيتقدم الأجسر نحو السماء، ثم الذي يليه ثم الذي يليه، فيقضي الله بأمر من أمر الأرض، فيتحدث به أهل السماء، فيسمعه، منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته فربما، أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه جملة، فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة، فتصدق تلك الكلمة، فيصدق الجاهلون الجميع، "فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث" كأن حكمة تخصيصه دون باقي الأنبياء على ظاهره تعظيم المصطفى لقرب زمنه؛ كما قال:"أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي"، "فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها" وما وقع عند الزبير بن بكار، أن إبليس كان يخترق السماوات ويصل إلى أربع، فلما ولد المصطفى،
فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، وهو الشعلة من النار، فلا يخطئ أبدًا، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس في البراري، وهذا لم يكن ظاهرًا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكره أحد قبل زمانه، وإنما ظهر في بدئ أمره، وكان ذلك أساسًا لنبوته.
حجب من السبع، محمول على ما بعد ولادة عيسى، بدليل تفصيل ابن عباس المذكور، "فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، وهو الشعلة من النار" التي تشبه النجم المنقض، وبهذا جزم البيضاوي، ويأتي أنهم كانوا يرمون بنفس النجوم، "فلا يخطئ أبدًا" من حيث الإصابة، وإن كان قد يتخلف الإحراق، كما بينه بقوله:"فمنهم من يقتله" فيموت حريقًا، "ومنهم من يحرق وجهه" ولا يموت، "ومنهم من يخبله" بضم التحتية، وفتح الخاء المعجمة، وشد الباء أبلغ من فتح الياء، وسكون الخاء، وكسر الباء، أي: يفسد عقله أو عضوه، "فيصير غولا" أي: شيطانًا "يضل الناس في البراري" وفي الحديث: "إذا تغولت لكم الغيلان، فنادوا بالأذان".
وفي البغوي: فاتبعه شهاب ثاقب، كوكب مضيء لا يخطئه فيقتله أو يحرقه أو يخبله، وإنما يعودون إلى استراق السمع، مع علمهم أنهم لا يصلون إليه طمعًا في السلامة، ونيل المراد، كراكب البحر، قال عطاء: سمي النجم الذي يرمى به ثاقبًا؛ لأنه يثقبهم.
وفي البيضاوي: والشهاب ما يرمى به؛ كأنه كوكب انقض، وما قيل أنه بخار يصعد إلى الجو فيشتغل، فتخمين إن صح لم يناف ذلك، إذ ليس فيه ما يدل على أنه ينقض من الفلك، ولا ينافي قوله:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} الآية، فإن كل نير يحصل في الجو العالي، فهو مصباح لأهل الأرض، وزينة للسماء من حيث إنه يرى كأنه على سطحه، ولا يبعد أن يصير الحادث بما ذكر في بعض الأوقات رجمًا للشياطين، يتصعد إلى قرب الفلك للسمع، وما روي أن ذلكم حدث بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم إن صح، فلعل المراد كثرة وقوعه أو مصيره دحورًا، واختلف في أن المرجوم يتأذى به فيرجع أو يحرق به، لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسًا، ولا يقال: إن الشيطان من النار لا يحترق لأنه ليس من النار الصرف، كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص، مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها، انتهى، ولعل قوله: قد يصيب وقد لا، معناه: قد يحترق وقد لا، فلا خلف، "وهذا" أي: الرمي بالشهب "لم يكن ظاهرًا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكره أحد قبل زمانه، وإنما ظهر في بدء أمره، وكان ذلك أساسًا لنبوته" وفيه إفادة أنه كان موجودًا، لكنه قليل بالنسبة لزمنه، فلا يخالف قوله:"وقال معمر" بن
وقال معمر قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم.
قلت: أفرأيت قوله: يقال {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9] الآية، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن قتيبة: إن الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن في شدة الحراسة بعد مبعثه، وقيل: إن النجم كان ينقض ويرمي الشياطين ثم يعود إلى مكانه. ذكره البغوي.
ومنها أنه أتي بالبراق.
راشد: "قلت للزهري" محمد بن مسلم بن شهاب: "أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ " أي: ما قبل البعثة، "قال: نعم، قلت: أفرأيت قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9] الآية، فإن ظاهرها؛ أنه لم يكن يرمي بها في الجاهلية، "قال: غلظت، وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم" وقد روى ابن إسحاق، عن ابن عباس، عن نفر من الأنصار: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: "ما كنتم تقولون في هذا الذي يرمي به"؟، قالوا: يا نبي الله! كنا نقول مات ملك ملك ملك، ولد مولود مات، فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك، ولكن الله تبارك وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرًا، سمعه حملة العرش، فسبحوا، فسبح من تحتهم لتسبيحهم، فسبح من تحت ذلك، ولا يزال التسبيح يبسط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيسبحوا، ثم يقول بعضهم لبعض: ممن سبحتم؟، فيقولون: سبح من فوقنا، فسبحنا بتسبيحهم، فيقولون: ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا، فيقولون مثل ذلك حتى ينتهوا إلى حملة العرش، فيقال لهم: مم سبحتم؟ فيقولون: قضى الله في خلقه كذا وكا للأمر الذي كان، فيهبط الخبر من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيتحدثوا به، فيسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف، ثم يأتوا به الكهان من أهل الأرض فيحدثونهم فيخطئون ويصيبون فيتحدث به الكهان فيصيبون بعضًا، ويخطئون بعضًا، ثم إن الله حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها، فانقضت الكهانة اليوم فلا كهانة".
"وقال ابن قتيبة: "إن الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن في شدة الحراسة" كالشدة الكائنة "بعد مبعثه، وقيل: إن النجم كان ينقض ويرمي الشياطين، ثم يعود إلى مكانه" من السماء "ذكره البغوي" في تفسيره، وقضية هذا كله منعهم من الاستراق رأسًا؛ لكن قال السهيلي: إنه بقي من استراق السمع بقايا يسيرة، بدليل وجودهم على الندور في بعض الأزمنة وبعض البلاد، انتهى.
"ومنها: أنه أتي بالبراق" بضم الموحدة، وخفة الراء: دابة فوق الحمار ودون البغل من
ليلة الإسراء مسرجًا ملجمًا، وقيل وكانت الأنبياء إنما تركبه عريانًا.
ومنها أنه أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرج به من المحل الأعلى، وأراه من آياته الكبرى، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ البصر وما طغى، وأحضر الأنبياء له وصلى بهم وبالملائكة إمامًا. وأطلعه على الجنة والنار. وعزيت هذه للبيهقي.
ومنها: أنه رأى الله تعالى بعينيه، كما يأتي في مقصد الإسراء إن شاء الله تعالى، وجمع الله له بين الكلام والرؤية، وكلمة الله تعالى في الرفيع الأعلى، وكلم موسى بالجبل.
البرق لسرعة سيره؛ لأنه يضع حافره عند منتهى طرفه، أو لشدة صفائه، لأنه أبيض، أو لأنه ذو لونين بياض وسواد، "ليلة الإسراء مسرجًا ملجمًا، قيل: وكانت الأنبياء إنما تركبه عريانًا" فيه تجوز؛ لأنه إنما يقال في الآدمي وفي غيره عرى، بضم فسكون.
"ومنها: أنه أسرى به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام" راكبًا على البراق، وحوله جبريل وغيره "إلى المسجد الأقصى" فربط البراق بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخل المسجد وصلى فيه ركعتين، "وعرج به من المحل الأعلى" الأقرب علوًا من الأرض إلى السماء، "وأراه من آياته الكبرى، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ" مال "البصر وما طغى" ما تجاوز إلى رؤية ما لم يرد منه، بل جمع همته في توجهه إلى الحق بكليته، فما التفت إلى ما سواه، "وأحضر الأنبياء، له وصلى بهم وبالملائكة" في بيت المقدس، وفي السماوات "إمامًا" ليعلم أنه إمام الكل في الدنيا، والأخرى، "وأطلعه على الجنة والنار" يقظة ليلة الإسراء ليحصل على الإنس بأهوال يوم القيامة، وليتفرع فيه للشفاعة، ويقول:"أنا لها أنا لها وأمتي أمتي" حيث يقول غيره: نفسي نفسي، "وعزيت هذه" أي: اطلاعه عليهما "للبيهقي" ولفظ لأنموذج: عد هذه البيهقي، أي: من خصائصه.
"ومنها: أنه رأى الله تعالى بعينيه" يقظة على الراجح؛ "كما يأتي في مقصد الإسراء إن شاء الله تعالى، وجمع له بين الكلام والرؤية، وكلمه الله تعالى في الرفيع" بالفاء، أي: المكان "الأعلى" على سائر الأمكنة تشريفًا، له، لا لأنه تعالى في مكان يوصف بقرب أو بعد، "وكلم موسى بالجبل"، وذاك أشرف منه للفرق بين من رفعه الملك إلى محل شريف ليخاطبه فيه، وبين من خاطبه في محل يساويه فيه غيره، وقد روى ابن عساكر في حديث المعراج مرفوعًا:"هبط جبريل، فقال: إن ربك يقول: لقد وطئت في السماء موطئًا لم يطأه أحد قبلك ولا يطؤه أحد بعدك".
ومنها أن الملائكة تسير معه حيث سار يمشون خلف ظهره وقاتلت الملائكة معه -كما مر- في غزوة بدر وحنين.
ومنها: أنه يجب علينا أن نصلي ونسلم عليه، لآية:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] .
وعنده أيضًا عن أنس مرفوعًا: "لما أسري بي قربني ربي حتى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى" وما أجمع قول الأنموذج، وبالإسراء وما تضمنه من اختراق السماوات السبع، والعلو إلى قاب قوسين، ووطئه مكانًا ما وطئه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، وإحياء الإنبياء له، وصلاته إمامًا بهم وبالملائكة، وإطلاعه على الجنة والنار، عد هذه البيهقي، ورؤيته آيات ربه الكبرى، وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى، ورؤيته للباري تعالى مرتين، وبركوب البراق في أحد القولين، انتهى.
"ومنها: أن الملائكة تسير معه حيث سار، يمشون خلف ظهره" قال أبو نعيم: ليكونوا حرسًا له من أعدائه، ولا ينافيه: والله يعصمك من الناس؛ لأن هذا إن كان قبل نزول الآية، فطاهر، وإلا فمن عصمة الله له أن يوكل به جنده من الملأ الأعلى تشريفًا له، وقد روى ابن سعد عن جابر: خرج صلى الله عليه وسلم، وقال لأصحابه:"امشوا أمامي وخلوا ظهري للملائكة" أي: فرغوه لهم ليمشوا خلفي، وهذا كالتعليل لومر بالمشي للملائكة، وقيل: إنما كان يمشي خلف أصحاه، ليختبر حالهم، وينظر إليهم حال تصرفهم في معاشهم، ويربي من يحتاج إلى التربية، وهذا شأن الراعي مع الرعية.
قال النووي: وإنما تقدمهم في قصة جابر: لأن دعاهم إليه فجاؤوا تبعًا، كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهم، وقدمت هذا في مشيه، "وقاتلت الملائكة معه" ولم يكونوا مع غيره إلا مددًا، "كما مر في غزوة بدر" قتالهم عن جميع الجيش، "وحنين" على ما جزم به ابن القيم، نقله عنه المصنف في غزوتها عملا بظواهر أحاديث مرت، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين؛ كما قدمه المصنف في بدر، لأن الله قال:{وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} الآية، ولا دلالة فيه على قتال، نعم في الصحيحين: أن ملكين قاتلا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد كأشد القتال، والمعروف من قتال الملائكة، كما قال ابن كثير: إنما هو يوم بدر، وكانوا فيما عداها عددًا ومددًا، ولا يرد هذا الحديث، لأنه عن المصطفى خاصة، لا عن عموم الجيش كبدر.
"ومنها: أنه يجب علينا أن نصلي ونسلم عليه" في الجملة اتفاقًا، فمرة في العمر عند المالكية، وفي التشهد الأخير عند الشافعية، وكلما ذكر عند جمع من المذاهب الأربع؛ "الآية"{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
ولم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم.
ومنها: أنه أوتي الكتاب العزيز، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة.
ومنها: حفظ كتابه هذا من التبديل والتحريف.
الآية، "ولم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم" قال في الأنموذج: ومن خواصه أنه ليس في القرآن، ولا غيره صلاة من الله على غيره، فهي خصيصية اختصه الله بها دون سائر الأنبياء.
"ومنها: أنه أوتي الكتاب العزيز" الغالب على كل كتاب بمعانيه وإعجازه، ونسخة أحكامها أو الذي لا نظير له، أو الممتنع مضاهاته لإعجازه أو من التغيير والتحريف لحفظ الله له، "وهو أمي، لا يقرأ، ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة" ومن يقرأ ويكتب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض، وهذا أعلى درجات الفضل له حيث كان كذلك، وأتى بالعلوم الجمة، والحكم المتوافرة، وأخبار القرون الماضية بلا تعلم خط ولا استفادة من كتاب بخلاف غيره؛ كما قدم المصنف بسط ذلك.
وروى ابن أبي حاتم عن عبادة رفعه: "أن جبريل أتاني، فقال: اخرج فحدث بنعمة الله التي أنعم الله عليك" الحديث، وفيه:"لقنني كلامه وأنا أمي"، وفي رواية:"وأتاني كتابه وأنا أمي".
"ومنها: حفظ كتابه هذا من التبديل والتحريف" على ممر الدهور، بخلاف غيره من الكتب؛ فإن بعضها بدل، وحرف للبيهقي عن الحسن في تفسير قوله تعالى:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ} الآية، {عَلَى مُكْثٍ} ، قال حفظه الله: فلا يزيد أحد فيه باطلا، ولا ينقص منه حقًا، وكأنه أخذ هذا التفسير من لازم الآية، وللبيهقي أيضًا عن يحيى بن أكثم دخل يهودي على المأمون، فأحسن الكلام، فدعاه إلى الإسلام، فأبى، ثم بعد سنة جاء مسلمًا، فتكلم على الفقه، فأحسن الكلام، فسأله المأمون ما سبب إسلامه، قال: انصرفت من عندك، فامتحنت هذه الأديان فعمدت إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة، فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين، فتصفحوها، فوجدوا فيها الزيادة والنقصان، فرموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي.
قال يحيى: فحججت تلك السنة، فلقيت سفيان بن عيينة، فذكرت له هذا، فقال: مصداقه في الكتاب، قلت: في أي موضع؟، قال: في قوله في التوراة والإنجيل: بما استحفظوا من كتاب
حتى سعى كثير من الملحدة والمعطلة، سيما القرامطة في تغييره وتبديل محكمه، فما قدروا على إطفاء.
الله، فجعل حفظه إليهم، وقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الآية، فحفظه الله تعالى فلم يضع، "حتى سعى كثير من الملحدة" من الإلحاد، وهو الميل، سموا بذلك لعدولهم عن ظواهر الشريعة وتأويلها بأمور سخيفة، ويسمون باطنية، وهم الإسماعيلية المنسوبون إلى إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وغرضهم إبطال الشرع؛ لأنهم في الأصل يهود ومجوس، "والمعطلة" الذين نفوا الصانع، وتستروا بزي الإسلام خوفًا من القتل، وسعوا في نقض الدين وتزيين ما يروج على بعض العقول القاصرة، "سيما القرامطة" طائفة من الملحدين.
قال السمعاني في الأنساب: القرمطي، بكسر القاف، وسكون الراء، وكسر الميم والمهملة، نسبة إلى طائفة خبيثة من أهل هجر ولحيان، وأصلهم رجل من سواد الكوفة، يقال له: قرمط، وقيل: حمدان بن قرمط، وسبب ظهورهم؛ أن جماعة من أولاد بهرام جور ذكروا آباءهم وجددوهم وما كانوا فيه من العز والملك وزوال ذلك بالإسلام، فاتفقوا على رفعه، وقالوا: نفرقهم ونفسد الرعايا عليهم، فقسموا الدنيا أربعة أقسام لكل ربعها، فذهب واحد إلى الكوفة، فأول من أجابه حمدان بن قرمط، فأعانه على الدعوة، وقيل: سموا قرامطة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عامرًا يمشي، وهو من أهل المدينة فقال:"إنه ليقرمط في مشيه"، انتهى، أي: يقارب خطاه، ومنه الخط المقرمط، وعلى هذا فهو عربي، وقيل: معرب؛ وإن جدهم كان يمشي كرمد، بالكاف العجمية، ومعناه بالفارسية السفلة، فغيروه وعربوه قرمط، وكان أحمر البشرة والعينين، وكان ظهوره سنة ثمان وسبعين ومائتين، فأظهر زهدًا وصلاحًا حتى اجتمع عليه خلق كثير، فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر به؛ وأنه الإمام المنتظر، وابتدع مقالات في كتاب، وقال: إنه الكلمة والمهدي، وزعم أنه انتقل إليه كلمة المسيح وجعل الصلاة ركعتين بعد الصبح، ركعتين بعد المغرب، والصوم يومين بالنيروز والمهرجان، وجعل القبلة إلى بيت المقدس، فكانت لهم وقائع وحروب، ودعاة وخلفاء، مذكورة في التواريخ حتى ظهر منهم سليمان بن الحسن الجبائي، فعاث في البلاد وأفسد، وقصد مكة، فدخلها يوم التروية سنة سبع عشرة وثلاثمائة في خلافة المقتدر، فقتل الحجاج، ورماهم بزمزم، وقلع باب الكعبة، وأخذ كسوتها، وأخذ الحجر الأسود، فبقي عندهم اثنتين وعشرين سنة، فبذل لهم خمسون ألف دينار ليردوه، فأبوا، ثم ردوه مكسورًا فوضع في مكانه وتغلبوا على مصر والشام حتى قاتلهم جوهر، القائد فهزمهم وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وكانت مدة خروجهم ستًا وثمانين سنة، حتى أهلكهم الله وأبادهم، وكانوا يحرفون القرآن ويتأولونه بتأويلات فاسدة لا تقبلها العقول، "في تغييره وتبديل محكمه، فما قدروا" في هذه المدة الطويلة "على إطفاء شيء من نوره" تمثيل لحالهم في سعيهم
شيء من نوره، ولا تغيير كلمة من كلمه، ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه، قال تعالى:{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] الآية.
وكتابه يشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب، جامعًا لأخبار القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب، الذي قطع عمره في تعلم ذلك.
في تحريف القرآن بمن أراد إطفاء نور عظيم منتشر في الآفاق، "ولا تغيير كلمة من كلمه" تفسير لما قبله بجعل كلام الله نورًا، "ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه" فضلا عن كلمة فهو ترق "قال تعالى:{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} أي يتطرق إليه "من بين يديه ولا من خلفه" أي: من جهة الجهات "الآية، وكتابه يشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب" الإلهية وزيادة، روى البيهقي عن الحسن: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، أودع علومها أربعة كتب: التوراة، والإنجيل، والزبور والفرقان، وأودع علوم التوراة، والإنجيل، والزبور في الفرقان، "جامعًا" كل شيء، قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَْءٍ} [النحل: 89] الآية.
روى ابن جرير وغيره عن ابن مسعود: من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خير الأولين والآخرين، وأنزل فيه كل علم، وبين لنا فيه كل شيء، لكن علمنا يقصر عما بين فيه، كجمعه لأخبار القرون السالفة" أي الماضية "والأمم البائدة" الذاهبة المنقطعة؛ كما في القاموس، فهو مساوٍ لما قبله وما بعده، أو الهالكة على ما في المصباح، فهو مباين لما قبله مفهومًا، وإن اتحدا ما صدقا، "والشرائع الدائرة" بمهملة، ومثلثة من دثر إذا ذهب ولم يبق له أثر، وفي تعبيره نوع من البلاغة يسمى التفنن، لأن الثلاثة متغايرة اللفظ، متقاربة المعاني، وهذا لفظ الشفاء في الوجه الرابع من إعجاز القرآن، ثم المراد التي دثرت وذهبت أهاليها، إذ الأحكام باقية لم تدثر، فهو مجاز، وإليه يشير قوله: "مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ" الفرد الواحد "من أحبار" علماء "أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك" فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به على نعته، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه؛ وأن مثله لم ينله بتعليم، قال عياض؛ وذلك لكبر كتبهم وعدم تقييد الأخبار بجملتها حتى قبل التوراة ستون سفرًا متفرقة بين أحبارهم بيد كل واحد سفر، فإذا وقعت حادثة وسئلوا عنها، قالوا: هذا في سفر فلان، وقال بعضهم: القرآن جامع لنبأ الأولين والآخرين، فعلم الأمم الماضية علم خاص وعلم هذه الأمة علم عام، وعلم أهل الكتاب قليل، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، وقرأ ابن عباس: وما أوتوا، وعلم هذه الأمة كثير، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، أنزل إليك الكتاب والحكمة، الكتاب
ويسر حفظه لمتعلميه، وقربه على متحفيه، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] ، وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم، فكيف بالجم الغفير على مرور السنين الكثيرة عليهم، والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة.
ومنها: أنه أنزل على سبعة أحرف تسهيلا علينا، وتيسيرًا وشرفًا ورحمة وخصوصية لفضلنا.
القرآن، والحكمة فهمه، "ويسر" سهل "حفظه لمتعلميه" عن ظهر قلب، "وقربه" سهل فهمه "على متحفيه" أي: الذين أتحفوا به، أي: سروا بحفظه: وفي نسخة: على متحفظيه، أي: قرب تحصيله على المتحفظ، أي: المتمسك به، الخائف ذهابه منه، إذ نسيانه كبيرة، ولا يرد أنه مرفوع عن الأمة، لأن الذنب في التفريط في محفوظه بتعاهده ودرسه.
قال القرطبي: من حفظ القرآن أو بعضه، فقد علت رتبته، فإذا أخل بهاتيك الرتبة حتى تزحزح عنها، ناسب أن يعاقب، فإن ترك تعاهده يفضي إلى الجهل والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد؛ "كما قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا} سهلنا أو هيأنًا {الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] الآية" للأذكار والاتعاظ؛ بأن صرفنا فيه أنواع المواعظ والعبر، أو للحفظ بالاختصار وعذوبة اللفظ، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} متعظ، "وسائر" أي: باقي "الأمم" غير هذه الأمة" لا يحفظ كتبها الواحد منهم" وإذا كان كذلك "فكيف" يتوهم "بالجم الغفير حفظه "على مرور السنين الكثيرة عليهم" وطول أعمالهم، فهو استفهام فيه تعجيب ممن يتوهم أن غير هذه الأمة شاركها في حفظ كتبهم، "والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة" فغالبه يحفظه قبل البلوغ أو كثير منهم، وهو من أعظم النعم.
روى البخاري في تاريخه والبيهقي مرفوعًا: "من أعطاه الله تعالى حفظ كتابه، فظن أن أحدًا أعطي أفضل مما أعطي فقط غلط" وفي رواية: "صغر أعظم النعم، لأن قد أوتي النعمة العظمى التي كل نعمة، وإن عظمت فهي بالنسبة إليها حقيرة، فإذا رأى أن غيره ممن لم يعظ ذلك أوتي أفضل مما أوتي فقد صغر عظيمًا" ومن خواصه أنه نزل منجمًا، وأنه مستغن عن غيره؛ وأنه نزل من سبعة أبواب.
"ومنها: أنه أنزل على سبعة أحرف" كما في الصحيحين وغيرهما، واختلف في معناه على نحو أربعين قولا، بسطها في الإتقان، أشار المصنف إلى قول منها، فقال: وإنما نزل كذلك "تسهيلا علينا، وتيسيرًا، وشرفًا، ورحمة وخصوصية لفضلنا" فليس المراد حقيقة العدد، بل المراد ما ذكر، لأن سبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في
ومنها: كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا.
ومنها: أنه تعالى تكفل بحفظه، فقال تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
العشرات والسبعمائة في المئين، ولإيراد العدد المعين إلى هذا جنح عياض ومن تبعه، ويرده حديث ابن عباس في الصحيحين مرفوعًا:"أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف".
وفي حديث أبي عند مسلم: "إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه أن هون على أمتي، فأرسل إليّ أن أقرأه على سبعة أحرف".
وفي لفظ عند النسائي: "أن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل على يميني وميكائيل على يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف".
وفي حديث أبي بكر عند أحمد: "فنظرت إلى ميكائيل، فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدة" فهذا يدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره، وأقرب الأقوال قولان، أحدهما: أن المراد سبع لغات، وعليه أبو عبيدة، وثعلب، والزهري، وآخرون، وصححه ابن عطية، والبيهقي، وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة، وأجيب بأن المراد أفصحها، والثاني: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل وتعال، وهلم، وعجل، وأسرع، وعليه سفيان بن عيينة، وابن وهب، وخلائق، ونسبة ابن عبد البر لأكثر العلماء.
قال السيوطي: والمختار أن هذا من المتشابه الذي لا يدري معناه، كمتشابه القرآن والحديث، وعليه ابن سعدان النحوي، لأن الحرف يصدق لغة على الهجاء، وعلى الكلمة وعلى المعنى، وعلى الجهة.
وفي فتح الباري قال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات سبع، الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل، وقال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء القراء، كعاصم ونافع هي الأحرف السبعة التي في الحديث، فقط غلط غلطًا عظيمًا، ويلزم من هذا، أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة وغيرهم، ووافق خط المصحف؛ أن لا يكون قرآنًا وهذا غلط عظيم، انتهى.
"ومنها: كونه آية باقية لا تعدم" بفتح، فسكون، أي: لا تزول "ما بقيت الدنيا" مدة بقائها إلى قرب قيام الساعة فيرفع، كما في الأحاديث.
"ومنها: أنه تعالى تكفل بحفظه" دون غيره، فوكل حفظه إليهم، "فقال تعالى: {إِنَّا
أي: من التحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن:{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} ، وقوله:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .
فإن قلت: هذه الآية تنفي الاختلاف فيه، وحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" المروي في البخاري وغيره عن عمر، يثبته، فأجاب الجعبري في أول شرحه للشاطبية: بأن المثبت اختلاف تغاير، والمنفي ختلاف تناقض، فموردهما مختلف، انتهى.
فإن قلت: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف.
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} أي: القرآن {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الآية، أي: من التحريف والزيادة والنقصان" فلم يقع فيه شيء منها، "ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن" "{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} الآية" أي: ليس قبله كتاب يكذبه ولا بعده، "وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} الآية، تناقضًا في معانيه وتباينًا في نظمه، "فإن قلت: هذه الآية تنفي الاختلاف فيه، وحديث:"أنزل القرآن على سبعة أحرف"، المروي في البخاري وغيره" كمسلم وأحمد، "عن عمر" وهو متواتر، رواه أحد وعشرون صحابيًا، ونص على تواتره أبو عبيد، وأخرج أبو يعلى أن عثمان قال على المنبر: اذكر الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شاف كاف"، فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا بذلك، فقال: وأنا أشهد معهم، "يثبته" أي: الاختلاف، فهذا تناقض، قلت: "أجاب الجعبري" نسبة إلى جعبر، بموحدة، بوزن، جعفر، قلعة على الفرات، "في أول شرحه للشاطبية؛ بأن المثبت اختلاف تغاير، والمنفي اختلاف تناقض" بأن يكون مفهوم أحد المحلين إيجابًا، والآخر سلبًا لذلك الإيجاب، وهذا لا يقع منه شيء في القرآن، "فموردهما مختلف، انتهى" ولا يرد عليه أن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم قرئ برفع عباد ونصبه، فبينما تناف، إذ في الرفع إثبات أنها عباد مملوكون، مسخرون، مقهورون، والنصب نفي كونهم عبيدًا؛ لأن المراد النفي بقيد الصفة، أي: ليسوا مماثلين لكم في العقل والإدراك، بل هي أجسام تنحتونها بأيديكم، "فإن قلت: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف" وكان ابتدءا ذلك على يد أبي بكر بمشورة عمر، فقيض لذلك زيد بن ثابت؛ كما رواه البخاري مطولا، وروى ابن أبي داود بإسناد حسن عن علي: أعظم الناس في المصاحف أجرًا أبو بكر، هو أول من جمع كتاب الله،
وقد وعد الله تعالى بحفظه، وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه.
فالجواب: كما قال الرازي -إن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك، قال: وقال أصحابنا: وفي هذه الآية دلالة قوية على أن البسملة آية من كل سورة، لأن الله قد وعد بحفظ القرآن، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونًا عن التغيير، وإلا لما كان محفوظًا عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لوجب أيضًا أن يظن بهم النقصان. وذلك يوجب الخروج عن كونه حجة.
لكن عنده أيضًا عن علي: لما مات صلى الله عليه وسلم آليت لا آخذ ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن، فجمعه، قال الحافظ: وهذا الأثر ضعيف لانقطاعه وبتقدير صحته، فمراده بجمعه حفظه في صدره، ونازعه السيوطي، بأن له طريقًا آخر عند ابن الضريس، وثالثًا عند ابن أمية، وفيه: أن عليًا كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، وابن سيرين، قال: تطلبته وكتب فيه إلى المدينة فلم أقف عليه، فكان ما جمع في عهد أبي بكر عنده حياته، ثم عند عمر، ثم حفصة بنته حتى قدم حذيفة على عثمان، فقال: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها، ثم نردها إليك، فأرسلتها، فأمر جماعة من الصحابة، فنسخوها في المصاحف، ثم ردها إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق؛ كما في البخاري.
"وقد وعد الله تعالى بحفظه، وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه" وكيف قال حذيفة ما ذكروا ووافقه عثمان، "فالجواب كما قال الرازي" الإمام فخر الدين:"إن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم" سببهم "لذلك" ويسره لهم.
"قال: وقال أصحابنا" الشافعية: "وفي هذه الآية دلالة قوية على أن البسملة آية من كل سورة؛ لأن الله قد وعد بحفظ القرآن" ولن يخلف الله وعده، "والحفظ لا معنى له إلا أن يبقي مصونًا عن التغيير" بالزيادة والنقص، "وإلا" نقل أنها آية من كل سورة، "لما كان محفوظًا عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا" البسملة أول كل سورة، "لوجب أيضًا أن يظن بهم النقصان" إذ لا فرق بينهم عقلا، "وذلك يوجب الخروج عن كونه حجة" ولا قائل بذلك، فثبت أنها قرآن بمنزلة سورة قصيرة للفصل بين السور، ومنهم من قال: ليست آية من الفاتحة، ولا من كل سورة إلا في النمل فقط، لكن يستحب افتتاحه بها في غير الصلاة،
واختلف فيه، كيف يحفظ القرآن؟
فقال بعضهم: حفظه بأن جعله معجزًا مباينًا لكلام البشر، يعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان منه، لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا منه تغير نظم القرآن، فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن.
وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف.
وقال آخرون: المراد بحفظه هو أن أحدًا لو حاول أن يغير بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا: إنه كذب، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال الصبيان كلهم: أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا، ولم يتفق لشيء، من الكتب مثل هذه الكتاب، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتغيير والتحريف.
كما يستحب ابتداؤه بالاستعاذة إجماعًا ونصًا، فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، والإجماع على أن الاستعاذة ليست منه، فليس في كتب البسملة ما يدل على الدعوى، بل ولا على أنها آية مستقلة.
"واختلف فيه كيف يحفظ القرآن" أي: في، أي: صفة حفظه له، "فقال بعضهم: حفظه بأن جعله، معجزًا مباينًا لكلام البشر، يعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان منه؛ لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا منه، تغير نظم القرآن فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن" وهذا حفظ عظيم. "وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده؛ بأن قيض" الباء سببية، أي: بتقييض، وفي نسخة: بل قيض ببل الانتقالية "جماعة يحفظونه ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف" ولا تباين بين هذين القولين، فلا مانع من كونهما معًا بيانًا لصفة الحفظ، كالثالث، وهو: "وقال آخرون: المراد بحفظه هو أن أحدًا لو حاول أن يغير بحرف"، أي: بإبدال حرف منه بحرف آخر، "أو نقطة" بأن يزيدها أو ينقصها أو يسقطها؛ "لقال أهل الدنيا إنه كذب، حتى أن الشيخ المهيب" بوزن مبيع "لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال الصبيان كلهم" فضلا عن الرجال: "أخطأت أيها الشيخ، وصوابه كذا، ولم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الكتاب، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف، والتغيير، والتحريف.
"وقد صان الله تعالى هذا الكتاب العزيز عن جميع التحريف" وحكمة ذلك مع أن الكتب السماوية كلها كلام الله؛ أنها إن غيرت جاء نبي بعده يبين ما غير أو بدل بخلاف القرآن
وقد صان الله تعالى هذا الكتاب العزيز عن جميع التحريف، مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده، وانقضى الآن ثمانية وتسعون سنة وثمانمائة سنة، وهو بحمد الله في زيادة من الحفظ.
ومنها: أنه عليه السلام خص بآية الكرسي.
نزل على خاتم النبيين، فلا نبي بعده يبين التغير لو وقع فيه، "مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة" حريصة ومجتمعة "على إبطاله" أصلا، "وإفساده وانقضى الآن ثمانية وتسعون سنة وثمانمائة، وهو بحمد الله في زيادة من الحفظ" وكذا انقضى ست بعد مائة وألف، وهو كذلك، ولا يزال حتى يرفع.
"ومنها: أنه عليه السلام خص بآية الكرسي" يعني: أنها لم تنزل على غيره، روى الديلمي مسلسلا عن أبي أمامة: سمعت عليًا يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله في الإسلام يبيت حتى يقرأ هذه الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآية، وإلى قوله:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} الآية، فلو تعلمون ما هي أو ما فيها لما تركتموها على حال، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أعطيت آية الكرسي من تحت العرش، ولم يؤتها نبي قبلي" قال علي: فما بت ليلة منذ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقرأها، قال أبو أمامة: وما تركتها منذ سمعتها من علي، ثم سلسله الباقون.
وأخرج أبو عبيد وابن الضريس، عن علي: آية الكرسي أعطيها نبيكم من كنز تحت العرش، ولم يعطها نبي قبل نبيكم، وسميت بذلك لذكر الكرسي فيها، والآية العامة وآية القرآن على تمام الكلام، أو لأنها جماعة من كلمات القرآن، والآية تقال للجماعة، قال بعضهم: والكرسي فيه صور الأشياء كلها فما في الأرض صورة إلا ولها في الكرسي مثل، فما في العرش إقامته، ففي الكرسي أمثلته، وما في السماوات إقامته ففي الأرض صورته، فجمعت هذه الآية تفصيل المفصلات.
وقال ابن عربي: قد ثبت في القرآن الأخبار بتفاضل سوره، وإنافة بعضها على بعض في حق القارئ بالنسبة لما لنا فيه من الأجر، وقد ورد: آية الكرسي سيدة آي القرآن؛ لأنه ليس فيه آية ذكر الله فيها بين مضمر وظاهر ستة عشر موضعًا إلا آية الكرسي، قال شيخنا: ليس المراد أن الجلالة واقعة بين المضمر والظاهر، ولا أن المضمر واقع بين شيئين، أحدهما لفظ الجلالة، والآخر اسم ظاهر، بل المراد أن الله ذكر في ستة عشر موضعًا، وتلك المواضع منقسمة إلى كون بعضها مضمرًا وبعضها ظاهرًا، فالظاهر في خمسة، وهي: الله والحي القيوم العلي العظيم، والمضمر أحد عشر هو من لا إله إلا هو، والضمير البارز في لا تأخذه، ثالثها له، رابعها وخامسها
وبالمفصل وبالمثاني وبالسبع الطوال، كما في حديث ابن عباس بلفظ: "وأعطيت خواتيم سورة البقرة من كنوز العرش، وخصصت به دون الأنبياء
عنده إلا بإذنه، سادسها المستتر في يعلم، سابعها البارز في علمه، ثامنها المستتر في شاء، تاسعها البارز في كرسيه، عاشرها البارز في لا يئوده، حادي عشرها المنفصل في قوله: وهو. وكأنه لم يعتبر الضمائر المستترة في الحي القيوم العلي العظيم؛ لأن المستتر فيه هو الاسم الظاهر، الدال على ذاته، فكأنه هو والضمير عبارة عن معنى واحد.
وقال الغزالي: إذا تأملت جملة معاني أسماء الله الحسنى من التوحيد والتقديس، وشرح الصفات العلا، وجدتها مجموعة في آية الكرسي، فلذا ورد أنها سيدة آي القرآن، فإن شهد الله ليس فيها إلا التوحيد، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الآية، ليس فيها إلا التوحيد والتقديس، و {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية، ليس فيها إلا الأفعال وكمال القدرة، والفاتحة فيها رمز إلى هذه الصفات بلا شرح، وهي مشروحة في آية الكرسي، ويقرب منها في هذه المعاني آخر الحشر وأول الحديد، إذ تشتمل على أسماء وصفات كثيرة، لكنها آيات لا آية واحدة، وهذه ذا قابلتها بآحاد تلك الآيات وجدتها أجمع للمقاصد، فلذا استحقت السيادة على الآي، انتهى.
وفي هذا الحديث: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت"، رواه النسائي وابن حبان، وروي أن من أدمن قراءتها عقب كل صلاة؛ فإنه لا يتولى قبض روحه إلا الله، وخص "بالمفصل" ويسمى المحكم، سمي مفصلا، لأن سوره قصار، كل سورة كفصل من الكلام، وآخره الناس اتفاقًا، وهل أوله الحجرات، أو الجاثية، أو القتال، أو ق، أو الصافات، أو الصف، أقوال أرجحها الأول، "وبالمثاني وبالسبع الطوال" بكسر الطاء جمع طويلة، وأما بضمها، فمفرد كرجل طوال؛ كما في حديث ابن عباس بلفظ:"وأعطيت خواتيم سورة البقرة" من آمن الرسول، وقيل: من لله إلى آخرها، ويدل له ما روى أبو عبيد عن كعب، قال: إن محمدًا أعطي أربع آيات لم يعطها موسى {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255] الآية، حتى ختم البقرة، فتلك ثلاث، وآية الكرسي "من كنوز العرش"، قال الحافظ العراقي: معناه أنها ادخرت وكنزت له، فلم يؤتها أحد قبله، وكثير من القرآن منزل في الكتب السابقة باللفظ أو المعنى، وإن كان فيه أيضًا ما لم يؤت غيره، لكن في هذه الخصوصية لأمته، وهي وضع الإصر الذي على من قبل، ولذا قال:"وخصصت به دون الأنبياء" أي: بإعطاء ما ذكر من الخواتيم، وقال غيره: الله أعلم ما هذا الكنز، ويجوز كونه كنز اليقين، فهو كنز مخبوء تحت العرش، أخرج منه تعالى ثمانية مثاقيل من نور اليقين، فأعطي منها
وأعطيت المثاني مكان التوراة، والمئين مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور وفضلت بالمفصل". رواه أبو نعيم في الدلائل.
رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، وزيد ذخيرة خصوصية للرسالة، فلذا وزن إيمانه بإيمان الخلق فرجح، انتهى وهو غريب.
وقد جرى على الأول الطيبي، فقال الكنز: النفائس المدفونة المدخرة، فهو إشارة إلى أنها ادخرت له، فلم تنزل على من قبله، وهو من إدخال الشيء في جنس، وجعله أحد أنواعه على التغليب، فالكنز نوعان متعارف، وهو المال الكثير، يجعل بعضه فوق بعض ويحفظ، وغير متعارف، وهو هذه الآيات الجامعة المكتنزة بالمعاني الإلهية.
وروى الطبراني، وأبو الشيخ، والضياء في المختار، عن أبي أمامة، رفعه:"أربع أنزلت من كنز تحت العرش، لم ينزل منه شيء غيرهن: أم الكتاب، وآية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة، والكوثر". "وأعطيت المثاني مكان التوراة" أي: بدل ما فيها، "والمئين" بفتح الميم عند بعض، وكسرها عند آخر، وهو المناسب للمفرد، وكسر الهمزة، ومثناة تحتية ساكنة، أي: السور التي تلي السبع الطوال، أو التي أولها ما يلي الكهف، لزيادة كل منها على مائة آية، أو تقاربها أو التي فيها القصص، وقيل غير ذلك، "مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور، وفضلت بالمفصل" أي: صيرت أفضل، أي: أزيد من غيري بما أنزل عليّ منه، "رواه أبو نعيم في الدلائل" ويعارضه ما روى أحمد، والبيهقي، والطبراني عن واثلة مرفوعًا:"أعطيت مكان التوراة السبع الطول، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بامفصل".
وروى محمد بن نصر عن أنس مرفوعًا: "إن الله أعطاني السبع مكان التوراة، وأعطاني الراءات مكان الإنجيل، وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل، ما قرأهن نبي قبلي" وهذا مخالف لحديثي ابن عباس وواثلة معًا من وجهين، أحدهما: في المعطى مكان تلك الكتب، والثاني: صريحة أن الحواميم والمفصل مما أعطي، لا في مقابلة شيء، وصريح حديث ابن عباس، أن الحواميم مكان الزبور، فليطلب الجمع أو الترجيح.
وروى الحاكم عن معقل بن يسار مرفوعًا: "أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه، والطواسين، والحواميم من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، وتحت العرش، والمفصل نافلة" والطول في حديث واثلة، بضم الطاء، وفتح الواو، كما ضبطه السيوطي بالقلم، وفي النهاية الطول، بالضم، وفي القاموس السبع الطوال كصرد والذكر الأول
وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] ، وفي البخاري من حديث أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم قال:"أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم" سائره.
الصحف العشرة، والكتب الثلاثة، قال الكلابادي.
"وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} الآية، بيان لسبعًا من التثنية أو الثناء، فإنه مثنى، تكرر قراءته وألفاظه، أو قصصه ومواعظه، أو مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز، ومثن على الله بما هو أهله من صفاته العظمى وأسمائه الحسنى، {الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} عطف كل على بعض، أو عطف عام على خاص، وفي المثاني تفاسير ذكر بعضها مقدمًا أرجحها، فقال: "وفي البخاري" في تفسير سورة الحجر من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أم القرآن هي السبع المثاني، والقرآن العظيم" وفي رواية الترمذي:"الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب، والسبع المثاني".
قال الخطابي: وفي الحديث رد على ابن سيرين، حيث قال: لا يقال للفاتحة أم القرآن، وإنما يقال لها فاتحة الكتاب، ويقول أم الكتاب هو في اللوح المحفوظ، قال: وأم الشيء أصله، وسميت أم القرآن، لأنها أصل القرآن، وقيل: لأنها متقدمة، لأنها تؤمه "سائره" كذا وقع في النسخ.
وليست في البخاري ولا غيره، فسقط من المصنف لفظ، أي: التفسيرية، إشارة إلى أنه محذوف الخبر؛ كما قال الحافظ والقرآن، العظيم، عطف على أم القرآن مبتدأ خبره محوف، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: والقرآن العظيم ما عداها، وليس عطفًا على السبع المثاني؛ لأن الفاتحة ليست هي القرآن العظيم، وإن جاز إطلاقه عليها، لأنها منه لكن ليست كله، ثم وجدت الحديث في تفسير ابن أبي حاتم عن أبي هريرة بلفظ:"القرآن العظيم الذي أعطيتموه"، أي هو الذي أعطيتموه، فيكون هذا هو الخبر، وقد روى الطبراني بإسنادين جيدين عن عمر، ثم عن علي السبع المثاني: فاتحة الكتاب، زاد عن عمر: تثنى في كل ركعة، وبإسناد حسن عن ابن عباس:"وقد آتيناك سبعًا من المثاني هي فاتحة الكتاب"، انتهى.
وقال التوربشتي: إن قيل كيف صح عطف القرآن على السبع المثاني: وعطف الشيء على نفسه لا يجوز، قلنا: ليس كذلك وإنما هو من باب ذكر الشيء بوصفين، أحدهما معطوف على الآخر، والتقدير: آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، أي: الجامع لهذين النعتين.
وقال الطيبي: عطف القرآن على السبع المثاني؛ المراد منه الفاتحة من باب عطف العام
واختلفوا: لم سميت مثاني، فعن الحسن وابن عباس وقتادة لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل صلاة، وقيل لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين، نصفها ثناء ونصفها دعاء، كما في حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم:"يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين".
على الخاص، تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات، وإليه أومأ صلى الله عليه وسلم بقوله لأبي سعيد بن المعلى:"ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن" حيث نكر سورة وأفردها ليدل على أنك إذا تقصيت سورة سورة وجدتها أعظم منها، ونظيره في النسق، ولكن من عطف الخاص على العام؛ من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل، انتهى، وهو معنى كلام الخطابي.
قال الحافظ: وفيه بحث لاحتمال أن قوله: "والقرآن العظيم"، محذوف الخبر والتقدير ما بعد الفاتحة مثلا، فيكون وصف الفاتحة بقوله المثاني، ثم عطف والقرآن العظيم، أي: ما زاد على الفاتحة، وذكر ذلك رعاية لنظم الآية، فيكون التقدير: والقرآن العظيم هو الذي أوتيته زيادة على الفاتحة، قال: وعلى هذا، فالمراد بالسبع الآي؛ لأن الفاتحة سبع آيات بالإجماع، لكن جاء عن حسين بن علي الجعفي أنها ست آيات، لأنه لم يعد البسملة، وعن عمرو بن عبيد أنها ثمان آيات؛ لأنه عدها، وعد أنعمت عليهم، وقيل: ما بعدها، وعد إياك نعبد، وهذا أغرب الأقوال، انتهى.
"واختلفوا: لم سميت" الفاتة "مثاني؟ فعن الحسن" البصري، "وابن عباس" عبد الله، "وقتادة" بن دعامة:"لأنها تثنى"، أي: تكرر "في الصلاة، فتقرأ في كل صلاة": من ثنيت الشيء بالتثقيل، جعلته اثنين، لكن ليس المراد خصوص الاثنين، بل مطلق التكرير، كما أن المراد قراءتها في جميع الصلوات حتى الركعة كالوتر، ويدل له قول عمر عند ابن جرير: لأنها تثنى في كل ركعة، أي: تقرأ.
"وقيل: لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين" باعتبار المعنى لا اللفظ، لأن نصف الدعاء من قوله:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الآية، يزيد على نصف الثناء، أو المراد قسمين، والنصف قد يراد به أحد قسمي الشيء، إن كان بينهما تفاوت "نصفها ثناء" على الله وعبادة له، "ونصفها دعاء" طلب منه تعالى ليثني العبد على ربه، ثم يدعوه فيجيب دعاءه؛ "كما في حديث أبي هريرة" عند مالك ومسلم، وأحمد، وأبي يعلى، عنه صلى الله عليه وسلم:"يقول الله تعالى: قسمت الصلاة" أي: قراءتها بدليل تفسيره بها، قال المنذري. أو يعني الفاتحة، سميت صلاة لأنها لا تصح إلا بها؛ كقوله:"الحج عرفة" وقيل: من أسماء الفاتحة الصلاة، فهي المعنية في الحديث. "بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
وقيل: لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. وعن مجاهد: لأن الله استثناها وادخرها لهذه الأمة، فما أعطاها غيرهم.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن السبع المثاني هي السبع الطوال، أولها سورة البقرة وآخرها سورة الأنفال مع التوبة، وقال بعضهم: سورة يونس بدل الأ
الْعَالَمِينَ} ، قال: حمدني عبدي، وإذا قال:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قال: مجدني عبدي، وإذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وإذا قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"، هذا بقية الحديث عندهم.
قال الحافظ: لم يخرجه البخاري، لأنه ليس على شرطه، ولكن أشار إليه فيه، "وقيل: لأنها نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة" حكاه قوم؛ لأنه قد يتكرر النزول للتذكير، أو موعظة، أو تعظيم شأنه، لكن في فتح الباري يستنبط من تفسير السبع المثاني بالفاتحة؛ أنها مكية، وهو قول الجمهور خلافًا لمجاهد، ووجه الدلالة، أنه سبحانه امتن على رسوله بها، وسورة الحجر مكية اتفاقًا، فيدل لى تقدم نزول الفاتحة عليها.
قال الحسين بن الفضل: هذه هفوة من مجاهد؛ لأن العلماء على خلاف، قوله: وأغرب بعض المتأخرين، فنسب القول بذلك لأبي هريرة، والزهري، وعطاء بن يسار، وحكى القرطبي أن بعضهم زعم أنها نزلت مرتين، انتهى.
"وعن مجاهد: لأن الله استثناها وادخرها" بدال مهملة، وقد تعجم: أعدها "لهذه الأمة" عطف تفسير، "فما أعطاها غيرهم" روى البيهقي وغيره عن أنس، رفعه:"إن الله أعطاني فيما من علي، أن قال: إني أعطيتك فاتحة الكتاب، وهي من كنوز عرشي، ثم قسمتها بيني وبينك نصفين".
"وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس" فيما رواه النسائي، والطبري، والحاكم، بإسناد صحيح:"أن السبع المثاني هي السبع الطوال، أولها سورة البقرة، وآخرها سورة الأنفال مع التوبة" لأنهما في حكم سورة واحدة، ولذا لم يفصل بينهما بالبسملة، وفي لفظ للطبري: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها، "وقال بعضهم: سورة يونس بدل الأنفال" مع التوبة، قال الحافظ: رواه ابن أبي حاتم صحيحًا عن مجاهد وسعيد بن جبير، وعند الحاكم: أنها الكهف، وزاد: قيل له: ما المثاني؟ قال: تثنى فيهن القصص.
قال ابن عباس: وإنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والعبر تثنت فيها.
وقال طاوس: القرآن كله مثاني، قال الله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] ، وسمي القرآن مثاني لأن القصص تثنت فيه والله أعلم.
ومنها: أنه أعطي مفاتيح الخزائن.
"قال ابن عباس: وإنما سميت السبع الطوال مثاني؛ لأن الفرائض، والحدود، والأمثال والعبر تثنت" تعددت وتكررت "فيها" وهذا قول مشهور أيضًا في تفسير المثاني وإن رجح الأول، وقد أخرج الطبري من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: السبع المثاني فاتحة الكتاب. قلت للربيع: إنهم يقولون: إنها السبع الطوال، قال: لقد أنزلت هذه الآية، وما نزل من الطوال شيء، وروى الطبري أيضًا عن زيادة بن أبي مريم، قال في {لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} ، قال: مر وانه، وبشر وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم والإيتاء، وحكي في الشفاء: أنها السبع كرامات: الهدى والنبوة، والرحمة والشفاعة، والولاية والتعظيم، والسكينة، ورجح ابن جرير الأول، أي: الفاتحة لصحة الخبر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"وقال طاوس: القرآن كله مثاني، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا} الآية يدل من أحسن، أي: قرءانًا {مُتَشَابِهًا} أي: يشبه بعضه بعضًا في النظم، وغيره {مَثَانِي} ، وسمي القرآن مثاني؛ لأن القصص تثنت فيه" ولأنه ثنى فيه الوعد والوعيد وغيرما.
وفي البيضاوي: وقيل سبع صحائف، وهي الإسباع، ويجوز أن يراد بالمثاني القرآن، أو كتب الله كلها، فتكون من للتبعيض، والقرآن العظيم إن أريد السبع آيات أو السور، فمن عطف الكل على البعض، أو العام على الخاص، وإن أريد الإسباع، فمن عطف أحد الوصفين على الآخر، "والله أعلم" بما أراد.
"ومنها: أنه أعطي مفاتيح الخزائن" أي خزائن الأرض، كما رواه البخاري وغيره، وأخرج أحمد، وابن حبان، والضياء برجال الصحيح عن جابر، مرفوعًا:"أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق، جاءني به جبريل، عليه قطيفة من سندس"، وفي رواية إسرافيل، ولا تنافي، لأنه إن تعدد المجيء، وإلا فالآتي جبريل وصحبته إسرائيل، وركوبه الفرس إشارة إلى أنه أوتي العز، وإلى إعزاز دينه، ولم يكن لونًا واحدًا إشارة إلى استيلاء أمته على خزائن جميع الملوك من أحمر
قال بعضهم: هي خزائن أجناس العالم ليخرج لهم بقدر ما يطلبونه لذواتهم، فكل ما ظهر من رزق العالم فإن الاسم الإلهي لا يعطيه إلا عن محمد صلى الله عليه وسلم الذي بيده المفاتيح، كما اختص تعالى بمفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، وأعطي هذا السيد الكريم منزلة الاختصاص بإعطائه مفاتيح الخزائن.
ومنها: أنه أوتي جوامع الكلم.
وأبيض وأسود، على اختلاف ألوانها وأشكالها، إذ الأبلق ما خالط لونه بياضًا وسوادًا، ثم يحتمل أنها حيزوم فرس جبريل الذي ما خالط موطئ حافره مواتًا إلا صار حيوانًا، ويحتمل غيرها، والخزائن: جمع خزانة ما يخزن فيه، والمال مخزون عند أهل البلاد قبل فتحها، فهو استعارة تصريحة بفتح البلاد.
"قال بعضهم: هي خزائن أجناس" جمع جنس "العالم" مفرد عوالم، فاللام عوض عن المضاف إليه، أي: خزائن العالم السفلي بأسره؛ "ليخرج لهم بقدر ما يطلبونه لذواتهم" سواء تعلق بنفس الذوات، أو بمتعلقاتها، كالمواشي والزراعات، وهذا وجه في تقرير الاستعارة في إعطاء مفاتيح الخزائن، "فكل ما ظهر من رزق العالم، فإن الاسم الإلهي لا يعطيه إلا عن محمد صلى الله عليه وسلم" أي: فكان من يوصله إلى العالم، كالوكيل في إعطائه لهم نيابة عنه؛ لأنه حقه "الذي بيده المفاتيح، كما اختص تعالى بمفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، وأعطي هذا السيد الكريم منزلة الاختصاص بإعطائه مفاتيح الخزائن" فلا يخرج منها شيء إلا على يديه.
قال الزمخشري: المراد بالخزائن: المعان أو البلاد التي فيها ذلك، أو البلاد التي فتحت لأمته بعده؛ التي منها خزائن كسرى وقيصر، إذ الغالب على نقود خزائن كسرى الدنانير، وعلى قود ممالك قيصر الدراهم، وأشار في الكشاف إلى أن هذا، وما أشبهه من قبيل التمثيل والاستعارة، قال في قوله:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} الآية، ذكر الخزائن تمثيل، والمعنى، وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور.
"ومنها: أنه أوتي جوامع الكلم" أي: الكلم، الجوامع لمعان كثيرة بألفاظ قليلة، قال صلى الله عليه وسلم:"أعطيت جوامع الكلم واختصر.لي الكلام اختصارًا" رواه البيهقي، وأبو يعلى، والدارقطني، يعني: أعطيت البلاغة والفصاحة، والتوصل إلى غوامض المعاني، وبدائع الحكم، ومحاسن العبارات، بلفظ موجز لطيف، وقيل: المراد بها القرآن، سمي به لإيجازه واحتواء لفظه القليل على المعنى الكثير، واشتماله على ما في الكتب السماوية، وجمعه ما فيها من العلوم،
فالكلم جمع كلمة، وكلمات الله لا تنفذ، فالكلمة منه كلمات، ولما علم جوامع الكلم أعطي الإعجاز بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى، وهو المترجم عن الله تعالى. فوقع الإعجاز في الترجمة التي هي له، فإن المعاني المجردة عن المواد لا يتصور الإعجاز بها، وإنما الإعجاز ربط هذه المعاني بصور الكلم القائم من نظم الحروف، فهو لسان الحق وسمعه وبصره.
ومنها: أنه بعث إلى الناس كافة، قال بعضهم: وهو من الكفت، وهو الضم،
وقال صلى الله عليه وسلم: "أعطيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه"، رواه الطبراني وغيره، "فالكلم جمع كلمة" في أحد الأقوال، وقيل: اسم جمع، وقيل: اسم جنس إفرادي يطلق على القليل والكثير، لكن خصه الاستعمال بالثلاثة فما فوق، والمختار أنه اسم جنس جمعي، يجوز في ضميره التذكير على الأصل، وهو الأكثر، نحو:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} الآية، والتأنيث ملاحظة للجمعية.
"وكلمات الله لا تنفذ" بفتح التاء والفاء، كما في التنزيل لا تفنى ولا تنقطع، وكأنه جعل هذا جواب سؤال، هو: هل تنحصر جوامع كلمة؟ فأجاب: لا تحصر، بل متى أرادها قدر عليها، لأنها من كلمات، الله ولا تنفد؛ "فالكلمة منه كلمات، ولما علم جوامع الكلم أعطي الإعجاز بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى، وهو" أي: القرآن "المترجم" المبين، الكاشف "عن" الصفة القديمة، القائمة بذات "الله" حيث دل عليه، فتسميته مترجمًا، مجاز، علاقته المشابهة، فالترجمة تفسير كلام الغير بلسان آخر، ويحتمل أن ضمير هو للنبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر الأول؛ لقوله:"فوقع الإعجاز" ذ هو إنما وقع في القرآن "في الترجمة التي هي له" أي: في الكلمات التي وقع التعبير بها على المعاني القائمة بذاته، حيث وقعت على أسلوب يعجز البشر عن الإتيان بمثله، "فإن المعاني المجردة عن المواد" جمع مادة، أي: الألفاظ التي تؤدي بها المعاني، إذ مادتها الألفاظ، لأنها قوالب المعاني، كأنها صبت فيها كالقالب "لا يتصور الإعجاز بها، وإنما الإعجاز ربط هذه المعاني بصور الكلم القائم من نظم الحروف" وهذا تعليل لكون الإعجاز بالكلمات المعبر بها عن المعاني، لا بالمعاني أنفسها، "فهو" أي القرآن "لسان الحق" لأنه المبين للمعاني القائمة به، المعبر عنها بالكلمات، "وسمعه وبصره" لأنه المبين للمسموعات والمبصرات.
"ومنها: أنه بعث إلى الناس كافة" أي: كلهم، ولا تقل الكافة، لأنها تدخل أل، ووهم الجوهري، فأدخل أل؛ كما في القاموس.
"قال بعضهم: وهو" مأخوذ "من الكفت، وهو الضم" للمناسبة بينهما، والكفت يتعدى
قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25]، أي: تضم الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها، كذلك ضمت شريعته صلى الله عليه وسلم جميع الناس، فلا يسمع به أحد إلا لزمه الإيمان به، ولما سمع الجن القرآن يتلى قالوا:{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] الآية، فضمت شريعته الإنس والجن، وعمت رحمته التي أرسل بها للعالم، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، فمن لم تنله رحمته فما ذاك من جهته، وإنما ذلك من جهة القابل. فهو كالنور الشمسي أفاض شعاعه.
بنفسه، وبإلى، قال المجد: كفته يكفته، صرفه عن وجهه فانكفت، والشيء إليه ضمه وقبضه ككفته.
"قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} الآية، أي: تضم الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها" فكفاتًا بمعنى كافتة اسم لما يكفت، أي: يضم ويجمع؛ كما في البيضاوي: قال: أو مصدر نعت به، أو جمع كافت، كصائم وصيام، أو كفت، وهو الوعاء أجري على الأرض، أي: أطلق عليها باعتبار أقطارها، انتهى، فعلى الأخيرين أطلق كفاتًا على الأض من حيث جعل كل جزء منها كافتًا، أي: جامعًا لما يحتوي عليه، "كذلك ضمت شريعته صلى الله عليه وسلم جميع الناس، فلا يسمع به أحد" عاقل، "إلا لزمه الإيمان به" لظهور المعجزات القطعية على يده، الدالة على حقية ما جاء به، وشمل أحد الإنس والجن، ولذا رتب عليه قوله: ومن ثم "لما سمع الجن القرآن يتلى، قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، "{وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] الآية، فضمت شريعته الإنس والجن" إجماعًا، كما يأتي قريبًا بأدلته، "وعمت رحمته التي أرسل بها العالم" ودليله أنه "قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] الآية" لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم، ورحم الله به الخلق مؤمنهم وكافرهم بالأمن من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال، ومنافقهم بالأمن من القتل وتأخير العذاب.
قال ابن عطية: ويحتمل أن معناه أنه هو رحمة وهدى بين أخذ به من أخذ، وأعرض عنه من أعرض، انتهى، وإليه أشار بقوله:"فمن لم تنله رحمته" من الكفار فلم يؤمن به، "فما ذاك من جهته" صلى الله عليه وسلم، "وإنما ذلك من جهة القابل" حيث طبع الله على قلوبهم، واستحبوا الكفر على الإيمان، أنهما كافي التقليد، وإعراضًا عن النظر الصحيح، فلا ينفذ في قلوبهم الحق، وأسماعهم تنفر منه، ولا يجتلي لأبصارهم الآيات المنصوبة في الآفاق، "فهو كالنور الشمسي أفاض شعاعه
على الأرض، فمن استتر عنه في كن أو ظل جدار فهو الذي لم يقبل انتشار النور عليه، وعدل عنه، فلم يرجع إلى الشمس من ذلك منع، انتهى.
فإن قلت: إن نوحًا كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، فإنه لم يبق إلا من كان مؤمنًا معه، وقد كان مرسلا إليه، وقد جاء في حديث جابر وغيره:"وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود". وفي رواية: "إلى الناس كافة".
أجاب الحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى: بأن هذا العموم الذي حصل لنوح عليه الصلاة لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذي وقع، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك.
على الأرض، فمن استتر عنه في كن أو ظل جدار فهو الذي لم يقبل انتشار النور عليه، وعدل عنه، فلم يرجع إلى الشمس من ذلك منع" عن فيض شعاعها، "انتهى" كلام بعضهم.
"فإن قلت" يرد على أن بعثه إلى كافة الناس من خصائصه؛ "إن نوحًا كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، فإنه لم يبق إلا من كان مؤمنًا معه، وقد كان مرسلا إليه، وقد جاء في حديث جابر" في الصحيحين "وغيره" النص على الخصوصية في قوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي"
…
الحديث، وفيه:"وكان النبي يبعث إلى قومه" المبعوث إليهم "خاصة، وبعثت إلى كل أحمر" وهم العجم أو الإنس، "وأسود" العرب أو الجن، وهذه رواية مسلم.
"وفي رواية" للبخاري: "وبعثت إلى الناس كافة" وفي رواية له أيضًا: "عامة"، وهما بمعنى، فظاهر الحديث أن كل واحدة من الخمس لم تكن لأحد قبله.
"أجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى" في فتح الباري في التيمم: "بأن هذا العموم الذي حصل لنوح عليه السلام لم يكن في أصل بعثته وإنما" هو اتفاقي "اتفق بالحادث الذي وقع" وبينه، فقال:"وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس" بالغرق؛ كما في القرآن والقصة مبسوطة في التفاسير وغيرها.
"وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك" قال في الفتح:
وأما قول أهل الموقف لنوح -كما صح في حديث الشفاعة- أنه أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادًا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.
واستدل بعضهم لعموم بعثته: بكونه دعا على جميع من في الأرض فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثًا إليهم لما أهلكوا، لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، وقد ثبت أنه أول الرسل.
وأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح.
وغفل الداودي الشارح غفلة عظيمة، فقال: قوله: "لم يعطهن أحد قبلي"، يعني: لم تجتمع لأحد قبله، لأن نوحًا بعث إلى الناس كافة.
وأما لأربع فلم يعط أحد واحدة منهن، وكأنه نظر في أول الحديث، وغفل عن آخر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نص على خصوصيته بهذه أيضًا بقوله:"وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه خاصة"، وفي رواية:"وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة".
"وأما قول أهل الموقف لنوح، كما صح في حديث الشفاعة" عند الشيخين: "أنه أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله" إلى من انحصر فيهم الوجود بعد الطوفان؛ فالأولية منصبة على الإرسال، فلا يلزم منه العموم، وأورد هذا آدم وإدريس على أنه كان قبل نوح، فإن حديث ابن حبان دل على أنهما رسولان، وأجيب: بأن المراد أول رسول بعث إلى الأرض بالإهلاك وإنذار قومه؛ لأن رسالة آدم كانت بمنزلة التربية والإرشاد للأولاد، لأنهم لم يكونوا كفارًا، وكذا رسالة إدريس.
"وعلى تقدير أن يكون مرادًا، فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى" أي ذكره "في عدة آيات؛ على أن إرسال نوح كان إلى قومه"؛ كقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} الآية، "ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم"؛ كما قال لنبينا {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} ، {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} الآية، "واستدل بعضهم لعموم بعثته، بكونه دعا على جميع من في الأرض" بقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} الآية، "فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة" لإيمانهم، "ولو لم يكن مبعوثًا إليهم لما أهلكوا؛ لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الآية "وقد ثبت أنه أول الرسل، وأجيب بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح" لأنه كان في الزمن الأول إذا
وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم.
