الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى سُرُورٍ وَحُبُورٍ وَلَذَّةٍ دَائِمَةٍ لَا تَنْقَضِي، يُؤْثِرُ الْوُصُولَ إِلَى ذَلِكَ، وَانْقِضَاءَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالنَّكَدِ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ تَمَنِّيَ الْمَوْتِ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ أَبَدًا، وَأَنَّ امْتِنَاعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْجَرَائِمِ، فَظَهَرَ كَذِبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَرْشِيحًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ عَدَمِ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ، أَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى حَيَاةٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ أَحْرَصُ مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَوَدُّ أَنْ يُعَمَّرَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَتَعْمِيرُهُ، وَإِنْ طَالَ، لَيْسَ بِمُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
ثُمَّ خَتَمَ الْآيَاتِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ، وَمُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا. وَتَبَيَّنَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ فَرْطِ كَذِبِهِمْ، وَتَنَاقُضِ أفعالهم وأقوالهم، ونقض عُقُولِهِمْ، وَكَثْرَةِ بُهْتِهِمْ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَلَكَ بنا أنهج المسالك.
[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 103]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَاّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
جِبْرِيلُ: اسْمُ مَلَكٍ عَلَمٌ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ، لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَبَرُوتِ اللَّهِ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبَ الْإِضَافَةِ. وَمَعْنَى جِبْرِ: عَبْدٌ وَإِيلَ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّ لَا يَدْخُلُهُ الِاشْتِقَاقُ الْعَرَبِيُّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَكَّبًا تَرْكِيبَ الْإِضَافَةِ لَكَانَ مَصْرُوفًا. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَالَ: جِبْرٌ، مِثْلَ: عَبْدٍ وإيل، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ حَضْرَمَوْتَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. يَعْنِي أَنَّهُ يَجْعَلُهُ مُرَكَّبًا تَرْكِيبَ الْمَزْجِ، فَيَمْنَعُهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ. وليس ما ذكر بصحيح، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ، فَيَلْزَمَ الصَّرْفُ فِي الثَّانِي، وَإِجْرَاءُ الْأَوَّلِ بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ، أَوْ لَا يُلْحَظَ، فَيُرَكِّبَهُ تَرْكِيبَ الْمَزْجِ. فَمَا يُرَكَّبُ تَرْكِيبَ الْمَزْجِ يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَالْإِضَافَةُ وَمَنْعُ الصَّرْفِ، فَكَوْنُهُ لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ الْإِضَافَةُ، وَلَا الْبِنَاءُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَرْكِيبِ الْمَزْجِ. وَقَدْ تَصَرَّفَتْ فِيهِ الْعَرَبُ عَلَى عَادَتِهَا فِي تَغْيِيرِ الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، حَتَّى بَلَغَتْ فِيهِ إِلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ لُغَةً. قَالُوا: جِبْرِيلُ: كَقِنْدِيلٍ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ وَحَفْصٍ. وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:
وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعْهُمَا
…
مِنَ اللَّهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ:
وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ مِنْهُمْ لَا كِفَاءَ لَهُ
…
وَكَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ اللَّهِ مَأْمُونَا
وَقَالَ حَسَّانُ:
وجبريل رسول الله فينا
…
وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَكَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْجِيمَ مَفْتُوحَةٌ، وَبِهَا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا أُحِبُّهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فَعْلِيلٌ، وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَا أَدْخَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا تُلْحِقُهُ بِأَبْنِيَةِ كَلَامِهَا، كَلِجَامٍ، وَمِنْهُ مَا لَا تُلْحِقُهُ بِهَا، كَإِبْرَيْسِمٍ. فَجَبْرِيلُ، بِفَتْحِ الْجِيمِ، مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَقِيلَ: جَبْرِيلُ مِثْلُ شَمْوِيلَ، وَهُوَ طَائِرٌ.
وَجِبْرَئِيلُ كَعَنْتَرِيسٍ، وَهِيَ لُغَةُ: تَمِيمٍ، وَقَيْسٍ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ. حَكَاهَا الْفَرَّاءُ، وَاخْتَارَهَا الزَّجَّاجُ وَقَالَ: هِيَ أَجْوَدُ اللُّغَاتِ. وَقَالَ حَسَّانُ:
شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَةٍ
…
مَدَى الدَّهْرِ إِلَّا جَبْرَئِيلَ أَمَامَهَا
وَقَالَ جَرِيرٌ:
عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بمحمد
…
وبجبرئيل وكذبوا ميكال
وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ. وَرَوَاهَا الْكِسَائِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ يَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ. وَتُرْوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّ اللَّامَ مُشَدَّدَةٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبَانَ، عَنْ عَاصِمٍ وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ. وَجِبْرَائِيلُ وَجِبْرَايِيلُ، وَقَرَأَ بِهِمَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ. وَجِبْرَالُ وَجِبْرَائِلُ بِالْيَاءِ وَالْقَصْرِ، وَبِهَا قَرَأَ طَلْحَةُ. وَجِبْرَايِيلُ بِأَلِفٍ بَعْدِ الرَّاءِ، بَعْدَهَا يَاءَانِ، أُولَاهُمَا مَكْسُورَةٌ، وَقَرَأَ بِهَا الْأَعْمَشُ وَابْنُ يَعْمَرَ أَيْضًا. وَجَبْرِينُ وَجِبْرِينُ، وَهَذِهِ لُغَةُ أَسَدٍ. وَجِبْرَائِينُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: جُمِعَ جِبْرِيلُ جَمْعَ التَّكْسِيرِ عَلَى جَبَارِيلَ عَلَى اللُّغَةِ الْعَالِيَةِ. أَذِنَ: بِهِ عَلَّمَ بِهِ، وَآذَنَهُ: أَعْلَمَهُ. آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ:
أَعْلَمْتُكُمْ. ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى التَّمْكِينِ. أَذِنَ لِي فِي كَذَا: أَيْ مَكَّنَنِي مِنْهُ. وَعَلَى الِاخْتِيَارِ فَعَلْتَهُ بِإِذْنِكَ: أَيْ بِاخْتِيَارِكَ. مِيكَائِيلُ: الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي جِبْرِيلَ، أَعْنِي مِنْ مَنْعِ الصَّرْفِ.
