المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تشكيكه في أحقية أبي بكر بالخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرد عليه: - الانتصار للصحابة الأخيار في رد أباطيل حسن المالكي

[عبد المحسن العباد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة

- ‌زعمه قَصْر الهجرة على المهاجرين قبل الحُديبية، وقَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، والرد عليه:

- ‌استدلالُه بآية {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} والرد عليه:

- ‌استدلالُه بآية: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} ، والرد عليه:

- ‌استدلالُه بآيات سورة الحشر والرد عليه:

- ‌استدلاله بآية سورة الحديد والرد عليه:

- ‌استدلاله بآية سورة الأنفال والرد عليه:

- ‌استدلاله بآية سورة الفتح والرد عليه:

- ‌استدلالُه بحديث: ((المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض)) والرد عليه:

- ‌استدلالُه بحديث: ((الناسُ حيِّز وأنا وأصحابي حيِّز)) والرد عليه:

- ‌تشكيكه في أفضلية أبي بكر رضي الله عنه على غيرِه والرد عليه:

- ‌تشكيكه في أَحقِّية أبي بكر بالخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرد عليه:

- ‌زعمه أنَّ العبَّاس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ليسَا من الصحابة والرد عليه:

- ‌زعمه أنَّ خالد بن الوليد رضي الله عنه ليسَ من الصحابة والرد عليه:

- ‌زعمه أنَّ معاويةَ رضي الله عنه ليسَ من الصحابة والرد عليه:

- ‌زعمه أنَّ عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما ليسَا من الصحابة والرد عليه:

- ‌زعمه أنَّ صُحبةَ الكثيرين من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لغوية لا شرعية والرد عليه:

- ‌فهمه الخاطئ للصُّحبة الشرعيَّة والرد عليه:

- ‌زعمه أنَّ الإجماعَ لا بدَّ فيه من اتِّفاق أمَّة الإجابة بفِرَقِها المختلفة والرد عليه:

- ‌إنكاره القول بعدالة الصحابة والرد عليه:

- ‌آثارٌ في توقير الصحابة وبيان خطرِ النَّيل من أحدٍ منهم:

- ‌الإمام أحمد بن حنبل (241هـ) رحمه الله:

- ‌الإمام أبوجعفر الطحاوي (322هـ) رحمه الله:

- ‌الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (327هـ) رحمه الله:

- ‌الإمام ابن ابن أبي زيد القيرواني (386هـ) رحمه الله:

- ‌الإمام أبوعثمان الصابوني (449هـ) رحمه الله:

- ‌الإمام أبو المظفَّر السمعاني (489هـ) رحمه الله:

- ‌الحافظ ابن كثير (774هـ) رحمه الله:

- ‌الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) رحمه الله:

- ‌الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري (893هـ) رحمه الله:

- ‌آياتٌ وأحاديث في حفظ اللسان من الكلام إلَاّ في خير:

الفصل: ‌تشكيكه في أحقية أبي بكر بالخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرد عليه:

وفي ترجمة عبد الرزاق بن همام في تهذيب الكمال للمزي قال أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري: سمعتُ عبد الرزاق يقول: ((أفضِّل الشيخين بتفضيل عليٍّ إيَّاهما على نفسه، ولو لَم يُفضِّلهما ما فضَّلتُهما، كفى بي إزراءً أن أحبَّ عليًّا ثمَّ أخالف قولَه)) .

وفي زوائد فضائل الصحابة (126) عن عبد الله بن أحمد: قثنا سلمة ابن شَبيب أبو عبد الرحمن النيسابوري، قال: سمعتُ عبد الرزاق يقول:

((والله! ما انشرح صدري قطُّ أن أُفضِّل عليًّا على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على عثمان، ورحمة الله على عليٍّ، ومَن لَم يحبَّهم فما هو بمؤمن، وإنَّ أوثقَ أعمالِنا حبُّنا إيَّاهم أجمعين، رضي الله عنهم أجمعين، ولا جعل لأحد منهم في أعناقنا تَبِعة، وحَشَرنا في زُمْرَتهم ومعهم، آمين رب العالمين!)) ، وسلمة بن شبيب ثقة من رجال مسلم.

* * *

‌تشكيكه في أَحقِّية أبي بكر بالخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرد عليه:

جاء في قراءته (ص:28) عنوان بلفظ: ((الاختلاف يوم السقيفة وموقف المسلمين منها وآثارها الفكرية)) ، أورد تحته كلاماً ينتهي في (ص:34) اشتمل على تشكيك في أحقية أبي بكر وأولويَّته بالخلافة، وأنا أورد هنا بعضَ المقاطع المشتملة على جُمل من هذا التشكيك:

1 ـ ففي (ص:29) قال: ((فعند علم الأنصار بوفاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اجتمعوا في سقيفة بَنِي ساعدة يريدون تولية سعد بن عبادة رضي الله عنه على المسلمين؛ بحجَّة أنَّ الأنصارَ هم أهلُ المدينة عاصمة الإسلام، وأنَّ قريشاً أخرجت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم من مكة، وأنَّ الأنصارَ هم الذين حَموا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 65

ودعوتَه، ولقوا في ذلك الشدائد، وأنَّ المهاجرين ليسوا إلَاّ ضيوفاً عليهم في المدينة، وعلى هذا فصاحب الدار أولَى بالتصرُّف في داره من الضيف)) .

2 ـ وقال في (ص:30 ـ حاشية) : ((بعضُهم يرى أنَّه ليس كلُّ من بايع أبا بكر الصديق يراه أَوْلَى مِن غيره! وإنَّما بايَعه لأنَّه يراه من الأكفاء للخلافة، ولخشيته من الفتنة ورضاه بالأمر الواقع!!

)) .

3 ـ وقال في (ص:30 ـ 32) : ((وكان هناك قسمٌ آخر من كبار المهاجرين لَم يُبايعوا أبا بكر، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء، وكان معه بنو هاشم قاطبة، كالحسن والحسين وعمِّه العباس بن عبد المطلب وأبنائه عبد الله بن العباس والفضل بن العباس، وكوكبة من كبار المهاجرين الأوَّلين كعمار بن ياسر وسَلمان الفارسي وأبو (كذا) ذر الغفاري والمقداد بن عمرو وغيرهم، كما كان معهم بعضُ الأنصار كأُبَيِّ بن كعب والبراء بن عازب وجابر بن عبد الله، وغيرهم من عموم الصحابة الذين كانوا يرون أنَّ عليَّ ابنَ أبي طالب كان أكفأَ الناس لتولِّي الأمر بعد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم! لكونه أوَّلَ مَن أسلم، ولكونه بمنزلة كبيرة من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة) ، وكان من علماء الصحابة وشجعانهم وزهادهم، ومن العشرة المبشَّرين بالجنة، مع نسبه الشريف وقربه من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نسباً وصِهراً ونشأة وسكناً، فكان هذا القسم من المهاجرين ومعهم بعض الأنصار يرون أنَّ عليَّ بن أبي طالب هو أنسبُ الصحابة لتولِّي الخلافة بعد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم!! بل تبيَّن أنَّ معظمَ الأنصار كانوا يَميلون مع عليٍّ أكثرَ من ميلِهم مع (أبي بكر!!) ؛ لعلمِهم بأنَّ عليًّا وإن كان قرشيًّا لكنَّه لن يؤْثرعليهم قريشاً، لكن السبب في بيعتهم أبا بكر وتركهم عليًّا أنَّ عليًّا لَم يكن موجوداً في

ص: 66

السقيفة أثناء المجادلة والمناظرة مع الأنصار، وربَّما لو كان موجوداً لَتَمَّ له الأمر!! لأنَّ بعضَ الأنصار لَمَّا رأوا أنَّ الأمر سينصرفُ عن سعد بن عبادة هتفوا باسم عليٍّ في السقيفة!! والأنصار كانوا أغلبيةً في المدينة، لكن عليًّا كان مشغولاً بِجَهاز النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، من غسله وتكفينه والإقامة على إتمام

ذلك، فهو إمَّا أنَّه لَم يعلم بهذا الاجتماع المفاجئ في السقيفة، أو أنَّه يرى أنَّه ليس من المناسب أن يترك الجسدَ الشريف ويذهب إلى السقيفة يتنازع مع الناس في أحقيته بخلافة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم!! فآثر البقاءَ مع الجسد الشريف غسلاً وتكفيناً مع الصلاة عليه، ثمَّ دفنه صلى الله عليه وسلم، وهذا استغرق يومين من موته صلى الله عليه وسلم.

وكانت البيعة العامة لأبي بكر قد تَمَّت قبل دفن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا كان له أثرٌ نفسي على علي بن أبي طالب ومن مَعه مِن أهل البيت، كفاطمة الزهراء، ومن معه من المهاجرين والأنصار، فقد كان هؤلاء يَرون أنَّ أصحابَ السقيفة لَم يُراعوا مكانتهم، وقطعوا الأمور دون مشورتِهم، وكانوا يفضِّلون أن يتأنَّى الناس حتى يتِمَّ دفنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثمَّ يتشاور الناسُ ويوَلُّون مَن يرونه أهلاً للخلافة، أمَّا أن يتِمَّ الأمر في وسط النزاع المحتدم بين المهاجرين والأنصار، ثمَّ بين الأوس والخزرج من الأنصار، فهذا يُضعف عندهم شرعيَّة البيعة!! ويجعلها أشبه ما تكون بالقهر والغلبة التي تتنافى مع الشورى المأموربها شرعا {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} !!)) .

4 ـ وقال عن الاختلاف الذي جرى في السقيفة (ص:29 ـ حاشية) : ((ويرى البعضُ أنَّ هناك أسباباً قبليَّة وتعصب (كذا) لفئات وأشخاص، وليس اختلافهم لمصلحة الإسلام!! ورغم عدم تسليمنا بل وإنكارنا لهذا القول إلَاّ أنَّه ليس هناك دليلٌ شرعي ولا عقلي يمنع من هذا!! فالصحابة يعتريهم ما يعتري سائرَ البشر!)) .

ص: 67

5 ـ وقال في (ص:31 ـ حاشية) : ((سببُ ميل الأنصار لعليٍّ أكثرمن ميلهم لأبي بكر وعمر أنَّ عليًّا كان أكثر فتكاً في مشركي قريش؛ إذ قتل من قريش في بدر وحدها نحو خمسة عشر رجلاً، وأوصلهم بعض المؤرِّخين ـ كالواقدي ـ إلى ثلاثة وعشرين رجلاً، فكان الأنصارُ يرون أنَّ عليًّا كان صارماً في موضوع قريش، وأنَّه سيكبحُ جِماحَ قريش (وخاصة الطُّلَقاء منهم، وكان الطُّلَقاء يُمثِّلون أغلب قريش) ، وأنَّه لن يصيب الأنصارَ من قريش أذى أو أثرة إذا كان علي هو الخليفة؛ لأنَّ قريشاً تُبغض عليًّا لكثرة نكايته في بيوتاتهم، بعكس أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ لَم يثبت أنَّهم قتلوا من قريش أحداً باستثناء رجل واحد قتله عمرُ بنُ الخطاب يوم بدر، أما علي فقتل منهم العشرات في بدر وأُحُد والخندق ويوم الفتح، وهي المعارك المشهورة مع قريش

وقد كان بين علي والأنصار مَحبَّة عظيمة، وكان عليٌّ على علاقة كبيرة بهم، وولَّى جَمعاً من فضلائهم أيَّام خلافته)) ، فذكر سبعاً منهم ثمَّ قال:((بينما لَم يجد الأنصارُ فرصتَهم في عهد أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ كانت الولايات في أيدي القرشيِّين في الغالب (وهذا أمرٌ يدعو للدراسة لمعرفة الأسباب!!)، ومن الاتفاقات الجديرة بالذِّكر هنا أنَّه ورد في الأنصار حديثاً (كذا) :(لا يحب الأنصارَ إلَاّ مؤمن، ولا يُبغضهم إلَاّ منافق)، وورد الحديث نفسه في علي:(لا يحب عليًّا إلَاّ مؤمن، ولا يُبغضه إلَاّ منافق) ، الحديثان في مسلم، وبوَّب مسلمٌ لهذا باباً بعنوان (باب حب علي والأنصار من الإيمان) ، فسبحان الله!!)) .

6 ـ وقال في (ص:33 ـ حاشية) : ((أسلم يوم مكة ألفان من قريش وسُمُّوا الطُّلَقاء، فلعله لهذا السبب كان الأنصار يَخشون إذا ذهبت الخلافة

ص: 68

لقريش أن تصل إلى هؤلاء الطُّلَقاء، وقد حصل هذا بعد ثلاثين سنة، إذ تولَّى الأمر معاوية بن أبي سفيان وهو من الطُّلَقاء، وقد وجد الأنصار في عهده الأثرة الشديدة التي أخبرهم بها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم!!!)) .

وبعد إيراد هذه المقاطع من كلامه المشتملة على جُمل من التشكيك في أحقية أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجيب عن ذلك من جهتين:

الأولى: التنبيه على بعض ما أورده.

الثانية: في بيان الأدلة الدَّالة على أحقِّيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما الجهة الأولى، فأقول: إنَّ مَن يرى أو يسمع مثلَ هذا الكلام الذي سطَّره المالكي لا يَشُمُّ منه رائحة السنَّة ولا رائحةَ أهلها، بل يتبادر إلى ذهنه أنَّ بين يديه كتاباً من كتب أهل البدع والضلال.

وإنَّ مجرَّدَ قراءة مثل هذا الكلام أو سماعه وتصوُّره يُغنِي عن الاشتغال بالتعليق عليه، لكنِّي أنبِّه على أمور ثلاثة:

أوَّلاً: ما أشار إليه في المقطع رقم (3) من أوْلَوِيَّة علي رضي الله عنه بالخلافة؛ لكونه بمنزلة كبيرة من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة، فيُجاب بأنَّ بعضَ أهل الأهواء والبدع يتشبَّثون بأوْلوية علي بن أبي طالب بالخلافة بالحديث الوارد في ذلك، وهو حديث ثابتٌ في الصحيحين عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، ولفظه عند البخاري (4416) : ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك، واستخلف عليًّا، فقال: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون

ص: 69

من موسى، إلَاّ أنَّه ليس نبيٌّ بعدي؟!)) .

وهو لا يدلُّ لهم؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما قال ذلك تطييباً لنفس عليٍّ رضي الله عنه لَمَّا قال له: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ وهذا الاستخلاف إنَّما هو مدَّة سفره إلى تبوك، كما أنَّ استخلاف موسى لهارون كان مدَّة ذهابه لمناجاة الله، فهذا هو المراد بالتشبيه، فالمشبَّه استخلافه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ مدَّة غيبته، والمشبَّه به استخلاف موسى لهارون مدَّة غيبته، إلَاّ أنَّ المشبَّه به نبِيٌّ استخلف نبيًّا لوجود الأنبياء في زمن واحد، وأمَّا نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنَّه لانبِيَّ بعده، لا في زمانه ولا بعد زمانه.

وليس فيه دلالة على أحقِّيَّة علي بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: ما أشار إليه في المقطع رقم (5) من أوْلوية عليّ رضي الله عنه بالخلافة لكونه قد أكثر القتل في كفار قريش، أقول إنَّ كثرةَ القتل لا تعتبر دليلاً على الأولوية، ومن المعلوم أنَّ بعض من تأخَّر إسلامُهم كانت نكايتُهم بالعدوِّ أشدَّ مِمَّن هو أفضل منهم مِمَّن تقدَّم إسلامُهم، وإنَّما التفضيل والتقديم في الخلافة يُعوَّل فيه على الأدلَّة، وسبق ذكرُ الأدلَّة الدالَّة على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على غيره، وسيأتي بعد قليل ذكر الأدلّة الدالَّة على تقديمه في الخلافة على غيره.

ثالثاً: ما أشار إليه في المقطع رقم (5) من ورود حديثين في صحيح مسلم، أحدهما في الأنصار، والثاني في عليٍّ، يدلَاّن على أنَّه لا يحبُّهم إلَاّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلَاّ منافقٌ، أقول: إنَّ الحديثَ في الأنصار جاء في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ولفظه:((الأنصار لا يحبُّهم إلَاّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلَاّ منافقٌ، فمَن أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)) رواه البخاري (3783) ومسلم (129) ، وأيضاً من

ص: 70

حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه:((آيةُ الإيمان حبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفاق بغضُ الأنصار)) رواه البخاري (3784) ومسلم (128) .

وفي صحيح مسلم (131) عن زرٍّ قال: قال عليّ: ((والذي فَلَقَ الحَبَّة وَبَرَأَ النَّسَمَة إنَّه لعهدُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إليَّ: ألَاّ يُحبَّني إلَاّ مؤمن، ولا يبغضني إلَاّ منافقٌ)) .

وبغضُ المنافقين للأنصار إنَّما هو لنُصرتهم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لإظهار دينه، وهذا المعنى لا يختصُّ به الأنصار؛ فإنَّ المهاجرين هم أيضاً أنصارٌ، وقد جَمعوا بين الهجرة والنُّصرة، ولهذا كانوا أفضلَ من الأنصار، وقد وصفهم الله بهذين الوصفين في قوله:{لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ، قال الحافظ في الفتح (1/63) في شرح حديث حبّ الأنصار: ((

فلهذا جاء التحذيرُ من بغضهم والترغيب في حبهم حتَّى جعل ذلك آيةَ الإيمان والنفاق؛ تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان مَن شاركهم في معنى ذلك مشاركاً لهم في الفضل المذكور كلٌّ بقسطه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عليّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:(لا يُحبُّكَ إلَاّ مؤمن، ولا يبغضكَ إلَاّ منافقٌ) ، وهذا جارٍ باطّرادٍ في أعيان الصحابة؛ لتحقق مشترك الإكرام؛ لِمَا لهم مِن حسن الغناء في الدِّين، قال صاحب المفهم: وأمَّا الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغضٌ لبعضٍ فذاك من غير هذه الجهة (يعني النصرة) ، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لَم يحكم بعضهم على بعضٍ بالنفاق، وإنَّما كان حالُهم في ذاك حالَ المجتهدين في الأحكام، للمصيب أجران، وللمخطئ أجرٌ واحد، والله أعلم)) .

ص: 71

وكتاب المفهم هو شرحٌ لصحيح مسلم، وصاحبُه أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، وهو شيخ لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي المفسر.

وأمّا ما ذكره المالكي مِن أنَّ مسلماً بوَّب لهذا باباً بعنوان ((باب حبُّ عليٍّ والأنصار من الإيمان)) ، فإنَّ مسلماً رحمه الله لَم يضع في صحيحه أبواباً، وهو في حكم المبوَّب، وتراجم الأبواب إنَّما هي من عمل غيره، قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم (1/21) :((وقد ترجم جماعةٌ أبوابَه بتراجم بعضُها جيِّدٌ وبعضُها ليس بجيِّد، إمَّا لقصور في عبارة الترجمة، وإمَّا لركاكةِ لفظها، وإمَّا لغير ذلك، وأنا إن شاء الله أحرصُ على التعبير عنها بعبارات تليقُ بها في مواطنها، والله أعلم)) .

وأما الجهة الثانية فهي في بيان الأدلَّة الدالَّة على أحقِّيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذكر هنا بعضَ ما وقفتُ عليه من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع.

أوَّلاً: الأحاديث والآثار:

1 ـ روى البخاري (5666) ، ومسلم (2387) في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت:((قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضِه: ادْعِي لي أبا بكر وأخاكِ حتى أكتب كتاباً، فإنِّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلَاّ أبا بكر)) .

2 ـ روى البخاري (7220) ، ومسلم (2386) في صحيحيهما، واللفظ للبخاري عن جُبير بن مُطْعم قال: ((أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ فكلَّمتْه في شيءٍ، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا رسول الله! أرأيتَ إن جئتُ ولَم

ص: 72

أجدْك، كأنَّها تريد الموت؟ قال: إن لَم تجديني فأتِي أبا بكر)) .

3 ـ روى البخاري في صحيحه (678) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((مرض النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فاشتدَّ مرضُه، فقال: مُروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس)) الحديث، وقد أخرجه مسلم في صحيحه (420) .

وجاء أمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليصلي بالناس من حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري (679) ومسلم (418) .

وقد فهم الصحابةُ رضي الله عنهم من تقديم أبي بكر رضي الله عنه في الإمامة في الصلاة أنَّه الأحقُّ بالخلافة، فروى ابن سعد في الطبقات (3/178 ـ 179) قال: أخبرنا حُسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن عاصم، عن زِرّ عن عبد الله (يعني ابن مسعود) رضي الله عنه قال:((لَمَّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: مِنَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ، قال: فأتاهم عمر، فقال: يا معشر الأنصار! ألستم تعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس؟ قالوا: بلى! قال: فأيُّكم تطيبُ نفسُه أن يتقدَّم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر!)) .

وهذا إسنادٌ صحيحٌ، رجالُه رجالُ الجماعة، وعاصم هو ابن أبي النجود، وحديثُه في الصحيحين مقرونٌ، ورواه الحاكم في المستدرك (3/67)، وقال:((هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد ولم يخرجاه)) ووافقه الذهبي.

وفي صحيح البخاري (3668) أنَّ عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر يوم السقيفة: ((بل نبايعُك أنت؛ فأنت سيِّدنا وخيرُنا وأحبُّنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده، فبايعه وبايعه الناس)) .

4 ـ روى مسلم في صحيحه (532) عن جندب بن عبد الله البجلي

ص: 73

أنَّه قال: ((سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: إنِّي أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ؛ فإنَّ الله تعالى قد اتَّخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيمَ خليلاً، ولوكنتُ متَّخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلاً)) الحديث.

وهذا التنويهُ بهذه الفضيلة العظيمة للصِّدِّيق في مرض موته صلى الله عليه وسلم وقبل وفاته بخمس ليالٍ، فيه إشارةٌ قويّةٌ إلى أنَّه الأحقُّ بالخلافة من غيره.

5 ـ روى البخاري (3664) ومسلم (2392) في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائمٌ رأيتُني على قليبٍ عليها دلوٌ، فنزعتُ منها ما شاء الله، ثمَّ أخذها ابنُ أبي قُحافة فنزع بها ذَنُوباً أو ذَنوبين، وفي نزعه ضَعفٌ، والله يغفر له ضعفَه، ثمَّ استحالت غرباً فأخذها ابنُ الخطاب، فلَم أَرَ عَبْقرياًّ من الناس ينزع نزعَ عمر، حتى ضرب الناسُ بعَطَن)) .

ورؤيا الأنبياء وحيٌ، وهذه الرؤيا فيها إشارةٌ إلى خلافة أبي بكر وقِصَرها، وإلى خلافة عمر مِن بعده، وطولها وكثرة نفعها.

6 ـ روى ابن أبي شيبة في مصنّفه (7/434 رقم:7053) فقال: حدثنا ابن نُمير، عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير قال: سمعتُ علياًّ يقول: ((قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على خير ما عليه نَبِيٌّ من الأنبياء، قال: ثمَّ استخلف أبو بكر فعمل بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنته، ثمَّ قُبض أبو بكر على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها، ثمَّ استُخلف عمر فعمل بعملهما وسنتهما، ثمَّ قُبض على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها وبعد أبي بكر)) .

ورجالُ هذا الإسناد محتجٌّ بهم، فعبد خير وعبد الله بن نمير ثقتان، وعبد الملك بن سلع صدوق.

ص: 74

ثانياً: حكايةُ الإجماع والاتّفاق على خلافة أبي بكر رضي الله عنه:

لَم يأت نصٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحٌ على خلافة أبي بكر أو غيره، لكنَّه قد جاء أحاديث صحيحة تدلُّ دلالة قويَّة على أنَّه أولَى من غيره بالخلافة، وقد مرَّ جملةٌ منها، وقد حصل اتِّفاق الصحابة رضي الله عنهم على بيعته، وتحقَّق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث المتقدِّم قريباً:((يأبى الله والمؤمنون إلَاّ أبا بكر)) ، ويدلُّ على حصول اتِّفاقهم على بيعته ما يلي:

1 ـ روى الحاكم في المستدرك (3/78 ـ 79) قال: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدَّثني أبي وأحمد بن منيع، قالا: ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عاصم، عن زِر، عن عبد الله (يعنِي ابنَ مسعود) قال:((ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيِّئاً فهو عند الله سيِّء، وقد رأى الصحابةُ جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه) .

ورجاله مُحتجٌّ بهم، والقطيعي ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/210)، وقال عنه:((الشيخ العالم المحدِّث مسند الوقت)) .

2 ـ روى البخاري في صحيحه (7219) بإسناده إلى الزهري أنَّه قال: ((أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فتشهَّد وأبو بكر صامت لا يتكلَّم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبَرَنا، يريد بذلك أن يكون آخرَهم، فإن يكُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد مات، فإنَّ الله تعالى قد جعل بين أظهرِكم نوراً تهتدون به بما هدى الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، وإنَّ أبا

ص: 75

بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، فإنَّه أولَى الناسِ بأمورِكم، فقوموا فبايِعوه، وكانت طائفةٌ منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بَنِي ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر، قال الزهري (أي بالإسناد المتقدِّم) عن أنس بن مالك: سمعتُ عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه الناسُ عامَّة)) .

3 ـ روى أبو داود في سننه (4630) قال: حدَّثنا محمد بن مسكين، حدَّثنا محمد ـ يعني الفريابي ـ قال: سمعتُ سفيان (يعني الثوري) يقول:

((مَن زعم أنَّ عليًّا عليه السلام كان أحقَّ بالولاية منهما فقد خطَّأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء)) .

إسناده صحيح، ومحمد بن يوسف الفريابي ثقة أخرج له الجماعة، ومحمد بن مسكين ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي.

4 ـ روى البيهقي في كتابه مناقب الشافعي (1/434) بإسناده إلى الشافعي قال: ((أجمع الناسُ على خلافة أبي بكر، واستخلَف أبو بكر عمر، ثمَّ جعل عمرُ الشورى إلى ستة، على أن يُوَلُّوها واحداً، فوَلَوْها عثمان رضي الله عنهم أجمعين)) .

5 ـ قال الإمام أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل في كتابه الإبانة (ص:185 ـ 186) : ((وأثنى الله عز وجل على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، وعلى أهل بيعة الرضوان، ونطق الكتاب بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة، وأثنى على أهل بيعة الرضوان، فقال عز وجل:{لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية.

قد أجمع هؤلاء الذين أثنى عليهم ومدَحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسَمَّوه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايعوه وانقادوا له،

ص: 76

وأقَرُّوا له بالفضل، وكان أفضلَ الجماعة في جميع الخصال التي يستحقُّ بها الإمامةَ من العلم والزهد وقوَّة الرأي وسياسة الأمَّة وغير ذلك)) .

6 ـ قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ المعروف بابن السَّقاء: ((وأجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر، قالوا له: يا خليفة رسول الله! ولَم يُسَمَّ أحدٌ بعده خليفة، وقيل: إنَّه قُبض النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن ثلاثين ألف مسلم، كلٌّ قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! ورَضوا به مِن بعده، رضي الله عنهم، وإلى حيث انتهينا قيل لهم: أمير المؤمنين)) . من تاريخ بغداد للخطيب (10/131) .

والمراد أنَّ أبا بكر كان يُقال له: يا خليفة رسول الله! وأمَّا غيره فيُقال له: يا أمير المؤمنين.

7 ـ قال أبو عثمان الصابوني إسماعيل بن عبد الرحمن في كتابه عقيدة السَّلف أصحاب الحديث (ص:87) : ((ويُثبت أصحابُ الحديث خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتِّفاقهم عليه وقولهم قاطبة: رَضِيَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لدِيننا فرضيناه لدُنيانا، يعني أنَّه استخلفه في إقامة الصلوات المفروضات بالناس أيَّام مرضه وهي الدِّين، فرضيناه خليفةً للرسول صلى الله عليه وسلم علينا في أمور دُنيانا.

وقولهم: قدَّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمَن ذا الذي يُؤَخِّرك؟ وأرادوا أنَّه صلى الله عليه وسلم قدَّمَك في الصلاة بنا أيَّام مرضه، فصلينا وراءك بأمره، فمَن ذا الذي يُؤخِّرك بعد تقديمه إيَّاك؟!

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلَّم في شأن أبي بكر في حال حياته بِما يُبيِّن للصحابة أنَّه أحقُّ الناس بالخلافة بعده، فلذلك اتَّفقوا عليه واجتمعوا، فانتفعوا بمكانه ـ والله ـ وارتفعوا به وعَزُّوا وعَلَوْا بسببه)) .

8 ـ

ص: 77

قال الإمام البيهقي في كتابه الاعتقاد (ص:179 ـ 180) : ((وقد صحَّ بما ذكرنا اجتماعُهم على مبايعته مع علي بن أبي طالب، فلا يجوز لقائل أن يقول: كان باطنُ عليٍّ أو غيرِه بخلاف ظاهرِه، فكان عليٌّ أكبرَ محلاًّ وأجلَّ قدراً من أن يقدم على هذا الأمر العظيم بغير حقٍّ أو يُظهِرَ للناس خلافَ ما في ضميره، ولو جاز هذا في اجتماعهم على خلافة أبي بكر لَم يصحَّ إجماعٌ قطُّ، والإجماعُ أَحَدُ حُجَج الشريعة، ولا يجوز تعطيلُه بالتوهُّم)) .

9 ـ قال ابن قدامة في لُمعة الاعتقاد (ص:35) : ((وهو (أي أبو بكر الصديق) أحقُّ خلق الله بالخلافة بعد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لفضله وسابقته وتقديم النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة)) .

10 ـ قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (1/264) :

((وأجمعت الصحابةُ على تقديم الصدِّيق بعد اختلافٍ وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بَنِي ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: منَّا أميرٌ ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إنَّ العربَ لا تدين إلَاّ لِهذا الحيِّ من قريش، ورَوَوا لهم الخبرَ في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش)) .

11 ـ قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم (15/154 ـ 155) عند شرحه لأثر عائشة رضي الله عنها لَمَّا سُئلت: ((مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثمَّ مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثمَّ قيل لها: مَن بعد عمر؟ قالت: أبو عبيد بن الجراح، ثمَّ انتهت إلى هذا)) ، قال: ((هذا دليلٌ لأهل السُّنَّة في تقديم أبي

ص: 78

بكر ثمَّ عمر في للخلافة مع إجماع الصحابة، وفيه دلالة لأهل السُّنَّة أنَّ خلافةَ أبي بكر ليست بنصٍّ من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحاً، بل أجمعت الصحابةُ على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته، ولو كان هناك نصٌّ عليه أو على غيره لَم تقع المنازعةُ من الأنصار وغيرهم أولاً، ولَذَكر حافظ النصَّ ما معه، ولرجعوا إليه، لكن تنازعوا أوَّلاً، ولم يكن هناك نصٌّ، ثمَّ اتَّفقوا على أبي بكر واستقرَّ الأمر)) .

12 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (6/455) : ((

فبايعه الذين بايعوا الرَّسولَ تحت الشجرة، والذين بايعوه ليلة العقبة، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُهاجرون إليه، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرِهم، ولم يقل أحدٌ قطُّ: إنِّي أحقُّ بهذا مِن أبي بكر، ولا قاله أحدٌ في أحدٍ بعينه: إنَّ فلاناً أحقُّ بهذا الأمر من أبي بكر)) .

13 ـ عقد ابن القيم في كتابه ((الفوائد)) فصلاً في فضائل أبي بكر، ومِمَّا جاء فيه قوله في (ص:95) : ((نطقتْ بفضله الآياتُ والأخبارُ، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار)) .

14 ـ قال ابن كثير في كتابه البداية والنهاية (9/415 ـ 418) :

((وقد اتَّفق الصحابةُ رضي الله عنهم على بيعة الصِّديق في ذلك الوقت، حتى عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما وأرضاهما، والدليل على ذلك ما رواه البيهقي حيث قال: أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن علي الحافظ الإسفراييني، ثنا أبو علي الحُسين بن علي الحافظ، ثنا أبو بكر بن خزيمة وإبراهيم بن أبي طالب، قالا: نا بُندار بن بشار، ثنا أبو هشام المخزومي، ثنا وُهيب، ثنا داود بن أبي هند، ثنا أبو نَضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: ((قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمع الناسُ في دار سعد بن

ص: 79

عُبادة، وفيهم أبو بكر وعمر، قال: فقام خطيبُ الأنصار فقال: أتَعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وخليفتَه من المهاجرين، ونحن كنَّا أنصارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فنحن أنصارُ خليفتِه كما كنَّا أنصارَه، قال: فقام عمرُ بنُ الخطاب، فقال: صدق قائلُكم، ولو قُلتُم غيرَ هذا لَم نُتابِعكم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: هذا صاحبُكم فبايِعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصارُ، قال: فصعد أبو بكر المنبرَ، فنظر في وجوه القوم، فلَم يرَ الزبيرَ، فدعا بالزبير فجاء، قال: قلتَ: ابنُ عمَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريُّه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فقام فبايعه، ثمَّ نظر في وجوه القوم فلَم يرَ عليًّا، فدعا بعليِّ بن أبي طالب، فجاء فقال: قلتَ: ابنُ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختَنُه على ابنتِه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فبايعه) ، هذا أو معناه)) .

وهذا إسنادٌ صحيح، رجاله رجال مسلم، وابن خزيمة هو إمام الأئمة صاحب الصحيح.

وإبراهيم بن أبي طالب هو محمد بن نوح، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/457) وقال:((الإمام الحافظ المجوِّد الزاهد، شيخ نيسابور، وإمام المحدِّثين في زمانه)) ، ونقل عن الحاكم أنَّه قال فيه:((إمام عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرِّجال، جمع الشيوخ والعلل)) .

وأبو علي الحسين بن علي الحافظ، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/51) وقال:((الحافظ الإمام العلَاّمة الثبت أبو علي الحسين بن علي ابن يزيد بن داود النيسابوري، أحد النُّقَّاد)) .

وشيخ البيهقي، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/305) وقال: ((الإمام الحافظ النَّاقد القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن حسين

ص: 80

ابن شاذان بن السَّقا الإسفراييني، من أولاد أئمَّة الحديث، سمع الكتب الكبار وأملى وصنَّف)) .

وقد أورد ابن كثير حديث البيهقي هذا في البداية (8/92) بإسناده ومتنه، وفيه أنَّ كنية شيخه أبو الحسن، ثمَّ قال:((وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قُطَعة، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سِنان الخدري)) ، وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى (8/143) هذا الإسناد وأحال في متنه على متن إسناد قبله، وقال:

((بنحوه)) ، وفيه أنَّ كنية شيخه: أبو الحسن.

وقال ابن كثير أيضاً (9/417) : ((وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم، حدَّثني أبي: (أنَّ أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأنَّ محمد بن مسلمة كسَر سيفَ الزبير، ثمَّ خطب أبو بكر، واعتذر إلى الناس، وقال: والله! ما كنتُ حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتُها الله في سرٍّ ولا علانية، فقبِل المهاجرون مقالتَه، وقال عليٌّ والزبير: ما غضِبْنا، إلَاّ لأنَّنا أُخِّرنا عن المشورة، وإنَّا نرى أبا بكر أحقَّ الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنَّه لصاحبُ الغار، وإنَّا لنعرِف شرَفَه وخَيْرَه، ولقد أمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي) .

وهذا اللَاّئق بعليٍّ رضي الله عنه، والذي تدلُّ عليه الآثار من شهودِه معه الصلوات، وخروجه معه إلى ذي القَصَّة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سنورده، وبذلِه له النصيحةَ والمشورةَ بين يديه، وأمَّا ما يأتي من مبايعته إيَّاه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها عليه الصلاة والسلام بستَّة أشهر، فذلك محمولٌ على أنَّها بيعةٌ ثانية أزالت ما كان قد وقع من وَحشةٍ بسبب الكلام في الميراث، ومنعه إيَّاهم ذلك بالنصِّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:(لا نورَث ما تركنا فهو صدقة)) ) .

ص: 81

وإسناد موسى بن عقبة صحيح؛ سعد بن إبراهيم وأبوه من رجال الصحيحين، وسعدٌ ثقة، وأبوه له رؤية.

15 ـ قال يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه الرياض المستطابة (ص:143) : ((وقد كانت بيعتُه إجماعاً من الصحابة الذين هم أعرفُ بالحال، وأدرى بصحَّة الدليل في المقال، والإجماعُ حُجَّة قطعية من غيرهم، فما ظنُّك بهم؟!)) .

ومِمَّا تقدَّم من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع يتبيَّن أنَّ خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه حقٌّ، وأنَّه أوْلَى بالخلافة من غيره، وأنَّ القولَ بخلاف ذلك ضلالٌ عن الحقِّ وخروجٌ عن الجادَّة واتِّباعٌ لغير سبيل المؤمنين التي بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:((يأبى الله والمؤمنون إلَاّ أبا بكر)) ، فالله يأبى إلَاّ أبا بكر، والمؤمنون يأبون إلَاّ أبا بكر، ويأبى بعضُ الذين اتَّبعوا غيرَ سبيل المؤمنين مِن أهل الأهواء والبدعِ إلَاّ غير أبي بكر، نعوذ بالله من الخذلان.

ثمَّ أقول: إنَّ غُلوَّ المالكي في عليٍّ رضي الله عنه لا يُفيد عليًّا شيئاً، وإنَّ جفاءَه في حقِّ الكثيرين من الصحابة لا يضُرُّهم شيئاً، وإنَّما مضرَّة الغلوِّ والجفاء تعود على الغالي الجافي، نسأل الله السلامةَ والعافية.

تنبيه: بعد إيراد المالكي كلامه الذي شكَّك فيه في أَوْلَوِيَّةِ أبي بكر رضي الله عنه في الخلافة أورد كلاماً يُشكِّك فيه في أوْلوية عمر وعثمان رضي الله عنهما في الخلافة من بعده، ولَم أُشغِل نفسي بإيراده هنا والردِّ عليه؛ اكتفاءاً بما تقدَّم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومن المعلوم أنَّ مَن سهُل عليه التشكيكُ في خلافة أبي بكر فإنَّ تشكيكَه في خلافة عمر وعثمان أسهلُ وأسهل، نسأل الله السلامة والعافية من كلِّ شرٍّ وسوء.

* * *

ص: 82