فأجيب: وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح غيره. ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في زمانه أو بعده فينسخ بعض شريعته، انتهى.
وأما قول بعض اليهود: إن نبينا محمد صلى الله علي وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، ففاسد. والدليل عليه أنهم -أي اليهود- سلموا أنه رسول صادق إلى العرب، فوجب أن يكون كل ما يقوله.
بعث نبي إلى قومه بعث غيره إلى آخرين، وكان يجمع في الزمن جماعة من الرسل؛ كما قاله ابن الجوزي، فمن جاء من الرسل بشريعة إلى قومه، وجب عليهم العمل بها دون غيرها من الشرائع، وإن بلغتهم عن أصحابها، "وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمن به من قومه وغيرهم، فأجيب" دعاؤه بإهلاك الجميع بالطوفان، "وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح غيره" فضلا عن كونه أرسل، "ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية" بضم الخاء المعجمة، وتفتح؛ كما في القاموس، وفي المصباح، بالفتح والضم، لغة "لنبينا صلى الله عليه وسلم" أي: جعلها له دون غيره "في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره، بصدد أن يبعث نبي في زمانه أو بعده" فينسخ بعض شريعته، انتهى" ما نقله عن الحافظ، وترك بقيته، وهو: ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد بلغ بقية الناس، فتمادوا على الشرك، فاستحقوا العذاب، وإلى هذا نحا ابن عطية في تفسير سورة هود، قال: وغير ممكن أن نبوته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مدته.
ووجهه ابن دقيق العيد؛ بأن توحيد الله تعالى يجوز أن يكون عامًا في حق الأنبياء، وإن كان التزام فروع شريعته ليس عامًا، لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازمًا لهم لم يقاتلهم، ويحتمل أن لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا وقوم نوح، فبعثته خاصة لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثًا إليهم، انتهى.
"وأما قول بعض اليهود: أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، ففاسد، والدليل عليه" أي: على فساده، وفي نسخة: عليهم، أي: الحجة الرادة عليهم "أنهم، أي: اليهود سلموا أنه رسول صادق إلى العرب، صلة رسول، "فوجب أن يكون كل ما يقوله
حقًا، وقد ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى كل الناس، فلو كذبوه فيه لزم التناقض، أشار إليه صاحب المعالم.
ومنها: نصره صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر، والشهر قدر قطع القمر درجات الفلك المحيط، فهو أسرع قاطع، لعموم رعبه في قلوب أعدائه، فلا يقبل الرعب إلا عدو مقصود ليتميز السعيد من الشقي.
حقًا، لاستحالة الكذب على الرسول.
"وقد ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى كل الناس، فلو كذبوه فيه لزم التناقض، أشار إليه صاحب المعالم" أي: معالم السنن، شرح أبي داود للخطابي، مرت ترجمته.
"ومنها: نصره صلى الله عليه وسلم بالرعب" بالضم الخوف؛ كما قال: "نصرت بالرعب، يقذف في قلوب أعدائي "مسيرة شهر" كما رواه جابر، وأبو أمامة وغيرهما، ولا ينافيه رواية ابن عباس عند الطبراني مسيرة شهرين؛ لحمله على ما إذا كان العدو أمامه وخلفه، فيصدق أنه مسيرة شهرين، ويدل له رواية السائب بن يزيد في الطبراني أيضًا مرفوعًا: "ونصرت بالرعب شهرًا أمامي وشهرًا خلفي".
قال الشامي: فيه أن العدو الواحد لا يكون في وجهين بعيدين، وإنما يكون أمامه أو خلفه، فهو يرعب، ولو لم يقابله، فأطلق الشهر باعتبار إحدى الجهتين، وكذا لو كانا عدوين في جهتين أمامه، وخلفه، فالشهر نهاية مسافة الخوف، ولم أر من نبه على هذا، وهو بديع.
"والشهر قدر قطع القمر درجات الفلك المحيط، فهو أسرع قاطع" حيث قطعها في شهر، فالرعب المقذوف في قلوب أعدائه، أسرع قاطع، لهم عن معاداته؛ "لعموم رعبه في قلوب أعدائه، فلا يقبل" بموحدة "الرعب" قبول تأثير ينتقل به من الكفر إلى الإيمان "إلا عدو مقصود" هدايته، فأثر بقلبه حتى آمن، ولم يقصد هدايته، وإن رعب، لكن لم يتأثر قلبه تأثيرًا يوجب له الإيمان، بل يؤثر ما يوجب سعيه في جمع الجيوش وإهلاك الأموال في حربه؛ كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية، وإنما كان كذلك "ليتميز السعيد من الشقي" ومن ذلك ما للطبراني بسند حسن عن معاوية بن حيدة القشيري، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دفعت إليه، قال:"أما أني سألت الله أن يعينني بالسنة، تحفيكم وبالرعب في قلوبكم" فقال: بيديه جميعًا أما أني قد حلفت هكذا وهكذا أن لا أؤمن بك فما زالت السنة تحفيني، وما زال الرعب يجعل في قلبي حتى قمت بين يديك، والسنة، بفتح السين المهملة، والنون الخفيفة:
ومفهوم هذا: أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب:"ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر". فالظاهر اختصاصه به مطلقًا.
وإنما جعل الغاية شهرًا، لأنه لم يكن بين بلده عليه الصلاة والسلام وبين أعدائه أكثر من شهر وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى ولو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده فيه احتمال.
ومنها: إحلال الغنائم ولم تحل لأحد قبله.
وكان.
الجدب، وتحفيكم، بضم الفوقية، وسكون المهملة، وفاء تحتية: تستأصلكم وتبالغ في إهلاككم.
"ومفهوم هذا"، كما في الفتح:"أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة" أي: الشهر، "ولا في أكثر منها" بالأولى، "أما ما دونها فلا" يختص به، بل يكون لغيره؛ "لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب" عن أبيه، عن جده:"ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر". "فالظاهر" من الإغياء بلو "اختصاصه به مطلقًا".
قال الحافظ: وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب، بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو، "وإنما جعل الغاية شهرًا؛ لأنه لم يكن بين بلده عليه الصلاة والسلام" المدينة، "وبين أعدائه أكثر من شهر" في جميع الجهات، "وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده بغير عسكر" ولا يشكل الاختصاص بخوف الجن وغيرهم من سليمان، لأن المراد على الوجه المخصوص الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم من عدم العلم بالتسخير، بل بمجرد الشجاعة والإقدام البشري.
وأما سليمان عليه السلام، فكل أحد علم أن له قوة التسخير، "وهل هي حاصلة لأمته من بعده، فيه احتمال" إلى هنا كلام الفتح، وأصل الاحتمال حديث أحمد:"والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرًا" قال بعض: الأشهر أنهم رزقوا منه حظًا وافرًا، لكن ذكر ابن جماعة أن في رواية أنهم مثله.
"ومنها: إحلال الغنائم" له ولأمته، "ولم تحل لأحد قبله"، كما في حديث جابر في الصحيحين وغيرهما:"وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي" وقدم المصنف الحديث تامًا في ابتداء الخصائص واستأنف في جواب سؤال ماذا كان يعل فيها من قبله؟ فقال: "وكان"
من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن له مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته.
قال بعضهم: أعطي صلى الله عليه وسلم ما يوافق شهوة أمته، لأن النفوس لها التذاذ بها، لكونها حصلت لهم عن غير قهر منهم لتحصيلها وغلبة، فلا يريدون أن يفوتهم التنعم بها في مقابلة ما قاسوه من الشدة والتعب.
ومنها: جعل الأرض له ولأمته مسجدًا وطهورًا.
كما نقله الحافظ عن الخطابي، "من تقدم على ضربين منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن له مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه" أي: يتصرفوا فيه، وخص الأكل، لأنه أقوى طرق الانتفاع، "وجاءت نار فأحرقته" إلا الذرية، كما استثناها الحافظ، والمراد بها نساء الكفار وصبيانهم وأرقاؤهم ومجانينهم، وقضية ذلك أنها كانت تحرق الحيوانات، ومجيء النار إذا لم يكن فيها غلول ولا خيانة، وإلا بقيت حتى تذريها الرياح؛ لحديث أبي هريرة في الصحيحين:"غزا نبي من الأنبياء"
…
الحديث، وفيه:"فجمع الغنائم، فجاءت النار لتأكلها، فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولا"، إلى أن قال:"فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها فجاءت النار فأكلتها ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى عجزنا وضعفنا، فأحلها لنا". زاد الحافظ: وقيل: المراد أنه خاص بالتصرف في الغنيمة بصرفها حيث شاء، والأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلا.
"قال بعضهم" استئناف بياني، كأنه قيل: ما حكمة ذلك؟ فأجاب بأنه "أعطي صلى الله عليه وسم ما يوافق شهوة أمته؛ لأن النفوس لها التذاذ بها" يعني أن إحلالها له ولأمته، وإن كان تعظيمًا له وإكرامًا، ليس إلى الدنيا، ولا لرغبته فيها لنفسه، بل ذلك توسعة على أمته لاحتياجهم إليها ورغبتهم فيها؛ "لكونها حصلت لهم عن غير قهر منهم لتحصيلها وغلبة" بفتح الغين، أي: قهر، "فلا يريدون أن يفوتهم التنعم بها في مقابلة ما قاسوه" صلة التنعم، أي: يريدون التنعم في نظير ما قاسوه "من الشدة" بالكسر اسم من الاشتداد، "والتعب" عطف لازم على ملزوم، ثم لا يرد على ذلك؛ أن المراد بالغنيمة ما يشمل الفيء، لأن كلا منهما إذا انفرد عم الآخر، والفيء لا يشترط حصوله عن قهر وغلبة، بل يشمل ما انجلوا عنه بلا قتال، وما أهدوه والحرب قائمة وغير ذلك؛ لأن ذلك كله يصدق عليه أنه عن قهر في الجملة، إذ لولا خوفهم ما أهدوا وما جلوا عن شيء يتعلق بهم.
"ومنها: جعل الأرض له ولأمته مسجدًا وطهورًا" بفتح الطاء على المشهور؛ كما
والمراد: موضع سجود، أي: لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك. وقيل المراد: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجعلت لغيري مسجدًا ولم تجعل له طهورًا، لأن عيسر كان يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، قاله ابن التين ومن قبله الداودي. وقيل: إنما أبيح لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة فأبيح لهم في جميع الأرض، إلا فيما تيقنوا نجاسته.
قال صلى الله عليه وسلم: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث كان"، رواه الشيخان وغيرهما عن جابر، وقدمه المصنف تامًا في مبدأ الخصائص، فعجيب قول الشارح لم يذكر المصنف الحديث الدال لهذه ولحل الغنائم، ولكن آفة العلم النسيان.
"والمراد: موضع سجود" تباح الصلاة فيه، حيث لا مانع كنجاسة، فأطلق السجود على الصلاة، مجازًا من تسمية الكل باسم الجزء، "أي: لا يختص السجود منها، بموضع دون غيره" بل يشمل كل مكان، "ويمكن أن يكون" المسجد "مجازًا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه" أي: شبه الموضع الذي جاز فيه السجود، ولو في صحراء بالبيت المهيأ للصلاة، وأطلق عليه اسمه، وهو المسجد؛ "لأنه لما جازت الصلاة في جميعها، كانت كالمسجد في ذلك" فيكون استعارة تصريحية، أو أنه قصد تشبيهه به بتقدير الأداة، وكأنه قيل: الموضع الذي يباح فيه السجود، كالبيت المهيأ للصلاة في جوازها فيه، لكن هذا الثاني لا يطابق قوله، وهو من مجاز التشبيه.
"وقيل: المراد" ليس هذا مقابلا لما قبله، إذ الأول بيان لمدلول اللفظ، وهذا في جهة الخصوصية، ولفظ الفتح الذي نقل عنه المصنف ظاهر؛ لأنه ليس فيه هذه الواو وعبارته.
قال ابن التين: قيل المراد "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجعلت لغيري مسجدًا، ولم تجعل له طهورًا، لأن عيسى كان يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة" فالخصوصية لنا الجمع بين جواز الصلاة في أي محل، وبين كون الصعيد طهورًا والمسجد شورك فيه على ما "قاله" عبد الواحد "ابن التين، ومن قبله" أحمد بن نصر "الداودي" كلاهما في شرح البخاري، وسبقهما ابن بطال لذلك، ولم يبنوا على هذا حكم أمة عيسى في صلاتهم، لكن الأصل أن ما شرع لنبي شرع لأمته.
"وقيل: إنما أبيح لهم في موضع يتيقنون طهارته بخلاف هذه الأمة، فأبيح لهم في جميع الأرض؛ إلا فيما تيقنوا نجاسته" فالخصوصية على هذا جواز الصلاة في مظنون
والأظهر: ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة نحو البيع والصوامع ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ:"وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم" وهذا نص في موضع النزاع فتثبت الخصوصية، ويؤيده ما رواه البزار من حديث ابن عباس، نحو حديث جابر وفيه: ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه، قاله في فتح الباري.
ومنها: أن معجزته عليه الصلاة والسلام مستمرة إلى يوم القيامة، ومعجزات
الطهارة، "والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة نحو البيع" كنائس النصارى "والصوامع" للرهبان، فإن تعذر مجيئهم لها لنحو سفر، لم يصلوا على ظاهره، فيسقط عنهم أداؤها، ويقضون إذا بلغوها.
قال بعض شراح الرسالة القيروانية: كان من مضى من الأمم إنما يصلون بالوضوء في مواضع اتخذوها وسموها بيعًا، وكنائس وصوامع، فمن غاب منهم عن موضع صلاته لم يجز له أن يصلي في غيره من بقاع الأرض حتى يعود إليه، ثم يقضي كل ما فاته، وكذا إذا عدم الماء لم يصل حتى يجده، ثم يقضي ما فاته، وخصت اليهود برفع الجنابة بالماء الجاري دون غيره، انتهى، وهو ظاهر الأحاديث المذكورة في قوله:"ويؤيده رواية عمرو بن شعيب" عن أبيه، عن جده، "بلفظ:"وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم". وهذا" اللفظ "نص في موضع النزاع" وهو هل الخصوصية بالمسجد أيضًا كالطهارة، "فتثبت الخصوصية" بالمسجد، كما هي ثابتة بالطهارة، "ويؤيده" أيضًا "ما رواه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث جابر" المتقدم قبل عد الخصائص في المتن، "وفيه: ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه" فهاتان الروايتان صريحتان في سقوط الأداء، ويقضون إذا رجعوا؛ كما جزم به بعض، كما رأيت، ويؤيده ظاهر قوله: حتى يبلغ محرابه، فلا اتجاه لما قيل: هل سقط عنهم مطلقًا، أو أداؤها، ويقضون إذا رجعوا، أو محل الحصر في الكنائس ونحوها في الحضر لا السفر، ويكون محل خصوصية الأمة المحمدية الصلاة بأي محل، ولو بجوار المسجد، وسهولة الصلاة فيه، بل هو تقصير، ويمنع الثالث حديث ابن عباس المذكور والحصر في الحديث قبله، إذ التقييد لا بد له من دليل، "قاله في فتح الباري" في كتاب التيمم في شرح حديث جابر المتقدم.
"ومنها: أن معجزته عليه الصلاة والسلام" إضافة عهدية أي المتبادرة المعهودة شرعًا وهي القرآن، وبه أفصح السيوطي "مستمرة إلى" قرب "يوم القيامة" حتى ترفع "ومعجزات
سائر الأنبياء انقرضت لوقتها، فلم يبق إلا خبرها.
والقرآن العظيم لم تزل حجته قاطعة ومعارضته ممتنعة.
ومنها: أنه أكثر الأنبياء معجزة. قال القاضي عياض: أما كونها كثيرة فهذا القرآن كله معجز، وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض الأئمة المحققين بسورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أو آية في قدرها، وذهب بعضهم: إلى أن كل آية منه كيف كانت معجزة، وذهب آخرون إلى أن كل جملة منتظمة.
سائر الأنبياء انقرضت لوقتها، فلم يبق إلا خبرها" ولم يشاهدها إلا من حضرها وأكثرها حسية تشاهد بالبصر كناقة صالح وعصا موسى لبلادة أممهم، "والقرآن العظيم" الذي أريد بالمعجزة المستمرة "لم تزل حجته قاطعة" وهي عقلية تشاهد بالبصيرة لفرط ذكاء هذه الأمة فلا يمر عصر إلا ويظهر فيه شيء أخبر بأنه سيكون، "ومعارضته ممتنعة" لإعجازه فكان من يتبعه لأجلها أكثر إذ ما يدرك بالعقل يشاهده كل من جاء بعد الأول، وجميع معجزات المصطفى آحاد إلا القرآن، وحكمة ذلك مرت للمصنف في انشقاق القمر عن الخطابي وغيره.
"ومنها: أنه أكثر الأنبياء معجزة" فقد قيل: إنها تبلغ ألفًا، وقيل: ثلاثة آلاف، حكاهما البيهقي سوى القرآن، ففيه ستون ألف معجزة تقريبًا. قال الحليمي: وفيها مع كثرتها معنى آخر وهو أنه ليس في شيء من معجزات غيره ما ينحو نحو اختراع الأجسام، وإنما ذلك في معجزات نبينا خاصة نقله في الأنموذج.
"قال القاضي عياض" في الشفاء: ومعجزات نبينا خاصة أظهر من سائر معجزات الرسل بوجهين كثرتها وأنه لم يؤت نبي إلا وعند نبينا مثلها، أو ما هو أبلغ منها وقد نبه اناس على ذلك. "أما كونها كثيرة، فهذا القرآن كله معجز" دليل لكثرتها، وفي نسخة من الشفاء: وهذا بالواو بدل الفاء، فالتقدير: فهذا القرآن موجود معروف وجميع أجزائه معجز فناهيك به كثرة، "وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض الأئمة المحققين بسورة" بباء الجر داخلة على الخبر، وفي نسخ إسقاطها {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، وهي أقصر سورة في القرآن، "أو آية في قدرها" أي: مساوية لها في الحروف والكلمات وهي ثلاث آيات فأقل ما يقع الإعجاز به ثلاث آيات سورة أولا بحيث يظهر فيه تفاصيل قوى البلاغة، "وذهب بعضهم إلى أن كل آية منه كيف كانت" مقدار سورة أم لا؟ "معجزة" وقال قوم: لا يحصل الإعجاز بآية بل تشترط الآيات الكثيرة إذ لم يقم دليل على عجزهم عن معارضة أقل من سورة، وقيل: يتعلق الإعجاز بسورة طويلة كانت أو قصيرة تشبثًا بظاهر قوله: {بِسُورَةٍ} . "وذهب آخرون إلى أن كل جملة منتظمة" أي: مفيدة تامة
منه معجزة، وإن كانت من كلمة أو كلمتين.
قال القاضي: والحق ما ذكرناه أولا، لقوله تعالى:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فهو أقل ما تحداهم به، مع ما ينصر هذا القول من نظر وتحقيق يطول بسطه.
فإذا كان هذا، ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة وسبعين ألف كلمة ونيف على عدد بعضهم.
"معجزة وإن كانت من كلمة أو كلمتين" لا يرد كيف تكون جملة منتظمة وهي كلمة؛ لأنه يكون فيها مقدر كمدهامتان، وقال آخرون: يتعلق بقليل القرآن وكثيره بقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} . قال القاضي: ولا دلالة في الآية لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أول كلمات سورة.
"قال القاضي" عياض: "والحق ما ذكرناه أولا" أن المعجزة أقصر سورة أو مقدارها؛ "لقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} أي سورة كانت {مِنْ مِثْلِهِ} ، في الإعجاز ودخل مقدار السورة فيه بدلالة النص فلا يتوهم أنه ليس فيه دليل على مدعاه، "فهو" أي ما ذكر "أقل ما تحداهم" الله أو رسوله "به" أي طلب منهم معارضته "مع ما ينصر هذا القول" المذكور أولا، أي: يقويه ويؤيده "من نظر" أي فكر وتدبر "وتحقيق يطول بسطه" ببيان الأدلة والبراهين القائمة لمن تدبره، ونظير ما فيه من مراعاة كل مقام وما احتوى عليه من الجزالة واللطافة التي تحير العقول فقد تحداهم أولا بجملته، فقال: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، ثم بعشر سور فأتوا بعشر سور مثله ثم بسورة فسجل عجزهم بعد إرخاء عنان التكليف، "فإذا كان هذا" أي ثبت أن ما تحداهم به هذا المقدر الأقل، "ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة وسبعين ألف كلمة ونيف" أي: زيادة عليه "على عدد بعضهم" إن هذا مقداره وفي قدر هذا الزائد خلف، قال في الإتقان: عد قوم كلمات القرآن سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعًا وثلاثين كلمة، وقيل: وأربعمائة وسبعًا وثلاثين، وقيل: ومائتان وسبع وسبعون وقيل غير ذلك، قيل: وسبب الاختلاف في عدد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم واعتبار كل منها جائز، وكل من العلماء اعتبر أحد الجوائز، قال: والاشتغال باستيعاب ذلك مما لا طائل تحته وقد استوعبه ابن الجزري في فنون الأفنان فراجعه منه، فإن كتابنا موضوع للمهمات، لا لمثل هذه البطلات، وقد قال السخاوي: لا أعلم لعدد الكلمات والحروف فائدة؛ لأن ذلك إنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقص، والقرآن لا يمكن فيه ذلك، انتهى. فلفظ: نحو للمصنف زائد؛ لأن واحد من هذه الأقوال يصدق عليه أنه نيف.
وعدد كلمات {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} عشر كلمات، فيتجزأ القرآن على نسبة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أزيد من سبعة آلاف جزء، كل واحد منها معجز في نفسه، ثم إعجازه -كما تقدم- بوجهين. بلاغته، وطريق نظمه، فصار في كل جزء من هذا العدد معجزاته فتضاعف العدد من هذا الوجه.
"وعدد كلمات {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} عشر كلمات، فيتجزأ القرآن على نسبة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: على مقدارها وأتى بنسبة ليشمل آية واحدة وقدرها؛ كما مر، فالنسبة مجاز عن المقدار "أزيد من سبعة آلاف جزء" أي: بسبعمائة جزء وشيء؛ لأن السبعين ألفًا إذا قسمت على العشرة خرج لكل واحد منها سبعة آلاف، وإذا قسمت السبعة آلاف خرج لكل واحد منها سبعمائة فيصير الحاصل أن كل جزء سبعة آلاف وسبعمائة والنيف يختلف الخارج منه بحسب الخلاف فيه، "كل واحد منها معجز في نفسه" أي: بقطع النظر عن غيره "ثم إعجازه" أي القرآن؛ "كما تقدم" من ذكر الاختلاف في قدره "بوجهين" الأول "بلاغته" أي: ما فيه من مراعاة الوجوه التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال فهي من جهة المعنى، "والثاني "طريق نظمه" أي أسلوبه وكونه على نسق لا يشبه غيره من الكلام نظمًا وسجعًا ونثرًا وتناسب كلماته وجملة وإيتاء كل كلمة منه ما تستحقه وتنزيلها في محل لا يليق بها غيره، كما يعرفه من ذاق طعم البلاغة، "فصار في كل جزء من هذا العدد معجزتان" من جهة بلاغته ونظمه، "فتضاعف" ماض من التفاعل أو مضارع من المفاعلة "العدد" أي: عدد معجزته "من هذا الوجه" المشتمل على البلاغة والنظم، قال ابن عطية: الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه وذلك أن الله أحاط بكل شيء علمًا وأحاط بالكلام كله، فإذا تركبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى، وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدًا من البشر لا يحيط بذلك فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك. والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط، ولهذا ترى البليغ يفتتح القصيدة أو الخطبة حولا ثم ينظر فيها يتعرفها وهلم جرًا، وكتاب الله سبحانه لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد، ونحن تتبين لنا البلاغة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصرنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق، وجودة القريحة، وإقامة الحجة على العالم بالقرآن؛ لأنهم كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة موسى بالسحر، وفي معجزة عيسى بالطب، فكأن السحر انتهى في مدة موسى إلى غايته، وكذا
ثم فيه وجوه إعجاز آخر، من الإخبار بعلوم الغيب، فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئية الإخبار عن أشياء من الغيب، كل خبر منها بنفسه معجز، فتضاعف العدد كرة بعد أخرى.
ثم وجوه الإعجاز الآخر التي ذكرناها توجب التضعيف، هذا في حق القرآن، فلا يكاد يأخذ العد معجزاته، ولا يحوي الحصر براهينه.
ومن ذلك انشقاق القمر وتسليم الحجر، وحنين الجذع ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك، كما ذكره ابن عبد السلام وغيره، وتقدم ما فيه من المباحث.
ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين.
الطب في زمن عيسى، والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، انتهى.
"ثم فيه وجوه إعجاز آخر" غير الطريقين "من الإخبار بعلوم الغيب" أي الأمور المغيبة سابقة أو لاحقة بيان لوجوه، "فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئة" أي الأجزاء المذكورة المضاعفة من جهتي الإعجاز "الإخبار عن أشياء من الغيب" الأمور المغيبة عن علمنا "كل خبر منها بنفسه معجز" باعتبار إخباره عن الغيب وقطع النظر عن غيره من وجوه الإعجاز، "فتضاعف" ماض أو مضارع؛ كما مر "العدد" المذكور، أي: العدد المضاعف لقوله: "كرة" أي: مرة "بعد أخرى" أي: بعد مضاعفته السابقة "ثم وجوه الإعجاز الآخر التي ذكرناها" وهي ذكر المغيبات "توجب التضعيف" الزيادة إلى ما لا يكاد يحصى كثرة "هذا في حق القرآن" دون غيره من المعجزات الزائدة على معجزات سائر الأنبياء، "فلا يكاد يأخذ العد" وفي نسخة: العدد، وهما بمعنى "معجزاته" أي: لا يحيط بها لكثرتها، فالمراد بالأخذ الإحاطة مجازًا بليغًا؛ كقوله:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} ، وهو مبالغة، ولذا قال: لا يكاد "ولا يحوي الحصر" أي: الإحاطة "براهينه" أي: أدلته القاطعة الدالة على ثبوت رسالته لسائر الخلق وبقية كلام الشفاء في هذا الوجه ثم الأحاديث الواردة في هذه الأبواب، أي: أبواب معجزاته وما دل على أمره مما أشرنا إلى جمل منه تبلغ نحوًا من هذا، أي: المقدار الكثير. "ومن ذلك انشقاق القمر، وتسليم الحجر، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك" المذكور من الأربع، وكذا اختراع الأجسام كتكثير التمر والطعام؛ "كما ذكره ابن عبد السلام عز الدين "وغيره وتقدم ما فيه من المباحث" في المعجزات.
"ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين" كما قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمُ
قال صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأكمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين". رواه البخاري ومسلم.
النَّبِيِّينَ} ، أي: آخرهم الذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح، وروى أحمد والترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أنس مرفوعًا:"إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي"، وقيل: من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وهو كالوالد لولد ليس له غيره، ولا يقدح نزول عيسى بعده؛ لأنه يكون على دينه مع أن المراد أنه آخر من نبئ، وكذا الخضر والياس على بقائهما إلى آخر الزمان تابعان لأحكام هذه الملة.
قال عليه الصلاة والسلام: "مثلي" مبتدأ "ومثل الأنبياء قبلي" عطف عليه "كمثل رجل" خبره "بنى بيتًا فأحسنه وأكمله" وفي رواية جابر: كرجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها "إلا موضع لبنة" بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها نون وبكسر اللام وسكون الموحدة أيضًا قطعة طين تعجن وتعد للبناء من غير إحراق فإذا أحرقت فهي آجرة، "من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به" بالبيت "ويتعجبون له" أي: لأجله، وفي رواية جابر: فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون أي من حسنها، "ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة"؟ وزاد في رواية أحمد: فيتم بنيانك "فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين" ومكمل شرائع الدين، فإن قيل: المشبه به واحد والمشبه جماعة، فكيف صح التشبيه؟ أجيب: فإنه جعل الأنبياء كرجل واحد لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذا الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان، ويحتمل أن يكون من التشبيه التمثيلي وهو أن يؤخذ وصف من أوصاف المشبه ويشبه بمثله من أحوال المشبه به فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس ببيت أسست قواعده ورفع بنيانه وبقي منه موضع يتم به صلاح ذلك البيت، وزعم ابن العربي: أن اللبنة المشار إليها كانت في أس الدار المذكورة، وأنها لولا وضعها لانقضت تلك الدار، قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور. قال الحافظ: وهذا إن كان منقولا فهو حسن، وإلا فليس بلازم نعم ظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها، وقد وقع في رواية مسلم: "إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها" فظهر أن المراد أنها مكملة محسنة وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها ناقصًا وليس كذلك فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة، فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة، "رواه البخاري" في أحاديث الأنبياء "ومسلم" في الفضائل من حديث أبي هريرة واللفظ له، ومن حديث جابر بنحوه، وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام وفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وأن الله ختم به النبيين وأكمل شرائع الدين.
ومنها: أن شرعه مؤبد إلى يوم الدين، وناسخ لجميع شرائع النبيين، وأنه أكثر الأنبياء تابعًا كما قال عليه السلام: فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة. رواه الشيخان من حديث أبي هريرة.
ومنها أنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه.
"ومنها: أن شرعه مؤبد" بموحدة: باق "إلى يوم الدين" أي: يوم الجزاء ومنه كما تدين تدان، وبيت الحماسة:
ولم يبق سوى العدوا
…
ن دناهم كما دانوا
وقيل: الدين الشريعة والطاعة، فالمعنى يوم جزاء الدين وقد تكفل الله لشرعه ببقائه على ممر الدهور حتى ينزل عيسى فيحكم به ثم يضمحل عند قيام الساعة بموت الطائفة الذين لا يزالون قائمين بالحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي الله، أي: ربح لينة تقبض أرواحهم فلا يبقى على الأرض من يقول لا إله إلا الله، فتقوم الساعة؛ كما بين في أحاديث.
"وناسخ لجميع شرائع النبيين" إجماعًا حكاه غير واحد نعم خصه الإمام الرازي بالشرائع السمعية لا العقلية فيمتنع نسخة كمعرفة الباري وطاعته، "وأنه أكثر الأنبياء تابعًا؛ كما قال عليه السلام":"ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة". ورجاؤه محقق وقد جزم به في مسلم عن أنس رفعه: "أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة"، وروى البزار:"يأتي معي من أمتي يوم القيامة مثل السيل والليل". وخصها لأنها يوم ظهور ذلك، "رواه الشيخان من حديث أبي هريرة" ورتب قوله:"فأرجو"
…
إلخ، على ما تقدم من معجزات القرآن المستمرة لكثرة فائدة وعموم نفعه لاشتماله على الدعوة والحجة والإخبار بما سيكون فعم نفعه من حضر ومن غاب من وجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرجاء على ذلك، وهذا قد تحقق فإنه أكثرهم تبعًا ودل الحديث على أن النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه ولا يضره من أصر على المعاندة، وقوله: ما مثله ما موصول وقعت مفعولا ثانيًا لأعطى ومثله مبتدأ وآمن خبره، والمثل يطلق ويراد به عين الشيء وما يساويه والمعنى أن كل نبي أعطي آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن لأجلها وعليه بمعنى اللام أو الباء ونكتة التعبير بها تضمنها معنى الغلبة، أي: يؤمن بذلك مغلوبًا عليه بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه لكن قد يخذل فيعاند؛ كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} ، وقوله:"وإنما كان الذي أوتيته وحيًا"، أي: القرآن، المراد النوع المختص به أو أعظمها وأفيدها لا حصر معجزاته فيه؛ لأنها لم تنحصر فيه أو أنه لا مثل له لا صورة ولا حقيقة بخلاف غيره من المعجزات، فلا يخلو عن مثل، وقيل غير ذلك؛ كما بسطه في الفتح.
"ومنها: أنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه" لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حيًا
كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
ومنها أنه أرسل إلى الجن.
ما وسعه إلا اتباعي"، رواه أبو نعيم وغيره، "كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى" في المقصد السادس، وسبقت الإشارة إليه في ذا المقصد والمقصد الأول.
"ومنها: أنه أرسل إلى الجن" وهم كما قال الحافظ عن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي: أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة يجوز. أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافًا لدعوى المعتزلة أنها رقيقة وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها، وهو مردود بأن الرقة لا تمنع الرؤية، ويجوز أن يخفي عن رؤيتنا بعض الأجساد الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا إدراكها. وروى البيهقي عن الشافعي: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبيًا، وهو محمول على من ادعى رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها. وأما من ادعى أنه يرى شيئًا منهم بعد أن يتصور على صورة شيء من الحيوان، فلا يقدح فيه وقد تواترت الأخبار بتطورهم في الصور، واختلف المتكلمون هل هو تخيل فقط ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية، أو ينتقلون لكن لا اقتدار لهم على ذلك بل بضرب من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر، وهذا قد يرجع إلى الأول. قال ابن عبد البر: الجن عند الجماعة مكلفون، قال عبد الجبار: لا نعلم خلافًا بين أهل النظر في ذلك إلا ما حكي عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم وليسوا مكلفين. قال: والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين والتحرز من شرهم وما أعد لهم من العذاب، وهذه الخصال إنما تكون لمن خالف الأمر وارتكب النه مع تمكنه من أن لا يفعل والآيات والأخبار الدالة على ذلك كثيرة جدًا، وإذا تقرر تكليفهم فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإسلام. وأما ما عداه من الفروع ففيه خلاف، لما ثبت أن الروث والعظم زاد الجن، وفي رواية في الصحيح: أنهما طعام الجن، فدل على جواز تناولهم الروث وهو حرام على الإنس؛ كذا في فتح الباري ولا دليل في حديث الروث، لأنه علف دوابهم، كما في الصحيح. وقد نقل ابن عطية وغيره الإجماع على أن الجن متعبدون بهذه الشريعة، فإن قيل: لو كانت الأحكام بجملتها لازمة لهم لترددوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتعلموها مع أنهم إنما اجتمعوا به قليلا، أجيب بأنه لا يلزم من عدم اجتماعهم به وحضورهم مجلسه وسماعهم كلامه أن لا يعلموا الأحكام فإن في الآثار والأخبار أن مؤمنيهم يصلون، ويصومون، ويحجون، ويطوفون، ويقرءون القرآن، ويتعلمون العلوم ويأخذونها عن الإنس، ويروون عنهم الأحاديث، وإن لم يشعروا بهم وبأنه يمكن اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يراهم المؤمنين، ويكون هو يراهم دون أصحابه بقوة يعطيها الله له زائد عن قوة أصحابه، ثم لا خلاف أنهم يعاقبون على المعاصي.
اتفاقًا، والدليل على ذلك قبل الإجماع: الكتاب والسنة، قال الله تعالى:{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ، وقد أجمع المفسرون على دخول الجن في هذه الآية، وهو مدلول لفظها.
واختلف: هل ينامون؟ وإليه ذهب الجمهور، وقال به الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وعليه فهل يدخلون مدخل الإنس؟ وهو قول الأكثر والأشهر والأكثر أدلة، زاد الحارث بن أسد المحاسبي: ونراهم في الجنة ولا يرونا عكس الدنيا، قال الضحاك: ويأكلون فيها ويشربون، وقال مجاهد: يلهمون التسبيح والتقديس فيجدون فيه ما يجده الإنس من اللذة أو يكونون في ربض الجنة أو العراف أو الوقف أقوال، واستدل الإمام مالك على أن لهم الثواب وعليهم العقاب بقوله تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، ثم قال:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، والعذاب للإنس والجن فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين، ومن شأن المؤمنين أن يخاف مقام ربه ثبت المطلوب، واستدل ابن وهب بقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} ، وابن عبد الحكم وغيره بقوله تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} بعد قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ، وذهب أبو حنيفة وليث بن أبي سليم أن ثواب الجن أن يجاروا من النار ثم يكونوا أترابًا، واحتجا بقوله تعالى:{وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وقوله:{فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} ، قالا: فلم يذكر في الآيتين ثوابا غير النجاة من العذاب، وأجيب بأن الثواب مسكوت عنه وأن ذلك من قول الجن، فيجوز أنهم لم يطلعوا على ذلك وخفي عليهم ما أعد الله لهم من الثواب.
وروى ابن مردويه وأبو الشيخ وابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي والديلمي بإسناد فيه ضعف عن أبي الدرداء مرفوعًا: "خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليهم الحساب والعقاب""اتفاقًا" أي: إجماعًا بدليل قوله: "والدليل على ذلك قبل الإجماع" المعلوم من الدين بالضرورة "الكتاب والسنة" أما الكتاب، فقد "قال الله تعالى:{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} منذرًا أو إنذارًا كالتكبير بمعنى الإنكار، "وقد أجمع المفسرون على دخول الجن في هذه الآية" ولا يقدح فيه القول بأن المراد الناس فقط؛ لأن كل واحد منهم من حيث اشتماله على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم فيه عالم على حاله، ولذا أمر بالنظر إلى الأنفس في الآفاق، فقيل:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} أما الشذوذ فلم يعتد به حاكى الإجماع أو أن قائله ليس من المفسرين، "وهو مدلول لفظها" بناء على أن العالمين اسم جمع لمن يعقل خاصة، وهم الملائكة والثقلان لا جمع له؛ لأن العالم اسم لما سوى الله فلو كان جمعًا له للزم أن معنى
فلا يخرج عنه إلا بدليل.
وإن قيل إن الملائكة خارجون من ذلك فلا يضر، لأن العام المخصوص حجة عند جمهور العلماء والأصوليين، ولو بطل الاستدلال بالعمومات المخصوصة لبطل الاستدلال بأكثر الأدلة.
وقال تعالى في الأحقاف: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31] ، فأمر بعضهم بعضًا بإجابته دليل على أنه داع لهم، وهو معنى بعثته لهم، إلى غير ذلك من الآيات.
المفرد أكثر من معنى الجمع، وهذا أحد قولين. والثاني: أنه جمع شامل لذوي العلم وغيرهم، قال البيضاوي: العالم اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب غلب فيما يعلم به الصانع وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر فيها واجب لذاته تدل على وجوده، وإنما جمعت ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم. وقيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، انتهى. وإذا كان كذلك، "فلا يخرج عنه إلا بدليل" ولم يوجد فثبت دخولهم في اللفظ "وإن قيل: إن الملائكة خارجون من ذلك" العموم على مذهب الأكثر أنه ليس مرسلا إليهم فتضعف دلالة العام على إفراده لاحتماله التخصيص زيادة على ما خص به، فحيث ثبت استثناء الملائكة من العالمين جاز استثناء الجن أيضًا، فلا تدل الآية على أنه مرسل إليهم، "فلا يضر" ذلك في الاستدلال بها على دخول الجن؛ "لأن العام المخصوص حجة عند جمهور العلماء والأصوليين" مطلقًا لاستدلال الصحابة به من غير نكير، وقيل: إن خص بمعين لا مبهم كاقتلوا المشركين إلا بعضهم، وقيل: إن خص بمتصل كالصفة وقيل غير ذلك، ومحل الخلاف إن لم نقل إنه حقيقة وإلا احتج به جزمًا؛ كما قاله ابن السبكي فتقييد المصنف بالجمهور بناء على أنه مجاز، فإن قلنا حقيق كان حجة عند الجميع.
"ولو بطل الاستدلال بالعمومات المخصوصة" كما قيل به مطلقًا أيضًا، "لبطل الاستدلال بأكثر الأدلة" لكونها مخصوصة وهو خلاف عمل الصحابة والأئمة بعدهم، "وقال تعالى في الأحقاف" ذكر لمن يعلم أو شذ عنه:{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} ، فأمر بعضهم بعضًا بإجابته دليل على أنه داع لهم وهو معنى بعثته لهم إلى غير ذلك من الآيات" كقوله تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ} والجن بلغهم القرآن، وقوله تعالى:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} وهما الإنس والجن؛ لأنهما ثقلا الأرض أو لأنهما مثقلان بالذنوب. وقال: ولمن خاف مقام ربه
وأما السنة، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست" فذكر منها، "وأرسلت إلى الخلق كافة" فإنه يشمل الجن والإنس، وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل فلا يجوز. والكلام فيه كالكلام في آية الفرقان.
فإن قلت: إن قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 58]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] ظاهر في اختصاص رسالته عليه السلام بالإنس، واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر.
فالجواب: إن هذا إنما يتمشى على مذهب الدقاق.
جنتان ولذا قيل: من الجن مقربون وأبرار كالإنس.
"وأما السنة" قسيم لمقدر كما مر، "ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فضلت على الأنبياء بست" من الخصال وليس المراد الحصر، لأنه فضل بأكثر بل أخبر بما أوحي إليه أولا ثم أخبر بالباقي؛ كما مر بسطه. "فذكر" الحديث المتقدم لفظه في المتن أول الخصائص، فلا ننقله من غيره.
منها: "وأرسلت إلى الخلق كافة" إرساله عامة محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، وهذا أصرح الروايات وأشملها، "فإنه يشمل الجن والإنس" بل والملائكة كما يأتي، "وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل، فلا يجوز" لأنه تحكم، "والكلام فيه كالكلام في آية الفرقان" المذكورة أولا إذ العالمين والخلق كل منهما عام، "فإن قلت: إن قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} حال من إليكم والخلق كل منهما عام، "وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} إلا إرساله عامة لهم من الكف؛ فإنها إذا لحقتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد أو إلا جامعًا لهم في الإبلاغ فهو حال من الكاف والتاء للمبالغة، ولا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار، قاله البيضاوي. "ظاهر" ما ذكر من الآيتين ولذا لم يقل ظاهر إن "في اختصاص رسالته عليه السلام بالإنس" لأن الخطاب لهم، "واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر" فهل يخالف الآيات والأحاديث الدالة على بعثه إلى الجن؟ "فالجواب: إن هذا" السؤال "إنما يتمشى على مذهب" الأستاذ أبي علي الحسن بن علي النيسابوري "الدقاق" إمام عصره برع في الفقه والأصول والعربية والتصوف، قال الغزالي: كان زاهد زمانه وعالم أوانه له كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة، قيل له: لم زهدت في الدنيا؛ قال: لما زهدت في أكثرها أنفت عن الرغبة في أقلها، مات سنة خمس أو ست وأربعمائة:
القائل بأن مفهوم اللقب حجة، و"الناس" من قبيل اللقب، فإن المسألة المترجمة في الأصول "بمفهوم اللقب" لا تختص باللقب، بل الأعلام وأسماء الأجناس كلها كذلك ما لم تكن صفة. و"الناس" اسم جنس غير صفة فلا مفهوم له. فهذه الآية ليس فيها أصلا ما يفهم منه أنه ليس رسولا إلى غيرهم إلا على مذهب الدقاق، بل ولا يتم على مذهبه التمسك بهذا المفهوم أيضًا لأن الدقاق إنما يقول به حيث لم يظهر غرض سواه في ذلك الاسم، وحيث غرض لا يقول بالمفهوم، بل يحمل التخصيص على ذلك الغرض، والغرض في الآية التعميم في جميع الناس، وعدم اختصاص الرسالة ببعضهم، فلا يلزم نفي الرسالة عن غيرهم، لا على مذهب الدقاق ولا على مذهب غيره، وإنما خاطب الناس لأنهم الذين تغلب رؤيتهم والخطاب معهم، فمقصود الآية خطاب الناس، والتعميم فيهم لا النفي عن.
"القائل بأن مفهوم اللقب حجة" خصه لاشتهاره بذلك وإلا فقد قال به الصيرفي من الشافعية وهو أقدم منه وأجل وابن خويز منداد من المالكية إذ لا فائدة لذكره إلا نفي الحكم عن غيره كالصفة. وأجيب بأن فائدته استقامة الكلام إذ بإسقاطه يختل بخلاف إسقاط الصفة، "والناس من قبيل اللقب" عند الأصوليين وهو الاسم الجامد سواء كان عالمًا أو اسم جنس لا عند النحاة الذي هو ما أشعر برفعه المسمى أوضعته، "فإن المسألة المترجمة في الأصول بمفهوم اللقب لا تختص باللقب" المشعر بمدح أو ذم، "بل الأعلام كلها وأسماء الأجناس كلها، كذلك لم تكن صفة" ظاهره أنها من أسماء الأجناس، وفي المحلى خلافه فكأن مراده أن أسماء الأجناس لا تشمل الصفة فلا تدخل في اللقب، "والناس اسم جنس غير صفة فلا مفهوم له" فسقط السؤال، "فهذه الآية ليس فيه أصلا ما يفهم منه أنه ليس رسولا إلى غيرهم" أي: اإنس "إلا على مذهب الدقاق" وهو ضعيف "بل" انتقالية، "ولا يتم على مذهبه التمسك بهذا المفهوم أيضًا؛ لأن الدقاق إنما يقول به حيث لم يظهر غرض سواه" أي غيره "في ذلك الاسم" فيوافق الدقاق غيره على عدم اعتبار مفهوم اللقب، "وحيث ظهر غرض" كموافقة الغالب وما معها المذكور في الأصول، "لا يقول" الدقاق "بالمفهوم بل يحمل التخصيص على ذلك الغرض، والغرض في الآية التعميم في جميع الناس وعدم اختصاص الرسالة ببعضهم" كما زعم اليهود والنصارى لا نفي غير الناس، وحينئذ "فلا يلزم نفي الرسالة عن غيرهم لا على مذهب الدقاق ولا على مذهب غيره" وهم الجمهور، "وإنما خاطب الناس" فقط؛ "لأنهم الذين تغلب رؤيتهم والخطاب معهم، فمقصود الآية خطاب الناس والتعميم فيهم لا النفي عن
غيرهم، وهذا إذا قلنا إن لفظ الناس لا يشمل الجن، فإن قلنا إنه يشملهم فواضح.
والاختلاف فيه مبني على الاختلاف في اشتقاق الناس، هل هو من النوس، وهو الحركة، أو من الإنس وهو ضد الوحشة؟ فإذا قلنا بالأول أطلق على الفريقين، ولكن استعماله في الإنس أغلب، فحيث أطلق فالمراد به ولد آدم، وإذا قلنا بالثاني فلا، لأنا لا نبصر الجن ولا نأنس بهم، فدخول الجن في الآية إما ممتنع وإما قليل فلا يحمل عليه، وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بها، لكنها لا تدل على خلافه.
وأما قول الضحاك ومن تبعه: أن الرسل إلى الجن منهم، لقوله تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] ، فهو ظاهر الآية،
غيرهم" حتى يتأتى السؤال، "وهذا" كله إنما يحتاج إليه "إذا قلنا: إن لفظ الناس لا يشمل الجن" كما هو أحد القولين، "فإن قلنا: إنه يشملهم" كما هو القول الآخر، "فواضح" عدم تأتي السؤال وتكون الآيتان من جملة أدلة العموم، "واختلاف فيه" أي الشمول للجن "مبني على الاختلاف في اشتقاق الناس هل هو من النوس" المصدر "وهو الحركة" لأن أصل المشتقات المصدر على الراجح، وهو قول البصريين ولذا لم يقل من ناس إذا تحرك لابتنائه على قول الكوفيين إن أصلها الفعل، "أو من الإنس وهو ضد الوحشة، فإذا قلنا بالأول" من النوس "أطلق على الفريقين" لأن الجن يتحركون كالإنس، "ولكن" مع ذلك "استعماله في الإنس أغلب" من استعماله في الجن، "فحيث أطلق فالمراد به ولد آدم" لأنه الأغلب، "وإذا قلنا بالثاني" وهو الإنس، "فلا" يدخل الجن "لأنا لا نبصر الجن ولا نأنس بهم، فدخول الجن في الآية إما ممتنع" على أنه من الإنس. "وإما قليل" على أنه من النوس، "فلا يحمل عليه" الآية "وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بها" على أنه مرسل إليهم؛ "لكنها لا تدل على خلافه" وهو خروج الجن عن كونه مرسلا إليهم بل هي ساكنة عنه.
"وأما قول الضحاك" من مزاحم الهلالي أبو القاسم أو أبو محمد الخراساني صدوق كثير الإرسال روى له الأربعة مات بعد المائة، "ومن تبعه: أن الرسل إلى الجن منهم؛ لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ، فهو ظاهر الآية" قال ابن جرير: لأن الله أخبر أن من الجن والإنس رسلا أرسلوا إليهم، فلو جاز أن المراد برسل الجن رسل الإنس لجاز عكسه وهو فاسد، وأجاب الجمهور بأن معنى الآية أن رسل الإنس رسل من قبل الله إليهم ورسل الجن يتهم الله في الأرض ليسمعوا كلام رسل الإنس ويبلغوه قومهم؛ كما قال تعالى: {وَلَّوْا إِلَى
لكن لم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك في هذه الملة. وإنما محل الخلاف في ذلك في الملل المتقدمة خاصة، وأما في هذه الملة فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو المرسل إليهم وإلى غيرهم، ولم ينقل أحد عن الضحاك أن رسل الجن منهم مطلقًا، ولا ينبغي أن ينسب إليه ما يخالف الإجماع، على أن الأكثرين قالوا: لم تكن الرسل إلا من الإنس، ولم يكن من الجن قط رسول، لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك. ونظيره قوله:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، وهما يخرجان من الملح دون العذب، وقيل الرسل من الجن رسل الرسل من بني آدم إليهم لا رسل الله، لقوله تعالى:{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] .
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الآية؛ "لكن لم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك في هذه الملة" المحمدية، "وإنما محل الخلاف في ذلك في الملل المتقدمة خاصة، وأما في هذه الملة فنبينا صلى الله عليه وسلم هو المرسل إليهم وإلى غيرهم" إجماعًا حكاه ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما: "ولم ينقل أحد عن الضحاك أن رسل الجن منهم مطلقًا" أي: في الأمم السابقة وهذه الأمة بدليل قوله: "ولا ينبغي أن ينسب إليه ما يخالف الإجماع" ويحتمل أن معنى الإطلاق لا بأنفسهم ولا عن أحد من البشر، فهو مقابل قوله الآتي، وقيل: الرسل من الجن وفيه بعد "على أن الأكثرين قالوا: لم تكن الرسل إلا من الإنس" خاصة، "ولم يكن من الجن رسول قط لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك" من باب الحكم على المجموع فلا يستلزم الحكم على الجميع، "ونظيره قوله:{يَخْرُجُ} بالبناء للفاعل والمفعول {مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، وهما" إنما "يخرجان من الملح دون العذب" على الصحيح، وقول الجمهور: خلافًا لقوم أنه يخرج من العذب أيضًا، قال ابن عطية: وقد رد الناس هذا القول لأن الحسن يكذبه ووجهت آية {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} أيضًا بأنه لما كان النداء لهما معًا والتوبيخ جرى الخطاب عليهما على سبيل التجوز المعهود في كلام العرب تغليبًا للإنس لشرفهم وتأوله الفراء على حذف مضاف، أي: من أحدكم؛ كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، أي: من أحدهما وهو الملح؛ وكقوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} ، أي: في إحداهن وهي سماء الدنيا، و {يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} أراد بالذكر التكبير وبالأيام العشر، أي: أحد أيام العشر وهو يوم النحر.
"وقيل: الرسل من الجن رسل الرسل من بني آدم إليهم" فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله، "لا رسل الله" بلا واسطة؛ "لقوله تعالى:{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} وهذا
قاله بعض العلماء.
ومنها أنه أرسل إلى الملائكة في أحد القولين، ورجحه السبكي.
منقول عن ابن عباس والضحاك أيضًا ونقل بعضهم عنه موافقة الجمهور أيضًا، "قاله بعض العلماء" وقيل: بعث الله رسولا واحدًا من الجن إليهم اسمه يوسف ونقل عن ابن عباس أنه المراد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} واحتج ابن حزم على أن الرسل إلى الجن منهم في الأمم السابقة بقوله صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة"، وليس الجن من قوم الإنس فيثبت أنه كاهن منهم أنبياء إليهم، وفي استدلاله بالحديث نظر. وما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس في قوله:"ومن الأرض مثلهن" قال: سبع أرضين في كل أرض آدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيمكم وعيسى كعيساكم ونبي كنبيكم، فقال البيهقي: إسناده صحيح لكنه شاذ بمرة، يعني: فلا يلزم من صحة إسناده صحة متنه فقد يصح الإسناد، ويكون في المتن شذوذًا وعلة تقدح في صحته؛ كما تقرر عند المحدثين. قال ابن كثير: وهذا إن صح عنه يحمل على أنه أخذه من الإسرائيليات، وهذا أو أمثاله إذا لم يخبر به ويصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله، انتهى. وعلى تقدير ثبوته يكون المعنى أن ثم من يقتدي به مسمى بهذه الأسماء وهم الرسل المبلغون إلى الجن عن أنبياء الله سمي كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه والله أعلم.
"ومنها: أنه أرسل إلى الملائكة" قال في فتح الباري: قال جمهور أهل الكلام من المسلمين: الملائكة أجسام لطيفة أعطيت قدرة على التشكل بأشكال مختلفة ومسكنها السماوات، وأبطل قول من قال إنها الكواكب أو الأنفس الخيرة التي فارقت أجسادها وغير ذلك من الأقوال التي لا يوجد في الأدلة السمعية شيء منها، وجاء في صفتهم وكثرتهم أحاديث، منها ما أخرجه مسلم عن عائشة مرفوعًا:"خلقت الملائكة من نور". الحديث، وأخرج الترمذي وابن ماجه والبزار عن أبي ذر مرفوعًا:"أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد". الحديث، وروى الطبراني عن جابر رفعه:"ما في السماوات موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد". وذكر في ربيع الأبرار عن سعيد بن المسيب، قال: الملائكة ليسوا ذكورًا ولا إناثًا"، ولا يأكلون ولا يشربون، ولا يتناكحون، ولا يتوالدون، وفي قصة الملائكة مع إبراهيم وسارة ما يؤيد أنهم لا يأكلون. وأما ما وقع في قصة الأكل من الشجرة أنها الخلد التي تأكل منها الملائكة فليس بثابت، وفي هذا ما ورد من القرآن رد على أن من أنكر وجود الملائكة من الملاحدة، انتهى.
في أحد القولين، ورجحه السبكي" والبارزي وابن حزم والسيوطي لأنهم مكلفون
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ولا نزاع أن المراد من العبد ها هنا محمد عليه الصلاة والسلام، والعالم هو ما سوى الله تعالى، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، وبطل بذلك قول من قال: إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض، لأن لفظ "العالمين" يتناول جميع المخلوقات، فتدل الآية على أنه رسول إلى الخلق.
ولو قيل لمدعي "خروج الملائكة من هذا العموم" أقم الدليل عليه ربما عجز عنه، فإنه يحتمل أن يكون من الملائكة من أنذره صلى الله عليه وسلم إما ليلة الإسراء وإما غيرها. لكن لا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم في شيء خاص أن يكون.
بالطاعات العملية؛ كما قال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} ، وإن لم يكونوا مكلفين بالوحدانية لظهورهم لهم فتكليفهم بها تحصيل للحاصل ودليل رجحان هذا القول. ما "قال تعالى:{تَبَارَكَ} تعالى: {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} مخوفًا من عذاب الله، "ولا نزاع أن المراد من العبد ها هنا محمد عليه الصلاة والسلام" إذ الإضافة عهدية وجاء استعماله بهذا اللفظ فيه: أسرى بعبده أنزل على عبده الكتاب، واشتهر حتى صار كالعلم المخصوص به صلى الله عليه وسلم فهو دفع لتجويز أن المراد غيره، "والعالم" بفتح اللام والرفع استئناف "هو ما سوى الله" وليس بالخفض عطفًا على العبد؛ لأنه يكون التقدير ولا نزاع في أن المراد من العالم ما سواه "تعالى" مع أن فيه النزاع، قال المجد: العالم الخلق كله أو ما حواه بطن الفلك، وفي المصباح: العالم الخلق، وقيل: مختص بمن يعقل؛ "فيتناول جميع المكلفين" على أنه الخلق كله "من الجن والإنس والملائكة" وعلى أنه اسم للعاقل فالمكلفون مفهومه والتناول فيه باعتبار كل فرد أو نوع، "وبطل بذلك" أي: شمول الآية لجميع المكلفين "قول من قال: إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض" لمخالفة التخصيص لصريح الآية، "لأن لفظ العالمين يتناول جميع المخلوقات" توجيه للإبطال، "فتدل الآية على أنه رسول إلى الخلق" كلهم ومنهم الملائكة فثبت المطلوب. "ولو قيل لمدعي خروج الملائكة من هذا العموم: أقم الدليل عليه" لأن تخصيص العام لا بد له من دليل، "ربما عجز عنه" فإن اعتل بأنه قال نذيرًا فيخرج الملائكة لعصمتهم، ولأنه لم ينذرهم لم تقبل علته، "فإنه يحمل أن يكون من الملائكة من أنذره صلى الله عليه وسلم إما ليلة الإسراء وإما غيرها" وإذا احتمل ذلك بطل تخصيصها بغير الملائكة إذ لا يثبت إلا بدليل، وظاهر الآية شمولها لهم وهو كاف في الاستدلال إذ ليس كل احتمال يقدح فيه بل إنما يقدح الاحتمال القوي، وكذا لا يلزم من العصمة عدم الإنذار ومن يقل منهم إني إله فقد أنذرهم مع العصمة، "لكن لا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم في شيء خاص أن يكون
بالشريعة كلها.
وإذا قلنا إن الملائكة هم مؤمنوا الجن السماوية، فإذا ركب هذا مع القول بعموم الرسالة للجن الذي قام الإجماع عليه، لزم عموم الرسالة لهم، لكن القول بأن الملائكة من الجن قول شاذ.
والجمهور: على أن "العالمين" في آية الفرقان عام مخصوص بالإنس والجن
بالشريعة كلها" إذ لا تتأتى كلها فيهم ومما يدل على شمول الآية للملائكة قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} ، قال السيوطي: لم أقف على إنذار في القرآن للملائكة سوى هذه الآية، والحكمة في ذلك واضحة؛ لأن غالب المعاصي راجعة إلى البطن والفرج وذلك ممتنع عليهم من حيث الخلقة فاستغنى عن إنذارهم فيه.
"وإذا قلنا: إن الملائكة هم مؤمنوا الجن السماوية" كما ذهب إليه من زعم أن العقلاء الناطقين فريقان إنس وجان، وكل فريق أخيار وأشرار، فأخيار الإنس هم الأبرار منهم رسل وغير رسل، وأشرارهم الفجار كفار وغير كفار، وأخيار الجن هم الملائكة منهم رسل وغير رسل، وأشرارهم الشياطين، واستدل من قال الملائكة هم خيار الجن، بقوله تعالى:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} ، والمراد قول الكفار: الملائكة بنات الله تعالى عن ذلك، فدل على أن الملائكة من الجن، وبقوله تعالى:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} ، فلو كانت الملائكة صنفًا ثالثًا لما ترك التمدح بالقدرة على أشرف خلقه وذكر ما دونه، ورد بأن هذه الآية لبيان ما ركبه من خلق متقدم فلم تدخل الملائكة فيه لأنهم مخترعون، قال تعالى لهم كونوا فكانوا؛ كما قال للأصل الذي خلق منه الإنس والجن وهو التراب والماء والنار والهواء:{كُنْ} فكان، فالملائكة في الاختراع كأصول الإنس والجن لا كأعيانهم، فلذا لم يذكروا معهم كما في الحبائك. "فإذا ركب هذا مع القول بعموم الرسالة للجن الذي قام الإجماع عليه" أي: عموم رسالته للجن بأن يقال للملائكة مؤمنو الجن السماوية ورسالته إلى الجن مجمع عليها، "لزم عموم الرسالة" لهم؛ "لكن القول بأن الملائكة من الجن قول شاذ" لا اعتداد به؛ لقيام الأدلة على خلافه، ومن أصرحها قوله صلى الله عليه وسلم:"خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم". رواه مسلم. قال البيهقي: ففي فصله بينهما دليل على أنه نور آخر غير نور النار، انتهى.
"والجمهور على أن العالمين في آية الفرقان عام مخصوص بالإنس والجن" فيخرج الملائكة، وهذا من حين الاستدراك الذي قبله، ويمكن أن مراد الجمهور أنها مخصوصة بهما من حيث عمومها لجميع الأحكام من أمر ونهي، فلا ينافي أن إرساله للملائكة لأمر خاص؛ كما
كما فسر بهما حديث: "وأرسلت إلى الخلق كافة" المروي في مسلم.
وصرح الحليمي والبيهقي في الباب الرابع من شعب الإيمان بأنه عليه الصلاة والسلام لم يرسل إلى الملائكة، صرح في الباب الخامس عشر بانفكاكهم عن شرعه.
وفي تفسير الإمام فخر الدين الرازي، والبرهان النسفي: حكاية الإجماع في تفسير آي الفرقان على أنه لم يكن رسولا إليهم، كما حكاه العلامة الجلال المحلي، والله أعلم.
وعبارة النسفي: ثم إنهم قالوا هذه.
يقوله السبكي والمحققون، كشرفه ودخولهم تحت دعوته، واتباعه تشريفًا له على سائر المرسلين "كما فسر بهما حديث:"وأرسلت إلى الخلق كافة"، المروي في مسلم" بهذا اللفظ عن أبي هريرة؛ كحديثه عن جابر بلفظ:"وبعثت إلى كل أحمر وأسود" وللبخاري: "إلى الناس كافة"، "وصرح الحليمي" العلامة البارع، رئيس أهل الحديث بما وراء النهر القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن محمد بن حليم، نسبه إلى جده هذا البخاري الشافعي من أصحاب الوجوه، وأذكياء زمانه، وفرسان النظر، له اليد الطولى في العلوم والأدب.
قال الذهبي: وما هو من فرسان هذا الشأن، أي: الحديث، مع أن له فيه عملا جيدًا، مات سنة ثلاث وأربعمائة، "والبيهقي" أحمد بن الحسين الحافظ الشهير، "في الباب الرابع من شعب الإيمان بأنه عليه الصلاة والسلام لم يرسل إلى الملائكة، وصرح في الباب الخامس عشر" من الشعب "بانفكاكهم عن شرعه، وفي تفسير الإمام فخر الدين الرازي" المسمى بأسرار التنزيل "و" تفسير "البرهان النفسي حكاية الإجماع على أنه لم يكن رسولا إليهم، كما حكاه" شارح جمع الجوامع في الكتاب السابع "العلامة الجلال" أي: جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم "المحلى" ولد بمصر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، واشتغل وبرع في الفنون فقهًا، وكلامًا، وأصولا، ونحوًا وغيرها وأخذًا عن الأقصراي والبيجوري والبساطي وغيرهم، وكان آية في الذكاء والفهم، قال في بعض أهل عصره: ذهنه يثقب ألماس، وقال: هو فهمي؛ لا يقبل الخطأ، ولم يكن يقدر على حفظ كراس، وكان ورعًا، صالحًا، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يواجه بذلك أكابر الظلمة والحكام، ويأتون إليه، فلا يلتفت إليهم، ولا يأذن لهم بالدخول عليه، توفي أول يوم من سنة أربع وستين وثمانمائة، "والله أعلم" بما في نفس الأمر.
"وعبارة "النسفي" ليست صريحة في حكاية إجماع الأمة، فإنه قال: "ثم إنهم قالوا: هذه
الآية تدل على أحكام: أولها: إن قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} يتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة. لكنا أجمعنا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن رسولا إلى الملائكة، بل يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعًا.
وقد تعقب الجلال المحلي العلامة كمال الدين بن أبي شريف فقال: اعلم أن البيهقي نقل ذلك عن الحليمي: فإنه قال: هذا معنى كلام الحليمي، وفي قوله هذا إشعار التبري من عهدته، وبتقدير أن لا إشعار فيه فلم يصرح بأنه مرضي عنده. وأما الحليمي فإنه وإن كان من أهل السنة فقد وافق المعتزلة في تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام. وما نقل عنه موافق لقوله بأفضلية الملائكة، فلعله بناه عليه.
وأما ما ذكره من حكاية الراوي والنسفي الإجماع على أنه عليه الصلاة والسلام لم.