وَبَعُدَ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ، أَوْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى مِيكَا: عَبْدٌ، وَإِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَصَرَّفَتْ فِيهِ الْعَرَبُ. قَالُوا: مِيكَالُ، كَمِفْعَالُ، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لنا مدد
…
فِيهِ مَعَ النَّصْرِ مِيكَالٌ وَجِبْرِيلُ
وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّ بَعْدَ الْأَلِفِ هَمْزَةً، وَبِهَا قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ شَنَبُوذَ لِقُنْبُلٍ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّهُ بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَبِهَا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ، وَغَيْرُ ابْنِ شَنَبُوذَ لِقُنْبُلٍ وَالْبَزِّيِّ. وَمِيكَيِيلُ كَمِيكَعِيلَ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَاءَ بَعْدَ الهمزة.
وقرىء بِهَا: وَمِيكَايِيلُ بِيَاءَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ، أُولَاهُمَا مَكْسُورَةٌ، وَبِهَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ. نَبَذَ الشَّيْءَ، يَنْبِذُهُ نَبْذًا: طَرَحَهُ وَأَلْقَاهُ. الظَّهْرُ: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُ فِعْلِ الِاسْمِ غَيْرِ الْمُعْتَلِّ الْعَيْنِ عَلَى فُعُولٍ قِيَاسٌ: كَظُهُورٍ، وَعَلَى فَعْلَانَ: كَظَهْرَانَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظُّهُورِ. تَقُولُ: ظَهَرَ الشَّيْءُ ظُهُورًا، إِذَا بَدَا. تَلَا يَتْلُو: تَبِعَ. وَتَلَا الْقُرْآنَ: قَرَأَهُ وَتَلَا عَلَيْهِ كَذَبَ، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَقَالَ
أَيْضًا: تَلَا عَنْهُ صَدَفَ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ الصِّلَتَيْنِ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ. سُلَيْمَانُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَامْتَنَعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ. وَالْعُجْمَةِ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْأَعْجَمِيَّةِ، فِي أَنَّ فِي آخِرِهِ أَلِفًا وَنُونًا:
هَامَانُ، وَمَاهَانُ، وَسَامَانُ، وَلَيْسَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ، وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ:
كَعُثْمَانَ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْأَلِفِ وَالنُّونِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الِاشْتِقَاقِ وَالتَّصْرِيفِ. وَالِاشْتِقَاقُ وَالتَّصْرِيفُ الْعَرَبِيَّانِ لَا يَدْخُلَانِ الْأَسْمَاءَ الْعَجَمِيَّةَ. السِّحْرُ: مَصْدَرُ سَحَرَ يَسْحَرُ سِحْرًا، وَلَا يُوجَدُ مَصْدَرٌ لِفَعَلَ يَفْعَلُ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ إِلَّا سَحَرَ وَفَعَلَ، قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كُلُّ مَا لَطُفَ وَدَقَّ فَهُوَ سِحْرٌ. يُقَالُ سَحَرَهُ: أَبْدَى لَهُ أَمْرًا يَدِقُّ عَلَيْهِ وَيَخْفَى. انْتَهَى. وَقَالَ:
أَدَاءٌ عَرَانِي مِنْ حَبَائِكَ أَمْ سِحْرُ وَيُقَالُ سَحَرَهُ: خَدَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَرَانَا مَوْضِعِينَ لِأَمْرِ عيب
…
وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
أَيْ نُعَلَّلُ وَنُخْدَعُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَدْلُولِ السِّحْرِ فِي الْآيَةِ. بَابِلُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، اسْمُ أَرْضٍ، وَسَيَأْتِي تَعْيِينُهَا. هَارُوتُ وَمَارُوتُ: اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَدْلُولِهِمَا، وَيُجْمَعَانِ عَلَى: هَوَارِيتَ وَمَوَارِيتَ، وَيُقَالُ: هَوَارِتَةُ وَمَوَارِتَةُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ:
