الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَجِيبٌ، مِنْ حَيْثُ الْفَصَاحَةِ وَبِنَاءِ الْكَلَامِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِذِكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ، إِذْ فِي ذَلِكَ مَا يَدْعُو إِلَى مَحَبَّةِ الْمُنْعِمِ وَوُجُوبِ إِطَاعَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِيفَاءِ الْعَهْدِ الَّذِي الْتَزَمُوهُ لِلْمُنْعِمِ، ثُمَّ رَغَّبَهُمْ بِتَرْتِيبِ إِيفَائِهِ هُوَ تَعَالَى بِعَهْدِهِمْ فِي الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْخَوْفِ مِنْ نِقْمَاتِهِ إِنْ لَمْ يُوفُوا، فَاكْتَنَفَ الْأَمْرَ بِالْإِيفَاءِ أَمْرٌ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَمْرٌ بِالْخَوْفِ مِنَ الْعِصْيَانِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِإِيمَانٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَرَغَّبَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ، فَلَيْسَ أَمْرًا مُخَالِفًا لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ إِلَى الْمُوَافِقِ أَقْرَبُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمُخَالِفِ. ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنِ اسْتِبْدَالِ الْخَسِيسِ بِالنَّفِيسِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِاتِّقَائِهِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ أَمْرًا بِتَرْكِ الضَّلَالِ، وَالنَّهْيُ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَكِتْمَانِ الْحَقِّ تَرْكًا لِلْإِضْلَالِ. وَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ نَاشِئًا عَنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَمْوِيهُ الْبَاطِلِ حَقًّا إِنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ قَدْ بَلَغَتِ الْمُسْتَتْبِعَ، وَإِمَّا عَنْ كِتْمَانِ الدَّلَائِلِ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَبْلُغْهُ، أَشَارَ إِلَى الْأَمْرَيْنِ بِلَا تَلْبِسُوا وَتَكْتُمُوا، ثُمَّ قَبَّحَ عَلَيْهِمْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، إِذِ الصَّلَاةُ آكَدُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالزَّكَاةُ آكَدُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى مَعَ جُمْلَةِ الْخَاضِعِينَ الطَّائِعِينَ.
فَكَانَ افْتِتَاحُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ النِّعَمِ وَاخْتِتَامُهَا بِالِانْقِيَادِ لِلْمُنْعِمِ، وَمَا بَيْنَهُمَا تَكَالِيفٌ اعْتِقَادِيَّةٌ وَأَفْعَالٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ. وَبِنَحْوِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الِافْتِتَاحِ وَالْإِرْدَافِ وَالِاخْتِتَامِ يَظْهَرُ فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ، وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً فِي الصُّورَةِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَا هِيَ عَامَّةٌ فِي الْمَعْنَى، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ ذِكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَالْإِيفَاءُ بِالْعَهْدِ وَسَائِرِ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 46]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
الْأَمْرُ: طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّأْنِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: أَمَرَ يَأْمُرُ، عَلَى:
فَعَلَ يَفْعُلُ، وَتُحْذَفُ فَاؤُهُ فِي الْأَمْرِ مِنْهُ بِغَيْرِ لَامٍ، فَتَقُولُ: مُرْ زَيْدًا وَإِتْمَامُهُ قَلِيلٌ، أَوْ مُرْ زَيْدًا،
فَإِنْ تَقَدَّمَ الْأَمْرَ وَاوٌ أَوْ فَاءٌ، فَإِثْبَاتُ الْهَمْزَةِ أَجْوَدُ، وَهُوَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ بِحَرْفِ جَرٍّ. وَيَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الْحَرْفِ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالٍ مَحْصُورَةٍ تُحْذَفُ مِنْ ثَانِي مَفْعُولَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ جَوَازًا تُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا. الْبِرُّ: الصِّلَةُ، وَأَيْضًا: الطَّاعَةُ.