الآية تدل على أحكام، أولها إن قوله:{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الآية، يتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، لكنا" لا نسلم تناوله للملائكة لأنا "أجمعنا على أنه لم يكن رسولا إلى الملائكة" وهذه العبارة تستعمل في إجماع الخصمين المتناظرين، كما يأتي، ويفرض تسليمه، فيمكن حمله على أنه لم يكن رسولا إليهم بشرع، يعملون به؛ لأنهم مطبوعون على ما به، أمروه حتى إن العبادة لهم كالأمور الضرورية لنا، بحيث لا يفترون عنها كالنفس للحيوان، فلا ينافي أنه رسول إليهم بغير ذلك، "بل يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعًا" بلا نزاع، "وقد تعقب الجلال" مفعول "المحلي" وفاعله، "العلامة كمال الدين بن أبي شريف" المقدسي، ثم المصري الفقيه الأصولي، "فقال: اعلم أن البيهقي نقل ذلك عن الحليمي، فإنه قال هذا معنى كلام الحليمي، وفي قوله هذا إشعار بالتبري من عهدته" فلا ينبغي نسبته حكية الإجماع للبيهقي، "وبتقدير أن لا إشعار فيه" بالتبري، "فلم يصرح بأنه مرضي عنده" فكان ينبغي أن يقول: قال البيهقي: عن الحليمي.
"وأما الحليمي فإنه وإن كان من أهل السنة، فقد وافق المعتزلة في تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام" ومحل الخلاف ما عدا نبينا، فإنه أفضل من الملائكة بإجماع حتى من المعتزلة؛ كما قاله جمع من المحققين، كالإمام الرازي، "وما نقل عنه موافق لقوله بأفضلية الملائكة، فلعله بناه عليه" وهو مردود، فكذا ما بني عليه.
"وأما ما ذكره من حكاية الرازي والنسفي: الإجماع على أنه عليه الصلاة والسلام لم
يكن رسولا إليهم، فقد وقع في نسخ من تفسير الرازي: لكنا بينا بدل أجمعنا، على أن قوله:"أجمعنا" ليس صريحًا في إجماع الأمة، لأن مثل هذه العبارة تستعمل لإجماع الخصمين المتناظرين، بل لو صرح به لمنع، فقد قال الإمام السبكي في قوله تعالى:{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} قال المفسرون كلهم في تفسيرها للجن والإنس، وقال بعضهم: وللملائكة، انتهى.
وبالجملة: فالاعتماد على تفسير الرازي والنسفي في حكاية إجماع انفردا بحكايته أمر لا ينهض حجة على طريق علماء النقل، لأن مدارك نقل الإجماع من كلام الأئمة وحفاظ الأمة كابن المنذر وابن عبد البر، ومن فوقهما في الاطلاع كالأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة.
يكن رسولا إليهم" فغير مسلم، "فقد وقع في نسخ من تفسير الرازي: لكنا بينا بدل أجمعنا" وهذا لا إشعار فيه بإجماع "على أن قوله" في النسخ الأخرى: "أجمعنا" ومثله في النسفي "ليس صريحًا في إجماع الأمة؛ لأن مثل هذه العبارة" أي: هي ومثلها "تستعمل لإجماع الخصمين المتناظرين" فلا يلزم منها عدم الخلاف، فضلا عن الإجماع، "بل لو صرح به" بأن قال: أجمعت الأمة "لمنع" بوجود الخلاف، "فقد قال الإمام السبكي في" تفسير "قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الآية".
"قال المفسرون كلهم في تفسيرها: للجن والإنس، وقال بعضهم" لهما "وللملائكة" فدعوى الإجماع على عدمها باطلة، فمن حفظ حجة، "انتهى" كلام السبكي، ومعناه: أنهم اتفقوا على إرساله للثقلين واختلفوا في الملائكة، كما هو واضح جدًا، ولم يفهمه من قال قوله، كلهم ينافي قوله: وقال بعضهم، فهذا من سوء الفهم ما تنبه للواو، "وبالجملة فالاعتماد على تفسير الرازي والنسفي في حكاية إجماع انفردا بحكايته، أمر لا ينهض حجة على طريق علماء النقل؛ لأن مدارك" جمع مدرك مصدر ميمي نفسي الإدراك، أو الشيء المدرك "نقل الإجماع من كلام الأئمة" متعلق بنقل، "وحفاظ الأمة كابن المنذر" محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، الحافظ، العلامة، الفقيه، شيخ الحرم، وصاحب الكتب التي لم يصنف مثلها، كان غاية في معرفة الخلاف، والدليل مجتهدًا لا يقلد أحدًا، مات بمكة سنة ثمان عشرة وثلاثمائة، "وابن عبد البر" يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم، الإمام، الحافظ ساد أهل الزمان في الحفظ والإتقان، كان فقيهًا، حافظًا، مكثرًا، عالما، بالقراءات والرجال، والحديث والخلاف، "ومن فوقهما في الاطلاع" الواسع؛ "كالأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة" المقلدة أربابها، المدونة كتبها كالأربعة المشهورة، والسفيانين، والليث، وابن راهويه، وابن جرير، وداود الظاهري
ومن يلحق بهما في سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان لها من الشهرة عند علماء النقل ما يغني عن بسط الكلام فيها.
واللائق بهذه المسألة المتوقف عن الخوض فيها على وجه يتضمن دعوى القطع في شيء من الجانبين، انتهى.
والأوزاعي، فكان لكل من هؤلاء أتباع يفتون بقولهم ويقضون، وإنما انقرضوا بعد الخمسمائة لموت العلماء وقصور الهمم.
ذكره السيوطي، وذكر عياض أن أتباع الطبري انقرضوا بعد أربعمائة، وأن الثوري لم تكثر أتباعه ولم يطل تقليده، وانقطع مذهبه عن قريب، "ومن يلحق بهما" أي: ابن المنذر وابن عبد البر، وفي نسخة: بها، أي: الأئمة، وفي أخرى: بهم "في سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان" وقوله: "لها" خبر أن في قوله: لأن مدارك أي للمدارك "من الشهرة عند علماء النقل ما يغني عن بسط الكلام فيها" فكيف يعتمد على إجماع انفرد بنقله رجلان ليسا من الحفاظ، ولا لهما سعة اطلاع، وقد ذكر الحافظ أن الرازي نوزع في ذلك.
قال في الإصابة: هل تدخل الملائكة في حد الصحابي محل نظر، وقال بعضهم: إن ذلك ينبغي على أنه كان مبعوثا إليهم، أم لا؟ وقد نقل الرازي الإجماع على أنه لم يرسل إليهم، وتوزع في هذا النقل، بل رجح الشيخ تقي الدين السبكي إرساله إليهم، واحتج بأشياء يطول شرحها، وفي صحة بناء هذه المسألة على هذا الأصل نظر لا يخفى، انتهى.
وفي الإصابة أيضًا أنكر ابن الأثير على أبي موسى المديني ترجمة الجن في الصحابة، ولا معنى لإنكاره، لأنهم مكلفون، وقد أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: كان الأولى أن يذكر جبريل، ففيه نظر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قطعًا، وهم مكلفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة، وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة، وأما الملائكة فيتوقف عدهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافًا بين الأصوليين حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته وعكس بعضهم، انتهى.
"واللائق بهذه المسألة التوقف عن الخوض فيها" لا مطلقًا، "بل على وجه يتضمن دعوى القطع في شيء من الجانبين" لتعسره أو تعذره، "انتهى" كلام ابن أبي شريف.
وفي كشف الأسرار لابن العماد أن آدم عليه السلام أرسل إلى الملائكة لينبئهم بما علم من الأسماء، نقله الحبائك، وهو منابذ لعده في الأنموذج من الخصائص التي اختص بها عن جميع الأنبياء، ولم يؤتها نبي قبله أنه أرسل إلى الملائكة في أحد القولين، ورجحه السبكي، زاد
ومنها: أنه أرسل رحمة للعالمين، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] قال السمرقندي: يعني للجن والإنس، وقيل لجميع الخلق، رحمة بالهداية للمؤمن ورحمة للمنافق بالأمان من القتل. وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبي إذا كذب أهلك الله من كذبه، ومحمد صلى الله عليه وسلم أخر من كذبه إلى الموت أو القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة في الدنيا والآخرة. فذاته عليه الصلاة والسلام -كما روي- رحمة نعم المؤمن والكافر كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] وقال: "إنما أنا رحمة مهداة".
البارزي: وإلى الحيوانات والجمادات.
"ومنها: أنه أرسل رحمة للعالمين" منّ بها على عباده لطفًا منه تعالى، ومحض جود وفضل، لا وجوبًا، كما زعمت المعتزلة، "كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، قال أبو بكر بن ظاهر: زين الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكونه وجميع شمائله وصفاته وحيائه وموته رحمة؛ كما قال:"حياتي خير لكم ومماتي خير لكم"، وقال:"إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطًا وسلفًا".
"قال السمرقندي: يعني للجن والإنس" تفسير للعالمين، لإرشاده لهم ولطفه بهم، وحمله لهم على ذلك، الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، "وقيل لجميع الخلق" أهم من الثقلين، وهو المتبادر من العالمين "رحمة بالهداية" للمؤمن، "ورحمة للمنافق بالأمان من القتل" وتأخير عذابهم، وللكفار بالأمن من المسخ والخسف، وعذاب الاستئصال "وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبي إذا كذب أهلك الله من كذبه ومحمد صلى الله عليه وسلم أخر من كذبه إلى الموت أو إلى القيامة"، والتأخير رحمة.
"وأما من صدقه، فله الرحمة في الدنيا والآخرة" بالشفاعة التي ادخرها لأمته في القيامة، "فذاته عليه الصلاة والسلام، كما روي رحمة، نعم المؤمن والكافر؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} بما سألوه {وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية" لأن العذاب إذا نزل عم ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها، والمؤمنين منها.
"وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا رحمة" أي: ذو رحمة، أو بالغ في الرحمة حتى كأني عينها، لأن الرحمة ما يترتب عليه النفع ونحوه وذاته كذلك فصفاته التابعة لها، كذلك "مهداة" بضم الميم، وللطبراني: "بعثت رحمة مهداة".
قال ابن دحية: معناه أن الله بعثني رحمة للعباد، لا يريد لها عوضًا؛ لأن المهدي إذا كانت هديته عن رحمة لا يريد لها عوضًا، وقال غيره: أي ما أنا إلا رحمة أهداها الله للعالمين، فمن
رواه الدارمي والبيهقي من حديث أبي هريرة، وسيأتي في المقصد السادس مزيد لذلك إن شاء الله تعالى. والله الموفق.
ومنها: أن الله خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم في القرآن، فقال: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا داود، يا زكريا، يا يحيى، يا عيسى، ولم يخاطبه هو إلا بـ"يا أيها الرسول""يا أيها النبي""يا أيها المزمل""يا أيها المدثر".
ومنها أنه حرم على الأمة نداءه باسمه، قال تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] أي لا تجعلوا نداءه وتسميته
قبلها أفلح ونجا، ومن أبى خاب وخسر، ولا يشكل الحصر بوقوع الغضب منه كثيرًا؛ لأنه لم يقصد من بعثته، بل المقصود بالذات الرحمة الغضب بالتبعية بل في حكم العدم مبالغة، أو المعنى أنه رحمة على كل فرد، لأن غضبه لله كانتقامه؛ كقوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية، أو أنه رحمة في الجملة، فلا ينافي الغضب في الجملة.
"رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ، وفي المقصد السادس الديلمي، "والبيهقي" وشيخه الحاكم "من حديث أبي هريرة" وقال: على شرطهما، وأقره الذهبي، وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا:"إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابًا".
وروى ابن عساكر عن ابن عمر، رفعه:"إن الله بعثني رحمة مهداة، بعثت برفع قوم وخفض آخرين"، أي: برفعهم بالسبق إلى الإيمان وإن كانوا من الضعفاء، وخفض من أبى وإن بلغ غاية الشرف؛ لأنه لم تنفع فيه الآيات والنذر، أي: أنه يضع قدرهم ويذلهم باللسان والسنان، "وسيأتي في المقصد السادس مزيد لذلك" قليل "إن شاء الله تعالى، والله الموفق" لا غيره.
"ومنها: أن الله خاطب جميع الأنبياء" الذين ذكرهم في القرآن، أو الذين بلغنا في القرآن أنه خاطبهم "بأسمائهم" فلا يرد أنه لم يقم دليلا على خطاب الجميع، إنما ذكر آيات ذكروا فيها بأسمائهم، وذلك لا يستلزم خطاب غيرهم لا باسمه ولا بغيره، "فقال: يا آدم" {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} "يا نوح" {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} الآية، "يا إبراهيم" {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} "يا موسى" {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} الآية، "يا داود" {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} الآية، "يا زكريا" {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ} الآية، "يا يحيى" {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} الآية، "يا عيسى" {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي} الآية، "ولم يخاطبه هو" تشريفًا وإجلالا "إلا بـ {يَا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} الآية، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} الآية، {قُمِ اللَّيْلَ} ، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} الآية، ومشى هنا على قول السهيلي: ليس
كنداء بعضكم بعضًا باسمه، ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت.
المزمل والمدثر باسم من أسمائه يعرف به، وإنما هو مشتق من حالته التي كان متلبسًا بها حالة الخطاب، ملاطفة على عادة العرب؛ كقوله صلى الله عليه وسلم لعلي:"قم يا أبا تراب"، وقوله لحذيفة:"قم يا نومان"، لا على القول بأنهما من أسمائه لإشكاله، اللهم إلا أن يكون لم يرد بغير الأسماء ما يراد به مجرد الذات الشريفة، وأراد بغير الذات ما يراد به الذات مع صفة قائمة بها، ومنه المزمل والمدثر، ثم لا يخفى أن الخطاب نداء، فخرج به ذكره بلا داء من محمد رسول الله، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} ، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، {مُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} ؛ لأنه للتعريف بأنه الذي أخذ الله عهده على الأنبياء بالإيمان به، ولو لم يسمه لم يعرفوه.
وأما قول الله سبحانه يوم القيامة: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع إلى آخره، فتنويه بذكر اسمه الدال على الصفة التي يحمده بها جميع الخلائق، فانظر إلى هذا التعظيم يناديه في كل مقام بأشرف تعظيم يناسب ذلك المقام، ففي الدنيا بالنبوة والرسالة ليشهد له بهما، وفي الآخرة لما تحققت الحقائق، ناداه باسمه لما اشتمل عليه من المعنى المناسب لذلك اليوم، وليفجأه سبحانه بما يدل على صفة يحمده بها الخلق، ليستدل بالنداء بها على قبول شفاعته، ثم عقب ذلك بقوله: قل تسمع، وسل تعط فهو تكريم بعد تكريم، وتعظيم بعد تعظيم.
زاد في الأنموذج: وخاطبه بألطف مما خاطب به الأنبياء، أي كقوله لداود:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، وقال للمصطفى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} تنويهًا له على ذلك بعد الإقسام عليه، وقال موسى:{فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} ، وقال عن نبينا:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، فكنى عن خروجه وهجرته بأحسن العبارات، ولم يذكره بالفرار الذي فيه نوع غضاضة.
"ومنها: أنه حرم على الأمة نداءه باسمه" في كتابه العزيز "قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} الآية، أي: لا تجعلوا دعاءه وتسميته" فهو من إضافة المصدر لمفعوله، أي: لا تجعلوا دعاءكم إياه "كنداء" تفسير لدعاء "بعضكم بعضًا" بخطابه "باسمه، ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات" بجرهما عطفًا على اسمه، ذكرهما لتمام التشبيه المستفاد من الآية، لا بالرفع على نداؤه لذكره حكمهما بعد، ولأنه من تمام تفسير الآية بقوله:"ولكن قولوا يا رسول الله، يا نبي الله مع التوقير" أي التعظيم "والتواضع" التذلل، "وخفض الصوت" لحرمة رفعه عليه والظرف، أي: بينكم متعلق بتجعلوا، لا حال من الرسول لأنه يوهم نداؤه باسمه بعد وفاته، مع أن الحرمة ثابتة مطلقًا.
وقيل: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضًا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة.
ومنها أنه حبيب الله، وجمع له بين المحبة والخلة، وسيأتي تحقيق ذلك وما فيه من المباحث في آخر المقصد السابع، إن شاء الله تعالى.
"وقيل" المصدر مضاف إلى فاعله، أي:"لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضًا" بظنكم مساواته "في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة" والرجوع بلا إذن فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، قال تعالى:{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} الآية، والرجوع بلا إذن حرام؛ كما قال تعالى:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} الآية، فالمعنى: لا تظنوا أنه مثلكم فتقيسوا، إذ القياس إلحاق فرع بآخر، لظن القائس اتحاد الجامع، ولولا ملاحظة هذا لورد أن القيام ليس من معنى الجعل.
زاد البيضاوي: أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فلا تنالوا بسخطه، فإن دعاءه موجب، أي: لحصول ما دعا به أو لا تجعلوا دعاءه ربه كدعاء صغيركم كبيركم، يجيبه مرة ويرده أخرى، فإن دعاءه مستجاب، انتهى، ومعناه عليهما، أي: لا تظنوا، أو تعتقدوا هذا، وكره الشافعي أن يقال في حقه الرسول لأنه ليس فيه من التعظيم، ما في الإضافة.
قال الحافظ: وعلى هذا فلا ينادى بكنيته، قال تلميذه الشيخ زكريا: وهو ممنوع، إذ الكية تعظيم باتفاق، ولذا احتيج للجواب عن تكنية عبد العزى في {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} الآية، مع أنه لا يستحق الكنية، لأنها تعظيم، فالأوجه جواز ندائه بكنيته، وإن كان نداؤه بوصفه أعظم، وتعقب بأن مقتضى آية النور المذكورة أنه ينادى بكنيته لأنهم كانوا يدعون بعضهم بعضًا بها، والحافظ لم يعلل الحكمة بترك التعظيم حتى يتوجه عليه ما قاله تلميذه.
"ومنها: أنه حبيب الله" قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، فإذا كان متابعوه أحباءه، فنفسه أولى، وروى البيهقي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتخذ الله إبراهيم خليلا، وموسى نجيًا واتخذني حبيبًا"، ثم قال:"وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي".
"وجمع له بين المحبة والخلة" قيل: هما سواء، وقيل: الخلة أرفع، والأكثر على أن المحبة أعلى، "وسيأتي تحقيق ذلك وما فيه من المباحث في آخر المقصد السابع إن شاء الله تعالى" في نحو ورقة.
وقد روى أبو يعلى في حديث المعراج، فقال له ربه: إني اتخذتك خليلًا وحبيبًا، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا".
ومنها أنه تعالى أقسم على رسالته وبحياته وببلده وعصره، كما سيأتي ذلك في المقصد الثالث إن شاء الله تعالى.
ومنها أنه كلم بجميع أصناف الوحي، كما نقل عن ابن عبد السلام، وسبق تحقيقه في المبعث من المقصد الأول.
ومنها أن إسرافيل هبط عليه، ولم يهبط على نبي قبله، أخرج الطبراني من حديث ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربك إليك أمرني أن أخيرك إن شئت نبيًا عبدًا، وإن شئت نبيًا ملكًا، فنظرت إلى جبريل فأومأ إليّ بيده أن تواضع
"ومنها: أنه تعالى أقسم على رسالته" بقوله تعالى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، "وبحياته"، فقال:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآية، "وبلده"{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدْ} الآية، "وعصره"{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ} السورة، قال أبو هريرة: ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد، رواه ابن مردويه؛ "كما سيأتي ذلك في المقصد الثالث إن شاء الله تعالى" مطولا.
"ومنها: أنه كلم" بالبناء للمفعول "بجميع أصناف الوحي، كما نقل عن" الشيخ عز الدين "بن عبد السلام، وسبق تحقيقه في المبحث من المقصد الأول".
"ومنها: أن إسرافيل هبط، عليه، ولم يهبط على نبي قبله" عد هذه ابن سبع، "أخرج الطبراني، من حديث" عبد الله "بن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هبط" نزل "علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي" إذ لا نبي بعده "وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربك إليك" استدل به السيوطي على ضعف مرسل الشعبي أن إسرافيل أتاه في ابتداء الوحي، فقرن بنبوته ثلاث سنين، قال: لأن هذه القصة بعد ابتداء الوحي بعدة سنين؛ كما قدمته.
"أمرني أن أخبرك إن شئت نبيًا عبدًا" قدم العبودية إشارة إلى أنه يختارها، "وإن شئت نبيًا ملكًا، فنظرت إلى جبريل" وكان جالسًا عنده قبل نزول إسرافيل، "فأومأ إليّ".
وفي رواية: فأشار جبريل إلي "بيده أن تواضع" وسبب هذا التخيير ما رواه الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل على الصفاء، فقال:"يا جبريل والذي بعثك بالحق ما أمسى آل محمد سفة من دقيق، ولا كف من سويق"، فلم يكن كلامه بأسرع من
فلو أني قلت نبيًا ملكًا، لسارت الجبال معي ذهبًا.
ومنها أنه سيد ولد آدم، رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة"، وعند الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد، ولا فخر".
أن سمع هدة من السماء أفزعته، فقال صلى الله عليه وسلم:"أمر الله القيامة أن تقوم" قال: لا، ولكن أمر إسرافيل، فنزل إليك حين سمع كلامك، فأتاه إسرافيل، فقال: إن الله قد سمع ما ذكرت، فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض عليك، أسير معك جبال تهامة زمردًا وياقوتًا وذهبًا وفضة، فإن شئت نبيًا ملكًا، وإن شئت نبيًا عبدًا، ثلاثًا، "فلو أني قلت نبيًا ملكًا لسارت الجبال معي ذهبًا".
وأخرج الترمذي عن أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب"
…
الحديث، ذكرهما المصنف في عيشه من المقصد الثالث، فمعيب نقل أحدهما من غيره، لكن آفة العلم النسيان، وبهما يعلم وجه ترتب قوله:"فلو أني قلت"، إذ هي قصة واحدة، طولها راوٍ واختصرها آخر، فلا يرد أنه لا تلازم بين قوله نبيًا ملكًا، وبين سير الجبال معه ذهبًا وفضة، وكأنه اقتصر عليها ي هذه الرواية مع ذكر إسرافيل له الزمرذ والياقوت أيضًا؛ لأن المخاطب لا يعلم غيرهما ولا يتعامل به.
"ومنها: أنه سيد ولد آدم" بضم الواو، وكسرها جمع ولد بفتحها، "رواه مسلم" في المناقب، وأبو داود في السنة "من حديث أبي هريرة، مرفوعًا بلفظ: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصه لأنه يوم مجموع له الناس فيه من سؤدده لكل أحد عيانًا، وصف نفسه بالسؤدد المطلق المفيد للعموم في المقام الخطابي على ما تقرر في علم المعاني، فيفيد تفوقه على جميع ولد آدم حتى أولي العزم من الرسل واحتياجهم إليه كيف لا هو واسطة كل فيض، وتخصيص ولد آدم ليس للاحتراز فهو أفضل حتى من الملائكة إجماعًا؛ كما حكاه الرازي وغيره، ولأن الآدمي أفضل من الملك وتتمة هذا الحديث في مسلم وأبي داود: "وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع".
"وعند الترمذي" في المناقب، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، والإمام أحمد "من حديث أبي سعيد الخدري" رفعه:"أنا سيد ولد آدم" دخل آدم لأن في ولده من هو أفضل منه كإبراهيم "يوم القيامة ولا فخر" أي: أقول ذلك شكرًا لا فخرًا، أي: لا أقوله تكبرًا على الناس وتعاظمًا وإن كان فيه فخر الدارين، فهو من قبيل قول سليمان:{عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية، وقيل غير ذلك، "وبيدي لواء الحمد" بالكسر والمد، علمه، والعلم في
وإنما قال ذلك إخبارًا عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد، وتحدثًا بنعمة الله عنده، وإعلامًا لأمته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله:"ولا فخر" أي أن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله، لم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بقوتي، فليس لي أن أفتخر بها.
ومنها أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
العرصات مقامات لأهل الخير والشر، نصب في كل مقام لكل متبوع لواء يعرف به قدره، وأعلى مقامات الخير مقامات الحمد، فلما كان أعظم الخلائق أعطي أعظم الألوية، وهو لواء الحمد ليأوي إليه الأولون والآخرون، فهو حقيقي وعند الله علم حقيقته.
وأما ما روي من صفته فموضوع بين الوضع، كما أفاده المصنف في المقصد الأخير، فلا وجه لعدول الطيبي ونحوه عن الحقيقة، وحمله على انفراده بالحمد، وشهرته به على رءوس الخلائق، وبقية هذا الحديث عند الترمذي ومن معه:"وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر"، وإنما قال ذلك" كما قال ابن الأثير في النهاية:"إخبارًا عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد وتحدثًا بنعمة الله عنده" امتثالا لقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} الآية، "إعلامًا لأمته" فهو من البيان الذي يجب عليه تبليغه إليهم؛ "ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه" بفتح الجيم: ما يتسبب عن الشيء فهو تفسير لحسبه، والمعنى: ليكون على قدر ما علموه من فضله؛ بأن يكون إيمانًا تامًا لا شبهة فيه، لأنهم حيث علموا كمال فضله، استحق أن يعظموه ويعتقدوا فيه الكمال اللائق بمن قام به هذا الفضل، "ولهذا أتبعه بقوله:"ولا فخر"، أي: إن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله لم أنلها من قبل" بكسر، ففتح، أي: جهة "نفسي ولا بلغتها بقوتي" إذ ليست في طوق البشر، "فليس لي أن أفتخر بها" وإنما أفتخر بمن أعطانيها، وأما خبر: "لا تفضلوا بين الأنبياء" فمعناه تفضيل مفاخرة، وهو ادعاء العظم والمباهاة، أو في نفس النبوة، فلا تفاضل فيها. وإنما التفضيل بنحو الخصائص، ولا بد من اعتقاده:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، وقيل غير ذلك.
"ومنها: أنه غفر له ما تقدم من ذنبه" أنه لو كان كما قاله ابن عباس: أي أنه على سبيل الفرض والتقدير؛ لأنه كغيره من الأنبياء معصومون حتى من الصغائر قبل النبوة، ولو سهوًا على الأصح لكرامتهم على الله، خلافًا للأكثر في تجويز وقوع الصغائر منهم سهوًا إلا الدالة على خسة كتطفيف، وينبهون عليها، واحتجوا بظواهر، قالوا بها: أفضت بهم إلى حرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم، كما بسطه عياض في الشفاء، "وما تأخر" لا يشكل بأن الغفر الستر،
قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أخبره الله تعالى بالمغفرة ولم ينقل أنه أخبر أحدًا من الأنبياء، بمثل ذلك ويدل له قولهم في الموقف: نفسي نفسي.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية -يعني آية الفتح- لم يشاركه فيها غيره.
وقد أخرج أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن ابن عباس قال: إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء، قالوا: فما فضله على أهل السماء، قال: إن الله تعالى قال لأهل السماء: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29]، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقد كتب له براءة.
فكيف يتصور فيما لم يقع؛ لأن ما لم يقع يفوض وقوعه مبالغة، "قال تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ} الآية" وفيها وجوه آخر، ذكر بعضها في المقصد السادس، وبعضها لا يرضي.
"قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أخبره الله بالمغفرة، ولم ينقل أنه أخبر أحدًا من الأنبياء بمثل ذلك" فالخصوصية إخباره بذلك تعظيمًا له بإدخال السرور عليه، "ويدل قولهم في الموقف" يوم القيامة، حيث تطلب الشفاعة في فصل القضاء من آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى، فيقول كل منهم:"نفسي نفسي، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية، يعني آية الفتح: لم يشاركه فيها غيره" ولذا قال ابن عطية: المعنى التشريف بهذا الحكم، ولم تكن ذنوب البتة، "وقد أخرج أبو يعلى" أحمد بن علي الموصلي الحافظ الثقة، "والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، "والبيهقي" أحمد بن الحسين، "عن ابن عباس، قال: إن الله فضل محمدًا على أهل السماء وعلى الأنبياء، قالوا: فما فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله تعالى قال لأهل السماء" أي: الملائكة " {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} أي الله، أي غيره، {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} الآية، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية، فقد كتب له براءة" من الذنوب أن يفعلها، وإذا منعه من فعلها فقد سترها عنه، وهذا من ألطف الأجوبة.
قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، وقال لمحمد:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] فأرسله إلى الإنس والجن.
ومنها أنه أكرم الخلق على الله، فهو أفضل من كل المرسلين، وجميع الملائكة المقربين، وسيأتي الجواب عن قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس، عند مسلم: ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى، ونحو ذلك في المقصد السادس إن شاء الله تعالى.
ومنها إسلام قرينه. رواه مسلم من حديث ابن مسعود.
"قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} الآية" أي: بلغتهم، "وقال لمحمد:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية، فأرسله إلى الإنس والجن" جميعًا، تفضيلا له على جميع المرسلين.
"ومنها: أنه أكرم الخلق على الله" تعالى بنص قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، إذ خيريتها تستلزم خيرية نبيها، وإن صفاته أعلى وأجل، وذاته أفضل وأكمل، ويصرح به قوله:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} الآية، "هو أفضل من كل المرسلين وجميع الملائكة المقربين" حتى الروح الأمين إجماعًا، وغلط الزمخشري في تفضيله عليه؛ بأن المعتزلة مجمعون على استثنائه من الخلاف في التفضيل بين البشر والملك فقد جهل مذهبه، "وسيأتي الجواب عن قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس عند مسلم" والبخاري:"ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" ونحو ذلك كحديث الصحيحين: "لا تفضلوني على الأنبياء".
وفي رواية: "لا تفضلوا بين الأنبياء"، وأخرى:"لا تخيروا بين الأنبياء" وقوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآية، "في المقصد السادس إن شاء الله تعالى" بأجوبة سبعة، منها قول ابن أبي جمرة أنه بالنسبة إلى القرب والبعد، فمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أسري به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس عليه الصلاة والسلام وإن نزل به إلى قعر البحر، هما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله على حد واحد، وروى هذا الجواب عن مالك الإمام ونحوه لإمام الحرمين في قصة شهيرة.
"ومنها: إسلام قرينه" أي صاحبه الموكل من الجن، "رواه مسلم" وأحمد "من حديث ابن مسعود": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من
والبزار من حديث ابن عباس.
ومنها أنه لا يجوز عليه الخطأ، كما ذكره ابن أبي هريرة والماوردي: وذكره الحجازي في مختصر الروضة.
الملائكة"، قالوا: وإياك؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" ومعلوم عصمة الملائكة وإيمانهم، فإنما المراد الإخبار بمصاحبة الملك والجني لكل أحد، فالجني يغوي بخلاف الملك، فقول بعض إسلام قرينه من الملائكة والشياطين لا معنى له بالنسبة للملائكة، ولا دلالة في الحديث عليه، اللهم إلا أن يريد بإسلام ملكه انقياده التام له، وفيه ما فيه، "والبزار من حديث ابن عباس" رفعه: "فضلت على الأنبياء بخصلتين، كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه فأسلم"، قال: ونسيت الأخرى، فحديث ابن عباس نص في إيمانه.
وأما حديث ابن مسعود فروي بفتح الميم وضمها، أي: فأسلم أنا من فتنته وكيده، وصحيح الخطابي رواية الرفع، ورجح عياض والنووي الفتح لقوله:"فلا يأمرني إلا بخير".
قال الدميري: وهو المختار، والإجماع على عصمته من الشيطان، وإنما المراد تحذير غيره من فتنة القرين، ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا أنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان، انتهى.
وقال غيره: اعترضت رواية بالضم؛ بأنه تعوذ منه بقوله: وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، أي يضرعني ويلعب بي، ويفسد ديني أو عقلي عند الموت؛ بنزعاته التي تزل بها الأقدام وتصرع العقول، وقد يستولي على الإنسان حينئذ فيضله، أو يمنعه التوبة، أو يعوقه عن الخروج عن مظلمة؛ أو يؤيسه من الرحمة، أو يكره له الموت فيختم له بسوء، والعياذ بالله تعالى، وأجيب بأنه إنما قاله تعليمًا لأمته صلى الله عليه وسلم، فإن شيطانه أسلم، ولا تسلط له ولا لغيره بحال، بل سائر الأنبياء لا تسلط لشياطينهم عليهم وإن لم يسلموا.
"ومنها: أنه لا يجوز عليه الخطأ" في اجتهاده، "كما ذكره ابن أبي هريرة، والماوردي، وذكره الحجازي في مختصر الروضة" لأنه لا نبي بعده يستدرك خطأه، فلذا عصم من بينهم، كذا في الشامية، وقال ابن السبكي: الصواب أن اجتهاده لا يخطئ تنزيهًا لمنصب النبوة عن الخطأ في الاجتهاد ومقتضى هذا التعميم، ثم هذا مبني على الصحيح عند الأصوليين من جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم ووقوعه لقوله:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآية، {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ، فالعتاب لا يكون فيما صدر عن وحي، وقيل: يمتنع اجتهاده لقدرته على اليقين بانتظار الوحي، ورد بأن إنزاله ليس في قدرته، وثالثها، الجواز في الآراء والحروب فقط، والمنع في غيرها جمعًا بين الأدلة.
وقال قوم: ولا النسيان، حكاه النووي في شرح مسلم.
ومنها أن الميت يسأل عنه عليه الصلاة والسلام في قبره، فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون، فإذا كان الرجل الصالح أجلس، فيقال له: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله". الحديث رواه أحمد والبيهقي.
"وقال قوم: ولا النسيان، حكاه النووي في شرح مسلم" ما لم يترتب عليه تشريع، كسلامه من ركعتين وصلاته الظهر خمسًا.
"ومنها: أن الميت يسأل عنه عليه الصلاة والسلام" إذا وضع "في قبره"، وتولى عنه أصحابه، واختلف في اختصاصه فتنة القبر بهذه الأمة، وجزم الحكيم الترمذي بالاختصاص، فعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أما فتنة الدجال، فإنه لم يكن نبي إلا وقد حذر أمته، وسأحذركموه بحديث لم يحذره نبي أمته: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن".
"وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون، فإذا كان الرجل الصالح" أي: المسلم "أجلس" في قبره غير فزع، كما هو لفظ الحديث، "فيقال له: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله"
…
الحديث. بقيته: "جاءنا بالبينات من عند الله، فصدقناه، فيفرج له فرجة قبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا، فيقال له: انظر ما وقاك الله ثم يفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك منها، ويقال: على اليقين كنت وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله؛ وإذا كان الرجل الوء أجلس في قبره فزعًا، فيقال له: ما كنت تقول؟ فيقول: لا أدري، فيقال: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولا، فقلت كما قالوا: فيفرج له فرجة من قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها، يحطم بعضها بعضًا، ويقال له: هذا مقعدك منها على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يعذب". "رواه" بتمامه الإمام "أحمد والبيهقي" وروى الشيخان وأحمد، وغيرهم عن أنس؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه يسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان يقعدانه، فيقولان له: ما كانت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا، ويفسح له في قبره سبعون ذراعًا، ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون"
ومنها أنه حرم نكاح أزواجه من بعده، وقال الله تعالى:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، أي: هن في الحرمه كالأمهات، حرم نكاحهن عليهم بعده تكرمة له وخصوصية، ولأنهن أزواج له في الآخرة، وهذا في غير المخيرات، فمن اختارت منهن الدنيا ففي حلها للأزواج طريقان: أحدهما طرد الخلاف، والثاني: القطع بالحل واختاره الإمام والغزالي.
وأزواجه اللاتي توفي عنهن محرمات على غيره أبدًا، وفي جواز النظر إليهن وجهان: أشهرهما المنع، وثبت لهن حكم الأمومة في احترامهن وطاعتهن وتحريم نكاحهن، لا في جواز الخلوة بهن والنفقة عليهن والميراث.
وأما الكافر والمنافق، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له: لا دريت، ولا تليت، ثم يضرب بمطراق من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة، يسمعها من يليه غير الثقلين، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه".
"ومنها: أنه حرم نكاح أزواجه من بعده" بقوله تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} الآية، "وقال الله تعالى:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} الآية، أي: هن في الحرمة"، أي: الاحترام "كالأمهات" في استحقاق التعظيم والرعاية، ومن ذلك أنه "حرم نكاحهن عليهم بعده تكرمة له وخصوصية" له عليه الصلاة والسلام، حيث جعلن أمهات، والأم لا يحل نكاحها، "ولأنهن أزواج له في الآخرة" بنصه صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بحرمته تزوج امرأة يعلم عودها له، ولأن المرأة لآخر أزواجها في الجنة على أحد الأقوال، فنكاح غيره لها المقتضى، لكونها تكون لمن هو آخر، يمنعه ما ثبت أنها تكون زوجًا له عليه السلام في الجنة، "وهذا في غير المخيرات، فمن اختارت منهن الدنيا، ففي حلها للأزواج طريقان، أحدهما: طرد الخلاف" الآتي في قوله: وفي التي فارقها في الحياة أوجه. "والثاني: القطع بالحل" بلا خلاف، "واختاره الإمام" أي: إمام الحرمين، "والغزالي" وقال في الشرح الصغير أنه الأظهر، وإلا فلا معنى للتخيير، اعتمد الرملي الحرمة ولو اختارت قبل الدخول، "وأزواجه اللاتي توفي عنهن محرمات على غيره أبدًا" كما قال الله تعالى، وهذا مستأنف بيانيًا في جواب سؤال، تقديره ما ذكر في زوجاته؛ هل يشمل من مات عنهن، ومن فارقهن في الحياة مدخولا بهم، أم لا؟ "وفي جواز النظر إليهن" ولو لشهادة أو مداواة "وجهان، أشهرهما المنع، وثبت لهن حكم الأمومة في احترامهن وطاعتهن" فيما أمرن به، "وتحريم نكاحهن لا في جواز الخلوة بهن" فيحرم، "والنفقة عليهن" فلا تجب، "والميراث" فلا توارث بينهن وبين الأجانب منهن، "ولا
ولا يتعدى ذلك إلى غيرهن فلا يقال بناتهن أخوات للمؤمنين على الأصح.
وقيل: إنما حرمن لأنه عليه السلام حي في قبره، ولهذا حكى الماوردي أنه لا يجب عليهن عدة الوفاة.
وفي التي فارقها في الحياة -كالمستعيذة- والتي رأى بكشحها بياضًا أوجه: أحدها، يحرمن أيضًا، وهو الذي نص عليه الشافعي وصححه في الروضة، لعموم الآية، إذ ليس المراد بمن بعده بعدية الموت، بل بعدية النكاح.
وقيل: لا. والثالث وصححه إمام الحرمين والرافعي في الصغير: تحريم المدخول بها فقط، لما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر، فهم عمر برجمه.
يتعدى ذلك" التحريم "إلى غيرهن، فلا يقال بناتهن أخوات للمؤمنين على الأصح" لأنه صلى الله عليه وسلم أنكح عثمان وعليًا بناته، ولا لأمهاتهن جدات المؤمنين على قياسه، وإلا لزم أن كل من نكحها حرمت أمها على زوجها.
"وقيل: إنما حرمن، لأنه عليه السلام حي في قبره" ويكون حاله عند صاحب ذا القيل كالنائم، وهذا مقابل قوله تكرمة له وخصوصية، لأنه يفيد انقطاع نكاحه بموته، وهذا يفيد أنه لم ينقطع، "ولهذا حكى الماوردي" وجهًا للشافعية "أنه لا يجب عليهن عدة الوفاة" لحياته ومثله يقال في غيره من الأنبياء على قياسه وذكر الخطابي عن ابن عيينة أنهن في معنى المعتدات، فلهن سكنى البيوت ما عشن، ولا يملكن رقابها، "وفي" الزوجات "التي فارقها في الحياة" وقدرنا ذلك لقوله الآتي: أحدها يحرمن، ولا يضر وصف الجمع بالمفرد، لأن جمع الإناث وما لا يعقل، يجوز وصفه بالمفرد، ولهم فيها أزواج مطهرة، "كالمستعيذة" التي قالت: أعوذ بالله منك، "والتي رأى بكشحها بياضًا" أي: برصًا فردها، وقال:"دلستم عليّ"، "أوجه، أحدها: يحرمن أيضًا، وهو الذي نص عليه الشافعي، وصححه في الروضة لعموم الآية"{وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} ، "إذ ليس المراد بمن بعده بعدية الموت" فقط، "بل بعدية النكاح، وقيل: لا" يحرمن مدخولا بها أم لا على ظاهر هذا الوجه، لكن في شرح البهجة الجزم بعدم حل المدخول بها.
"والثالث: وصححه إمام الحرمين والرافعي في" الشرح "الصغير" على وجيز الغزالي: "تحريم المدخول بها فقط" وحل من لم يدخل "لما روي أن الأشعث بن قيس" بن معد يكرب الكندي، صحابي نزل الكوفة، ومات سنة أربعين أو إحدى وأربعين، وهو ابن ثلاث وستين، "نكح المستعيذة في زمن عمر" بن الخطاب، "فهم عمر برجمه" بناء على أن نكاحها
فأخبر بأنها لم تكن مدخولا بها فكف.
وفي أمة فارقها بعد وطئها أوجه ثالثها: تحرم إن فارقها بالموت -كمارية- ولا تحرم إن باعها في الحياة، انتهى.
ومنها ما عده ابن عبد السلام أنه يجوز أن يقسم على الله به وليس ذلك لغيره، قال ابن عبد السلام: هذا ينبغي أن يكون مقصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به لعلو درجته ومرتبته، انتهى.
ومنها أنه يحرم رؤية أشخاص أزواجه في الأزر.
حرام، فهو زنا وحد زنا المحصن الرجم، "فأخبر بأنها لم تكن مدخولا بها فكف" عن رجمه الذي كان هم به، وذلك يدل على حل من لم يدخل بها، ومن أطلق التحريم يقول: هو اجتهاد من عمر "وفي أمة فارقها بعد وطئها أوجه" بالحرمة والحل، "ثالثها تحرم إن فارقها بالموت كمارية" القبطية، "ولا تحرم إن باعها في الحياة" واعتمد شارح البهجة وغيره التحريم، "انتهى".
"ومنها: ما عده ابن عبد السلام أنه يجوز أن يقسم على الله به" أخرج الترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن عثمان بن حنيف أن رجلا أعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال:"إن شئت أخرت لك وهو خير، وإن شئت دعوت"، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويقول: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، اللهم إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي، "وليس ذلك لغيره" من الأنبياء والملائكة والأولياء.
وأما الاستشفاع بهم بلا إقسام، فمستحب، لأن دعاءهم أرجى للإجابة، كما استشفع عمر بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون، رواه البخاري، وكذا بما فعل من خير يذكره في نفسه فيجعله شافعًا؛ لأن ذلك لائق بالشدائد، كما في خبر الثلاثة الذين آووا في الغار.
"قال ابن عبد السلام: وهذا ينبغي أن يكون مقصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء، لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به لعلو درجته ومرتبته، انتهى".
وتعقب: بأنه لا اتجاه لما ذكره، لأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، بل في بعض الأخبار التصريح بخلافه، وذكر التستري عن معروف الكرخي أنه قال لتلامذته: إذا كان لكم إلى الله حاجة، فاقسموا عليه بي، فإني الواسطة بينكم وبينه الآن بحكم الوراثة عن المصطفى.
"ومنها: أنه يحرم رؤية أشخاص" أي: أجسام "أزواجه في الأزر"، ولا كذلك أزواج
وكذا يحرم كشف وجوههن وأكفهن لشهادة أو غيرها، كما صرح به القاضي عياض، وعبارته: فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز، ثم استدل بما في الموطإ، أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها، انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، فقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحجبن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص. انتهى.
غيره، قال المصباح: الشخص سواد الإنسان، يراه من بعد، ثم استعمل في ذاته.
قال الخطابي: ولا يسمى شخصًا إلا جسم مؤلف، له شخوص وارتفاع، "وكذا يحرم كشف وجوههن" مصدر مضاف إلى مفعوله، أي: أن يكشفن وجوههن "وأكفهن لشهادة أو غيرها" إكرامًا له صلى الله عليه وسلم "كما صرح به القاضي عياض" وأقره النووي، "وعبارته" في شرح مسلم:"فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها" بل يحرم عليهن، "ول اإظهار شخوصهن وإن كن مستترات" بالأزر ونحوها، "إلا ما دعت إليه ضرورة من" خروجهن إلى "براز" فترى أشخاصهن فلا حرمة، قال الجوهري وغيره: بالكسر ثقل الغذاء، وهو الغائط، وبالفتح اسم للقضاء الواسع، ولا يظهر معناه هنا إلا بكلفة، قاله النووي: أي يجعله مجازًا علاقته المجاورة، أو من تسمية الحال باسم المحل لخروجه بالفضاء، "ثم استدل بما في الموطأ؛ أن حفصة لما توفي" أبوها "عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها" ولم ينكر عليهن، فكان إجمعًا، "وأن زينب بنت جحش" المتوفية بالمدينة في خلافة عمر سنة عشرين "جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها" وذلك بمحضر الصحابة، ومنهم عمر الذي صلى عليه ولم ينكر، وفيه أنه يمنع رؤى أشخاصهن بعد الموت، "انتهى" كلام عياض.
"قال الحافظ ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن" لجواز أنه فعل ذلك تكرمة لهن، بل قد ورد عنهن ما يدل على خلاف ذلك، "فقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن" وفي البخاري قول ابن جريج لعطاء: لما ذكر له طواف عائشة أقبل الحجاب أو بعد؟ قال: إن أدركت ذلك إلا بعد الحجاب، "وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان" بثياب تمنع رؤية البشرة "لا الأشخاص" إذ
وأما حكم نظر غير أزواجه عليه الصلاة والسلام ففي الروضة وأصلها عن الأكثرين: جواز النظر إلى وجه حرة كبيرة أجنبية وكفيها إذا لم تكن فتنة، مع الكراهة، وقوة كلام الشيخين: الرافعي والنووي تقتضي رجحانه، وصوبه في "المهمات" لتصريح الرافعي في الشرح بأن الأكثرين عليها، ولكن نقل ابن العراقي أن شيخه البلقيني قال: الترجيح بقوة المدرك، والفتوى على ما في المنهاج، وقد جزم به في "التدريب"، وقوة كلام الشرح الصغير تقتضي رجحانه، وعلله باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات. ونقلا في الروضة وأصلها هذا الاتفاق وأقراه.
وعورضا بنقل القاضي عياض عن العلماء مطلقًا: أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في الطريق، وإنما هو سنة، وعلى الرجال غض البصر، وحكاه عنه النووي في شرح مسلم وأقره. قال الشيخ نجم الدين بن قاضي عجلون في تصحيح المنهاج، والله أعلم.
لا يمنعها، لا كونها بهودج ونحوه بحيث لا يرى شخصها، "انتهى" ويمكن الجواب عن عياض بأن ذلك من جملة ما دخل في قوله: إلا ما دعت إليه ضرورة، وقوله: من براز مثال لا قيد.
"وأما حكم نظر غير أزواجه عليه الصلاة والسلام، ففي الروضة وأصلها عن الأكثرين" من الشافعية "جواز النظر إلى وجه حرة كبيرة أجنبية، وكفيها، إذا لم تكن" أي: توجد "فتنة مع الكراهة، وقوة كلام الشيخين الرافعي والنووي" في الروضة، "تقتضي رجحانه، وصوبه في المهمات" للأسنوي "لتصريح الرافعي في الشرح" لوجيز الغزالي "بأن الأكثرين عليه" وذلك يقتضي رجحانه "لكن نقل ابن العراقي: أن شيخه البلقيني قال في الترجيح بقوة المدرك" أي: الدليل "والفتوى على ما في المنهاج" للنووي من حرمة ذلك، "وقد جزم به في التدريب" للبلقيني، "وقوة كلام الشرح الصغير" للرافعي على الوجيز "تقتضي رجحانه، وعلله باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات"، كاشفات وجوههن، "ونقلا في الروضة وأصلها هذا الاتفاق وأقراه وعورضا بنقل القاضي عياض عن العلماء مطلقًا" عن التقييد بمذهب، فكأه قال: اتفق العلماء على "أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في الطريق، وإنما هو سنة و" يجب "على الرجال غض البصر، وحكاه عنه" أي: عياض "النووي في شرح مسلم وأقره" وهو ينقض دعوى اتفاق المسلمين على المنع، "قاله الشيخ نجم الدين بن قاضي عجلون في تصحيح المنهاج، والله أعلم" بالحق في ذلك،
وكان النكاح في حقه عليه الصلاة والسلام عبادة مطلقًا، كما قاله السبكي، وهو في حق غيره ليس بعبادة عندنا، بل من المباحات، والعبادة عارضة له.
ومنها أن أولاد بناته ينسبون إليه، قال عليه الصلاة والسلام في الحسن:"إن ابني هذا سيد" رواه أبو يعلى.
"وكان النكاح في حقه عليه الصلاة والسلام عبادة، مطلقًا" عن التقييد بالاحتياج وغيره "كما قاله السكبي، وهو في حق غيره ليس بعبادة" على الأصح "عندنا" أي: الشافعية، أي ليس مستحبًا لذاته، فيثاب فاعله مطلقًا، "بل من المباحات" لقوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم} الآية، إذ العبادة لا تتعلق بالاستطابة، "والعبادة عارضة له" من جهة بقاء النسل وحفظ النسب، والاستعانة على المصالح الدينية، وصرحوا بأنه تجري فيه الأحكام الخمسة، وقيل: هو عبادة.
قال الحافظ: والتحقيق أن الصورة التي يستحب فيها تستلزم كونه عبادة، فمن نفى العبادة عنه نظر إليه في حد ذاته، ومن أثبت نظر إلى صورة مخصوصة، انتهى، أي: وأولى صورة الوجوب.
"ومنها: أن أولاد بناته ينسبون إليه" شرعًا، فهو عصبة لهم؛ مما قال صلى الله عليه وسلم في حديث:"وكل ولد آدم، فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة، فإني أنا أبوهم وعصبتهم" رواه أبو نعيم عن عمر برجال ثقات، وقال صلى الله عليه وسلم:"لكل بني آدم عصبة إلا ابني فاطمة أنا وليهما وعصبتهما"، أخرجه الحاكم عن جابر وأبو يعلى عن فاطمة، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله لم يبعث نبيًا قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي". رواه الطبراني والخطيب بخلاف غيره، فأولاد بناته لا ينسبون إليه؛ كما قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
…
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
"قال عليه الصلاة والسلام في الحسن" بالتكبير: "إن ابني هذا سيد" وفي رواية: سيد باللام، أي: حليم، كريم، متجمل، شريف من السؤدد، وقيل: من السواد؛ لكونه يرأس على السواد العظيم من الناس، أي: الأشخاص العظيمة، ذكره ابن الأثير، وقال عليه السلام لما ولد:"أروني ابني ما سميتموه"، وكذا لما ولد الحسين، وكذا لما ولد محسن أخوهما أخرجه أحمد، "رواه أبو يعلى" والبخاري في مواضع من صحيحه، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي كلهم عن أبي بكرة، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول:"إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فقصر المصنف وأوهم شديدًا، وقد صرح مغلطاي بأنه لا يجوز
ومنها أن كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا سببه ونسبه. قال عليه الصلاة والسلام كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي. والنسب بالولادة والسبب بالنكاح.
قيل: ومعناه أن أمته ينتفعون بالنسبة إليه يوم القيامة بخلاف أمة غيره.
لحديثي نقل حديث في أحد الكتب الستة من غيرها.
"ومنها: أن كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة" قال تعالى: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} الآية، "إلا سببه ونسبه" فلا ينقطعان.
"قال عليه الصلاة والسلام" فيما رواه الحاكم والبيهقي عن عمر: "وكل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي".
قال عمر: فتزوجت أم كلثوم لذلك، وأحببت أن يكون بيني وبينه نسب وسبب، رواه البزار، وهذا لا يعارضه حثه في إخباره لأهل بيته على خوف الله، وتقواه، وتحذيرهم الدنيا وغرورها، وإعلامهم بأنهم لا يغني عنهم من الله شيئًا؛ لأن معناه أنه لا يملك لهم نفعًا، لكن الله يملكه نفعهم بالشفاعة العامة والخاصة، فهو لا يملك إلا ما ملكه ربه، فقوله:"لا أغني عنكم"، أي: بمجرد نفسي من غير ما يكرمني الله به من نحو شفاعة، أو مغفرة، وخاطبهم بذلك رعاية لمقام التخويف، أو كان قبل علمه بأنه يشفع.
وفي رواية ابن عساكر: "كل نسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري""والنسب بالولادة، والسبب بالنكاح" حكاه الديلمي مصدرًا بأن السبب هنا الوصلة والمودة، وكل ما يتوصل به إلى الشيء لبعد عنه، فهو سبب.
وفي البيضاوي: فجعله نسبًا وصهرًا، أي: قسم البشر قسمين ذوي نسب أي ذكورًا ينسب إليهم، وذوات صهر، أي إناثًا يصاهر بهن؛ كقوله:{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} الآية، ويمكن حمل المصنف عليه بجعل الولادة عبارة عن النسب إلى الآباء، والسبب عبارة عن القرابة من جهة النساء والتزوج بهن؛ كما قال الطيبي: السبب النسب ما رجع إلى ولادة قريبة من جهة الآباء، والصهر ما كان خلطة يشبه القرابة، يحدثها التزوج.
وأما حديث ابن عمر وابن عباس مرفوعًا: "الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري" فيراد بالصهر فيه خصوص النكاح، وبالسبب القرابة من جهة الأم لجمعه بين الثلاثة.
"قيل: ومعناه" أي: الحديث بقطع النظر عن تفسيره المذكور، فلا يرد عليه أنه لا يرتب على الولادة والنكاح، "أن أمته ينتفعون بالنسبة إليه يوم القيامة بخلاف أمة غيره" من سائر الأنبياء، فلا ينسبون إليهم، وقد ضعف هذا القيل بأنه تأويل نشأ من خفاء الجمع على قائله بينه
ومنها: أنه لا يتزوج على بناته. فعن المسور بن مخرمة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: "إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن لهم، ثم لا آذن ثم لا آذن لهم
وبين حديث: "لا أغني عنكم من الله شيئًا" وقد علم الجمع بينهما بوجهين، وضعفه أيضًا الجلال البلقيني بما في الصحيح عن أبي سعد مرفوعًا:"يجيء نوح وأمته، فيقول الله: هل بلغت؟ فيقول: نعم، أي رب، فيقال لأمته: هل بلغكم" الحديث، فهو صريح في نسبة أمة نوح إليه يومئذ، وأجاب شيخنا، بأن مراده من خص الانتساب إلى نبينا والانتفاع به الشفاعة الحاصلة منه لأمته على وجوه متعددة، لا تحصل لغيره مع أمته.
وقيل: معناه ينتفع يومئذ بالنسبة إليه، ولا ينتفع بجميع الأنساب، ورجحه السيوطي وأيده بحديث عمر المتقدم، قال البلقيني: وهذا هو الطي يظهر، انتهى.
"ومنها: أنه لا يتزوج على بناته" أي: يحرم، "فعن المسور" بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو "ابن مخرمة" بفتح الميم، وسكون المعجمة، وفتح الراء ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي، الزهري، أبي عبد الرحمن له ولأبيه ولأمه عاتكة بنت عوف أخت عبد الرحمن صحبة، ولد بعد الهجرة بسنتين، وقدم المدينة في ذي الحجة بعد الفتح سنة ثمان، وهو ابن ست سنين، وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وفي الصحيحين في بعض طرق الحديث: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ محتلم، وهذا يدل على أنه ولد قبل الهجرة لكن أطبقوا على أنه ولد بعدها، وقد تأول بعضهم قوله: محتلم على أنه من الحلم، بالكسر، لا من الحلم، بالضم، يريد أنه كان عاقلا ضابطًا لما يتحمله، مات سنة أربع وستين على الصواب بحجر أصابه من حجارة المنجنيق في حصار الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية لابن الزبير، وكان قائمًا يصلي، فأقام خمسة أيام، ومات يوم أتى نعي يزيد؛ كما في الإصابة. "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول:"إن بني هاشم" كذا وقع في مسلم وصوابه، كما في البخاري هشام "بن المغيرة" المخزومي، إذ بنو هشام هم أعمام بنت أبي جهل لأنه عمرو بن هشام بن المغيرة، وقد أسلم أخواه الحارث وسلمة ابنا هشام عام الفتح، "استأذنوني" وفي رواية: استأذنوا " في أن ينكحوا" بضم أوله من أنكح "ابنتهم علي بن أبي طالب" وعند الحاكم بسند صحيح إلى سويد بن غفلة، بفتح المعجمة والفاء، أحد المخضرمين ممن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، قال: خطب علي بنت أبي جهل إلى عمها الحارث فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أعن حسبها تسألني"؟، فقال: لا، ولكن أتأمرني، قال:"لا" الحديث، "فلا آذن لهم" في ذلك، "ثم لا آذن، ثم لا آذن لهم" بالتكرار ثلاثًا.
قال الكرماني: فإن قلت لا بد في العطف من المغايرة بين المعطوفين، قلت: الثاني فيه
إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها". أخرجه الشيخان، وصححه الترمذي.
وعنه أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل، وعنده فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح ابنة أبي جهل.
مغايرة للأول، فإن فيه تأكيد للأول، وفيه إشارة إلى تأييد مدة منع الإذن؛ كأنه أراد رفع المجاز، لاحتمال أن يحمل النفي على مدة بعينها، فقال:"ثم لا آذن"، أي: ولو مضت المدة المفروضة تقديرًا لا آذن بعدها، ثم كذلك أبدًا، "إلا أن يحب" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: إلا أن يريد "ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي" فكنى بمحبة الطلاق عن نفس الطلاق إشارة إلى أنه باختياره لا بإكراه، "وينكح" بفتح الياء من نكح "ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني" بفتح الموحدة، وسكون المعجمة، وحكى ضم الموحدة وكسرها، أي قطعة لحم؛ كما ضبطه الحافظ وغيره، فمفاده أن الرواية بالفتح، ولذا اقتصر عليه المصنف في موضع "يريبني" بضم أوله "ما رابها" وفي نسخة: ما أرابها، وهما صحيحان، يقال: رابني فلان وأرابني إذا رأيت منه ما تكرهه، "ويؤذيني ما آذاها" فمن آذاها فقد آذاه، وهو حرام بإجماع، ولم يقل: ما يؤذيها إشارة إلى أن أذاه مسبب عن أذاها، فالمعنى إذا آذاها أحد آذاني وهذا تعليل لعدم إذنه يعني أن المانع لي من الإذن أنه يؤذيها كما يؤذيني، "أخرجه الشيخان" في مواضع، ومعلوم أنه أرفع الصحيح وإنما ذكر قوله "وصححه الترمذي" أي صرح بصحته، رد الزعم وضعه.
قال الحافظ: إنما قام صلى الله عليه وسلم خطيبًا ليشيع الحكم الذي سيقرره، ويأخذوا به على سبيل الوجوب أو الأولوية، وغفل الشريف المرتضى عن هذه النكتة، فزعم أن هذا الحديث موضوع؛ لأنه من رواية المسور، وكان فيه انحراف على علي، وجاء من رواية ابن الزبير، وهو أشد في ذلك، ورد كلامه بإطباق أصحاب الصحيح على تخريجه، انتهى، والشريف هذا من رءوس الشيعة، وحمله على هذا قولهم: أن عليًا لا يمكن منه أن يفعل ذلك، "وعنه" أي عن المسور أيضًا "أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل، وعنده فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم" أخذ بعموم الجواز، فلما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم ترك الخطبة، "فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن قومك يتحدثون".
وفي رواية: يزعم قومك "أنك لا تغضب لبناتك" إذ أوذوا، ولعل سبب التحدث أو الزعم مشاهدتهم حلمه، وأنه لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله، "وهذا علي ناكح" أي يريد أن ينكح "بنت أبي جهل"، وفي مسلم والطبراني: ناكحًا بالنصب، أطلق عليه
قال المسور: فقال النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهد قال: "أما بعد، فإني أنكحت أبا العاصي بن الربيع، فحدثني فصدقني، وإن فاطمة بنت محمد بضعة مني، وإنما أكره أن يفتنوها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدًا". قال: فترك علي الخطبة أخرجه الشيخان.
اسم ناكح مجازًا باعتبار قصده له.
"قال المسور: فقام النبي صلى الله عليه وسلم" خطيبًا على المنبر، "فسمعته حين تشهد" زاد في رواية للبخاري ومسلم: وأنا يومئذ محتلم، قال:"أما بعد، فإني أنكحت أبا العاصي" لقيط أو مقسم، بكسر الميم، أو هشيم، أو غير ذلك "ابن الربيع" بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، ويقال بإسقاط ربيعة مشهور بكنيته وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة، أي: أنكحه أكبر بناته زينب قبل النبوة، "فحدثني فصدقني" بخفة الدال بعد الصاد المهملتين، أي في حديثه، زاد في رواية:"ووعدني فوفى لي".
قال الحافظ: ولعله كان شرط على نفسه أن لا يتزوج على زينب، وكذلك علي، فإن يكن كذلك فهو محمول على أن عليًا نسي ذلك الشرط، فلذلك أقدم على الخطبة، أو لم يقع عليه شرط، إذ لم يصرح به، لكن كان ينبغي له أن يراعي هذا القدر، فلذلك وقعت المعاتبة، وكان صلى الله عليه وسلم قل أن يواجه أحدًا بما يعاب به، ولعله إنما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة، وكانت هذه الواعة بعد فتح مكة، ولم يكن حينئذ تأخر من بناته صلى الله عليه وسلم غيرها، وكانت أصيبت بعد أمها بأخواتها، فكان إدخال الغيرة عليها مما يزيد حزنها، انتهى.
"وإن فاطمة بنت محمد بضعة مني" قال المصنف: بفتح الموحدة فقط، وسكون المعجمة، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: مضغة بميم مضمومة بدل الموحدة، وغين معجمة بدل المهملة، واقتصر على الفتح، لأنه الرواية، وإلا فحكى الضم والفتح أيضًا كما مر.
وفي الكرماني قال الجوهري: بفتح الباء النووي بضمها صاحب النهاية بالفتح وقد تكسر، "وإنما أكره أن يفتنوها" لفظ مسلم، وله أيضًا وللبخاري:"إني أخاف أن تفتن في دينها"، وللبخاري في المناقب:"وإني أكره أن يسوءها" أي أحد عليّ أو غيره.
زاد في رواية للشيخين: "وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حرامًا، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدًا". قال: المسور: "فترك على الخطبة" أعرض عنها وعزم أن لا ينكح ابنة أبي جهل، "أخرجه الشيخان" أيضًا مسلم في الفضائل والبخاري في مواضع.
قال ابن التين: أصح ما تحمل عليه هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم حرم على علي أن يجمع بين ابنته
واسم بنت أبي جهل هذه: جويرية، أسلمت وبايعت، وتزوجها عتاب بن أسيد، ثم أبان بن سعيد بن العاصي.
قال أبو داود: حرم على علي أن ينكح على فاطمة في حياتها، لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
وذكر الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص: أنه يحرم التزويج على بنات النبي صلى الله عليه وسلم.
وبين ابنة أبي جهل؛ لأنه علل بأن ذلك يؤذيه، وأذيته حرام بالإجماع، ومعنى قوله:"لا أحرم حلالا" أنها حلال له لو لم تكن عنده فاطمة، وأما الجمع بينهما المستلزم تأذيه لتأذية فاطمة فلا، انتهى.
"واسم بنت أبي جهل هذه" المخطوبة "جويرية" بضم الجيم، وجزم بذلك لأنه أشهر الأقوال، قال في الفتح: اختلف في اسم بنت أبي جهل، فروى الحاكم في الإكليل: جويرية، وهو الأشهر، وفي بعض الطرق اسمها العوراء.
أخرجه ابن طاهر في المبهمات، وقيل: اسمها الحنفاء، ذكره ابن جرير الطبري، وقيل: جهدم، حكاه السهيلي.
وقيل: جميلة، ذكره شيخنا ابن الملق في شرحه، وكان لأبي جهل بنت تسمى صفية، تزوجها سهيل بن عمر، وسماها ابن السكيت وغيره، وقال: هي الحنفاء المذكورة، "أسلمت وبايعت" النبي صلى الله عليه وسلم وحفظت عنه، "وتزوجها" فيما يقال كما في الفتح "عتاب" بفتح العين والفوقية الثقيلة "ابن أسيد" بفتح فكسر الصحابي، أمير مكة، فولدت له عبد الرحمن بن عتاب، "ثم" لما مات عنها تزوجها "أبان" بفتح الهمزة وخفة الموحدة، فألف، فنون "ابن سعيد بن العاصي" بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، الأموي، الصحابي.
"قال أبو داود: حرم على علي" رضي الله عنه "أن ينكح على فاطمة في حياتها"، أي: مدة حياتها، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه "لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ} أعطاكم {الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية، وقد نهاه عن الزواج عليها، "وذكر الشيخ أبو علي السنجي" أحد عظماء الشافعية، أصحاب الوجوه، نسبة إلى سنج، بكسر المهملة، وسكون النون وجيم، قرية بمرو "في شرح التلخيص" لابن القاص "أنه يحرم التزويج" أي: والتزوج "على بنات النبي صلى الله عليه وسلم" إلى هنا كلام أبي علي وهو يبطل النكاح مقتضى تحريمًا للنهي المستفاد من {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} الآية، البطلان لأن الأصل في النهي
ويحتمل أن يكون ذلك خاصًا بفاطمة رضي الله عنها، وقد علل صلى الله عليه وسلم بأن ذلك يؤذيه، وإذايته حرام بالاتفاق، وفي هذا تحريم أذى من يتأذى النبي صلى الله عليه وسلم بتأذيته، لأن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم حرام اتفاقًا قليله وكثيره. وقد جزم عليه الصلاة والسلام بأنه يؤذيه ما آذى فاطمة، فكل من وقع منه في حق فاطمة شيء تأذت به فهو يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الخبر الصحيح.
الفساد.
وفي فتح الباري: لا يبعد أن يعد من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتزوج على بناته، "ويحتمل أن يكون ذلك خاصًا بفاطمة رضي الله عنها" لأنها كانت أصيبت بأمها ثم بأخواتها واحدة فواحدة، فلم يبق من تأنس به ممن يخفف عليها أمر الغيرة، انتهى كلام الفتح.
"وقد علل عليه السلام" المنع "بأن ذلك يؤذيه، وإذايته حرام بالاتفاق" أي الإجماع، "وفي هذا" كما في الفتح "تحريم أذى من يتأذى النبي صلى الله عليه وسلم بتأذيه لأن أذى النبي صلى الله عليه وسلم حرام اتفاقًا قليله وكثيره"{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} الآية، "وقد جزم عليه الصلاة والسلام، بأن يؤذيه ما آذى فاطمة، فكل من وقع منه في حقها شيء تأذت به، فهو يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الخبر الصحيح" المذكور، زاد في الفتح: ولا شيء أعظم من إدخال الأذى عليها من قبل ولدها، ولهذا عرف بالاستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد، انتهى.
وقال الشريف السمهودي: ومعلوم أن أولاد فاطمة بضعة منها، فيكونون بواسطتها بضعة منه، ومن ثم لما رأت أم الفضل في منامها أن بضعة منه وضعت في حجرها أوله النبي صلى الله عليه وسلم، بأن فاطمة تلد غلامًا، فيوضع في حجرها فولدت الحسن، فوضع فيه، فكل من يشاهد الآن من ذريتها بضعة من تلك البضعة، وإن تعددت الوسائط، ومن تأمل ذلك انبعث من قبله دواعي الإجلال لهم، وتجنب بغضهم على أي حال كانوا، انتهى.
وروى أحمد والحاكم، والطبراني: أن حسين بن حسين خطب بنت المسور بن مخرمة، فقال له: ما من نسب ولا صهر أحب إلي من نسبكم وصهركم، ولكن رسول الله قال:"فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها، ويبسطني ما يبسطها" وعندك بنتها ولو زوجتك أغضبها ذلك، فذهب عاذرًا له.
قال في ذخائر العقبي: فيه دليل على أن الميت يراعى منه ما يراعى من الحي، قال: ولعل مراد أبي علي بقوله: يحرم التزويج على بناته من ينسب إليه بالنبوة، ويكون هذا الحديث دليل.
قال السيوطي: فإن أخذ هذا على ظاهره، فمقتضاه أنه يحرم التزويج على ذرية بناته، وأن
وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك، مع أن الغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى خشية الافتتان في الدين، ومع ذلك فكان صلى الله عليه وسلم يستكثر من الزوجات، ويوجد منهن الغيرة ومع ذلك ما راعى صلى الله عليه وسلم ذلك في حقهن، كما رعاه في حق فاطمة.
وأجيب: بأن فاطمة كانت إذ ذاك فاقدة من تركن إليه ممن يؤنسها ويزيل وحشتها من أم أو أخت، بخلاف أمهات المؤمنين، فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها معه ذلك، وزيادة عليه وهو زوجهن صلى الله عليه وسلم لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخاطر، بحيث إن كل واحدة منهن ترضى به بسبب خلقه وترضى بجميع ما يصدر منه، بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قريب.
ومنها: أنه لا يجتهد في محراب صلى إليه يمنة ولا يسرة، وأفتى شيخ الإسلام أبو زرعة.
يتعلق ذلك إلى يوم القيامة، وفيه وقفة، انتهى، بل لا يصح لقيام الإجماع الفعلي في كل عصر على خلافه، فهو خاص ببناته أو بفاطمة فقط على ما مر، وامتناع المسور من مزيد ورعه حملًا لما سمعه على عمومه.
"وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك، مع أن الغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى خشية الافتتان في الدين" الذي خشيه على فاطمة في نحو قوله: "وإني أخاف أن تفتن في دينها""ومع ذلك: فكان صلى الله عليه وسلم يستكثر من الزوجات، ويوجد منهن الغيرة" عليه، "ومع ذلك ما راعى صلى الله عليه وسلم ذلك في حقهن، كما راعاه في حق فاطمة" فهل لذلك حكمة؟ "وأجيب بأن فاطمة كانت إذا ذاك فاقدة من تركن إليه ممن يؤنسها، ويزيل وحشتها من أم" لموت أمها وهي صغيرة جدًا، "أو أخت" لموت أخواتها قبل ذلك واحدة بعد واحدة، "بخلاف أمهات المؤمنين، فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها معه ذلك" المذكور من الإيناس وإزالة الوحشة "وزيادة عليه، وهو زوجهن صلى الله عليه وسلم لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب، وجبر الخاطر، بحيث أن كل واحدة منهن ترضى به بسبب حسن خلقه" بضمتين، وجميل خلقه، بفتح وسكون، إذ لا أجمل منه، "وترضى بجميع ما يصدر منه، بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قريب" حتى كأنه لم يكن كما يعلم من تصفح الأخبار.
"ومنها: أنه لا يجتهد في محراب" وهو ما ثبت أنه "صلى إليه" وإن لم يكن بمسجد "يمنة ولا يسرة" أي: لا يجوز ذلك، لأنه قطعي، أنه باجتهاده، إذ لا يقر على خطأ، فلو تحيل حاذق فيه يمنة أو يسرة، فحياله باطل، "وأفتى شيخ الإسلام" قاضي القضاة، "أبو زرعة" أحمد
ابن العراقي في شخص امتنع من الصلاة إلى محراب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا أجتهد وأصلي، بأنه إن فعل ذلك مع الاعتراف بأنه على ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ردة، وإن ذكر تأويلا بأن قال: ليس هو الآن على ما كان عليه في زمنه عليه الصلاة والسلام بل غير عما كان عليه، فهذا سبب اجتهادي، لم يحكم بردته، وإن لم يكن هذا التأويل صحيحًا.
ومنها أن من رآه في المنام فقد رآه حقًا.
"ابن" عبد الرحمن "العراقي" الحافظ ابن الحافظ في الفتاوى المكية، وهو نحو كراسين "في شخص امتنع من الصلاة إلى محراب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا أجتهد وأصلي بأنه إن فعل ذلك مع الاعتراف بأنه على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ردة" لتضمنه أنه كان مخطئًا في صلاته وهو ردة "وإن ذكر تأويلا، بأن قال: ليس هو الآن على ما كان عليه في زمنه عليه الصلاة والسلام، بل غير عما كان عليه، فهذا سبب اجتهادي لم يحكم بردته" لأنه لم يتضمن خطأ، "وإن لم يكن هذا التأويل صحيحًا" إذ خطأ تأويله يستلزم شيئًا في حقه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
"ومنها: أن من رآه في المنام فقد رآه حقًا" قال القضاعي: هذه الخصوصية مما خص به دون غيره من الأنبياء، وجزم البغوي بمشاركة جميع الأنبياء والملائكة له في ذلك.
وحكى الشيخ أكمل الدين في شرح المشارق فيه خلافًا، فقال: هل ذلك مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أم لا؟ قال بعضهم: رؤيا الله تعالى والأنبياء والملائكة والشمس والقمر والنجوم المضيئة والسحاب، الذي فيه الغيم ايتمثل الشيطان بشيء منها، وذكر المحققون أنه خاص به صلى الله عليه وسلم، وقالوا في ذلك أنه وإن ظهر بجميع أسماء الله تخلقًا وتحققًا، لكن المقصود من رسالته صلى الله عليه وسلم هدايته للناس، وأن يكون مظهرًا لاسمه الهادي، والشيطان بخلاف ذلك، فهو ضال مضل، ولا يظهر أحدهما بصفة الآخر، ولو ظهر إبليس بصفته لالتبس على الناس، فضلوا بما يلقيه لهم لظنهم أنه الرسول، فعصم الله صورته من أن يتصور بها شيطان، انتهى.
والحكمة المذكورة تقتضي عمومه في جميع الأنبياء والملائكة، ثم أورد أعني الشيخ أكمل الدين، أن عظمة الله أتم من عظمة كل عظيم، مع أن إبليس يتراءى لكثير، وخاطبهم بأنه الحق ليضلهم، فضل جمع حتى ظهنوا أنهم رأوا الحق، وسمعوا خطابه، وأجاب: بأن كل عاقل يعلم بأن الحق لا صورة له معينة توجب الاشتباه بخلاف النبي، فصورته معينة معلومة؛ وبأن مقتضى الحكمة الحق أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء بخلاف النبي، فإنه متصف بالهداية ظاهر بصورتها ورسالته إنما هي لذلك لا للإضلال، فلا يكون منه إضلال لأحد البتة، فوجب
فإن الشيطان لا يتمثل به.
وفي رواية مسلم: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة"، أو قال:"فكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي".
عصمة صورته من أن يظهر بها شيطان، وقال عياض: لم يختلف العلماء في جواز صحة رؤيا الله في النوم، وإن رؤي علة صفة لا تليق بحاله من صفات الأجسام، لتحقق أن المرئي غير ذات الله، إذ لا يجوز عليه التجسم، ولا اختلاف الحالات رؤيا، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فكانت رؤياه تعالى في النوم من باب التمثيل والتخييل.
وقال ابن العربي: رؤيا الله في النوم أوهام وخواطر في القلب، لا تليق به الحقيقة، ويتعالى عنها، وهي دلالات للرأي على أمر كان أو يكون كسائر المرئيات، وقال غيره: رؤياه تعالى منامًا حق وصدق، لا كذب فيها في قول ولا فعل، "فإن الشيطان لا يتمثل به" كما أخرج أحمد والبخاري والترمذي عن أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي".
"وفي رواية مسلم" من حديث أبي هريرة: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" بفتح القاف، رؤية خاصة بصفة القرب منه.
قال الدماميني: وهذه بشارة لرائيه بالموت مسلمًا؛ لأن لا يراه في القيامة تلك الرؤية الخاصة، باعتبار القرب منه إلا من تحقق موته على الإسلام.
وقال شيخنا: أي: فسيراني في اليقظة على الصورة التي رآني عليها في المنام، وذلك يدل على أن من رآه في المنام كانت رؤياه صادقة، "أو قال" شك من الراوي:"فكأنما رآني في اليقظة".
قال الشيخ أكمل الدين: ومعناه غير الأول لأنه تشبيه، وهو صحيح؛ لأنه ما رآه في النوم مثالي، وما يرى في عالم الحس حسي، فهو تشبيه خيالي بحسي، انتهى.
"لا يتمثل الشيطان بي" هذا كالتتميم للمعنى، والتعليل للحكم، أي: لا يحصل للشيطان مثال صورتي، ولا يتشبه بي، فكما منعه الله أن يتصور بصورته في اليقظة، منعه ذلك في النوم لئلا يشتبه الحق بالباطل، أو هو استئناف في جواب ما سبب ذلك، يعني: ليس ذلك المنام من قبيل تمثل الشيطان في خيال الرائي ما شاء من التخيلات، وإنما عزاه لمسلم وحده لوقع الشك من راويه في لفظه.
وقد رواه البخاري ومسلم أيضًا بلا شك، كلاهما من حديث أبي هريرة:"من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي"، رواه الطبراني، وزاد:"ولا بالكعبة"، وقال: لا تحفظ هذه اللفظة إلا في هذا الحديث.
قال الحافظ ابن حجر: وقع عند الإسماعيلي: "فقد رآني في اليقظة" بدل قوله: "فسيراني" ومثله عند ابن ماجه وصححه الترمذي من حديث ابن مسعود.
وفي رواية أبي قتادة -عند مسلم أيضًا: "من رآني فقد رأى الحق".
وله أيضًا من حديث جابر: "من رآني في المنام فقد رآني، فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي"، وفي رواية:"من رآني في المنام فقد رآني فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل بي".
وروى الأزرقي عن عثمان بنساج، قال: بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "أول ما يرفع الركن، والقرآن ورؤيا النبي في المنام".
"قال الحافظ ابن حجر" في فتح الباري في شرح حديث أبي هريرة المذكور: "ووقع عند الإسماعيلي" في مستخرجه: "فقد رآني في اليقظة" بدل قوله: "فسيراني"، ومثله عند ابن ماجه، وصححه الترمذي من حديث ابن مسعود، ولا منافاة بينها وبين:"فسيراني"؛ لحمل هذه الرواية على أنها من التعبير بالماضي عن الآتي، لتحقق وقوعه نحو: أتى أمر الله، ولا بينها وبين فكأنما رآني؛ لحملها على التشبيه؛ كزيد أسد.
"وفي رواية أبي قتادة" الحارث، أو عمرو، أو النعمان الأنصاري، شهد أحدًا وما بعدها، "عند مسلم أيضًا" والبخاري بلفظه في التعبير، فلا وجه لقصر العز، وقال أبو قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني فقد رأى الحق" هكذا الرواية في الصحيحين، فما في نسخ من زيادة نون قبل الياء في رأي لا عبرة بها، أي: رأى الرؤيا الصادقة الصحيحة، وهي التي يريها الملك الموكل بضرب أمثال الرؤيا بطريق الحكمة لبشارة أو ندارة أو معاتبة، ليكون على بصيرة من أمره، وأبعد بعضهم، فقال: يمكن أن يراد بالحق الله مبالغة، تنبهًا على أن من رآه على وجه المحبة والاتباع، كأنه رأى الله؛ كقوله:"ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله"، ورد بأنه يأباه قوله:"فإن الشيطان"
…
إلخ.
"وله أيضًا من حديث جابر"، رفعه:"من رآني في المنام فقد رآني" أي: فليبشر بأنه رآني حقيقة، أي رأى حقيقتي، كما هي، فلم يتحد الشرط والجزاء، أو هو في معنى الإخبار، أي: من رآني، فأخبره بأن رؤياه حق لا أضغاث أحلام، ولا تخييل شيطان، ثم أردف ذلك بما هو تتميم للمعنى، وتعليل للحكم، فقال:"فإنه لا ينبغي" لا يصح ولا يتصور "للشيطان أن يتمثل في صورتي" لاستحالة ذلك، "وفي رواية" لمسلم أيضًا من وجه آخر عن جابر:"من رآني في المنام فقد رآني، فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي" والمعنى واحد.
وفي حديث أبي سعيد عند البخاري: "فإن الشيطان لا يتكونني". أي لا يتكون كوني، فحذف المضاف ووصل المضاف إليه بالفعل.
وفي حديث أبي قتادة عند البخاري: "فإن الشيطان لا يتراءى بي"، بالراء، بوزن يتعاطى، ومعناه: لا يستطيع أن يتمثل بي، يعني إن الله وإن أمكنه من التصور في أي صورة أراد فإنه لم يمكنه من التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذهب إلى هذا جماعة، فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها، ومنهم من ضيق الذرع في ذلك حتى قال: لا بد أن يراه على صورته التي قبض عليها، حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة.
"وفي حديث أبي سعيد" الخدري "عند البخاري" من إفراده عن مسلم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من رآني فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتكونني" أي: لا يصير كائنًا في مثل صورتي، "أي لا يتكون كوني" أي: لا يتصور تصورًا كصورتي، "فحذف المضاف، ووصل المضاف إليه بالفعل، وفي حديث أبي قتادة عند البخاري" ومسلم أيضًا بلفظ: "من رآني فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتراءى بي"، بالراء، بوزن يتعاطى، ومعناه: لا يستطيع أن يتمثل بي" أي: المقصود منه ذلك، إذ المعنى ما يعني من اللفظ، ولو مجازًا، فإن معناه الحقيقي النظر؛ كما في القاموس لا الاستطاعة، فاستعمله في لازمه، فإن من نظر شيئًا تصوره، أو ضمن ترائى معنى تصور فعداه بالباء وإلا فهو متعد بنفسه، وهذا على ما اقتصر عليه هنا من ن الرواية، بالراء المهملة، وهي رواية لأبي ذر وحده للبخاري، ورواه الباقون بالزاي المنقوطة، أي: لا يظهر في زيي، كما بينه المصنف وغيره، "يعني: إن الله وإن أمكنه من التصور في أي صورة أراد، فإنه لم يمكنه التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم" فهذا الحديث يقيد مطلق الأحاديث قليلة المفيدة أنه لا يتمثل به على أي صفة كانت، "وقد ذهب إلى هذا جماعة" منهم الحكيم الترمذي وعياض، "فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان"، أي وجد خلق "عليها في الدنيا، ومنهم من ضيق الذرع في ذلك" فبالغ "حتى قال: لا بد أن يراه على صورته التي قبض عليها حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة" فإنما تصح رؤياه عند هؤلاء لأحد رجلين، صحابي رآه فعلم صفته، فانطبع في نفسه مثاله، فإنه رآه جزم بأنه رأى مثاله المعصوم من الشيطان، والثاني رجل تكررت عليه صفاته المنقولة في الكتب حتى انطبعت في نفسه صفاته ومثاله المعصوم، كما حصل ذلك لمن شاهده فإذا رآه جزم برؤية مثاله، وأما غير هذين فلا يحصل الجزم بأنه رآه، ولو وجد في نفسه أن
وعن حماد بن زيد عن أيوب قال: كان محمد -يعني ابن سيرين- إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: صف الذي رأيت، فإن وصف له صفة لا يعرفها قال: لم تره، وسنده صحيح.
وقد أخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب قال: حدثني أبي.
المرئي هو النبي، أو قال له قائل هذا النبي بل يجوز أنه رأى تمثاله، ويحتمل أنه من تخييل الشيطان، ولا يفسده قوله للذي يراه: أن رسول الله، ولا قول من يحضر معه، ذكر العلامة الشهاب القرافي في قواعده ناسبًا له للعلماء، أي بعضهم قائلا: إنه من المهم، وتعقبه من قال: لقد ضيقت واسعًا، وما على الذي قلته دليل ولا برهان إلا مجرد دعوى الحق في خلافها، والمعبرون على خلاف هذا الشرط، ويبطله رؤيا الله تعالى ورؤيا الملائكة، فإنه يلزمك أن لا تصلح رؤيا الله، فإنه لا صورة له حتى يتمثل لنا، انتهى.
وزعم بعض أن القرافي أخذ بعضه من كلام شيخه العز بن عبد السلام بعيد، فلفظه: كيف تقولون إنه رآه شابًا وشيخًا وأسود وأبيض وغير ذلك، وأجيب بأن هذه صفات الرائين، وأحوالهم تظهر فيه عليه الصلاة والسلام، وهو كالمرأة لهم، فإن قلت: كيف يبقى المثال مع هذه الأحوال المضادة له؟ قلت: لو كان لك أب شاب فغبت عنه، ثم وجدته شيخًا أو أصابه مرض فاصفر، أو اسود، أتشك أنه أبوك؟ فما ذاك إلا لما ثبت في نفسك من مثاله المتقدم عندك، فكذلك من ثبت عنده حال النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك فيه مع عروض هذه الأحوال، وإذا حصل له الضبط فرآه على غير صفته، دل على ظلم الرائي، انتهى، لكن هذا يشكل على الحكمة الثانية المتقدمة.
"وعن حماد بن زيد" بن درهم الأزدي البصري، ثقة، ثبت، فقيه، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وله إحدى وثمانون سنة، "عن أيوب" بن كيسان السختياني، البصري، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وله خمس وستون سن، "قال: كان محمد، يعني ابن سيرين" الأنصاري، أبو بكر البصري، ثقة، ثبت، عابد، كبير القدر، لا يرى الرواية بالمعنى مات سنة عشر ومائة، "إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صف الذي رأيت فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم تره" وإنما رأيت مثالا خيل لك أنه مثاله، أخرجه إسماعيل القاضي، "وسنده صحيح".
قال الشامي: وجرى عليه علماء التعبير، فإذا قال الجاهل: رأيته، سئل عن صفته، فإن وافقها فذاك، وإلا فلا يقبل منه.
"وقد أخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب" بن شهاب الجزمي، الكوفي، صدوق رمي بالإرجاء، روى له مسلم والأربعة ومات سنة بضع وثلاثين ومائة، "قال: حدثني أبي" كليب بن شهاب بن المجنون، صدوق، من كبار التابعين، ووهم من ذكره في الصحابة، روى له
قال: قلت لابن عباس، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قال: صفه لي، قال: فذكرت الحسن بن علي فشبهته به، قال: قد رأيته، وسنده جيد.
لكن يعارضه: ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني، فإني أرى في كل صورة". وفي سنده ابن التوأمة وهو ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: رؤيته بصفته المعلومة إدراك له على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة، وإدراك الصفات إدراك المثال.
الحسن بن علي، فشبهته به" لأنه كان يشبهه، كما قال الصديق، وقد حمله:
بأبي شبيه بالنبي
…
ليس شبيهًا بعلي
وعلي يضحك كما في الصحيحين، "قال: قد رأيته، فدل ذلك على أن رؤياه إنما تصح لرائيه على صفته "وسنده جيد"، أي مقبول "لكن يعارضه ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني، فإني أرى في كل صورة صورتي أو غيرها". وفي سنده ابن التوأمة، بفتح الفوقية وسكون الواو بعدها همزة مفتوحة، وصوابه صالح مولى التوأمة، وهو صالح بن نبهان المدني، التابعي الصغير، "هو" صدوق اختلط فهو "ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط".
قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه، كان أبي ذئب وابن جرير، مات سنة خمس أو ست وعشرين ومائة، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، وأخأه من زعم أن البخاري أخرج له.
"قال القاضي أبو بكر" محمد "بن العربي" الحافظ الفقيه المالكي: "رؤيته صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة" التي كان عليها "إدراك له على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة، وإدراك الصفات إدراك المثال" لا الحقيقة، فالأولى لا تحتاج إلى تعبير، والثانية تحتاجه، وللصوفية ما يوافق معنى هذا وإن اختلف اللفظ، حيث قالوا: هنا ميزان يجب التنبه به، وهو أن الرؤيا الصحيحة أن يرى بصورته الثابتة بالنقل الصحيح، فإن رآه بغيرها، كطويل، أو قصير، أو شيخ، أو شديد السمرة لم يكن رآه، وحصول الجزم في نفس الرائي بأنه رآه غير حجة، بل ذلك المرئي
قال: وقد شذ بعض القدرية فقال: الرؤيا لا حقيقة لها أصلا.
قال وقوله: "فسيراني" معناه فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق وغيب، وأما قوله:"فكأنما رآني" فهو تشبيه ومعناه: أنه لو رآني في اليقظة لطابق ما رآه في المنام، فيكون الأول حقًا وحقيقة، والثاني حقًا وتمثيلا.
قال: وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة، فإن رآه على خلاف صفته فهي أمثال. فإن رآه مقبلا عليه مثلا فهو خير للرائي، وعلى العكس فبالعكس.
وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بقوله: "فقد رآني" أو: "فقد رأى الحق" أن من رآه على صورته المعروفة في حياته كانت رؤياه حقًا، ومن رآه على
صورة الشرع بالنسبة لاعتقاد الرائي، أو خياله، أو صفته، أو حكم من أحكام الإنسان، أو بالنسبة للمحل الذي رأى فيه تلك الصورة.
قال القونوي كابن العربي: وقد جربناه فوجدناه لم ينخرم.
"قال" القاضي ابن العربي: "وقد شذ بعض القدرية، فقال: الرؤيا" من حيث هي للنبي أو لغيره "لا حقيقة لها أصلا" لأنهم حالوا الوقوف على حقيقتها بالعقل، وهي لا تدرك به، وهم لا يصدقون بالسمع، فنفوا عنها الحقيقة، وقالوا: إنما هي خيالات لا أصل لها كما بينه ابن العربي نفسه، وكذا غيره.
"قال" ابن العربي: "وقوله: "فسيراني" معناه: فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق" في نفس الأمر "وغيب" عنًا.
وأما قوله: "فكأنما رآني"، فهو تشبيه، ومعناه: أنه لو رآني في اليقظة لطابق ما رآه في المنام، فيكون الأول، وهو رؤيته يقظة "حقًا وحقيقة" أي: محققًا، "والثاني" أي رؤيا المنام "حقًا وتمثيلا، قال: وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة" بأن كان صحابيًا، أو تكررت عليه صفته من الكتب كما مر "فإن رآه على خلاف صفته فهي أمثال أي أمور شبهت له في المنام تدل على ما يحصل له يقظة "فإن رآه مقبلا عليه مثلا، فهو خير لرائي، وعلى العكس، أي: مدبرًا عنه "فبالعكس"، أي: فهو شر للرائي، لكن لا يظهر تفريع هذا على مقابله، إذ مجرد رؤياه مقبلا أو مدبرًا لا ينافي أنه رآه على صفته الأصلية، فالأولى لو مثل بنحو من رآه شيخًا، أو شابًا، أو جسمًا ملأ البلد الذي هو فيه.
"وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بقوله: "فقد رآني"، أو: "فقد رأى الحق" أن من رآه على صورته المعروفة في حياته كانت رؤياه حقًا، ومن رآه على غير
غير صورته كانت رؤيا تأويل، انتهى.
وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف، بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها، انتهى.
وتعقبه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فقال: لم يظهر لي في كلام القاضي عياض ما ينافي ذلك، بل ظاهر قوله أنه يراه حقيقة في الحالتين، لكن في الأولى تكون الرؤيا مما لا تحتاج إلى تعبير، والثانية: مما تحتاج إلى التعبير.
وقال بعضهم: معناه، أن من رآه على صورته التي كان.
صورته كانت رؤيا تأويل" بأن يؤول بما يناسب ما رآه من خير وغيره، "انتهى".
"وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف، بل الصحيح أنه يراح حقيقة، سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها. انتهى".
وتبعه عليه بعض المحققين، ثم قال: فإن قيل كيف يرى على خلاف صورته، ويراه شخصان في ليلة واحدة في مكانين، والبدن الواحد إنما يكون في مكان واحد، قلنا: التغيير في صفاته لا في ذاته، فتكون ذاته مرئية وصفاته متخيلة غير مرئية، والإدراك لا يشترط فيه تحقق الإبصار، ولا قرب المسافة، ولا كون المرئي ظاهرًا على الأرض، أو مدفونًا فيها، وإنما الشرط كونه موجودًا، انتهى.
"وتعقبه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر، فقال: لم يظهر لي من كلام القاضي عياض ما ينافي ذلك" الذي ذكره النووي أنه يراه حقيقة مطلقًا، "بل ظاهر قوله" أي: كلام عياض المذكور "أنه يراه حقيقة في الحالتين" رؤياه على صورة حياته وعلى غيرها؛ "لكن في الأولى تكون الرؤيا مما لا تحتاج إلى تعبير، والثانية مما تحتاج إلى التعبير" فإذا رآه على غير صورته، كان المراد منها أمرًا يحصل للرائي، فهي حق من هذا الوجه، وفي المفهم للقرطبي اختلف في معنى الحديث، فقال قوم من القاصرين: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رآه على حقيقته، كمن يراه في اليقظة سواء، وهو قول يدرك فساده ببادئ العقل، إذ يلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه اثنان في وقت واحد في مكانين وأن يحيا الآن، ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويخلو قبره عنه فيزار مجرد القب، ويسلم على غائب، لأنه يرى ليلا ونهارًا على اتصال الأوقات وهذه جهالات لا يلتزمها من له أدنى مسكة من عقل، وملتزم ذلك مختل مخبول.
"وقال بعضهم" ولفظ القرطبي: طائفة، "معناه: أن من رآه على صورته التي كان
عليها. ويلزم من قول من قال: "إنها لا تكون إلا على صورته المعلومة" أن من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من أضغاث الأحلام. ومن المعلوم أنه يرى في النوم على حالة بخلاف حالته في الدينا من الأحوال اللائقة به، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله: فإن الشيطان لا يتمثل بي. فالأولى أن تنزه رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه، أو مما ينسب إليه عن ذلك، فإنه أبلغ في الحرمة، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان في يقظته.
فالصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة ولا أضغاثًا، بل هي حق في نفسها، ولو رؤي على غير صورته، فتصور تلك الصور ليس من الشيطان، بل هو من قبل الله تعالى.
عليها" فقد رآه حقًا، فهو شرط حذف جوابه، أو قوله على صورته معمول لمقدر، أي: من رآه على صورته، "ويلزم من قول من قال: إنها لا تكون إلا على صورته المعلومة"، أخصر منه قول القرطبي: ويلزم منه "أن من رآه على غير صفته، أن تكون رؤياه من أضغاث الأحلام" والأحاديث تأبى ذلك، "ومن المعلوم أنه يرى في النوم على حالة بخلاف حالته في الدنيا من الأحوال اللائقة به" ومع ذلك تكون الرؤيا حقًا كما لو رآه ملأ بلدًا أو دارًا بجسمه، فإنه يدل على امتلاء البلدة بالحق والشرع، وتلك الدار بالبركة، وكثيرًا ما وقع ذلك.
هذا أسقطه المصنف من القرطبي، "ولو تمكن الشيطان من التمثل بشيء مما كان عليه، أو ينسب إليه لعارض عموم قوله: "فإن الشيطان لا يتمثل بي" إذ هو نفي مطلق، "فالأولى، أي الأحق "أن تنزه رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه" كعمامته ونحوها، "أو مما ينسب إليه عن ذلك، فإنه أبلغ في الحرمة، أي: الاحترام والتعظيم، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان في يقظته"، بفتح القاف، "فالصحيح في تأويل هذا الحديث؛ أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة" سواء كان صفته أم غيرها "ليست باطلة ولا أضغاثًا" أخلاط أحلام "بل هي حق في نفسها، ولو رؤي على غير صورته فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان بل هو من قبل الله تعالى" مثل الله ذلك للرائي بشرى، فينبسط للخير، أو إنذارًا، فينزجر عن الشر تنبيهًا على خير يحصل، وقد ذكرنا أن المرئي في المنام أمثلة المرئيات لا أنفسها غير أن تلك الأمثلة تارة تطابق حقيقة المرئي، وتارة لا تتم المطابقة، وقد تظهر في اليقظة كذلك، فالمقصود بتلك الصورة معناها لا عينها، ولذا خالف المثال صورة المرئي بزيادة أو نقص، أو تغير لون، أو
وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب وغيره. ويؤيده قوله "فقد رأى الحق" أشار إليه القرطبي.
وقال ابن بطال: قوله: "فسيراني في اليقظة" يريد تصديق ذلك في اليقظة وصحتها وخروجها على الوجه الحق، وليس المراد أنه يراه في الآخرة، لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة جميع أمته، ومن رآه في النوم ومن لم يره.
وقال المازري: إن كان المحفوظ "فكأنما رآني في اليقظة" احتمل أن يكون أراد عصره ممن لم يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة أن يراه بعد ذلك في اليقظة.
زيادة عضو تنبيهًا على معاني الأمور.
هذا أسقطه من كلام القرطبي "وهذا قول القاضي أبي بكر" محمد "بن الطيب" بن محمد القاضي، المعروف بابن الباقلاني، الملقب بشيخ السنة ولسان الأمة، البصري، ثم البغدادي المالكي، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، وكان حسن الفقه، عظيم الجدل، وله بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة، وورده عشرون ركعة كل ليلة، ما تركها حضرًا ولا سفرًا، وإذا قضى ورده كتب خمسًا وثلاثين ورقة تصنيفًا من حفظه مات سنة ثلاث وأربعمائة "وغيره، ويؤيده قوله: "فقد رأى الحق"، أشار إليه القرطبي" في شرح مسلم، وحاصل كلامه أن رؤياه بصفته إدراك لذاته، فلا تحتاج لتعبير، وبغيرها إدراك لمثاله، فتحتاج إلى التعبير.
وقال ابن بطال" أبو الحسن في شرح البخاري: "قوله: فسيراني في اليقظة"، يريد به أنه يرى "تصديق ذلك في اليقظة وصحتها"، أي: رؤياه "وخروجها على الوجه الحق" ولا يلزم منه أنه يرى ذاته يقظة، "وليس المراد أنه يراه في الآخرة؛ لأنه سيراه يوم القيامة جميع أمته، ومن رآه في النوم ومن لم يره" فلا معنى لقصر الحديث عليه، ويأتي الجواب بأنه يراه بصفة خاصة.
"وقال" أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي "المازري" بفتح الزاي وكسرها، نسبة إلى مازر جزيرة بصقلية، الإمام الفقيه، العلامة الشهير في شرح إحدى روايتي مسلم، وهي التي بالشك:"إن كان المحفوظ: فكأنما رآني في اليقظة، فمعناه ظاهر" لأنه تشبيه "وأن المحفوظ فسيراني في اليقظة"، وهو المجزوم به في الصحيحين.
"احتمل أن يكون أراد أهل عصه ممن لم يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة" فيوفقه الله للهجرة إليه والتشرف برؤيته
وأوحى الله بذلك إليه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: معناه سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها.
وأجاب القاضي عياض: باحتمال أن تكون رؤياه في النوم على الصفة التي عرف بها، ووصف عليها، موجبة لتكرمته في الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه، أو الشفاعة له، بعلو الدرجة ونحو ذلك من الخصوصيات. قال: ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنع رؤيته صلى الله عليه وسلم مدة.
وحمله ابن أبي جمرة على محمل آخر فذكر عن ابن عباس أو غيره، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فبقي بعد اليقظة متفكرًا في هذا الحديث، فدخل على بعض أمهات المؤمنين -ولعلها خالته ميمونة- فأخرجت له المرآة التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فنظر فيها صورة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ير صورة نفسه.
ولقائه، "وأوحى الله بذلك إليه صلى الله عليه وسلم" فأخبر به "وقيل: معناه سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها" أي: يرى يقظة ما يصلح أن يكون تأويلا للرؤيا وهذا اختاره ابن بطال نافيًا قول من قال: سيراه في الآخرة لأنها لا تختص بمن رآه منامًا.
"وأجاب القاضي عياض" عنه "باحتمال أن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عرف بها ووصف عليها" في الأحاديث "موجبة لتكرمته في الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه" عطف تفسير لتكرمته، أي: بالقرب منه "أو الشفاعة له بعلو الدرجة" في الجنة زيادة على الشفاعة العامة وعلى إدخال الجنة، "ونحو ذلك من الخصوصيات".
"قال" عياض: "ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في" يوم "القيامة" قبل دخول الجنة "بمنع رؤيته صلى الله عليه وسلم مدة" فلا يضر قائل معنى: فسيراني في اليقظة أنه يراه في الآخرة، كون أمته جميعًا يرونه فيها، لأنهم وإن اشتركوا في الرؤية يختلفون في وقتها وصفتها.
"وحمله" الإمم "ابن أبي جمرة" بجيم وراء "على محمل آخر، فذكر عن ابن عباس أو غيره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فبقي بعد اليقظة متفكرًا في هذا الحديث" أي: معنى قوله: "فسيراني في اليقظة""فدخل على بعض أمهات المؤمنين ولعلها خالته ميمونة"؛ إن كان الرائي ابن عباس لأنه لم يجزم به أولا، "فأخرجت له المرأة" بكسر الميم على وزن فعلاة معروفة، وجمعها مراء كنواص؛ كما في المصباح "التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فنظر فيها صورة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ير صورة نفسه" فدل ذلك على أن معناه رؤية صورته في مرآته وإن أمكن، ويأتي إن هذا أبعد المحامل.
وقال الغزالي: ليس معنى قوله: "فقد رآني" أنه رأى جسمي وبدني وإنما المراد أنه رأى مثالا صار ذلك المثال آلة يتأذى بها المعنى الذي في نفسي إليه، وكذلك قوله:"فسيراني في اليقظة" ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني. قال: والآية تارة تكون حقيقية وتارة تكون خيالية. والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق. قال: ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره، ويكون ذلك المثال آلة حقًا في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرائي: رأيت الله عز وجل في المنام، ولا يعني أني رأيت ذات الله تعالى، كما يقول في حق غيره.
وقال الغزالي أيضًا في بعض فتاويه: من رأى الرسول -يعني في المنام- لم ير حقيقة شخصه الودع روضة المدينة، وإنما رأى مثاله لا شخصه، ثم قال: وذلك المثال مثال روحه المقدسة عن الصورة.
"وقال الغزالي: ليس معنى قوله: "فقد رآني أنه رأى جسمي وبدني" حقيقة، "وإنما المراد أنه رأى مثالا صار ذلك المثال آلة يتأذى بها المعنى الذي في نفسي إليه، وكذلك قوله:"فسيراني في اليقظة" ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني، بل المثال، "قال: والآلة تارة تكون حقيقية وتارة تكون خيالية. والنفس" أي الذات "غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق. قال" الغزالي:"ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته" أي: الأمور التي تتعقل بها ذاته "تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره" تقريبًا لعقله، "ويكون ذلك المثال آلة حقًا في كونه واسطة في التعريف" أي: التعقل، "فيقول الرائي: رأيت الله عز وجل في المنام، ولا يعني أني رأيت ذات الله تعالى، كما يقول في حق غيره، بل يعني أنه رأى مثالا علم به بعض صفاته المميزة له عن غيره؛ لأن رؤية ذات الله تعالى لا تجوز يقظة في الدنيا، فكذا منامًا لا ترى حقيقة، بل مثالا.
"وقال الغزالي أيضًا في بعض فتاويه: من رأى الرسول -يعني في المنام- لم ير حقيقة شخصه الودع روضة المدينة"، أي: قربها، إذ هي بين القبور المنبر؛ كما في الحديث، "وإنما رأى مثاله لا شخصه، ثم قال: وذلك المثال مثال روحه المقدسة عن الصورة والشكل"
والشكل.
وقال الطيبي: المعنى من رآني في المنام بأي صفة كنت فليبشر وليعلم أنه قد رآني الرؤيا الحق، أي رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله:"فقد رآني" فالشرط والجزاء إذا اتحدا دل على الغاية في الكمال، أي فقد رآني رؤيا ليس بعدها شيء.
والحاصل من الأجوبة أنه على التشبيه والتمثيل ويدل عليه قوله "فكأنما رآني في اليقظة".
ثانيها: معناه، سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة.
ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.
رابعها: المراد أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك، قال شيخ مشايخنا الحافظ ابن حجر: وهذا من أبعد المحامل.
فحاصله أن المرئي ليس ذات الروح ولا الشخص كما قاله قبل.
"وقال الطيبي" في شرح المشكاة: "المعنى: من رآني في المنام بأي صفة كنت فليبشر"، بفتح الياء والشين، "وليعلم أنه قد رآني الرؤيا الحق، أي رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله: "فقد رآني" فالشرط والجزاء إذا اتحدا" صورة "دل على الغاية في الكمال، أي فقد رآني رؤيا ليس بعدها شيء" أي: فقد رأى حقيقتي على كمالها، لا شبهة ولا ارتياب فيما رأى؛ كما هو بقية كلام الطيبي.
زاد الكرماني: أو هو في معنى الإخبار، أي: من رآني، فأخبره بأن رؤياه حق ليست من أضغاث الأحلام، ولا تخييلات الشيطان، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم، أي في أسامة بن زيد:"إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبله" فيؤول بالإخبار، أي: إن طعنتم فيه، فأخبركم بأنكم طعنتم في أبيه أو يلازمه عند البيانية، أي: إن طعنتم فيه أثمتم بذلك.
"والحاصل من الأجوبة" المذكورة في قوله: "فسيراني في اليقظة" خمس تأويلات:
أولها: "أنه على التشبيه والتمثيل" عطف تفسير. ويدل عليه قوله: "فكأنما رآني اليقظة" بناء على ثبوته، إذ هو بالشك؛ كما مر.
"ثانيها: معناه، سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة".
"ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه" فيهاجر ويراه.
"رابعها: المراد أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذك".
"قال شيخ مشايخنا الحافظ ابن حجر: وهذا من أبعد المحامل" إذ لا دليل عليه، ورؤية ابن عباس أو غيره إن تثبت لا تدل على التخصيص.
خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من رآه حينئذ ممن لم يره في المنام.
والصواب كما قدمناه في رؤيته عليه الصلاة والسلام التعميم، على أي حالة رآه الرائي بشرط أن تكون على صورته الحقيقية في وقت ما، سواء كان في شبابه أو رجوليته أو كهوليته، أو آخر عمره، وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي، كما قال بعض علماء التعبير: إن رآه شيخًا فهو غاية سلم، ومن رآه شابًا فهو غاية حرب.
وقال أبو سعيد أحمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيًا على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح حال الرائي وكمال جاهه وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسًا مثلا فذلك دل على سوء حال الرائي.
"خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية" من نحو قرب أو شفاعة برفع درجات، "لا مطلق من رآه حينئذ ممن لم يره في المنام" وزيد سادس: وهو أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه.
وقال القرطبي: من فوائد رؤياه صلى الله عليه وسلم تسكين شوق الرائي لكونه صادقًا في محبته ليعمل على مشاهدته، وإلى ذلك الإشارة بقوله:"فسيراني في اليقظة"، أي: أن من رآني رؤية معظم لحرمتي ومشتاق إلى مشاهدتي، وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بمطلوبه.
قال: ويجوز أن يكون مقصود تلك الرؤيا معنى صورته، وهو دينه وشريعته، فتعبر بحسب ما يراء الرائي من زيادة أو نقصان، أو إساءة أو إحسان.
قال الحافظ: وهذا جواب سابع والذي قبله لم يظهر لي، وإن ظهر فهو ثامن.
"والصواب كما قدمناه في رؤيته عليه الصلاة والسلام التعميم على أي حالة رآه الرائي" لأنه ظاهر الأحاديث الصحيحة، إذ لم يقيد فيها بأنه على صورته، "بشرط أن تكون على صورته الحقيقية في وقت ما"، أي: وقت كان، "سواء كان في شبابه أو رجوليته أن كهوليته، أو آخر عمره، وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي، كما قال بعض علماء التعبير: إنه رآه شيخًا فهو غاية سلم"، بالفتح والكسر: صلح، لأن الشيخ لا حرب عنده غالبًا "ومن رآه شابًا فهو غاية حرب"، لأنه دأب الشباب.
"وقال أبو سعيد أمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيًا" أي نبي كان "على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح حال الرائي وكمال جاهه وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسًا مثلا فذلك دل على سوء حال الرائي"؛ لأن الأرض لا تغير الأنبياء، وهذا تقدم بمعناه عن ابن العربي.
وقال العارف ابن أبي جمرة: من رآه في صورة حسنة فذلك حسن في دين الرائي، وإن كان في جوارحه شين أو نقص فذلك خلل في الرائي من جهة الدين. قال: وهذا هو الحق. فقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه حتى يتبين للرائي هل عنده خلل أم لا؟ لأنه عليه الصلاة والسلام نوراني مثل المرآة الصقيلة، ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها، وفي ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها، وكذلك يقال في كلامه عليه السلام في النوم أنه يعرض على سنته، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل في سمع الرائي، فرؤيا الذات الكريمة حق، والخلل إنما هو في سمع الرائي له أو بصره، قال: وهذا خير ما سمعته في ذلك، انتهى.
وقال بعضهم: ليست رؤياه صلى الله عليه وسلم رؤيا عين، وإنما يرى بالبصائر، وذلك لا يستدعي حصر المرئي بل يرى من المشرق إلى المغرب.
"وقال العارف" الرباني عبد الله "ابن أبي جمرة" المقرئ، نزيل مصر، عالم، عابد، خير، من بيت كبير بالمغرب، شهير الذكر: الشيطان لا يتصور بصورته أصلا، فـ"من رآه في صورة حسنة فذلك حسن في دين الرائي، وإن كان في جوارحه شين أو نقص فذلك خلل في الرائي من جهة الدين" فتدل رؤياه على شين أو نقص دينه أي: الطريق، "قال: وهذا هو الحق. فقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه حتى يتبين للرائي هل عنده خلل أم لا؟ لأنه عليه الصلاة والسلام نوراني مثل المرآة الصقيلة، ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها، وهي في ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها" فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم هو على صفته التي ليس شيء أحسن منها، والتغير إنما هو في صفة الرائي، "وكذلك يقال في كلامه عليه السلام في النوم أنه يعرض على سنته، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل في سمع الرائي" لأنه لا يضبط ما يقال له "فرؤيا الذات الكرمة حق، والخلل إنما هو في سمع الرائي له أو بصره".
"قال: وهذا خير ما سمعته" أي: أحسن الوجوه التي سمعتها "في ذلك" قال: ويؤخذ من قوله: "فإن الشيطان
…
إلخ"، أن من تمثلت صورة المصطفى في خاطره من أرباب القلوب، وتصور له في عالم سره أنه يكلمه، أن ذلك يكون حقًا، بل هو أصدق من مرئي غيرهم. "انتهى" كلام ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى.
"وقال بعضهم: ليست رؤياه صلى الله عليه وسلم" في المنام "رؤيا عين" كرؤية اليقظة، "وإنما يرى بالبصائر، وذلك لا يستدعي حصر المرئي" في محل، "بل يرى من المشرق إلى المغرب،
ومن الأرض إلى العرش، كما ترى الصورة في المرأة المحاذية لها، وليست الصورة متنقلة إلى جرم المرآة، وعين الناظر مقابلة جميع الكائنات كالمرآة.
واختلاف رؤياه صلى الله عليه وسلم بأن يراه بعضهم شيخًا وآخر شابًا، وآخر ضاحكًا وآخر باكيًا، يرجع إلى الرائين، كاختلاف الصورة الواحدة في مرائي مختلفة الأشكال والمقادير، ففي المرآة الكبيرة يرى وجهه كبيرًا، وفي الصغيرة صغيرًا، وفي المعوجة معوجًا، وفي الطويلة طويلا، إلى غير ذلك، فالاختلاف راجع إلى اختلاف أشكال المرائي، لا إلى وجه المرائي.
كذلك الراءون له عليه السلام أحوالهم بالنسبة إليه مختلفة، فمن رآه متبسمًا إليه دل على أن الرائي متمسك بسنته، والله أعلم.
وقد أجاب الشيخ بدر الدين الزركشي عن سؤال رؤية جماعة له صلى الله عليه وسلم في آن واحد من أقطار متباعدة، مع أن رؤيته صلى الله عليه وسلم حق بأنه صلى الله عليه وسلم سراج، ونور الشمس في هذا العالم، مثال نوره في العوالم كلها، وكما أن
"ومن الأرض إلى العرش، كما ترى الصورة في المرآة المحاذية لها، وليست الصورة متنقلة إلى جرم المرآة" إنما هي مثال، "وعين الناظر مقابلة جميع الكائنات كالمرآة واختلاف رؤياه صلى الله عليه وسلم بأن يراه بعضهم شيخًا" أي: ما قابل الشباب فيشمل الكهل، "وآخر شابًا، وآخر ضاحكًا وآخر باكيًا، يرجع إلى الرائين، كاختلاف الصورة الواحدة في مرائي" بزنة نواص: جمع مرآة، بكسر الميم، "مختلفة الأشكال والمقادير، ففي المرآة الكبيرة يرى وجهه كبيرًا، وفي الصغيرة صغيرًا، وفي المعوجة معوجًا، وفي الطويلة طويلا، إلى غير ذلك، الاختلاف راجع إلى اختلاف أشكال المرائي" جمع مرآة، "لا إلى وجه المرائي" إذ لا تختلف ذاته، "كذلك الراءون له عليه السلام أحوالهم بالنسبة إليه مختلفة، فمن رآه متبسمًا إليه، دل على أن الرائي متمسك بسنته، والله أعلم".
وفي الوردية:
رؤيا محمد سرور كامله
…
وليس للشيطان أن يماثله
"وقد أجاب الشيخ بدر الدين الزركشي عن سؤال رؤية جماعة" إضافة بيانية "له صلى الله عليه وسلم في آن واحد من أقطار" نواح "متباعدة، مع أن رؤيته صلى الله عليه وسلم حق" وهو حي في قبره، يصلي فيه بأذان وإقامة، "بأنه صلى الله عليه وسلم سراج"، كما قال تعالى:{وَسِرَاجًا مُنِيرًا} ، "ونور الشمس في هذا العالم، مثال نوره في العوالم" بكسر اللام: جمع عالم بفتحها لأن فاعل يجمع على فواعل، "وكما أن
الشمس يراها من في المشرق والمغرب في ساعة واحدة وبصفات مختلفة فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولله در القائل:
كالبدر من أي النواحي جئته
…
يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا
وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته عليه الصلاة والسلام فقال شيخنا: لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة، ولا عن من بعدهم.
وقد اشتد حزن فاطمة عليه صلى الله عليه وسلم حتى ماتت كمدًا بعده بستة أشهر -على الصحيح- وبيتها مجاور لضريحه الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه.
الشمس يراها من في المشرق والمغرب في ساعة واحد"، وهي في محلها، "وبصفات مختلفة فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم" إذ نوره أتم وأعلى منها، "ولله در القائل"
"كالبدر من أي النواحي جئته
…
يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا"
كالشمس في كبد السماء وضوءها
…
يغشى البلاد مشارقًا ومغاربا
وهذا الجواب نسبه بعضهم للصوفية، وقال: هو باطل، فإنه صلى الله عليه وسلم يراه زيد في بيته، وعمرو كذلك في بيته بجملته، والشمس إنما ترى من أماكن عدة، وهي في مكان واحد، فلو رؤيت داخل بيت بجرمها، استحال رؤية جرمها داخل بيت آخر، وهذا هو الذي يوازي رؤيته صلى الله عليه وسلم في بيتين، والإشكال، إنما يراد في رؤيته في مواضع عدة، وإذا ورد بحسب ما قلنا، فلا يتجه الجواب إلا بإثبات الأمثال وتعدادها، فالمرئي في آن واحد في مكانين مثالان، فلا إشكال.
"وإما رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة" بفتح القاف "بعد موته عليه الصلاة والسلام فقال شيخنا" السخاوي: "لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة، ولا عن من بعدهم" كالتابعين، ولم يرد في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما قد يؤخذ من قوله:"فسيراني في اليقظة" على أحد الاحتمالات، بخلاف حديث رؤياه منامًا، فقال السيوطي: إنه متواتر، وأيد عدم الورود بقوله:"وقد اشتد حزن فاطمة" رضي الله عنها "عليه صلى الله عليه وسلم حتى ماتت كمدًا"، بفتح فسكون، وبفتحتين: حزنًا شديدًا "بعده بستة أشهر على الصحيح" الثابت في البخاري وغيره عن عائشة، وقيل: بثمانية أشهر، وقيل: أربعة، وقيل: شهرين، وقيل غير ذلك، "وبيتها مجاور لضريحه" أي قبره "الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه" فلو كان يرى في اليقظة لرأته لاشتداد حزنها، ولم يقع ذلك، إذ لو وقع لنقل، ورد هذا بأن عدم نقله لا يدل على عدم وقوعه، وتعقب أنه ظاهر لو جعله لمانع دليلا قطعيًا على أنه لا يرى يقظة، وإنما جعله ظاهرًا في عدم وقوعه لفاطمة، وقول غيرها أنه يراه يقظة مؤول فلا يتم أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل.
وإنما حكى بعض الصالحين حكايات عن أنفسهم، كما هو في كتاب "توثيق عرى الإسلام" للبارزي و"بهجة النفوس" لأبي محمد عبد الله بن أبي جمرة و"روض الرياحين" للعفيف اليافعي، وغيره من تصانيفه والشيخ صفي الدين ابن أبي المنصور في رسالته.
وعبارة ابن أبي جمرة: قد ذكر عن السلف والخلف إلى هلم جرا.
"وإنما حكى بعض الصالحين حكايات عن أنفسهم" أنهم رأوه يقظة، "كما هو في كتاب توثيق عرى الإسلام" للبارزي" القاضي شرف الدين، "وبهجة النفوس" وتحليها بمعرفة ما عليها ولها "لأبي محمد عبد الله بن أبي جمرة" وهو اسم لشرحه على الأحاديث التي انتخبها من البخاري، "وروض الرياحين" للعفيف اليافعي، وغيره من تصانيفه والشيخ صفي الدين ابن أبي المنصور في رسالته، وعبارة ابن أبي جمرة" في بهجة النفوس في قوله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة" هل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته، أو في حياته؟ وهل ذلك لكل من رآه مطلقًا أو خاص بمن فيه الأهلية والاتباع لسنته؟ اللفظ يقتضي العموم، ودعوى الخصوص بغير تخصيص عنه عليه السلام تعسف، فإن خرق العادة قد يقع للزنديق إغواء وإملاء، ثم ذكر متقدم عن ابن عباس أو غيره من رؤية صورته في مرآته، ثم قال:"وقد ذكر عن السلف" لعله أراد بهم من دون من بعد الصحابة، فلا ينافي ما قدمه المصنف عن شيخه، أو أن نفي السخاوي إنما هو من جهة اصطلاح المحدثين بالأسانيد ولو ضعيفة، "والخلف إلى هلم جرا".
قال الشيخ جمال الدين بن هشام: هذا كلام مستعمل في العرف كثيرًا، وذكره الجوهري، فقال: تقول كان ذلك عام كذا وهلم جرا إلى اليوم، وفي عباب الصغني مثله.
وقال ابن الأنباري: معناها سيروا على هينتكم، أي: تثبتوا في سيركم ولا تجهدوا أنفسكم، مأخوذ من الجر، وهو ترك الإبل والغنم ترعى في السير.
وقال أبو حيان في الارتشاف: هلم جرًا معناه: تعال على هينتكم، ونصب جرًا على أنه مصدر في موضع الحال، أي جارين، قال البصريون، وقال الكوفيون: مصدر لأن معنى هلم جر، وقيل: نصب على التمييز، وأول من قاله عابدين بن زيد، قال:
فإن جاوزت مقفرة رمت بي
…
إلى أخرى كتلك هلم
وتوقف ابن هشام في كونه عربيًا محضًا، وأطال في بيانه بأربعة أوجه، منها: أن الجوهري لا يقبل ما تفرد به، كما قال ابن الصلاح، ولم ينقله لغوي قبله، والصغاني تبعه، ثم قال: الظاهر لي على أنه عربي أن هلم هي القاصرة، بمعنى ائت وتعال إلا أن فيها تجوزين، أحدهما: ليس
عن جماعة كانوا يصدقون بهذا الحديث يعني من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أنهم رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم فرأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص.
ثم قال: والنكر لهذا لا يخلو إما أن يكون ممن يصدق بكرامات الأولياء أو لا، فإن كان الثاني فقد سقط البحث معه، فإنه يكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة، وإن كان الأول فهذه منها لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي.
المراد المجيء الحسي، بل الاستمرار على الشيء والمداومة عليه، والثاني: أنه ليس المراد الطلب حقيقة، بل الخبر عبر عنه بالطلب، كما في {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} . وجرًا، مصدر جره إذا سحبه، لكن ليس المراد الحسي، بل التعميم، فإن قيل: كان ذلك عام كذا، وهلم جرا، فكأنه قيل: واستمر في بقية الأعوام استمرار، فهو مصدر أو واستمر مستمرًا فهو حال مؤكدة، وبهذا ارتفع إشكال الضعف، فإن هلم جرًا حينئذ خبر وإشكال التزام إفراد الضمير، إذ فاعل هلم مفرد أبدًا.
"عن جماعة كانوا يصدقون بهذا الحديث يعني من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أنهم رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم فرأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص".
قال السيوطي: وأكثر من يقع له ذلك إنما يقع له قرب موته، أو عند الاحتضار، ويكرم الله من يشاء، "ثم قال" ابن أبي جمرة:"والمنكر لهذا لا يخلو، إما أن يكون ممن يصدق بكرامات الأولياء أو لا" يصدق بها، "فإن كان الثاني فقد سقط البحث معه، فإنه يكذب ما أثبتته السنة" أقواله، وأفعاله، وتقريره، وهممه، وعزمه صلى الله عليه وسلم "بالدلائل" أي: الدلالات "الواضحة" جمع دلالة، وهي ما يقتضيه اللفظ عند إطلاقه لا جمع دليل، فلا يرد أنه لا معنى فثبات السنة بالدلائل إذ هي نفسها، أو المراد بالسنة ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم مما يدل على ثبوت الكرامات، وبالأدلة المثبتة لها الطرق الموصلة إلى العلم بها، أي: أسانيدها، أو المراد أهل السنة بتقدير مضاف أو استعمل السنة في أهلها مجازًا أولياء للتصوير لا متعلقة بأثبتته، أي: السنة التي هي الدلائل أو المراد الأحاديث الواضحة عن أشياء في إثبات كرامات الأولياء، "وإن كان الأول فهذه منها، لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي
والسفلي عديدة مع التصديق بذلك.
وقال الشيخ ابن أبي المنصور في رسالته، ويقال: إن الشيخ أبا العباس بن القسطلاني دخل مرة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ الله بيدك يا أحمد.
وعن الشيخ أبي السعود قال: كنت أزور شيخنا أبا العباس غيره من صلحاء مصر فلما انقطعت واشتغلت وفتح علي، لم يكن لي شيخ إلا النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصافحه عقب كل صلاة.
وقال الشيخ أبو العباس الحرار: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرة فوجدته يكتب مناشير الأولياء بالولاية، قال: وكتب لأخي محمد معهم منشورًا، فقلت: يا سيدي يا رسول الله، ما تكتب لي.
والسفلي عديدة" صفة أشياء "مع التصديق بذلك" أي: متهم لظهور مطابقته الواقع عندهم، أو ممن علموا به، حيث صدقوا بما أخبروا به، ولم ينكروه عليهم، وهو حال من الهاء في لهم أو متعلق بيكشف.
"وقال الشيخ ابن أبي المنصور في رسالته، ويقال: إن الشيخ أبا العباس بن القسطلاني دخل مرة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ الله بيدك يا أحمد. وعن الشيخ أبي السعود" بن أبي العشائر بن سفيان بن الطيب الواسطي، ثم المصري، ذكره الحافظ المنذري في معجم شيوخه وأثنى عليه، وكان من أوسع الأولياء دائرة في السلوك، وله كرامات وخوارق، وكلام عال في الحقائق مات سنة سبع وأربعين وستمائة، ودفن بالقرافة، "قال: كنت أزور شيخنا أبا العباس" البصير، أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، الخزرجي، الأندلسي برع في علوم الشرع ببلده، ثم سافر على قدم التجريد، فدخل الصعيد، ثم أقام بالقاهرة يقرئ الناس وينفعهم، أجاز سبعة آلاف رجل بالقراءات السبع، وكان بارعًا في الحديث، حافظًا لمتونه، عارفًا بعلله ورجاله، حسن الاستنباط بذهن وقاد. مات سنة ثلاث وعشرين وستمائة، "وغيره من صلحاء مصر فلما انقطعت واشتغلت وفتح علي، لم يكن لي شيخ إلا النبي صلى الله عليه وسلم و" ذكر "أنه كان يصافحه عقب كل صلاة" وذلك يقظة، وحسبه بذلك شرفًا، "وقال الشيخ أبو العباس" بن أبي بكر "الحرار" بمهملات كما في الكواكب المضيئة المغربي، الأشبيلي، العابد، الزاهد، صاحب الكرامات، قدم مصر وأقام بها، ومات بعد الستمائة: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرة فوجدته يكتب" أي يأمر بأن يكتب "مناشير" جمع منشور، أي: كتب "الأولياء بالولاية، قال: وكتب لأخي محمد معهم منشورًا" كتابًا "فقلت: يا سيدي يا رسول الله، ما تكتب لي
كأخي؟ قال: أتريد أن تكون قهمارًا. وهذه لغة أندلسية، يعني طرقيًا، وفهم عنه أن له مقامًا غير هذا.
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال": وهم -يعني أرباب القلوب- في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد، انتهى.
ورأيت في كتاب المنح الإلهية في مناقب السادة الوفائية عن سيدي علي ابن سيدي محمد أنه قال في بعض مشاهده: كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ القرآن على رجل يقال له الشيخ يعقوب، فأتيته يومًا فرأيت إنسانًا يقرأ عليه سورة {وَالضُّحَى} وصحبته رفيق له وهو يلوي شدقيه بالإمالة، ورفيقه يضحك إعجابًا، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا منامًا وعليه قميص أبيض قطن، ثم رأيت القميص علي فقال لي: اقرأ فقرأت عليه سورة {وَالضُّحَى} و {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ثم غاب عني، فلما بلغت إحدى وعشرين أحرمت.
كأخي؟ قال: أتريد أن تكون قهمارًا. وهذه لغة أندلسية" بفتح الألف، والدال، وضم اللام، إقليم بالمغرب، "يعني طرقيًا" وخاطبه بها، لأنه من المغرب، "وفهم عنه أن له مقامًا غير هذا".
"وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال": وهم يعني أرباب القلوب في يقظتهم يشاهدون الملائكة" على غير صورهم الأصلية، "وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتًا ويقتبسون" أي: يكتسبون، "منهم فوائد" ثم يرتقي الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، "انتهى" كلام الغزالي بما زدته.
"ورأيت في كتاب المنح الإلهية في مناقب السادة الوفائية عن سيدي علي ابن سيدي محمد" وفي العارف الكبير ابن العارف الشهير، الغنيين بالشهرة عن التعريف، وتقدم بعضه، "أنه قال في بعض مشاهده: كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ القرآن على رجل يقال له الشيخ يعقوب، فأتيته يومًا فرأيت إنسانًا يقرأ عليه سورة {وَالضُّحَى} الآية وصحبته رفيق له وهو يلوي" يميل "شدقيه" جانبي فمه "بالإمالة، ورفيقه يضحك إعجابًا" بقراءة القارئ، ومقتضى يلوي شدقيه أنها لم تكن حسنة، ولعله حكمة أمره عليه الصلاة والسلام لسيدي علي بالقراءة، "فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا منامًا" محل الشاهد، "وعليه قميص أبيض قطن، ثم رأيت القميص عليّ فقال لي: اقرأ فقرأت عليه سورة {وَالضُّحَى} و {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ثم غاب عني، فلما بلغت إحدى وعشرين" سنة "أحرمت بصلاة الصبح بالقرافة"
بصلاة الصبح بالقرافة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبالة وجهي فعانقني فقال لي: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ، فأوتيت لسانه من ذلك الوقت، وصريح هذا أيضًا أنه يقظة.
وأما ما حكاه الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في "لطائف المنن" عن الشيخ أبي العباس المرسي، أنه كان مع الشيخ أبي الحسن الشاذلي بالقيروان في ليلة الجمعة سابع عشر رمضان، فذهب معه إلى الجامع. الحكاية، إلى أن قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا علي طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس
…
إلخ، فيحتمل أن يكون منامًا.
بزاويتهم، "فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبالة وجهي فعانقني فقال لي:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ، فأوتيت لسانه من ذلك الوقت" بأن صرت أتكلم بالكلام الجامع المشتمل على الحكم الكثيرة، والمواهب الربانية، "انتهى، وصريح هذا أيضًا أنه يقظة".
"وأما ما حكاه الشيخ تاج الدين" أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الكريم "بن عطاء الله" الجذامي، الإسكندراني، الإمام المتكلم على طريقة الشاذلي، كان جامعًا لأنواع العلوم من تفسير وحديث ونحو وأصول وفقه مالكي، وتصوف، وكان أعجوبة زمانه، وله تصانيف كثيرة؛ كاختصار المدونة للبرادعي، مات سنة تسع وسبعمائة، ودفن بالقرافة، "في لطائف المنن" في مناقب الشيخ أبي العباس، والشيخ أبي الحسن،"عن الشيخ أبي العباس المرسي" بضم الميم نسبة إلى مرسية مدينة بالمغرب، أحمد بن عمر الأنصاري، المالكي، العارف الشهير قطب زمانه، ورأس أصحاب أبي الحسن الشاذلي، مات بالإسكندرية سنة ست وثمانين وستمائة، "أنه كان مع الشيخ أبي الحسن الشاذلي" بمعجمة، ومهملة، الشريف علي بن عبد الله بن عبد الجبار، العلوي الهاشمي، من ذرية محمد بن الحنفية.