طَالُوتُ وَجَالُوتُ. الْفِتْنَةُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ. فَتَنَ يَفْتِنُ فُتُونًا وَفِتْنَةً. الْمَرْءُ: الرَّجُلُ، وَالْأَفْصَحُ فَتْحُ الْمِيمِ مُطْلَقًا، وَحُكِيَ الضَّمُّ مُطْلَقًا، وَحُكِيَ إِتْبَاعُ حَرَكَةِ الْمِيمِ لِحَرَكَةِ الْإِعْرَابِ فَتَقُولُ: قَامَ الْمُرْءُ: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَرَأَيْتُ الْمَرْءَ: بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَمَرَرْتُ بِالْمِرْءِ: بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَمُؤَنَّثُهُ الْمَرْأَةُ. وَقَدْ جَاءَ جَمْعُهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، قَالُوا: الْمَرْءُونَ. الضَّرَرُ وَالنَّفْعُ مَعْرُوفَانِ، وَيُقَالُ: ضَرَّ يَضُرُّ، بِضَمِّ الضَّادِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْمُضَعَّفِ الْمُتَعَدِّي وَمَصْدَرُهُ: الضُّرُّ وَالضَّرُّ وَالضَّرَرُ، وَيُقَالُ: ضَارَ يَضِيرُ، قَالَ:
يَقُولُ أناس لا يضيرك نابها
…
بَلَى كُلُّ مَا شَفَّ النُّفُوسَ يَضِيرُهَا
وَيُقَالُ: نَفَعَ يَنْفَعُ نَفْعًا. وَرَأَيْتُ فِي شَرْحِ الْمُوجَزِ، الَّذِي لِلرُّمَّانِيِّ فِي النَّحْوِ، وَهُوَ تَأْلِيفُ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ الْأَهْوَازِيُّ، وَلَيْسَ بِأَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ الْمُقْرِي، أَنَّهُ لَا يُقَالُ مِنْهُ اسْمُ مَفْعُولٍ نَحْوُ مَنْفُوعٍ، وَالْقِيَاسُ النَّحْوِيُّ يَقْتَضِيهِ. الْخَلَاقُ، فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
قَالَ: لَكِنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ، قَالَ:
يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ فِيهَا لَا خَلَاقَ لَهُمْ
…
إِلَّا السَّرَابِيلُ مِنْ قُطْرٍ وَأَغْلَالِ
وَالْخَلَاقُ: الْقَدْرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ
…
وَمَا لَكَ فِي غَالِبٍ مِنْ خَلَاقِ
مَثُوبَةٌ: مَفْعَلَةٌ مِنَ الثَّوَابِ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى الثَّاءِ، وَيُقَالُ مَثُوبَةٌ. وَكَانَ قِيَاسُهُ الْإِعْلَالَ فَتَقُولُ: مَثَابَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ صَحَّحُوهُ كَمَا صَحَّحُوا فِي الْأَعْلَامِ مُكَوَّرَةً، وَنَظِيرُهُمَا فِي الْوَزْنِ مِنَ الصَّحِيحِ: مَقْبَرَةٌ وَمَقْبُرَةٌ.
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ: أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: جِبْرِيلُ عَدُّونَا، وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، وَهَلْ كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ مُحَاوَرَتَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ مُحَاوَرَتَهُمْ مَعَ عُمَرَ؟ وَمُلَخَّصُ الْعَدَاوَةِ: أَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ يَأْتِي بِالْهَلَاكِ وَالْخَسْفِ وَالْجَدْبِ، وَلَوْ كَانَ مِيكَالُ صَاحِبَ مُحَمَّدٍ لَاتَّبَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْخِصْبِ وَالسِّلْمِ، وَلِكَوْنِهِ دَافَعَ عَنْ بُخْتَ نَصَّرَ حِينَ أَرَدْنَا قَتْلَهُ، فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَهْلَكَنَا، وَلِكَوْنِهِ يُطْلِعُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَلَى سِرِّنَا. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ: الْجُمْلَةُ بَعْدُ وَمَنْ هُنَا شَرْطِيَّةٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ:
الْعَدَاوَةُ، التَّجَاوُزُ وَمُنَافَاةُ الِالْتِئَامِ. فَبِالْقَلْبِ يُقَالُ الْعَدَاوَةُ، وَبِالْمَشْيِ يُقَالُ الْعَدُوُّ، وَبِالْإِخْلَالِ فِي الْعَدْلِ يُقَالُ الْعُدْوَانُ، وَبِالْمَكَانِ أَوِ النَّسَبِ يُقَالُ قَوْمٌ عِدًى، أَيْ غُرَبَاءُ.