قَالَ الرَّاجِزُ:
لا همّ رَبِّ إِنَّ بَكْرًا دُونَكَا
…
يَبَرُّكُ النَّاسُ وَيَفْخَرُونَكَا
وَالْبِرُّ: الْفُؤَادُ، وَوَلَدُ الثَّعْلَبِ وَالْهِرُّ، وَبَرَّ وَالِدَهُ: أَجَلَّهُ وَأَعْظَمَهُ. يَبَرُّهُ: عَلَى وَزْنِ فَعَلَ يَفَعْلُ، وَرَجُلٌ بَارٌّ، وَبَرٌّ، وَبَرَّتْ يَمِينُهُ، وَبَرَّ حَجُّهُ: أَجَلَّهَا وَجَمَعَ أَنْوَاعًا مِنَ الْخَيْرِ، وَالْبِرُّ سَعَةُ الْمَعْرُوفِ وَالْخَيْرِ، وَمِنْهُ: الْبَرُّ وَالْبَرِّيَّةُ لِلسَّعَةِ. وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ خَيْرٍ، وَالْإِبْرَارُ: الْغَلَبَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَبَرُّونَ عَلَى الْآبِي الْمُبِرِّ النِّسْيَانُ: ضِدُّ الذِّكْرِ، وَهُوَ السَّهْوُ الْحَادِثُ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى التَّرْكِ، وَضِدُّهُ الْفِعْلُ، وَالْفِعْلُ: نَسِيَ يَنْسَى عَلَى فَعِلَ يَفْعَلُ، وَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَقَدْ يُعَلَّقُ نَسِيَ حَمْلًا عَلَى عَلِمَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ انْتُمُ
…
وَرِيحُكُمُ مِنْ أَيِّ رِيحِ الْأَعَاصِرِ
وَفِي الْبَيْتِ احْتِمَالٌ، التِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ، وَسُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّ الْآيَاتِ أَوِ الْكَلِمَاتِ أَوِ الْحُرُوفَ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الذِّكْرِ. والتلو: التبع، وناقة مثل: يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا. الْعَقْلُ:
الْإِدْرَاكُ الْمَانِعُ مِنَ الْخَطَأِ، وَمِنْهُ عِقَالُ الْبَعِيرِ، يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَالْمَعْقِلُ: مَكَانٌ يُمْتَنَعُ فِيهِ، وَالْعَقْلُ: الدِّيَةُ لِأَنَّ جِنْسَهَا إِبِلٌ تُعْقَلُ فِي فِنَاءِ الْوَلِيِّ، أَوْ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ قَتْلِ الْجَانِي، وَالْعَقْلُ: ثَوْبٌ مُوَشًّى، قَالَ الشَّاعِرُ:
عَقْلًا وَرَقْمًا تَظَلُّ الطَّيْرُ تَتْبَعُهُ
…
كَأَنَّهُ مِنْ دَمِ الْأَجْوَافِ مَدْمُومُ
وَالْعِقَالُ: زَكَاةُ الْعَامِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا
…
فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ
وَرَمْلٌ عَقَنْقَلٌ: مُتَمَاسِكٌ عَنِ الِانْهِيَارِ. الصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَالْفِعْلُ:
صَبَرَ يَصْبِرُ عَلَى فَعَلَ يَفْعِلُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً
…
تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ
وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِهِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. الكبيرة: مِنْ كَبُرَ يَكْبُرُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ
فِي الْجِرْمِ وَفِي الْقَدْرِ، وَيُقَالُ: كَبُرَ عَلَيَّ كَذَا، أَيْ شَقَّ، وَكَبُرَ يَكْبُرُ، فَهُوَ كَبِيرٌ مِنَ السِّنِّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
صَغِيرَيْنِ نَرْعَى البهم يا ليت أننا
…
إلى اليوم لم نكبر وَلَمْ يَكْبُرِ الْبَهْمُ
الْخُشُوعُ: قَرِيبٌ مِنَ الْخُضُوعِ، وَأَصْلُهُ: اللِّينُ وَالسُّهُولَةُ، وَقِيلَ: الِاسْتِكَانَةُ وَالتَّذَلُّلُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: الْخُضُوعُ فِي الْبَدَنِ، وَالْخُشُوعُ فِي الْبَدَنِ وَالْبَصَرِ وَالصَّوْتِ، وَالْخُشْعَةُ: الرَّمْلَةُ الْمُتَطَامِنَةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَتِ الْكَعْبَةُ خُشْعَةً عَلَى الْمَاءِ» .
الظَّنُّ: تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ النَّحْوِيُّونَ بِالشَّكِّ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى التَّيَقُّنِ. وَفِي كِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ يَدْخُلُ عَلَى مَا أَصْلُهُ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، خِلَافًا لِأَبِي زَيْدٍ السُّهَيْلِيِّ، إِذْ زَعَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نَوَاسِخِ الِابْتِدَاءِ. وَالظَّنُّ أَيْضًا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى:
التُّهْمَةِ، فَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ لِوَاحِدٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الظَّنُّ يَقَعُ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ.
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الْهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ وَضْعًا، وَشَابَهَا هُنَا التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ لِأَنَّ الْمَعْنَى: الْإِنْكَارُ، وعليهم توبيخهم عَلَى أَنْ يَأْمُرَ الشَّخْصُ بِخَيْرٍ، وَيَتْرُكَ نَفْسَهُ وَنَظِيرُهُ فِي النَّهْيِ، قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
…
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا
…
فَإِنِ انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَيَقْبُحُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَأْمُرَ الْإِنْسَانُ بِخَيْرٍ وَهُوَ لَا يَأْتِيهِ، وَأَنْ يَنْهَى عَنْ سُوءٍ وَهُوَ يَفْعَلُهُ.
وَفِي تَفْسِيرِ الْبِرِّ هُنَا أَقْوَالٌ: الثَّبَاتُ عَلَى دِينِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ، أَوِ اتِّبَاعُ التَّوْرَاةِ وَهُمْ يُخَالِفُونَهَا فِي جَحْدِهُمْ صِفَتَهُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيِّ: أَوْ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَبْخَلُونَ، أَوْ عَلَى الصِّدْقِ وَهُمْ لَا يَصْدُقُونَ، أَوْ حَضُّ أَصْحَابِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَلَا يَأْتُونَهُمَا. وَقَالَ السُّلَمِيُّ: أَتُطَالِبُونَ النَّاسَ بِحَقَائِقِ الْمَعَانِي وَأَنْتُمْ قُلُوبُكُمْ خَالِيَةٌ عَنْ ظَوَاهِرِ رُسُومِهَا؟ وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَتُحَرِّضُونَ النَّاسَ عَلَى الْبِدَارِ وَتَرْضَوْنَ بِالتَّخَلُّفِ؟ وَقَالَ: أَتَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَيْنَا وَتَقْعُدُونَ عَنَّا؟ وَأَلْفَاظًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَتَى بِالْمُضَارِعِ فِي: أَتَأْمُرُونَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ: الدَّيْمُومَةُ وَكَثْرَةُ التَّلَبُّسِ بِالْفِعْلِ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَعَبَّرَ عَنْ تَرْكِ فِعْلِهِمْ بِالنِّسْيَانِ مُبَالَغَةً فِي
التَّرْكِ، فَكَأَنَّهُ لَا يَجْرِي لَهُمْ عَلَى بَالٍ، وَعَلَّقَ النساء بِالْأَنْفُسِ تَوْكِيدًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْغَفْلَةِ الْمُفْرِطَةِ.
