الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون والكفَّار ولَّى المسلمون مُدبرين، فطَفِق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُركضُ بغْلَتَه قِبَل الكفَّار، قال عباس: وأنا آخذٌ بلجام بغلةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفُّها إرادةَ أن لا تُسرِع، وأبو سفيان آخذٌ برِكاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
)) الحديث.
وهذان الصحابيان الجليلان عمُّه وابنُ عمِّه اللذان ثَبَتَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولَم يفِرَّا يوم حُنين وقد عادت مصلحةُ إسلامهما في هذه الغزوة على الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يعتبرهما المالكي من الصحابة؛ لأنَّ إسلامهما بعد الحُديبية، وهو يقصُر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية.
الخامس: أنَّ قولَه: ((أمَّا بعد فتح مكة فأصبح الالتحاق بالمسلمين يعني الغنيمة والسلامة؛ لكثرة المال وأمن القتل)) غيرُ صحيح؛ لأنَّ المجاهدَ في سبيل الله ليست سلامتُه من القتل مُحقَّقةً؛ فإنَّه قد يُقتل وقد يسلَم.
السادس: أمَّا ما ذكره من أنَّ أبناءَ المهاجرين لا يدخلون في المهاجرين، وأنَّ أبناءَ الأنصار لا يدخلون في الأنصار، وقد قصَر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار، فمُقتضاه أنَّ أبناء المهاجرين والأنصار ليسوا من الصحابة، وسبق أن ذكرتُ أنَّ مَن رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم من أبناء المهاجرين والأنصار فهو من الصحابة، بخلاف مَن لَم يرَه منهم.
* * *
استدلالُه بآيات سورة الحشر والرد عليه:
وقال في (ص:30 ـ 31) : ((الدليل الثالث: وهو مفسِّرٌ للدليل السَّابق، وهو قول الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
أقول: أيضاً في هذه الآية قَصَر الله عز وجل الثناءَ على المهاجرين والأنصار، وأخبرنا بعلاماتهم، ثمَّ فصَّل في الإحسان المشتَرَط فيمَن بعدهم بأنَّه ـ إضافة لصالح الأعمال ـ من علاماته الكبرى الدعاء للسابقين من المهاجرين والأنصار، وعدم التعرُّض لهم ببُغض أو سبٍّ.
{والَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} ليس المقصود منهم إلَاّ المهاجرين والأنصار فقط، كما تدلُّ عليه الآيات السابقة دلالة واضحة، ويقول البغوي في تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} يعني التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة. اهـ.
أقول: فهذا إقرارٌ من البغوي بأنَّ مَن بعد المهاجرين والأنصار يُسمون (التابعين) ، يعنِي أنَّ الناسَ مِن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، مروراً بمعاوية والوليد، وانتهاءً بنا في هذا العصر مأمورون بحبِّ المهاجرين والأنصار، الذين قام عليهم الإسلام حتى استوى، ومأمورون بالدعاء لهم والاستغفار لهم؛ لأنَّهم السببُ بعد الله ورسولِه في قيام هذا الدِّين، بل مَن أسلم بعد الحُديبية إلى فتح مكة مأمورون ابتداءً، ومَن بعدهم من باب الأولى)) .
وعلَّق في الحاشية عند قوله: ((الدعاء للسابقين من المهاجرين والأنصار، وعدم التعرُّض لهم ببُغض أو سبٍّ)) بقوله: ((وهذا الإحسان لَم
يفعله بعضُ الطُّلَقاء كمعاوية والوليد بن عُقبة وبُسر بن أبي أرطاة والذين حاربوا السابقين كعليٍّ وعمَّار والبدريِّين والرِّضوانيِّين الذين كانوا مع علي، بالإضافة إلى سبِّهم عليًّا على المنابر، وسَنِّ هذه السنة السيِّئة، إذن فالذين طعنوا في الصحابة هم أولئك الطُّلَقاء، وهم أوَّلُ من خالف الأمر الإلَهي بالاستغفار للذين سبقونا بالإيمان!!)) .
وعلَّق في الحاشية أيضاً على قوله: (( {والَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} ليس المقصود منهم إلَاّ المهاجرين والأنصار فقط، كما تدلُّ عليه الآيات السابقة دلالة واضحة)) بقوله: ((وعلى هذا فلا حُجَّة للذين يستدلُّون بهذه الآيات على وجوب السكوت عن دراسة التاريخ وذِكر الظالمين بظلمِهم والعادلين بعدلِهم؛ حتى يعرفَ الناسُ موطنَ القُدوة والتأسِّي من السلف!!)) .
ويُجاب عن استدلاله بما يلي:
الأول: أنَّ الآيات الثلاث في بيان مصارف الفيء، وهي مشتملةٌ على الثناء على المهاجرين والأنصار، ولا دليل فيها على ما أراده المالكي من قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية.
الثاني: أنَّ الآيةَ الثالثة في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصارمن فتح مكة وما بعده، داعين لهم لسبقهم بالإيمان، وسائلين الله عز وجل سلامةَ قلوبهم من الغلِّ للذين آمنوا، وليس فيها خروجُ من أسلم بعد الحُديبية وقبل فتح مكة، كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ونحوهما من وصْف الصُّحبة والهجرة، كما زعم المالكي.
الثالث: أنَّ ما جرى من خلاف بين بعض المهاجرين السابقين كعليٍّ رضي الله عنه وبين بعض مَن أسلموا عام الفتح أو قبله أو بعده لا يقتضي
نَيل مَن بعدهم مِن أحدٍ منهم، بل الواجب مَحبَّة الجميع والثناء عليهم والدعاء لهم وإنزالهم منازلهم، وقد وُعدوا جميعاً بالحُسنى، وما كان في قلوبهم من غلٍّ إن بقي فإنَّ الله ينزعُه كما أخبر بذلك في كتابه العزيز بقوله في سورتي الأعراف والحِجر:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} ، وما أحسن ما قاله شارح الطحاوية:((والفتنُ التي كانت في أيَّامه ـ يعنِي أميرَ المؤمنين عليًّا رضي الله عنه قد صان الله عنها أيدينا، فنسألُ الله أن يَصون ألسِنَتنا بِمَنِّه وكرمِه)) .
قال الشوكاني عند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} قال بعد أن فسَّر الذين جاؤوا من بعدهم أي بعد المهاجرين والأنصار بأنَّهم التابعون لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، قال: ((أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغِلَّ للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابةُ دخولاً أوَّليًّا؛ لكونهم أشرفَ المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمَن لَم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآيةِ، فإن وَجَدَ في قلبِه غِلاًّ لهم فقد أصابه نَزْغٌ من الشيطان وحلَّ به نصيبٌ وافرٌ من عصيان الله بعداوة أوليائه وخِيرة أمَّة نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم، وانفتح له بابٌ من الخذلان يَفِدُ به على نار جهنَّم إن لَم يتدارَك نفسَه باللُّجوء إلى الله سبحانه، والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طَرَقَه مِن الغِلِّ لِخَيرِ القرون وأشرفِ هذه الأمَّة، فإن جاوز ما يَجده من الغِلِّ إلى شَتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسَخطِه، وهذا الدَّاءُ العُضال
إنَّما يُصاب به مَن ابتُلي بِمُعلِّم من الرافضة أو صاحبٍ من أعداء خير الأمَّة الذين تلاعب بهم الشيطانُ وزيَّن لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرَفَهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه، وعن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كلِّ عصرٍ من العصور، فاشتروا الضَّلالةَ بالهُدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالرِّبح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلُهم من منزلة إلى منزلة،
ومن رُتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداءَ كتاب الله وسُنَّة رسوله وخير أمَّته وصالِحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدِّين، وسَعوا في كيد الإسلام وأهله كلَّ السَّعي، ورَموا الدِّينَ وأهلَه بكلِّ حَجَرٍ ومَدَر، والله من ورائهم مُحيط)) . اهـ.
الرابع: أمَّا ما أشار إليه حول دراسة التاريخ، فيُجاب عنه بأنَّ دراسةَ التاريخ لها حالتان:
الأولى: دراسة مع سلامة القلوب والألسنة في حقِّ جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعتمد على تَمييز ما صحَّ من أخبار عنهم مِمَّا لَم يصحَّ، فيُطَّرح ما لَم يصحَّ، وما صحَّ فيُحمَلُ على أحسن المحامل، ويُحسَّن بهم الظنُّ، ويُدعى لهم ويُستغفرُ لهم، فهذه الدراسة محمودة.
والثانية: دراسةٌ خالية من سلامة القلوب والألسنة في حقِّ جميع الصحابة، تنبنِي على الغلوِّ في بعضٍ والجفاءِ في بعضٍ، وينتُج عنها إفسادُ النفوس وإيغارُ الصدور ومَلءُ القلوب بأمراض الشبُهات، وتعتمدُ على إظهار ما خبث من كلِّ ما جاء في التاريخ مِمَّا لَم يكن له خطام أو زِمام، فهذا النوع من الدراسة للتاريخ مذموم وحرام، ودراسة المالكي من هذا
النَّوع المذموم، ويمكن معرفةُ حقيقة ذلك بالاطِّلاع على ما نقلته من كلامه ورددتُ عليه، ولا سيَما تشكيكه في أَحقيَّة أبي بكر بالخلافة، فقد جاء فيه أنَّ عليًّا رضي الله عنه لو كان موجوداً ـ أي في السقيفة ـ لَتَمَّ له الأمرُ، وذلك رجمٌ بالغيب، و ((لو)) تفتح عمل الشيطان، وأيضاً جاء فيه وصْف الطريقة التي تَمَّت بها بيعة أبي بكر رضي الله عنه بأنَّها تُضعف شرعيَّة البيعة، وتَجعلُها أشبَه ما تكون بالقهر والغلبة، وخلافةُ الخلفاء الراشدين الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترتيبهم مِمَّا أراده الله قَدَراً وشرعاً، فوقوع خلافتهم على هذا الترتيب دالٌّ على تقديره ذلك، وأنَّ الله قد شاءَه فوقع، ولَم يشأْ غيرَه فلَم يقع، ما شاء الله كان وما لَم يشأ لَم يكن، ويدلُّ لكونه مراداً شرعاً ما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((
…
فإنَّه مَن يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي)) الحديث، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي:((حديث حسن صحيح)) ، ويدلُّ له أيضاً حديثُ سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلافةُ النبوة ثلاثون سنة، ثمَّ يُؤتي الله المُلْكَ أو مُلْكَه مَن يشاء)) رواه أبو داود (4646) وغيرُه، ونقل تصحيحَه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (460) عن تسعة من العلماء.
أمَّا الزعم بأنَّ الطريقةَ التي تَمَّت بها بيعة أبي بكر رضي الله عنه تُضعفُ شرعيَّة البيعة، وتجعلها أشبهَ ما تكون بالقهر والغلبة، فهو كلامٌ يُنادي على قائله بأنَّه في وادٍ، والسُّنةَ وأهلَها في وادٍ آخر، وسيأتي الرَّدُّ عليه عند ذِكر تشكيكه في أحقِّية أبي بكر بالخلافة.
ولكلِّ ساقطةٍ لاقطة، فهذه القراءة المزعومة من المالكي في كتب العقائد