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ: لَيْسَ هَذَا جَوَابَ الشَّرْطِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَلَوْ قُلْتَ: مَنْ يُكْرِمُنِي؟ فَزَيْدٌ قَائِمٌ، لَمْ يَجُزْ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، لَيْسَ فِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ جَزَاءٌ لِلشَّرْطِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ عَوْدِ الضَّمِيرِ، وَلِمُضِيِّ فِعْلِ التَّنْزِيلِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ جَزَاءً، وَإِنَّمَا الْجَزَاءُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: فَعَدَاوَتُهُ لَا وَجْهَ لَهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا التَّقْدِيرَ. وَالضَّمِيرُ فِي فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى جِبْرِيلَ، وَالضَّمِيرُ فِي نَزَّلَهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ؟ وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ. وَلِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ فَإِنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَفِي نَزَّلَهُ عَائِدٌ عَلَى جِبْرِيلَ، التَّقْدِيرُ: فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ جِبْرِيلَ بِالْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِكَ. وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ إِضْمَارٌ يَعُودُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْمَعْنَى. لَكِنَّ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِيَكُونَ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ «1» ، وَيَنْظُرُ لِلتَّقْدِيرِ الثَّانِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ:
نَزَّلَ بِالتَّشْدِيدِ، وَالرُّوحَ بِالنَّصْبِ. وَمُنَاسَبَةُ دَلِيلِ الْجَزَاءِ لِلشَّرْطِ هُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ عدوا لجبريل،
(1) سورة الشعراء: 26/ 193 و 194.
فَعَدَاوَتُهُ لَا وَجْهَ لَهَا، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالْقُرْآنِ الْمُصَدِّقِ لِلْكُتُبِ، وَالْهَادِي وَالْمُبَشِّرِ، كَمَنْ آمَنَ. وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَبَّ وَيُشْكَرَ، إِذْ كَانَ بِهِ سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالتَّنْوِيهِ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، أَوْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَسَبَبُ عَدَاوَتِهِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْقُرْآنَ الْمُصَدِّقَ لِكِتَابِهِمْ، وَالْمُلْزِمَ لَهُمُ اتِّبَاعَكَ، وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ حَرَّفُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَاتِكَ، وَمِنْ أَخْذِ الْعُهُودِ عَلَيْهِمْ فِيهَا، بِأَنْ يَتَّبِعُوكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ: أَنَّ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ مُوجِبٌ لِعَدَمِ الْعَدَاوَةِ، وَالتَّقْدِيرَ الثَّانِيَ كَأَنَّهُ كَالْعُذْرِ لَهُمْ فِي الْعَدَاوَةِ كَقَوْلِكَ: إِنْ عَادَاكَ زَيْدٌ، فَقَدْ آذَيْتَهُ وَأَسَأْتَ إِلَيْهِ.
عَلى قَلْبِكَ: أَتَى بِلَفْظِ عَلَى، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَعْلٍ عَلَى الْقَلْبِ، إِذِ الْقَلْبُ سَامِعٌ لَهُ وَمُطِيعٌ، يَمْتَثِلُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَيَجْتَنِبُ مَا نَهَى عَنْهُ. وَكَانَتْ أَبْلَغَ مِنْ إِلَى، لِأَنَّ إِلَى تَدُلُّ عَلَى الِانْتِهَاءِ فَقَطْ، وَعَلَى تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ. وَمَا اسْتَعْلَى عَلَى الشَّيْءِ يَضْمَنُ الِانْتِهَاءَ إِلَيْهِ.
وَخُصَّ الْقَلْبُ، وَلَمْ يَأْتِ عَلَيْكَ، لِأَنَّ الْقَلْبَ هُوَ مَحَلُّ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَتَلَقِّي الْوَارِدَاتِ، أَوْ لِأَنَّهُ صَحِيفَتُهُ الَّتِي يُرْقَمُ فِيهَا، وَخِزَانَتُهُ الَّتِي يُحْفَظُ فِيهَا، أَوْ لِأَنَّهُ سُلْطَانُ الْجَسَدِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً» .
ثُمَّ
قَالَ أَخِيرًا: «أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» .
أَوْ لِأَنَّ الْقَلْبَ خِيَارُ الشَّيْءِ وَأَشْرَفُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَنَّى بِهِ عَنِ الْعَقْلِ إِطْلَاقًا لِلْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ بِهِ، أَوْ عَنِ الْجُمْلَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، إِذْ قَدْ ذُكِرَ الْإِنْزَالُ عَلَيْهِ فِي أَمَاكِنَ: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «1» وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
«2» ، أَوْ يَكُونُ إِطْلَاقًا لِبَعْضِ الشَّيْءِ عَلَى كُلِّهِ، أَقْوَالٌ سَبْعَةٌ. وَأَضَافَ الْقَلْبَ إِلَى الْكَافِ الَّتِي لِلْخِطَابِ، وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِنْ كَانَ نَظْمُ الْكَلَامِ يَقْتَضِيهِ ظَاهِرًا، لِأَنَّ قوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، هُوَ مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مُضْمَرٍ، التَّقْدِيرُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ قَالَ اللَّهُ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ. وَإِلَى هَذَا نَحَا الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: جَاءَتْ عَلَى حِكَايَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: قل مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ مِنْ قَوْلِي:
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، وَكَلَامُهُ فِيهِ تَثْبِيجٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَحْسُنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُحْرِزَ اللَّفْظَ الَّذِي يَقُولُهُ الْمَأْمُورُ بِالْقَوْلِ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَقْصِدَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ، فَيَسْرُدَهُ مُخَاطَبَةً لَهُ، كَمَا تَقُولُ: قُلْ لِقَوْمِكَ لَا يُهِينُوكَ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَحْوٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
أَلَمْ تَرَ أَنِّي يَوْمَ جَوَّ سُوَيْقَةٍ
…
دَعَوْتُ فَنَادَتْنِي هنيدة ماليا
(1) سورة طه: 20/ 2.
(2)
سورة النساء: 4/ 113. [.....]
فَأَحْرَزَ الْمَعْنَى، وَنَكَبَ عَنْ نِدَاءِ هُنَيْدَةَ مَالَكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةٌ مَعْمُولَةً لِلَّفْظِ: قُلْ، لَا لِقَوْلٍ: مُضْمَرٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ بِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ، اخْتَارَهُ فِي الْمُنْتَخَبِ وَمِنْهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ «1» ، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ»
. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ «3» ، أَوْ بِعِلْمِهِ وَتَمْكِينِهِ إِيَّاهُ مِنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَوْ بِاخْتِيَارِهِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، أَوْ بِتَيْسِيرِهِ وَتَسْهِيلِهِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ: انْتِصَابُ مُصَدِّقًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَزَّلَهُ، إِنْ كَانَ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِنْ عَادَ عَلَى جِبْرِيلَ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَجْرُورِ الْمَحْذُوفِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ جِبْرِيلَ بِالْقُرْآنِ مُصَدِّقًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ جِبْرِيلَ. وَمَا: فِي لِمَا مَوْصُولَةٌ، وَعَنَى بِهَا الْكُتُبَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَ إِنْزَالِهِ، أَوِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَالْهَاءُ: فِي بَيْنَ يَدَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعُودَ عَلَى جِبْرِيلَ. فَالْمَعْنَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ.
وَهُدىً وَبُشْرى: مَعْطُوفَانِ عَلَى مُصَدِّقًا، فَهُمَا حَالَانِ، فَيَكُونُ مِنْ وَضْعِ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَهَادِيًا وَمُبَشِّرًا، أَوْ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، كَأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ بِهِ الْهُدَى وَالْبُشْرَى، جُعِلَ نَفْسَ الْهُدَى وَالْبُشْرَى. وَالْأَلِفُ فِي بُشْرَى لِلتَّأْنِيثِ، كَهِيَ فِي رُجْعَى، وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا «4» فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِتَصْدِيقِهِ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّهُ هُدًى، إِذْ فِيهِ بَيَانُ مَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ، وَأَنَّهُ بُشْرَى لِمَنْ حَصَلَ لَهُ الْهُدَى. فَصَارَ هَذَا التَّرْتِيبُ اللَّفْظِيُّ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، لِكَوْنِ مَدْلُولَاتِهَا تَرَتَّبَتْ تَرْتِيبًا وُجُودِيًّا. فَالْأَوَّلُ: كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُتُبَ كُلَّهَا مِنْ يَنْبُوعٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي:
أَنَّ الْهِدَايَةَ حَصَلَتْ بِهِ بَعْدَ نُزُولِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ التَّصْدِيقِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بُشْرَى لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ بِهِ الْهِدَايَةُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَهُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ وَبُشْرَى بِالْجَنَّةِ. لِلْمُؤْمِنِينَ:
خَصَّ الْهُدَى وَالْبُشْرَى بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُ لَهُمْ هُدًى بِهِ وَلَا بُشْرَى، كَمَا قَالَ: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى «5» ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْمُبَشَّرُونَ، فَبَشِّرْ عِبادِ «6» ،
(1) سورة هود: 11/ 105.
(2)
سورة البقرة: 2/ 255.
(3)
سورة مريم: 19/ 64.
(4)
سورة البقرة: 2/ 25.
(5)
سورة فصلت: 41/ 44.
(6)
سورة الزمر: 39/ 17.
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ «1» . وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَعْظِيمِ جِبْرِيلَ وَالتَّنْوِيهِ بِقَدْرِهِ، حَيْثُ جَعَلَهُ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ أَشْرَفِ خَلْقِهِ، وَالْمُنَزَّلَ بِالْكِتَابِ الْجَامِعِ لِلْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ. وَدَلَّتْ عَلَى ذَمِّ الْيَهُودِ حَيْثُ أَبْغَضُوا مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعَلَّقَتْ بِهَا الْبَاطِنِيَّةُ، وَقَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ إِلْهَامٌ وَالْحُرُوفَ عِبَارَةُ الرَّسُولِ.
وَرُدَّ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ بِنَظْمِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ وَحْيًا وَكِتَابًا وَعَرَبِيًّا، وَأَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِهِ، وَالْمُلْهَمُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جِبْرِيلَ.