وَتَنْسَوْنَ: مَعْطُوفٌ عَلَى تَأْمُرُونَ، وَالْمَنْعِيُّ عَلَيْهِمْ جَمْعُهُمْ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ بِالْبِرِّ الَّذِي فِي فِعْلِهِ النَّجَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَتَرْكِ فِعْلِهِ حَتَّى صَارَ نَسْيًا مَنْسِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ. أَنْفُسَكُمْ، وَالْأَنْفُسُ هُنَا: ذَوَاتُهُمْ، وَقِيلَ: جَمَاعَتُهُمْ وَأَهْلُ مِلَّتِهِمْ، ثُمَّ قُيِّدَ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ: أَيْ أَنَّكُمْ مُبَاشِرُو الْكِتَابِ وَقَارِئُوهُ، وَعَالِمُونَ بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ، فَكَيْفَ امْتَثَلْتُمُوهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِكُمْ؟ وخالفتموه أَنْفُسِكُمْ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «1» . وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَلَا يَخْفَى مَا فِي تَصْدِيرِهَا بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ
، مِنَ التَّبْكِيتِ لَهُمْ وَالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِأَجْلِ الْمُخَاطَبَةِ بِخِلَافِهَا لَوْ كَانَتِ اسْمًا مُفْرَدًا. وَالْكِتَابُ هُنَا: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَفِيهِمَا النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ الذَّمِيمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا الْقُرْآنُ، قَالُوا: وَيَكُونُ قَدِ انْصَرَفَ مِنْ خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ «2» ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ بُعْدٌ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خِطَابٌ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
أَفَلا تَعْقِلُونَ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ: أَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ كَانَ تَقْدِيمَ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى الْهَمْزَةِ فِي مِثْلِ هَذَا وَمِثْلِ أَوَلَمْ يَسِيرُوا أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْهَمْزَةُ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، قُدِّمَتْ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ هَلْ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْوَاوَ وَالْفَاءَ وَثُمَّ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَهَا، وَلَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ، وَيَجْعَلُ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ جُمْلَةً مُقَدَّرَةً يَصِحُّ الْعَطْفُ عَلَيْهَا، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحَذْفَ أَوْلَى مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِنَا لِكِتَابِ التَّسْهِيلِ. فَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَأَلَا تَعْقِلُونَ، وَعَلَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَتَعْقِلُونَ فَلَا تَعْقِلُونَ، أَمَكَثُوا فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ مَا كَانَ شِبْهَ هَذَا الْفِعْلِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَنَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ، عَلَى أَنَّ فِيهِمْ إِدْرَاكًا شَرِيفًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ قَبِيحِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِمْ بِالْخَيْرِ وَنِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ عَنْهُ، وَإِنَّ هَذِهِ حَالَةُ مَنْ سُلِبَ الْعَقْلَ، إِذِ الْعَاقِلُ سَاعٍ فِي
(1) سورة البقرة: 2/ 42.
(2)
سورة يوسف: 12/ 29.
تَحْصِيلِ مَا فِيهِ نَجَاتُهُ وَخَلَاصُهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَسْعَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي خَلَاصِ غَيْرِهِ، ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ. وَمَرْكُوزٌ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يُحَصِّلْ لِنَفْسِهِ مَصْلَحَةً، فَكَيْفَ يُحَصِّلُهَا لِغَيْرِهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُخْزِنْ عَلَيْهِ لِسَانَهُ
…
فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ
فَإِذَا صَدَرَ مِنَ الْإِنْسَانِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ لِغَيْرِهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، كَانَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ، خُصُوصًا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُرْجَى بِسُلُوكِهَا النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَالْفَوْزُ بِالنَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ. وَقَدْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ بِأَقْوَالٍ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ: أَفَلَا تَمْنَعُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ مُوَاقَعَةِ هَذِهِ الْحَالِ الْمُرْدِيَةِ بِكُمْ، أَوْ أَفَلَا تَفْهَمُونَ قُبْحَ مَا تَأْتُونَ مِنْ مَعْصِيَةِ رَبِّكُمْ فِي اتِّبَاعِ محمد صلى الله عليه وسلم وَالْإِيمَانِ بِهِ، أَوْ أَفَلَا تَنْتَهُونَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يَنْهَى