قال ابن دقيق العيد: ما رأيت أعرف بالله منه، وقال ابن عطاء الله: نشأ بالمغرب الأقصى ومبدأ ظهوره بشاذلة، وله السياحات الكثيرة والمنازلات الجليلة والعلوم الكثيرة، لم يدخل في طريق الله تعالى حتى كان يعد للمناظرة في العلوم الظاهرة، ذو علوم جمة، جاء في هذا الطريق بالعجب العجاب، وشرح من علم الحقيقة بالأطناب، ووسع للسالكين الركاب وكان العز بن عبد السلام يحضر مجلسه، ويسمع كلامه، مات سنة ست وخمسين وستمائة، "بالقيروان" بفتح القاف، والراء، والواو بلد بأفريقية، "في ليلة الجمعة سابع عشر رمضان، فذهب معه إلى الجامع. الحكاية، إلى أن قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "يا علي طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس" إلى آخره، فيحتمل أن يكون منامًا" لأنه لم يصرح
وكذلك قول الشيخ قطب الدين القسطلاني: كنت أقرأ على أبي عبد الله محمد بن عمر بن يوسف القرطبي بالمدينة النبوية، فجئته يومًا في وقت خلوة، وأنا يومئذ حديث السن فخرج إلي وقال لي: من أدبك بهذا الأدب؟ وعاب علي، فذهبت وأنا منكسر الخاطر، فدخلت المسجد وقعدت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا جالس على تلك الحال، وإذا أنا بالشيخ قد جاءني وقال: قم، فقد جاء فيك شفيع لا يرد.
ونحوه ما حكاه السهروردي في "عوارف المعارف" عن الشيخ عبد القادر الكيلاني أنه قال: ما تزوجت حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوج.
وحكي عن السيد نور الدين الإيجي، والد السيد عفيف الدين، أنه في بعض زياراته للنبي صلى الله عليه وسلم سمع جواب سلامه من داخل القبر الشريف: عليك السلام يا ولدي.
وقال البدر حسن بن الأهدل في مسألة الرؤية له: إن وقوعها للأولياء قد تواترت بأجناسها الأخبار.
"وكذلك قول الشيخ قطب الدين القسطلاني: كنت أقرأ على أبي عبد الله محمد بن عمر بن يوسف القرطبي بالمدينة النبوية، فجئته يومًا في وقت خلوة، وأنا يومئذ حديث السن فخرج إلي وقال لي: من أدبك بهذا الأدب؟ وعاب علي" المجيء هذا الوقت، ومراده تربيته وتأديبه، "فذهبت وأنا منكسر الخاطر، فدخلت المسجد" النبوي، "وقعدت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا جالس على تلك الحال، وإذا أنا بالشيخ قد جاءني وقال: قم، قد جاء فيك شفيع لا يرد" يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه جاءه في المنام، "ونحوه ما حكاه السهروردي" بضم السين، وسكون الهاء، وضم الراء، وفتح، وسكون الراء، ومهملة نسبة إلى سهرورد بلد عند زنجان العلامة العارف شهاب الدين، تقدم بعض ترجمته "في عوارف المعارف عن الشيخ عبد القادر" بن موسى بن يحيى الشريف الحسني "الكيلاني" بكاف أو جيم مكسورتين، ولد ببغداد سنة سبعين وأربعمائة، وحسبك فيه قول العز بن عبد السلام: بلغت إمامته مبلغ القطع، ومات ببغداد سنة نيف وستين وخمسمائة، مناقبه شهيرة كثيرة، "أنه قال: ما تزوجت حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوج" فيحتمل أنه منام.
"وحكي عن السيد نور الدين الإيجي" بالكسر وتحتية، وجيم نسبة إلى إيج بلدة بفارس، "والد السيد عفيف الدين، أنه في بعض زياراته للنبي صلى الله عليه وسلم سمع جواب سلامه من داخل القبر الشريف: عليك السلام يا ولدي" فهذا من سماع الصوت، وإن لم يكن برؤية، "وقال البدر حسن بن الأهدل في مسألة الرؤية له: إن وقوعها للأولياء قد تواترت بأجناسها الأخبار،
وصار العلم بذلك قويًا، انتفى عنه الشك، ومن تواترت عليه أخبارهم لم يبق له فيه شبهة، ولكن يقع لهم ذلك في بعض غيبة حس وغموض طرف، لورود حالة لا تكاد تضبطها العبارة. ومراتبهم في الرؤية متفاوتة، وكثيرًا ما يغلط فيها رواتها، فقل ما تجد متصلة صحيحة عمن يوثق به، وأما من لا يوثق به فقد يكذب، وقد يرى منامًا، أو في غيبة حس، فيظنه يقظة، وقد يرى خيالا أو نورًا فيظنه الرسول، وقد يلبس عليه الشيطان فيجب التحرز في هذا الباب
"وصار العلم بذلك قويًا، انتفى عنه الشك" لاستحالة الكذب مع التواتر، "ومن تواترت عليه أخبارهم لم يبق له فيه شبهة، ولكن يقع لهم ذلك في بعض غيبة حس وغموض طرف، لورود حالة لا تكاد تضبطها العبارة. ومراتبهم في الرؤية" المذكورة في شبه اليقظة "متفاوتة" باعتبار مقاماتهم، فبعضهم أعلى فيها من بعض"، "وكثيرًا ما يغلط فيها رواتها، فقل ما تجد متصلة صحيحة عمن يوثق به" لأن غالبهم يكتمون الأمر.
"وأما من لا يوثق به فقد يكذب، وقد يرى منامًا، أو في غيبة حس، فيظنه يقظة، وقد يرى خيالا أو نورًا فيظنه الرسول" صلى الله عليه وسلم، واعترض هذا بأنه سوء ظن بهم، حيث يشتبه عليهم رؤية الغيبة برؤية اليقظة، وهذا لا يظن بأدون العقلاء، فكيف بالأكابر؟ "، "وقد يلبس" بكسر الباء: يخلط "عليه الشيطان" لعدم تمكنه.
أما المتمكن فلا، كما حكى أن العارف الكيلاني رأى مرة نورًا ملأ الأفق، ونودي منه أنا ربك، وقد أبحت لك المحرمات، فقال: اخسأ يا لعين، فانقلب النور دخانًا وظلامًا، فقال: نجوت مني بفقهك في أحكام منازلاتك، وقد أضللت بهذا سبعين صديقًا، فسئل بم عرفت أنه الشيطان؟ قال: بقوله أبحت لك المحرمات، "فيجب التحرز في هذا الباب" فإن رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة باب ضيق وقل من يقع له ذلك إلا من كان على صفة عزيز وجودها في هذا الزمان بل عدمت غالبًا مع أنا لا ننكر من تقع له من الأكابر الذين حفظهم الله تعالى في بواطنهم وظواهرهم، قاله ابن الحاج في المدخل، قال: وقد أنكر بعض علماء الظاهرية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة؛ لأن العين الفانية لا ترى العين الباقية، والنبي في دار الباقية، والرائي في دار الفناء، ورده الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بأن المؤمن إذا مات يرى الله تعالى، وهو لا يموت، والواحد منهم يموت في كل يوم سبعين مرة، انتهى، ويتأمل معنى موت الواحد في اليوم سبعين مرة، وفي روض الرياحين عن المرسي: لما جاء الغلاء الكبير إلى مصر توجهت لأن أدعو، فقيل لي: لا تدع، فلا يسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء، فسافرت إلى الشام، فلما وصلت إلى قرب ضريح الخليل عليه السلام، تلقاني، فقلت: يا رسول الله! اجعل ضيافتي عندك الدعاء لأهل مصر، فدعا لهم،
وبالجملة: فالقول برؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته بعين الرأس في اليقظة يدرك فساده بأوائل العقول، لاستلزامه خروجه صلى الله عليه وسلم من قبره، ومشيه في الأسواق ومخاطبته للناس ومخاطبتهم له، وخلو قبره عن جسده الشريف، فلا يبقى منه فيه شيء، بحيث يزار مجرد القبر، ويسلم على غائب. أشار إلى ذلك القرطبي في الرد على من قال بأن الرائي له في المنام رؤيا حقيقية، يراه بعد ذلك في اليقظة.
قال: وهذه جهالات لا يقول بشيء منها من له أدنى مسكة من المعقول، وملتزم شيء من ذلك مختل مخبول.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعيني الرأس حقيقة.
ففرج الله عنهم.
قال اليافعي، قوله: تلقاني الخليل قول حق، لا ينكره إلا جاهل بمعرفة ما يرد عليهم من الأحوال التي يشاهدون فيها ملكوت السماوات والأرض، وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات، كما نظر النبي صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام في الأرض، ونظره أيضًا هو وجماعة من الأنبياء في السماوات، وسمع منهم مخاطبات، انتهى.
"وبالجملة: فالقول برؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته بعين الرأس في اليقظة يدرك فساده بأوائل العقول" مبادئها بدون احتياج إلى تأمل، "لاستلزامه خروجه صلى الله عليه وسلم من قبره، ومشيه في الأسواق" وقد لا يلزم ذلك، إذ من الجائز أن يكشف لهم عنه وهو في قبره، "ومخاطبته للناس ومخاطبتهم له" وهم في أماكنهم، وهو في ضريحه، ولا محذور في ذلك، "وخلو قبره عن جسده الشريف، فلا يبقى منه فيه شيء، بحيث يزار مجرد القبر، ويسلم على غائب" وقد علمت أن ذلك ليس بلازم كما يرى القمران والنجوم في أقطار الأرض شرقًا وغربًا، وهي في أماكنها، "أشار إلى ذلك القرطبي" الإمام أبو العباس في المفهم، "في الرد على من قال بأن الرائي له في المنام رؤيا حقيقية، يراه بعد ذلك في اليقظة" زاعمًا أن ذلك معنى "من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة".
"قال" القرطبي: "وهذه جهالات لا يقول بشيء منها من له أدنى مسكة" بضم الميم: شيء يمسكه "من المعقول، وملتزم شيء من ذلك" فضلا عن جميعه، "مختل" مخدوع، "مخبول" مجنون ولا شك في ذلك أن التزامه أما إن قال بما أولناه، فلا. "وقال القاضي أبو بكر بن العربي" الفقيه، الحافظ، "وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعني الرأس حقيقة"
وقال في فتح الباري -بعد أن ذكر كلام ابن أبي جمرة: وهذا مشكل جدًا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة.
وللشيخ مسلم شيخ الطائفة المسلمة:
فمن يدعي في هذه الدار أنه
…
يرى المصطفى حقًا فقد فاه مشتطا
ولكن بين النوم واليقظة التي
…
تباشر هذا الأمر مرتبة وسطا
وقد جعل القاضي أبو بكر بن العربي القول بأن الرؤيا في المنام بعين الرأس غلو وحماقة، ثم حكى ما نسب لبعض المتكلمين، وهو القول بأنها مدركة بعينين في القلب، وأنه ضرب من المجاز، انتهى.
فلا يمتنع من الخواص، أرباب القلوب القائمين بالمراقبة والتوجه على قدم الخوف، بحيث لا يسكنون لشيء مما يقع لهم من الكرامات، فضلا عن التحدث بها لغير ضرورة، مع السعي في التخلص من.
فجعله شاذًا، لا يعتد به لعدم إمكانه عنده.
"وقال في فتح الباري بعد أن ذكر كلام ابن أبي جمرة" المتقدم قريبًا: "وهذا مشكل جدًا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة" وأجيب بأن شرط الصحبة رؤيته على الوجه المتعارف قبل موته صلى الله عليه وسلم لا بعده، وإن كان حيًا في قبره، وهذه خوارق، والخوارق لا تنقض لأجلها القواعد، "وللشيخ مسلم شيخ الطائفة المسلمية:
"فمن يدعي في هذه الدار أنه
…
يرى المصطفى حقًا فقد فاه مشتطا
"ولكن بين النوم واليقظة التي
…
تباشر هذا الأمر مرتبة وسطا"
"وقد جعل القاضي أو بكر بن العربي القول بأن الرؤيا في المنام بعين الرأس غلو" تجاوز حدّ "وحماقة" قلة عقل، "ثم حكى ما نسب لبعض المتكلمين، وهو القول بأنها مدركة بعينين في القلب، وأنه ضرب من المجاز، انتهى" فإذا قيل ذلك في رؤيا المنام، فما بالك برؤية اليقظة؟ "فلا يمتنع" سيأتي فاعله في قوله: أن يتمثل "من الخواص، أرباب القلوب" النيرة السليمة من الأغبار، "القائمين بالمراقبة" لله في أقوالهم وأفعالهم، "والتوجه على قدم الخوف، بحيث لا يسكنون" أي: لا يركنون "لشيء مما يقع لهم من الكرامات" بحيث يعولون عليها، ويرون أن لهم مقامًا، "فضلا عن التحدث بها لغير ضرورة، مع السعي في التخلص من
المكدرات، والإعراض عن الدنيا وأهلها جملة، وكون الواحد منهم يود أن يخرج من أهله وماله، وأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم، كالشيخ عبد القادر الكيلاني: أن يتمثل صورته صلى الله عليه وسلم في خاطره ويتصور في عالم سره أنه يكلمه، بشرط استقرار ذلك وعدم اضطرابه، فإنه تزلزل أو اضطرب كان لمة من الشيطان، وليس ذلك خادشًا في علو مناصبهم لعدم عصمة غير الأنبياء.
فقد قال العلامة التاج ابن السبكي في جمع الجوامع تبعًا لغيره: وإن الإلهام ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصومًا بخواطره، وحينئذ فمن قال -ممن حكينا عنه أو غيره- بأن المرئي هو المثال، لا يمتنع حمله على هذا، بل حمل كل من أطلق عليه هو اللائق. وقريب منه قوله صلى الله عليه وسلم:"إني رأيت الجنة والنار". مع مزيد استبعاد هناك أن يكون المراد بالرؤية رؤية العلم.
ويحكى عن الشيخ أبي العباس المرسي أنه قال: لو حجب عني.
المكدرات، والإعراض عن الدنيا وأهلها جملة، وكون الواحد منهم يود أن يخرج من أهله وماله" مع عزتهما على البشر، "وأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم، كالشيخ عبد القادر الكيلاني: أن يتمثل صورته صلى الله عليه وسلم في خاطره ويتصور في عالم سره أنه يكلمه، بشرط استقرار ذلك وعدم اضطرابه، فإنه تزلزل أو اضطرب كان لمة" مصدر محذوف: الزوائد من ألم إلمامًا "من الشيطان، وليس ذلك خادشًا في علو مناصبهم" مقاماتهم "لعدم" وجوب "عصمة غير الأنبياء" والملائكة، وإنما هي حائرة للغير، "فقد قال العلامة التاج ابن السبكي في جمع الجوامع" في الباب الخامس "تبعًا لغيره: وإن الإلهام" لفظه مسألة الإلهام: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر، يخص الله به بعض أصفيائه، و"ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصومًا بخواطره" لأنه لا يأمن من دسيسة الشيطان فيها خلافًا لبعض الصوفية في قوله: إنه حجة في حقه.
أما المعصوم كالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو حجة في حقه وحق غيره إذا تعلق بهم كالوحي، "وحينئذ فمن قال ممن حكينا عنه أو غيره بأن المرئي هو المثال، لا يمتنع حمله على هذا" الذي قلناه أن يتمثل صورته في خاطره
…
إلخ، لا حقيقة الرؤية، "بل حمل كل من أطلق" أنه رآه حقيقة "عليه" أي: على هذا التأويل "هو اللائق. وقريب منه قوله صلى الله عليه وسلم" في حديث صلاة الكسوف: "إني رأيت الجنة والنار". "مع مزيد استبعاد هناك" أي: في هذا الحديث "أن يكون المراد بالرؤية رؤية العلم" لبعده من لفظه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من شيء لم أكن رؤيته إلا رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار" الحديث في الصحيحين.
"ويحكى عن الشيخ أبي العباس المرسي، أنه قال" مرة: "لو حجب عني
رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين.
وعلى هذا فيكون معنى "فسيراني في اليقظة" أي يتصور مشاهدتي وينزل نفسه حاضرًا معي بحيث لا يخرج عن أدابه وسنته صلى الله عليه وسلم بل يسلك منهاجه ويمشي على شريعته وطريقته. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه ويحمل العموم في "من رآني" على الموقفين، وإليه يشير قول بعض المعتمدين: أي من رآني رؤية معظم لحرمتي ومشتاق لمشاهدتي وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه.
وقريب منه قول شارح المصابيح: أو أنه يراه في الدنيا حالة الذوق والانسلاخ عن العوائق الجسمانية، كما نقل ذلك عن بعض الصالحين أنه رآه في حالة الذوق.
رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين" الكاملين؛ لدلالة الحجب على تقصيري، "وعلى هذا فيكون معنى" قوله: "فسيراني في اليقظة" أي يتصور مشاهدتي وينزل نفسه حاضرًا معي" لا مجرد تصور، وتنزيل بل "بحيث لا يخرج عن آدابه وسنته صلى الله عليه وسلم بل يسلك منهاجه" طريقه، "ويمشي على شريعته وطريقته. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإحسان" الإخلاص، أو إجادة الفعل جوابا لسؤال جبريل:"أن تعبد الله كأنك تراه" بعين إيمانك، مطلعًا على جميع أحوالك، حتى كأنك تشاهده عيانًا، فلا تنحرف عن الطريق الذي نهجه الشرع، وأدى إليه طريق المعرفة، وهذا من جوامع الكلم لجمعه مع الإيجاز بيان المراقبة في كل حال، وهو الإخلاص في جميع الأعمال، والحث عليه، بحيث لو فرض أنه عاينه، لم يترك شيئًا من ممكنه، "ويحمل العموم في" قوله:"من رآني" على الموقفين" لا عموم الناس، ويكفي في صدق العام عمومه في فرد، "وإليه يشير قول بعض المعتمدين" وهو الشيخ أبو العباس القرطبي في المفهم في قوله: "فسيراني في اليقظة"، "أي من رآني رؤية معظم لحرمتي" قال ابن عربي: التعظيم ملاحظة الجلال بلواحظ الوقار على بساط الأدب في مقام المعرفة بعظمة قدر الملحوظ، قال: والحرمة تعظيم مهاب بالغيب والشهادة، وحقيقتها الامتناع من تعدي الحد، "ومشتاق لمشاهدتي وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه".
قال الحافظ: وهذا لم يظهر لي، وإن ظهر، فهو ثامن الأجوبة، كما مر، "وقريب منه قول شارح المصابيح: أو" معنى الحديث "أنه يراه في الدنيا حالة الذوق والانسلاخ عن العوائق الجسمانية" بكسر الجيم، "كما نقل ذلك عن بعض الصالحين أنه رآه في حالة الذوق".
قال ابن عربي: هو إدراك في القلب، يميز به بين أشخاص أصناف المعاني، هذا إذا صح
والشوق، وقد قال الشيخ الأهدل عقب الحكاية عن الشيخ أبي العباس المرسي: وهذا فيه تجوز يقع مثله في كلام الشيوخ، وذلك أن المراد أنه لم يحجب حجاب غفلة ونسيان عن دوام المراقبة واستحضارها في الأعمال والأقوال، ولم يرد أنه لم يحجب عن الروح الشخصية طرفة عين، فذلك مستحيل، والله أعلم.
ومما اختص به عليه الصلاة والسلام أن التسمي باسمه.
من علة داء الشرك الخفي، وحقيقته وجدان حلاوة في رياض روض الرضا، وغايته الاستغناء في تصور معاني الحقائق عن نصب الأدلة والبراهين السمعية والعقلية.
وقال غيره: الذوق أول مبادئ التجليات، والشرب أوسطها، والري نهايتها، والأذواق التي يشير لها القوم هي علوم لا تنال إلا لمن كان خالي القلب عن جميع العلائق والعوائق، "والشوق" وقال بعضهم: يعنون به قواصف قهر المحبة، بشدة ميلها إلى إلحاق المشتاق بمشوقه، والعاشق بمعشوقه.
وقال ابن عربي: الشوق انزعاج أثاره تعشق مسموع يوجب الاستشراف إلى لقيه، وحقيقته طلب يتعلق بمطلوب حجبه البعد، يصحبه قلق، وغايته تمني النفس ما لا بد لها منه، ولا قدرة لها على التوصل إليه، ولا قرار لها دون حصوله.
"وقد قال الشيخ الأهدل عقب الحكاية" السابقة "عن الشيخ أبي العباس المرسي": لو حجب إلى آخره، "وهذا فيه تجوز يقع مثله في كلام الشيوخ" جمع شيخ، وحقيقته عند الصوفية الإنسان البالغ في علم الشريعة والطريقة، الحقيقة إلى حد من بلغه، كان عالما ربانيًا، مربيًا، هاديًا، مهديًا، مرشدًا إلى طريق الرشاد، معينًا لمن أراد الاستعانة به على بلوغ رتب أهل السداد، وذلك مما وهبه الله من العلم اللدني الرباني، والطب المعنوي الروحاني، فهو طبيب الأرواح الشافي لها بما عمله الله من أدوية أدوائها المردية لها، "وذلك أن المراد أنه لم يحجب حجاب غفلة ونسيان" ولم يحجب "عن دوام المراقبة" المحافظة.
قال تعالى: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} الآية، أي: الحفيظ، وهي عند الصوفية الملاحظة لما هو المقصود بالتوجه ظاهرًا وباطنًا، ويندرج فيها الرعاية والحرمة، "واستحضارها في الأعمال، والأقوال ولم يرد أنه لم يحجب عن الروح الشخصية طرفة عين، فذلك مستحيل" فلا يريده العارف المرسي، وتعقب هذا بأنه إن أراد الاستحالة العقلية، فباطل، أو الشرعية، فمن أي دليل أو قاعدة أخذ لك كلا لا استحالة لذلك بوجه، "والله أعلم" بما أراد رسوله عليه الصلاة والسلام.
"ومما اختص به عليه الصلاة والسلام أن التسمي باسمه" المعهود، المشتهر به، وهو
ميمون ونافع في الدنيا والآخرة.
روينا عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوقف عبدان بين يدي الله تعالى فيؤمر الله إلى الجنة؟ فيقول الله تعالى: ادخلا الجنة، فإني آليت على نفسي
محمد وأحمد، بدليل أحاديث الترجمة التي ذكرها "ميمون" أي مبارك بركة تامة لا توجد في التسمي باسم غيره من الأنبياء، وإن كان فيها أيضًا بركة، والتسمية بها مستحبة لقوله صلى الله عليه وسلم:"تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن" الحديث، رواه أبو داود والنسائي، لأنهم سادة الخلق، وأخلاقهم أشرف الأخلاق، وأعمالهم أصلح الأعمال، فأسماؤهم أشرف الأسماء، فالتسمي بها فيه شرف للمسمى، وحفظها وذكرها؛ وأن لا ينسى، فلذا ندب مع المحافظة على الأدب، قال ابن القيم: هذا هو الصواب، وكان مذهب عمر كراهته، ثم رجع.
"ونافع في الدنيا والآخرة" إن سماه تبركًا به وحبًا له، لا لكونه اسم أحد آبائه، أو اسم نحو أمير، ويشهد له ما رواه ابن عساكر والحسين بن أحمد بن عبد الله بن بكير، عن حامد بن حماد العسكري، حدثنا إسحاق بن يسار النضيبي، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن أبي أمامة مرفوعًا:"من ولد له مولود فسماه محمدًا حبًا لي وتبركًا باسمي، كان هو ومولوده في الجنة".
قال السيوطي: هذا أمثل حديث ورد في هذا الباب، وإسناده حسن، ونازعه تلميذه الشامي، فقال: وليس كذلك، ففي سنده أبو الحسين حامد بن حماد العسكري، شيخ ابن بكير، فيه قال في اللسان كالميزان، خبره هذا موضوع، وهو آفته وشيخه إسحاق بن يسار مجهول، كذا قال وفيه نظر، فإنه لم ينفرد به، فقد أخرجه الحافظ بن بكير أيضًا، عن شيخه محمد بن عبد الله الخضرمي، حدثنا حبيب بن نصر المهلبي، حدثنا عبد الصمد بن محمد العباداني، حدثنا منصور بن عكرمة، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي، رفعه به، "روينا" مما أخرجه الحافظ أبو الطاهر السلفي، وابن بكير في جزئه من طريق حميد الطويل، "عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوقف عبدان بين يدي الله تعالى، فيأمر الله بهما إلى الجنة، فيقولان: ربنا بما استاهلنا الجنة، ولم نعمل عملا يجازينا"؟ أي: يجازينا الله بذلك العمل "الجنة" بأنه يجعله سببًا لدخولها، فإسناد المجازاة للعمل مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى سببه، وفي نسخة: تجازينا به الجنة، وهي ظاهرة، "فيقول الله تعالى: ادخلا الجنة فإني آليت" أي: حلفت "على نفسي" والإيلاء إنما يتعدى بعلى للمحلوف عليه، وضمن في قوله
أن لا يدخل النار من اسمه أحمد ولا محمد".
وروى أبو نعيم عن نبيط ابن شريط قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "وعزتي وجلالي، لا عذبت أحدًا تسمى باسمك في النار".
وعن علي بن أبي طالب قال: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين، رواه أبو منصور الديلمي.
تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية، معنى البعد فعدي بمن، كما في البيضاوي، فكان الظاهر: آليت على "أن لا يدخل" لكنه ضمن معنى فرضت، أو كتبت على نفسي أن لا يدخل "النار من اسمه أحمد ولا محمد" وهذان العبدان اسم أحدهما أحمد والآخر محمد، ويحتمل أن كلا اسمه أحمد ومحمد.
"وروى أبو نعيم عن نبيط" بضم النون، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، وطاء مهملة، "ابن شريط" بفتح المعجمة، وكسر الراء، كما في الجامع والإصابة، فلا عبرة بقول القاموس: كزبير، فأهل الفن أعلم به؛ ابن أنس من مالك بن هلال الأشجعي، نزل الكوفة، له ولأبيه صحبة، روى أحمد عنه: إني لرديف أبي في حجة الوداع، إذ تكلم صلى الله عليه وسلم، فوضعت يدي على عاتق أبي: فسمعته يقول: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام"
…
الحديث.
وأخرجه البغوي، وابن السكن من وجه آخر، عن نبيط بن شريط، عن أبيه، قال ابن أبي حاتم: بقي نبيط بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمانًا، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا عذبت أحدًا تسمى باسمك" أحمد أو محمد "في النار" بل أعفو عنه.
"وعن علي بن أبي طالب، قال: "ما من مائدة وضعت، فحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين" رواه أبو منصور والديلمي" وهو موقوف لفظًا مرفوع حكمًا، إذ لا مدخل فيه للرأي، وقد ورد مرفوعًا عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه ابن بكير في جزئه، وأخرج ابن عدي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما أطعم طعام على مائدة، ولا جلس عليها وفيها اسمي إلا وقدسوا كل يوم مرتين" وفيه أحمد بن كنانة، قال: وقال في اللسان كالميزان: حديث مكذوب، وتعقب ذلك السيوطي، فقال: قد وجدت للحديث طريقًا آخر، ليس فيه أحمد بن كنانة، أخرجه أبو سعد النقاش في معجم شيوخه، عن جابر به، ورجاله ثقات، انتهى. وحديث علي المذكور شاهد له، وأخرجه الحاكم في تاريخه والديلمي والخطيب عن علي رفعه:"إذا سميتم الولد محمدًا، فأكرموه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تقبحوا له وجهًا" أي: لا تقولوا له قبح الله وجهك، أو لا تنسبوه إلى القبح في شيء من أقواله وأفعاله،
وليس لأحد أن يتكنى بكنيته "أبي القاسم" سواء كان اسمه محمد أم لا، ومنهم: من كره الجمع بين الاسم والكنية، وجوز الإفراد، ويشبه أن يكون هو الأصح.
وكنى بالوجه عن الذات.
وأخرج البزار عن أبي رافع مرفوعًا: "إذا سميتم محمدًا فلا تضربوه، ولا تحرموه"، وروى البزار، وأبو يعلى، والحاكم، عن أنس رفعه:"تسمون أولادكم محمدًا، ثم تلعنونهم"، وهذا استفهام إنكاري بحذف الأداة، أنكر اللعن إجلالا لاسمه كما منع ضرب الوجه تعظيمًا لصورة آدم، وشذ من أخذ من الحديث منع التسمية به، لأنه مدلوله النهي عن لعن من اسمه محمد، لا عن التسمية به.
وأخرج الطرائقي، وابن الجوزي عن علي مرفوعًا:"ما اجتمع قوم قط في مشورة، وفيهم رجل اسمه محمد، لم يدخلوه في مشورتهم إلا لم يبارك لهم فيه"، وذكر بعض الحفاظ أنه لم يصح في فضل التسمية بمحمد حديث، وزعم ابن تيمية أن كل ما ورد فيه موضوع متعقب.
وروى ابن سعد مرسلا: "ما ضر أحدكم لو كان في بيته محمد ومحمدان وثلاثة"، وقال مالك: ما كان في أهل بيت اسم محمد إلا كثرت بركته.
وفي فتاوى السخاوي ما رواه أبو شعيب الحراني عن عطاء: من أراد أن يكون حمل زوجته ذكرًا، فليضع يده على بطنها وليقل: إن كان ذكرًا فقد سميته محمدًا، فإنه يكون ذكرًا لم يرد مرفوعًا، ورفع بعضهم له، أورده ابن الجوزي في الموضوعات.
"و" منها: أنه "ليس لأحد أن يتكنى بكنيته" المشهورة المعروفة له قديمًا "أبي القاسم" باسم أكبر أولاده عند الجمهور، أو لأنه يقسم الجنة بين أهلها أو لقوله:"إني جعلت قاسمًا أقسم بينكم" قال المصنف في أسمائه: كنيته المشهورة أبو القاسم، كما جاء في عدة أحاديث صحيحة، ويكنى بأبي إبراهيم، كما في حديث أنس في مجيء جبريل، وقوله: السلام عليك يا أبا إبراهيم، وبأبي الأرامل ذكره ابن دحية، وبأبي المؤمنين ذكره غيره، انتهى، "سواء كان اسمه محمدًا أم لا" لظاهر حديث الصحيحين عن أنس، قال: نادى رجل رجلا بالبقيع: يا أبا القاسم، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني لم أعنك، إنما دعوت فلانًا، فقال صلى الله عليه وسلم:"تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي".
"ومنهم" أي: العلماء "من كره الجمع بين الاسم والكنية، وجوز الإفراد" أي التسمي بأحدهما، "ويشبه أن يكون هو الأصح" إذ سبب النهي اشتهاره بأبي القاسم، ولذا لا يكره تكنية من اسمه محمد بأبي إبراهيم، وأبي الأرامل، وأبي المؤمنين، وإن كني بها المصطفى، لأنه لم يكن ينادى بشيء منها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لولا أكره أن أحول كنيتي التي عرفت بها لتكنيت بأبي
قال النووي: في هذه المسألة مذاهب، الشافعي منع مطلقًا، وجوزه مالك، والثالث: يجوز لمن ليس اسمه محمدًا، ومن جوز خص النهي بحياته، وهو الأقرب، انتهى.
ومنها أنه يستحب الغسل لقراءة حديثه والتطيب، ولا ترفع عند الأصوات، بل تخفض، كما في حياته إذا تكلم، فإن كلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه الشريف.
إبراهيم، كما به كناني جبريل"، رواه الطبراني، ومن الغريب أنه قيل: يحرم التسمي بمحمد، والتسمي بالقاسم لئلا يكنى أبوه أبا القاسم، حكاهما المازري في شرح مسلم، وتبعه النووي، فأما الثاني فمحتمل، وأما الأول فقد قام الإجماع على خلافه.
"قال النووي: في هذه المسألة مذاهب" فصلها، فقال "الشافعي: منع مطلقًا" لمن اسمه محمد وغيره في حياته وبعده، "وجوز مالك" الجمع بينهما لمن اسمه محمد ولغيره بعده، وبه قال أكثر العلماء كما قال عياض: "والثالث: يجوز لمن ليس اسمه محمدًا، ومن جوز خص النهي بحياته" لأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعلي وغيره أن يسموا من يولد لهم بعده محمدًا، ويكنوه بأبي القاسم، فعلم من إذنه اختصاص النهي بحياته، ودعوى أنه خص به عليًا لا دليل عليها، إذ أباح لغيره ذلك أيضًا، ولذا رجحه النووي، فقال: "وهو الأقرب" وإن كان الأصح عند الشافعية الإطلاق، "انتهى".
وحكى غيره المنع مطلقًا في حياته، والتفصيل بعده بين من اسمه محمد، أو أحمد فيمنع، وإلا فيجوز.
قال الحافظ: وهذا أعدل المذاهب، وقال ابن أبي جمرة بعد أن أشار إلى ترجيح مذهب الجمهور: لكن الأولى الأخذ بالمذهب الأول، فإنه أبرأ للذمة، وأعظم للحرمة.
"ومنها: أنه يستحب الغسل" وكذا الوضوء "لقراءة حديثه" وروايته، واستماعه، وظاهره ولو سبق الغسل لسبب آخر، "والتطيب" لذلك، "و" يستحب أنه "لا ترفع عنده" أي عند قراءته "الأصوات" وقول ابن العربي. يجب، لعله أراد به تأكد الندب، "بل تخفض، كما في حياته إذا تكلم" تشبيه في مطلق الخفض، وإن كان الأول مستحبًا، والثاني واجبًا، "فإن" حرمته ميتًا كحرمته حيًا كما قال ابن العربي، قائلا: وإن "كلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه الشريف" لا سيما إن تواتر أو صح، وكلامه شامل لمنع مساواة صوت قارئ الحديث.
وأن يقرأ على مكان مرتفع.
روينا عن مطرف قال: كان الناس إذا أتوا مالكًا رحمه الله خرجت إليهم الجارية فتقول لهم: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل، فإن قالوا المسائل خرج إليهم في الوقت، وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله فاغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا وتعمم ولبس ساجه -والساج: الطيلسان- وتلقى له منصة فيخرج ويجلس عليها، وعليه الخشوع، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
زاد أبو بكر بن العربي: فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر أن لا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك عند تلفظه به، وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} الآية، وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي له مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثنى بيانها في كتب الفقه، وإذا كان رفع الصوت فوق صوته موجبًا لحبوط العمل، فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به، انتهى.
"و" يستحب "أن يقرأ على مكان مرتفع" عال، زاد في الأنموذج: وقراءة حديثه عبادة، يثاب عليها، كقراءة القرآن في إحدى الروايتين، أي: والرواية الثانية اختصاص ذلك بالقرآن، لأنا تعبدنا بألفاظه، والحديث بمعانيه ولذا جازت روايته بالمعنى للعارف، ولا يجوز ذلك في القرآن مطلقًا.
"روينا عن مطرف" بن عبد الله بن مطرف اليساري، بالتحتانية والمهملة المفتوحتين، أبي مصعب المدني، ابن أخت مالك، وثقه ابن سعد والدارقطني، وروى عنه البخاري وغيره، ولم يصب ابن عدي في تضعيفه، مات سنة عشرين ومائتين على الصحيح، وله ثلاث وثمانون سنة، "قال: كان الناس إذا أتوا مالكًا رحمه الله" لطلب العلم، وهو داخل بيته، وطلبوا خروجه لإقرائهم، "خرجت إليهم الجارية، فتقول لهم: يقول لكم الشيخ تريدون" بتقدير أداة الاستفهام، أي: أتريدون "الحديث، أو المسائل" الفقهية، فتعريفه للعهد، "فإن قالوا المسائل، خرج إليهم في الوقت" على حالته التي هو عليها، "وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله" المكان الذي أعده للغسل فيه، "فاغتسل وتطيب، ولبس ثيابًا جددًا" بضم أوله وثانيه: جمع جديد، كسرير وسرر، "وتعمم ولبس ساجه، والساج: الطيلسان" مطلقًا، أو الأخضر، أو الأسود، "وتلقى له منصة" بكسر الميم، لأنها آلة على ما في المصباح، وقال غيره، بالكسر والفتح شيء عال كالكرسي والسرير من نصصته، إذ رفعته، وهي في الأصل ما يوضع للعروس، يجلس عليه، أو يقف عند جلائها، "فيخرج ويجلس عليها، وعليه الخشوع" والسكينة والوقار، "ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" إجلالا له، فإنه كان يحب الرائحة الطيبة.
ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث.
قال ابن أبي أويس: فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنًا. ويقال: إنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب.
وقد كره قتادة ومالك وجماعة التحديث على غير طهارة، حتى كان الأعمش إذا كان على غيرها تيمم.
ولا شك أن حرمته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره بعد مماته عند ذكره، وذكر حديثه وسماع اسمه وسيرته كما كان في حياته، والله أعلم.
فجعل مجلس حديثه كمجلسه حيًا صلى الله عليه وسلم، "ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث" فعلم أنه إنما فعله رعاية للحديث لا لنفسه، "قال" إسماعيل "بن أبي أويس" عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، ابن أخت الإمام مالك المدني، صدوق، روى عنه الشيخان، وروى له الباقون سوى النسائي، فأطلق القول بضعفه، مات سنة ست وعشرين ومائتين، "فقيل له في ذلك" أي: سئل عن سبب فعله جميع ما مر، "فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" لنسبته له، وردًا على المنافقين، ومن على سنتهم، "ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنًا، ويقال إنه أخذ ذلك" المذكور من الغسل والتبخير والتطيب
…
إلخ، "عن سعيد بن المسيب" أي: بواسطة، لأنه لم يلق سعيدًا، لأنه مات بعد التسعين وولد مالك سنة ثلاث وتسعين، وقد روى عن الزهري وغيره عن سعيد، "وقد كره قتادة" بن دعامة "ومالك الإمام، "وجماعة التحديث على غير طهارة حتى كان الأعمش" سليمان بن مهران، "إذا كان على غيرها تيمم" لأنه بدل الوضوء، حيث فقد لشدة اعتنائه بالحديث، "ولا شك أن حرمته صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه وتوقيره بعد مماته عند ذكره وذكر حديثه، وسماع اسمه وسيرته، كما كان في حياته" ولذا استحبت الصلاة عليه كلما ذكر صلى الله عليه وسلم، "والله أعلم".
زاد في الشفاء: وكان مالك يكره أن يحدث في الطريق، أو هو قائم، وقال: أحب أن أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن المبارك: كنت مع مالك إل العقيق، فسألته عن حديث فانتهرني، وقال: كنت في عيني أجل من أن تسألني عن الحديث، ونحن نمشي، وسأله جرير بن عبد الحميد القاضي، عن حديث، وهو قائم، فضربه عشرين سوطًا، ثم أشفق عليه، فحدثه عشرين حديثًا، فقام هشام: وددت لو زادني سياطًا، ويزيدني حديثًا.
ومنها: أنه يكره لقارئ حديثه أن يقوم لأحد، قال ابن الحاج في "المدخل": لأنه قلة أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وقلة احترام وعدم مبالاة أن يقطع حديثه لأجل غيره، فكيف لبدعه، وقد كان السلف لا يقطعون حديثه ولا يتحركون إن أصابهم الضرر في أبدانهم ويتحملون المشقة التي تنزل بهم إذ ذاك التحديث احترامًا لحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وحسبك ما وقع لمالك رحمه الله في لسع العقرب له سبع عشر مرة، وهو لم يتحرك، وتحمله للسعها توقيرًا لجناب حديثه صلى الله عليه وسلم أن يكون يقرأ وهو يتحرك لضر أصابه، مع أنه معذور فيما وقع، فكيف بالحركة والقيام إذ ذاك لا لضرورة بل لبدعة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك ما لا ينبغي من الكلام المعتاد، انتهى.
ومنها أن قراء حديثه لا تزال وجوههم نضرة، وأن قراء حديثه اختصوا بالتلقيب بالحفاظ.
"ومنها: أنه يكره لقارئ حديثه" دون غيره من العلوم "أن يقوم لأحد، قال ابن الحاج في المدخل: لأنه" أي: القيام "قلة أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وقلة احترام وعدم مبالاة أن" أي: بأن "يقطع حديثه لأجل غيره، فكيف لبدعه" وهي القيام، "وقد كان السلف لا يقطعون حديثه ولا يتحركون إن أصابهم الضرر في أبدانهم ويتحملون المشقة التي تنزل بهم إذ ذاك" أي: وقت "التحديث احترامًا لحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم، وحسبك ما وقع لمالك رحمه الله في لسع العقرب له سبع عشرة" وفي الشفاء: ست عشرة "مرة"، فصار يصفر ويتلوى حتى تم المجلس وتفرق الناس، وقال: صبرت للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي قوله:"وهو لم يتحرك" لأن المراد حركة عنيفة لا اللالتواء، "وتحمله للسعها توقيرًا لجناب حديثه أن يكون يقرأ وهو يتحرك لضر أصابه، مع أنه معذور فيما وقع، فكيف بالحركة والقيام إذ ذاك لا لضرورة بل لبدعة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك ما لا ينبغي من الكلام المعتاد" نحو: ما حالكم أنتم طيبون، "انتهى" كلام ابن الحاج.
"ومنها: أن قراء حديثه لا تزال وجوههم نضرة" أي: حسنة ذات بهجة وسرور لقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ، سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها". رواه أحمد والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة، بل قال الحافظ: إنه مشهور، وعده بعضهم من المتواتر، لأنه ورد عن أربعة وعشرين صحابيًا وسردهم، "وأن قراء حديثه اختصوا بالتلقيب بالحفاظ" والحافظ من حفظ مائة ألف حديث متنًا وإسنادًا، ولو بتعدد الطرق والأسانيد، أو من روى ما يحتاج إليه.
وأمراء المؤمنين من بين سائر العلماء.
ومنها أنه تثبت الصحبة لمن اجتمع به صلى الله عليه وسلم لحظة، بخلاف التابعي مع الصحابي، فلا تثبت إلا بطول الاجتماع معه.
وروى ابن أبي حاتم عن الزهري، قال: لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة، "وأمراء المؤمنين" في الحديث"من بين سائر العلماء" من المفسرين والفقهاء وغيرهم، واختصوا أيضًا بأنهم خلفاؤه لقوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي، الذين يروون أحاديثي وسنتي، ويعلمونها الناس" رواه الطبراني، ويقع في بعض النسخ تأخير هذه عن التي بعدها، وتقديمها أنسب كما لا يخفى.
"ومنها" أي فضائله التي اختص بها عن أمته، "أنه تثبت الصحبة لمن اجتمع له صلى الله عليه وسلم" وإن لم يره لعارض كعمى، ولو بلا مجالسة ومكالمة ذكرًا أو أنثى، إنسيًا أو جنيًا، روى عنه أم لا، مميزًا أم لا، فدخل من حنكه، أو مسح وجهه، أو تفل فيه، وهو رضيع على الأصح لكن أحاديث هؤلاء من قبيل مراسيل كبار التابعين، كما بينه الحافظ، ثم هذه صفة في الحقيقة لأصحابه، لكن لما كانت بركته بتأثيره فيهم، عدت من خصائصه أو التقدير، ومنها نور النبوة المفاض على من صبحه، وقد يكون هذا أولى، لأن السياق في خصائصه كما قرر شيخنا. "لحظة" مؤمنًا في حياته، وأما من رآه بعد موته وقبل دفنه، فالراجح أنه ليس بصحابي، وإلا لعد من اتفق أن يرى جسده المكرم، وهو في قبره، ولو في هذه الأعصار، وكذلك من كشف له عنه من الأولياء، فرآه كذلك على طريق الكرمة إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية، وإنما هي أخروية، لا تعلق لها بأحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء، ومع ذلك، فالأحكام المتعلقة بهم بعد القتل، جارية على أحكام غيرهم من الموتى، وكذا المراد بهذه الرؤية من اتفقت له، وهو يقظان، أما منامًا، فهو وإن كان رآه حقًا، فذلك مما يرجع إلى الأمور المعنوية، لا الأحكام الدنيوية، فذلك لا يعد صحابيًا، ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة، قاله الحافظ.
وقال البقاعي: يخرج من التعريف من رآه بعد الموت وقبل الدفن، كأبي ذؤيب الهزلي، فإن الإخبار الذي هو معنى النبوة انقطع، وأيضًا لا يعد ذلك لقيًا عرفًا، وقد صرحوا بأن عدم جعله صحابيًا أرجح، انتهى، فإن ارتد ومات عليها، فلا يسمى صحابيًا، فإن عاد، فقولان أطبق المحدثون على عد من وقع له ذلك؛ كالأشعث بن قيس الكندي في الصحابة، وعلى إخراج أحاديثهم في المسانيد، ويأتي تمام ذلك إن شاء الله تعالى في المقصد السابع، "بخلاف التابعي مع الصحابي، فلا تثبت" التابعية "إلا بطول الاجتماع معه" عرفًا، بحيث يعده ممن تلقى عن
على الصحيح عند أهل الأصول، والفرق عظم مرتبة النبوة ونورها، فمبجرد ما يقع بصره على الأعرابي الجلف ينطق بالحكمة.
ومنها أن أصحابه كلهم عدول، لظواهر الكتاب والسنة، فلا يبحث عن عدالة أحد منهم.
الصحابي، وضبط ما قاله "على الصحيح عند أهل الأصول" لا المحدثين، فالأصح عندهم؛ كما عند ابن الصلاح والنووي: أنه من لقي الصحابي كما قاله الحاكم وغيره.
قال العراقي: وعليه عمل الأكثر، كمسلم وابن حبان وإن لم يسمع من الصحابي، ولم يميز، واشترط ابن حبان تمييزه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة والتابعين بقوله:"طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن رأى من رآني"
…
الحديث، فاكتفى فيهما بمجرد الرؤية، انتهى باختصار، واختاره أيضًا الحافظ بن حجر، وهو صريح في أن فضل التابعية يحصل بمجرد اللقى والرؤية، وإن كانت روايته عن ذلك الصحابي الذي رآه لا تصح، إلا إذا ثبت سماعه منه، وإلا فهي منقطعة كما بين في علوم الحديث، ومن عكس هذا فقد وهم.
"والفرق" على ما صححه الأصوليون، ووافقهم طائفة من المحدثين، كالخطيب، "عظم مرتبة النبوة" أي: نبوته قال عهدية، أو عوض عن المضاف إليه، وجعلها جنسية يقتضي مشاركة الأنبياء له في ذلك، وإن لم يكن رسولا، ويحتاج لنقل صريح لعدم ثبوت الخصائص بالاحتال "و" لعظم "نورها، فمبجرد ما" مصدرية "يقع بصره على الأعرابي الجلف" بالكسر، أي: الجافي، ووقع بصره تمثيل لا تقييد، فلو رأى النبي على بعد، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم، كان صحابيًا "ينطق بالحكمة" لشرف منزلته، فيظهر أثر نوره في قلب من لقيه، وعلى جوارحه، فالاجتماع به يؤثر من النور القلبي أضعاف ما يؤثر الاجتماع الطويل بالصحابي وغيره، ولا يشترط إيمان التابعي وقت اجتماع بالصحابي، قال البقاعي: وإنما اشترط في الصحبة الإيمان لشرفها، فاحتيط لها، ولأنه تعالى شرط في الصحابة كونهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ولا يكونون معه إلا إذا آمنوا به، انتهى.
نعم، لو أسلم بعدما لقيه كافرًا، وحدث ما سمعه منه حالتئذ قبل، وإن لم يكن صحابيًا. قال العراقي:
وقبلوا من مسلم تحملا
…
في كفره كذا صبي حملا
"ومنها: أن أصحابه كلهم عدول" بتعديل الله تعالى وتعديله عليه الصلاة والسلام "لظواهر الكتاب" نحو: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية، "والسنة" فتقبل رواياتهم ولو كان حجة لفعلهم كرواية علي قتل الخوارج وشهادتهم لا ثبوت عصمتهم واستحالة المعصية عليهم؛ كما نص عليه ابن الأنباري وغيره، وأشار إليه بقوله:"فلا يبحث عن عدالة أحد منهم"
كما يبحث عن سائر الرواة. قال الله تعالى خطابًا للموجودين حينئذ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي: عدولا، وقال عليه السلام:
في شهادة ولا رواية "كما يبحث عن سائر الرواة" وغيرهم لأنهم خير الأمة ومن طرأ له منهم قادح كسرقة وزنا عمل بمقتضاه، ولكن لا يفسقون بما يفسق به غيرهم كما ذكره الحلال المحلي في شرح الجوامع فتقبل رواياتهم وشهاداتهم، ولو وقعت كبيرة من بعضهم أقيم حدها أم لا؟ وإن لم يبلغنا توبته. ومن فوائد عدالتهم مطلقًا أنه إذا قيل عن رجل من أصحاب النبي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم كان حجة كتعيينه باسمه بخلاف غيرهم فلا يقبل المبهم لاحتمال أنه ليس عدلا وسواء من لابس الفتنة وغيره على المختار طال اجتماعهم به أو قصر، وقول المازري في شرح البرهان: لسنا نعني بعدالة الصحابة كل من رآه يومًا أو زاره أو اجتمع به لغرض وانصرف عن قرب، بل الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. قال العلائي الحافظ: غريب لا يواف عليه، والجمهور على التعميم، انتهى. ويؤيد العموم رواية الأئمة أحاديثهم مطلقًا بدون تردد مع ورود النهي عن روايته عن غير العدل، قال صلى الله عليه وسلم:"لا تأخذوا الحديث إلا عمن تجوزون شهادته"، رواه الخطيب وغيره عن ابن عباس، وقال ابن سيرين: هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. وقال مالك: لا تحمل العلم عن أهل البدع، ولا تحمله عمن لم يعرف بالطلب، ولا عمن يكذب في حديث الناس، وإن كان في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكذب، رواه ابن عساكر، وكان عروة بن الزبير يسمع الحديث يستحسنه ولا يرويه لكونه لا يثق ببعض رواته لئلا يؤخذ عنه رواه الشافعي، فلو لم تكن الصحابة كلهم عدولا لامتنع مالك وغيره من الأئمة عن رواية كثير منهم.
"قال الله تعالى خطابًا للموجودين حينئذ" يعني الصحابة: {وَكَذَلِكَ} أي: كما هديناكم إلى صراط مستقيم أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل، {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، أي عدولا" مزكين بالعلم والعمل أو خيارًا، وكذا قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، قال الحافظ العراقي: قيل اتفق المفسرون على أن الخطاب في الآيتين للصحابة الموجودين، انتهى. لكن البيضاوي والجلال جعلا الخطاب لأمة محمد الشامل لهم ولمن بعدهم إلى يوم القيامة، ويؤيده حديث البخاري وغيره في جحد الأمم تبليغ أنبيائهم فيؤتى بأمة محمد فيشهدون بالبلاغ ويزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم ويمكن الجمع بأن الخطاب للصحابة حقيقي لوجودهم، وإن كان المراد ما يشملهم وغيره لاشتراك الجميع في العلم.
"وقال عليه السلام" فيما أخرجه الشيخان وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري، وفي بعض طرقه عند مسلم، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف
"لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم" وفي رواية: "فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا" كل يوم كما زاد في رواية البرقاني، قال: وهي زيادة حسنة: "ما بلغ مد أحدكم" بضم الميم، مكيال معروف، وحكى الخطابي أنه روي بفتح الميم، قال: والمراد به الفضل والطول ذكره الحافظ وتوقف الدماميمي، فقال: لا أدري هل أراد أنه روى في البخاري أو رواية في الحديث في الجملة، فينبغي تحريره، انتهى. وهو تشكيك لا طائل تحته، فالمتبادر أنه في البخاري. "ولا نصيفه" أي: المد من كل شيء يوزن رغيف، أي: نصفه كما يقال: عشر وعشير وثمن
.وثمين، وقيل: النصيف مكيال دون المد ذكره الفتح، وقال تلميذه شيخ الإسلام زكريا بفتح النون وضمها مصغرًا، أي: نصفه والنصف مثلث النون، فمجموع ذلك خمس لغات، انتهى. قال البيضاوي: معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبًا من الأجر والفضل ما نال أحدهم بإنفاق مد أو نصفه وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية، قال الحافظ: وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عظم موقع ذلك لشدة الاحتياج إليه وأشار بالأفضلية بسبب الاتفاق إلى الأفضلية بسبب القتال كما في آية: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ، ففيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيمًا لشدة الحاجة إليه وقلة المعتنى به بخلاف ما وقع بعد ذلك لأن المسلمين كثروا بعد الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا فلا يقع ذلك الموقع المتقدم، انتهى. وسبقه الطيبي، فقال: يمكن أن يقال فضيلتهم بحسب فضيلة إنفاقهم وعظم موقعها؛ كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} ، وهذا في الإنفاق، فكيف بمجاهدتهم وبذلهم أرواحهم ومهجهم؟ قال الحافظ: وفي قوله: "فلو أن أحدكم" إشعار بأن المراد بقوله أصحابي أصحاب مخصصون وإلا فالخطاب كان للصحابة، وقد قال: لو أن أحدكم أنفق، وهذا مثل قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي} الآية، ومع ذلك فنهي بعض من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وخاطبه بذلك عن سب من سبقه يقتضي زجر من لم يدركه ولم يخاطبه عن سب من سبقه من باب أولى، وغفل من قال -يعني الكرماني- الخطاب بذلك لغير الصحابة، والمراد من سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل تنزيلا لمن سيوجد منزلة الموجود للقطع بوقوعه، ووجه التعقب عليه وقوع التصريح في نفس الخبر بأن المخاطب بذلك خالد بن الوليد وهو من الصحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق، انتهى. وتعقبه العيني بأن الحديث الذي فيه قصة خالد لا يدل على أنه المخاطب بذلك الخطاب، وإن سلمنا أنه المخاطب فلا نسلم أنه كان إذ ذاك صحابيًا بالاتفاق إذ يحتاج إلى دليل، ولا يظهر ذلك إلا بالتاريخ ولم يجب
وقال عليه السلام: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" في آيات كثيرة وأحاديث تقتضي تعديلهم.
ولذلك: أجمع من يعتد به على ذلك، سواء في التعديل من لابس الفتنة منهم وغيره.
الحافظ في انتقاض الاعتراض عن هذا التعقب لسقوطه، فإن عدم تسليمه صحبته حينئذ مع وجود الاتفاق عليها مجرد مكابرة وعناد، وقال في خطبة الانتقاض: أنه إنما يجيب عن الاعتراض الذي له نوع تماسك، وقال الشيخ زكريا: الخطاب للحاضرين من الصحابة ولغيرهم ولو من غير الصحابة ففيه تغليب الحاضر على الغائب، انتهى.
"وقال عليه السلام" فيما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود: "خير الناس" أهل "قرني" أي: عصري من الاقتران في الأمر الذي يجمعهم، يعني: أصحابي ومن رآني أو من كان حيًا في عهدي. قال الحافظ: ومدتهم من البعثة مائة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل على الخلاف في وفاة أبي الطفيل آخر من مات من الصحابة، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كان مائة سنة أو تسعين أو سبعًا وتسعين، وفي رواية للشيخين:"خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم" أي: القرن الذي بعدهم وهم التابعون ومدتهم نحو سبعين أو ثمانين سنة، إن اعتبر من سنة مائة، "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين نحوًا من خمسين إلى حدود العشرين ومائتين، قال الحافظ: فظهر بهذا أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار كل زمان، واتفق أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله: من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاحشًا وأطلقت المعتزلة ألسنتها ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتحن العلماء ليقولوا بخلق القرآن وتغيرت الأحوال تغيرًا شديدًا ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن، وظهر قوله صلى الله عليه وسلم، ثم يفشوا الكذب ظهورًا بينًا حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان. قال: ووقع في رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم ذكر طبقة رابعة وهي رواية شاذة وأكثر الروايات مقتصر على ذكر الثلاثة ثم الجمهور على أن ذا الفضل باعتبار الإفراد، وقال ابن عبد البر باعتبار المجموع، ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد لذلك في المقصد السابع وقبله في خصائص الأمة قريبًا، "في" أي: مع "آيات كثيرة وأحاديث" كثيرة جدًا "تقتضي تعديلهم، ولذلك أجمع من يعتد به على ذلك" من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة؛ كما في الاستيعاب. "سواء في التعديل من لابس الفتنة" الواقعة حين قتل عثمان كالجمل وصفين، "منهم وغيره" وهو من لم يلابسها خلافًا لمن قال: لا يحكم بعدالة من لابسها حتى يبحث عنه؛ لأن أحد الفريقين فاسق. وقيل: يقبل الداخل فيها إذا انفرد لأن الأصل العدالة، وشككنا في ضدها ولا يقبل إذا خولف
لوجوب حسن الظن بهم، حملا للملابس على الاجتهاد، ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر، من امتثال أوامره عليه السلام، وفتحهم الأقاليم، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس، مواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات، مع الشجاعة والبراعة والكرم والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة، ولا يكون أحد بعدهم مثلهم في ذلك. كل ذلك بحلول نظره عليه الصلاة والسلام.
وأفضلهم عند أهل السنة إجماعًا: أبو بكر ثم عمر، وأما بعدهما: فالجمهور على أنه عثمان ثم علي. وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد السابع.
لتحقق إبطال أحدهما من غير تعيين. وقيل: القول بالعدالة مختص بمن اشتهر منهم ومن عداهم كسائر الناس. "لوجوب حسن الظن بهم حملا للملابس على الاجتهاد" الواقع منه المقتضى لجواز فعله، بل قد يؤديه إلى وجوبه ولا التفات إلى ما يذكره الإخباريون فأكثره لم يصح، وما صح فله تأويل صحيح، وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز: تلك دماء طهر الله منها سيفنا فلا نخضب بها ألسنتنا. "ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر" الجليلة "من امتثال أوامره عليه السلام وفتحهم الأقاليم" بعده، "وتبليغهم عنه الكتاب والسنة وهدايتهم الناس مع مواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات مع الشجاعة والبراعة" الفضل في العلم والشجاعة وغيرهما، "والكرم والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة، ولا يكون أحد بعدهم مثلهم في ذلك، كل ذلك بحلول نظره عليه الصلاة والسلام" وقد قال محمد بن كعب القرظي: أوجب الله لجميع الصحابة الجنة محسنهم منهم ومسيئهم. قال ابن جرير: وورد نص النبي صلى الله عليه وسلم بالبشارة والشهادة بالجن لغير العشرة كالحسنين وأمهما وجدتهما وجمع أكثر من أن يحوى، انتهى. وأشار بذلك إلى أن لا تدافع بينه وبين تبشير العشرة في حديث واحد لأن العدد لا ينفي الزائد. وروى الترمذي وصححه الضياء عن بريدة رفعه:"ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائدًا ونورًا لهم يوم القيامة"، أي: إلا بعث ذلك الصحابي قائدًا لأهل تلك الأرض إلى الجنة ونورًا لهم يسعى بين أيديهم، فيمشي في ضوئه، وإطلاقه شامل للذكر وغيره وطول صحبته وملازمته ولغيره وقد عد هذا بعضهم من خصائصه. "وأفضلهم عند أهل السنة إجماعًا" منهم:"أبو بكر، ثم عمر" وإلزامًا للشيعة بما صح عن علي أنهما خير منه، "وأما بعدهما فالجمهور على أنه عثمان ثم علي" ومنهم من قدمه، ومنهم من وقف. "وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد السابع" مع فوائد نفيسة.
ومنها أن المصلي يخاطبه بقوله: السلام عليك أيها النبي، ولا يخاطب غيره.
ومنها أنه كان يجب على من دعاه وهو في الصلاة أن يجيبه، ويشهد له حديث أبي سعيد بن المعلى: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه. الحديث، وفيه:"ألم يقل الله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] "، فإجابته فرض، يعصي المرء بتركها.
وهل تبطل الصلاة أم لا؟ صرح جماعة من أصحابنا الشافعية وغيرهم: أنها لا تبطل.
"ومنها: أن المصلي يخاطبه بقوله: السلام عليك أيها النبي" ورحمة الله وبركاته؛ كما في حديث التشهد والصلاة صحيحة، "ولا يخاطب غيره" من الخلق ملكًا أو شيطانًا أو جمادًا أو ميتًا، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم لإبليس:"ألعنك بلعنة الله"؛ لأنه خصوصية أو خطاب نفسي لا لما قيل إنه قبل تحريم الكلام في الصلاة، لأنه كان بالمدينة وتحريمه قبلها.
"ومنها: أنه كان يجب على من دعاه وهو في الصلاة أن يجيبه، ويشهد له حديث أبي سعيد" بكسر العين "ابن المعلى" الأنصاري المدني، قا ابن عبد البر: اسمه الحارث بن نفيع بن المعلى على الأصح، ومن قال رافع بن المعلى فقد وهم؛ لأنه قتل ببدر مات سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة ثلاث. قالوا: وعاش أربعًا وستين سنة، قال في الإصابة: وهو خطأ، فإنه يستلزم أن تكون قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير وسياق الحديث يأبى ذلك، روى البخاري في تفسير الفاتحة عنه، قال:"كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه" وللبخاري في تفسير الأنفال فلم آته حتى صليت ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله! إني كنت أصلي، فقال:"ألم يقل الله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، ثم قال: "لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد" ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: "لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن"، قال: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته". هذا لفظه، فاقتصر المصنف على حاجته منه مشيرًا إلى ما حذفه بقوله: "الحديث وفيه: "ألم يقل الله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} " من أمر الدين لأنه سبب للحياة الأبدية، "فإجابته فرض يعصي المرء بتركها" اتفاقًا، "و" اختلف العلماء "هل تبطل الصلاة" بذلك "أم لا؟ صرح جماعة من أصحابنا الشافعية وغيرهم" كالعلامة بهرام من المالكية في طائفة منهم "أنها لا تبطل" ولو فرضًا بل هي صحيحة ولو أجابه بالفعل فتجب ولا تبطل على الراجح، قال الإسنوي: وهو المتجه. قال
وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقًا، سواء كان المخاطب مصليًا أو غير مصل. أما كونه يخرج بالإجابة أو لا يخرج فليس في الحديث ما يستلزمه، فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جنح بعض الشافعية، والله أعلم.
ومنها: أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره.
الخيضري: ومحله إذا اقتصر على لفظ يفهم منه الجواب كنعم أو لبيك، فإن زاد بطلت فيما يظهر، انتهى. لكن قال الرملي: لا فرق بين قليل الإجابة وكثيرها بالقول والفعل، فلو سأل مصليًا عن شيء وجبت إجابته وصحت صلاته كما ألحقه بعض بدعائه. أما لو ابتدأه المصلي بالكلام فإن تعلق بنحو الصلاة والسلام عليه اغتفر، وإلا كجاءك فلان أو نصرك الله يوم بدر، فالمتجه البطلان؛ لأنه كلام أجنبي غير محتاج إليه، ولا دعاء فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا جواب. "وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقًا سواء كان المخاطب مصليًا أو غير مصلٍ. أما كونه يخرج من الصلاة بالإجابة" لبطلانها، "أو لا يخرج" لعدمه "فليس في الحديث" أي: حديث ابن المعلى المذكور "ما يستلزمه" ويدل عليه، "فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة" وبعض المالكية أيضًا، وهو ضعيف والمعتمد في المذهبين الصحة، "والله أعلم" بالحكم. وهذا أخذه المصنف من فتح الباري، وزاد في الأنموذج: وكذلك الأنبياء، أي: تجب إجابتهم ولا تبطل الصلاة. وفي التحفة: وألحق به عيسى إذا نزل ولعل قائله غفل عن جعل هذا من خصائص نبينا، أو رأى أنه من خصائصه على الأمة لا على بقية الأنبياء وهو بعيد من كلامهم، وكذا قال: ويوافقه قول بعض تسن إجابة عيسى وتبطل بها الصلاة، والسيوطي حجة في النقل، وقد جزم بن الأنبياء مثله.
"ومنها: أن الكذب" أي: الإخبار عنه بشيء على خلاف ما هو "عليه" ولو في غير الأحكام كترغيب وترهيب ووعظ "ليس كالكذب على غيره" كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، أخرجه الشيخان من حديث المغيرة وأبو يعلى والبزار وكثيرون عن سعيد بن زيد، وظاهره حتى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكان حكمة ذلك أنه يصير شرعًا مستمرًا، لأنه بصدد بعثة نبي بعده تبين ما كذب عليه بخلاف نبينا فلا نبي بعده، فمن قال الأنبياء مثله فيما يظهر فيه نظر للفرق، وأيضًا فالخصائص إنما تثبت بدليل صحيح لا بالاحتمال ولا مفهوم لقوله:"علي"، لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب، وقد اغتر قوم من الجهلة كالكرامية فجوزوا ووضعوا أحاديث
..............................................................
في الترغيب والترهيب، وقالوا: إنه كذب له لا عليه، وهذا جهل باللغة العربية وما دروا أن قوله صلى الله عليه وسلم:"من نقل عني ما لم أقل يقتضي الكذب على الله تعالى"؛ لأنه إثبات حكم سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه، وقد اشتد النكير على من كذب على الله في قوله:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} ، فسوى بين من كذب عليه وبين الكافر. وقال:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} ، والآيات في ذلك متعددة، فلذا شدد في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت، وهي ما أخرجه البزار عن ابن مسعود:"من كذب علي ليضل به الناس" الحديث، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، ورواه الدارمي عن يعلى بن مرة بسند ضعيف وعلى تقدير ثبوته فليست اللام للعلة بل للصيرورة؛ كقوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} ، والمعنى أن مآل أمره إلى الإضلال أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر فلا مفهوم له؛ كقوله:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ، {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} ، فقتلهم ومضاعفة الربا والإضلال إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا لاختصاص الحكم؛ كما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه عنه خلق كثير من الصحابة، واعتنى جماعة من الحفاظ بجمع طرقه، فأول من وقفت على كلامه في ذلك علي بن المديني وتبعه يعقوب بن شيبة، فقالا: إنه ورد عن عشرين صحابيًا ثم إبراهيم الحربي والبزار، فقالا: ورد عن أربعين وزاد ابن صاعد قليلا. وقال الصيرفي: رواه ستون، وجمع الطبراني فزاد قليلا. وقال ابن منده: رواه أكثر من ثمانين، وجمع ابن الجوزي طرقه في مقدمة الموضوعات فجاوز تسعين، وبه جزم ابن دحية. وقال أبو موسى المديني: يرويه مائة صحابي وجمعها بعده الحافظ المزي وأبو علي البكري، وهما متعاصران، فوقع لكل ما ليس عند الآخر ومجموع ما ذكراه مائة على ما فيها من صحيح وحسن وضعيف وساقط مع أن فيها ما هو في مطلق ذم الكذب عليه من غير تقييد بهذا الوعيد الخالص ونقل النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة، ولأجل كثرة طرقه أطلق جماعة أنه متواتر، ونازع بعض مشائخنا في ذلك بأن شرط التواتر استواء طرفيه وما بينهما في الكثرة، وليست موجودة في كل طريق بمفردها.
وأجيب: بأن المراد بإطلاقه كونه متواترًا رواية المجموع عن المجموع من ابتدائه إلى انتهائه في كل عصر، وهذا كاف في إفادة العلم وأيضًا فطريق أنس وحدها قد رواها عنه العدد الكثير، وتواترت عنهم. وحديث علي رواه عنه ستة من مشاهير التابعين، وكذا حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو؛ فلو قيل في كل منها أنه متواتر عن صحابيه لكان
ومن كذب عليه لم تقبل روايته أبدًا وإن تاب، فيما ذكره جماعة من المحدثين.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل عن سعيد بن جبير أن رجلا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
صحيحًا، فإن العدد المعين لا يشترط في المتواتر بل ما أفاد العلم كفى، والصفات العلية في الرواية تقوم مقام العدد أو تزيد عليه كما قررته في نكت علوم الحديث وشرح النخبة، وبيت هناك الرد على من ادعى أن مثال المتواتر لا يوجد إلا في هذا الحديث فأمثلته كثيرة؛ كحديث:"من بنى لله مسجدًا" والمسح على الخفين ورفع اليدين والشفاعة والحوض ورؤية الله في الآخرة والأئمة من قريش، وغير ذلك.
وأما ما نقله البيهقي عن الحاكم ووافقه أنه جاء من رواية العشرة، وليس في الدنيا حديث أجمع العشرة على روايته غيره، فقد تعقبه غير واحد؛ لكن الطرق عنهم موجودة فيما جمعه ابن الجوزي فمن بعده، والصحاح منها علي، والزبير، والحسان، وطلحة، وسعد، وسعيد، وأبو عبيد. ومن الضعيف المتماسك طريق عثمان وبقيتها ضعيف أو ساقط ويخالفه قوله: قبل، وصح أيضًا في غير الصحيحين من حديث عثمان بن عفان، فإنه قال: أولا أنه في الصحيحين من حديث علي، وأنس، وأبي هريرة، والمغيرة، والبخاري عن الزبير وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن عمرو بن العاصي، ومسلم عن أبي سعيد، وصح أيضًا في غير الصحيحين عن طلحة وسعيد بن أبي زيد، وأبي عبيدة، ومعاذ بن جبل، وعقبة بن عامر، وعمران، وسلمان، ومعاوية، ورافع بن خديج، وطارق الأشجعي، والسائب بن يزيد، وخالد بن عرفطة، وأبي أمامة، وأبي قرصافة، وأبي موسى، وعائشة؛ فهؤلاء ثلاثون من الصحابة. وورد أيضًا عن نحو خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو عشرين آخرين بأسانيد ساقطة، انتهى. وقد استبعد العراقي في شرح الألفية قول النووي: جاء عن مائتين من الصحابة. قال السخاوي: ولعلها تصحفت من ثمانين، وهذا أقرب من قول شيخنا لعله تصحفه من مائة، انتهى. ونقل بعض عن ابن دحية أنه جاء من أربعمائة طريق خلاف نقل الحافظ عنه أزيد من تسعين وتبعه تلميذه السخاوي.
"ومن كذب عليه لم تقبل روايته" عطف علة على معلول "أبدًا، وإن تاب" بخلاف الكذب على غيره فتقبل إن تاب، "فيما ذكره جماعة من المحدثين" كالإمام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري وابن معين وغيرهم. "وقال عبد الرزاق" بن همام الصنعاني الثقة الحافظ المصنف الشهير:"أخبرنا معمر" بن راشد الأزدي مولاهم البصري نزيل اليمن، ثقة، ثبت، "عن رجل" لم يسم "عن سعيد بن جبير" الأسدي مولاهم الكوفي ثقة ثبت فقيه تابعي روايته عن عائشة وأبي موسى ونحوهما مرسلة قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين وله تسع وأربعون سنة وكونه من أواسط التابعين معلوم عند من له أدنى إلمام بالفن، فمن أين أن سياق المصنف يقتضي أنه صحابي، وليس كذلك. "أن رجلا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم" لفظ
فبعث عليًا والزبير وقال: "اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه".
ولهذا حكى إمام الحرمين عن أبيه أن من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر.
لكن لم يوافقه أحد من الأئمة على ذلك. والحق أنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة ولكن لا يكفر بها إلا إن استحله.
رواية عبد الرزاق عن سعيد، قال: جاء رجل إلى ناس من الأنصار، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم وزوجني فلانة، فبعث عليًا والزبير، فقال:"اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه، وما أراكما تدركانه" فوجداه ميتًا من لدغة حية، هذا بقية الحديث. قال البيهقي: وقد سمي هذا الرجل في راية عطاء بن السائب عن عبد الله بن الحارث جدجد الجندعي، وكذا أخرجه ابن منده عن عبد الله بلفظ: أن جديد الجندعي، فذكره وهو بجيمين مضمومتين بينهما دال ساكنة مهملة صحابي كما في الإصابة. "ولهذا" الحديث "حكى إمام الحرمين عن أبيه" الشيخ أبي محمد الجويني، وكان الأولى أن يقول: ولذا قال الجويني كما حكاه ابنه إذ الحديث ليس علة لحكاية الإمام عن أبيه بل علة لقول أبيه بذلك والخطب سهل "أن من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر، لكن" لا حجة في الحديث لضعفه إذ فيه راوٍ مبهم، أي: لم يسم مع أنه مرسل وعلى تقدير صحته فهي قضية عينية يتطرق إليها الاحتمال لكن ليس منه علمه بأنه كافرًا صلى لأنه صحابي كما رأيت، ولذا ضعف إمام الحرمين قول أبيه وضعفه من بعده أيضًا كما في الفتح أيضًا، "لم يوافقه أحد من الأئمة على ذلك" قال ابنه إمام الحرمين: لم أره لأحد من الأصحاب وإنه هفوة عظيمة لكن في الفتح مال ابن المنير إلى اختياره، ووجهه بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلًا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر، وفيما قاله نظر لا يخفى، والجمهور على أنه لا يكفي إلا إن اعتقد حل ذلك، انتهى.
"والحق أنه" أي: تعمد الكذب عليه "فاحشة عظيمة" فلو تعمد الكذب ولم يكن في الواقع كذبًا بأن صادف الواقع لم يدخل في الوعيد؛ لأن إثمه من جهة قصده، "وموبقة" مهلكة مصدر وبق "كبيرة، ولكن لا يكفر بها إلا إن استحله" قال بعض: وكلام الجويني محمول على ذلك وفيه نظر إذ لو حمل على ذلك ما خالفه أحد، قال في الفتح: فإن قيل الكذب معصية إلا ما استثنى في الإصلاح وغيره والمعاصي قد توعد عليها بالنار، فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد على من كذب على غيره، فالجواب من وجهين، أحدهما: إن الكاذب عليه عمدًا يكفر عند الجويني، ثم قال: الثاني إن الكذب عليه كبيرة
وقال النووي: لم أر له في أصل المسألة دليلا، ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظًا وزجرًا بليغًا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته فإنه يصير شرعًا مستمرًا إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة.
ثم قال: وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف، مخالف للقواعد الشرعية: والمختار القطع بصحة توبته وقبول روايته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة.
قال: فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرًا فأسلم، قال: وأجمعوا.
والكذب على غيره صغيرة، فافترقا ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحد، أو طول إقامتهما سواء؛ فقد دل قوله صلى الله عليه وسلم:"فليتبوأ" على طول الإقامة فيها بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه يجعل له منزلا غيره لكن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين، وقد فرق بين الكذب عليه وبين الكذب على غيره، بقوله:"إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد"، وقال:"فليتبوأ" أمر بمعنى الخبر أو التهديد أو التهكم أو دعاء، أي: بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أنه على حقيقته والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوؤ ويلزم عليه كذا قال: وأولها أولاها فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ: "يبنى له بيت في النار". قال الطيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي: كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد في جزائه التبوؤ.
"وقال النووي" في شرح مسلم: "لم أر له" أي: للقو بعدم قبول رواية الكاذب عليه إذا تاب "في أصل المسألة دليلا" يعتد به وخبر ابن جبير ضعيف لا يعتد به وبفرضه يحتمل التأويل، كما مر. "ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظًا وزجرًا بليغًا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته فإنه" أي: الكذب عليه إذا قبل ونقل "يصير شرعًا مستمرًا إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره والشهادة فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة" صفة كاشفة، "ثم قال: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة" من عدم قبول روايته ولو تاب "ضعيف مخالف للقواعد الشرعية" أن التوبة مقبولة، "والمختار القطع" الجزم "بصحة توبته وقبول روايته بعدها إذا صحت توبته بشروطها" وهي الإقلاع عن المعصية والندم على فعلها والعزم على أن لا يعود إليها هذا حذفه من كلام النووي، وأبدله بقوله: "والمعرفة، قال: فهذا هو الجاري على قواعد الشرع" دون ما قاله أولئك الأئمة، "وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرًا فأسلم، وأجمعوا
على قبول شهادته ولا فرق بين الرواية والشهادة في هذا.
قال شيخنا: ويمكن أن يقال: فيما إذا كان كذبه في وضع حديث وحمل عنه ودون أن الإثم غير منفك عنه بل هو لاحق له أبدًا، فإن من سن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والتوبة حينئذ متعذرة ظاهرًا، وإن وجد مجرد اسمها.
ومنها أنه يحرم نداؤه من وراء الحجرات. قال الله.
على قبول شهادته ولا فرق بين الرواية والشهادة في هذا، قال شيخنا" السخاوي في شرح الألفية تعقبًا على النووي:"ويمكن أن يقال: فيما إذا كان كذبه في وضع حديث وحمل عنه ودون أن الإثم غير منفك عنه بل هو لاحق له أبدًا، فإن من سن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والتوبة حينئذ متعذرة ظاهرًا، وإن وجد مجرد اسمها" فإنما تصح عند من قال بها بالنظر لإثم الكذب نفسه، لا لما ترتب عليه وتولد منه، قال -أعني السخاوي: ولا يستشكل بقبولها ممن لم يمكنه التدارك برد أو محالة، فالأموال الضائعة لها مرد وهو بيت المال والاعراض قد انقطع تجدد الإثم بسببها فافترقا، وأيضًا فعدم قبول توبة الظالم ربما يكون باعثًا له على الاسترسال والتمادي في غيه فيزداد الضرر به بخلاف الراوي فإنه لو اتفق استرساله فاسمه بالكذب مانع من قبول متجدداته، وأيضًا فقبول توبته قد يشتهر عند من حمل عنه كذبه فيبعثه على التمسك بما رواه عنه، بل قال الذهبي: من عرف بالكذب على الرسول لا يحصل لنا ثقة بقوله إني تبت، يعني كما قيل بمثله في المعترف بالوضع، وكما اتفق لزياد بن ميمون أنه تاب بحضرة ابن مهدي والطيالسي، وقال لهما: أرأيتما رجلا يذنب فيتوب، أليس يتوب الله عليه؟ قالا: نعم، ثم بلغهما أنه نقل عمن اعترف لهما بكذبه في سماعه منه فأتياه، فقال لهما أيضًا: أتوب، ثم بلغهما أيضًا التحديث عنه فتركاه، أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، انتهى.
وقال شيخ الإسلام زكريا: وقد كنت ملت لما قاله النووي، ثم ظهر لي أن الأوجه ما قاله الأئمة لما مر، يعني من الفرق بين الرواية والشهادة، وهو أن الحديث حجة لجميع المكلفين وفي جميع الأعصار، فكان حكمه أغلظ؛ لأن متعلقها عام مبالغة في الزجر عن الرواية له بلا إتقان وعن الكذب فيه عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد" قال: ويؤيده قول أئمتنا أن الزاني إذا تاب لا يعود محصنًا ولا يحد قاذفه. وأما إجماعهم على صحة رواية من كان كافرًا فأسلم، فلنص القرآن على غفران ما سلف منه.
"ومنها: أنه يحرم نداؤه من وراء الحجرات" أي: من خارج حجرات، نسائه، "قال الله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} ، أي: لكان الصبر خيرًا لهم، أي: لكان الصبر خيرًا من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجبين للثناء والثواب.
ومنها أنه يحرم الجهر له بالقول، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} وقال ابن عباس لما نزل قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} .
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} ، بأن أتوها حجرة حجرة، فنادوه أو تفرقوا عليها متطلبين له، لأنهم لم يعلموه بأيها {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} الآية، محلك الرفيع، وما يناسبه من التعظيم، "إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة" عطف سبب على مسبب، " {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} ، أي: لكان الصبر خيرا من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب، وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم الموجبين للثناء والثواب" وهذا نزل في وفد بني تميم، وسبقت قصتهم في المقصد الأول، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، وتلميح بالصفح عنهم، خصوصًا بقوله:{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 5] الآية.
"ومنها: أنه يحرم الجهر له بالقول، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إذا نطقتم "فوق صوت النبي" إذا نطق، "ولا تجهروا له بالقول" إذا ناجيتموه {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، بل دون ذلك إجلالا له، {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} الآية" أي: خشية ذلك بالرفع والجهر المذكورين.
روى البخاري عن ابن أبي مليكة، قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر لما قدم وفد بني تميم، قال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] الآية، إلى قوله:{عَظِيمٌ} [الحجرات: 3] الآية.
قال ابن أبي مليكة، عن ابن الزبير: فكان عمر بعد إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم، حدثه كأخي السرار، لم يسمعه حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر.
"وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية، "كان أبو بكر
كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، وروي أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يسمع عمر حتى يستفهمه مما يخفض صوته. وكان ثابت بن قيس بن شماس في أذنه وقر، وكان جهوريًا، فلما نزلت تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتفقده ودعاه فقال: يا رسول الله! لقد أنزلت عليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام:"لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة"، قال أنس فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا.
لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار".
قال المصنف: بكسر السين المهملة، أي: كصاحب السرار، أي: لا يرفع صوته إذا حدثه، بل يكلمه كلامًا مثل المساواة، وشبهها لخفض صوته.
قال الزمخشري: ولو أريد بأخي السرار المسارر كان وجهًا، والكاف على هذا في محل نصب على الحال، يعني: لأن التقدير حدثه حديثًا مثل المسارة، انتهى، فهو براءين، بينهما ألف، كما في النسخ، ومثله في صحيح البخاري، كما رأيت وصحفه من قال السر، فأسقط منه الألف والراء، وقال: أي كالأخ الذي يريد مسارة أخيه بما يريد كتمه، فلا يحب أن يطلع عليه غيره، فيخفي كلامه عند مخاطبته غاية الإخفاء، فهذا صحيح في نفسه، لكن ليس هو الرواية.
"وروي: أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يسمع عمر حتى يستفهمه مما يخفض صوته" ما مصدرية، قال الحافظ: وأما خبر ابن عباس وجابر في الصحيح أن نسوة كن يكلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عالية أصواتهن، فالظاهر أنه كان قبل النهي، ويحتمل أن علو الصوت كان بالهيئة الاجتماعية، لا لانفراد كل منهن، وقال غيره: إنه بعده، لكنهن لم يعلمن به، ورد بأنه كان يجب عليه بيان الحكم لهن، ولم ينقل، "وكان ثابت بن قيس بن شماس" خطيبه صلى الله عليه وسلم، وخطيب الأنصار "في أذنه وقر" بسكون القاف، صمم، "وكان جهوريًا" أي: عالي الصوت، "فلما نزلت، تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقعد في بيته، وأغلق بابه، "فتفقده" المصطفى، "ودعاه، فقال: يا رسول الله! لقد أنزلت عليك هذه الآية، وإني رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام: "لست هناك" أي: في ذلك الموضع الذي يحبط فيه العمل، والمعنى: لست ممن يحبط عمله، "إنك تعيش بخير، وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة".
وعند ابن سعد والدارقطني، فقال له صلى الله عليه وسلم:"أما ترضى أن تعيش حميدًا وتقتل شهيدًا وتدخل الجنة" وأخرجه ابن جرير، وقال في آخره: فعاش حميدًا وقتل شهيدًا.
"قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدنا" وفي رواية: أظهرنا،
فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة. رأى ثابت بعض الانكشاف وانهزمت طائفة منهم فقاتل حتى قتل.
ومنها أنه معصوم من الذنوب كبيرها وصغيرها، وعمدها وسهوها.
"فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة" بكسر اللام الكذاب، "رأى ثابت" من بعض المسلمين "بعض الانكشاف، وانهزمت طائفة منهم، فقاتل حتى قتل" وظهر بذلك مصداق خبره صلى الله عليه وسلم، وروى ابن أبي حاتم، قال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة، كان في بعضنا بعض الانكشاف، فأقبل، وقد تكفن وتحنط، فقاتل حتى قتل.
وأخرج البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: أنا أعلم لك علمه، فأتاه، فوجده جالسًا في بيته منكسًا في رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، وهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي، فقال: إنه قال كذا وكذا، فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه، فقل له:"إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة"، وأخرجه مسلم من وجه آخر، عن أنس: سأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ: "ما شأن ثابت اشتكى"؟ فقال: إنه لجاري، وما علمت له شكوى، الحديث.
وروى ابن المنذر من طريق آخر عن أنس، فقال سعد بن عبادة: هو جاري، الحديث.
قال الحافظ: وهذا أشبه بالصواب لأن ابن عبادة من قبيلة ثابت، فهو أشبه أن يكون جاره من ابن معاذ لأنه من قبيلة أخرى.
وقد استشكل بعض الحفاظ رواي مسلم بأن نزول الآي في سنة تسع، وموت ابن معاذ في سنة خمس، ويمكن الجمع؛ بأن الذي نزل في قصة ثابت مجرد رفع الصوت، والذي نزل في قصة الأقرع أول الصورة، وهو {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، وقد نزل قوله:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية، في قصة عبد الله بن أبي بن سلول قبل أن يسلم عبد الله كما في الصحيح، وإسلامه كان بعد بدر، وللطبري وابن مردويه، عن ثابت: لما نزلت هذه الآية، قعد ثابت يبكي، فمر به عاصم بن عدي، فقال: ما يبكيك؟ قال: أتخوف أن تكون نزلت في فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش حميدًا" الحديث، وهذا لا يغاير أن يكون الرسول إليه من النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، انتهى، ولم يظهر لي جمعه المذكور مع ما في البخاري، كما مر أنها نزلت بسبب اختلاف العمرين فيمن يؤمره من القعقاع، أو الأقرع، وهما من وفد تميم، وقدومهم سنة تسع.
"ومنها: أنه معصوم من الذنوب" بعد النبوة وقبلها، "كبيرها وصغيرها، وعمدها وسهوها"
وكذلك الأنبياء.
ومنها أنه لا يجوز عليه الجنون لأنه نقص، ولا الإغماء الطويل الزمن، فيما ذكره الشيخ أبو حامد في التعليق، وجزم به البلقيني في حواشي الروضة، وكذلك الأنبياء.
ونبه السبكي على أن إغماءهم يخالف إغماء غيرهم، وإنما هو ناشئ عن غلبة الأوجاع للحواس الظاهرة دون القلب، لأنه قد ورد أنه إنما تنام أعينهم دون قلوبهم، فإذا حفظت قلوبهم وعصمت من النوم الذي هو أخف من الإغماء، فمن الإغماء.
على الأصح في ظاهره وباطنه، سره وجهره، جده ومزحه، رضاه وغضبه، كيف، وقد أجمع الصحب على اتباعه والتأسي به في كل ما يفعله، "وكذلك الأنبياء".
قال السبكي: أجمعت الأمة على عصمة الأنبياء فيما يتعلق بالتبليغ وغيره من الكبائر، وصغائر الخسة، والمداومة على الصغائر، ومن صغائر لا تحط من رتبتهم، خلاف ذهب المعتزلة وكثير من غيرهم إلى جوازها، والمختار المنع لأنا أمرنا بالاقتداء بهم فيما يصدر عنهم، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي، ومن جوزه، لم يجوزه، بنص ولا دليل، انتهى، أي: وإنما تمسكوا بظواهر إن التزموها أفضت بهم إلى خرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم؛ كما بسطه عياض.
"ومنها: أنه لا يجوز عليه الجنون" ولو قصر "لأنه نقص" وهو لا يجوز على الأنبياء لتأديته إلى النفرة عنهم، وعدم الانقياد إليهم، "ولا الإغماء الطويل الزمن فيما ذكره الشيخ أبو حامد" الغزالي "في التعليق، وجزم به البلقيني في حواشي الروضة".
أما القصير، كلحظة أو لحظتين، فيجوز، صرح به الدارمي، والقاضي، وارتضاه الأسنوي، "وكذلك الأنبياء" وإن لم يكونوا رسلا، "ونبه السبكي على أن إغماءهم يخالف إغماء غيرهم، وإنما هو ناشئ عن غلبة الأوجاع" عطف علة على معلول؛ كأنه قيل: لغلبة الأوجاع "للحواس الظاهرة دون القلب" بخلاف إغماء غيرهم، فيؤثر حتى في القلب، بحيث يصير المغمى عليه لا شعور له، وهل الإغماء سهو يلحق الإنسان مع فتور الأعضاء، لعلة أو امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ، أو هو الغشي، وهو تعطيل القوى المحركة، والأوردة الحساسة لضعف القلب، بسبب وجع شديد، أو برد أو جوع مفرط أقوال، وإنما خالف إغماء غيرهم؛ "لأنه قد ورد" في الصحيح؛ "أنه إنما تنام أعينهم دون قلوبهم، فإذا حفظت قلوبهم وعصمت من النوم الذي هو أخف من الإغماء" لسرعة زواله، غايته أن يمنع الإدراك والمعرفة، "فمن الإغماء
بطريق الأولى.
قال السبكي: ولا يجوز عليهم العمى، لأنه نقص، ولم يعم نبي قط. وأما ما ذكر عن شعيب أنه كان ضريرًا فلم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت، انتهى.
وقال الرازي: في قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} لما قاله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} غلبه البكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين، فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء، وقوله:{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} كأنه من غلبة البكاء، والدليل على صحة هذا القول: أن تأثير الحزن في غلبة البكاء، لا في حصول العمى، فلما حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنًا، ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل، فكان ما ذكرناه أولى.
بطريق الأولى" لاستيلائه على الحواس الظاهرة والباطنة استيلاء تامًا، بحيث لا يزول إلا بعلاج، وربما دام، فلا يفيد علاجه.
"قال السبكي: ولا يجوز عليهم العمى لأنه نقص، ولم يعم نبي قط، وأما ما ذكر عن شعيب؛ أنه كان ضريرًا، فلم يثبت" ويفرض ثبوته وإنه حقيقي، فلا يضر، لأنه طارئ بعد تحقق النبوة بالآيات، فلا يغير الاعتقاد فيهم، والكلام في المقارن لابتداء الأنباء، لأنه ينفر، فلا تطمئن النفس بما جاءوا به، "وأما يعقوب، فحصلت له غشاوة، وزالت، انتهى".
وقال القاضي عياض: الأنبياء منزهون عن النقائص في الخلق، والخلق سالمون من العاهات والمعائب، ولا التفات لما يقع في التاريخ من وقوع بعض العاهات في بعضهم بل نزههم الله من كل عيب، وكل ما ينقص العيون، أو ينفر القلوب.
"وقال الرازي" الإمام فخر الدين "في" تفسير "قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} الآية، لما قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} غلبه بالبكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين، فتصير العين؛ كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء" أي: ولم يحصل له عمى، ولا نقص إبصار، "وقوله:{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} الآية، كأنه من غلبة البكاء، والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء، لا في حصول العمى، فلما حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنًا، ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل، فكان ما ذكرناه أولى".
ثم قال: واختلفوا، فقال بعضهم: إنه كان قد عمي بالكلية، فالله تعالى جعله بصيرًا في هذا الوقت، وقال آخرون: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والأحزان بحيث صار يدرك إدراكًا ضعيفًا، فلما ألقوا القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه، فعند ذلك قوي بصره وزال النقصان عنه، انتهى.
ومنها أن من سبه أو انتقصه قتل.
واختلف هل يحتم قتله في الحال، أو يوقف على استتابته؟ وهل.
قال البيضاوي: وفي الآية دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع، ولعل أمثال ذلك لا تدل تحت التكليف؛ فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد، ولقد بكى صلى الله عليه وسلم على إبراهيم، وقال:"القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون"، انتهى، وذلك الجزع والحزن لما جبلوا عليه من الرحمة، ولا ينافي ذلك الرضا بالقضاء، فلا ينافي أن الأنبياء عالمون بأن الله فعال لما يريد، وقضاؤه كائن ويؤخذ منه أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة، لا يخرجه البكاء والحزن عن كونه صبرًا راضيًا، إذ كان قلبه مطمئنًا، بل قد يقال: إن من ينزعج من المصيبة، ويعالج نفسه على الصبر والرضا أرفع رتبة ممن لا يبالي بوقوع المصيبة أصلا، أشار إلى ذلك ابن جرير، وأطال في بيانه، "ثم قال" الرازي:"واختلفوا، فقال بعضهم" كمقاتل: "إنه كان عمي بالكلية، فالله تعالى جعله بصيرًا في هذا الوقت" الذي ألقى فيه القميص على وجهه، "وقال آخرون: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والأحزان، بحيث صار يدرك إدراكًا ضعيفًا، فلما ألقوا القميص على وجهه" وهو قميص إبراهيم الذي أتى به جبريل لإبراهيم حين ألقي في النار من حرير الجنة، فلما مات أخذه إسحاق، فلما مات أخذه يعقوب، فلما شب يوسف، جعله يعقوب في قصبة من فضة، وسد رأسها، وجعلها في عنقه، كالتعويذة لما يخاف عليه من العين، وكانت في عنق يوسف حين ألقي في الجب عريانًا، فأتاه جبريل، وأخرج ذلك القميص وألبسه إياه، فلما كان هذا الوقت أمره جبريل بإرساله لأبيه، وقال: إنه فيه ريح الجنة، ولا يلقى على مبتلى إلا عوفي؛ كما قاله مجاهد وغيره، وجزم به البغوي والجلال، "وبشر بحياة يوسف" من ابنه يهوذا جاءه بالقميص، وكان قد حمل قميص الدم، فأحب أن يفرحه، كما أحزنه، "عظم فرحه، وانشرح صدره، وزالت أحزانه، فعند ذلك قوي بصره، وزال النقصان عنه، انتهى" كلام الرازي.
"ومنها: أن من سبه" أي: شتمه "أو انتقصه" بأن وصفه بما يعد نقصًا عرفًا، "قتل" بإجماع، "واختلف هل يتحتم قتله في الحال، أو يوقف على استتابته" والامتناع منها، "وهل
الاستتابة واجبة أم لا؟
فمذهب المالكية: يقتل حدًا لا ردة: ولا تقبل توبته ولا عذره إن ادعى سهوًا أو غلطًا، وعبارة شيخهم العلامة خليل في مختصره، وإن سب نبيًا أو ملكًا، وإن عرض أو لعنه، أو عابه أو قذفه، أو استخف بحقه، أو غير صفته، أو الحق به نقصًا وإن في دينه
الاستتابة واجبة، أم لا؟ فمذهب المالكية يقتل حدًا لا ردة" بمعنى أنه يتحتم قتله، ثم تارة يكون مرتدًا، وتارة لا، "ولا تقبل توبته" في إسقاط الحد منه، كتوبة الزاني والسارق بعد بلوغ الإمام، لا تفيدهما في عدم الحد، وليس المعنى أنه لا يقبل رجوعه للإسلام، إذ لا قائل به، "ولا عذره إن ادعى" وقوع ذلك منه "سهوًا أو غلطًا، وعبارة شيخهم العلامة خليل" بن إسحاق بن موسى الجندي المجموع على فضله، وديانته، وتحقيقه، ثاقب الذهن، أصيل البحث، الفاضل في المذهب، المشارك في الحديث، والعربية، والأصول، والفرائض، تخرج به جماعة فقهاء فضلاء، وجمع بين العمل، والعلم، والإقبال على نشره مع الزهد والانقباض عن أهل الدنيا، وحج وجاور بمكة.
قال ابن فرحون: اجتمعت به في القاهرة، وحضرت مجلسه يقرأ في الفقه والحديث، والعربية، وله تصانيف مفيدة، كمختصره الذي قصد فيه بيان المشهور، مجردًا عن الخلاف مع الإيجاز البليغ، مات سنة ست وسبعين وسبعمائة "وإن سب" مكلف "نبيًا أو ملكًا" مجمعًا على نبوته وعلى ملكيته بدليل ذكره، بعد أن يشدد عليه الأدب في سب من لم يجمع على نبوته، أي: أو ملكيته، كالخضر، وخالد بن سنان، وهاروت وماروت، فلا يقبل سابهما على المذهب خلافًا للقرافي، ثم المراد إجماع المسلمين، فلا عبرة بخلاف أهل الكتاب في بعضهم كسليمان، فيقتل سابه، "وإن عرض" بالسب بلا تصريح، "أو لعنه" بصيغة الفعل أو غيرها، "أو عابه" أي: نسبه للعيب، وهو خلاف المستحسن عقلا، أو شرعًا، أو عرفًا في خَلق أو خُلق أو دين، وهو أعم من السب، فإن من قال: فلان أعلم منه، فقد عابه ولم يسبه، "أو قذفه" بنسبته للزنا أو نفيه عن أبيه، "أو استخف بحقه" كلا أبالي بنهيه عن كذا، "أو غير صفته" كأسود، أو قصير، أو جبريل ينزل في صفة عبد أسود على النبي صلى الله عليه وسلم، "أو ألحق به نقصًا".
قال العلامة البساطي: ليست بجيدة، أي: لأن النقص لا يلحقه بإلحاقه، والأولى بدلها، أو ذكر ما يدل على النقص في بدن أو دين، انتهى، كعمى، وعرج أو حكم بالهوى، وأجابوا عمن قال: إن كان ابن عمتك. بأن تركه، لأن الحق له في حياته، وليس لنا بعده تركه، "وإن في دينه" كذا في كثير من نسخ المختصر، وهو الذي عند شارحه بهرام تلميذه، وتوقف فيها محشيه
أو خصلته أو غض من مرتبته أو وفور علمه أو زهده أو أضاف له ما لا يجوز عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو قيل له: بحق رسول الله، فلعن وقال أردت العقرب قتل -ولم يستتب- حدًا، إلا أن يسلم الكافر، وإن ظهر أنه لم يرد ذمه لجهل أو سكر أو تهور.
العلامة محمد بن غازي، فذكر أن أكثر النسخ وإن في بدنه وفي بعضها، وإن في دينه؛ وتأمل ما يليق به الإغياء في كلامه، انتهى، "أو خصلته" طبيعته التي جبل عليها، كالكرم، "أو غض"، أي: نقص "من مرتبته، أو" غض من "وفور علمه، أو زهده، أو أضاف" أي: نسب "له ما لا يجوز عليه" كعدم التبليغ، "أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه" كنفي زهده؛ وأنه لم يكن حقيقيًا، ولو قدر على الطيبات أكلها، أو قال: ليس بمكي أو بحجازي؛ لأنه وصفه بغير صفته المعلومة نفي له وتكذيب، ومقصوده تعداد الألفاظ الموجبة للقتل، وقدم نظير ذلك في الإقرار والطلاق، فلا يعترض عليه بأن بعضها مكرر، وبعضها يستغنى عنه بذكر غيره "على طريق الذم" عائد لقوله: أو غض من مرتبته، ولقوله: أو أضاف له، وقوله: أو نسب
…
إلخ، لكن مفهومه لا يعتمد، إذ هو لا يعتبره، فالمعتمد المبالغة بعده، "أو قيل له: بحق رسول الله" تفعل أو تقول كذا، "فلعن، وقال: أردت العقرب" لأن الله تعالى أرسلها إلى من تلدغه وساقها؛ كما في قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} الآية، وهذا حقيقة الإرسال، وإنكاره مابرة، لكنه لا يقبل من قائله، لأن رسول الله إنما يراد به الأنبياء، ولا يخطر ببال أحد غيره، ولذا قال في الشفاء عن حبيب بن الربيع؛ لأن ادعاءه التأويل في لفظ صراح لا يقبل، وهو غير معزر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا موقر له، فوجب إباحة دمه، انتهى.
"قتل" المسلم الكافر "ولم يستتب" أي: لا يطلب منه توبة، بل ولا يقبل منه من غير طلب، ولو جاء تائبًا قبل الاطلاع عليه على ظاهره لازدرائه، فهو حق آدمي، مبناه المشاحة، بخلاف الزنديق كما قدمه "حدًا" إن تاب، أو أنكر ما شهد به عليه، ويغسل ويصلى عليه، ويدفن بمقابر المسلمين، وإلا قتل كفرًا بلا استتابة، ويدفن بمقابر الكفار بدون غسل وصلاة، "إلا أن يسلم الكافر" فلا يقتل لأن الإسلام يجب ما قبله، والفرق بينه وبين المسلم، أنه زنديق لا تعرف توبته، والكافر كان على كفره، فاعتبر إسلامه، ولم يجعل سبه من جملة كفره، لأنا لم نعطه العهد على ذلك، ولا على قتل مسلم أو أخذ ماله، فإن قتل قتلناه، وإن كان يستحله في دينه، وبالغ على قتل الساب، وإن كان كافرًا بقوله:"وإن ظهر أنه لم يرد" الساب "ذمه" أي: المذكور من نبي أو ملك، "لجهل، أو سكر، أو تهور" في الكلام، وهو كثرته بلا ضبط، إذ لا يعذر أحد في الكفر بذلك، وخرج بالمكلف المجنون وصغير لم يميز، فلا يقتلان بالسب.
وهذا قد ذكره القاضي عياض في الشفاء وغيره، واستدلوا له بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57] ، واللعنة من الله هي إبعاد الملعون عن رحمته وإحلاله في وبيل عقوبته، قال القاضي عياض: وإنما يستوجب اللعن من هو كافر، وحكم الكافر القتل.
والأذى: هو الشر الخفيف، فإن زاد كان ضررًا، كذا قاله الخطابي وغيره. وإطلاق الأذى في حقه تعالى إنما هو على سبيل المجاز لتعذر الحقيقة. ويشهد لذلك الحديث الإلهي:"يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني".
أما المميز، فإسلامه وردته معتبران، فإن بلغ ولم يتب قتل، وإن تاب أو أنكر ما شهد به عليه لم يقتل لوقوعه من غير مكلف، وفي المدخل من قال في نبي من الأنبياء في غير التلاوة والحديث عصى أو خالف فقد كفر، انتهى، ويتبادر منه أنه مرتد، ويحتمل أنه ساب.
"وهذا قد ذكره القاضي عياض في الشفاء" في أواخرها، "و" ذكره "غيره، واستدلوا له بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يرتكبون ما يكرهانه من الكفر والمعاصي، ويؤذون رسول الله بكسر رباعيته، وقولهم شاعر مجنون، ونحو ذلك {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أبعدهم {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} ذا إهانة، وهو النار، فأطلق في الآية وعمم، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} الآية، فقيد وشرط وغاير في الجزاء، "واللعنة من الله هي إبعاد الملعون عن رحمته وإحلاله في وبيل" بموحدة، فتحتية، أي: شديد "عقوبته" من إضافة الصفة للموصوف، أي: عقوبته الشديدة.
"قال القاضي عياض: وإنما يستوجب اللعن" أي: يستحقه وجوبًا "من هو كافر" وهذه مقدمة أولى من برهان منطقي على الحكم بقتله، "و" المقدمة الثانية هي "حكم الكافر القتل" لأنه غير معصوم بالذات، وإنما عرض له ما يمنع من قتله، ومن كفر بسببه أشد من الكافر الأصلي، فحتم قتله، "والأذى هو الشر الخفيف، فإن زاد كان ضررًا؛ كذا قال الخطابي وغيره، وإطلاق الأذى في حقه تعالى، إنما هو على سبيل المجاز لتعذر الحقيقة" إذ هو إيصال المكروه، وهو لا يتصور في حقه تعالى، لكنه لما خولف أمره وارتكبت معاصيه، عد ذلك أذى له على ما تعارفه الناس فيما بينهم، أو ذكر تهويلًا لأذية الرسول، وأن من يؤذيه، كمن يؤذي الله، ويشهد لذلك الحديث الإلهي:"يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني".
وهذا بخلاف جانب الرسول.
فالأذى في حق الله تعالى وحق رسوله كفر بشهادة هذه الآية، لأن العذاب المهين إنما يكون للكفار، وكذلك العذاب الأليم.
وقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65]، قال القاضي عياض: قال أهل التفسير: كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما السنة: فروى أبو داود والترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لنا بابن الأشرف"، وفي رواية أخرى "من لكعب بن الأشرف"، أي: من ينتدب لقتله.....
"وهذا بخلاف جانب الرسول" فتارة يكون حقيقيًا، كأذاه بما أصابه من كسر رباعيته، وشج وجهه؛ كما قاله ابن عباس وتارة مجاز أيضًا، كأذاه بارتكاب ما يكرهه "فالأذى في حق الله تعالى وحق رسوله كفر بشهادة هذه الآية لأن العذاب المهين إنما يكون للكفار" والمسلمون، وإن عذبوا بالنار، لكنه بلا إهانة، فلا تسود وجوههم، ولا تزرق أعينهم، "وكذلك العذاب الأليم" في آية:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61] الآية، أي: مؤلم، وفيه مجاز عقلي.
"وقال تعالى" في المنافقين الذين قالوا، وهو ذاهب إلى تبوك: انظروا إلى هذا الرجل يريد فتح الشام، هيهات، هيهات:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} استفهام توبيخ على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به، وإلزامًا للحجة عليهم، {لا تَعْتَذِرُوا} باعتذاراتكم فإنها معلومة الكذب، ولا يعبأ باعتذار الكاذب، {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية أي: ظهر كفركم بعد إظهار الإيمان.
"قال القاضي عياض: قال أهل التفسير كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم" هو أذن، وفي البيضاوي بإيذاء الرسول والطعن فيه.
"وأما السنة" فكثيرة، منها ما رواه الدارقطني والطبراني، عن علي، رفعه:"من سب نبيًا فاقتلوه، ومن سب أصحابي فاضربوه"، وسنده ضعيف، لكن اعتضد بالإجماع، "فروي" جواب، إما بتقدير فما روى أو جوابها محذوف، أي: فكثيرة، كما قدرت منها ما روى أبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من" يتكفل "لنا بابن الأشرف" أي: بقتله.
"وفي رواية أخرى" عند ابن عائذ عن عروة: "من لكعب بن الأشرف"، بفتح الهمزة وسكون المعجمة، وفتح الراء وبالفاء اليهودي حلفًا حالف بني النضير، "أي: من ينتدب لقتله"،
"فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا" وفي رواية: "فإنه يؤذي الله ورسوله".
قال القاضي عياض: ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلل بأذاه له، فدل على أن قتله إياه كان لغير الإشراك بل كان للأذى.
وفي حديث مصعب بن سعد عند أبي داود: لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، إلا أربعة فذكرهم ثم قال: وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان.
أي: يتوجه له، "فقد استعلن" الفاء، تعليلية، والسين للتأكيد، أي: أعلن "بعداوتنا" أو للطلب والباء زائدة، أي: طلب إظهار عداوتنا حتى من غيره، "وهجائنا" عطف سبب عن مسبب.
"وفي رواية" في الصحيح عن جابر: "من لكعب بن الأشرف، فإنه يؤذي الله ورسوله" لأنه أعلن سب الرسول وهجاءه، ورثى أهل القليب، وذهب إلى المشركين يحرضهم عليه.
"قال القاضي عياض: ووجه إليه" أي: أرسل له، وأصله الإرسال لجهته "من قتله" وهو محمد بن مسلمة الأنصاري في أربعة، وتقدمت القصة في المغازي، "غيلة" بكسر المعجمة، وسكون التحتية، أي: خفية من غير شعور أحد، "دون دعوة" للإسلام، "بخلاف غيره من المشركين" مطلق الكفرة، فإنما يقتله بعد الدعوة والإنذار، "وعلل" صلى الله عليه وسلم قتله "بأذاه له فدل على أن قتله إياه كان لغير الإشراك" مطلق الكفر؛ لأنه يهودي، وورد الإشراك بهذا المعنى أيضًا، "بل كان للأذى" لله ورسوله، فدلت قصته على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم وآذاه من الكفار يقتل.
"وفي حديث مصعب بن سعد" بن أبي وقاص الزهري، المدني، التابعي، ثقة، روى له الجميع، مات سنة ثلاث ومائة، "عند أبي داود" عن مصعب، عن أبيه، لا أنه مرسل، كما أوهمه المصنف.
قال سعد: "لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة فذكرهم" مفصلين، فقال عكرمة، وابن خطل، ومقيس، وابن أبي سرح، وفي رواية الحويرث بدل عكرمة، واسم ابن خطل عبد العزى، فلما أسلم سمي عبد الله، ومن قال اسمه هلال، التبس عليه بأخ له اسمه هلال؛ كما تقدم بسطه في فتح مكة؛ وأن جلة من هدر دمه تسع رجال وست نسوة، "ثم قال: وأما ابن أبي سرح" عبد الله بن سعد، "فاختبأ عند عثمان بن عفان" وكان أخاه من
فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك وهو يأبى، فبايعه بعد الثلاث، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال:"أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله"، قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا؟ قال:"إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين".
وفيه: أنه أمر بقتل عبد الله بن خطل، لأنه كان يقول الشعر يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر جاريتيه أن تغنيا به.
الرضاعة؛ كما في ابن إسحاق، "فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به" عثمان "حتى أوقفه" بالألف لغة قليلة، وأنكرها الأصمعي، وقال الجوهري: إنها رديئة، والكثير وقفه "على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال" عثمان:"يا نبي الله! بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه" ملا، أي: طويلًا "ثلاثًا كل" بالرفع "ذلك، وهو يأبى" أن يبايعه، "فبايعه بعد الثلاث، ثم" لما انصرف به عثمان كما في ابن إسحاق، "أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقال""أما" فهمزة الاستفهام مقدرة، "كان فيكم رجل رشيد"، نبيه، يفهم مرادي، "يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله" فالاستفهام للوم على عدم قتله، وعند ابن إسحاق:"لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيقتله"، "قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ألا" بالفتح والتخفيف لمجرد التنبيه، نحو: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} الآية، "أومأت" أشرت "إلينا" بحاجب أو يد، أو غيرهما، فقال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" وهي الإيماء إلى مباح من نحو قتل أو ضرب، على خلاف ما يظهر، سميت بذلك لشبهها بالخيانة لإخفائها، كما لو أومأ لقتله حين طلب عثمان مبايعته، فإنه خلاف الظاهر من سكوته، وتجوز لغيره إلا في محظور، وعليه قوله تعالى:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} الآية، ففيه ذم النظر إلى ما لا يجوز؛ كما فسره به ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وفسره السدي والضحاك بالرمز بالعين، وقد كان عبد الله بعد أن بايعه ممن حسن إسلامه، ولم يظهر منه شيء ينكر عليه، وله المواقف المحمودة في الفتوح، وولاه عمر صعيد مصر، ثم عثمان مصر كلها، واعتزل الفتنة بعده، "وفيه" أي حديث مصعب "أنه أمر بقتل عبد الله بن خطل" بفتح الخاء المعجمة، والطاء المهملة "لأنه كان يقول الشعر، يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر جاريتيه أن تغنيا به" وفي الصحيح أنه عليه السلام جاءه رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال:"اقتلوه"، زاد ابن حبان: فقتل.
وروى عمر بن شبة في كتاب مكة عن السائب بن يزيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكذلك قتل جاريتيه.
فقالوا: إنه قد ثبت أمره بقتل من آذاه، ومن تنقصه، والحق له عليه السلام وهو مخير فيه، فاختار القتل في بعضهم وعفا عن بعضهم وبعد وفاته تعذرت المعرفة بالعفو، لعدم الاطلاع على العفو، وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه صلى الله عليه وسلم فإنه لم يرد عنه الإذن في ذلك. وهذا جعله في الشفاء.
وأما الإجماع: فقال القاضي عياض: أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم.
استخرج من تحت أستار الكعبة ابن خطل فضربت عنقه صبرًا بين زمزم ومقام إبراهيم، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يقتل قرشي بعد هذا صبرًا" وأصح الروايات في تعيين قاتله أنه أبو برزة كما قدمه المصنف في فتح مكة تبعًا للحافظ.
"وكذلك قتل" مصدر مجرور، عطف على عبد الله، أي: أمر بقتل "جاريتيه" اللتين كانتا تغنيان بهجائه، وهما فرتنى، بفتح الفاء، وإسكان الراء، ففوقية، فنون مقصورة وقريبة، بقاف، وموحدة، مصغر. قتلت، وأسلمت فرتنى، فلم تقتل؛ كما مر في الفتح، فلا يقرأ قتل فعلا، للإخبار بأنه قتلهما، لأنه خلاف الواقع، "فقالوا" في وجه الاستدلال:"أنه قد ثبت أمره بقتل من آذاه، ومن تنقصه، والحق له عليه السلام، وهو مخير فيه، فاختار القتل في بعضهم" كابن خطل ومقيس، "وعفا عن بعضهم" كابن أبي سرج وعكرمة، "وبعد وفاته تعذرت المعرفة بالعفو" فبقي الحكم على عمومه في القتل، "لعدم الاطلاع على العفو، وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يرد عنه الإذن في ذلك وهذا جعله في الشفاء" سؤالا وجوابًا، وأطال في بيان تفاصيله.
"وأما" مقامه "من المسلمين وسابه" بالشتم الذي هو معنى السب، فليس إطنابًا، إذ الانتقاص يشمل السب كما زعم ولكن في الاستدلال بهذا الجماع على قتله إذا تاب لأن محصله أنه يقتل فقط، والتوبة وعدمها لم يجمع عليه، وعياض نفسه لم يجعله دليلا على ذلك، وعبارته القسم الرابع في تصريف وجوه الأحكام فيمن تنقصه إلى أن قال: حرم الله أذاه في كتابه، وأجمعت الأمة
…
إلخ. وقيد بالمسلمين للخلاف في الكافر، هل يقتل أو ينتقض عهده ويبلغ مأمنه، وقد عقد عياض لذلك فصلا بعد.
"قال ابن المنذر" أبو بكر محمد بن إبراهيم النيسابوري: "أجمع عوام" أي: جماعة "أهل العلم" جمع عامة، والمتقدمون يعبرون بهذه العبارة للعموم، فكأنه قيل: أجمع عموم، أي كل العلماء وليس المراد العامي، إذ لا عبرة بهم، ولا بإجماعهم، وأهل العلم ينادي عليه؛ لأن العامي
على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وممن قال ذلك: مالك بن أنس والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي، وقال الخطابي: لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا. وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر، انتهى.
ومذهب الشافعي: أن ذلك ردة، تخرج من الإسلام إلى الكفر، فهو مرتد كافر قطعًا لا نزاع في ذلك عند الجمهور من أمتنا، والمرتد يستتاب، فإن تاب
لا يكون أهل علم، "على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وممن قال ذلك مالك" بن أنس، "والليث" بن سعد المصري، الإمام، المجتهد، المشهور، "وأحمد" بن حنبل "وإسحاق" بن راهويه، "وهو مذهب الشافعي" المشهور عنه، وبعد هذا الإجماع يأتي الخلاف في تحتم قتله واستتابته وقبولها، وهذا لم يفهمه من اعترض حكاية الإجماع بمذهب الشافعي.
"وقال الخطابي" حمد، بسكون الميم، ابن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، يقال إنه من نسل زيد بن الخطاب أخي عمر:"لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا" ولم يتب، وإنما الخلاف في الكافر.
"وقال محمد بن سحنون" الإمام، ابن الإمام، الجامع لخلال فلما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والعلم بالأثر، والجدل، والحديث، والذب عن مذهب أهل الحجاز، كريمًا في معاشرته، نفاعًا، مطاعًا، جوادًا بماله وجاهه، وجيها عند الملوك والعامة، جيد النظر في الملمات ألف نحو مائتي كتاب في فنون العلم، تفقه بأبيه، وسمع من جماعة غيره بالمغرب والمشرق، توفي سنة ست وخمسين ومائتين، وله أربع وخمسون، أو ست وخمسون سنة، ودفن بالقيروان.
"أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنقص له" لو عطفه كان أحسن "كافر مرتد، والوعيد" في القرآن والسنة، "جار عليه" لشموله له "بعذاب الله" كقوله:{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية، "وحكمه عند الأمة" أمة الإجابة كلهم "القتل" إلا أن يتوب، فاختلفوا، "ومن شك في كفره وعذابه كفر" لتكذيبه لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية، "انتهى".
"ومذهب الشافعي أن ذلك ردة تخرج من الإسلام إلى الكفر فهو مرتد كافر قطعًا لا نزاع في ذلك عند الجمهور من أئمتنا" بل جميعهم وجميع غيرهم، إنما النزاع في قتله إذا تاب، "والمرتد يستتاب، فإن تاب" قبلت توبته، ولم يجز قتله عند الشافعية، وإن تكررت ردته، لكن
وإلا قتل.
وفي الاستتابة قولان: أصحهما وجوبها، لأنه كان محترمًا بالإسلام، وإنما عرضت له شبهة، فينبغي إزالتها، وقيل: تستحب لأنه غير مضمون الدم، فإن قلنا بالأول فتجب الاستتابة في الحال ولم يؤجل كغيره. وفي الصحيح:"من بدل دينه فاقتلوه". وفي قول: يمهل ثلاثة أيام، فإن لم يتب وأصر -رجلا كان أو امرأة- قتل، وإن أسلم صح الإسلام وترك لقوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5] الآية.
وعن ابن عباس: أيما مسلم سب الله أو سب أحدًا من الأنبياء فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل، وأيما معاهد.
يعزر لزيادة تهاونه، ويتحتم قتله عند المالكية وطائفة، "وإلا" يتب "قتل، وفي الاستتابة قولان، أصحهما وجوبهما؛ لأنه كان محرمًا بالإسلام، وإنما عرضت له شبهة" فأوقعته في الجناب الرفيع، "فينبغي" أي: يجب "إزالتها" بعد الإسلام على الأصح، وفي وجه يناظر أولا؛ لأن الحجة مقدمة على السيف.
"وقيل: تستحب" إزالتها "لأنه غير مضمون الدم" إذ لا يقتل قاتله حينئذ، "فإن قلنا بالأول، فتجب الاستتابة في الحال" أي: فورًا "ولم يؤجل" ثلاثة أيام "كغيره" من المرتدين.
"وفي الصحيح" للبخاري عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من بدل دينه" أي: انتقل من الإسلام لغيره بقول أو فعل، وأصر "فاقتلوه" بعد الاستتابة وجوبًا وخص عمومه بدين الإسلام، فمن انتقل من كفر لآخر لم يقتل، "وفي قول يمهل" الساب "ثلاثة أيام، فإن لم يتب، وأصر" على الكفر، "رجلا كان أو امرأة قتل" الرجل بإجماع، والمرأة عند الأئمة الثلاثة لأن عموم من يشملها.
وقال أبو حنيفة: لا تقتل، لأن من الشرطية لا تعم المؤنث للنهي عن قتل النساء، فكما لا تقتل في الكفر الأصلي، لا تقتل في الطارئ، "وإن أسلم صح الإسلام وترك لقوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} "الآية" والذين قالوا بتحتم قتل الساب، وإن تاب خصوا منها المسلم، إذ سبه لأدلة أخرى.
"وعن ابن عباس: أيما مسلم سب الله، أو سب أحدًا من الأنبياء، فقد كذب رسول الله، وهي ردة يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل". وعجيب احتجاج المصنف بهذا، وابن عباس لم يرفعه، وهو مما يقال بالرأي وقول الصحابي ليس حجة عند الشافعية، "وأيما معاهد
سب الله أو سب أحدًا من الأنبياء فقد نقض العهد فاقتلوه.
وأجيب عما تقدم من أدلة المالكية:
فأما قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فليس فيه إلا كفر مؤذيه عليه السلام، وأما كونه يقتل فلا دلالة فيه أصلا، وأما ابن خطل فإنما قتل ولم يستتب للكفر والزيادة فيه بالأذى مع ما اجتمع فيه من موجات القتل، ولأنه اتخذ الأذى ديدنا، فلا يقاس عليه من فرط منه فرطة -وقلنا بكفره بها- وتاب ورجع إلى الإسلام، فالفرق واضح. لكن وكذلك قتل جاريته لأنهما جعلا ذلك ديدنا مع ما قام بهما من صفة الكفر.
سب الله، أو سب أحدًا من الأنبياء، فقد نقض العهد، فاقتلوه" ظاهر قول ابن عباس الإطلاق، فهو مذهبه، فتنزيله على مذهب الشافعية أو غيرهم لا يليق.
"وأجيب عما تقدم من أدلة المالكية، فأما قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فليس فيه إلا كفر مؤذيه عليه السلام، أما كونه يقتل" حتمًا، "فلا دلالة فيه أصلًا" لكن قد بين عياض وجه الدلالة من الآية على القتل بأن من لعنته في الدنيا القتل، بدليل قوله:{مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} الآية، وقال في أذى المؤمنين ما دون القتل من الضرب والنكال، فكان حكم مؤذي الله ونبيه أشد، وهو القتل.
"وأما ابن خطل فإنما قتل ولم يستتب للكفر والزيادة فيه بالأذى، مع ما اجتمع فيه من موجبات القتل" كقتل مولاه المسلم حين خالفه في شيء أمره به، "ولأنه اتخذ الأذى ديدنا" أي: عادة مستمرة، ولم ينطق بالشهادتين عند الأمر بقتله، "فلا يقال عليه من فرض منه فرطة، وقلنا بكفره بها، وتاب ورجع إلى الإسلام" عطف تفسير "فالفرق واضح لكن" فيه أن وجه الدلالة منه أنه كان أسلم، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا، ثم آذاه عليه السلام، فأمر بقتله، وإن تعلق بأستار الكعبة، ولم يأت في خبر أنه أمر باستتابته، مع أن استتابة المرتد واجبة، فدل على أن مؤذيه يقتل بلا استتابة، على أن شيخنا قال: هذا الفرق لا يتم فيمن تكررت منه الردة والعناد مرارًا كثيرة، "وكذلك قتل جاريتيه" أي: الأمر بقتلهما، والمقتول واحدة كما مر، "لأنهما جعلا ذلك ديدنًا مع ما قام بهما من صفة الكفر" لا يرد على مالك، لأنه قال: يقتل الكافر أيضًا إذا سبه، ما لم يسلم، وهما كانتا كافرتين، فقتلت الباقية عليه، وتركت المسلمة، فهو حجة لمالك لا عليه.
وقد روى البزار عن ابن عباس أن عقبة بن أبي معيط نادى: يا معشر قريش ما لي أقتل من بينكم صبرًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"بكفرك وافترائك على رسول الله". فذكر له سببين في تحتم قتله، وهذا في غاية الظهور.
وأما قول الخطابي وغيره: "لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا" فمحمول على التقييد بعدم التوبة.
وأما سياق القاضي عياض لقصة الرجل الذي كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه بعث عليًا والزبير ليقتلاه، فليس يفيد غرضًا في هذا المقام لأن الظاهر أن هذا كذب، فيه إفساد وفتنة بين المؤمنين، لا سيما إن كان كافرًا، فيكون من محاربي الله ورسوله، مع السعي في الأرض بالفساد، فيكون متحتم القتل، وإلا فليس مطلق
"وقد روى البزار عن ابن عباس: أن عقبة بن أبي معيط" أحد أسرى بدر، لما قدم ليقتل بمحل على ثلاثة أميال من الروحاء قرب المدينة، "نادى" رافعًا صوته:"يا معشر قريش" ذكرهم بيانًا لحجته في عدم الفرق بينه وبين غيره، أو ليعطف عليه المسلمون منهم، "ما لي أقتل من بينكم" استفهام إنكاري، أي: دون غيري منكم، ومثله يستعمل للاختصاص "صبرًا" أي: بلا حرب، ولا غفلة، وأصل معناه الحبس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"بكفرك وافترائك" أي تعمدك الكذب "على رسول الله". فذكر له سببين في تحتم قتله، وهذا في غاية الظهور" وهو من جملة أدلة المالكية، إذ هم قائلون بقتل الكافر إذا سبه، ولذا ذكره في الشفاء دليلا.
"وأما قول الخطابي وغيره: "لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا فمحمول على التقييد بعدم التوبة" لأنه الإجماع الإجماع.
"وأما سياق القاضي عياض لقصة الرجل الذي كذب على رسول الله" المتقدمة قريبًا، ولفظ عياض، ويروى أن رجلا كذب على النبي "صلى الله عليه وسلم وأنه بعث عليًا والزبير ليقتلاه" إن أدركاه، قال:"وما أراكما تدركانه"، فوجداه ميتًا من لدغة حية، "فليس يفيد غرضًا في هذا المقام" الذي هو تحتم قتل مؤذيه، وإن تاب إن كان مسلمًا "لأن الظاهر أن هذا كذب فيه إفساد وفتنة بين المؤمنين" هذا الاستظهار من عدم الاطلاع على الحديث، فإن لفظه جاء إلى ناس من الأنصار، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكن وزوجني فلانة، "لا سيما إن كان كافرًا، فيكون من محاربي الله ورسوله، مع السعي في الأرض بالفساد، فيكون متحتم القتل" لذلك، وفيه: أن المحارب لا يتحتم قتله، كما بين في القرآن مع أن منشأه القصور، فإن الرجل صحابي، وهو جدجد الجندعي، ذكره صاحب الإصابة وغيره، "وإلا فليس مطلق
الكذب عليه مما يوجب القتل.
وكذا سياقه حديث ابن عباس: هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"من لي بها"؟ 0 فقال رجل من فوقها: أنا يا رسول الله فنهض فقتلها فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "لا ينتطح فيها عنزان"، أي: لا يجري فيها خلف ولا نزاع، فإن في هذه القصة ونظائرها نظرًا واضحًا لقيام الكفر بالمحكي عنهم والزيادة منه، وقد أخبر عليه السلام أنه لا عصمة لأحد من الناس بعد دعواهم إلى الإسلام إلا
الكذب عليه مما يوجب القتل" ولا الكفر على الصواب، خلافًا للجويني، وإنما هو إذا كذب عليه بما فيه نقص له، كساحر ونحوه، والجواب عن عياض أنه لم يذكر هذه القصة دليلا مستقلا، إذ هو لا يقول، يقتل من كذب عليه ولا بكفره، وإنما ذكرها استئناسًا لما ساقه من الأدلة وأشار إلى ضعفها بقوله: ويروى، وقد علم أدنى الطلبة أنه لا يحتج بضعيف.
"وكذا سياقه حديث ابن عباس: هجت امرأة من خطمة" بفتح المعجمة، وسكون المهملة، وميم بطن من الأنصار، ينسبون إلى جدهم خطمة بن جشم من مالك بن الأوس، وهي عصماء بنت مروان اليهودية، نسبت إلى بني خطمة لأنها زوج يزيد بن زيد الصحابي، الخطمي، "النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "من لي بها"؟ أي: من يقوم لأجل حقي عليه بقتلها "فقال رجل من قومها" عمير بن عدي الخطمي، صحابي شهير، كان المصطفى يزوره، وكان أعمى، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم البصير: "أنا" لك بها أقتلها "يا رسول الله، فنهض" قام بسرعة عقب قوله: فجاءها ليلا ودخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه، فجسها ونحى الصبي عنها، "فقتلها" بأن وضع سيفه على صدرها، حتى أنفذه من ظهرها، ثم رجع، فصلى الصبح مع المصطفى، "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" أي: قتلها لما قال له، كما عند ابن سعد:"أقتلت ابنة مروان"؟، قال: نعم، هل علي في ذلك شيء؟ "فقال:"لا ينتطح فيها عنزان"، فكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، "أي: لا يجري فيها خلف ولا نزاع" بل هي هدر، فضربه مثلا للأمر الذي يقع بلا خلف ولا نزاع لأن العنزين لا ينتطحان، بل يتشامان ويتفرقان، وإنما ينتطح التيوس والكباش، ومرت القصة في المغازي، "فإن في هذه القصة" أي: الاستدلال بها، "ونظائرها نظرًا واضحًا لقيام الكفر بالمحكي عنهم، والزيادة منه" وقد حاد المصنف رحمه الله للحمية المذهبية عن سواء السبيل، فإنها كانت ذمية، يهودية، متزوجة بمسلم صحابي، فأمره بقتلها لأذاها له، مع أن نساء الحربيين، فضلا عن أهل الذمة، لا تقتل دليل لقول المالكية، يقتل الكافر بسبه صلى الله عليه وسلم ما لم يسلم، فالدليل من قصتها شمس في رابعة النهار.
"وقد أخبر عليه السلام أنه لا عصمة لأحد من الناس بعد دعواهم إلى الإسلام إلا
بالإسلام، فكل منهم مهدر الدم إلا من عصمه الله منهم بالإسلام. وإنما النافع له في مقام الاستدلال ذكر من طرأ عليه من المسلمين وصمة الارتداد بالسب على القول بكونه ردة، فرجع إلى الإسلام وتاب. وهذا هو محل النزاع وموضع الاستدلال لكل من المتنازعين.
أما ذكر كافرًا صلى بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وامتنع من إجابته وحاربه بيده ولسانه فلا نزاع في إهدار دمه قطعًا، لا سيما وقد نقل عن هذه المرأة الكافرة أنها كانت تعيب الإسلام، وتؤذي النبي وتحرض عليه، فاجتمع فيها موجبات القتل إجماعًا.
فقد تبين مما ساقه القاضي عياض أن أمره عليه السلام بقتل سابه إنما نقل عن الكفرة.
بالإسلام" بقوله: "أمرت أن أقاتل الناس" الحديث، "فكل منهم مهدر الدم، إلا من عصمه الله منهم بالإسلام" أو بإعطاء الجزية كما في القرآن، أو عهد، أو أمان؛ كما بين في السنة، فما هذا الحصر من المصنف، "وإنما النافع له في مقام الاستدلال، ذكر من طرأ عليه من المسلمين وصمة الارتداد بالسب على القول، بكونه ردة" فيه نظر، إذ هو ردة إجماعًا كما مر، "فرجع إلى الإسلام وتاب، وهذا هو محل النزاع، وموضع الاستدلال لكل من المتنازعين" وسبحان الله، المصنف قد ذكر ذلك قبل، فإنه ذكر قصة ابن أبي سرح، وهو قد كان مسلمًا أصليًا، وأحد كتاب الوحي، ورجع إلى الإسلام، وامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من مبايعته ثلاث مرات، ولام أصحابه على عدم قتله حين امتنع من بيعته وإنما بايعه لأجل عثمان وهو صلى الله عليه وسلم ولي ذلك، فله العفو دون غيره بعده، لعدم إذنه في ذلك.
"أما ذكر كافرًا صلى بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وامتنع من إجابته، وحارب بيده ولسانه، فلا نزاع في إهدار دمه قطعًا، لا سيما، وقد نقل عن هذه المرأة الكافرة" التي هي عصماء بنت مروان، "أنها كانت تعيب الإسلام" بفتح، فكسر من عاب يستعمل لازمًا متعديًا أو بضم ففتح وشد التحتية من عيبه إذ نسبه إلى العيب أو أحدث فيها عيبًا، "وتؤذي النبي صلى الله عليه وسلم" عطف أعم على أخص؛ لأن عيب الإسلام ما يكون بذكر خلل في الدين، وإيذاء النبي يكون به وبغيره أو لازم على ملزوم، لأن عيب الإسلام يلزمه إيذاؤه، "وتحرض" تحث "عليه، فاجتمع فيها موجبات القتل إجماعًا" يعني: فلم يتعين أن قتلها للسب، وفيه أنه خلاف الظاهر من قول ابن عباس: هجت امرأة النبي
…
الحديث، "فقد تبين مما ساقه القاضي عياض، أن أمره عليه السلام بقتل سابه إنما نقل عن" بمعنى في "الكفرة" يرد عليه ابن أبي سرح فقد امتنع من بيعته بعد
ولم ينقل أنه قتل مسلمًا بسبه، وإنما كان ذلك في أهل الكفر والعناد، ولو نقل فلا يتعين كونه حدًا، لاحتمال أن يكون قتله كفرًا، وقد قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فأعلمنا أن ما وراء الشرك في حيز إمكان المغفرة، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] .
فإن قلت: هذا بالنظر إلى ظلم النفس وحقوق الله تعالى لا بالنظر إلى حقوق العباد، لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة. وهذا حق النبي صلى الله عليه وسلم وليس لنا أن نسقطه.
إسلامه، ولام الصحابة على ترك قتله، كما مر، "ولم ينقل أنه قتل مسلمًا بسبه، وإنما كان ذلك في أهل الكفر والعناد" لكريم أخلاقه وحبه العفو والصفح، وهو ولي ذلك، فأحب العفو عمن وقع له ذلك وأسلم، وقد قال:"من سب نبيًا فاقتلوه" أخرجه الدارقطني والطبراني من حديث علي، ومن تشمل المسلم والكافر وأمره كفعله، "ولو نقل فلا يتعين كونه حدًا لاحتمال أن يكون قتله كفرًا" ويدفع هذا الاحتمال قتل ابن أبي سرح بعدما أسلم، ويؤيده عموم من سب نبيًا فاقتلوه، فإن ظاهره: ولو عاد إلى الإسلام.
وروى ابن قانع: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سمعت أبي يقول فيك قولًا قبيحًا فقتلته، فلم يشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن قتل الساب مشروعًا، كان ذلك من أكبر الكبائر؛ لأنه قتل وعقوق، وظاهر قوله: فلم يشق أنه كان مسلمًا، إذ قتل الكافر لا يشق عليه حتى ينفى.
"وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي: الإشراك به، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ} سوى {ذَلِكَ} من الذنوب {لِمَنْ يَشَاءُ} الآية المغفرة له، فيدخله الجنة بلا عذاب، ومن شاء عذبه من المؤمنين بذنوبه ثم يدخله الجنة، "فأعلمنا أن ما وراء الشرك في حيز إمكان المغفرة" وهو كذلك بلا شك، لكنه لا يمنع إقامة الحدود، ألا ترى أن الزاني والسارق إذا تاب بعد بلوغ الإمام لا يسقط حده، فكذلك حد ساب الأنبياء إذا تاب نقول بتوبته وصحة إسلامه، ولكن نقيم حده، وهو القتل عملا بعموم قوله: "فاقتلوه".
"وقال تعال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الآية، لمن تاب من الشرك، ولكن ليس ذلك مانعًا من إقامة الحدود، فالقاتل يقتل وإن تاب، فذكر المصنف هاتين الآيتين لا يفيد غرضًا في استدلاله، "فإن قلت: هذا بالنظر إلى ظلم النفس وحقوق الله تعالى" كصلاة وصوم، "لا بالنظر إلى حقوق العباد؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاحة، وهذا حق النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لنا أن نسقطه؛ لأنه لم
لأنه لم يرد إذنه في ذلك بخلافه هو صلى الله عليه وسلم فإن له ذلك.
فالجواب: لا بد لنا من نص على ذلك منه عليه السلام، كأن يقول من سبني مثلًا فاقتلوه، ولا تقبلوا له توبة ولا رجوعًا عن سبه، فإن نقل اتبعناه، ثم إنه من جهة النظر ينبغي إلحاق حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقوق الله، فكما أن حقوق الله مبناها على المسامحة، وكذلك حقوقه صلى الله عليه وسلم، فإنه متخلق بأخلاق الله تعالى.
ومما عد من خصائصه أنه إذا قصده ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه.
يرد إذنه في ذلك بخلافه هو صلى الله عليه وسلم فإن له ذلك"، لأن الحق له، ومن له حق، فله إسقاطه "
فالجواب: لا بد لنا من نص على ذلك منه عليه السلام، كأن يقول من سبني مثلا فاقتلوه، ولا تقبلوا له توبة ولا رجوعًا عن سبه، فإن نقل اتبعناه"، والجواب: أن ظاهر قوله: "من سب نبيًا فاقتلوه" عدم قبول توبته من ترك قتله لأنه حده، وإن قبلناها في إجراء أحكام الإسلام عليه من تغسيل، وتكفين، وصلاة، ودفن بمقابر المسلمين، كالقاتل والزاني المحصن ونحوهما، "ثم إنه من جهة النظر" العقلي "ينبغي إلحاق حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقوق الله، فكما أن حقوق الله مبناها على المسامحة، وكذلك حقوقه صلى الله عليه وسلم، فإنه متخلق بأخلاق الله تعالى" التي تليق به، كما أشارت إليه عائشة، بقولها: كان خلقه القرآن لكن منع من هذا الدليل العقلي قيام الأدلة الشرعية على خلافه في هذه المسألة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد روى النسائي عن أبي برزة الأسلمي، قال: أتيت أبا بكر وقد أغلظ الرجل، فرد عليه، قال: فقلت: يا خليفة رسول الله دعني أضرب عنقه بسبه إياك، فقال: اجس فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أن عامل عمر بن عبد العزيز على الكوفة استشاره في قتل رجل سب عمر بن الخطاب فكتب إليه أنه لا يحل قتل امرئ مسلم سب أحد من الناس، إلا رجلا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن سبه فقد حل دمه.
وقال أبو بكر الصديق: حد قذف الأنبياء ليس يشبه الحدود، رواه ابن سعد وابن عساكر، فهذه أدلة متظاهرة على قتل الساب، ولو تاب.
قال عياض: ويدل على قتله من جهة النظر والاعتبار أن من سبه صلى الله عليه وسلم أو تنقصه قد ظهرت علامة مرض قلبه، وبرهان على سوء طويته وكفره، ولهذا حكم له كثير من العلماء بالردة، وهي رواية الشاميين عن مالك.
ومما عد من خصائصه: أنه إذا قصده ظالم، وجب على من حضره، أن يبذل" بضم الذال "نفسه دونه" أي: يجود بها، وإن أدى إلى قتله بخلاف غيره، فلا يجب الدفع مع خوف
حكاه النووي في زيادات الروضة عن جماعات من الأصحاب.
ومن خصائصه عليه السلام أنه كان يخص من شاء بما شاء من الأحكام.
كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين. روى أبو داود عن عمارة ابن خزيمة بن ثابت عن عمه وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع من أعرابي فرسًا، فاستتبعه ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي يساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن.
ذلك، كما قاله الرافعي والنووي؛ لأن من قصد غيره مسلمًا لا يكفر، وقاصده صلى الله عليه وسلم بذلك يكفر، "حكاه النووي في زيادات الروضة عن جماعات من الأصحاب" الشافعية؛ لقوله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وظاهره وإن كان له صلى الله عليه وسلم قدرة على الدفع والدافع عاجز، قال الحافظ: ولم أر وقوع ذلك في شيء من الأحاديث صريحًا، ويمكن أن يستأنس له؛ بأن طلحة وفاه بنفسه يوم أحد، وكان أبو طلحة الأنصاري يتقي بترسه دونه، ونحو ذلك من الأحاديث.
"ومن خصائصه عليه السلام؛ أنه كان يخص من شاء بما شاء من الأحكام" وغيرها، "كجعله شهادة خزيمة" ابن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الأنصاري، الخطمي، أبي عمارة المدني، من كبار الصحابة، شهد بدرًا، وقتل مع علي بصفين سنة سبع وثلاثين "بشهادة رجلين" ولذا لقب ذا الشهادتين.
"روى أبو داود" واب خزيمة، وشيخهما فيه الذهلي، باللام عن شعيب، عن ابن شهاب، عن "عمارة بن خزيمة بن ثابت" الأوسي أبي عبد الله، أو أبي محمد المدني، تابعي، ثقة، مات سنة خمس ومائة، وهو ابن خمس وسبعين، روى له الأربعة، "عن عمه" قيل: اسمه عمارة قال ابن منده "وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع" أي: اشترى "من أعرابي" هو سواء بن الحارث صحابي "فرسًا" هو المرتجز، أو الظرب، أو النجيب، أقوال ذكرها المصنف في خيله في تعيين هذا الفرس المشترى من أفراسه صلى الله عليه وسلم، وزاد غيره القول بأنه الملاوح، ويرد على ذلك أنه ردها على الأعرابي، فماتت من الغد؛ كما في رواية الحارث وتأتي، فهي صريحة في أنها لم تكن من خيله المعينة، المسماة بالأسماء المعلومة، "فاستتبعه" أي تبعه فالسين زائدة والأولى كونها للطلب، أي: طلب المصطفى من الأعرابي أن يتتبعه "ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي" ومعه الفرس، "فطفق" بكسر الفاء وفتحها، أي: جعل "رجال يعترضون الأعرابي" أي: يعترضون له بالكلام معه، مأخوذ من اعترض على الأمير، أي مر عليه لينظر حاله، "يساومونه بالفرس" أي يطلبون بيعها منه، فالمفاعلة ليست مرادة، بل بمعنى السوم، والباء سببية، أو للمقابلة والعوض، أي يذكرون له ثمنًا في مقابلته، "ولا يشعرون أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه، حتى زادوا على ثمنه. فذكر الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدًا يشهد أني قد بعتك، فمن جاء من المسلمين يقول: ويلك، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا الحق، حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع المراجعة فقال: أنا أشهد أنك قد بايعته
…
الحديث، وفيه، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة برجلين.
وفي البخاري من حديث زيد بن ثابت قال: فوجدتها مع خزيمة الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين.
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه حتى زادوا على ثمنه، فذكر الحديث" وهو: فنادى الأعرابي فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتعه، وإلا بعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي:"أو ليس قد ابتعته منك"، قال الأعرابي: لا والله ما بعتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بلى قد ابتعته"، "قال: فطفق الأعرابي يقول: هلم" أحضر "شهيدًا يشهد أني قد بعتك، فمن جاء من المسلمين" بعد هذا "يقول" إنكارًا على الأعرابي:"ويلك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن" مريدًا "ليقول" شيئًا "إلا الحق" فخبر يكن محذوف، يتعلق به الجار "حتى جاء خزيمة بن ثابت، فاستمع المراجعة" التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأعرابي، "فقال: أنا أشهد أنك قد بايعته" أي: بعته "الحديث، وفيه قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة برجلين" هكذا رواه أبو داود وغيره من طريق عن عمه أخي خزيمة بدون تسمية الأعرابي، وقد رواه عمارة أيضًا عن أبيه، وسمي الأعرابي.
أخرج أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن خزيمة، والطبراني عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرسًا من سواء بن الحارث فجحده، فشهد له خزيمة، فقال صلى الله عليه وسلم:"ما حملك على الشهادة ولم تكن معه حاضرًا" فقال: صدقتك بما جئت به، وعلمت أنك لا تقول إلا حقًا، فقال صلى الله عليه وسلم:"من شهد له خزيمة، أو شهد عليه فحسبه".
"وفي البخاري" في التفسير "من حديث" خارجة، عن أبيه "زيد بن ثابت" بن الضحاك، الأنصاري، النجاري، صحابي مشهور، كتب الوحي، قال مسروق: كان من الراسخين في العلم، مات سنة خمس أو ثمان وأربعين، وقيل: بعد الخمسين، "قال" لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله يقرؤها، "فوجدتها مع خزيمة.
وفي رواية لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة "الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين"{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ، هذا بقية رواية البخاري.
قال العلماء: أي: لم أجدها مكتوبة مع كونها محفوظة عنده وعند غيره: إذ القرآن
وعند الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابي فرسًا، فجحده الأعرابي، فجاء خزيمة فقال: يا أعرابي أتجحد، أنا أشهد أنك بعته، فقال الأعرابي: أن شهد علي خزيمة فأعطاني الثمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا خزيمة إنا لم نشهدك، كيف تشهد"؟ قال: أنا أصدقك على خبر السماء، ألا أصدقك على ذا الأعرابي؟! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، فلم يكن في الإسلام من تعدل شهادته بشهادة رجلين غير خزيمة.
قال الخطابي: هذا الحديث حمله كثير من الناس على غير محمله، وتذرع به قوم من أهل البدع.
لا يثبت إلا بالتواتر.
"وعند الحارث بن أبي أسامة" واسمه داهر، "في مسنده من حديث" مجاهد، عن الشعبي، "عن النعمان بن بشير" رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابي فرسًا، فجحده الأعرابي، فجاء خزيمة فقال: يا أعرابي أتجحد؟ " بالاستفهام الإنكاري أي: وتطلب منه شهيدًا، "أنا أشهد أنك بعته، فقال الأعرابي: أن" بفتح الهمزة، أي لأجل إن، وكسرها بمعنى إذا تعليلية نحو:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزنا
وفي نسخة، وهي ظاهرة، إذ "شهد علي خزيمة فأعطاني الثمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خزيمة إنا لم نشهدك" بالمبايعة، بمعنى لم تحضرها، كما في الرواية التي قدمتها؛ ما حملك على الشهادة ولم تكن معه حاضرًا: "كيف تشهد" على ما لم تعانيه ولم تحضره؟ "قال: أنا أصدقك على خبر السماء" والأرض، كما في رواية الحارث، فسقط من قلم المصنف والأرض؛ "ألا أصدقك على ذا الأعرابي؟! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة
رجلين، فلم يكن في الإسلام من تعدل" لفظ الحارث من تجوز "شهادته بشهادة رجلين غير خزيمة"، بتخصيص المصطفى له، ففيه أن يخص من شاء بما شاء، وبقية رواية الحارث عن النعمان: فرد صلى الله عليه وسلم الفرس على الأعرابي وقال: "لا بارك الله لك فيها، فأصبحت من الغد شائلة برجلها" أي: ماتت، وهذا الأعرابي اسمه سواء بن الحارث من وفد محارب، وروى ابن منده، وابن شاهين، عن المطلب بن عبد الله، قال: قلت لبني الحارث: إن سواء أبوكم الذي جحد بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا تقل ذلك، فلقد أعطاه بكرة، فما أصبحنا نسوق سارحًا ولا بارحًا إلا منها. "قال الخطابي" في شرح أبي داود:"هذا الحديث حمله كثير من الناس على غير محمله، وتذرع" بذال معجمة توسع وتوسل "به قوم من أهل البدع" وبإهمال الدال، أي: تمسكوا به وجعلوه كالدرع في اتقاء ما يرد
إلى استحلال الشهادة لمن عرف عندهم بالصدق على كل شيء ادعاه، وإنما وجه الحديث أنه صلى الله عليه وسلم حكم على الأعرابي بعلمه، وجرت شهادة خزيمة مجرى التوكيد لقوله: والاستظهار على خصمه، فصار في التقدير بشهادة اثنين في غيرها من القضايا، انتهى.
ومن ذلك ترخيصه في النياحة لأم عطية، روى مسلم عنها: "قالت: لما نزلت هذه الآية.
عليهم، "إلى استحلال الشهادة لمن عرف عندهم بالصدق على كل شيء ادعاه" متعلق بالشهادة، وليس حمل الحديث على ذلك بصحيح، "وإنما وجه الحديث" أي: جهته التي ينبغي حمله عليها، "أنه صلى الله عليه وسلم حكم على الأعرابي بعلمه" لأنه من خصائصه.
"وجرت شهادة خزيمة مجرى التوكيد" التقوية "لقوله: والاستظهار على خصمه، فصار في التقدير بشهادة اثنين في غيرها من القضايا" لأن شهادته متى وقعت كانت كشهادة رجلين، فلا يطلب له ثان، "انتهى" كلام الخطابي، وفيه نظر، فإن الأحاديث ظاهرة، بل صريحة في تخصيصه بذلك دائمًا، إلا لمجرد الحكم بعلمه، كيف! وفي رواية الحارث، فلم يكن في الإسلام من تجوز شهادته بشهادة رجلين غير خزيمة، وفي رواية محمد بن أبي عمر العدني في مسنده، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين حتى مات خزيمة، وروى أبو يعلى عن أنس، قال: افتخر الحيان الأوس والخزرج، فقالت الأوس: ومنا من جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين
…
الحديث، فإنه لو كان للحكم بعلمه لم يكن فخرًا أصلا، والغاية بقوله: حتى مات خزيمة، صريحة في ذلك إذ هو قد عاش بعد النبي سبعًا وعشرين سنة، نعم لا حجة فيه للمبتدعة، لأنه خصوصية لخزيمة، خصه بها من له تخصيص من شاء بما شاء، "ومن ذلك ترخيصه في النياحة" رفع الصوت على الميت بالندب، وهو عد محاسنه كواكهفاء، واجبلاه، "لأم عطية" نسيبة، بضم النون، وفتح المهملة، مصغر، ويقال بفتح أولها، وكسر السين بنت الحارث الأنصارية المدنية، ثم سكنت البصرة.
وقيل: بنت كعب، وأنكره أبو عمر؛ لأن بنت كعب هي أم عمارة، روت أم عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وعنها أنس ومحمد وحفصة، ولدا سيرين وآخرون.
وفي مسلم عنها غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، كانت أخلفهم في رحالهم، وفي الصحيح أيضًا عن حفصة بنت سيرين: أن أم عطية قدما البصرة فنزلت قصر بني خلف.
"روى مسلم" في الجنائز من طريق حفصة، "عنها قالت: لما نزلت هذه الآية" {يَا أَيُّهَا
{يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ، {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] ، قالت: كان منه النياحة، فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال:"إلا آل فلان". قال النووي: هذا محمول على الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة، وللشارع أن يخص من العموم ما يشاء.
النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] الآية، إلى قوله:{وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} الآية، قالت" أم عطية:"كان منه" أي: من "النياحة" على الميت، وهي من كفر النعمة، لأن من ناح على الميت كفر نعمة أنه حي، "فقلت: يا رسول الله إلا آل فلان" لم يسم، "فإنهم كانوا أسعدوني، في الجاهلية" الإسعاد: قيام المرأة مع الأخرى في المناحة تراسلها، أي: تساعدها، وهو خاص بهذا المعنى، ولا يستعمل إلا في المساعدة عليها، "فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال" رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا آل فلان" وأخرجه البخاري في التفسير عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا:{أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ، ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها، فقالت: أسعدتني فلانة، أريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فانطلقت، ورجعت فبايعها، وللنسائي قال:"اذهبي فاسعديها"، قالت: فذهبت فأسعدتها، ثم جئت فبايعته، وللترمذي، فأذن لها، ولأحمد قال:"اذهبي فكافئيهم".
قال الحافظ: التي قبضت يدها هي أم عطية، وفلانة لم أقف على اسمها انتهى. وكأنه صلى الله عليه وسلم سكت أولا ثم أذن.
"قال النووي: هذا محمول على الترخيص لأم عطية" خاصة، "في آل فلان خاصة وللشارع أن يخص من العموم ما يشاء" لمن يشاء.
قال المصنف كغيره، وأورد على النووي حديث ابن العباس عند ابن مردويه، قالت: لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء، فبايعهن على {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} الآية، قالت خولة بنت حكيم: يا رسول الله كان أبي وأخي ماتا في الجاهلية، وإن فلانة أسعدتني، وقد مات أخوها
…
الحديث، وحديث أسماء بنت يزيد الأنصارية عند الترمذي، قالت: قلت يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي، ولا بد من قضائهن فأبى، قالت: فراجعته مرارًا، فأذن لي، ثم لم أنح بعد ذلك، وعند أحمد والطبراني من طريق مصعب بن نوح، قال: أدركت عجوزًا لنا، كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فأخذ علينا أن لا تنحن، فقالت عجوز: يا نبي الله إن أناسًا كانوا أسعدونا على مصائب أصابتنا، وإنهم قد أصابتهم مصيبة، فأريد أن أسعدهم، قال: "اذهبي
ومن ذلك: ترك الإحداد لأسماء بنت عميس، أخرج ابن سعد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر بن أبي طالب، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تسلبي ثلاثًا ثم اصنعي ما شئت".
ومن ذلك: الأضحية بالعناق لأبي بردة ابن نيار، رواه الشيخان من حديث البراء بن عازب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب السنة".
فكافئيهم، فانطلقت، فكافأتهم، ثم إنها أتت فبايعته، وحينئذ فلا خصومة لأم عطية، والظاهر أن النياحة كانت مباحة، ثم كرهت كراهة تنزيه، ثم تحريم، فيكون الإذن لمن ذكرنا، وقع لبيان الجواز مع الكراهة، ثم لما تمت مبايعة النساء وقع التحريم، فورد حينئذ الوعيد الشديد.
وفي حديث أبي مالك الأشعري عند أبي يعلى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة عليها سربال من قطران، ودرع من جرب". انتهى، "ومن ذلك ترك الإحداد" على الزوج، أي: ترخيصه في تركه "لأسماء بنت عميس" بضم العين، مصغر آخره سين مهملة، الخثعمية، صحابية تزوجها جعفر بن أبي طالب، ثم أبو بكر، ثم علي، وولدت لهم، وماتت بعد علي، ولها أحاديث في البخاري والسنن، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمه، "أخرج ابن سعد" محمد "عن أسماء بنت عميس، قالت: لما أصيب" قتل بغزوة مؤتة، سنة ثمان من الهجرة "جعفر بن أبي طالب" الهاشمي، ذو الجناحين، الصحابي الجليل، له في النسائي، "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تسلبي " أي: حدي على زوجك "ثلاثًا" قال المصباح: التسلب: امتناع المرأة من الزينة والخضاب بعد موت زوجها، وفي نسخة تسلي بدون موحدة؛ فإن صحت فالمعنى، تصبري، أي: صبري نفسك على الإحداد ثلاثة أيام، "ثم اصنعي ما شئت" فأباح لها ترك الإحداد بعدها، مع وجوبه على المرأة ما دامت في العدة، "ومن ذلك الأضحية بالعناق" بفتح المهملة، وخفة النون الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول، "لأبي بردة" بضم الموحدة، "ابن نيار" السلولي، حليف الأنصار، اسمه هانئ، وقيل: الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هبيرة، مات سنة إحدى وأربعين، وقيل: بعدها، "رواه الشيخان" البخاري في العيد، والأضاحي ومسلم في الذبائح، "من حديث البراء بن عازب" رضي الله عنهما، "قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر" وفي رواية يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: "من صلى صلاتنا ونسك" بفتح النون والسين، "نسكنا" بضم النون والسين، ونصب الكاف، أي: ضحى مثل ضحيتنا، "فقد أصاب السنة" أي: الطريقة، وفي رواية فقد أصاب سنتنا، وفي رواية النسك، وفي أخرى: ومن ذبح بعد الصلاة فقد: تم نسكه وأصاب سنة المسلمين، "ومن
ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم، فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله، لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تلك شاة لحم"، قال: عندي عناق جذعة هي خير من شاتي لحم
نسك قبل الصلاة، فتلك شاة لحم" وليست أضحية، فلا ثواب فيها، واستشكلت هذه الإضافة، بأن الإضافة إما معنوية مقدرة بمن، كخاتم حديد، أو اللام، كغلام زيد، أو في كضرب اليوم، أو لفظية مضافة إلى معلومها، كضارب زيد وحسن الوجه، ولا يصح شيء منها في شاة لحم، وأجيب بأن الإضافة بتقدير محذوف، أي: شاة طعام لحم لا طعام نسك، وما أشبه ذلك، يعني شاة لحم غير نسك، فهي مضافة إلى محذوف، أقيم المضاف إليه مقامه، وفي رواية للصحيح أيضًا، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء، "فقام أبو بردة بن نيار، فقال: يا رسول الله لقد نسكت" شاتي، أي ذبحتها "قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب" بضم الشين، وتجويز الزركشي فتحها كما قيل به في أيام منى أيام أكل وشرب، رده الدماميني؛ بأنه ليس محل قياس، إنما المعتمد الرواية.
زاد في رواية: وأحببت أن تكون شاتي أول شاة تذبح في بيتي، وفي أخرى عن أنس في الصحيحين، فقال: يا رسول الله إن هذا يوم نشتهي فيه اللحم، أي: تجري العادة بكثرة الذبح فيه، فتشوف له النفس التذاذ به، "فتعجلت" وفي رواية: فذبحت شاتي، "وأكلت، وأطعمت أهلي وجيراني" قبل أن آتي الصلاة، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تلك شاة لحم" لا أضحية، فلا ثواب فيها، بل هي على عادة الذبح للأك المجرد عن القربة، فأفاد بإضافتها إلى اللحم نفي الأجزاء.
وفي رواية: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أبدلها"، "قال" وفي رواية، فقال:"عندي عناق جذعة" بالتنوين فيهما، فالثاني عطف بيان، وفي رواية: عندي جذعة، وأخرى عندي عناق لبن إشارة إلى صغرها؛ وأنها قريبة من الرضاع، وفي أخرى: فإن عندنا عناقًا لنا جذعة، صفتان لـ"عناقا" المنصوب بأن.
وفي رواية: فإن عندي داجنًا جذعة، وما يوجد في بعض النسخ، فإن عندي عناق جذعة، وإن أمكن توجيهها بجعل اسم أن ضمير الشأن محذوفًا، والجملة خبر، لكنه ليس رواية، "هي خير من شاتي، لحم" لطيب لحمها وسمنها، فإن قيل: كيف تكون واحدة خيرًا من أضحيتين، بل العكس أولى: كعتق اثنين خير من عتق واحد، ولو كان أنفس، أجيب بأن القصد بالضحايا طيب اللحم وكثرة السمن، فشاة سمينة أفضل من هزيلتين، وأما العتق فالمقصود منه التقريب إلى
فهل تجزي عني؟ قال: "نعم ولن تجزي عن أحد بعدك".
و"نيار" بكسر النون وتخفيف المثناة التحتية وآخره راء.
وقوله "تجزي" بفتح أوله غير مهموز، أي تقضي.
و"الجذع" بالجيم والذال المعجمة.
وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بإجزاء الجذع من المعز في الأضحية.
ولكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، ففي حديث عقبة بن عامر -عند البيهقي:"ولا رخصة فيها لأحد بعدك". قال البيهقي: إن كانت هذه.
الله بفك الرقبة، فعتق اثنين أفضل من عتق واحد، نعم إن عرض للواحد وصف يقتضي رفعته على غيره، كالعلم وأنواع الفضل، فجزم بعض المحققين أنه أفضل لعموم نفعه للمسلمين.
وفي رواية: هي خير من مسنة، وأخرى من مسنتين، بالتثنية، قال الجوهري: يكون ذلك في الظلف والحافر في الثالثة، وفي الخف في السادسة "فهل تجزي عني؟ قال:"نعم تجزي عنك"، وفي رواية قال:"اجعلها مكانها"، "ولن تجزي عن أحد بعدكم" أي: غيرك لأنه لا بد في تضحية المعز من الثنية، "ونيار، بكسر النون، وتخفيف المثناة التحتية، وآخره راء بعد ألف، "وقوله تجزي، بفتح أوله غير مهموز أي: تقضي"، كقوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} ، قال ابن بري: الفقهاء يقولون: لا يجزئ، بالضم والهمزة في موضع لا يقضي، والصواب الفتح بلا همز، ويجوز الضم والهمز، بمعنى الكفاية، في الأساس بنو تميم تقوله: نضم أوله، وأهل الحجاز، بفتح أوله، وبهما قرئ: "لا تجزى نفس عن نفس"، وجوز بعضهم هنا الضم من الرباعي، وبه قال الزركشي في تعليق العمدة اعتمادًا على نقل الجوهري، وغيره؛ أنها لغة تميم، وتعقب بأن الاعتماد إنما هو الرواية، لا مجرد النقل عن تميم، "والجذع، بالجيم والذال المعجمة" ثم عين مهملة ما استكمل سنة، فالعناق تجذع لسنة، وربما أجذعت قبل تمامها للخصب، فتسمن، فيسرع أجذاعها، "وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بأجزاء الجذع من المعز في الأضحية" على سبيل الصراحة، "ولكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، ففي حديث عقبة بن عامر" الجهني، الفقيه، الفاضل، مات قرب الستين "عند البيهقي" وأصله في الصحيحين، عن عقبة قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا، فصارت لعقبة جذعة، فقلت: يا رسول الله صارت لي جذعة، قال: "ضح بها".
زاد في رواية البيهقي: "ولا رخصة فيها لأحد بعدك"، قال البيهقي: إن كانت هذه
الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة كما رخص لأبي بردة.
قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا الجمع نظر، لأن في كل منهما صيغة عموم، فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني ويحتمل في الجمع أن تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، لا مانع من ذلك، لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحًا.
وفي كلام بعضهم: أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة أو خمسة واستشكل الجمع وليس بمشكل، فإن الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التصريح بالنفي إلا في قضية أبي بردة في الصحيح، وفي قضية عقبة بن عامر عند البيهقي، وأما ما عدا ذلك: فأخرج أبو داود وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودًا جذعًا، فقال: ضح به، فقلت إنه جذع أفأضحي به؟ قال: ضح به
الزيادة محفوظة" أي: ليست بشاذة، "كان هذا رخصة لعقبة، كما رخص لأبي بردة".
"قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا الجمع نظر، لأن في كل منهما صيغة عموم" وهو نفي الأجزاء عن غير المخاطب في كل منهما، "فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني" فلا يصح الجمع المذكور، "ويحتمل في الجمع أن تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، لا مانع من ذلك، لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحًا" لكن فيه دعوى النسخ بالاحتمال، وإنما يكون بمعرفة التاريخ، وإلى هذا أشار بقوله الآتي: وإن تعذر الجمع
…
إلخ.
"وفي كلام بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة أو خمسة واستشكل" هذا البعض "الجمع" بحسب الظاهر، "وليس بمشكل" عند التحقيق، "فإن الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التصريح بالنفي إلا في قضية أبي بردة في الصحيح" للشيخين.
"وفي قضية عقبة بن عامر عند البيهقي، وأما ما عدا ذلك" فوقعت المشاركة في مطلق الأجزاء، لا في خصوص منع الغير، "فأخرج أبو داود، وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد" الجهني المدي، صحابي شهير مات بالكوفة سنة ثمان وستين، أو سبعين، وله خمس وثمانون سنة؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودًا" بفتح المهملة، وضم الفوقية الخفيفة: ما قوى ورعى من أولاد المعز، وأتى عليه حول، أو العتود: الجذع من المعز ابن خمسة أشهر، وفي المحكم العتود الجدي الذي استكرش، وقيل: الذي بلغ السفاد "جذعًا" أي: صغيرًا، "فقال:"ضح به"، فقلت: إنه جذع" لا يجزي ضحية، أفأضحي به، قال: "ضح به" ولم يقل لا رخصة،
وفي الأوسط للطبراني من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعًا من المعز فأمره أن يضحي به. وأخرجه الحاكم من حديث عائشة، وفي سنده شدة ضعف.
فلا منافاة بين ذلك وحديثي أبي بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي، واختص أبو بردة، وعقبة بالرخصة في ذلك.
وإن تعذر الجمع بين حديث أبي بردة وحديث عقبة، فحديث أبي بردة أصح مخرجًا. وإن كان حديث عقبة عند البيهقي من مخرج الصحيح.
أو لا يجزي عن أحد بعدك.
"وفي الأوسط للطبراني من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص" مالكًا أحد العشرة "جذعًا من المعز، فأمره أن يضحي به، وأخرجه الحاكم من حديث عائشة" أنه أعطى سعد بن
…
إلخ. "وفي سنده شدة ضعف" وإن خرجه الحاكم، وكذا وقع لعويمر بن أشقر، رواه ابن حبان، وابن ماجه، وروى أبو يعلى والحاكم عن أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله هذا جذع من الضأن مهزولة، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما، أفأضحي به، فقال:"ضح به فإن لله الخير"، وسنده ضعيف، "فلا منافاة بين ذلك" كله "و" بين "حديثي أبي بردة وعقبة؛ لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر" مجزيًا، "ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك" لكن يبقى التعارض بين حديثيها، فإن ساغ أحد الجمعين المتقدمين فلا تعارض، "وإن تعذر الجمع بين حديث أبي بردة وحديث عقبة" لأن جمع البيهقي فيه نظر، بأن في كل منهما صيغة عموم، كما مر، والجمع باحتمال نسخ خصوصية الأول بالثاني لا ينهض، إذ النسخ لا يكون بالاحتمال رجعنا إلى الترجيح، "فحديث أبي بردة أصح مخرجًا" لاتفاق البخاري ومسلم عليه، هو أرفع الصحيح، فيقدم على حديث عقبة عند البيهقي، خصوصًا وقد أخرجه الشيخان بدون تلك الزيادة، "وإن كان حديث عقبة عند البيهقي من مخرج الصحيح" لأنه لا يلزم من إخراج الشيخين لرجاله أن يكون صحيحًا مثل تخريجهما بالفعل، وقد نبه على ذلك ابن الصلاح في مقدمة شرح مسلم، فقال: من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في الصحيح، بأنه من شرط الصحيح عند مسلم، فقد غفل وأخطأ، ذلك يتوقف على النظر في كيفية روايته عنه، وعلى أي وجه أخرج حديثه، انتهى.
ومن ذلك: إنكاح ذلك الرجل بما معه من القرآن، فيما ذكره جماعة، وورد به حديث مرسل أخرجه سعيد بن منصور عن أبي النعمان الأزدي، قال: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن.
"ومن ذلك إنكاح ذلك الرجل" الذي كان عند المصطفى، لما عرضت امرأة نفسها عليه صلى الله عليه وسلم، فالإشارة إلى معلوم "بما معه من القرآن" أي: بتعليمه إياها، بأن جعله صداقًا، وذلك لا يجوز كونه صداقًا، فهو خصوصية "فيما ذكره جماعة" كأبي حنيفة وأحمد ومالك، وهو أحد قولين مرجحين عند أصحابه، وجوزه الشافعي والمصنف كغيره ممن ذكر الخصائص، غالبًا لا يقتصرون فيها على مذهبهم، بل يذكرون ما قيل أنه خصوصية، ولو كان ضعيفًا، فعجيب الاعتراض عليه بأنه مذهب الشافعي، وكان المعترض ما تنبه لقوله فيما ذكره جماعة "وورد به حديث مرسل".
"أخرجه سعيد بن منصور عن أبي النعمان الأزدي" ظاهر المصنف أنه تابعي لقوله مرسل، وقد أورده في الإصابة في الكنى في القسم الأول، وقال: ذكره أبو موسى عن الطبراني، وأخرج ابن السكن عن أبي النعمان الأزدي أن رجلا خطب امرأة، فقال صلى الله عليه وسلم:"أصدقها" قال: ما عندي شيء، قال:"أما تحسن سورة من القرآن فأصدقها السورة، ولا يكون لأحد بعدك مهر". قال ابن السكن: لا تحفظ هذه الزيادة إلا في هذه الرواية، انتهى.
وفي التجريد للذهبي أبو النعمان: له حديث ساقه مطين وغيره في التزويج على سورة من القرآن؛ فهو صحابي قطعًا فمراد المصنف، كالسيوطي بقولهما مرسل ما سقط منه، رواه على أحد الأقوال لا ما رفعه التابعي، وإن كان هو المشهور في تعريفه، لأن الواقع أن أبا النعمان صحابي، لا تابعي، "قال زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة" يقال إنها خولة بنت الحكم، أو أم شريك، أو ميمونة، قال الحافظ في المقدمة: ولا يثبت شيء من ذلك، ولم يسم الرجل "على سورة من القرآن" أي على جنس، فلا ينافي رواية الصحيحين، قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا بعددها، فقال صلى الله عليه وسلم:"أنكحتها بما معك من القرآن" ولأبي داود والنسائي، عن أبي هريرة سورة البقرة، أو التي تليها، وللدارقطني عن ابن مسعود البقرة وسورة من المفصل، ولتمام الرازي عن أبي أمامة قال زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار على سبع سور، وفي فوائد أبي عمر بن حبوبة عن ابن عباس، قال: معي أربع سور أو خمس سور، ذكره الحافظ.
وفي أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة: "قم فعلمها عشرين -أي: آية- من القرآن، وهي امرأتك"، فظاهر حديث الصحيحين أنه جعل الصداق تعليمه إياها جميع ما معه من القرآن على اختلاف الروايات في تعيينه، ولا منافاة بينها، لأن كلا حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأما الجمع
وقال: "لا يكون لأحد بعدك مهرًا".
بجواز أن ما كان مع الرجل سورة، وعدتها عشرون آية، أو كان عنده سور قصار تبلغ عشرين آية، ففاسد لما رأيت من أن منها البقرة، أو آل عمران، هذا وإنما عدل المصنف كالسيوطي عن الصحيحين إلى المرسل، لأنه صرح فيه بالخصوصية بقوله:"وقال: لا يكون لأحد بعدك مهرًا" وتجويز المراد لا يقع أن أحدًا يجعل السورة صداقًا حتى لا يخالف الشافعي عدول عن الظاهر، وقد قال مكحول: ليس ذلك لأحد بعده، أي: أنه خصوصية بخلاف حديث الصحيحين، فإفادته الخصوصية بالقوة لا الصريح.
روى الشيخان عن سهل بن سعد: أن امرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية لهما، فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي إليك، فصعد فيها النظر، فقامت قيامًا طويلا، فقام رجل، فقال: يا رسول الله زوجنيها، إن لم يكن لك بها حاجة، قال:"ما عندك"؟ قال: ما عندي شيء قال: "اذهب فالتمس ولو خاتمًا من حديد". فذهب، ثم رجع، فقال: لا والله ما وجدت شيئًا ولا خاتمًا من حديد، ولكن هذا إزاري، ولها نصفه، قال سهل: وما له رداء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "وما تصنع بإزارك، إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء". فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه أو دعى له، فقال له:"ماذا معك من القرآن؟ ". قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا السور، يعدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أنكحتكها بما معك من القرآن".
هذا وزاد السيوطي ترخيصه في إرضاع سالم، مولى أبي حذيفة وهو كبير في تعجيل صدقة عامين للعباس، وفي الجمع بين اسمه وكنيته للولد الذي يولد لعلي، وفي المكث في المسجد جنبًا لعلي، وفي فتح باب داره في المسجد له، وفي فتح خوخة فيه لأبي بكر، وأكل المجامع في رمضان من كفارة نفسه، وفي لبس الحرير للزبير وعبد الرحمن فيما قاله جماعة، وهو وجه عندنا، وفي لبس الخاتم الذهب للبراء، وفي اشتراط الولاء لموالي بريرة، ولا يوفى به فيما ذكره بعضهم، وفي العزية لعلبة بن زيد الحارثي فيما ذهب إليه الواقدي، وفي خيار الغبن لحبان بن منقذ فيما ذكره النووي في شرح مسلم، وفي التحلل بالمرض لضباعة بنت الزبير في أحد القولين، وفي ترك مبيت منى لأجل السقاية لبني العباس في وجه، وبني هاشم في آخر، ولعائشة في صلاة ركعتين بعد العصر، ولمعاذ في قبول الهدية حين بعثه إلى اليمن، وفي المستدرك وغيره، عن أنس: أن أم سليم تزوجت أبا طلحة على إسلامه، قال ثابت: ما سمعت بامرأة كانت أكرم مهرًا منها في الإسلام، وأعاد امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثًا من غير محلل، وأسلم رجل على أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه، وضرب لعثمان يوم بدر بسهم، ولم يضرب لغائب غيره، رواه أبو داود عن ابن عمر، كان يواخي الصحابة ويثبت بينهم التوارث،
ومنها أنه كان يوعك كما يوعك رجلان لمضاعفة الأجر.
ومنها أن جبريل أرسل إليه ثلاثة أيام في مرضه يسأله عن حاله، ذكره البيهقي وغيره.
وليس ذلك لغيره، قاله علي بن زيد، وخص نساء المهاجرين بأنهن يرثن دون أزواجهن لأنهن غرائب لا مأوى لهن، وكان أنس يصوم من طلوع الشمس، لا من طلوع الفجر، فالظاهر أنها خصوصية، "ومنها أنه كان يوعك"، أي: يأخذه الوعك، بسكون العين، أي: شدة الحمى، أو ألمها، أو رعدتها، "كما يوعك رجلان لمضاعفة الأجر".
روى الشيخان عن ابن مسعود، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يوعك، فقلت: إنك لتوعك وعكًا شديدًا، فقال:"أجل إني أوعك، كما يوعك رجلان منكم"، قلت: وذلك لأن لك أجرين، قال:"أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة أوراقها".
زاد الأنموذج، وكذلك الأنبياء، وعصم من الأعلال الموحية، ذكر هذه القضاعي، الأعلال: بمهملة جمع علة، والموحية: بحاء مهملة القاتلة بسرعة، فلم يصب منها بشيء حياته.
وروى الطبراني عن أبي أمامة: كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من موت الفجأة، وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت.
وروى ابن ماجه، وصححه الديلمي، عن أبي سعيد مرفوعًا:"إنا معاشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء، كما يضاعف لنا الأجر، كان النبي من الأنبياء يبتلى بالقمل حتى يقتله، وإنهم كانوا يفرحون بالبلاء، كما تفرحون بالرخاء".
وروى أحمد بسند حسن، والطبراني، عن فاطمة بنت اليمان، قالت: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نعوده في نساء، فإذا شن معلق نحوه، يقطر ماؤه في فيه من شدة ما يجد من حر الحمى، فقلنا: يا رسول الله لو دعوت اله فشفاك، قال:"إنا معاشر الأنبياء يضاعف علينا البلاء".
"ومنها جبريل أرسل إليه ثلاثة أيام في مرضه" الذي مات فيه إكرامًا له وإجلالا، "يسأله عن حاله" كل يوم يقول: إن الله أرسلني إليك تفضيلا وخاصة، يسألك عما هو أعلم به منك، كيف تجدك؟ قال:"أجدني مكروبًا ومغمومًا" ، وفي اليوم الثالث جاء، ومعه ملك الموت، فاستأذنه في قبض روحه، فأذن "ذكره" أي خرجه "البيهقي" في الدلائل "وغيره" وأشار البيهقي لضعفه، ولما نزل إليه ملك الموت نزل معه ملك يقال له إسماعيل، وهو على سبعين ألف ملك يسكن الهواء، لم يصعد السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قبل ذلك اليوم قط، وسبقهما جبريل، فقال له ما تقدم، فقال له: ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، فأذن له،
ومنها: أنه صلى عليه الناس أفواجًا أفواجًا بغير إمام، وبغير دعاء الجنازة المعروف ذكره البيهقي وابن سعد وغيرهما.
فدخل، فوقف بين يديه، وقال: إن الله أرسلني إليك، وأمرني أن أطيعك، فإن أمرتني أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، فقال له جبريل: إن الله اشتاق إلى لقائك، أي: أراده، فقال صلى الله عليه وسلم لملك الموت:"امض لما أمرت به"، رواه الشافعي والبيهقي عن علي بإسناد معضل.
وروى أبو نعيم عن علي: لما قبض صلى الله عليه وسلم، صعد ملك الموت باكيًا إلى السماء، والذي بعثه بالحق لقد سمعت صوتًا من السماء ينادي: وامحمداه.
"ومنها أنه صلى عليه الناس أفواجًا أفواجًا" أي: فوجًا بعد فوج، روى الترمذي أن الناس قالوا لأبي بكر، أنصلي على رسول الله؟ قال: نعم، قالوا: وكيف نصلي؟ قال: يدخل قوم يصلون ويدعون، ثم يدخل قوم فيصلون، فيكبرون ويدعون، فرادى "بغير إمام" قال علي: هو إمامكم حيًا وميتًا، فلا يقوم عليه أحد، فكان الناس تدخل رسلا فرسلا، فيصلون صفًا صفًا ليس لهم إمام، رواه ابن سعد.
قيل: وصلوا كذلك لعدم اتفاقهم على خليفة، وقيل: بوصية منه، روى الحاكم والبزار بسند فيه مجهول أنه صلى الله عليه وسلم لما جمع أهله في بيت عائشة، قالوا: فمن يصلي عليك؟ قال: "إذا غسلتموني وكفنتموني، فضعوني على سريري، ثم اخرجوا عني، فإن أول من يصلي علي جبريل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة بأجمعهم، ثم ادخلوا علي فوجًا بعد فوج، فصلوا علي وسلموا تسليمًا".
"وبغير دعاء الجنازة المعروف ذكره" أي: رواه "البيهقي، وابن سعد وغيرهما" عن علي أنهم كانوا يكبرون، ويقولون السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، اللهم إنا نشهد أن محمدًا قد بلغ ما أنزل عليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيلك حتى أعز الله كلمته، فاجعلنا نتبع ما أنزل إليه، وثبتنا بعده، واجمع بيننا وبينه، فيقول الناس: آمين، أي: الناس الذين لم يكونوا مشغولين بالصلاة، أو من سبق بالسلام ولم ينصرف أو المصلون أنفسهم.
وروى الحاكم والبيهقي: أول من صلى الملائكة فرادى، ثم الرجال فرادى، ثم النساء، ثم الصبيان بوصية منه بذلك.
وروى البيهقي عن ابن عباس: لما مات صلى الله عليه وسلم أدخل عليه الرجال فصلوا بغير إمام أرسالا حتى فرغوا، ثم أدخل النساء، فصلين عليه كذلك، ثم العبيد كذلك، ولم يؤمهم عليه أحد، وتكرار الصلاة عليه من خصائصه عند مالك وأبي حنيفة، وفي اقتصار المصنف على أنه بغير دعاء الجنازة
وترك بلا دفن ثلاثة أيام كما سيأتي، ففرش له في لحده قطيفة، والأمران مكروهان في حقنا، وأظلمت الأرض بعد موته كما سيأتي.
ومنها: أنه لا يبلى جسده.
إفادة أنهم صلوا عليه الصلاة المعروفة، ولم يقتصروا على مجرد الدعاء، وهو كذلك.
قال عياض، وتبعه النووي: الصحيح الذي عليه الجمهور أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كانت صلاة حقيقية، لا مجرد الدعاء فقط، وعد طائفة من خصائصه أنه لم يصل عليه أصلا، وإنما كان الناس يدخلون أرسالا، فيدعون ويصدقون على ظاهر حديث علي، وعلل بأنه لفضله وشرفه غير محتاج للصلاة عليه، ورد بأن المقصود من الصلاة عليه عود التشريف على المسلمين، مع أن الكامل يقبل زيادة التكميل، "وترك بلا دفن ثلاثة أيام" لاختلافهم في موته، أو في محل دفنه، أو لاشتغالهم في أمر البيعة بالخلافة، حتى استقر الأمر على أبي بكر، "كما سيأتي" ذلك بتعليله في المقصد الأخير زاد غيره، أو لدهشتهم من ذلك الأمر الهائل الذي ما وقع قبله، ولا بعده مثله، فصار بعضهم كجسد بلا روح، وبعضهم عاجز عن النطق، وبعض عن المشي، أو خوف هجوم عدو أو لصلاة جم غفير، "ففرش له لحده قطيفة" نجرانية، كان يتغطى بها، وضعها مولاه شقران، وقال: والله لا يلبسه أحد بعدك، فوضعها خصوصية له، كما قال وكيع، فقد كره جمهور العلماء وضع قطيفة، أو مضربة، أو مخدة ونحو ذلك في القبر تحت الميت، وشذ البغوي، فجوزه، والصواب: الكراهة، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث، بأن شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بذلك، وإنما فعل ذلك كراهة أن يلبسها أحد بعده، قال النووي، وقد قال ابن عبد البر: أنها أخرجت لما فرغوا من وضع اللبنات التسع، ورجحه الحافظ وشيخه في الألفية، قال:
وفرشت في قبره قطيفة
…
وقيل أخرجت وهذا أثبت
"والأمران" تأخير الدفن والفرش "مكروهان في حقنا" تنزيهًا، "وأظلمت الأرض بعد موته" رواه الترمذي عن أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا عن التراب، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا، "كما سيأتي" في المقصد العاشر.
زاد الأنموذج: ولا يضغط في قبره، وكذلك الأنبياء، ولم يسلم من الضغطة صالح، ولا غيره سواهم، وفي تذكرة القرطبي: إلا فاطمة بنت أسد ببركته، وتحرم الصلاة على قبره واتخاذه مسجدًا.
قال الأوزاعي: ويحرم البول عند قبور الأنبياء، ويكره البول عند قبور غيرهم.
"ومنها أنه لا يبلى" بالبناء للمفعول "جسده" أي: لا يتغير عن حالته التي كان عليها في
وكذلك الأنبياء، رواه أبو داود وابن ماجه.
ومنها: أنه لا يورث، فقيل لبقائه على ملكه، وقيل لمصيره صدقة، وبه قطع الروياني، ثم حكى وجهين في أنه هل يصير وقفًا على ورثته؟ وأنه إذا صار وقفًا هل هو الواقف؟ وجهان.
قال النووي في زيادات الروضة: الصواب الجزم بزوال ملكه وأن ما تركه صدقة على المسلمين، لا يختص به الورثة، انتهى.
وقال في الشرح الصغير: المشهور أنه صدقة.
الدنيا، فلا يقال هذه الخصوصية شارك الأنبياء فيها الشهداء وغيرهم، "وكذلك الأنبياء" ولا خلاف في طهارة ميتتهم وفي غيرهم خلاف، ولا يجوز للمضطر أكل ميتة نبي، "رواه أبو داود وابن ماجه" عن أوس، رفعه:"إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء".
وروى الزبير بن بكار من مرسل الحسن: "من كلمه روح القدس لم تأكل الأرض لحمه".
وروى البيهقي عن أبي العالية: "إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السبع".
قال الشيخ أبو الحسن المالكي في شرح الترغيب: وحكمة عدم أكل الأرض أجساد الأنبياء، ومن ألحق بهم، أن التراب يمر على الجسد فيطهره والأنبياء لا ذنب لهم، فلم يحتج إلى تطهيرهم بالتراب.
"ومنها أنه لا يورث، فقيل لبقائه على ملكه" لأنه حي "وقيل: لمصيره صدقة، وبه قطع" جزم "الروياني" وهو المعتمد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة"، الرواية برفع صدقة، ونصبها الشيعة، ورد بأنه يبطل معنى الحديث؛ إذ كل من ترك ما لا حالة كونه صدقة كذلك، وبأن عليًا والعباس من أهل اللسان، وقد احتج الصديق عليهم بالحديث، فقبلوه، "ثم حكى وجهين في أنه هل يصير وقفًا على ورثته؟ " لو كان يورث "وأنه إذا صار وقفًا هل هو الواقف" أو صار وقفًا من غير إنشاء صيغة؟ "وجهان، قال النووي في زيادات الروضة: الصواب الجزم بزوال ملكه، وأن ما تركه صدقة على المسلمين لا يختص به الورثة، انتهى".
وقال الحافظ: يظهر أن ما تركه بعده من جنس الأوقاف المطلقة، ينتفع بها من يحتاج إليها، وتقر تحت يد من يؤتمن عليها، ولهذا كان له عند سهل بن قدح، وعند أنس آخر، وعند عبد الله بن سلام آخر، وكان الناس يشربون منها تبركًا، وكانت جبته عند أسماء بنت أبي بكر إلى غير ذلك مما هو معروف.
"وقال" الرافعي "في الشرح الصغير" على وجيز الغزالي: "المشهور أنه صدقة،
وذكر الرافعي في قسم الفيء أن الخمس كان له صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه ومصالحه، ولم يكن يملكه ولا ينتقل إلى ورثته.
وقال في باب الخصائص: إنه ملكه، ويجمع بينهما: بأن لجهة الإنفاق مادتين: مملوكة وغير مملوكة، والخلاف جار في إحداهما، انتهى. والله أعلم.
وعلى هذا، فيباح له أن يوصي بجميع ماله للفقراء، ويمضي ذلك بعد موته بخلاف غيره فإنه لا يمضي مما أوصى به إلا الثلث بعد موته.
وكذلك الأنبياء لا يورثون، لما رواه النسائي من حديث الزبير مرفوعًا:"إنا معاشر الأنبياء لا نورث".
وذكر الرافعي" في الشرح الكبير على الوجيز "في قسم الفيء أن الخمس كان له صلى الله عليه وسلم، ينفق منه على نفسه ومصالحه، ولم يكن يملكه، ولا ينتقل إلى ورثته" لو كان يورث، "وقال في باب الخصائص: إنه ملكه، ويجمع بينهما بأن لجهة الإنفاق مادتين مملوكة وغير مملوكة، والخلاف جار في إحداهما، انتهى والله أعلم".
"وعلى هذا، فيباح له أن يوصي بجميع ماله للفقراء، ويمضي" أي: ينفذ "ذلك بعد موته، بخلاف غيره، فإنه لا يمضي مما أوصى به إلا الثلث بعد موته" فالوصية بجميع المال في سائر الأحوال من غير حرمة، ولا كراهة من خصائص الأنبياء، لأنهم لا يورثون "وكذلك الأنبياء لا يورثون" لأنهم لو ورثوا لظن أن لهم رغبة في الدنيا لوارثهم، أو لأنهم أحياء، أو لئلا يتمنى ورثتهم، موتهم فيهلكون، "لما رواه النسائي من حديث الزبير" بن العوام "مرفوعًا:"إنا معاشر الأنبياء" نصب على الاختصاص أو المدح، والمعشر كل جمع أمرهم واحد، فالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر، وهو معنى قول جمع المعشر: الطائفة الذين يشملهم وصف "لا نور" وهذا بمعنى ما اشتهر مما لم يثبت لفظة: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث".
"وقال الحافظ في تخريج المختصر": والحاصل أنه لم يوجد بلفظ نحن، ووجد بلفظ: إنا، ومفادهما واحد، فلعل من ذكره ذكره بالمعنى، وهو في الصحيحين عن أبي بكر رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا نورث ما تركنا صدقة" بحذف إنا، وكذا في السنن الثلاث، انتهى، وصدقة، بالرفع خبر المبتدأ الذي هو ما تركنا، والكلام جملتان الأولى فعلية، والثانية اسمية.
قال الحافظ: ويؤيده وروده في بعض طرق الصحيح: "ما تركنا فهو صدقة"، وادعى بعض الرافضة أن الصواب قراءته بتحتية أوله، ونصب صدقة على الحال، والذي توارد عليه أهل الحديث في القديم والحديث بالنون، ورفع صدقة، انتهى.
وعلى هذا فيجاب عن قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] وقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} [مريم: 6] بأن المراد يرث النبوة والعلم.
وفي شرح المصنف وحرفه الإمامية فقالوا: لا يورث بتحتية بدل النون، وصدقة نصب على الحال، وما تركنا مفعول لما لم يسم فاعله، فجعلوا الكلام جملة واحدة، ويكون المعنى: إن ما يترك صدقة لا يورث، وهذا تحريف يخرج الكلام عن نمط الاختصاص الذي دل عليه قوله في بعض طرق الحديث:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث"، ويقضي ما صرفوه إلى أمر لا يختص به الأنبياء لأن آحاد الأمة إذا وقفوا أموالهم أو جعلوها صدقة، انقطع حق الورثة عنها، فهذا من تحاملهم، أو تجاهلهم، وقد أورده بعض أكابر الإمامية على القاضي شاذان، صاحب القاضي أبي الطيب، فقال القاضي شاذان وكان ضعيف العربية، قويًا في علم الخلاف: لا أعرف نصب صدقة من رفعه، ولا احتياج إلى علمه، فإنه لا خفاء بي وبك أن عليًا وفاطمة من أفصح العرب، لا تبلغ أنت ولا أمثالك إلى ذلك منهما، فلو كان لهما حجة فيما لحظت لأبدياها لأبي بكر، فسكت ولم يجر جوابًا، وذهب النحاس إلى صحة نصب صدقة على الحال، وأنكره عياض لتأييده مذهب الإمامية، لكن قدره ابن مالك ما تركناه متروك صدقة فحذف الخبر، وبقي الحال كالعوض منه، ونظير قراءة بعضهم:"ونحن عصبة" بالنصب. انتهى، لكن في التوجيه نظر إذ لم تأت رواية بالنصب حتى توجه، ولأنه لم يتعين حذف الخبر، بل يحتمل ما قاله الإمامية، ولذا أنكره عياض وإن صح في نفسه، "وعلى هذا فيجاب عن قوله تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} الآية، وقوله {فَهَبْ لِي} الآية، ويقع في نسخة:{رَبِّ هَبْ لِي} ، وهو تصحيف مخالف للتلاوة {مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} الآية، "بأن المراد يرث النبوة والعلم" خلافًا لمن زعم أن خوف زكريا من مواليه كان على ما له، لأنه لا يخاف على النبوة، لأنها من فضل الله، يعطيها من شاء، فلزم أنه يورث، وهذا مدفوع بأن خوفه منهم لاحتمال شرتهم من جهة تغييرهم أحكام شرعه، فطلب ولدًا يرث نبوته ليحفظها.
"ومنها: أنه حي في قبره" قال البيهقي: لأن الأنبياء بعدما قبضوا ردت إليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، وقد رأى نبينا صلى الله عليه وسلم جماعة منهم وأمهم في الصلاة، وأخبر وخبره صدق أن صلاتنا معروضة عليه، وإن سلامنا يبلغه، وإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
قال السيوطي: وكل نبي إلا وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة، فيدخلون في عموم قوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآية. وأخرج أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، والحاكم،
ومنها: أنه حي في قبره ويصلي فيه بأذان وإقامة وكذلك الأنبياء، ولهذا قيل: لا عدة على أزواجه.
وقد حكى ابن زبالة، وابن النجار أن الأذان ترك في أيام الحرة ثلاثة أيام وخرج الناس، وسعيد بن المسيب في المسجد، قال سعيد: فاستوحشت فدنوت من القبر فلما حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر فصليت الظهر.
والبيهقي عن ابن مسعود، قال: لأن أحلف تسعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبيًا واتخذه شهيدًا.
وأخرج البخاري والبيهقي، عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي توفي فيه: "لم أزل أجد ألم الطعام حين أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم"، "يصلي فيه بأذان وإقامة" من ملك موكل بذلك، إكرامًا له على ما يظهر، ويحتمل غير ذلك، "وكذلك الأنبياء" أحياء في قبورهم يصلون، روى أبو يعلى والبيهقي، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره"، "ولهذا قيل: لا عدة على أزواجه" لأنه حي، فزوجيتهن باقية غايته أن انتقل من دار إلى دار وحياته باقية، وذلك مقتضى لبقاء العصمة، وكأن قائل هذا رأى أن روحه لما ردت بعد موته إليه، كأنه لم يمت، لا أنه لم يمت حقيقة بل هو أمر كهيئة الإغماء، نظن به موته، إذ لا قائل بذلك، ومثله يقال في بقية الأنبياء.
"وقد حكى" محمد بن الحسن "بن زبالة" بفتح الزاي وتخفيف الموحدة، المخزومي، أبو الحسن المدني، كذبوه ومات قبل المائتين، "وابن النجار أن الأذان ترك في أيام" وقعة "الحرة" بفتح الحاء المهملة، والراء الشديدة: أرض بظاهر المدينة ذات حجارة سود، كأنها أحرقت بالنار، كانت بها الوقعة بين أهل المدينة وبين عسكر يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين، بسبب خلع أهل المدينة يزيد، وولوا على قريش عبد الله بن مطيع وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة وأخرجوا عامل يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عم يزيد من بين أظهرهم وكان عسكر يزيد سبعة وعشرين ألف فارس وخمسة عشر ألف راجل، قتل فيها خلق كثير من الصحابة وسيرهم، ونهبت المدينة وافتض فيها ألف عذارء.
وفي البخاري عن سعيد بن المسيب: إن هذه الفتنة لم تبق من أصحاب الحديبية أحدًا "ثلاثة أيام، وخرج الناس" من المسجد، "وسعيد بن المسيب في المسجد" لم يخرج، "قال سعيد: فاستوحشت" أي: حصلت لي وحشة، أي نفرة في نفسي لخلو المسجد ممن يستأنس به، "فدنوت من القبر" الشريف لنزول الوحشة، "فلما حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر، فصليت الظهر" بذلك اكتفاء به لعلمه أنه حق، لكن مقتضى: فلما حضرت الظهر أنه علم
ثم مضى ذلك الأذان والإقامة في القبر لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، ورجع الناس وعاد المؤذنون فسمعت أذانهم كما سمعت الأذان في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وقد ثبت أن الأنبياء يحجون ويلبون.
فإن قلت: كيف يصلون ويحجون ويلبون وهم أموات في الدار الآخرة وليست دار عمل؟
فالجواب: أنهم كالشهداء، بل أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
دخول الوقت قبل سماع الأذان، لكن روى الدارمي: أخبرنا مروان بن محمد، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: لما كان أيام الحرة لم يؤذن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ولم يقم، وأن سعيد بن المسيب لم يبرح مقيمًا، كان لا يعرف وقت الصلاة إلا بمهملة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم، "ثم مضى" استمر "ذلك الأذان والإقامة في القبر لكل صلاة" يحتمل من ملك عنده بقبره تعظيمًا له على الظاهر، ويحتمل غير ذلك "حتى مضت الثلاث ليال، ورجع الناس، وعاد المؤذنون، فسمعت أذانهم، كما سمعت الأذان في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وأشار بذلك إلى أن ما سمعه في القبر هو الأذان المعروف، لا الإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ أخر، أو نبه بذلك على سماعه بعد عود الناس أذان المؤذنين دون القبر، وإن كان باقيًا، لأن سماعه تلك المدة كرامة له، وتأنس لاستيحاشه بانفراده في المسجد، وتجويز أنه انقطع الأذان في القبر بعد عود الناس لا يسمع، وكلامهم يأباه.
روى أبو نعم عن سعيد بن المسيب، قال: لقد رأيتني ليالي الحرة، وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري، وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر.
وروى الزبير بن بكار، عنه: لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبر رسول الله أيام الحرة حتى عاد الناس.
وأخرج ابن سعد، عنه: أنه كان يلازم المسجد أيام الحرة والناس يقتتلون، قال: فكنت إذا حانت الصلاة أسمع أذانًا من القبر الشريف، "وقد ثبت أن الأنبياء يحجون ويلبون" فيجب اعتقاده لنبوته، "فإن قلت: كيف يصلون ويحجون ويلبون وهم أموات في الدار الآخرة، وليست دار عمل" بل دار جزاء ونعيم للمؤمنين، "فالجواب: أنهم كالشهداء، بل أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون" كما في التنزيل، وقال صلى الله عليه وسلم: "الشهداء على بارق نهر بباب
فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا، أو نقول: إن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا لأنه قبل يوم القيامة في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وأن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال في الآخرة من غير تكليف على سبيل التلذذ بها، ولهذا ورد أنهم يسبحون ويقرءون القرآن، ومن هذا سجود النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشفاعة.
وقد قال صاحب "التلخيص": إن ماله عليه السلام قائم على نفقته وملكه، وعده من خصائصه.
ونقل إمام الحرمين عنه أنه ما خلفه بقي على ما كان عليه في حياته، فكان ينفق منه أبو بكر على أهله وخدمه، وكان يرى أنه باق على ملك النبي صلى الله عليه وسلم. فإن الأنبياء أحياء.
الجنة في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم بكرة وعشية". رواه أحمد، "فلا يبعد أن يحجوا" ويلبوا "ويصلوا" وهذا لا يدفع السؤال: كيف تقع أعمال الدنيا في الآخرة، وليست دار عمل، وكما يرد هذا في الأنبياء يرد أيضًا في الشهداء، والأحسن الجواب بأنه ورد عن الشارع، وهو ممكن، فيجب قبوله، ولا يبحث فيه بشيء، وكون الآخرة ليست دار عمل، أي: مكلف به، وأعمالهم إنما هي لمجرد التلذذ وتيسيره لهم، فهو من جملة النعيم، "أو نقول" في الجواب: "أن البرزخ ينسحب" ينحر "عليه حكم الدنيا لأنه قبل يوم القيامة" وكل ما قبله يعد من الدنيا "في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وأن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف وقد تحصل الأعمال في الآخرة من غير تكليف على سبيل التلذذ بها" فهو من النعيم، وكان هذا تتمة الجواب الأول، "ولهذا" أي: حصول الأعمال في الآخرة تلذذًا، "ورد أنهم" أي أهل الآخرة "يسبحون ويقرءون القرآن" في الجنة، كما في مسلم مرفوعًا: "إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس"، "ومن هذا سجود النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشفاعة" ثلاث مرات.
"وقد قال صاحب التلخيص" ابن القاص: "أن ماله عليه السلام قائم" أي: باق "على نفقته وملكه" فيصرف منه على أزواجه ومن كان ي نفقته في حياته "وعده من خصائصه، ونقل إمام الحرمين" وصححه "عنه أنه ما خلفه بقي على ما كان عليه في حياته، فكان ينفق منه أبو بكر على أهله" أي: زوجاته "وخدمه" ويصرف منه ما كان يصرف في حياته، "وكان يرى" يعتقد "أنه باقٍ على ملك النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الأنبياء أحياء" ومال السبكي إليه لهذا التعليل،
وهذا يقتضي إثبات الحياة في أحكام الدنيا، وذلك زائد على حياة الشهيد.
والذي صرح به النووي: زوال ملكه عليه السلام وأن ما تركه صدقة على جميع المسلمين لا يختص به ورثته.
فإن قلت: القرآن ناطق بموته عليه السلام، قال الله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال عليه السلام:"إني امرؤ مقبوض". وقال الصديق: فإن محمدًا قد مات، وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك.
فأجاب الشيخ تقي الدين السبكي، بأن ذلك الموت غير مستمر، وأنه صلى الله عليه وسلم أحيي بعد الموت، ويكون انتقال الملك ونحوه مشروطًا بالموت المستمر، وإلا فالحياة الثانية.
"وهذا يقتضي إثبات الحياة في أحكام الدنيا، وذلك زائد على حياة الشهيد" لأنها وإن كانت واقعة، لكن يزول ملكه معها، وتعتد نساؤه ويورث ماله فلا ينفق شيء منه على زوجاته وخدمه اتفاقًا في ذلك كله بخلاف الأنبياء، ففيه خلاف.
"والذي صرح به النووي" وقال إنه الصواب، كما مر قريبًا "زوال ملكه عليه السلام" بالموت، "وأن ما تركه صدقه على جميع المسلمين، لا يختص به ورثته" وإنما أنفق منه على زوجاته لوجوب نفقتهن في تركته مدة حياتهن، لأنهن في معنى المعتدات لحرمة النكاح عليهن أبدًا، وليس ذلك لإرثهن منه، ولذلك اختصصن بمساكنهن مدة حياتهن، ولم يرثها ورثتهن بعدهن "فإن قلت" كيف يكون حيًا ويختلف في زوال ملكه عن ماله وفي عدة زوجاته، وهذا "القرآن ناطق بموته عليه السلام".
"قال الله تعالى" خطابًا له صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَُّمْ مَيِّتُونَ} أي: ستموت ويموتون، فلا شماتة بالموت، نزلت لما استبطأ الكفار موته عليه السلام، وقال عليه السلام:"إني امرؤ مقبوض". وقال الصديق" ومن كان يعبد محمدًا، "فإن محمدًا قد مات، وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك" ورجع عمر عن قوله أنه ما مات، ولن يموت حتى يفني الله المنافقين، فقام لما بويع أبو بكر، واستوى على منبره عليه السلام، وتشهد، ثم قال: أما بعد، فإني قلت لكم مقالتي بالأمس، ولم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدتها في كتاب الله، ولا في عهدٍ عهِدَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرجو أن يعيش حتى يكون آخرنا موتًا، فاختار الله له ما عنده، "فأجاب" أي: فأقول أجاب، لأن هذا ليس من المواضع التي تدخل عليها الفاء "الشيخ تقي الدين السبكي بأن ذلك الموت غير مستمر، وأنه صلى الله عليه وسلم أحيي بعد الموت، ويكون انتقال الملك ونحوه" كاعتداد الزوجات "مشروطًا بالموت المستمر، وإلا فالحياة الثانية حياة
حياة أخروية، ولا شك أنها أعلى وأكمل من حياة الشهداء، وهي ثابتة للروح بلا إشكال، وقد ثبت أن أجساد الأنبياء لا تبلى، وعود الروح إلى الجسد ثابت في الصحيح لسائر الموتى فضلا عن الشهداء، فضلا عن الأنبياء، وإنما النظر في استمرارها في البدن، وفي أن البدن يصير حيًا كحالته في الدنيا، أو حيًا بدونها، وهي حيث شاء الله تعالى، فإن ملازمة الروح للحياة أمر عادي لا عقلي، فهذا مما يجوزه العقل، فإن صح به سمع اتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء.
ويشهد له صلاة موسى في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدًا حيًا، وكذلك الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء، كلها صفات الأجسام، ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب وغير ذلك من صفات الأجسام.
أخروية ولا شك أنها أعلى وأكمل من حياة الشهداء" لفضل الأنبياء عليهم، "وهي ثابتة للروح بلا إشكال" أي: بلا خلاف عند أهل السنة، إذ لا تموت بموت الأجساد في جميع الناس، ففي فنائها عند القيامة توفيه بظاهر قوله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الآية، وعدمه قولان استقرب السبكي الثاني.
"وقد ثبت أن أجساد الأنبياء لا تبلى، وعود الروح إلى الجسد ثابت في الصحيح لسائر الموتى فضلا" أي: نهاية "عن الشهداء، فضلا عن الأنبياء، وإنما النظر في استمرارها في البدن، وفي أن البدن يصير حيًا كحالته في الدنيا، أو حيًا بدونها، وهي حيث شاء الله تعالى، فإن ملازمة الروح للحياة أمر عادي" أجرى الله به العادة، فيجوز تخلفه "لا عقلي" فيمتنع بخلفه "فهذا" أي: الحياة بلا روح "مما يجوزه العقل، فإن صح به سمع اتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء، ويشهد له صلاة موسى في قبره" كما ثبت في الصحيح.
واختلف فيها، فقيل: الصلاة اللغوية، أي: يدعو الله ويذكره ويثني عليه وقيل: الشرعية، ولا مانع من ذلك، لأنه إلى الآن في الدنيا، وهي دار تعبد، وعلى هذا جرى القرطبي، فقال: الحديث يدل بظاهره على أنه رآه رؤية حقيقية في اليقظة، وأنه حي في قبره، يصلي الصلاة التي كان يصليها في الحياة، وذلك ممكن، "فإن الصلاة تستدعي جسدًا حيًا" سواء قلنا أنها الشرعية أو اللغوية، "وكذلك الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء، كلها صفات الأجسام، ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها، كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب، وغير ذلك من صفات الأجسام" لأن ذلك عادي لا عقلي،
التي نشاهدها بل يكون لها حكم آخر، فليس في العقل ما يمنع إثبات الحياة الحقيقية لهم.
وأما الإدراكات كالعلم والسماع فلا شك أن ذلك ثابت لهم بل ولسائر الموتى، حكاه الشيخ زين الدين المراعي، وقال: إنه مما يعز وجوده وفي مثله يتنافس المتنافسون.
وهذه الملائكة أحياء، ولا يحتاجون إلى ذلك، وقيد بقوله:"التي نشاهدها" حتى لا يرد عليهم أنهم يأكلون ويشربون مما لا نشاهده.
وفي الفتاوى الرملية: الأنبياء والشهداء والعلماء لا يبلون، والأنبياء والشهداء يأكلون في قبورهم، ويشربون، ويصلون، ويصومون ويحجون، واختلف هل ينكحون نساءهم، أم لا؟ ويثابون على صلاتهم وحجهم، ولا كلفة عليهم في ذلك، بل يتلذذون، وليس هو من قبيل التكليف؛ لأن التكليف انقطع بالموت، بل من قبيل الكرامة لهم ورفع درجاتهم بذلك، "بل يكون لها حكم آخر، فليس في العقل ما يمنع من إثبات الحياة الحقيقية لهم".
"وأما الإدراكات كالعلم والسماع، فلا شك أن ذلك ثابت لهم، بل ولسائر الموتى" كما ورد ذلك في الأحاديث.
قال صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عليه إلا استأنس ورد عليه حتى يقوم"، رواه ابن أبي الدنيا، وقال صلى الله عليه وسلم:"ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن، كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا عرفه ورد عليه السلام"، رواه ابن عبد البر، وصححه أبو محمد عبد الحق، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الميت يعرف من يغسله ويحمله ويدليه في قبره"، رواه أحمد وغيره.
"حكاه الشيخ زين الدين المراعي" بفتح الميم، معجمة آخره المحدث، العالم النحرير، "وقال: إنه ما يعز وجوده، وفي مثله يتنافس المتنافسون" يرغبون بالمبادرة إليه لنفاسته، وفي نبأ الأذكياء حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء، معلومة عندنا علمًا قطعيًا لما قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت به الأخبار، وألف البيهقي في ذلك جزأ، وفي تذكرة القرطبي عن شيخه: الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك؛ أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء، فالأنبياء أحق بذلك وأولى، وقد صح أن الأرض لا تأكل أجسادهم؛ وأنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء، ورأى موسى قائمًا يصلي في قبره، وأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه يرد السلام على كل من يسلم عليه، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن
ومنها: أنه وكل بقبره ملك يبلغه صلاة المصلين عليه.
كانوا موجودين أحياء، ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله تعالى بكرامة من أوليائه، انتهى، ولا تدافع بين رؤيته موسى يصلي في قبره، وبين رؤيته في السماء لأن للأنبياء مراتع ومسارح يتعرفون فيما شاءوا، ثم يرجعون، أو لأن أرواحهم بعد فراق الأبدان في الرفيق الأعلى، ولها إشراق على البدن وتعلق به، فيتمكنون من التعرف والتقرب، بحيث يرد السلام على المسلم، وبهذا التعلق رآه يصلي في قبره، ورآه في السماء، ورأى الأنبياء في بيت المقدس وفي السماء كما أن نبينا بالرفيق الأعلى، وبدنه في قبره يرد السلام على من يسلم عليه، ولم يفهم هذا من قال: رؤيته يصلي في قبره منامية، أو تمثيل، أو إخبار عن وحي، لا رؤية عين، فكلها تكلفات بعيدة.
وأخرج البيهقي في كتاب حياة الأنبياء والحاكم في تاريخه، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكن يصلون بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور".
قال الحافظ في سنده: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، قال: وأما ما أوردهم الغزالي والرافعي، بلفظ:"أنا أكرم على ربي أن يتركني في قبري بعد ثلاث"، فلا أصل له إلا إن أخذ من رواية ابن أبي ليلى هذه، وليس الأخذ بجيد إذ تلك قابلة للتأويل، قال البيهقي: إن صح، فالمراد أنهم لا يتركون يصلون، إلا هذا المقدار، ويكونون مصلين بين يدي الله.
"ومنها: أنه وكل بقبره ملك" قائم على قبره إلى يقوم اليامة، "يبلغه صلاة المصلين عليه" بلفظ محمد وأحمد وغيرهما من أسمائه، كالعاقب والماحي، ولام المصلين للاستغراق، فهي للعموم، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال ككون المصلي جنبًا، أو متعاطيًا لمحرم، أو في مكان لا يذكر الله فيه كالأخلية، ولا مانع من ذلك لجواز أن النهي لأمر خارج، وهو لا ينافي التبليغ الذي يترتب عليه الثواب، ويبلغها له عقب التلفظ بها، كما روى الديلمي عن أبي بكر، رفعه:"أكثروا الصلاة عليّ، فإن الله وكل بي ملكًا عند قبري، فإذا صلى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد إن فلان بن فلان يصلي عليك الساعة"، وبه سقط توهم أنه لا حاجة إلى ذلك لأن أعمال أمته كلها تعرض عليه، والصلاة من جملتها لأنها تعرض ساعة التلفظ بها، وهو غير وقت عرض الأعمال، ولذا جعلوا من أدلة حياته على الدوام، وأن روحه لا تفارقه أبدًا، قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"، رواه أبو داود بهذا اللفظ لاستحالة خلو الوجود كله من أحد يسلم عليه عادة، ويأتي إن شاء الله
رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه بلفظ: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي أمة السلام". وعند الأصفهاني عن عمارة: "إن لله ملكًا أعطاه الإجابة سمع العباد كلهم
تعالى بسط هذا الحديث في المقصد العاشر، "رواه أحمد والنسائي" في الصلاة "والحاكم، وصححه" في التفسير، وابن حبان، والطبراني، وأبو الشيخ، والبيهقي عن ابن مسعود، "بلفظ" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة" جمع ملك نكره على معنى بعض صفته "سياحين" بسين مهملة من السياحة، وهي السير، يقال: ساح في الأرض، يسيح سياحة إذا ذهب فيها، وأصله من السيح، وهو الماء الجاري المنبسط "في الأرض" في مصالح بني آدم، وفي رواية: يدله في الهواء، "يبلغوني عن" وفي رواية:"من أمتي" أمة الإجابة، "السلام" ممن يسلم عليّ منهن، وإن بعد قطره وتناءت داره، أي: فيرد عليهم بسماعه منهم؛ كما في خبر آخر، وفيه تعظم له صلى الله عليه وسلم، وإجلال لأمته، حيث سخر الملائكة الكرام لذلك، وهذا الحديث في الصحيحين دون قوله:"سياحين" فلم يعزه المصنف لهما لزيادتهما، فإن ورد أنه لا يطابق ترجمته، إذ هي ملك يبلغه الصلاة، والحديث ملائكة تبلغه السلام، فالجواب: أنه أراد يملك الجنس، وهو نوعان، واحد موكل بالقبر وآخرون سياحون، وأراد بالصلاة ما يشمل السلام مجازًا، وفي الحديث الأول تبليغ السلام، والثاني تبليغ الصلاة فطابق الترجمة، ولا يجاب بأن السياحين يبلغون الموكل لأنه صرح برده عليهم، بسماعه منهم، ودعوى التجوز ممنوعة، فالأصل الحقيقة.
قال بعض: هل يبلغ السياحون غير السلام، أو الملك غير الصلاة؟ لم أقف على شيء في ذلك، والظاهر لا لأنه غير مشروع وكأنه أراد بغير الصلاة والسلام نحو ترضية وترحم عليه، لتعليله بأنه لم يشرع، ولأن الأمر توفيقي لا دخل فيه للقياس.
"وعند الأصفهاني" بكسر الهمزة وفتحها، وهي همزة قطع، قال النووي: ويجوز حذفها في الوصل، وبفتح الموحدة، وقد تكسر، ويقال بالفاء مفتوحة ومكسورة، مع كسر الهمزة وفتحها مدينة معروفة، وهو أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، بفتح المهملة والتحتية، حافظ أصبهان، ومسند ذلك الزمان سنة ست وتسعين وثلاثمائة، أو أراد به الحافظ أبا القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي، التيمي، الطلحي، الأصفهاني الإمام الحافظ الكبير، الذي يضرب به المثل في الصلاة مات سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، وكلاهما صحيح، فأبو الشيخ روى هذا الحديث في كتاب العظمة، وأبو القاسم رواه في كتاب الترغيب والترهيب له، وقصر المصنف في العزو، فقد رواه البخاري في تاريخه، والطبراني، والعقيلي، وابن النجار، كلهم عن عمار بن ياسر، أحد السابقين، وقوله:"عن عمارة" تصحيف من الكتاب، فالصواب إسقاط الهاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن لله ملكًا أعطاه الإجابة سمع العباد كلهم،
فما من أحد يصلي عليّ صلاة إلا أبلغنيها".
أي: قوة يقتدر بها على سماع ما ينطق به كل مخلوق من إنس وجن وغيرهما "فما" وفي رواية: فليس "من أحد يصلي علي صلاة إلا" سمعها و"أبلغنيها".
زاد الطبراني في روايته: "وإني سألت ربي أن لا يصلي علي عبد صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها" للطبراني أيضًا عن عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن لله ملكًا أعطاه أسماع الخلائق كلها، وهو قائم على قبري، إذا مت إلى يوم القيامة، فليس أحد من أمتي يصلي عليّ صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه، وقال: يا محمد صلى عليك فلان من فلان، فيصلي الرب تبارك وتعالى عليه بكل واحدة عشرًا".
وروى الخطيب عن أبي هريرة، مرفوعًا:"من صلى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيًا وكل الله به ملكًا يبلغني"، ورواه الديلمي بلفظ:"نائيًا أبلغته" أي: بعيدًا أبلغنيه الملك، فظاهره أن تبليغه ما لم يكن المصلي عند القبر الشريف، وإلا سمعه صلى الله عليه وسلم بنفسه.
قال الشهاب بن حجر في فتاويه: والذي يظهر أن المراد بالعندية أن يكون في محل قريب من القبر، بحيث يصدق عليه عرفًا أنه عنده، وبالبعد عنه ما عدا ذلك، وإن كان بمسجده صلى الله عليه وسلم وفي القول البديع: إذا كان المصلي عند قبره الشري سمعه صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، سواء كان ليلة الجمعة أو غيرها، وما يقوله بعض الخطباء ونحوهم أنه يسمع بأذنيه في هذا اليوم من يصلي عليه، فهو مع حمله على القريب لا مفهوم له، وسئل النووي عمن حلف بالطلاق الثلاث؛ أنه صلى الله عليه وسلم يسمع الصلاة عليه هل يحنث أم لا؟ فأجاب: لا يحكم عليه بالحنث للشك في ذلك، والورع أنه يلزمه الحنث انتهى، لكن يعارضه خبر:"من صلى علي عند قبري، وكل الله به ملكًا يبلغني، وكفي أمر دنياه وآخرته، وكنت له شفيعًا، أو شهيدًا يوم القيامة". وجمع صاحب الجوهر المنظم بأنه يسمع الصلاة والسلام عند قبره بلا واسطة، ويبلغه الملك أيضًا إشعارًا بمزيد خصوصيته والاعتناء بشأنه، والاستمداد له بذلك.
وروى الطبراني وغيره عن الحسن بن علي، رفعه:"حيثما كنتم فصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني"، ومعناه: لا تتكلفوا المعاودة إلى قبري، لكن الحضور فيه مشافهة أفضل من الغيبة والمنهي عنه الاعتياد الرافع للحشمة، المخالف لكمال المهابة.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: "إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن" أكثركم عليّ صلاة في الدنيا، من صلى عليّ يوم الجمعة، وليلة الجمعة قضى الله له مائة حاجة، سبعين من حوائج الآخرة، وثلاثين من حوائج الدنيا، ثم يوكل الله بذلك ملكًا يدخله في قبري، كما يدخل عليكم الهدايا، يخبرني بمن صلى علي باسمه، ونسبه إلى عشيرته، فأثبته عندي في صحيفة بيضاء".
وتعرض أعمال أمته عليه، ويستغفر لهم، روى بن المبارك عن سعيد بن المسيب قال:"ليس من يوم إلا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أعمال أمته غدوة وعشيًا فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم".
وأخرج الطبراني والبيهقي عن أبي هريرة، وابن عدي عن أنس مرفوعًا:"أكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء، واليوم الأزهر، فإن صلاتكم تعرض عليّ"، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي: بليت، فقال:"إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، أي: لأنها نور، وهو لا يتغير بل ينتقل من حالة إلى حالة.
وروى ابن ماجه برجال ثقات عن أبي الدرداء مرفوعًا: "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدًا لن يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها" قلت: وبعد الموت؟ قال: "وبعد الموت، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، أي: عرضت علي عرضًا خاصًا، زيادة شرف للمصلي في ذلك اليوم فلا ينافي أنها تعرض عليه في أي وقت صلى عليه ولذا قال:"أكثروا من الصلاة عليّ في يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن فعل ذلك كنت له شهيدًا وشافعًا يوم القيامة"، رواه البيهقي عن أنس بإسناد ضعيف لكنه حسن لشواهده، أي: شهيدًا بأعماله التي منها الصلاة عليّ، وشافعًا له شفاعة خاصة اعتناء به، وإلا فشفاعته عامة، ووجه مناسبة الإكثار من الصلاة عليه يوم القيامة وليلتها أن يومها سيد أيام الأسبوع، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق فللصلاة عليه فيه مزية ليست لغيره، وأيضًا فكل خير تناله الأمة في الدارين إنما هو بواسطته، وأعظم كرامة تحصل لهم في يوم الجمعة، وهي بعثهم إلى منازلهم في الجنة، وكما أنه عيد لهم في الدنيا، فكذا في الأخرى فإنه يوم المزيد الذي يتجلى لهم الحق تعالى فيه، وهذا حصل لهم بواسطته؛ فمن شكره إكثار الصلاة عليه فيه، وذكر أبو طالب في القوت: أن أقل الأكثرية ثلاثمائة مرة، وورد في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ألفاظ كثيرة، أشهرها: اللهم صلى على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد لذلك في المقصد السابع والأخير.
"وتعرض عليه أعمال أمته" حسنها وسيئها فيحمد الله على حسنها، "ويستغفر لهم" سيئها، وروى البزار بسند جيد عن ابن مسعود، رفعه:"حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، تعرض عليّ أعمالكم، فما كان من حسن حمدت الله عليه، وما كان من سيئ استغفرت الله لكم" أي: طلبت مغفرة الصغائر وتخفيف عقوبات الكبائر، وظاهره أن المراد عرض أعمال المكلفين، إذ غير المكلف لا ذنب له، ويحتمل العموم، وذلك العرض كل يوم مرتين كما "روى ابن المبارك" عبد الله، الذي تستنزل الرحمة بذكره "عن سعيد بن المسيب" التابعي الجليل ابن الصحابي، "قال: ليس من يوم إلا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أعمال أمته غدوة وعشيًا" زيادة إكرام لهم، "فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم" فيحمد الله ويستغفر لهم، فإذا علم المسيء ذلك قد
ومنها: أن منبره على حوضه كما في الحديث وفي رواية: "ومنبري على ترعة من ترع الجنة" وأصل الترعة الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإذا كانت في المطمئن فهي روضة. ولم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره وأنه حق محسوس موجود، فإن القدرة صالحة لا عجز فيها، وكل ما أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام من أمور الغيب فالإيمان به واجب.
يحمله على الإقلاع، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم:"تعرض الأعمال كل يوم الاثنين والخميس على الله، وتعرض على الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم، وتزداد وجوههم بياضًا وإشراقًا، فاتقوا الله ولا تؤذوا موتاكم"، رواه الحكيم الترمذي، لجواز أن العرض على النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم على وجه التفصيل، وعلى الأنبياء، ومنهم نبينا على وجه الإجمال يوم الجمعة، فيمتاز صلى الله عليه وسلم بعرض أعمال أمته كل يوم تفصيلا، ويوم الجمعة إجمالا، ويأتي إن شاء الله تعالى وجه أن مماته خير في المقصد العاشر.
"ومنها: أن منبره على حوضه" أي: ينقل المنبر الذي قال عليه هذه المقالة يوم القيامة، فينصب على الحوض، ثم تصير قوائمه رواتب في الجنة، كما روى الطبراني "كما في حديث" أخرجه الشيخان، وأحمد، والترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي". "وفي رواية" عند النسائ في هذا الحديث بدل قوله: "ومنبري على حوضي": "ومنبري على ترعة " بضم، فسكون "من ترع" بضم، ففتح، جمع ترعة "الجنة" أي: موضع معين فيها، "وأصل الترعة" أي حقيقتها لغة "الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإذا كانت في المطمئن، فهي روضة" وبهذه الحقيقة فسرها الديلمي، قال: وقيل هي الدرجة، وفي رواية لأحمد والطبراني عن بعض الصحابة تفسير الترعة بالباب، وسوى في القاموس بين هذه الحقائق، فظاهره أنها كلها لغوية، والروضة الموضع المعجب بالزهور لاستراضة المياه السائلة إليها، أي: سكونها بها، وعلم من المصنف أن الروضة تطلق على مجمع الزهور في المرتفع والمنخفض، ويخص المنخفض بالروضة دون الترعة.
"ولم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره" أي: إن المراد منبره الذي كان يخطب عليه في الدنيا، "وأنه حق محسوس" مشاهد بحاسة البصر، "موجود" في الجنة وعلى الحوض قبل، "فإن القدرة صالحة" لذلك "لا عجز فيها" تعليل لنفي الخلاف، "وكل ما أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام من أمور الغيب، فالإيمان به واجب" إذ لا ينطق عن الهوى، لكن في نفس الخلاف نظر، فالخلاف موجود، فقيل: هو منبره الذي كان يخطب عليه.
ومنها أن ما بين منبره وقبره روضة من رياض الجنة، رواه البخاري بلفظ:"ما بين بيتي ومنبري"، وهذا يحتمل الحقيقة والمجاز.
أما الحقيقة: فبأن يكون ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بأنه من الجنة مقتطعًا منها، كما أن الحجر الأسود منها.
قال السيوطي: وهو الأصح، وقيل: منبر يوضع له هناك، وقيل: التعبد عنده يورث الجنة، فكأنه قطعة منها، واستبعد الثاني بأن في رواية أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة، رفعه:"منبري هذا على ترعة من ترع الجنة" فاسم الإشارة ظاهرًا، وصريح في أنه منبره في الدنيا، والثالث: بأنه لا يكون خصوصية له، إذا التعبد في أي مكان يورث الجنة، اللهم إلا أن يجاب عن المصنف بأن المعنى لم يختلف أحد في أن المنبر على ظاهره، وإن اختلفوا في أنه الذي كان في الدنيا أو غيره، وفي أنه على حذف مضاف، أي: العمل عنده أم لا؟ ويحتمل أن لفظ أحد بمعنى الجماعة، أي: لم يختلف جماعة في هذا، وإن اختلف غيرهم على نحو قول البيضاوي في:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} أحد في معنى الجمع لوقوعه في سياق النفي، أو إن أحد بمعنى واحد، كما في القاموس، أي: لم يتردد واحد في ذلك، فلم يقل أراد بالمنبر المقام، وهذا قريب مما قبله لكن قال شيخنا: تقريرًا هذا من حيث اللفظ، ومرادهم بمثله حكاية الاتفاق، فالأقرب الأول.
"ومنها: أن ما بين منبره وقبره روضة من رياض الجنة، رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، "بلفظ:"ما بين بيتي ومنبري" ووقع في رواية ابن عساكر للبخاري في فضل المدينة من صحيحه: وقبري بدل بيتي، قال الحافظ: وهو خطأ، فقد قدم البخاري الحديث في كتاب الصلاة بإسناده بلفظ: بيتي، وكذا هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه، نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار برجال ثقات، وابن عمر عند الطبراني بلفظ: قبري، فعلى هذا المراد بالبيت في قوله: بيتي أحد بيوته لا كلها، وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ:"ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة"، أخرجه الطبراني في الأوسط، "وهذا يحتمل الحقيقة" بأن يكون على ظاهره ولم يثبت خبر عن بقعة بخصوصها أنها من الجنة إلا هذه البقعة، "والمجاز. أما الحقيقة فبأن يكون ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بأنه من الجنة مقتطعًا منها" نقل ابن زبالة أن ذرع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعًا، وقيل: أربع وخمسون وسدس وقيل: خمسون إلا ثلثي ذراع.
قال الحافظ: وهو الآن كذلك، فكأنه نقص لما أدخل بين الحجرة في الجدار "كما أن الحجر الأسود منها" كما قال صلى الله عليه وسلم:"الحجر الأسود من الجنة"، رواه أحمد عن أنس والنسائي
وكذلك النيل والفرات من الجنة، وكذلك الثمار الهندية من الورق التي أهبط بها آدم عليه السلام من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة، ومن ترابها، ومن حجرها، ومن فواكهها، حكمة حكيم جليل.
وأما المجاز: فبأن يكون من إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن ملازمة ذلك المكان للصلاة والعبادة سبب في نيل الجنة، قاله ابن أبي جمرة، وهو معنى قول بعضهم: لكون العبادة فيه تئول إلى دخول العابد روضة الجنة.
وهذا فيه نظر: إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة على غيرها.
عن ابن عباس، والأصل الحقيقة، ويؤيده ما للخطيب وابن عساكر مرفوعًا:"والحجر الأسود ياقوتة بيضاء من ياقوت الجنة، وإنما سودته خطايا المشركين، يبعث يوم القيامة مثل أحد يشهد لمن استلمه وقبله من أهل الدنيا".
ووى الأزرقي مرفوعا: "الحجر الأسود نزل به ملك من السماء". "وكذلك النيل والفرات من الجنة".
وروى مسلم عن أبي هريرة، مرفوعًا:"سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة" ، وهو على ظاهره على الأصل، وقيل: مؤول، "وكذلك الثمار الهندية من الورق التي أهبط بها آدم عليه السلام من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة" كالنيل والفرات، "ومن ترابها" وهو الأرض التي بين المنبر والقبر، "ومن حجرها" وهو الحجر الأسود، "ومن فواكهها" وهو الثمار الهندية، "حكمة حكيم جليل" ليتدبر العاقل، فيسارع إليها بالأعمال الصالحة، وقيل في معنى الحقيقة أن ذلك الموضع ينقل بعينه في الآخرة إلى الجنة.
"وأما المجاز، فبأن يكون من إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن ملازمة ذلك المكان للصلاة والعبادة فيه سبب في نيل الجنة، قاله ابن أبي جمرة" بجيم وراء، وفيه تسمح إذ الروضة ليست مسببة من حيث ذاتها، بل الوصول إليها مسبب عن العمل، لكنها لما كانت المقصودة أطلق اسمها مريدًا التعبد الموصل إليها، "وهو معنى قول بعضهم لكون العبادة فيه تئول" أي: تؤدي، أي: تكون طريقًا "إلى دخول العابد روضة الجنة" ففيه تجوز أيضًا، لأن الأيلولة الرجوع، "وهذا فيه نظر؛ إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة على غيرها" فالعبادة في أي مكان كذلك وجوابه أنها سب قوي يوصل إليها على وجه أتم من بقية الأسباب، أو هي سبب لروضة خاصة أجل من مطلق الدخول والتنعم، فإن أهل الجنة يتفاوتون في منازلها بقدر أعمالهم.
في كتاب "بهجة النفوس" لابن أبي جمرة أيضًا حكاية قول: إن تلك البقعة تنقل فتكون في الجنة، يعني روضة من رياضها. قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا، يعني احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها موجبًا لصاحبه روضة من رياض الجنة، ويأتي مزيد لذلك في فصل الزيارة من المقصد الأخير إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر. وفي رواية مسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض".
وهو أول من يفيق من الصعقة.
"وفي كتاب بهجة النفوس" وتحليها بمعرفة ما عليها ولها "لابن أبي جمرة أيضًا حكاية قول إن تلك البقعة تنقل بعينها" يوم القيامة، "فتكون في الجنة، يعني روضة من رياضها، قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا" إذ لا تخالف بينهما، "يعني احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها موجبًا لصاحبه روضة من رياض الجنة" أخصر، وأجمع من هذا قول المصنف على البخاري، ولا مانع من الجمع، فهي من الجنة، والعمل فيها يوجب لصاحبه روضة من الجنة، وتنقل هي أيضًا إلى الجنة، "ويأتي مزيد لذلك في فصل الزيارة من المقصد الأخير إن شاء الله تعالى" وهو نقل كلام ابن أبي جمرة في الاستدلال على ذين الوجهين بالنظر والقياس بنحو ورقة، وقيل: في وجه المجاز أيضًا أنه من التشبيه البليغ، أي: كروضة من رياض الجنة في تنزل الرحمة وحصول السعادة.
"ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر" كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عني القبر، وأول شافع، وأول مشفع". رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة، أي: أول من يعجل إحياؤه مبالغة في إكرامه، وتخصيصًا بتعجيل جزيل إنعامه.
"وفي رواية مسلم" أيضًا من حديث أبي هريرة: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" فلا يتقدم عليه أحد، أي: أرض قبره، فهو مساوٍ للرواية قبله، زاد الترمذي وقال: حسن غريب، والحاكم من حديث ابن عمر:"ولا فخر، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع، فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين". قال السمهودي: وفيه بشرى عظيمة لكل من مات بالمدينة، وإشعار بذم الخروج منها مطلقًا، وهو عام أبدًا في كل زمان كما نقله المحب الطبري وارتضاه.
وروى الترمذي عن أنس مرفوعًا: "أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وقدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، ولا فخر". "وهو أول من يفيق" بضم أوله "من الصعقة" وهي غشي يلحق من سمع صوتًا، أو رأى شيئًا يفزع
قال عليه الصلاة والسلام: "أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور". رواه البخاري.
والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن عنده علم بذلك حتى أعلمه الله تعالى، فقد أخبر عن نفسه الكريمة أنه أول من ينشق عنه القبر.
وهو أول من.
منه، واستشكل كون جميع الخلق يصعقون، مع أن الموتى لا إحساس لهم، فقيل: المراد من كان حيًا إذ ذاك والأموات هم المستثنون في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية، أي: من سبق له الموت قبل ذلك، فيصعق.
وأما الأنبياء، ففي حكم الأحياء، وقيل: المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض، وهي غشية تحصل للناس في الموقف.
قال عليه الصلاة والسلام: "أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة" الأخيرة، كما في الرواية، "فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" أي بعمود من عمده، وللشيخين من حديث أبي هريرة، أيضًا:"باطش بجانب العرش"، أي: آخذ بشيء منه بقوة، فالبطش الأخذ بقوة، "فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" لما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقًا، وفي الصحيحين، أيضًا:"فما أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله"؟، أي: في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية، فلم يصعق، وكل من الأمرين فضيلة ظاهرة لكن لا يلزم من فضله من هذه الجهة أفضليته مطلقًا، ولا منافاة بين الروايتين لأن المعنى لا أدري، أي: هذه الثلاثة كانت الإفاقة، أو الاستثناء، أو المحاسبة، "رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، وبه استشكل كونه صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض وأول من يفيق، مع التردد في خروج موسى من قبره، وأجاب عياض باحتمال أن هذه الصعقة ليست النفخة الأولى ولا الثانية التي يعقبها النشور، بل صعقة تأتي يوم القيامة حين تنشق السماء والأرض، ورده القرطبي بأنه صلى الله عليه وسلم صرح بأنه يخرج من قبره فيلقى موسى متعلقًا بالعرش، وهذا إنما هو عند نفخة البعث.
قال: ويؤيده أنه عبر بقوله: أفاق؛ لأنه إنما يقال: أفاق من الغشي وبعث من الموت، ولذا عبر عن صعقة الطور بالإفاقة، لأنها لم تكن موتًا بلا شك، وإذا تقرر ذلك ظهر صحة الحمل على أنها غشية تحصل للناس في الموقف، وأجاب المصنف كغيره، بقوله:"والظاهر أن عليه الصلاة والسلام لم يكن عنده علم ذلك" أي: كونه أول "حتى أعلمه الله تعالى" بأنه أول، "فقد أخبر عن نفسه الكريمة أنه أول من ينشق عنه القبر" كما مر في الأحاديث المفيدة علمه بإفاقته قبل موسى، فحينئذ يكون ممن استثنى الله أو جوزي بصعقة الطور، "وهو أول من يجيز" بضم الياء،
يجيز على الصراط، رواه البخاري عن أبي هريرة.
وأنه يحشر في سبعين ألفًا من الملائكة، كما روي عن كعب الأحبار: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألف ملك يحفون بقبره عليه الصلاة والسلام يضربون بأجنحتهم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفًا من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه وسلم. رواه ابن النجار في تاريخ المدينة.
وأنه يحشر راكبا البراق، رواه الحافظ السلفي، كما ذكره الطبري.
وكسر الجيم، وبالزاي، أي: يمضي "على الصراط" ويقطعه، وفي رواية: يجوز، وهما بمعنى يقال أجزت الوادي وجزته، "رواه البخاري" ومسلم "عن أبي هريرة" في حديث طويل بلفظ: قال صلى الله عليه وسلم: "فأكون أنا وأمتي أول من يجيز على الصراط، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم". "وأنه يحشر في سبعين ألفًا من الملائكة، كما روي عن كعب الأحبار" جمع حبر، أي: ملجأ العلماء، الحميري أبي إسحاق الثقة المخضرم، كان من أهل اليمن، فسكن الشام، مات في خلافة عثمان أنه دخل على عائشة، فتذاكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كعب:"ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألف ملك يحفون بقبره عليه الصلاة والسلام، يضربون بأجنحتهم" أسقط منها، أيضًا: يحفون بالقبر، يضربون بأجنحتهم، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم سبعون ألفًا بالليل، وسبعون ألفًا بالنهار، "حتى إذا انشقت عنه الأرض، خرج في سبعين ألفًا من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه وسلم، رواه ابن النجار" الحافظ، الإمام البارع أبو عبد الله، محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي، سمع ابن الجوزي وابن كليب وغيرهما، وكان من أعيان الحفاظ الثقات مع الدين والورع، والصيانة والفهم، وسعة الرواية، له ثلاث آلاف شيخ، ومؤلفات عدة، مات في خامس شعبان، سنة ثلاث وأربعين وستمائة، عن ست وستين سنة، رحل منها في الأقطار سبعًا وعشرين سنة للرواية "في تاريخ المدينة" المسمى بالدرر الثمينة، وكذا رواه أبو الشيخ، وابن المبارك، وابن أبي الدنيا، كلهم عن كعب، وكله من الكتب القديمة، لأنه حبرها.
"وأنه يحشر راكبا البراق" بضم الموحدة، "رواه الحافظ" العلامة، شيخ الإسلام الناقد، الدين، الخير، أبو طاهر عماد الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني، "السلفي" بكسر السين المهملة، وفتح اللام، لقب جده أحمد، ومعناه الغليظ الشفة، وله التصانيف، وروى عنه الحفاظ، مات سنة ست وسبعين وخمسمائة؛ "كما ذكره الطبري" الحافظ محب الدين المكي في ذخائر العقبي، فقال: أخرج السلفي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تبعث
ويكسى في الموقف أعظم الحلل من الجنة. رواه البيهقي بلفظ، فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر.
الأنبياء على الدواب، ويحشر صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة على ناقتي العضباء والقصواء، وأحشر أنا على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة" انتهى. وأخرجه الطبراني والحاكم بلفظ:"تحشر الأنبياء على الدواب ليوافوا المحشر، ويبعث صالح على ناقته، وأبعث على البراق، ويبعث ابناي الحسن والحسين على ناقتين من نوق الجنة، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادي بالأذان محضًا، وبالشهادة حقًا، حتى إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين، فقبلت ممن قبلت، وردت على من ردت"، وفيه مخالفة لما قبله فيما يركبه السبطان إلا أن يجمع بركوب ناقتيه، وبركوب ناقتي الجنة زيادة في تعظيمهما، ثم لا يعارض هذا ما ورد مرسلا، أن المؤمن يركب عمله، والكافر يركبه عمله؛ لأن بعضهم يركب الدواب، وبعضهم الأعمال، أو يركبونها فوق الدواب.
وروى النسائي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر رفعه: "إن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج، فوج طاعمين كاسين راكبين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم" وأخرج الترمذي، وحسنه عن أبي هريرة، مرفوعًا:"يحر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفًا مشاة، وصنفًا ركبانًا، وصنفًا على وجوههم، إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم على حدب وشوك".
هذا، وجزم الحليمي والغزالي، بأن الذين يحشرون ركبانًا يركبون من قبورهم، وقال الإسماعيلي: إنهم يمشون من قبورهم إلى الموقف، ويركبون من ثم جمعًا بينه وبين حديث الصحيحين:"يحشر الناس حفاة مشاة".
قال البيهقي: والأول أولى، وفي تاريخ ابن كثير: يحشر الناس مشاة، والنبي صلى الله عليه وسلم راكب على ناقته الحمراء، فإذا كان هذا من خصائصه، فإنما يؤتون بالنجائب بعد الجواز على الصراط، وهو الأشبه، وفي حديث:"إنهم يؤتون بنجائب يركبونها عند قيامهم من قبورهم" وفي صحته نظر.
"ويكسى في الموقف أعظم الحلل من الجنة" بعد حشر الناس كلهم عراة، أو بعضهم كاسيًا، أو بعد خروجهم من قبورهم بثيابهم التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة لحديث أبي سعيد عند أبي داود، وصححه ابن حبان، مرفوعًا:"إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها""رواه البيهقي" في الأسماء، عن ابن عباس، مرفوعًا "بلفظ":"أول من يكسى إبراهيم حلة من الجنة ويؤتى بكرسي، فيطرح عن يمين العرش، ويؤتى به". "فأكسى حلة من الجنة لا يقوم" أي: لا يصلح "لها البشر" وفي نسخة بالباء بدل اللام، يقال: قام بالأمر إذا
ورواه كعب بن مالك بلفظ: "يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي حلة خضراء"، رواه الطبراني، وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ:"يحشر الناس على تل، وأمتي على تل"، وعند الطبراني أيضًا من حديث ابن عمر: فيرقى هو -يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته على كوم فوق الناس.
استقل به دون غيره، فاستعمله في لازم معناه اللغوي، وذلك اللازم عدم صلاحية غيره لتلك الحلة. وفي البخاري عن ابن عباس، مرفوعًا:"إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا"، ثم قرأ:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الآية، "وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم"
…
الحديث، فعجيب عزو بعض له للبزار، قال الحافظ: قيل في حكمة خصوصية إبراهيم بذلك، لكونه ألقي في النار عريانًا، أو لأنه من لبس السراويل، ولا يلزم من ذلك تفضيله على نبينا لأن المفضول قد يمتاز بشيء يخص به، ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة، ويمكن أن يقال: لا يدخل في عموم خطابه.
وقال القرطبي: قد جبر صلى الله عليه وسلم عن هذا السبق بكونه يكسى حلتين؛ كما في حديث البيهقي، وأجاب الحليمي: بأنه يكسى إبراهيم أولا، ثم نبينا على ظاهر الخبر؛ لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فتجبر بنفاستها ما فات من الأولية؛ على أنه يحتمل أن نبينا صلى الله عليه وسلم خرج من قبره في ثيابه التي مات فيها، والحلة التي يكساها يومئذ حلة الكرامة بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم في الكسوة بالنسبة لبقية الخلق.
"ورواه كعب بن مالك" الأنصاري، السلمي، المدني، أحد الثلاثة الذي تيب عليهم، مرفوعًا. بلفظ:"يحشر الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل" مكان عال، "ويكسوني ربي حلة خضراء" رواه الطبراني، فبين في هذه الرواية لونها، وهو عطف على أكون، والواو لا ترتب، فلا ينافي مقتضى التعقيب بالفاء في السابق، أن الكسورة تكون عقب الخروج من القبر، وفي الترمذي عن أبي هريرة:"أنا أول من ينشق عنه الأرض، فأكسى حلة من حلل الجنة"
…
الحديث، وعلى احتمال أنه يقوم بثيابه التي مات فيها، ولا تبلى حتى يكسى، يكون ذلك له خصوصية أخرى، حيث تبلى ثياب الخلائق وثوبه لا يبلى، ولا ينافيه الفاء لأن التعقيب في كل شيء يحسبه.
"وهو عند ابن أبي شيبة" عن كعب، بلفظ:"يحشر الناس" كلهم "على تل وأمتي" أي: وهو معهم، كما قال قبل "على تل" أعلى من التل الذي عليه الناس.
"وعند الطبراني، أيضًا من حديث ابن عمر: فيرقى هو يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته على كوم" هو التل، بمعنى "فوق الناس" ولم يبين هل الكوم من كافور، أو مسك، أو نحوهما،
وأنه يقوم عن يمين العرش، رواه ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام وفيه: لا يقومه غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون.
ومنها: أنه يعطى المقام المحمود، قال مجاهد: هو جلوسه صلى الله عليه وسلم على العرش، وعن عبد الله بن سلام، جلوسه على الكرسي، ذكرهما البغوي.
"وأنه يقوم عن يمين العرش" خصيصية شرفه الله بها، "رواه ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام" في حديث، "وفيه لا يقومه غيره يغبطه فيه" حال من المفعول، أي: يغبط النبي حالة كونه في ذلك المقام، أو في سببية، أي: يغبطونه بسببه.
وقد ذكر المصنف الحديث فيما يأتي، بلفظ:"يغبطه به"، أو الضمير لموقف الخلائق، فيكون حالا من فاعل يغبط، أي: يغبطه حال كونهم في مقامهم "الأولون والآخرون".
قال الحافظ الغبطة أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، فإن كان في الطاعة فمحمود، ومنه:{فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} الآية؛ وفي المعصية فمذموم، ومنه:"فلا تنافسوا"، وفي الجائز، فمباح، انتهى.
والمراد بالتمني هنا حالة تستدعي محبته واستحسانه لا الطلب لعلمهم أنه لا يكون لغيره، فغبطتهم له استحسانهم لمقامه المخصوص به، وعده مقامًا عظيمًا له، ففيه تجريد، إذ بالغبطة تمني المستحسن، فمجرد عن تمني، وأريد به الجزء الثاني، وهو المستحسن.
وروى الترمذي: وقال: حسن صحيح غريب، عن أبي هريرة، مرفوعًا:"أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري".
"ومنها: أنه يعطى المقام المحمود" قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} الآية، "قال مجاهد" لتابعي، المفسر المشهور، "هو جلوسه على العرش" حملا للمقام على أنه مصدر ميمي، لا اسم مكان.
"وعن عبد الله بن سلام" الصحابي: هو "جلوسه على الكرسي" وهو مغاير لما قبله على الأصح أنه غير العرش ومساوٍ على أنه هو، "ذكرهما البغوي" في تفسيره بعد أن صدر بأن المراد الشفاعة، وساق حديثها الطويل في إتيان الناس آدم
…
إلخ، وهذان التفسيران من جملة ما زيف لأنه تفسير للشيء بخلاف ما فسره به صاحبه، فقد روى البخاري والترمذي عن ابن عمر، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود، فقال:"هو الشفاعة".
وأخرج أبو نعيم والبيهقي، عن أبي هريرة: رفعه: "المقام المحمود الشفاعة" أي: الموعود
وسيأتي ما قيل في ذلك في ذكر تفضيله عليه الصلاة والسلام بالمقام المحمود إن شاء الله تعالى.
ومنها أنه يعطى الشفاعة العظمى في فصل القضاء بين أهل الموقف، حين يفزعون إليه بعد الأنبياء، والشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفي ربع درجات ناس في الجنة.
كما جوز النووي اختصاص هذه والتي قبلها به.
بها في فصل القضاء، ولذا قال الرازي وغيره: الصحيح المشهور أنه الشفاعة، ولابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال، أحد صغار التابعين أنه بلغه أن المقام المحمود يوم القيامة يكون بين يدي الجبار، وبين جبريل، يضبطه بمقامه أهل الجمع، وهو مما زيف أيضًا لكن قال الحافظ: يمكن رده إلى القول بأنه الشفاعة، لأنه لما كان مقامه الذي يقوم فيه أقرب إليه من مقام جبريل، صار صفة للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلائق. وقيل: هو إعطاؤه لواء الحمد، وقيل: ثناؤه على ربه، "وسيأتي ما قيل في ذلك" مبسوطًا "في ذكر تفضيله عليه الصلاة والسلام بالمقام المحمود إن شاء الله تعالى" في المقصد العاشر.
"ومنها: أنه يعطي الشفاعة العظمى في فصل القضاء" بين أهل الموقف حين يفزعون إليه لما يطول عليهم الوقوف بعد إتيانهم الأنبياء: آدم، فنوح، فإبراهيم، فموسى فعيسى، "والشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب" لما في الصحيحين:"فأرفع رأسي، فأقول يا رب أمتي، يا رب أمتي، فيقال: أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة".
وروى هناد، وابن منيع، والديلمي بسند جيد، عن أبي هريرة، رفعه:"سألت الله الشفاعة لأمتي، فقال: لك سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قلت: ب زدني، فحثى لي بيده مرتين عن يمينه وعن شماله"، والظاهر أن المراد التكثير، لا خصوص العدد، وضرب المثل بالحثيات؛ لأنه شأن المعطي الكريم إذا استزيد أن يحثي بكفيه بلا حساب، وربما ناوله بغير كف، وقال بعض: هذا كناية عن المبالغة في الكثرة، وإلا فلا كف ولا حثي.
"وفي رفع درجات ناس في الجنة كما جوز النووي اختصاص هذه" به، ولم يذكر لذلك مستندًا، "والتي قبلها به" وهي إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفيه: أنه لم يجوزها، بل جزم به، وعبارته للنبي صلى الله عليه وسلم: شفاعات خمس الشفاعة العظمى للفصل، وفي جماعة يدخلون الجنة بغير حساب، وفي ناس استحقوا النار فلا يدخلونها، وفي ناس دخلوها فيخرجون منها، وفي رفع درجات ناس في الجنة"، والمختص به الأولى والثانية، وتجوز الثالثة والخامسة. ا. هـ.
وبحث بعض في إثبات الخصوصية، بتجويز النووي بما صرحوا به أن الخصائص لا تثبت
ووردت الأحاديث به في التي قبل، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير، والله المعين.
ومنها: أنه صاحب لواء الحمد، يوم القيامة، آدم فمن دونه تحته. رواه البزار.
ومنها: أنه أول من يقرع باب الجنة. روى مسلم من حديث المختار بن فلفل عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس تبعًا يوم القيامة
باحتمال، "ووردت الأحاديث به في التي قبل" وهي الشفاعة العظمى، "وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير" مع فوائد حسنة، "والله المعين" لا غيره.
"ومنها: أنه صاحب لواء الحمد" بالكسر والمد علمه، ورأيته "يوم القيامة" وأضيف إلى الحمد الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأنه منصبه في الموقف، وهو المقام المحمود المختص به، والعرف جار؛ بأن اللواء إنما يكون مع كبير القوم ليعرف مكانه، إذ موضوعه أصالة شهرة مكان الرئيس، وتنصب في القيامة مقامات لأهل الخير والشر، لكل متبوع لواء يعرف به قدره، وأعلاها مقام الحمد، فأعطي لأعظم الخلائق لواء الحمد، وفي أنه حقيقي وعند الله علم حقيقته، أو معنوي، وهو انفراده بالحمد يومئذ، وشهرته على رءوس الخلائق، به رأيان رجح بعض الأول، وهو الأصل "آدم فمن دونه" أي: سواه "تحته، رواه البزار" وأخرجه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، عن أبي سعيد، مرفوعًا:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي". الحديث.
"ومنها: أنه أول من يقرع" يطرق وينقر "باب اجنة" كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يدق باب الجنة، فلم تسمع الآذان أحسن من طنين الخلق على تلك المصاريع" رواه ابن النجار، وجمع المصاريع باعتبار الأبواب، فإنه إذا قرع أعظمها، تحرك الجميع، أو لتعدد القرع، كأنه تعددت المصاريع، أو إن في كل مصراع مصاريع اعتبارية.
"روى مسلم" في الإيمان "من حديث المختار بن فلفل" بضم الفاءين، ولامين، الأولى ساكنة مولى عمرو بن حريث، صدوق له أوهام، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي ومسلم، "عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس" الذي رأيته في مسلم، وكذا نقله جمع من الحفاظ عنه الأنبياء "تبعًا" بفتح الفوقية، والباء الموحدة: جمع تابع، وفي القاموس وغيره: التبع محركة، يكون واحد أو جمعًا، ويجمع على أتباع ونصب على التمييز "يوم القيامة" خصه لأنه يوم ظهور ذلك الجمع، وهذا يوضحه خبر مسلم أيضًا: "إن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة
وأنا أول من يقرع باب الجنة". وعنده أيضًا عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن، بك أمرت
ما معه مصدق غير واحد"، ولا يعارضه: "وأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا" إما لأن رجاءه محقق الوقوع، أو قاله قبل أن يكشف له عن أمته ويراهم، ثم حقق الله رجاءه، فجزم به، "وأنا أول من يقرع باب الجنة" أي يطرقه للاستفتاح، فيكون أول داخل.
"وعنده": أي: مسلم "أيضًا" في كتاب الإيمان من حديث ثابت عن أنس، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة" أي أجيء بعد الانصراف من الحشر والحساب إلى أعظم المنافذ التي توصل إلى دار الثواب، وهو باب الرحمة، أو باب التوبة، كما في النوادر، وعبر بآتي دون أجيء للإشارة إلى أن مجيئه يكون بصفة من لبس خلعة الرضوان، فجاء على تمهل وأمان من غير نصف في الإتيان؛ إذ الإتيان، كما قال الراغب مجيء بسهولة، والمجيء أعم، ففي إيثاره عليه مزية "يوم القيامة فأستفتح" بسين الطلب، عبر بها إيماء إلى القطع بوقوع مدخولها وتحققه، أي: أطلب فتحه بالقرع؛ كما في الأحاديث، لا بالصوت.
وفي رواية أحمد: "آخذ بحلقة الباب"، والفاء للتعقيب إشارة إلى أنه قد أذن له من ربه غير واسطة خازن ولا غيره، وذلك أن من ورد باب كبير، وقف عادة حتى يستأذن له، فالتعقيب إشارة إلى أن ربه صانه عن ذل الوقوف، وأذن له في الدخول ابتداء، بحيث صار الخازن مأموره، منتظرًا قدومه، "فيقول الخازن": أي: الحافظ: وهو المؤتمن على ما استحفظه، وأل عهدية والمعهود رضوان، وخص مع كثرة الخزنة؛ لأنه أعظمهم، ومقدمهم، وعظيم الرسل إنما يتلقاه عظيم الخزينة، "بك أمرت" كذا في جميع ما رأيناه من نسخ المصنف، وفيه سقط منه أو من نساخه، فلفظ رواية مسلم:"فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت". وقد ساقه المصنف في المقصد الأخير تامًا، وإنما أجابه بالاستفهام، وأكده بالخطاب تلذذًًا بمناجاته، وإلا، فأبواب الجنة شفافة؛ كما في خبر، وهو العلم الذي لا يشتبه، والتمييز الذي لا يلتبس، وقد رآه رضوان الجنة قبل ذلك، وعرفه أتم معرفة، ولذا اكتفى بقوله:"فأقول محمد"، وإن كان المسمى به كثيرًا، ولا ينافي كون أبوبا الجنة شفافة.
خبر أبي يعلى عن أنس، رفعه:"أقرع باب الجنة فيفتح لي باب من ذهب وحلقه من فضة" لأن ما في الدنيا لا يشبه ما في الجنة إلا في مجرد الاسم، كما في حديث: فلا مانع من كونه ذهبًا شفافًا، ولم يقل أن لإبهامه، مع إشعاره بتعظيم النفس، وهو سيد المتواضعين، وهذه الكلمة جارية على ألسنة المتجبرين إذا ذكروا مفاخرهم وزهوا بأنفسهم.
وقال ابن الجوزي: أنا لا تخلو عن نوع تكبر؛ كأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى ذكر اسمي ولا نسبي، لسمو مقامي.
أنا لا أفتح لأحد قبلك".
وقال بعض المحققين: ذهبت طائفة من العلماء وفرقة من الصوفية إلى كراهية إخبار الرجل عن نفسه؛ بأنا تمسكًا بظاهر الحديث، حتى قالوا: إنها كلمة لم تزل مشئومة على قائلها؛ كقول إبليس: أنا خير، وفرعون: أنا ربكم، وليس كما قرروا، بل الشؤم لما صحبه من الخير والربوبية، وأصابه الصوفية في دقائق العلوم والإشارات في التبري من الدعاوي الوجودية، لكن الذي أشاروا إليه بهذا راجع إلى معان تتعلق بأحوالهم دون القول كيف، وقد ناقضهم نصوص كثيرة:"إنما أنا بشر، أنا أول المسلمين، وما أنا من المتكلفين، أنا سيد ولد آدم، أنا أكثر الأنبياء تبعًا"، وغير ذلك.
وقد قال النووي: لا بأس أن يقول أن الشيخ فلان، أو القاضي فلان إذا لم يحصل التمييز إلا به، وخلا عن الخيلاء والكبر، والباء في قوله:"بك" متعلقة بالفعل بعدها، وهي سببية، أي: بسببك أمرت بالبناء للمفعول والفاعل الله، "أن لا أفتح" كذا في نسخ، وفي أخرى بدون أن، وهي التي وقفت عليها في مسلم.
وذكره السيوطي في جامعيه بأن وتعقبه شارحه بأن، الذي في نسخ مسلم الصحيحة المقروءة بلا أن "لأحد قبلك" لا من الأنبياء ولا من غيرهم، إذ أحد من سياق النفي للعموم، فيفيد استغراق جميع الأفراد، وعلم منه أطلب الفتح إنما هو من الخازن، وإلا لما كان هو المجيب، فإن قيل: لم طلب الفتح من الخازن، ولم يطلبه منها بلا واسطة، فإنه ورد عن الحسن، وقتادة وغيرهما: أن أبوابها يرى ظاهرها من باطنها وعكسه، وأنها تتكلم وتكلم وتعقل ما يقال لها انفتحي انغلقي، أجيب: بأن الظاهر أنها مأمورة بعد الاستقلال بالفتح والغلق، وأنها لا تستطيع ذلك إلا بأمر عريفها، المالك لأمرها بإذن ربها، وإنما يطالب بما يراد من القوم عرفاؤهم، وحكمة اتخاذ الخزنة للجنة، مع أن الخزنة عرفًا إنما تكون لما يخاف ضياعه، أو تلفه أو نقصه، فيفوت كله، أو بعضه، أو وصفه على صاحبه، ولا يمكن ذلك في الجنة، هي أن الغرض من تعيين الخزنة لها إنما هو مراعاة الداخلين إكرامًا لهم، فتقدم الخزنة لكل منهم ما أعد له من النعيم، ثم لا تعارض بين الحديث وبين قوله تعالى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} ، {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الآية، ووجهه الرازي وغيره، بأنه يوجب السرور والفرح حيث نظروها مفتحة من بعد وفيه الخلاص من ذل الوقوف للاستفتاح لأن أبوابها تفتح أولا بعد الاستفتاح من جمع، ويكون مقدمًا بالنسبة إلى البعض، كما يقتضيه خبر:"إن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام"، والظاهر أنها لا تغلق بعد فتحها للفقراء، وأجيب، أيضًا بخمسة أجوبة غير هذا، نوقش فيها، وهذا أحسنها كما قال: مض المحققين.
ورواه الطبراني بزيادة فيه، قال:"فيقوم الخازن فيقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم لأحد بعدك"، وهذه خصوصية أخرى له صلى الله عليه وسلم وهي: أن خازن الجنة لا يقوم لأحد غيره صلى الله عليه وسلم، فقيامه له صلى الله عليه وسلم فيه إظهار لمزيته ومرتبته، ولا يقوم لأحد بعده، بل خزنة الجنة يقوم لخدمته وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله حتى مشى وفتح له الباب.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: "أنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين
"ورواه الطبراني بزيادة فيه، قال: "فيقوم الخازن فيقول: لا أفتح لأحد قبلك" كما أمرت، "ولا أقوم لأحد بعدك"، وهذه خصوصية أخرى له صلى الله عليه وسلم، وهي أن خازن الجنة لا يقوم لأحد غيره صلى الله عليه وسلم، فقيامه له فيه إظهار لمزيته ومرتبته، ولا يقوم لأحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون لخدمته" أي: رضوان، "وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله حتى مشى وفتح له الباب" زيادة في إكرامه.
"ومنها: أنه أول من يدخل الجنة" كما في مسلم وغيره، واستشكل بإدريس حيث أدخل الجنة بعد موته وهو فيها كما ورد، بأن السبعين ألفًا الداخلين بغير حساب يدخلون قبله، وبحديث أحمد في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم بلال سبقه في دخولها، وخبر أبي يعلى وغيره:"أول من يفتح له باب الجنة أنا، إلا أن امرأة تبادرني، فأقول: ما لك؟ أو من أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى".
وخبر البيهقي: "أول من يقرع باب الجنة عبد أدى حق الله وحق مواليه" وأجيب بأن دخوله صلى الله عليه وسلم يتعدد، فالدخول الأول لا يتقدمه، ولا يشاركه فيه أحد، ويتخلل بينه وبين ما بعده دخول غيره.
وقد روى ابن منده في حديث، أنه كرر الدخول أربع مرات ونحوه في البخاري. وأما إدريس فلا يرد، لأن المراد الدخول التام يوم القيامة، وإدريس يحضر الموقف للسؤال عن التبليغ، وثم أجوبة أخرى هذا أظهرها، وسيكون لنا إن شاء الله تعالى عودة لمزيد الكلام على ذلك في المقصد الأخير.
قال عليه الصلاة والسلام: "وأنا أول من يحرك حلق الجنة" بفتح اللام جمع حلقة، بسكونها على غير قياس، وقيل: فتحها لغة، فالجمع قياسي، ولأحمد والترمذي، عن أنس مرفوعًا:"أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة، فأقعقعها". "فيفتح الله لي" لا يخالف ما مر أن الفاتح رضوان لأن الفاتح الحقيقي هو الله تعالى، وتولى رضوان ذلك، إنما هو بأمره وإقداره وتمكينه، "فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين" أي: يدخلون عقبه بسرعة، فكأنهم دخلوا معه.
ولا فخر". رواه الترمذي.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم الكوثر، نهر في الجنة يسيل في حوضه مجراه على الدر والياقوت، ماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج.
وروى أبو داود عن أبي هريرة، مرفوعًا:"إن أبا بكر أول من يدخل الجنة"، وأخرج أبو نعيم عن أبي هريرة، رفعه:"أنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، وأول من يدخل علي الجنة ابنتي فاطمة"، أي: من النساء، "وأبو بكر من الرجال" فلا خلف.
وروى ابن ماجه، وصححه الحاكم عن أبي، مرفوعًا:"أول من يصافحه الحق عمر، وأول من يسلم عليه، وأول من يأخذ بيده فيدخله الجنة". "ولا فخر" أي: لا أفتخر بذلك، بل بمن أعطانيه، أو أقول ذلك شكرًا لا فخرًا، وهو ادعاء العظمة والمباهاة، "رواه الترمذي" عن ابن عباس في حديث، ساقه المصنف بتمامه في المقصد العاشر.
"ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم الكوثر" كما قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الآية، ونقل المفسرون فيه أقوالا تزيد على عشرة، وأولاها قول ابن عباس: إنه الخير الكثير لعمومه لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظه صلى الله عليه وسلم، فلا معدل عنه.
روى مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قرأ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لآية، ثم قال:"أتدرون ما الكوثر"؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:"إنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة" آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك".
ولأحمد أن رجلا قال: يا رسول الله! ما الكوثر؟ قال: "نهر في الجنة أعطانيه ربي، لهو أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل". ولذا اقتصر المصنف هنا على قوله: "نهر في الجنة يسيل في حوضه" كما في حديث البخاري، ولأحمد: ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض "مجراه على الدر" اللؤلؤ الكبار، "والياقوت" وعند النسائي: ترابه النسك وحصاه اللؤلؤ والياقوت، "وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج" لعله سقط منه من اللبن، وأبرد من الثلج، فعند الحاكم من حديث أبي برزة:"ماؤه أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، أوانيه من فضة".
ولابن مردويه من حديث ابن عباس: "حافتاه الزبرجد" وفي حديث ثوبان: "لا يظمأ من شرب منه" رواه ابن ماجه فالمختص به صلى الله عليه وسلم الكوثر الذي يصب من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، وأن حوضه أكبر الحياض، وأكثر واردًا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن لكل نبي حوضا، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة" رواه الترمذي، وفي أثر أن