الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا وقد أورد المالكي آياتٍ وأحاديث وآثاراً يستدلُّ بها على قَصْر صُحبة الرسول صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية، وليس فيما أورده ما يدلُّ على دعواه؛ لأنَّها إمَّا نصوصٌ فيها ذِكر المهاجرين والأنصار والثناء عليهم، وذلك حقٌّ، لكن لا تدلُّ على قصر الصُّحبة عليهم دون غيرهم، وإمَّا آياتٌ وأحاديث فيها الثناء على الصحابة عموماً حَمَلَها تعسُّفاً على المهاجرين والأنصار فقط، وإمَّا أحاديثُ وآثارٌ فيها ذكرُ الصحابي أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي لا تدلُّ على إخراج المتكلِّم والمخاطَب من الصحابة، كما سيأتي إيضاح ذلك عند ذكر كثيرٍ من أدلَّتِه على وجه التفصيل، ولَم أتعقَّبْه في كلِّ دليلٍ أورده؛ لأنَّ الإجابةَ عن بعض أدلَّته تغني عن الإجابة عن غيرها مِمَّا يشابهها، ولَم أرتِّب الردَّ عليه على وفق ترتيب أدلَّته، بل قد أجيب عن دليل متأخِّرٍ قبل الإجابة على ما كان هو قدَّمه.
* * *
استدلالُه بآية {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} والرد عليه:
قال في (ص:25 ـ 27) : ((الدليلُ الأوَّلُ: مع أنَّ غزوةَ تبوك في السنة التاسعة بعد العودة من حصار الطائف، وكان عددُ جيش المسلمين فيها ثلاثين ألفاً، يعتبر المهاجرون والأنصار فيهم قلَّة، ومع ذلك لَم يأت الثناءُ إلَاّ عليهم، كما في قوله تعالى:{لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
والسؤال: لماذا لَم يخبرنا الله عز وجل أنَّه قد تاب على كلِّ جيش
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يوم تبوك؟! لماذا لَم يقل الله عز وجل: (لقد تاب الله على النبي والذين آمنوا الذين اتّبعوه في ساعة العسرة
…
) ؟! أو (
…
على النَّبِيِّ والمؤمنين
…
) ؟!
الجوابُ واضحٌ بأنَّ تخصيصَ الله عز وجل المهاجرين والأنصار بالتوبة دليلٌ على أنَّ مَن سواهم ليسوا في منزلتهم، ولا يجوز الجزمُ بالتوبة عليهم.
وإنَّما نسكتُ عنهم كما سكت الله عنهم، وكأنَّ الله ـ والله أعلم ـ أراد بقَصْره الثناءَ على المهاجرين والأنصار أن يُشعر مَن سواهم بأنَّ المهاجرين والأنصار لَم يستحقوا التوبة عليهم من الله إلَاّ بأعمال جليلةٍ قدَّموها في الماضي، وأنَّ على مَن سواهم أن يُكثروا من التَّأسِّي بهم حتى يتوب الله عليهم كما تاب على المهاجرين والأنصار، والغريبُ أنَّ بعضَ الذين يَخلطون الأمورَ يستدلُّون بالآية السابقة على أنَّ الله تاب على جميع الصحابة، مع أنَّ الله عز وجل كان يستطيع أن يقول ذلك ويُعمِّم التوبةَ على كلِّ المؤمنين يومئذ، ولكنَّه لَم يقتصر على المهاجرين والأنصار إلَاّ لحكمة!!)) .
وعلَّق في الحاشية على قوله: ((والغريبُ أنَّ بعضَ الذين يخلطون الأمورَ يستدلُّون بالآية السابقة على أنَّ الله تاب على جميع الصحابة)) بقوله:
((ويقصدون بالصحابة كلَّ مَن رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أو لَقِيَه من المسلمين، ثمَّ يقولون هذا وقلوبهم على الطُّلَقاء!!)) .
والجوابُ عن ذلك من وجوه:
الأوّل: أن يقال: إنَّ الآيةَ مشتملةٌ على توبة الله على المهاجرين والأنصار الذين معه في غزوة تبوك، لكن ليس في ذلك دليلٌ على ما زعمه
من قصر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية وهو الذي من أجله أورد الآية، وسبق أن أوردتُ الأدلَّةَ الدالَّة على شمول الصحبة لكلِّ مَن صحبه أو رآه بعد الحُديبية إلى حين وفاته صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنَّ الآيةَ دالَّةٌ على توبة الله عز وجل على مَن أسلم وهاجر إلى المدينة بعد الحُديبية وقبل فتح مكة، ومنهم أبو موسى الأشعري وأبو هريرة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم، وقد أخرجهم المالكي، وسبق أن ذكرت الأدلَّةَ الدالَّة على استمرار الهجرة المحمود أهلها إلى فتح مكة.
الثالث: أنَّ الآيةَ وإن لَم تنصَّ على التوبة على غير المهاجرين والأنصار، فليس فيها دليلٌ على حرمان الذين أسلموا بعد الفتح وخرجوا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك من فضل الله ورحمته، بل قد ثبت في السُّنَّة الصحيحة حصول الأجر لِمَن لَم يخرج إلى تبوك بسبب العذر، تبعاً للخارجين إليها، فقد روى البخاري في صحيحه (4423) عن أنس رضي الله عنه:((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك فَدَنَا من المدينة فقال: إنَّ بالمدينة أقواماً ما سِرْتُم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلَاّ كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حَبَسَهم العُذر)) .
وروى مسلم في صحيحه (1911) بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال: ((كنَّا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقال: إنَّ بالمدينة لرجالاً ما سِرتُم مسيراً ولا قطعتُم وادياً إلَاّ كانوا معكم، حبسهم المرض)) .
وبإسنادٍ آخر إليه، وفيه زيادة:((إلَاّ شَرَكوكم في الأجر)) ، فلماذا تحجر الواسع؟! ولماذا البخل على أهل الفضلِ بما تفضَّل الله به عليهم مِمَّن كانوا معه في غزوة تبوك من الطُّلَقاء وغيرهم، وقد فاتتهم الهجرة، لكن لَم يَفُتهم الجهادُ والنيَّة والنَّفيرُ عند الاستنفار؟! فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد