الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَكُنْ عِلْمُهُ بِتَعَلُّمٍ. وَفِي تَعْمِيمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِالْكُلِّيَّاتِ لَا بِالْجُزْئِيَّاتِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالُوا: عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى يَتَمَيَّزُ عَلَى عِلْمِ عِبَادِهِ بِكَوْنِهِ وَاحِدًا يَعْلَمُ بِهِ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ، وَبِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِهَا، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ حَاسَّةٍ وَلَا فِكْرٍ، وَبِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لِثُبُوتِ امْتِنَاعِ زَوَالِهِ، وَبِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ عِلْمٌ عَنْ عِلْمٍ، وَبِأَنَّ مَعْلُومَاتِهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَفِي قَوْلِهِمْ لَا يَشْغَلُهُ عِلْمٌ عَنْ عِلْمٍ، يُرِيدُونَ، مَعْلُومٌ عَنْ مَعْلُومٍ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَلَا يَشْغَلُهُ تَعَلُّقُ عِلْمِ شَيْءٍ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ.
وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي إِلَى آخِرِ قَوْلِهِ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:
أَنَّ مَا ضَرَبَ بِهِ الْمَثَلَ فِي كِتَابِهِ: مِنْ مُسْتَوْقِدِ النَّارِ، وَالصَّيِّبِ، وَالذُّبَابِ، وَالْعَنْكَبُوتِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، فِيهِ عَجَائِبُ مِنَ الْحِكَمِ الْخَفِيَّةِ، وَالْجَلِيَّةِ، وَبَدَائِعِ الْفَصَاحَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمُوَافَقَةِ الْمَثَلِ لِمَا ضُرِبَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي مثله إلا مثله، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَمَدْحُ مَنْ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، وَذَمُّ مَنْ أَنْكَرَهُ وَعَابَهُ، وَأَنَّ فِي ضَرْبِهِ هُدًى لِمَنْ آمَنَ، وَضَلَالًا لِمَنْ صَدَّ عَنْهُ، وَذَمُّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ وَقَطَعَ مَا يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، وَإِعْلَامُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ خُسْرَانِهِ، وَالْإِعْلَامُ أَنَّ نَاقِضِي عَهْدِهِ هُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِمْ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَأَنَّهُ جَامِعُهُمْ وَبَاعِثُهُمْ وَمُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ أَشَدُّ التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ. ثُمَّ بَعْدَ التَّخْوِيفِ ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ: مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ الْمُقِلَّةِ، وَالسَّمَاءِ الْمُظِلَّةِ، وَالْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، لِيَجْمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَوْعِظَةُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا ذُو الْعَقْلِ السَّلِيمِ وَالذِّهْنِ الْمُسْتَقِيمِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بالفصل الْأَكْبَرِ مِنْ إِعْلَامِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الابتداء إلى الانتهاء.
[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 33]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
إِذْ: اسْمٌ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ مَبْنِيٌّ لِشَبَهِهِ بِالْحَرْفِ وَضْعًا أَوِ افْتِقَارًا، وَهُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ لِلْمَاضِي، وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أَوْ فِعْلِيَّةٌ، وَإِذَا كَانَتْ فَعِلْيَةً قَبُحَ تَقْدِيمُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمُصَدَّرَةِ بِالْمُضَارِعِ، وَعَمَلُ الْمُضَارِعِ فِيهِ مِمَّا يَجْعَلُ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا، وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلظَّرْفِيَّةِ إِلَّا أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ زَمَانٌ، وَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، وَلَا حَرْفًا لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الْمُفَاجَأَةِ، وَلَا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَلَا زَائِدَةً، خِلَافًا لِزَاعِمِي ذَلِكَ، وَلَهَا أَحْكَامٌ غَيْرُ هَذَا ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ.
الْمَلَكُ: مِيمُهُ أَصْلِيَّةٌ وَهُوَ فَعَلٌ مِنَ الْمَلْكِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَلَا حَذْفَ فِيهِ، وَجُمِعَ عَلَى فَعَائِلَةٍ شُذُوذًا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ مَلَاكٌ عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ، وَقَدْ جَمَعُوا فَعَالًا الْمُذَكَّرَ، وَالْمُؤَنَّثَ عَلَى فَعَائِلَ قَلِيلًا. وَقِيلَ وَزْنُهُ فِي الْأَصْلِ فَعْأَلٌ نَحْوَ شَمْأَلٍ ثُمَّ نَقَلُوا الْحَرَكَةَ وَحَذَفُوا، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ مَلْأَكٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَأَ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْهَمْزَةُ زَائِدَةً فِي فَاءِ الْكَلِمَةِ وَعَيْنِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْفَاءُ لَامٌ، وَالْعَيْنُ هَمْزَةٌ، مِنْ لَاكَ إِذَا أَرْسَلَ، وَهِيَ لُغَةٌ مَحْكِيَّةٌ، فَمَلَكٌ أَصْلُهُ مَلْأَكٌ، فَخُفِّفَ بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ وَالْحَذْفِ إِلَى فَعَلٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَسْتَ لَإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ
…
تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
فَجَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْفَتْحِ، وَمَلَائِكَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَفَاعِلَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْفَاءُ هَمْزَةٌ، وَالْعَيْنُ لَامٌ مِنَ الْأَلُوكَةِ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا أَصُلُهُ مَأْلُكًا، وَيَكُونُ مَلْأَكٌ مَقْلُوبًا، جُعِلَتْ فَاؤُهُ مَكَانَ عَيْنِهِ، وَعَيْنُهُ مَكَانَ فَائِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فِي وَزْنِهِ مَعْلًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْفَاءُ لَامٌ، وَالْعَيْنُ وَاوٌ، مِنْ لَاكَ الشَّيْءَ: أَدَارَهُ فِي فِيهِ، وَصَاحِبُ الرِّسَالَةِ يُدِيرُهَا فِي فِيهِ، فَهُوَ مَفَعْلٌ مِنْ ذَلِكَ، نَحْوَ: مَعَاذٌ، ثُمَّ حَذَفُوا الْعَيْنَ تَخْفِيفًا. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ وَزْنُهُ مَعْلًا، وَمَلَائِكَةٌ عَلَى الْقَوْلِ مَفَاعِلَةٌ، وَالْهَمْزَةُ أُبْدِلَتْ مِنْ وَاوٍ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي مَصَائِبَ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْمَلَكُ لَا تَشْتَقُّ الْعَرَبُ فِعْلَهُ وَلَا تَصْرِفُهُ، وَهُوَ مِمَّا فَاتَ عِلْمُهُ، انْتَهَى. وَالتَّاءُ فِي الْمَلَائِكَةِ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ وَرَدَ بِغَيْرِ تَاءٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنَا خَالِدٌ صَلَّتْ عَلَيْكَ الْمَلَائِكُ خَلِيفَةً: فَعِيلَةً، وَفَعِيلَةٌ تَأْتِي بِمَعْنَى الْفَاعِلِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَالْعَلِيمِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالنَّطِيحَةِ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. السَّفْكُ: الصَّبُّ وَالْإِرَاقَةُ، لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الدَّمِ، وَيُقَالُ:
سَفَكَ وَسَفَّكَ وَأَسْفَكَ بِمَعْنًى، وَمُضَارِعُ سَفَكَ يَأْتِي عَلَى يَفْعِلُ وَيَفْعُلُ. الدِّمَاءَ: جَمْعُ دَمٍ، وَلَامُهُ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ مَحْذُوفَةٌ لِقَوْلِهِمْ: دَمَيَانِ وَدَمَوَانِ، وَقَصْرُهُ وَتَضْعِيفُهُ مَسْمُوعَانِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَالْمَحْذُوفُ اللَّامُ، قِيلَ: أَصْلُهُ فَعِلَ، وقيل: فعل، التسبح: تَنْزِيهُ اللَّهِ وَتَبْرِئَتُهُ عَنِ السُّوءِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّبْحِ، وَهُوَ الْجَرْيُ. وَالْمُسَبِّحُ جَارٍ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى، التَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، وَمِنْهُ الْقَدَسُ:
السَّطْلُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَالْقُدَاسُ: الْجُمَانُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَنَظْمِ قُدَاسٍ سِلْكُهُ مُتَقَطِّعُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَدَسَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ. عَلَّمَ: مَنْقُولٌ مِنْ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ فِي النَّقْلِ، فَعَدُّوا تِلْكَ بِالتَّضْعِيفِ، وَهَذِهِ بِالْهَمْزَةِ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الشُّلُوبِينُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّرْحِ. آدَمَ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ كَآزَرَ وَعَابَرَ، مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَفْعَلُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُدْمَةِ، وَهِيَ كَالسُّمْرَةِ، أَوْ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، وَهُوَ وَجْهُهَا، فَغَيْرُ صَوَابٍ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ نَصَّ التَّصْرِيفِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ عِبْرِيٌّ مِنَ الْإِدَامِ، وَهُوَ التُّرَابُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فَاعِلٌ مِنْ أديم الأرض فخطؤه ظاهر لِعَدَمِ صَرْفِهِ، وَأَبْعَدَ الطَّبَرِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ فِعْلٌ رُبَاعِيٌّ سُمِّيَ بِهِ. الْعَرْضُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ حَتَّى تُعْرَفَ جِهَتُهُ. الْإِنْبَاءُ: الْإِخْبَارُ، وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ الْوَاحِدُ بِنَفْسِهِ وَالثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، وَيَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الْحَرْفِ، وَيُضَمَّنُ مَعْنَى أَعْلَمَ فَيَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ. هَؤُلَاءِ: اسْمُ إِشَارَةٍ لِلْقَرِيبِ، وَهَا: لِلتَّنْبِيهِ، وَالِاسْمُ أُولَاءِ: مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ، وَقَدْ تُبْدَلُ هَمْزَتُهُ هَاءً فَيُقَالُ:
هلاء، قد يُبْنَى عَلَى الضَّمِّ فَيُقَالُ: أُولَاءُ، وَقَدْ تُشْبَعُ الضَّمَّةُ قَبْلَ اللَّامِ فَيُقَالُ: أُولَاءِ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَقَدْ يُقَالُ: هؤلاء بِحَذْفِ أَلِفِ هَا وَهَمْزَةِ أُولَاءِ وَإِقْرَارِ الْوَاوِ الَّتِي بَعْدَ تِلْكَ الْهَمْزَةِ، حَكَاهُ الأستاذ أبو علي الشلوبين، وَأَنْشَدَ قَوْلَهُ:
تَجَلَّدْ لَا تَقُلْ هَوْلَاءِ هَذَا
…
بَكَى لَمَّا بَكَى أَسَفًا عَلَيْكَا
وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ: أَنَّ الْمَدَّ فِي أُولَاءِ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْقَصْرَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَزَادَ غَيْرُهُ أَنَّهَا لُغَةُ بَعْضِ قَيْسٍ وَأَسَدٍ، وَأَنْشَدَ لِلْأَعْشَى:
هؤلاء ثم هؤلاء كُلًّا
…
أَعْطَيْتَ نِعَالًا مَحْذُوَّةً بِنِعَالِ
وَالْهَمْزَةُ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ لَامُ الْفِعْلِ، فَفَاؤُهُ وَلَامُهُ هَمْزَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ
وَقَعَتْ بَعْدَ أَلِفٍ فَقُلِبَتْ هَمْزَةً. سُبْحَانَكَ: مَعْنَاهُ تَنْزِيهُكَ، وَسُبْحَانَ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْتَصِبُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ مِنْ مَعْنَاهُ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَزِمَتِ النَّصْبَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَيُضَافُ وَيُفْرَدُ، فَإِذَا أُفْرِدَ كَانَ مُنَوَّنًا، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
سُبْحَانَهُ ثُمَّ سَبْحَانًا نَعُوذُ بِهِ
…
وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجَمَدُ
فَقِيلَ: صَرَفَهُ ضَرُورَةً، وَقِيلَ: لِجَعْلِهِ نَكِرَةً وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أقول لما جاءني فخبره
…
سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ
جَعَلَهُ عَلَمًا فَمَنَعَهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا أُفْرِدَ كَانَ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، فَعَادَ إِلَيْهِ التَّنْوِينُ، وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْهُ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. الْحَكِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلِ، مِنْ أَحْكَمَ الشَّيْءَ: أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ عَمَّا يُرِيدُهُ. الْإِبْدَاءُ: الْإِظْهَارُ، وَالْكَتْمُ: الْإِخْفَاءُ.
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: لَمْ يَرِدْ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ شَيْءٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَكَانَ قَبْلَهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَدْءِ خَلْقِهِمْ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِتَشْرِيفِ أَبِيهِمْ وَتَكْرِيمِهِ وَجَعْلِهِ خَلِيفَةً وَإِسْكَانِهِ دَارَ كَرَامَتِهِ، وَإِسْجَادِ الْمَلَائِكَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَكَانِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْعِلْمِ الَّذِي بِهِ كَمَالُ الذَّاتِ وَتَمَامُ الصِّفَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْأَصْلِ إِحْسَانٌ إِلَى الْفَرْعِ، وَشَرَفُ الْفَرْعِ بِشَرَفِ الْأَصْلِ. وَاخْتَلَفَ الْمُعْرِبُونَ فِي إِذْ، فَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إِلَى زِيَادَتِهَا، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ ضَعِيفَيْنِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى قَدْ، التَّقْدِيرُ: وَقَدْ قَالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ بِاذْكُرْ، أَيْ وَاذْكُرْ: إِذْ قالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ فِيهِ إِخْرَاجَهَا عَنْ بَابِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ الظَّرْفِيَّةِ، أَوْ بِإِضَافَةِ ظَرْفِ زَمَانٍ إِلَيْهَا.
وَأَجَازَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَنَاسٌ قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا ظَرْفٌ.
وَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ: ابْتِدَاءُ خَلْقِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، التَّقْدِيرُ: وَابْتِدَاءُ خَلْقِكُمْ، إِذْ قَالَ رَبُّكَ. وَنَاسَبَ هَذَا التَّقْدِيرَ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ:
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا تَحْرِيرَ فِيهِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خَلْقِنَا لَمْ يَكُنْ وقت قول الله لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْعَامِلَ في
(1) سورة البقرة: 2/ 29.
الظَّرْفِ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَمَّا أَنْ يَسْبِقَهُ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ ظَرْفًا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ إِذْ مَنْصُوبٌ يقال بَعْدَهَا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ إِذْ مُضَافَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ نَصْبَهَا بأحياكم، تَقْدِيرُهُ:
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ «1» ، إِذْ قالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ حَذْفٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَيْسَ وَاقِعًا فِي وقت قول الله للملائكة، وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ، وَإِبْقَاءُ مَعْمُولِ الصِّلَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ معمول لخلقكم مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ «2» إِذْ قالَ رَبُّكَ، فَتَكُونُ الْوَاوُ زَائِدَةً، وَيَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الَّتِي كَادَتْ أَنْ تَكُونَ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ، لِاسْتِبْدَادِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا بِمَا سِيقَتْ لَهُ، وَعَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِمَا قَبْلَهَا التَّعَلُّقَ الْإِعْرَابِيَّ.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهَا. وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعَرَبِيَّةُ نَصْبُهُ بِقَوْلِهِ: قالُوا أَتَجْعَلُ، أَيْ وَقْتَ قَوْلِ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَتَجْعَلُ، كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: إِذْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، أَيْ وَقْتَ مَجِيئِكَ أَكْرَمْتُكَ، وَإِذْ قُلْتَ لِي كَذَا قُلْتُ لَكَ كَذَا. فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْوَجْهِ السَّهْلِ الْوَاضِحِ، وَكَيْفَ لَمْ يُوَفَّقْ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَارْتَبَكُوا فِي دَهْيَاءَ وَخَبَطُوا خَبْطَ عَشْوَاءَ. وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى الرَّبِّ فِي غَايَةٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالْبَيَانِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ، كَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لِأَحْوَالِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ الرَّبِّ وَإِضَافَتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِخِطَابِهِ، وَهَزٌّ لِاسْتِمَاعِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَرِيبِ افْتِتَاحِ هَذَا الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ، وَابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَمَآلِهِ. وَهَذَا تَنْوِيعٌ فِي الْخِطَابِ، وَخُرُوجٌ مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ إِلَى الْخِطَابِ الْخَاصِّ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُقْبَلَ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ لَهُ الْحَظُّ الْأَعْظَمُ وَالْقِسْمُ الْأَوْفَرُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا، إِذْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَعْظَمُ خُلَفَائِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ وَدُعَائِهِ وَجَعْلِ أَفْضَلِ أَنْبِيَائِهِ أَمَّ بِهِمْ لَيْلَةَ إِسْرَائِهِ، وَجَعَلَ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ لِوَائِهِ، فَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ وَفِي دَارَيْ تَكْلِيفِهِ وَجَزَائِهِ. وَاللَّامُ فِي لِلْمَلَائِكَةِ: لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا اللَّامُ، فَظَاهِرُ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ الْعُمُومُ. وَقَالَ بِذَلِكَ قَوْمٌ، وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ عَامٌّ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ الْجَانِّ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُحَارِبُونَ مَعَ إِبْلِيسَ. وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ إِنِّي جَاعِلٌ، وَكَانَ ذَلِكَ مُصَدَّرًا بأن، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا، وَأَنَّ هَذَا واقع لا محالة وإن تُكْسَرُ بَعْدَ الْقَوْلِ، وَلِفَتْحِهَا بعده عند
(1) سورة الحج: 22/ 66.
(2)
سورة البقرة: 2/ 21.
أَكْثَرِ الْعَرَبِ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَبَنُو سُلَيْمٍ يَفْتَحُونَهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ:
إِذَا قلت إني آئب أَهْلَ بَلْدَةٍ
…
نَزَعْتُ بِهَا عَنْهَا الْوَلِيَّةَ بِالْهَجْرِ
جَاعِلٌ: اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَيَجُوزُ إِضَافَتُهُ لِلْمَفْعُولِ إِلَّا إِذَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا كَهَذَا، فَلَا يَجُوزُ، وَإِذَا جَازَ إِعْمَالُهُ، فَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْإِضَافَةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ الْإِضَافَةَ أَحْسَنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ اخْتِيَارِنَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَا كَتَبْنَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَفِي الْجَعْلِ هُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَالثَّانِي هُوَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: مُصَيِّرٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ سَائِغٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدِي أَجْوَدُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها؟
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَلَوْ كَانَ الْجَعْلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَعْنَى التَّصْيِيرِ لَذَكَرَهُ ثَانِيًا، فَكَانَ: أَتَجْعَلُ فِيهَا خَلِيفَةً مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا؟ وَإِذَا لَمْ يَأْتِ كَذَلِكَ، كَانَ مَعْنَى الْخَلْقِ أَرْجَحَ. وَلَا احْتِيَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ خَلِيفَةً لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِضْمَارٌ، وَكَلَامٌ بِغَيْرِ إِضْمَارٍ أَحْسَنُ مِنْ كَلَامٍ بِإِضْمَارٍ، وَجُعِلَ الْخَبَرُ اسْمَ فَاعِلٍ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ دُونَ التَّجَدُّدِ شَيْئًا شَيْئًا.
وَالْجَعْلُ: سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ أَوِ التَّصْيِيرِ، وَكَانَ آدَمُ هُوَ الْخَلِيفَةَ عَلَى أَحْسَنِ الْفُهُومِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا تَكَرُّرَ فِيهِ، إِذْ لَمْ يَخْلُقْهُ أَوْ لَمْ يُصَيِّرْهُ خَلِيفَةً إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ: ظَاهِرُهُ الْأَرْضُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: أَرْضُ مَكَّةَ.
وَرَوَى ابْنُ سَابِطٍ هَذَا التَّفْسِيرَ بِأَنَّهَا أَرْضُ مَكَّةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ، قِيلَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَ وَسَطُهَا بَكَّةَ، لِأَنَّ الْأَرْضَ بُكَّتْ من تحتها، واختصت بلا ذكر لِأَنَّهَا مَقَرُّ مَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَدُفِنَ بِهَا نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالرُّكْنِ، وَتَكُونُ الألف واللام فيها للعهد نَحْوَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ «1» ، وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ «2» اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «3» ، وقال الشاعر:
(1) سورة يوسف: 12/ 80. [.....]
(2)
سورة يوسف: 12/ 21.
(3)
سورة القصص: 28/ 5.
يَقُولُونَ لِي أَرْضُ الْحِجَازِ حديثة
…
فَقُلْتُ وَمَا لِي فِي سِوَى الْأَرْضِ مَطْلَبُ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَلِيفَةً، بِالْفَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَالِفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَخْلُوفِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَانَ مَعْنَاهُ: الْقَائِمُ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي جُعِلَ إِلَيْهِ. وَالْخَلِيفَةُ، قِيلَ: هُوَ آدَمُ لِأَنَّهُ خَلِيفَةٌ عَنِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ عَنِ الْجِنِّ بَنِي الْجَانِّ، أَوْ عَنْ إِبْلِيسَ فِي مُلْكِ الْأَرْضِ، أَوْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وابن عباس. وَالْأَنْبِيَاءُ هُمْ خَلَائِفُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى آدَمَ لِأَنَّهُ أَبُو الْخَلَائِفِ، كَمَا اقْتُصِرَ عَلَى مُضَرٍ وَتَمِيمٍ وَقَيْسٍ، وَالْمُرَادُ الْقَبِيلَةُ. وَقِيلَ: وَلَدُ آدَمَ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: إِذَا هَلَكَتْ أُمَّةٌ خَلَفَتْهَا أُخْرَى، قَالَهُ الْحَسَنُ، فَيَكُونُ مُفْرَدًا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، كَمَا جَاءَ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ «1» لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «2» . وَقِيلَ: الْخَلِيفَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ تَدْبِيرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمْ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ الرُّومَ: قَيْصَرٌ، وَالْفُرْسَ: كِسْرَى، وَالْيَمَنَ: تُبَّعٌ. وَفِي الْمُسْتَخْلَفِ فِيهِ آدَمُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحُكْمُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ. الثَّانِي: عِمَارَةُ الْأَرْضِ، يَزْرَعُ وَيَحْصُدُ وَيَبْنِي وَيُجْرِي الْأَنْهَارَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو البرهسم عِمْرَانُ: خَلِيقَةً، بِالْقَافِ وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ.
وَخِطَابُ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً إِنْ كَانَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَارَبُوا مَعَ إِبْلِيسَ الْجِنَّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَامَّا بِأَنَّهُ رَافِعُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَمُسْتَخْلَفٌ فِي الْأَرْضِ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ. وَرُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ اللَّهَ أَسْكَنَ الْمَلَائِكَةَ السَّمَاءَ، وَالْجِنَّ الْأَرْضَ، فَعَبَدُوا دَهْرًا طَوِيلًا ثُمَّ أَفْسَدُوا وَحَسَدُوا، فَاقْتَتَلُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ رَأَسَهُمْ إِبْلِيسُ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ، فَهَبَطُوا الْأَرْضَ وَطَرَدُوا الْجِنَّ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَسَكَنُوهَا، وَخَفَّفَ عَنْهُمُ الْعِبَادَةَ، وَأَعْطَى اللَّهُ إِبْلِيسَ مُلْكَ الْأَرْضِ وَمُلْكَ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَخِزَانَةَ الْجَنَّةِ، فَكَانَ يَعْبُدُ تَارَةً فِي الْأَرْضِ وَتَارَةً فِي الْجَنَّةِ، فَدَخَلَهُ الْعُجْبُ وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا إِلَّا أَنِّي أَكْرَمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِجُنُودِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً بَدَلًا مِنْكُمْ وَرَافِعُكُمْ إِلَيَّ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْوَنَ الْمَلَائِكَةِ عِبَادَةً، وَقَالُوا: أَتَجْعَلُ الْآيَةَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَلَائِكَةُ، جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ. فَسَبَبُ الْقَوْلِ: إِرَادَةُ اللَّهِ أَنْ يُطْلِعَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى مَا فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مِنَ الْكِبْرِ وَأَنْ يُظْهِرَ مَا سَبَقَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِهِ.
(1) سورة الأنعام: 6/ 165.
(2)
سورة النور: 24/ 55.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَشْيَاخِهِ: وَأَنْ يَبْلُوَ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ عَجْزَهُمْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ، أَوْ أَنْ يُعَظِّمَ آدَمَ بِذِكْرِ الْخِلَافَةِ قَبْلَ وُجُودِهِ، لِيَكُونُوا مُطْمَئِنِّينَ لَهُ إذا وجدوا، أَوْ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِخَلْقِهِ لِيَسْكُنَ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنْ يُعَلِّمَنَا أَنْ نُشَاوِرَ ذَوِي الْأَحْلَامِ مِنَّا وَأَرْبَابَ الْمَعْرِفَةِ إِذِ اسْتَشَارَ الْمَلَائِكَةَ اعْتِبَارًا لَهُمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، أَوْ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْخِطَابَ بِمَا ذُكِرَ فَيَحْصُلُ مِنْهُمُ الِاعْتِرَافُ وَالرُّجُوعُ عَمَّا كَانُوا يَظُنُّونَ مِنْ كَمَالِ الْعِلْمِ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ عُلُوَّ قَدْرِ آدَمَ فِي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ لِآدَمَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، أَوْ أَنْ يُعَلِّمَنَا الْأَدَبَ مَعَهُ وَامْتِثَالَ الْأَمْرِ، عَقَلْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْقِلْهُ، لِتَحْصُلَ بِذَلِكَ الطَّاعَةُ الْمَحْضَةُ أَوْ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُ الْمَلَائِكَةِ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ فَخَافَتْ وَسَأَلَتْ: لِمَنْ خَلَقْتَ هَذَا؟ قَالَ: لِمَنْ عَصَانِي. إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا وُجُودَ خَلْقٍ سِوَاهُمْ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً: سَابِقُ الْعِنَايَةِ، لَا يُؤَثِّرْ فِيهِ حُدُوثُ الْجِنَايَةِ، وَلَا يَحُطُّ عَنْ رُتْبَةِ الْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّبَ آدَمَ خَلِيفَةً عَنْهُ فِي أَرْضِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا يَحْدُثُ عنه مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُ الْإِخْرَاجَ مِنْ دَارِ الْكَرَامَةِ وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْأَكْدَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْلُبْهُ مَا أَلْبَسَهُ مِنْ خُلَعِ كَرَامَتِهِ، وَلَا حَطَّهُ عَنْ رُتْبَةِ خِلَافَتِهِ، بَلْ أَجْزَلَ لَهُ فِي الْعَطِيَّةِ فَقَالَ: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى «1» ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ
…
جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ
كَانَ عُمَرُ يَنْقُلُ الطَّعَامَ إِلَى الْأَصْنَامِ وَاللَّهُ يُحِبُّهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَتَظُنُّنِي مِنْ زَلَّةٍ أَتَعَتَّبُ
…
قَلْبِي عَلَيْكَ أَرَقُّ مِمَّا تَحْسَبُ
وَيُقَالُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ مَا خَلَقَ وَلَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا قَالَ فِي حَدِيثِ آدَمَ، حَيْثُ قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَظَاهِرُ هَذَا الْخِطَابِ تَنْبِيهٌ لِشَرَفِ خَلْقِ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا، وَالْعَرْشِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ انْتِظَامِ الْأَجْزَاءِ وَكَمَالِ الصُّورَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنِّي خَالِقٌ عَرْشًا أَوْ جَنَّةً أَوْ مُلْكًا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا لِآدَمَ. قَالُوا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِي الْعَامِلِ إِذْ هُوَ، قَالُوا: وَمَعْمُولُهُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أَتَجْعَلُ؟ وَلَمَّا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ لَا تَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا تَسْبِقُ بِالْقَوْلِ، لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها الْآيَةَ، إِلَّا عَنْ نَبَأٍ وَمُقَدَّمَةٍ، فَقِيلَ:
الْهَمْزَةُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا لِلِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ قَدْ صَحِبَهُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، قَالَهُ مَكِّيٌّ وغيره، كأنهم
(1) سورة طه: 20/ 122.
تَعَجَّبُوا مِنَ اسْتِخْلَافِ اللَّهِ مَنْ يَعْصِيهِ أَوْ مَنْ يعصيان مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ فِي أَرْضِهِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعْظَامِ، وَالْإِكْبَارِ لِلِاسْتِخْلَافِ وَالْعِصْيَانِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا
…
وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ قَدْ سَبَقَ، إِمَّا بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ بِمُشَاهَدَةٍ فِي اللَّوْحِ، أو يكون ومخلوق غَيْرُهُمْ وَهُمْ مَعْصُومُونَ، أَوْ قَالُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ فَأَفْسَدَ قَبْلَ سُكْنَى الْمَلَائِكَةِ، أَوِ اسْتَنْبَطُوا ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ خَلِيفَةً، إِذِ الْخَلِيفَةُ مَنْ يَكُونُ نَائِبًا فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ التَّظَالُمِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَحْضٌ، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَقَدَّرَهُ: أَتَجْعَلُ هَذَا الْخَلِيفَةَ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْجِنِّ أَمْ لَا؟ وَفَسَّرَهُ أَبُو الْفَضْلِ التجلي: أَيْ أَمْ تَجْعَلُ مَنْ لَا يُفْسِدُ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُمَا، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أَمْ تتغير؟ فَعَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ لَا مُعَادِلَ لِلِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ مَذْهَبَ التَّعَجُّبِ أَوْ الِاسْتِعْظَامِ أَوِ التَّقْرِيرِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ يَكُونُ الْمُعَادِلُ مَفْعُولَ أَتَجْعَلُ، وَهُوَ مَنْ يُفْسِدُ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الْخَامِسِ تَكُونُ الْمُعَادَلَةُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ قوله، ونحن نسبح بحمدك. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَسْفِكُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَرَفْعِ الْكَافِ. وَقَرَأَ أبو حياة وابن أبي عبلة:
بصم الفاء. وقرىء: وَيَسْفِكُ مِنْ أَسْفَكُ وَيُسَفِّكُ مَنْ سَفَّكَ مُشَدَّدُ الْفَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ:
وَيَسْفِكُ بِنَصْبِ الْكَافِ، فَمَنْ رَفَعَ الْكَافَ عَطَفَ عَلَى يُفْسِدُ، وَمَنْ نَصَبَ فَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ:
هُوَ نَصْبٌ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُوبَ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ الْوَاوِ بِإِضْمَارِ أَنْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ تُقَدَّرُ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ، فَإِذَا قُلْتَ: أَتَأْتِينَا وَتُحَدِّثَنَا وَنَصَبْتَ، كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتُحَدِّثَنَا، أَيْ وَيَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ مَعَ حَدِيثٍ، وكذلك قوله:
أبيت رَيَّانَ الْجُفُونِ مِنَ الْكَرَى
…
وَأَبِيتُ مِنْكَ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ
مَعْنَاهُ: أَيَكُونُ مِنْكَ مَبِيتٌ رَيَّانٌ مَعَ مَبِيتِي مِنْكَ بِكَذَا، وَكَذَلِكَ هَذَا يَكُونُ مِنْكَ جَعْلُ مُفْسِدٍ مَعَ سَفْكِ الدِّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: النَّصْبُ بِوَاوِ الصَّرْفِ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ مَنْ يَجْمَعُ أَنْ يُفْسِدَ وَأَنْ يَسْفِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالنَّصْبُ بِوَاوِ الصَّرْفِ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَمَعْنَى وَاوِ الصَّرْفِ: أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ يَسْتَحِقُّ وَجْهًا مِنَ الْإِعْرَابِ غَيْرَ النَّصْبِ فَيُصْرَفُ بِدُخُولِ الْوَاوِ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَابِ إِلَى النَّصْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ
«1» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، وَكَذَلِكَ: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «2» . فَقِيَاسُ الْأَوَّلِ الرَّفْعُ، وَقِيَاسُ الثَّانِي الْجَزْمُ، فَصَرَفَتِ الْوَاوُ الْفِعْلَ إِلَى النَّصْبِ، فَسُمِّيَتْ وَاوَ الصَّرْفِ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْوَاوِ. وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ أَوَّلًا وَثَنَّى بِقَوْلِ الَمَهْدَوِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ. وَكَيْفَ يَكُونُ أَحْسَنَ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَقُولُ بِهِ الْبَصْرِيُّونَ وَفَسَادُهُ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ؟ وَلَمَّا كَانَتِ الصِّلَةُ يُفْسِدُ، وَهُوَ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي الْفَسَادِ. نَصُّوا عَلَى أَعْظَمِ الْفَسَادِ، وَهُوَ سَفْكُ الدِّمَاءِ، لِأَنَّهُ بِهِ تَلَاشِي الْهَيَاكِلِ الْجُسْمَانِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهِ لَجَازَ أَنْ لَا يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ: يُفْسِدُ، وَكَرَّرَ فِيهَا لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْعِبَادَةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ كَيْفَ يَصِيرُ مَحَلًّا لِلْفَسَادِ؟ كَمَا مَرَّ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «3» وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَكْرِيرِ فِيهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَسْفِكُ، اكْتِفَاءً بِمَا سَبَقَ وَتَنَكُّبًا أَنْ يكرروا فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ نَقَدُوا عَلَى أَبِي الطِّيبِ قَوْلَهُ:
وَنَهْبُ نُفُوسِ أَهْلِ النَّهْبِ أَوْلَى
…
بِأَهْلِ النَّهْبِ مِنْ نَهْبِ الْقُمَاشِ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالتَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ: أَوْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ: وَالْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوِ الصَّلَاةُ، أَيْ نُصَلِّي لَكَ، مِنَ الْمُسَبِّحِينَ: أَيْ مِنَ الْمُصَلِّينَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ التَّعْظِيمُ، أَيْ وَنَحْنُ نُعَظِّمُكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ تَسْبِيحٌ خَاصٌّ، وَهُوَ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ ذِي الْعَظَمَةِ وَالْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَيُعْرَفُ هَذَا بِتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِقَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ.
وَفِي حَدِيثٍ
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ قَالَ: «مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ سُبْحَانَ اللَّهُ وَبِحَمْدِهِ» .
بِحَمْدِكَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْحَالِ، أَيْ نُسَبِّحُ مُلْتَبِسِينَ بِحَمْدِكَ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ بِثِيَابِهِ، وَهِيَ حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ لِأَنَّهَا حَالٌ فِي حَالٍ. وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ حَمْدِكَ، وَالْحَمْدُ هُوَ الثَّنَاءُ، وَالثَّنَاءُ نَاشِيءٌ عَنِ التَّوْفِيقِ لِلْخَيْرِ وَالْإِنْعَامِ عَلَى الْمُثَنَّى، فَنَزَلَ النَّاشِئُ عَنِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ فَقَالَ: وَنَحْنُ نَسْبَحُ بِحَمْدِكَ، أَيْ بِتَوْفِيقِكَ وَإِنْعَامِكَ، والحمد مصدر مضاف
(1) سورة الشورى: 42/ 35.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 142.
(3)
سورة البقرة: 2/ 11.
إِلَى الْمَفْعُولِ نَحْوَ قَوْلِهِ: مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ، أَيْ بِحَمْدِنَا إِيَّاكَ. وَالْفَاعِلُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَحْذُوفٌ فِي بَابِ الْمَصْدَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يحذف وليس ممنوع فِي الْمَصْدَرِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ لَا يُضْمَرُ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَا يُضْمَرُ إِلَّا فِيمَا جَرَى مَجْرَى الْفِعْلِ، إِذِ الْإِضْمَارُ أَصِلٌ فِي الْفِعْلِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَنَحْنُ نَسْبَحُ وَنُقَدِّسُ لَكَ بِحَمْدِكَ، فَاعْتُرِضَ بِحَمْدِكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ مِمَّا يُخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يُحْمَلُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِحَمْدِكَ بَعْدَ نُسَبِّحُ لِاخْتِلَاطِ التَّسْبِيحِ بِالْحَمْدِ. وَجَاءَ قَوْلُهُ بَعْدَ:
وَنُقَدِّسُ لَكَ كَالتَّوْكِيدِ، لِأَنَّ التَّقْدِيسَ هُوَ: التَّطْهِيرُ، وَالتَّسْبِيحُ هُوَ: التَّنْزِيهُ وَالتَّبْرِئَةُ مِنَ السُّوءِ، فَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى. وَمَعْنَى التَّقْدِيسِ كَمَا ذَكَرْنَا التَّطْهِيرُ، وَمَفْعُولُهُ أَنْفُسَنَا لَكَ مِنَ الْأَدْنَاسِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ، أَوْ أَفْعَالَنَا مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، أَوِ الْمَعْنَى:
نُكَبِّرُكَ وَنُعَظِّمُكَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ، أَوْ نُصَلِّي لَكَ، أَوْ نَتَطَهَّرُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ يَعْنُونَ بَنِي آدَمَ. حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ نُطَهِّرُ قُلُوبَنَا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِكَ، واللام في لك قيل زَائِدَةٌ، أَيْ نُقَدِّسُكَ. وَقِيلَ: لَامُ الْعِلَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُقَدِّسُ، قِيلَ: أَوْ بَنُسَبِّحُ وَقِيلَ: معدية للفعل، كهي في سَجَدْتُ لِلَّهِ، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلْبَيَانِ كَاللَّامِ بَعْدَ سَقْيًا لَكَ، فَتَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، أَيْ تَقْدِيسُنَا لَكَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ مُعْدِيَةً لِلْفِعْلِ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ «1» ، وسَبَّحَ لِلَّهِ»
. وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ، أَوْ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أَمْ نَتَغَيَّرُ، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَيَحْذِفُ مُعَادِلَ الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ دُخُولُ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَمْ نَتَغَيَّرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ:
لَعَمْرِكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا
…
بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
يُرِيدُ: أَبِسَبْعٍ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلَّقَ قَبْلَ بِسَبْعٍ وَالْجُزْءَ الْمُعَادِلَ بَعْدَهُ يَدُلَّانِ عَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ. وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، مِمَّا لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجَاوِبُوا بِهِ اللَّهَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَكَانَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ عِصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالِاعْتِرَاضِ، لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْحَشَوِيَّةِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُتَكَلَّمُ
(1) سورة الجمعة: 62/ 1، وسورة التغابن: 64/ 1.
(2)
سورة الحديد: 57/ 1، وسورة الحشر 59/ 1، وسورة الصف: 61/ 1.
عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَدَلَائِلُهَا مَبْسُوطَةٌ هُنَاكَ، احْتَاجَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِلَى إِخْرَاجِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا وَحَمَلَهَا كُلُّ قَائِلٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَى مَا سَبَّحَ لَهُ، وَقَوِيَ عِنْدَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ سَائِغٌ فِي عِلْمِ اللِّسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ: الْمَلَائِكَةُ لَمَّا تَوَهَّمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَهُمْ فِي مَقَامِ الْمَشُورَةِ بِأَنَّ لَهُمْ وَجْهَ الْمُصْلِحَةِ فِي بَقَاءِ الْخِلَافَةِ فِيمَنْ يُسَبِّحُ وَيُقَدِّسُ، وَأَنْ لَا يَنْقُلَهَا إِلَى مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ، فَعَرَضُوا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ النُّصْحِ فِي الِاسْتِشَارَةِ، وَالنُّصْحُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَشَارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْحَكَمُ فِيمَا يَمْضِي مِنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارُ.
وَمِنْ أَنْدَرِ مَا وَقَعَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ (كِتَابِ فَكِّ الْأَزْرَارِ) ، وَهُوَ الشَّيْخُ صِفِيُّ الدِّينَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحسين ابن الْوَزِيرِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْمَنْصُورِ الْخَزْرَجِيُّ، قال: في ذلك الكتاب ظَاهِرِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ يُشْعَرُ بِنَوْعٍ مِنَ الِاعْتِرَاضِ، وَهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَالْبَيَانُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا حِينَ وُرُودِ الْخِطَابِ عَلَيْهِمْ مُجْمَلِينَ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مُنْدَرِجًا فِي جُمْلَتِهِمْ، فَوَرَدَ مِنْهُمُ الْجَوَابُ مُجْمَلًا. فَلَمَّا انْفَصَلَ إِبْلِيسُ عَنْ جُمْلَتِهِمْ بِإِبَائِهِ وَظُهُورِ إِبْلِيسِيَّتِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ، انْفَصَلَ الْجَوَابُ إِلَى نَوْعَيْنِ: فَنَوْعُ الِاعْتِرَاضِ مِنْهُ كَانَ عَنْ إِبْلِيسَ، وَأَنْوَاعُ الطَّاعَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ كَانَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ. فَانْقَسَمَ الْجَوَابُ إِلَى قِسْمَيْنِ، كَانْقِسَامِ الْجِنْسِ إِلَى جِنْسَيْنِ، وَنَاسَبَ كُلُّ جَوَابٍ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، وَصَارَ شَبِيهًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا «1» ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ كُلُّهَا مَقُولَةٌ، وَالْقَائِلُ نَوْعَانِ، فَرُدَّ كُلُّ قَوْلٍ لِمَنْ نَاسَبَهُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ التَّمَدُّحِ إِلَى مَنْ لَهُ الْحُكْمُ فِي التَّوْلِيَةِ مِمَّنْ يَقْصِدُ الْوِلَايَةَ، إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْجَوْرَ وَالْحَيْفَ، وَرَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً.
وَلِذَلِكَ جَازَ لِيُوسُفَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، طَلَبَهُ الْوِلَايَةَ، وَمَدَحَ نَفْسَهُ بِمَا فِيهَا فَقَالَ:
اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ «2» ، قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ، مُضَارِعُ عَلِمَ وَمَا مَفْعُولَةٌ بِهَا مَوْصُولَةٌ، قِيلَ: أَوْ نكرة موصوفة، وقد تقدم: أَنَا لَا نَخْتَارُ، كَوْنَهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَأَجَازَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنْ تَكُونَ أَعْلَمُ هُنَا اسْمًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ فِي مَا أَنْ تَكُونَ مَجْرُورَةً بِالْإِضَافَةِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يَنْصَرِفُ، وأجاز بعضهم أن تكون أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَعْلَمُ مِنْكُمْ، وَمَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَعْلَمُ، أَيْ عَلِمْتُ، وَأَعْلَمُ مَا لا تعلمون.
(1) سورة البقرة: 2/ 135.
(2)
سورة يوسف: 12/ 55.
وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَادِّعَاءُ حَذْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَذْفُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْكُمْ. وَالثَّانِي: الْفِعْلُ النَّاصِبُ لِلْمَوْصُولِ، وَأَمَّا مَا أَجَازَهُ مَكِّيُّ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ غَيْرِ صَحِيحَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ادِّعَاءُ أَنَّ أَفْعَلَ تَأْتِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهَذَا قَالَ بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَخَالَفَهُ النَّحْوِيُّونَ وَرَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ، وَقَالُوا: لا يخلو أَفْعَلُ مِنَ التَّفْضِيلِ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ أَفْعَلَ قَدْ يَخْلُو مِنَ التَّفْضِيلِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ جَوَازَ مَسْأَلَةِ يُوسُفُ أَفْضَلُ إِخْوَتِهِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ فِي جَوَازِ اقْتِيَاسِهِ خِلَافًا، تَسْلِيمًا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مَسْمُوعٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فَقَالَ: وَاسْتِعْمَالُهُ عَارِيًا دُونَ مِنْ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التفضيل، مؤولا بَاسِمِ فَاعِلٍ أَوْ صِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ، مُطَّرِدٌ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَالْأَصَحُّ قَصْرُهُ عَلَى السَّمَاعِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا سُلِّمَ وُجُودُ أَفْعَلِ عَارِيًا مِنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ، فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ أَمْ لَا وَالْقَائِلُونَ بِوُجُودِ ذَلِكَ لَا يَقُولُونَ بِإِعْمَالِهِ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَّا بَعْضُهُمْ، فَأَجَازَ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ كَوْنِ أَفْعَلَ لَا يَخْلُو مِنَ التَّفْضِيلِ، وَلَا مُبَالَاةَ بِخِلَافِ أَبِي عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ كَانَ يُضَعِّفُ فِي النَّحْوِ، وَلَا بِخِلَافِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ بِمَا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، ولو سلمنا إسماع ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَا نُسَلِّمُ اقْتِيَاسَهُ، لِأَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي أُورِدَتْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْقِلَّةِ، مَعَ أَنَّهَا قَدْ تؤولت. ولو سلمنا اقتباس ذَلِكَ، فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ يَعْمَلُ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَكَيْفَ نُثْبِتُ قَانُونًا كُلِّيًّا وَلَمْ نَسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ شَيْئًا مِنْ أَفْرَادِ تَرْكِيبَاتِهِ لَا يُحْفَظُ: هَذَا رَجُلٌ أَضْرَبُ عُمَرًا، بِمَعْنَى ضَارِبٌ عُمَرًا، وَلَا هَذِهِ امْرَأَةٌ أَقْتَلُ خَالِدًا، بِمَعْنَى قَاتِلَةٌ خَالِدًا، وَلَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَكْسَى زَيْدًا جُبَّةً، بِمَعْنَى: كَاسٍ زَيْدًا جُبَّةً. وَهَلْ هَذَا إِلَّا إِحْدَاثُ تَرَاكِيبَ لَمْ تَنْطِقِ الْعَرَبُ بِشَيْءٍ مِنْ نَظِيرِهَا؟ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَكَيْفَ يَعْدِلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَنِ الشَّيْءِ الظَّاهِرِ الْوَاضِحِ مَنْ كَوْنِ أَعْلَمُ فِعْلًا مُضَارِعًا إِلَى هَذَا الَّذِي هُوَ؟ كَمَا رَأَيْتَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِنَّمَا طَوَّلْتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ سَيَأْتِي بَيَانُهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَجَنَّبَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ أَفْعَلَ عَارِيَةً مِنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مَشْهُورٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَنَبَّهْتُ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةُ الدلائل. تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ: مَا لَا تَعْلَمُونَ الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنُ الْعِلْمِ دُونَهُمْ عِلْمُهُ مَا فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مَعَ الْبَغْيِ وَالْمَعْصِيَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَوْ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ أَنْبِيَاءٌ وَصَالِحُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ عِلْمُهُ بِمَنْ يَمْلَأُ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ عِلْمُهُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَيَبْتَلِي مَنْ تَظُنُّونَ أَنَّهُ مُطِيعٌ فَيُؤَدِّيِهِ الِابْتِلَاءُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ،
وَمَنْ تَظُنُّونَ أَنَّهُ عَاصٍ فَيُؤَدِّيِهِ الِابْتِلَاءُ إِلَى الطَّاعَةِ فَيُطِيعُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلْمُهُ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَبَاطِنُهَا، جَلِيُّهَا وَدَقِيقُهَا، عَاجِلُهَا وَآجِلُهَا، صَالِحُهَا وَفَاسِدُهَا، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ عِلْمًا حَقِيقِيًّا، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، أَوْ عِلْمُهُ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ وَلَا نَظَرَ وَلَا تَدَبُّرَ وَلَا فِكْرَ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى هَذَا النَّسَقِ. أَوْ عِلْمُهُ بِأَنَّ مَعَهُمْ إِبْلِيسَ، أَوْ عِلْمُهُ بِاسْتِعْظَامِكُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ إِذَا تَكَلَّمُوا بِالْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي هِيَ أَتُجْعَلُ فِيهَا بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ. وَأَبْهَمَ فِي إِخْبَارِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَعْلَمُهَا دُونَهُمْ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ لَهُ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ فِيمَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهُ وَالرِّضَا بِذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِمَا لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ عَالِمٍ، جَلَّ اللَّهُ وَعَزَّ. وَالْأَحْسَنُ أَنَّ يُفَسَّرَ هَذَا الْمُبْهَمُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ.
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها: لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، أَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِ آدَمَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ لِيُظْهِرَ فَضْلَهُ وَقُصُورَهُمْ عَنْهُ فِي الْعِلْمِ، فَتَأَكَّدَ الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ بِالتَّفْضِيلِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَ هَذَا، لِأَنَّهُ بِهَا يَتِمُّ الْمَعْنَى وَيَصِحُّ هَذَا الْعَطْفُ، وَهِيَ: فَجَعَلَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْخَلِيفَةِ مَحْذُوفًا مَعَ الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ، أَبْرَزَهُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ، نَاصًّا عَلَيْهِ وَمُنَوِّهًا بِذِكْرِهِ بِاسْمِهِ. وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ: وَعَلَّمَ آدَمَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ، قَالَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ. وَهَلِ التَّعْلِيمُ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِي السَّمَاءِ، كَمَا كَلَّمَ مُوسَى فِي الْأَرْضِ، أَوْ بِوَسَاطَةِ مَلَكٍ أَوْ بِالْإِلْهَامِ؟ أَقْوَالٌ أُظْهَرُهَا أَنَّ الْبَارِي تَعَالَى هُوَ الْمُعَلِّمُ، لَا بِوَاسِطَةٍ وَلَا إِلْهَامٍ.
وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَيَزِيدُ الْيَزِيدِيُّ: وَعَلَّمَ آدَمَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ به وَالتَّضْعِيفِ فِي عُلِّمَ لِلتَّعْدِيَةِ، إِذْ كَانَ قَبْلَ التَّضْعِيفِ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَعَدَّى بِهِ إِلَى اثْنَيْنِ. وَلَيْسَتِ التَّعْدِيَةُ بِالتَّضْعِيفِ مَقِيسَةً، إِنَّمَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ السَّمَاعِ، سَوَاءً كَانَ الْفِعْلُ قَبْلَ التَّضْعِيفِ لَازِمًا أَمْ كَانَ مُتَعَدِّيًا، نَحْوَ: عَلِمَ الْمُتَعَدِّيَةُ إِلَى وَاحِدٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا إِلَى اثْنَيْنِ، فَلَا يُحْفَظُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ التَّعْدِيَةَ بِالتَّضْعِيفِ إِلَى ثَلَاثٍ. وَقَدْ وَهِمَ الْقَاسِمُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَرِيرِيُّ فِي زَعْمِهِ فِي شَرْحِ الْمُلْحَةِ لَهُ أَنَّ عَلِمَ تَكُونُ مَنْقُولَةً مِنْ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ فَتَصِيرُ بِالتَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيَةً إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَا يَحْفَظُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى اقْتِيَاسِ التَّعْدِيَةِ بِالتَّضْعِيفِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ
أَبِي الرَّبِيعِ فِي (كِتَابِ التَّلْخِيصِ) مِنْ تَأْلِيفِهِ: الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ النَّقْلَ بِالتَّضْعِيفِ سَمَاعٌ فِي الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِمِ، وَفِيمَا عَلَّمَهُ أَقْوَالٌ: أَسْمَاءُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، أَوِ اسْمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعُزِيَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، أَوْ جَمِيعُ اللُّغَاتِ، ثُمَّ كَلَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ بِلُغَةٍ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَاخْتَصَّ كُلَّ فِرْقَةٍ بِلُغَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَفَرَّعَ مِنْهَا جَمِيعُ اللُّغَاتِ، أَوْ أَسْمَاءُ النُّجُومِ فَقَطْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، أَوْ أَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ فَقَطْ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، أَوْ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ زَيْدٍ، أَوْ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ وَالْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ أَوْ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي خَلَقَهَا، علما أَنَّ هَذَا اسْمُهُ فَرَسٌ، وَهَذَا اسْمُهُ بَعِيرٌ، وَهَذَا اسْمُهُ كَذَا، وَهَذَا اسْمُهُ كَذَا، وَعَلَّمَهُ أَحْوَالَهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ أَسْمَاءُ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، أَوِ الْأَسْمَاءُ بِلُغَةٍ ثُمَّ وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي سِوَاهَا، أَوْ عَلَّمَهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى نَحْوَ سِيبَوَيْهِ، قَالَهُ أَبُو عَلِيُّ الْفَارِسِيُّ، أَوْ أَسْمَاءُ الله عز وجل، قاله الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، أَوْ أَسْمَاءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ الْمَخْزُونَةِ، فَعَلِمَ بِهَا جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ، قَالَهُ الْجَرِيرِيُّ، أَوِ التَّسْمِيَّاتُ. وَمَعْنَى هَذَا عَلَّمَهُ أَنْ يُسَمِّيَ الْأَشْيَاءَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ الِاسْمِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَحَالَةُ تَعْلِيمِهِ تَعَالَى آدَمَ، هَلْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْمُسَمَّيَاتِ أَوْ وَصَفَهَا لَهُ وَلَمْ يَعْرِضْهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ: قَالَ بَعْضُ مَنْ عَاصَرْنَاهُ: الْمُخْتَارُ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ، وَعَرَّفَهُ الْعَاصِي وَالْمُطِيعَ لِيَعْرِفَ الْمَلَائِكَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ رَدًّا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا يَحْتَمِلُ أَسْمَاءُ الْمُسَمَّيَاتِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعِوَضٌ مِنْهُ اللَّامُ كَقَوْلِهِ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «1» ، انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ اللَّامَ عِوَضٌ مِنَ الإضافة ليس مذهب البصريين، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مقامه، وَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ تَعْلِيقُ التَّعْلِيمِ بِالْأَسْمَاءِ تَعَلَّقَ الْإِنْبَاءِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، وَالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَلَمْ يَقِلْ: أَنْبَئُونِي بِهَؤُلَاءِ، وَلَا أَنْبِئْهُمْ بِهِمْ. وَيَتَرَجَّحُ الثَّانِي بِقَوْلِهِ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ إِذَا حَمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تَجْمَعُ كَذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى عُودِهِ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ «2» ، التَّقْدِيرُ: أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، فَعَادَ الضَّمِيرُ مِنْ يَغْشَاهُ عَلَى ذِي الْمَحْذُوفَةِ، الْقَائِمِ مَقَامَهَا فِي الْإِعْرَابِ ظُلُمَاتٍ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ
(1) سورة مريم: 19/ 4.
(2)
سورة النور: 24/ 40. [.....]
اللَّفْظِ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَسْمَاءً مَخْصُوصَةً، بَلْ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّها عَلَى الشُّمُولِ، وَالْحِكْمَةُ حَاصِلَةٌ بِتَعْلِيمِ الْأَسْمَاءِ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ مُسَمَّيَاتُهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ، فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَيُرَادُ بِهِ مَدْلُولُهُ.
ثُمَّ عَرَضَهُمْ: ثُمَّ: حَرْفُ تَرَاخٍ، وَمَهَلَةٍ عَلَّمَ آدَمَ ثُمَّ أَمْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى أَنْ قَالَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ لِيَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَيَتَحَقَّقُ الْمَعْلُومُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ عَمَّا تَحَقَّقَ بِهِ وَاسْتَيْقَنَهُ. وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَالَ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ دُونَ مُهْلَةٍ أَنْبِئُونِي، فَلَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمُ لَهُمْ تَعْرِيفٌ لَمْ يُخْبِرُوا، وَلَمَّا تَقَدَّمَ لِآدَمَ التَّعْلِيمَ أَجَابَ وَأَخْبَرَ وَنَطَقَ إِظْهَارًا لِعِنَايَتِهِ السَّابِقَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ. عَرَضَهُمْ خَلَقَهُمْ وَعَرَضَهَمْ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوْ صَوَّرَهُمْ لِقُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ عَرَضَهُمْ وَهُمْ كَالذَّرِّ، أَوْ عَرَضَ الْأَسْمَاءَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ جَمْعُهَا بِلَفْظَةِ هُمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ النَّصْبِ فِي عِرَضَهُمْ يَعُودُ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْعُقَلَاءِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْمَعْنِيُ بِالْأَسْمَاءِ أَسْمَاءُ الْعَاقِلِينَ، أَوْ يَكُونَ فِيهِمْ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ، وَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ. وَقَرَأَ أُبَيُّ ثُمَّ عَرَضَهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ عَرَضَهُنَّ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ، فَتَكُونُ هِيَ الْمَعْرُوضَةَ، أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُسَمَّيَاتِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْرُوضُ الْمُسَمَّيَاتُ لَا الْأَسْمَاءُ. عَلَى الْمَلائِكَةِ: ظَاهَرُهُ الْعُمُومُ، فَقِيلَ: هُوَ مُرَادٌ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ فِي الْأَرْضِ. فَقالَ: الْفَاءُ: لِلتَّعْقِيبِ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْعَرْضِ وَالْأَمْرِ مُهْلَةٌ بِحَيْثُ يَقَعُ فِيهَا تَرَوٍّ أَوْ فِكْرٍ، وَذَلِكَ أَجْدَرُ بِعَدَمِ الْإِضَافَةِ. أَنْبِئُونِي: أَمْرُ تَعْجِيزٍ لَا تَكْلِيفٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:
أَنْبُونِي، بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: أَنْبَئُونِي عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بِأَسْماءِ هؤُلاءِ:
ظَاهِرُهُ حُضُورُ أَشْخَاصٍ حَالَةَ الْعَرْضِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنِ الْمَعْرُوضَ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ فَقَطْ، جَعَلَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَشْخَاصِ الْأَسْمَاءِ وَهِيَ غَائِبَةٌ، إِذْ قَدْ حَضَرَ مَا هُوَ مِنْهَا بِسَبَبٍ وَذَلِكَ أَسْمَاؤُهَا وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: فِي كُلِّ اسْمٍ لِأَيِّ شَخْصٍ هَذَا الِاسْمَ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ وَتَكَلُّفٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرٍ دَاعِيَةٍ إِلَى ذَلِكَ.
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: شَرْطُ جَوَابِهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ فَأَنْبِئُونِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنْبَئُونِي السَّابِقُ، وَلَا يَكُونُ أَنْبِئُونِي السَّابِقُ هُوَ الْجَوَابُ، هَذَا مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو زَيْدٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ، فَزَعَمُوا أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هَذَا هُوَ النَّقْلُ الْمُحَقَّقُ، وَقَدْ وَهِمَ الَمَهْدَوِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَزَعَمَا أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ، التَّقْدِيرُ: فَأَنْبِئُونِي، إِلَّا إِنْ كَانَا اطَّلِعَا عَلَى نَقْلٍ آخَرَ غَرِيبٍ عَنِ
الْمُبَرِّدِ يُخَالِفُ مَشْهُورَ مَا حكان النَّاسُ، فَيُحْتَمَلُ. وَكَذَلِكَ وَهِمَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ، فَزَعَمَا أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ تَقْدِيمُ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْبِئُونِي الْمُتَقَدِّمِ هُوَ الْجَوَابُ.
وَالصِّدْقُ هُنَا هُوَ الصَّوَابُ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُصِيبِينَ، كَمَا يُطْلَقُ الْكَذِبُ عَلَى الْخَطَأِ، كَذَلِكَ يُطْلَقُ الصِّدْقُ عَلَى الصَّوَابِ. وَمُتَعَلِّقُ الصِّدْقِ فِيهِ أَقْوَالٌ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» ، إِنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا، لَا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ هَجَسٌ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ فِيمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ خُلَفَائِيَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ فِيمَا وَقَعَ فِي نُفُوسِكُمْ أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا إِلَّا كُنْتُمْ أَفْضَلَ مِنْهُ، أَوْ بِأُمُورِ مَنْ أَسْتَخْلِفُهُمْ بَعْدَكُمْ، أَوْ إِنِّي إِنِ اسْتَخْلَفْتُكُمْ فِيهَا سَبَّحْتُمُونِي وَقَدَّسْتُمُونِي، وَإِنِ اسْتَخْلَفْتُ غَيْرَكُمْ فِيهَا عَصَانِي، أَوْ فِي قَوْلِكُمْ: إِنَّهُ لَا شَيْءَ مِمَّا يَتَعَبَّدُ بِهِ الْخَلْقُ إِلَّا وَأَنْتُمْ تَصْلُحُونَ لَهُ وَتَقُومُونَ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ فِي ذَلِكَ إِنْبَاءٌ، وَجَوَابُ السُّؤَالِ بِالْأَسْمَاءِ.
رُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَالَتْ: يَخْلُقُ رَبُّنَا مَا شَاءَ، فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا أَعْلَمُ مَنًّا وَلَا أَكْرَمُ عَلَيْهِ. فَأَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ مِنْ عِلْمِ آدَمَ وَكَرَامَتِهِ خِلَافَ مَا ظَنُّوا
، قَالُوا: وَلِقَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ، إِذْ لَوْ لَمْ يُقَيِّدْ بِالصِّدْقِ، وَهُوَ الْإِصَابَةُ، لَجَازَ الِاجْتِهَادُ، كَمَا جَازَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ؟ وَلَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ الْإِصَابَةَ فَلَمْ يُصِبْ وَلَمْ يُعَنَّفْ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصِّدْقَ هُنَا ضِدُّ الْكَذِبِ الْمُتَعَارَفِ لِعِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا أَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ إِنْ بِمَعْنَى إِذْ، فَأَخْرَجَهَا عَنِ الشَّرْطِيَّةِ إِلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَإِذَا الْتَقَتْ هَمْزَتَانِ مَكْسُورَتَانِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ نَحْوَ: هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ، فَوَرْشٌ وَقَنْبُلُ يُبَدِّلَانِ الثَّانِيَةَ يَاءً مَمْدُودَةً، إِلَّا أَنَّ وَرْشًا فِي: هَؤُلَاءِ إن كنتم، وعلى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ، يَجْعَلُ الْيَاءَ مَكْسُورَةً، وَقَالُونَ وَالْبَزِّيَ يَلِينَانِ الْأُولَى وَيُحَقِّقَانِ الثَّانِيَةَ، وَعَنْهُمَا فِي بِالسُّوءِ إِلَّا وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي تَقَرَّرَ لَهُمَا. الثَّانِي: إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَاوًا مَكْسُورَةً وَإِدْغَامُ الْوَاوِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا فِيهَا وَتَحْقِيقُ الثَّانِيَةِ. الثَّالِثُ: إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الْأُولَى يَاءً، نَحْوَ: بِالسُّويِ. الرَّابِعُ:
إِبْدَالُهَا وَاوًا مِنْ غَيْرِ إِدْغَامٍ، نَحْوَ: السُّووُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِحَذْفِ الْأُولَى، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ.
قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا: أَيْ تَنْزِيهُكَ عَنِ الِادِّعَاءِ وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَنْزِيهٌ لَكَ بَعْدَ تَنْزِيهٍ لَفْظُهُ لَفْظُ تَثْنِيَةً، وَالْمَعْنَى كَذَلِكَ كَمَا قَالُوا فِي لَبَّيْكَ، وَمَعْنَاهُ: تَلْبِيَةً بَعْدَ تَلْبِيَةٍ. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ يَلْزَمُ عَنْهُ أَنَّ مُفْرَدَهُ يَكُونُ سُبْحَا، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْصُوبًا بَلْ مَرْفُوعًا، وَأَنَّهُ لَمْ تَسْقُطِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ، وَأَنَّهُ الْتَزَمَ فَتْحَهَا. وَالْكَافُ فِي سُبْحَانَكَ مَفْعُولٌ بِهِ أضيف
(1) سورة البقرة: 2/ 23.
إِلَيْهِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا، لِأَنَّ الْمَعْنَى تَنَزَّهْتَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا، حِينَ تكملنا عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ بِفِعْلٍ مِنْ مَعْنَاهُ وَاجِبُ الْحَذْفِ. وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ مُنَادًى مُضَافٌ، وَيُبْطِلُهُ أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ دُخُولَ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُنَادَى لِجَازَ دُخُولُ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ لَنَا. وَلَمَّا سَأَلَ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِالْجَوَابِ، وَكَانُوا قَدْ سَبَقَ مِنْهُمْ قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها الْآيَةَ، أَرَادُوا أَنْ يُجِيبُوا بِعَدَمِ الْعِلْمِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ، فَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الْجَوَابِ تَنْزِيهَ اللَّهِ اعْتِذَارًا وَأَدَبًا مِنْهُمْ فِي الْجَوَابِ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ قَبْلُ يَمْحُوهُ هَذَا التَّنْزِيهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ، ثُمَّ أَجَابُوا بِنَفْيِ الْعِلْمِ بِلَفْظٍ لَا الَّتِي بُنِيَتْ مَعَهَا النَّكِرَةُ، فَاسْتَغْرَقَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ، ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا عَلَّمَهُمْ هُوَ تَعَالَى، فَقَالُوا: إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا، وَهَذَا غَايَةٌ فِي تَرْكِ الدَّعْوَى وَالِاسْتِسْلَامِ التَّامِّ لِلْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو عُثْمَانُ الْمَغْرِبِيُّ: مَا بَلَاءُ الخلق إلا الدعاوى. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا قَالُوا:
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، كَيْفَ رُدُّوا إِلَى الْجَهْلِ حَتَّى قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا؟ وَرُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ
، وَخَبَرُ: لَا عُلِمَ، فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلَا عُلِمَ مِثْلُهُ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع عَلَى الْبَدَلِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّهْرَاوِيِّ: أَنَّ مَوْضِعَ مَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا عَلَّمَتْنَا، نَصْبٌ بِعَلَّمْتَنَا، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ، وَأَنَّ الصِّلَةَ: عَلَّمَتْنَا، وَأَنَّ الصِّلَةَ لَا تَعْمَلُ فِي الموصول ولكن يتكلف له وَجْهٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَيَكُونُ مَعْنَى إِلَّا: لَكِنْ، عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَتَكُونُ مَا شَرْطِيَّةً مَنْصُوبَةً بِعَلَّمْتَنَا، وَيَكُونُ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا كَأَنَّهُمْ نَفَوْا أَوَّلًا سَائِرَ الْعُلُومِ ثُمَّ اسْتَدْرَكُوا أَنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيَّ شَيْءٍ عَلَّمَهُمْ عَلِمُوهُ، وَيَكُونُ هَذَا أَبْلَغُ فِي تَرْكِ الدَّعْوَى، إِذْ مَحُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ وَنَفُوا جَمِيعَهَا، فَلَمْ يَسْتَثْنُوا لَهُمْ شيئا سابقا ماضيا تحلوا بِهِ، بَلْ صَارُوا إِلَى الْجَهْلِ الصِّرْفِ وَالتَّبَرِّي مِنْ كُلِّ عِلْمٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَافِي مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمُهُمْ تَعَالَى، أَوْ عَلِمُوا بِاطِّلَاعٍ مِنَ اللَّوْحِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ فِي الْأَرْضِ مَنْ يُفْسِدُ وَيَسْفِكُ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا كَانُوا قَدْ بَالَغُوا فِي نَفْيِ كُلِّ عِلْمٍ عَنْهُمْ، وَجَعَلُوا هَذَا الْعِلْمَ الْخَاصَّ كَالْمَعْدُومِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ جَعَلَ قَوْلَهُمْ، لَا عِلْمَ لَنَا تَوْبَةً، وَمَنِ اعْتَقَدَ بِعِصْمَتِهِمْ قَالَ: قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلِمُوا، أَوْ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها الْآيَةَ، لِأَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَكَيْفَ
يَعْلَمُونَهَا وَمَا أَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ؟ وَلَمَّا نَفُوا الْعِلْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَثْبَتُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَكْمَلِ أَوْصَافِهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ، ثُمَّ أَرْدَفُوا الْوَصْفَ بِالْعِلْمِ، الْوَصْفَ بِالْحِكْمَةِ، لِأَنَّهُ سَبَقَ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَلَمَّا صَدَرَ مِنْ هَذَا الْمَجْعُولِ خَلِيفَةً، مَا صَدَرَ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ تَبَيَّنَ لَهُمْ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً.
فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْجَوَابِ كَيْفَ قَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ تَنْزِيهَ اللَّهِ، ثُمَّ اعْتَرَفُوا بِالْجَهْلِ، ثُمَّ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ، وَنَاسِبَ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْعِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ، لِأَنَّهُ الْمُتَّصِلُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ، أَنْبِئُونِي، لَا عِلْمَ لَنا. فَالَّذِي ظَهَرَتْ بِهِ الْمَزِيَّةُ لآدم والفضيلة هو العلم، فَنَاسَبَ ذِكْرُهُ مُتَّصِلًا بِهِ، وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِنَّمَا هِيَ آثار العلم وَنَاشِئَةٌ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْعِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ. وَلِأَنْ يَكُونَ آخِرُ مَقَالِهِمْ مُخَالِفًا لِأَوَّلِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ رُجُوعَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَكِيمَ هُوَ ذُو الْحِكْمَةِ، يَكُونُ الْحَكِيمُ صِفَةَ ذَاتٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْمُحْكِمُ لِصَنْعَتِهِ يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ. وَأَنْتَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلضَّمِيرِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَوْ مُبْتَدَأً فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْعَلِيمُ خَبَرُهُ، أَوْ فَضْلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ. فَعِنْدَ الْفَرَّاءِ مَوْضِعُهُ عَلَى حَسَبِ الِاسْمِ قَبْلَهُ، وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ عَلَى حَسَبِ الِاسْمِ بَعْدَهُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَدْ خَصَّهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: الْعَلِيمُ بِمَا أَمَرْتَ وَنَهَيْتَ، الْحَكِيمُ فِيمَا قَدَّرْتَ وَقَضَيْتَ. وَقَالَ آخر: العلم بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْحَكِيمُ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ.
قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ: نَادَى آدَمَ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ، وَهِيَ عَادَةُ اللَّهِ مَعَ أَنْبِيَائِهِ، قَالَ تعالى: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا «1» ، يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ «2» ، يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا «3» ، يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ «4» ، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ «5» ، وَنَادَى مُحَمَّدًا نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَصْفِ الشَّرِيفِ مِنَ الْإِرْسَالِ وَالْإِنْبَاءِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ «6» يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ «7» . فَانْظُرْ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ هَذَا النداء
(1) سورة هود: 11/ 48.
(2)
سورة هود: 11/ 46.
(3)
سورة الصافات: 37/ 104- 105.
(4)
سورة القصص: 28/ 30.
(5)
سورة المائدة: 5/ 110.
(6)
سورة المائدة: 5/ 41.
(7)
سورة الأنفال: 8/ 64 و 65 و 67.
وَذَاكَ النِّدَاءِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنْبِئْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَفِي بِأَسْمَائِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمَعْرُوضِينَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنْ آثَارِ الْعِنَايَةِ بِآدَمَ عليه السلام لِمَا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ:
أَنْبِئُونِي، دَاخَلَهُمْ مِنْ هَيْبَةِ الْخِطَابِ مَا أَخَذَهُمْ عَنْهُمْ، لَا سِيَّمَا حِينَ طَالَبَهُمْ بِإِنْبَائِهِمْ إِيَّاهُ مَا لَمْ تَحِطْ بِهِمْ عُلُومُهُمْ. وَلِمَا كَانَ حَدِيثُ آدَمَ رَدَّهُ فِي الْإِنْبَاءِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، وَمُخَاطَبَةُ آدَمَ لِلْمَلَائِكَةِ لَمْ تُوجِبْ الِاسْتِغْرَاقَ فِي الْهَيْبَةِ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ آدَمُ عليه السلام بِأَسْمَاءِ مَا تَقَاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُهُمْ، ظَهَرَتْ فَضِيلَتُهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ، يَعْنِي مَا تَقَاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُ الْخَلْقِ وأسلم مَا تَبْدُونَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَكْتُمُونَ مِنَ اعْتِقَادِ الْخَيْرِيَّةِ عَلَى آدَمَ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُشَيْرِيِّ.
وَالْجُمْلَةُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْقَوْلِ إِذَا كَانَتْ مُرَتَّبًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى، فَالْأَصَحُّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا يُؤْتَى فِيهَا بِحَرْفِ تَرَتُّبٍ، اكْتِفَاءً بِالتَّرْتِيبِ الْمَعْنَوِيِّ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها، أَتَى بَعْدَهُ، قالَ إِنِّي أَعْلَمُ، وَنَحْوَ: قالُوا سُبْحانَكَ، قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ، وَنَحْوَ: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ «1» ، قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ «2» ، قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ «3» ، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ «4» . وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مِنْ ذَلِكَ عِشْرُونَ مَوْضِعًا فِي قِصَّةِ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فِي إِرْسَالِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمُحَاوَرَتِهِ مَعَهُ، وَمُحَاوَرَةِ السَّحَرَةِ، إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ، دُونَ ثَلَاثَةٍ، جَاءَ مِنْهَا اثْنَانِ جَوَابًا وَوَاحِدٌ كَالْجَوَابِ، وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
أَنْبِئْهُمْ بِالْهَمْزِ وَضَمَّ الْهَاءَ، وَهَذَا الْأَصْلُ كَمَا تَقُولُ: أَكْرِمْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْبِئْهُمْ بِالْهَمْزِ وَكَسَرِ الْهَاءَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَتْبَعَ حَرَكَةَ الْهَاءِ لِحَرَكَةِ الْبَاءِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِالْهَمْزَةِ لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ، فَهِيَ حَاجِزٌ غَيْرُ حصين. وقرىء: أنبيهم، بإبدال الهمزة ياء وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ كَثِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَوَّاسِ: أَنْبِهِمْ، عَلَى وَزْنِ أَعْطِهِمْ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا عَلَى إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً، عَلَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَنْبَيْتُ، كَأَعْطَيْتُ، قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ لَا تَخْفِيفٌ. وَالْبَدَلُ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
حَكَى الْأَخْفَشُ فِي الْأَوْسَطِ: أَنَّ الْعَرَبَ تَحَوِّلُ مِنَ الْهَمْزَةِ مَوْضِعَ اللَّامِ يَاءٌ، فيقولون:
(1) سورة المائدة: 5/ 27.
(2)
سورة البقرة: 2/ 259.
(3)
سورة البقرة: 2/ 259.
(4)
سورة البقرة: 2/ 260.
قُرَيْتُ، وَأُخْطَيْتُ، وَتَوَضَّيْتُ، قَالَ: وَرُبَّمَا حَوَّلُوهُ إِلَى الْوَاوِ، وَهُوَ قَلِيلٌ، نَحْوَ: رَفَوْتُ، وَالْجَيِّدُ: رَفَأْتُ، وَلَمْ أَسْمَعْ: رَفَيْتُ. انْتَهَى كَلَامُ الْأَخْفَشِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ: جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ: فَأَنْبَئَهُمْ بِهَا، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ حُذِفَتْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى إِعْلَامِ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ آدَمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مَا لَمْ يُعْلِمْهُمْ مِنْ حَالِهِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَبْلَ النَّفْخِ مُصَوَّرًا، فَلَمْ يَعْلَمُوا مَا هُوَ، وَعَلَى أَنَّهُ رَفَعَ دَرَجَةَ آدَمَ عِنْدَهُمْ، لِكَوْنِهِ قَدْ عَلَّمَ لِآدَمَ مَا لَمْ يُعَلِّمْهُمْ، وَعَلَى إِقَامَتِهِ مَقَامَ الْمُفِيدِ الْمُعَلَّمِ، وَإِقَامَتِهِمْ مَقَامَ الْمُسْتَفِيدِينَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَسْمَاءَ الَّذِينَ عَرَضَهُمْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَدَبِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْأَدَبِ مِنْ حَيْثُ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها، فَإِنَّ الطَّوَاعِيَةَ الْمَحْضَةَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحِكْمَةِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ، وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ وَمَصْلَحَتِهِ وَمَفْسَدَتِهِ كَهُمْ مَعَ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ. وَكَانَ الِامْتِثَالُ وَالتَّسْلِيمُ، بِغَيْرِ تَعَجُّبٍ وَلَا اسْتِفْهَامٍ، أَلْيَقَ بِمَقَامِهِمْ لِطَهَارَةِ ذَوَاتِهِمْ وَكَمَالِ صِفَاتِهِمْ.
وَفِي كِتَابِ بَعْضِ مَنْ عَاصَرْنَاهُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ظَهَرَ مِنْ آدَمَ عليه السلام فِي عِلْمِهِ بِالْأَسْمَاءِ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى حَوَّاءَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مَبْعُوثًا إِلَى مَنْ تُوَجِّهُ التَّحَدِّيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا رُسُلًا، فَقَدْ يَجُوزُ الْإِرْسَالُ إِلَى الرَّسُولِ، كَبَعْثِهِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام إِلَى لُوطٍ عليه السلام، وَاحْتَجُّوا بِكَوْنِهِ نَاقِضًا لِلْعَادَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حُصُولُ الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ وَعَدَمُ حُصُولِهِ لِمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِلْعَادَةِ. وَأَيْضًا، فَالْمَلَائِكَةُ أَمَّا أَنْ عَلِمُوا وَضْعَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ للمسميات فلا مزية أو لا، فَكَيْفَ عَلِمُوا إِصَابَتَهُ فِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ لُغَةً، ثُمَّ حَضَرَ جَمِيعُهُمْ فَعَرَفَ كُلُّ صِنْفٍ إِصَابَتَهُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ بِأُسَرِهِمْ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا بِأَسْرِهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَهُمُ الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ، وَلِمَ لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرْهَاصِ؟ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: صُدُورُ الْمَعْصِيَةِ عَنْهُ بَعْدُ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى النَّبِيِّ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَبْعُوثًا لَكَانَ إِلَى أَحَدٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّبْلِيغُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمَلَائِكَةَ، لِأَنَّهُمْ أَفْضَلَ، وَلَا حَوَّاءَ، لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِلَا وَاسِطَةٍ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبا، وَلَا الْجِنَّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي السَّمَاءِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْتَباهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِبَاءَ كَانَ بَعْدَ الزَّلَّةِ، وَالنَّبِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَبًى وَقْتَ كَوْنِهِ نَبِيًّا.
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ جَوَابُ فَلَمَّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي لَمَّا المقتضية للجواب، أهي حَرْفٌ أَمْ ظَرْفٌ؟ وَرَجَّحْنَا الْأَوَّلَ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ مَذْهَبُ سيبويه. وألم: أَقُلْ تَقْرِيرٌ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ كَانَ الْكَلَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ تَقْرِيرًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «1» ؟ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «2» ؟ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «3» ؟ وَلِذَلِكَ جَازَ الْعَطْفُ عَلَى جُمْلَةٍ إِثْبَاتِيَّةٍ نَحْوَ: وَوَضَعْنَا، وَلَبِثْتَ، وَلَكُمْ فِيهِ، تَنْبِيهُهُمْ بِالْخِطَابِ وَهَزُّهُمْ لِسَمَاعِ الْمَقُولِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً «4» نَبَّهَهُ فِي الثَّانِيَةِ بِالْخِطَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّامَ فِي نَحْوِ: قُلْتُ لَكَ، أَوْ لِزَيْدٍ، لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِيهَا. إِنِّي أَعْلَمُ: يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُتَحَرِّكِ مَا قَبْلُهَا، إِذَا لَقِيَتْ هَمْزَةَ الْقَطْعِ الْمَفْتُوحَةَ، جَازَ فِيهَا وَجْهَانِ: التَّحْرِيكُ وَالْإِسْكَانُ، وقرىء بِالْوَجْهَيْنِ فِي السَّبْعَةِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ. وَسَكَّنُوا فِي السَّبْعَةِ إِجْمَاعًا: تَفْتِنِّي أَلَا، أَرِنِي أَنْظُرْ «5» ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ «6» وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ «7» ، وَلَا يَظْهَرُ بِشَيْءٍ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَاتِّفَاقِهِمْ عِلَّةٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الرِّوَايَةِ. وَالْخِلَافُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي أَعْلَمُ مِنْ كَوْنِهِ منصوبا أو مجرورا جار هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ هُنَاكَ فَلَا نُعِيدُهُ هُنَا.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الَمَهْدَوِيِّ مَا نَصُّهُ: قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
أَعْلَمُ اسْمًا بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ فِي الْعِلْمِ، فَتَكُونُ مَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا قُدِّرَ الْأَوَّلُ اسما، فلا بد بعده مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ يَنْصِبُ غَيْبَ، تَقْدِيرُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ كُلٍّ أَعْلَمُ غَيْبَ، وَكَوْنُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِعْلًا مُضَارِعًا أَخْصَرُ وَأَبْلَغُ. انْتَهَى. وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الَمَهْدَوِيِّ وَهْمٌ. وَالَّذِي ذَكَرَ الَمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ، يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ مَا بِأَعْلَمُ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَالِمٍ، أَوْ يَكُونُ مَا جَرًّا بِالْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ التَّنْوِينُ فِي أَعْلَمُ إِذَا قَدَّرْتَهُ بِمَعْنَى عَالِمٍ وَتَنْصِبُ مَا بِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى حَوَاجِ بَيْتِ اللَّهِ، انْتَهَى. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى أَنْ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ وَأَنَّهُ لَمْ يَجُزِ الْجَرُّ فِي مَا وَالنَّصْبُ، وَتَكُونُ أَفْعَلُ اسْمًا إِلَّا إِذَا كَانَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَا أَفْعَلَ تفضيل، ولا
(1) سورة الأعراف: 7/ 172.
(2)
سورة الشرح: 94/ 1. [.....]
(3)
سورة الشعراء: 26/ 18.
(4)
سورة الكهف: 18/ 75.
(5)
سورة الأعراف: 7/ 141.
(6)
سورة مريم: 19/ 43.
(7)
سورة هود: 11/ 47.
يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَا نقله ابن عطية عن الَمَهْدَوِيِّ مِنْ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمُ أَفْعَلَ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَخَفْضُ مَا بِالْإِضَافَةِ أَلْبَتَّةَ.
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْغَيْبِ هُنَا، فَقِيلَ: غَيْبُ السموات: أَكْلُ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنَ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ فِي السَّمَاءِ، وَغَيْبُ الْأَرْضِ: قَتَلُ قَابِيلَ هَابِيلَ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ:
غَيْبُ السموات مَا قَضَاهُ مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ، وَغَيْبُ الْأَرْضِ مَا فَعَلُوهُ فِيهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ. وقيل:
غيب السموات مَا غَابَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ وَحَمَلَةِ عَرْشِهِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى مِنْ أَسْرَارِ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى، وَغَيْبُ الْأَرْضِ مَا أَخْفَاهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ مِنْ أَسْرَارِ مَلَكُوتِهِ الْأَدْنَى وَأُمُورِ الْآخِرَةِ الأولى.
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ: مَا تُبْدُونَ: الضَّمِيرُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ: يَعْنِي إِبْلِيسَ.
فَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْجَمْعِ، وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ نَحْوَ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ «1» .
وَرُوِيَ أَنَّ إِبْلِيسَ مَرَّ عَلَى جَسَدِ آدَمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ فَقَالَ: لِأَمْرٍ مَا خُلِقَ هَذَا، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ لِأَنَّهُ أَجْوَفُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ:
أَرَأَيْتُمْ إِنْ فُضِّلَ هَذَا عَلَيْكُمْ وَأُمِرْتُمْ بِطَاعَتِهِ مَا تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: نُطِيعُ اللَّهَ، فَقَالَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ، وَلَئِنْ سُلِّطَ عَلَيَّ لَأَعْصِيَنَّهَ
، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ الْآيَةَ، يَعْنِي: مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ وَكَتْمِ إِبْلِيسَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مَا أَبْدَوْهُ هُوَ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وَمَا كَتَمُوهُ قَوْلُهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا، وَقِيلَ: مَا أَبْدَوْهُ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وما كتموه أَضْمَرُوهُ مِنَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَالسُّجُودِ لِآدَمَ. وَقِيلَ: مَا أَبْدَوْهُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالْعَجْزِ، وَمَا كَتَمُوهُ الْكَرَاهِيَةُ لِاسْتِخْلَافِ آدَمَ عليه السلام. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِيمَا أَبْدَوْهُ وَمَا كَتَمُوهُ مِنْ كُلِّ أُمُورِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَأَبْرَزَ الْفِعْلَ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْلَمُ لِيَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ جُمْلَةً مَقْصُودَةً بِالْعَامِلِ، فَلَا يَكُونُ مَعْمُولُهَا مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْإِخْبَارِ، إِذْ جُعِلَ مُفْرَدًا بِعَامِلٍ غَيْرِ الْعَامِلِ، وَعَطْفُ قَوْلِهِ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي فِي الْإِخْبَارِ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ، جَهْرًا كَانَ أَوْ سِرًّا، وَوَصْلُ مَا بَكُنْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَتْمَ وَقَعَ فيما
(1) سورة الحجرات: 49/ 4.