الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المؤلف رحمه الله:
21 -
ومَا يَخالفْ ثقَةٌ فيه الَملأ
…
ف
الشاذُّ والَمقْلُوبُ
قسْمَان تَلا
وهذان هما الحادي والعشرون والثاني والعشرون من أقسام الحديث المذكورة في هذه المنظومة وهما: الشاذ، والمقلوب.
فالشاذ مأخوذ من الشذوذ، وهو الخروج عن القاعدة أو الخروج عن ما عليه الناس، وفي الحديث:"عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار" 1 يعني من خرج عنهم، فالشاذُّ هو الذي يخالف فيه الثقة الملأ "أي الجماعة"، ومعلوم أن الجماعة أقرب إلى الصواب من الواحد وأرجح، ولهذا يمكن أن نقول: إن المؤلف رحمه الله قال: "ما يخالف ثقة فيه الملأ" على سبيل المثال، وأن المراد بالقاعدة أن الشاذ هو: ما خالف فيه الثقة من هو أرجح منه عدداً، أو عدالة، أو ضبطاً.
والمؤلف ذكر القسم الأول وهو: العدد لأن الملأ جماعة، وقد يقال: إن الملأ هم أشراف القوم كما قال الله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [الأعراف: 88] . ومعلوم أن الأشراف في علم الحديث هم الحفاظ العدول، فيكون كلامه شاملاً من هو أرجح عدداً، أو عدالة، أو حفظاً.
مثال العدد: روى جماعة عن شيخهم حديثاً، ثم انفرد أحدهم برواية تخالف الجماعة وهو ثقة.
فنقول: إن هذه الرواية شاذة، لأنه خالف من هو أرجح منه، باعتبار العدد.
1 أخرجه الحاكم في المستدرك جـ 1 ص 199.
ومثال الأرجح عدالة أو حفظاً معلوم.
نقول: الأول هو الراجح، والثاني هو الشاذ وهو حديث المرجوح.
ونُسمِّي الحديث الذي يقابل الشاذ بالمحفوظ.
ومثاله: حديث وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ، فأخذ لرأسه ماءً غير فضل يديه1، أي لما أراد أن يمسح رأسه، أخذ ماءً فمسحه بماء غير فضل يديه، هكذا جاء في صحيح مسلم، وفي رواية ابن ماجة "أنه مسح أذنيه بماء غير فضل رأسه"2 فاختلفت الروايتان، فرواية مسلم أنه أخذ ماء جديداً لمسح الرأس غير ماء اليدين.
والثانية: أنه أخذ ماء جديداً لمسح الأذنين، غير ما مسح الرأس، قال ابن حجر في بلوغ المرام عن الأول إنه المحفوظ3، يعني أن رواية مسلم هي المحفوظة، ورواية ابن ماجه تكون شاذة.
ولا يحكم بالمخالفة بمجرد ما ينقدح في ذهنه أنه مخالف، بل يجب أن يتأمل ويفكر وينظر ويحاول الجمع، لأنك إذا حكمت بالمخالفة، ثم قلت عن الثاني إنه شاذ فمعناه أنه غير مقبول، لأن من شرط الصحيح المقبول ألا يكون معللاً ولا شاذًّا، فإذا كان شاذًّا فإننا سنرده، فلا يجوز أن نرد الحديث المخالف بمجرد ما ينقدح في الذهن، فلابد من التأمل فإنه ربما يبدو مخالفاً، ولكن عند التأمل لا يكون مخالفاً فمثلاً: حديث "اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته" 4، "إنك لا تخلف
1 رواه مسلم كتاب الطهارة باب صفة الوضوء برقم 19 – 236.
2 لم أجده في أبواب الطهارة من سنن ابن ماجة وهو عند البيهقي 1/303 حديث رقم: 719.
3 بلوغ المرام حديث رقم 48 والمذكور فيه أخرجه البهقي.
4 رواه البخاري كتاب الأذان باب الدعاء عند النداء 614.
الميعاد" 1 بعض الناس قال إن زيادة "إنك لا تخلف الميعاد" شاذة، لأن أكثر الرواة رووه بدون هذه الزيادة، فتكون رواية من انفرد بها شاذة، لأنها مخالفة للثقات، وإن كان الراوي ثقة.
لكنه يمكن أن نقول: لا مخالفة هنا، لأن هذه الزيادة لا تنافي ما سبق، بحيث أنها لا تكذبه ولا تخصصه، وإنما تطبعه بطابع هو من دعاء المؤمنين كما قال الله عنهم {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194] . وهنا تقول: وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، نظير قول الله تعالى:{وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} فحينئذ يحتاج إلى أن نتثبت في مسألة الزيادة هل هي مخالفة أو غير مخالفة، أي أننا لا نتسرع بالقول بالمخالفة. لأن المخالفة تعني أنه لا يمكن الجمع، أما إذا أمكن الجمع فلا مخالفة.
وهل يشترط في الشذوذ أن يكون في حديث واحد بمعنى أن يكون هذا الحديث رواه جماعة على وجه، ورواه فرد على وجهٍ يخالف الجماعة أو لا يشترط.
نقول: لا يشترط، يمكن أن يكون في حديث، وفي حديثين، هذا هو الذي يظهر لنا من تصرفات العلماء.
مثال ذلك: ما أخرج أصحاب السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" 2 وهذا الحديث صححه بعض العلماء، وقال: إنه يُكره الصيام تطوعاً إذا
1 البيهقي جـ 1 ص 410 وصححها شيخنا – رحمه الله غفر له – في مجموع الفتاوى جـ 2 ص 199.
2 تقدم تخريجه ص 29.
انتصف شعبان، إلا من كانت له عادةٌ فلا كراهة، وقال الإمام أحمد: لا يكره؛ لأن هذا الحديث شاذ، لأنه يخالف حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في الصحيحين وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه"1 وذلك لأن الحديث الثاني يدل على جواز الصيام قبل اليومين وهو أرجح من الأول.
إذاً نفهم من هذا أن الشذوذ ليس شرطاً أن يكون في حديث واحد.
مثال آخر: ما أخرجه أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" 2 فهذا الحديث يخالف الحديث الذي في الصحيحين وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قالت له إحدى نسائه إنها صائمة هذا اليوم وكان يوم الجمعة، فقال لها:"أصمت أمس"؟ قالت: لا، قال:"أتصومين غداً؟ "، قالت: لا، قال:"فأفطري" 3 فقوله: "أتصومين غداً؟ " وهو يوم السبت، يدل على جواز صيام يوم السبت، لذلك اختلف العلماء في صحة حديث النهي عن صيام يوم السبت على أقوال:
1 -
فمنهم من قال: إن الحديث منسوخ، وهذا القول ضعيف، لأن من شرط الحكم بالنسخ العلم بالتاريخ، وهنا لا نعلم التاريخ.
2 -
ومنهم من قال: بل الحديث شاذ؛ لأنه يخالف الحديث الذي في الصحيحين الذي يدل على جواز صيام يوم السبت.
3 -
ومنهم من حمله على وجه لا يخالف الحديث الذي في
1 تقدم تخريجه ص 29.
2 تقدم تخريجه ص 29.
3 تقدم تخريجه ص 30.
الصحيحين، وذلك بأن يُحمل النهي على إفراد يوم السبت بالصيام، وأما إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلا بأس، وهذا الأخير جمع بين الحديثين، وإذا أمكن الجمع فلا شذوذ، لأن من شرط الشذوذ المخالفة وهنا لا مخالفة، فقالوا: حديث النهي عن صوم يوم السبت، محمولٌ على الإفراد، أما إذا جمع إليه ما قبله أو ما بعده فلا بأس حينئذ.
مثال ثالث: وردت أحاديث متعددة - لكن ليست في البخاري ومسلم - في النهي عن لبس الذهب المحلَّق مثل الخاتم والسوار ونحوه1، ووردت أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما تدل على جواز لبس الذهب المحلق، مثل ما في حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء أن يتصدقن، فجعلن يلقين خواتيمهن، وخروصهن في ثوب بلال رضي الله عنه -2 ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل الذي عليه خاتم الذهب أخذه ورمى به، وقال:"يعمدُ أحدكم إلى جمرة من النار فيلقيها في يده"3.
فمن العلماء من قال: إن النهي عن الذهب المحلق حجة يُعمل بها.
1 مسند الإمام أحمد جـ 1 ص 119 – 138 وسنن النسائي جـ 8 ص 545 كتاب الزينة باب خاتم الذهب.
2 أخرجه البخاري كتاب العيدين باب موعظة النساء يوم العيد برقم 978.
3 أخرجه مسلم كتاب اللباس باب تحريم خاتم الذهب على الرجال برقم 52 – 2090.
ومنهم من قال: إن النهي عن لبس الذهب المحلق شاذٌّ لا يعمل به، لأنه يخالف ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من جواز لبس الذهب المحلّق، وهذا هو الذي سلكه شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
ومنهم من قال: إن الأحاديث الواردة في النهي في أول الأمر حين كان الناس في ضيق وفي شدة ثم بعد ذلك رُخِّص فيه.
وإنما ضربت هذه الأمثلة الثلاثة للإشارة إلى أن الشذوذ لا يشترط أن يكون في حديث واحد، بل قد يكون في واحد، أو في اثنين، أو أكثر.
إذاً عرفنا ما هو الشاذ، وما هو الذي يقابله، وهناك مخالفة أخرى لم يذكرها المؤلف وهي: إذا كان المخالف غير ثقة فإن حديثه يسمى منكراً.
والمنكر هو: ما خالف فيه الضعيف الثقة، وهو أسوأ من الشاذ، لأن المنكر المخالفة مع الضعف، والشاذ المخالفة فيه مع الثقة.
ويقابل المنكر المعروف، إذاً فهي أربعة أقسام:
1 -
المحفوظ.
2 -
الشاذ.
3 -
المنكر.
4 -
المعروف.
فالشاذ هو: ما رواه الثقة مخالفاً لمن هو أرجح منه.
والمنكر هو: ما رواه الضعيف مخالفاً للثقة.
والمحفوظ هو: ما رواه الأرجح مخالفاً لثقة دونه، وهو مقابل للشاذ.
والمعروف هو: ما رواه الثقة مخالفاً للضعيف.
وقوله: "والمقلوبُ قسمان تلا" هذا تكملة للبيت يعني تلا في الذكر الشاذُّ، لكن هي ليس لها معنى، وإنما هي تكملة للبيت فقط، والمقلوب ينقسم إلى قسمين ذكرها في البيت الذي بعده.