عَنِ الْقَبِيحِ، أَوْ أَفَلَا تَرْجِعُونَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يُرَادُ إِلَى الْأَحْسَنِ، أَوْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّهُ حَقٌّ فَتَتَّبِعُونَهُ، أَوْ أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ رَاجِعٌ، أَوْ أَفَلَا تَمْتَنِعُونَ مِنَ الْمَعَاصِي، أَوْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، إِذْ لَيْسَ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ أَنْ تَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا تَأْتِيَهُ، أَوْ أَفَلَا تَفْطِنُونَ لِقُبْحِ مَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَصُدَّكُمُ اسْتِقْبَاحُهُ عَنِ ارْتِكَابِهِ، وَكَأَنَّكُمْ فِي ذَلِكَ مَسْلُوبُو الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْعُقُولَ تَأْبَاهُ وَتَدْفَعُهُ. وَشَبِيهٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ «1» الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: الْإِرْشَادُ إِلَى الْمَنْفَعَةِ وَالتَّحْذِيرُ عَنِ الْمَفْسَدَةِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِشَوَاهِدِ الْعَقْلِ، فَمَنْ وَعَظَ وَلَمْ يَتَّعِظْ فَكَأَنَّهُ أَتَى بِفِعْلٍ مُتَنَاقِضٍ لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْوَعْظُ سَبَبًا لِلرَّغْبَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ:
لَوْلَا اطِّلَاعُ الْوَاعِظِ عَلَى أَنْ لَا أَصْلَ لِهَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَتَكُونُ النَّفْسُ نَافِرَةً عَنْ قَبُولِ وَعْظِ مَنْ لَمْ يَتَّعِظْ، وَأَنْشَدُوا:
مَوَاعِظُ الْوَاعِظِ لَنْ تُقْبَلَا
…
حَتَّى يعيها قبله أَوَّلَا
وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: قَصَمَ ظَهْرِي رَجُلَانِ: عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وَجَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ.
وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَاصِي أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، وَلَا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: التَّوْبِيخُ لَا يَحْسُنُ إِلَّا إِذَا كَانُوا فَاعِلِي أَفْعَالِهِمْ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَهَذَا الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهُوَ عَامٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسْعٍ: بَلَغَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعُوا عَلَى
(1) سورة الصف: 61/ 2.
نَاسٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالُوا لَهُمْ: قَدْ كُنْتُمْ تَأْمُرُونَنَا بِأَشْيَاءَ عَمِلْنَاهَا فَدَخَلْنَا الْجَنَّةَ، قَالُوا: كُنَّا نَأْمُرُكُمْ بِهَا وَنُخَالِفُ إِلَى غَيْرِهَا.
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ: تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَادَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1» ، وَأَنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الطَّلَبَ، وَأَنَّ اسْتَعَانَ مَعْنَاهُ طَلَبَ الْمَعُونَةَ، وَظَاهِرُ الصَّبْرِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ: الصَّوْمُ، وَالصَّوْمُ: صَبْرٌ، لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الطَّعَامِ، وَسُمِّيَ رَمَضَانُ: شَهْرَ الصَّبْرِ. وَالصَّلَاةُ: هِيَ الْمَفْرُوضَةُ مَعَ مَا يَتْبَعُهَا مِنَ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الصَّلَاةُ الدُّعَاءُ وَقَدْ أضمر، والصبر صِلَةً تُقَيِّدُهُ، فَقِيلَ: بِالصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُهُ نُفُوسُكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ، أَوْ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ عَنِ الْمَعَاصِي، أَوْ عَلَى تَرْكِ الرِّيَاسَةِ، أَوْ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعَنِ الشَّهَوَاتِ، أَوْ عَلَى حَوَائِجِكُمْ إِلَى اللَّهِ، أَوْ عَلَى الصَّلَاةِ. وَلَمَّا قُدِّرَ هَذَا التَّقْدِيرُ، أَعْنِي بِالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ، تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْقُرْآنِ، أَنَّ الْوَاوَ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ هُنَا بِمَعْنَى عَلَى، وَإِنَّمَا يُرِيدُ قَائِلُ هَذَا: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وبالصلاة، لِأَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى عَلَى، وَيَكُونُ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «2» وَأُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يُتْلَى فِيهَا مَا يُرَغِّبُ فِي الْآخِرَةِ وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنْ تَمْحِيصِ الذُّنُوبِ وَتَرْقِيقِ الْقُلُوبِ، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنْ إِزَالَةِ الْهُمُومِ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حز به أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ» .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نُعِيَ إِلَيْهِ قُثَمٌ أَخُوهُ، فَقَامَ يُصَلِّي، وَتَلَا: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ ذَكَرُوهَا. وَقُدِّمَ الصَّبْرُ عَلَى الصَّلَاةِ، قِيلَ: لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّبْرِ فِي إِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَتَأْثِيرَ الصَّلَاةِ فِي حُصُولِ مَا يَنْبَغِي، وَالنَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَدَّمَ الِاسْتِعَانَةَ بِهِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ سَبَقَ ذِكْرُ تَكَالِيفٍ عَظِيمَةٍ شَاقٍّ فِرَاقُهَا عَلَى مَنْ أَلِفَهَا وَاعْتَادَهَا مِنْ ذِكْرِ مَا نَسُوهُ وَالْإِيفَاءِ بِمَا أَخْلَفُوهُ وَالْإِيمَانِ بِكِتَابٍ مُتَجَدِّدٍ وَتَرْكِ أَخْذِهِمُ الرِّشَا عَلَى آيَاتِ اللَّهِ وَتَرْكِهِمْ إِلْبَاسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكَتْمِ الْحَقِّ الَّذِي لَهُمْ بِذَلِكَ الرِّيَاسَةُ فِي الدُّنْيَا وَالِاسْتِتْبَاعُ لِعَوَامِّهِمْ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، فَكَانَتِ الْبَدَاءَةُ بِالصَّبْرِ لِذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ هُوَ الصَّلَاةَ، وَبِهَا يَتَمَيَّزُ الْمُسْلِمُ مِنَ الْمُشْرِكِ، أَتْبَعَ الصَّبْرَ بِهَا، إِذْ يَحْصُلُ بِهَا الِاشْتِغَالُ عَنِ الدُّنْيَا، وَبِالتِّلَاوَةِ فِيهَا الْوُقُوفُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ اللَّهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ، وَمَصِيرُ الخلق
(1) سورة الفاتحة: 1/ 5.
(2)
سورة طه: 20- 132.
إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ، فَيَرْغَبُ الْمُشْتَغِلُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيَرْغَبُ عَنِ الدُّنْيَا. وَنَاهِيكَ مِنْ عِبَادَةٍ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَيَسْتَغْفِرُ ذَنْبَهُ. وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ فِي أَنْ أُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَيَبْعُدُ دَعْوَى مَنْ قَالَ:
إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لِأَنَّ مَنْ يُنْكِرُهُ لَا يَكَادُ يُقَالُ لَهُ اسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ أَوَّلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ يَقَعُ بَعْدُ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ صَرْفَ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِهِمْ لِغَيْرِ مُوجِبٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ نَظْمِ الْفَصَاحَةِ.
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الصَّلَاةِ. هَذَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ، وَهُوَ الْقَاعِدَةُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ ضَمِيرَ الْغَائِبِ لَا يَعُودُ عَلَى غَيْرِ الْأَقْرَبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ، وَهُوَ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا، فَيَكُونُ مِثْلَ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «1» ، أَيْ الْعَدْلُ أَقْرَبُ، قَالَهُ الْبَجَلِيُّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى إِجَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ مِمَّا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: عَلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا بِالْمَعْنَى ذِكْرُ الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكَعْبَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنُهُوا عَنْهَا، مِنْ قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إِلَى وَاسْتَعِينُوا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَاكْتَفَى بِعَوْدِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّهُمَا كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها «2» فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ، وَكَقَوْلِهِ:
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنْ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الأسود مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ فِيمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرُهَا مَا بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا، قَالَ مُؤَرِّجٌ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَهَمُّ وَأَغْلَبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: انْفَضُّوا إِلَيْها «3» ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ مَيْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ انْصَرَفُوا فِي الْجُمُعَةِ إِلَى التِّجَارَةِ أَهَمُّ وَأَغْلَبُ مِنْ مَيْلِهِمْ إِلَى اللَّهْوِ، فَلِذَلِكَ كَانَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ يَعْنِي أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْعَوْدِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يُخَالِفُ الْعَطْفَ بَأَوْ، فَالْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ مُطَابَقَةُ الضَّمِيرِ لِمَا قَبْلَهُ فِي تَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ، وَأَمَّا الْعَطْفُ بَأَوْ فَلَا يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ إِلَّا عَلَى أَحَدِ مَا سَبَقَ. وَمَعْنَى كِبَرِ الصَّلَاةِ: ثِقَلُهَا وصعوبتها
(1) سورة المائدة: 5/ 8.
(2)
سورة التوبة: 9/ 34.
(3)
سورة الجمعة: 62/ 11.
عَلَى مَنْ يَفْعَلُهَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ «1» ، أَيْ شَقَّ ذَلِكَ وَثَقُلَ.
إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ: اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، وَهُمُ الْمُتَوَاضِعُونَ الْمُسْتَكِينُونَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَشُقَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ، لِأَنَّهَا مُنْطَوِيَةٌ عَلَى أَوْصَافٍ هُمْ مُتَحَلُّونَ بِهَا لِخُشُوعِهِمْ مِنَ الْقِيَامِ لِلَّهِ وَالرُّكُوعِ لَهُ وَالسُّجُودِ لَهُ وَالرَّجَاءِ لِمَا عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ. فَلَمَّا كَانَ مَآلُ أَعْمَالِهِمْ إِلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، سَهُلَ عَلَيْهِمْ مَا صَعُبَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ بِأَعْمَالِهِمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لَهَا نَفْعًا. وَيَجُوزُ فِي الَّذِينَ الْإِتْبَاعُ وَالْقَطْعُ إِلَى الرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ، وَذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ، فَالْقَطْعُ أَوْلَى بِهَا.
ويَظُنُّونَ مَعْنَاهُ: يُوقِنُونَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ مَنْ وُصِفَ بِالْخُشُوعِ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ مُلَاقٍ رَبَّهُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: الْحُسْبَانُ، فَيُحْتَاجُ إِلَى مُصَحِّحٍ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مَا قَدَّرُوهُ مِنَ الْحَذْفِ، وَهُوَ بِذُنُوبِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ مُذْنِبِينَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمِثْلُهُ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ «2» ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا. وَقَالَ دُرَيْدُ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ
…
سُرَاتُهُمْ فِي السَّائِرِيِّ الْمُسْرَدِ
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدْ يُوقَعُ الظَّنُّ مَوْقِعَ الْيَقِينِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَحَقِّقَةِ، لَكِنَّهُ لَا يُوقَعُ فِيمَا قَدْ خَرَجَ إِلَى الْحِسِّ. لَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي رَجُلٍ مَرْئِيٍّ حَاضِرٍ: أَظُنُّ هَذَا إِنْسَانًا، وَإِنَّمَا نَجِدُ الِاسْتِعْمَالَ فِيمَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِسِّ، انْتَهَى. وَالظَّنُّ فِي كِلَا اسْتِعْمَالَيْهِ مِنَ الْيَقِينِ، أَوِ الشَّكِّ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَتَأْتِي بَعْدَ الظَّنِّ أن الناصبة للفعل وإنّ النَّاصِبَةُ لِلِاسْمِ الرَّافِعَةُ لِلْخَبَرِ فَتَقُولُ: ظَنَنْتُ أَنْ تَقُومَ، وَظَنَنْتُ أَنَّكَ تَقُومُ. وَفِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ خِلَافٌ. مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ:
أَنَّ أَنْ وَإِنَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ تَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَذَلِكَ بِجَرَيَانِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ. وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَبَّاسِ: أَنَّ أَنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ أَوَّلٍ، وَالثَّانِي مُقَدَّرٌ، فَإِذَا قُلْتَ: ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، فَتَقْدِيرُهُ: ظَنَنْتُ قِيَامَ زَيْدٍ كَائِنًا أَوْ وَاقِعًا. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، الْمُلَاقَاةُ: مُفَاعَلَةٌ تَكُونُ مِنِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ لَاقَاكَ فَقَدْ لَاقَيْتَهُ.
وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْمُلَاقَاةُ هُنَا، وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهَا تقتضي التشريك،
(1) سورة الشورى: 42/ 13. [.....]
(2)
سورة الحاقة: 69/ 20.
فَهِيَ مِنَ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِمْ: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَعَافَاكَ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ لَقِيَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى لَاقَى، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا، بَلْ فَعَلَ خِلَافٌ فِي الْمَعْنَى لِفَاعَلَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ مِنْ حَيْثُ أن مادة لقي تتضمن مَعْنَى الْمُلَاقَاةِ، بِمَعْنَى أَنَّ وَضْعَ هَذَا الْفِعْلِ، سَوَاءٌ كَانَ مُجَرَّدًا أَوْ عَلَى فَاعِلٍ، مَعْنَاهُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ لَقِيَكَ فَقَدْ لَقِيتَهُ، فَهُوَ لِخُصُوصِ مادته يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةِ، وَيَسْتَحِيلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعَلَ يَكُونُ لِمُوَافَقَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي فَاعَلَ، وَهُوَ أَنْ يُوَافِقَ الْفِعْلَ الْمُجَرَّدَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا كَلَامٌ صَحِيحٌ، أَيْ لَيْسَتِ الْأَفْعَالُ مُجَرَّدُهَا بِمَعْنَى فَاعَلَ، بَلْ فَاعَلَ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَ خِلَافُ فَاعَلَ يَعْنِي بَلِ الْمُجَرَّدُ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَهُوَ خِلَافُ فاعل، لأنه يدل على الِاشْتِرَاكِ، فَضُعِّفَ بِأَنْ يَكُونَ فَاعَلَ مِنَ اللِّقَاءِ مِنْ بَابِ: عَاقَبْتُ اللِّصَّ، حَيْثُ إِنَّ مَادَّةَ اللِّقَاءِ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، سَوَاءٌ كَانَ بِصِيغَةِ الْمُجَرَّدِ أَوْ بِصِيغَةِ فَاعَلَ.
وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، لِأَنَّهَا إِضَافَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ، أَوْ الِاسْتِقْبَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِعْمَالِهِ فِي الْمَفْعُولِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّبِّ، وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَيْهِمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبَّ عَلَى أَيِّ مَحَامِلِهِ حَمَلْتَهُ فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى الْإِحْسَانِ لِمَنْ يَرُبُّهُ، وَتَعَطُّفٌ بَيِّنٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرُ لَفْظِ الرَّبِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى مُلَاقَاةِ رَبِّهِمْ، فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ وَلَا كِنَايَةٍ بِأَنَّ اللِّقَاءَ هُوَ رُؤْيَةُ الْبَارِي تَعَالَى، وَلَا لِقَاءَ أَعْظَمَ وَلَا أَشْرَفَ مِنْهَا، وَقَدْ جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَإِلَى اعْتِقَادِهَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ جَزَاءُ رَبِّهِمْ، لِأَنَّ الْمُلَاقَاةَ بِالذَّوَاتِ مُسْتَحِيلَةٌ فِي غَيْرِ الرُّؤْيَةِ، وَقِيلَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ انْقِضَاءِ أَجْلِهِمْ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّهْ
…
مُحَمَّدًا وَصَحْبَهْ
وَكَنَى بِالْمُلَاقَاةِ عَنِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ ملاقات اللَّهِ مُتَسَبِّبٌ عَنِ الْمَوْتِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُسَبَّبِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّبَبُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَظُنُّ الْمَوْتَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ لَا يُفَارِقُ قَلْبَهُ الْخُشُوعُ، وَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَخَصَّ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الثَّوَابُ، أَيْ ثَوَابُ رَبِّهِمْ.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، يَكُونُ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ مِنْ كَوْنِهِ يُرَادُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْجَزَاءِ، أَوْ كَوْنِ الْمُلَاقَاةِ يُرَادُ بِهَا انْقِضَاءُ الْأَجَلِ، يَكُونُ الظَّنُّ يُرَادُ بِهِ التَّيَقُّنُ. وَقَدْ نَازَعَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي كَوْنِ لَفْظِ اللِّقَاءِ لَا يُرَادُ بِهِ الرُّؤْيَةُ وَلَا يُفِيدُهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: