الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المضطرب وبيانه
…
قال المؤلف رحمه الله:
25 -
وذُو اخْتلافِ سَنَدٍ أو مَتْنٍ
…
مُضطَرِبٌ عِنْدَ أُهَيْلِ الفَنِّ
وهذا هو الخامس والعشرون من أقسام الحديث المذكورة في هذا النظم وهو المضطرب.
والاضطراب معناه في اللغة: الاختلاف.
والمضطرب في الاصطلاح: هو الذي اختلف الرواة في سنده، أو متنه، على وجه لا يمكن فيه الجمع ولا الترجيح.
فالاختلاف في السند مثل: أن يرويه بعضهم متصلاً، وبعضهم يرويه منقطعاً.
والاختلاف في المتن مثل: أن يرويه بعضهم على أنه مرفوع، وبعضهم على أنه موقوف، أو يرويه على وجه يخالف الاخر بدون ترجيح، ولا جمع.
فإن أمكن الجمع فلا اضطراب.
وإن أمكن الترجيح أخذنا بالراجح ولا اضطراب.
وإذا كان الاختلاف لا يعود لأصل المعنى فلا اضطراب أيضاً.
مثال الذي يمكن فيه الجمع: حديث حج النبي صلى الله عليه وسلم، فإن حج النبي صلى الله عليه وسلم، اختلف فيه الرواة على وجوه متعددة.
فمنهم من قال: إنه حجَّ قارناً.
ومنهم من قال: إنه حجَّ مفرداً.
ومنهم من قال: إنه حجَّ متمتعاً.
ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهلَّ بحج، ومنَّا من أهل بعمرة، ومنَّا من أهلَّ بحج وعمرة، وأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم
بالحج1.
وفي حديث ابن عمر وغيره رضي الله عنهم أنه حجَّ متمتعاً2، وفي بعض الأحاديث أنه حج قارناً3.
فهذا الاختلاف إذا نظرنا إليه قلنا في بادىء الأمر: إن الحديث مضطرب، وإذا حكمنا بالاضطراب، بقيت حجة النبي صلى الله عليه وسلم مشكلة، فلا ندري هل حج مفرداً، أم متمتعاً، أم قارناً؟
وعند التأمل: نرى أن الجمع ممكن يندفع به الاضطراب.
وللجمع بين هذه الروايات وجهان:
1 -
الوجه الأول: أن من روى أنه أهلَّ بالحج مفرداً، أراد إفراد الأعمال، يعني أنه لم يزد على عمل المفرد.
* وعمل المفرد هو: أنه إذا وصل إلى مكة طاف طواف القدوم، ثم سعى للحج، وإذا كان يوم العيد طاف طواف الإفاضة فقط ولم يسع، وإذا أراد أن يخرج طاف طواف الوداع وخرج.
* ومن روى أنه متمتع: أراد أنه جمع بين العمرة والحج في سفر واحد، فتمتع بسقوط أحد السفرين.
* ومن روى أنه قرن بين الحج والعمرة فهذا هو الواقع.
قال الإمام أحمد: لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، والمتعة أحب
1 رواه البخاري كتاب الحج باب التمتع والقران والإفراد 1562 ومسلم كتاب الحج باب وجوه الحج 118 – 1211.
2 البخاري كتاب الحج باب من ساق البدن معه 1691 ومسلم كتاب الحج باب وجوب الدم على المتمتع 174 – 1227.
3 أخرجه البخاري كتاب الحج باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العقيق واد مبارك" 1534 ومسلم كتاب الحج باب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه 214 – 1251.
إلّي.
2 -
الوجه الثاني: أنه أحرم أولاً بالحج ثم أدخل العمرة عليه، فصار مفرداً باعتبار أول إحرامه، وقارناً باعتبار ثاني الحال، ولكن هذا لا يصح على أصول مذهب الإمام أحمد، لأن من أصوله أنه لا يصح إدخال العمرة على الحج، وإنما الذي يصح هو العكس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مقرراً الوجه الأول: من روى أنه مفرد، فقد أراد أعمال الحج.
ومن قال إنه متمتع: فقد أراد أنه أتى بعمرة وحج في سفر واحد، فتمتع بسقوط أحد السفرين عنه، لأنه لولا أنه أتى بالعمرة والحج، لكان قد أتى بعمرة في سفر، وبالحج في سفر آخر، فيكون تمتعه بكونه أسقط أحد السفرين، لأنه سافر سفراً واحداً، وقرن بين العمرة والحج فتمتع بذلك.
وأما من قال: إنه كان قارناً فهذا هو الواقع، أي أنه كان قارناً، لأننا لا نشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحل من العمرة، بل بقي على إحرامه لكونه قد ساق الهدي. اه-.
ثم نرجع إلى الحج فنقول: الآنساك ثلاثة:
1 -
الإفراد.
2 -
التمتع.
3 -
القِران.
1 -
فالإفراد هو: أن يحرم الإنسان بالحج وحده من الميقات، ويقول: لبيك اللهم حجًّا، ثم إذا وصل إلى مكة فإنه يطوف طواف القدوم، ويسعى للحج، ويبقى على إحرامه إلى أن يتم الحج، وفي يوم العيد يطوف طواف الإفاضة، وعند السفر يطوف طواف الوداع.
2 -
والقران هو: أن يحرم بالعمرة والحج معاً من الميقات، ويقول: لبيك اللهم عمرة وحجًّا، فإذا وصل إلى مكة طاف طواف القدوم وسعى للعمرة والحج، ثم يبقى على إحرامه، ويوم العيد يطوف طواف الإفاضة، وعند السفر يطوف طواف الوداع. ففعله كفعل المفرد لكن تختلف النية.
3 -
أما التمتع فهو أن يحرم من الميقات بالعمرة، ثم إذا وصل إلى مكة، يطوف ويسعى ويقصِّر، لأنها عمرة، ثم يحل من إحرامه ويلبس ثيابه ويتحلَّل تحللاً كاملاً، ثم في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة يحرم بالحج، وفي يوم العيد يطوف طواف الإفاضة ويسعى للحج، وعند السفر يطوف للوداع.
* وإذا لم يمكن الجمع بين الروايات، عملنا بالترجيح فنأخذ بالراجح، ويندفع الاضطراب.
مثاله: حديث بريرة رضي الله عنها حين أعتقتها عائشة رضي الله عنها، ثم خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تبقى مع زوجها، أو أن تفسخ نكاحها منه1.
ففي بعض روايات الحديث أن زوجها - وهو مغيث - كان حرًّا.
وفي بعض الروايات أنه كان عبداً.
إذاً في الحديث اختلاف والحديث واحد، والجمع غير ممكن فنعمل بالترجيح.
والراجح: أنه كان عبداً، فإذا كان هو الراجح، إذاً نلغي المرجوح، ونأخذ بالراجح، ويكون الراجح هذا سالماً من الاضطراب،
1 رواه البخاري كتاب العتق باب بيع الولاء ومسلم كتاب العتق باب النهي عن بيع الولاء.
لأنه راجح.
* وإذا لم يكن الاختلاف في أصل المعنى، فلا اضطراب، بأن يكون أمراً جانبيًّا.
مثل: اختلاف الرواة في ثمن جمل جابر رضي الله عنه -1 واختلاف الرواة في حديث فضالة بن عبيد في ثمن القلادة التي فيها ذهب وخرز، هل اشتراها باثني عشر ديناراً، أو بأكثر من ذلك أو بأقل2.
فنقول: هذا الاختلاف لا يضر، لأنه لا يعود إلى أصل المعنى، وهو بيع الذهب بالذهب، لأنهم كلهم متفقون على أنها قلادة فيها ذهب وخرز، وكانت قد بيعت بدنانير، ولكن كم عدد هذه الدنانير؟
قد اختلف فيها الرواة، ولكن هذا الاختلاف لا يضر.
وكذلك حديث جابر رضي الله عنه فقد اتفق الرواة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشتراه، وأن جابراً اشترط أن يركبه إلى الميدنة، ولكن اختلفوا في مقدار الثمن، فنقول: إن هذا الاختلاف لا يضر، لأنه لا يعود إلى أصل المعنى الذي سيق من أجله الحديث.
وحكم الحديث المضطرب هو: الضعف، لأن اضطراب الرواة فيه على هذا الوجه يدل على أنهم لم يضبطوه، ومعلوم أن الحديث إذا لم يكن مضبوطاً، فهو من قسم الضعيف.
وقوله "مضطربٌ عند أُهيل الفن".
قد يقول قائل: لماذا صغر كلمة "أهل" وهل ينبغي أن يصغر أهل العلم؟
1 تقدم تخريجه ص 33.
2 تقدم تخريجه ص 32.
فنقول: إن المؤلف اضطرَّه النظم إلى التصغير، ولهذا يُعتبر التصغير من تمام البيت فقط، وإلا كان عليه أن يقول: عند أهل الفن.
فإذا قال قائل: الفنُّ عندنا غير محمودٍ عُرفاً؟
فنقول: إن المراد بالفن عند العلماء، هو الصنف.
قال الشاعر:
تمنيتَ أن تمسي فقيهاً مناظراً
…
بغير عناء والجنون فنون
يعني أن الذي يتمنى أن يُمسي فقيهاً مناظراً بغير تعب فإنه مجنون، والجنون أصناف من جملتها أن يقول القائل: أريد أن أكون فقيهاً مناظراً، وأنا نائم على الفراش.