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ: الْعَدَاوَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَالْعَبْدِ لَا تَكُونُ حَقِيقَةً، وَعَدَاوَةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ، وَمَعْنَاهَا: مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَعَدَاوَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، مُجَازَاتُهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ. وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ. أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: وَمَلَائِكَتِهِ، أَمْرَ جِبْرِيلَ، إِذِ الْيَهُودُ قَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّهُ عَدُوُّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِكَوْنِهِ يَأْتِي بِالْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، بِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الْخُيُورِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْجَامِعُ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ، مِنْ مُوَافَقَتِهِ لِكُتُبِهِمْ، وَكَوْنِهِ هُدًى وَبُشْرَى، فَكَانَتْ تَجِبُ مَحَبَّتُهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بِأَنْ قَرَنَهُ بِاسْمِهِ تَعَالَى مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومِ مَلَائِكَتِهِ، ثُمَّ ثَانِيًا تَحْتَ عُمُومِ رُسُلِهِ، لِأَنَّ الرُّسُلَ تَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ أُرْسِلَ مِنْ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ ثَالِثًا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى ذِكْرِهِ مُجَرَّدًا مَعَ مَنْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُ، وَهُوَ مِيكَالُ، فَصَارَ مَذْكُورًا فِي هذه الآية ثلاث مرار، كُلُّ ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَذَمٌّ لَهُمْ، وَتَنْوِيهٌ بِجِبْرِيلَ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدُوٌّ لِمَنْ عَادَى اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ. وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ جَمَعَ عَدَاوَةَ الْجَمِيعِ، فَاللَّهُ تَعَالَى عَدُوُّهُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عَادَى وَاحِدًا مِمَّنْ ذُكِرَ، فَاللَّهُ عَدُوُّهُ، إِذْ مُعَادَاةُ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ مُعَادَاةٌ لِلْجَمِيعِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَبْغَضَ رَسُولًا أَوْ مَلَكًا فَقَدْ كَفَرَ. فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْوَاوُ هُنَا بِمَعْنَى أَوْ، وَلَيْسَتْ لِلْجَمْعِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَاوُ لِلتَّفْصِيلِ، وَلَا يُرَادُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا لِجَمِيعِ الرُّسُلِ، بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ عَلَى الْجِنْسِ بِصُورَةِ الْجَمْعِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ كَلَّمْتِ الرِّجَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِنْ كَلَّمْتِ كُلَّ الرِّجَالِ، وَلَا أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ بِالْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ الْجَمْعِ، فَلَوْ كَلَّمَتْ رَجُلًا وَاحِدًا طُلِّقَتْ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْجَمْعُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ. فَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عَادَى اللَّهَ، أَوْ مَلَكًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ، أَوْ رَسُولًا مِنْ رُسُلِهِ، فالله عدوّ له.
(1) سورة التوبة: 9/ 21.
وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِافْتِتَاحُ بِاسْمِ اللَّهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ «1» ، وَخَصَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمَا وَتَفْضِيلًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا عن أستاذنا أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بن الزُّبَيْرِ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّي لَنَا هَذَا النَّوْعَ بِالتَّجْرِيدِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومٍ، ثُمَّ تُفْرِدَهُ بِالذِّكْرِ، وَذَلِكَ لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِهِ دُونَ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ. فَجِبْرِيلَ وَمِيكَالُ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، وَنَزَلَ التَّغَايُرُ فِي الْوَصْفِ كَالتَّغَايُرِ فِي الْجِنْسِ، فَعُطِفَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعَطْفِ، أَعْنِي عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ، هُوَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي انْفَرَدَتْ بِهَا الْوَاوُ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ. وَقِيلَ: خُصَّا بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ ذكرهما، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِمَا. فَلَوْ لَمْ يُذْكَرَا، لَكَانَ لِلْيَهُودِ تَعَلُّقٌ بِأَنْ يَقُولُوا: لَمْ نُعَادِ اللَّهَ؟ وَلَا جَمِيعَ مَلَائِكَتِهِ؟ وَقِيلَ: خُصَّا بِالذِّكْرِ دَفْعًا لِإِشْكَالِ: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكُفْرِ عَدَاوَةُ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، لَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَابْتُدِئَ بِذِكْرِ اللَّهِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْوَسَائِطِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّسُلِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْوَسَائِطِ الَّتِي بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. فَهَذَا تَرْتِيبٌ بِحَسَبِ الْوَحْيِ. وَلَا يَدُلُّ تَقْدِيمُ الْمَلَائِكَةِ فِي الذِّكْرِ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَى رُسُلِ بَنِي آدَمَ، لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ تَرْتِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَسَائِطِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّفْضِيلِ. وَيَأْتِي قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيَّ: بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَشْرَفُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالُوا: وَاخْتِصَاصُ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمَا أَشْرَفَ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالُوا: جِبْرِيلَ أَفْضَلُ مِنْ مِيكَالَ، لِأَنَّهُ قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ، وَلِأَنَّهُ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ وَالْعِلْمِ، وَهُوَ مَادَّةُ الْأَرْوَاحِ. وَمِيكَالُ يَنْزِلُ بِالْخِصْبِ وَالْأَمْطَارِ، وَهِيَ مَادَّةُ الْأَبْدَانِ، وَغِذَاءُ الْأَرْوَاحِ أَشْرَفُ مِنْ غِذَاءِ الْأَشْبَاحِ، انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ تَفْضِيلُ جِبْرِيلَ عَلَى مِيكَائِيلَ إِلَى نَصٍّ جَلِيٍّ وَاضِحٍ، وَالتَّقَدُّمُ فِي الذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّفْضِيلِ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي. وَمَنْ: فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ عَدُوًّا شَرْطِيَّةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْجَوَابِ فَقِيلَ: هُوَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: فَهُوَ كَافِرٌ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ الْجَوَابُ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ، وَأَتَى بِاسْمِ اللَّهِ ظَاهِرًا، وَلَمْ يَأْتِ بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُفْهَمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ فَيَنْقَلِبَ الْمَعْنَى، أَوْ عَائِدٌ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ مِيكَالُ، فَأَظْهَرَ الِاسْمَ لِزَوَالِ اللَّبْسِ، أَوْ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا فَخَّمَتْ شَيْئًا كَرَّرَتْهُ بِالِاسْمِ الَّذِي تَقَدَّمَ لَهُ وَمِنْهُ: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ «2» ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ «3» ، وقول الشاعر:
(1) سورة الأنفال: 8/ 41.
(2)
سورة الحج: 22/ 60.
(3)
سورة الحج: 22/ 40.
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الموت شيا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ خَبَرًا لِلشَّرْطِ، تَحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ لِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِاسْمِ الشَّرْطِ.
وَالرَّابِطُ هُنَا الِاسْمُ الظَّاهِرُ وَهُوَ: الْكَافِرِينَ، أُوقِعَ الظَّاهِرُ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ لِتَوَاخِي أَوَاخِرِ الْآيِ، وَلِيَنُصَّ عَلَى عِلَّةِ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ الْكُفْرُ، إِذْ مَنْ عَادَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَهُوَ كَافِرٌ. أَوْ يُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْعُمُومُ، فَيَكُونُ الرَّابِطُ الْعُمُومَ، إِذِ الْكُفْرُ يَكُونُ بِأَنْوَاعٍ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ بِهَذَا الشَّيْءِ الْخَاصِّ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، فَيَحْصُلُ الرَّبْطُ بِذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
عَدُوٌّ للكافرين، أراد عدوّ لَهُمْ، فَجَاءَ بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَادَاهُمْ لِكُفْرِهِمْ، وَأَنَّ عَدَاوَةَ الْمَلَائِكَةِ كُفْرٌ. وَإِذَا كَانَتْ عَدَاوَةُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرًا، فَمَا بَالُ الْمَلَائِكَةِ؟ وَهُمْ أَشْرَفُ. وَالْمَعْنَى:
مَنْ عَادَاهُمْ عَادَاهُ اللَّهُ وَعَاقَبَهُ أَشَدَّ الْعِقَابِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ بَنِي آدَمَ. وَدَلَّ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ وَقَعَ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الْعُمُومُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ بِعُمُومِ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَى مَنْ يُشْكِلُ، سَوَاءٌ أَفْرَدْتَهُ أَوْ جَمَعْتَهُ، وَلَوْ لَمْ يُبَالِ بِالْإِشْكَالِ. وَقُلْنَا: الْمَعْنَى يَدُلُّ السَّامِعَ عَلَى الْمَقْصِدِ لَلَزِمَ تَعْيِينُ قَوْمٍ بِعَدَاوَةِ اللَّهِ لَهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنِ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْمِنُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ عَدَاوَةُ اللَّهِ لِلْمَآلِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ نَطَقَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُجَاوِبًا لِبَعْضِ الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ عَدُوُّنَا، يَعْنِي جِبْرِيلَ، فَنَزَلَتْ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْخَبَرُ ضَعِيفٌ.
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا، فِيمَا
ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ، أَنَّ ابْنَ صُورِيَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا جِئْتَ بِآيَةٍ بَيِّنَةٍ، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ فَنَتَّبِعَكَ لَهَا، فَنَزَلَتِ انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى جُمَلًا مِنْ قَبَائِحِ الْيَهُودِ وَذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مُعَادَاتِهُمْ لِجِبْرِيلَ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ إِنْكَارَهُمْ لِمَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الرَّسُولَ عليه السلام أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَأَنَّهُ لَا يَجْحَدُ نُزُولَهَا إِلَّا كُلُّ فَاسِقٍ، وَذَلِكَ لِوُضُوحِهَا. وَالْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، أَيِ الْقُرْآنُ، أَوِ الْمُعْجِزَاتُ الْمَقْرُونَةُ بِالتَّحَدِّي، أَوِ الْإِخْبَارُ عَمَّا خَفِيَ وَأُخْفِيَ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، أَوِ الشَّرَائِعُ، أَوِ الْفَرَائِضُ، أَوْ مَجْمُوعُ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ. وَالظَّاهِرُ مُطْلَقُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ غَيْرَ مُعَيَّنٍ شَيْءٌ مِنْهَا، وَعُبِّرَ عَنْ وُصُولِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْإِنْزَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى مَا دُونَهُ.
وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ: الْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ هُنَا: الْكَافِرُونَ، لِأَنَّ كُفْرَ آيَاتِ اللَّهِ
تَعَالَى هُوَ مِنْ بَابِ فِسْقِ الْعَقَائِدِ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ فِسْقِ الْأَفْعَالِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا اسْتُعْمِلَ الْفِسْقُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي، وَقَعَ عَلَى أَعْظَمِهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ. انْتَهَى. وَنَاسَبَ قَوْلُهُ:
بَيِّنَاتٍ لَفْظَ الْكُفْرِ، وَهُوَ التَّغْطِيَةُ، لِأَنَّ الْبَيِّنَ لَا يَقَعُ فِيهِ إِلْبَاسٌ، فَعَدَمُ الْإِيمَانِ بِهِ لَيْسَ لِشُبْهَةٍ لِأَنَّهُ بَيِّنٌ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْطِيَةٌ وَسَتْرٌ لِمَا هُوَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ. وَسَتْرُ الْوَاضِحِ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ مُتَمَرِّدٍ فِي فِسْقِهِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْفَاسِقُونَ، إِمَّا لِلْجِنْسِ، وَإِمَّا لِلْعَهْدِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ. وَكَنَّى بِالْفِسْقِ هُنَا عَنِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْفِسْقَ: خُرُوجُ الْإِنْسَانِ عَمَّا حُدَّ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَعْظَمِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْمَبَالِغُ فِي كُفْرِهِ، الْمُنْتَهِي فِيهِ إِلَى أَقْصَى غَايَةٍ. وَإِلَّا الْفَاسِقُونَ: اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا أَحَدٌ، فَنَفَى أَنْ يَكْفُرَ بِالْآيَاتِ الْوَاضِحَاتِ أَحَدٌ. ثُمَّ اسْتَثْنَى الْفُسَّاقَ مِنْ أَحَدٍ، وَأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهَا. وَيَجُوزُ فِي مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ أَنْ يُنْصَبَ فِي نَحْوٍ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، فَأَجَازَ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدًا، عَلَى مُرَاعَاةِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَمْ يُحْذَفْ، لَجَازَ النَّصْبُ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ الْبَصْرِيُّونَ.
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً: نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُخِذَ عَلَيْنَا عَهْدٌ فِي كِتَابِنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَلَا مِيثَاقٌ. وَقِيلَ فِي الْيَهُودِ: عَاهَدُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَنَكُونَنَّ مَعَهُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْعُهُودُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ نَقَضُوهَا، كَفِعْلِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ «1» . وَقَرَأَ الجمهور: أو كلما، بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْوَاوِ فَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: هِيَ أَوْ السَّاكِنَةُ الْوَاوِ، حركت بِالْفَتْحِ، وَهِيَ بِمَعْنَى بَلْ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: وَاوُ الْعَطْفِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ: أَنَّ الْأَصْلَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْوَاوِ، وَالْفَاءِ، وَثُمَّ، عَلَى هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ. وَإِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، مُقَدَّرًا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ هُنَا أَكَفَرُوا بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ؟ وَكُلَّما عاهَدُوا «2» . وَقَدْ رَجَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ اخْتِيَارِهِ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (بِالتَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) . وَالْمُرَادُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ: الْإِنْكَارُ، وَإِعْظَامُ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ تَكَرُّرِ عُهُودِهِمْ وَنَقْضِهَا، فَصَارَ ذَلِكَ عَادَةً لَهُمْ وَسَجِيَّةً. فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَرَثَ بِأَمْرِهِمْ، وَأَنْ لَا يَصْعُبَ ذَلِكَ، فَهِيَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، إذ كفروا بما أنزل
(1) سورة الأنفال: 8/ 56.
(2)
سورة البقرة: 2/ 100.
عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا كَانَ دَيْدَنًا لِلشَّخْصِ وَخُلُقًا، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَفَلَ بِأَمْرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ الْعَدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوْ كُلَّمَا بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَخَرَّجَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْعَطْفِ عَلَى الْفَاسِقِينَ، وَقَدَّرَهُ: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الَّذِينَ فَسَقُوا، أَوْ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِرَارًا كَثِيرَةً. وَخَرَّجَهُ الَمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ أَوْ لِلْخُرُوجِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى غَيْرِهِ، بِمَنْزِلَةِ أَمْ الْمُنْقَطِعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ، لِأُعَاقِبَنَّكَ، فَيَقُولُ لَهُ: أَوْ يُحْسِنُ اللَّهُ رَأْيَكَ، أَيْ بَلْ يُحْسِنُ الله رَأْيَكَ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، إِذْ يَكُونُ أَوْ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ بَلْ.
وَأَنْشَدُوا شَاهِدًا عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى قَوْلَ الشَّاعِرِ:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى
…
وصورتها أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
وقد جاءت أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ:
مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ وَقَوْلِهِ:
صُدُورُ رِمَاحٍ أُشْرِعَتْ أَوْ سَلَاسِلُ يُرِيدُ: وَشَافِعٌ وَسَلَاسِلُ.
وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ: فِي قَوْلِهِ خَطِيئَةً، أَوْ إثما، أن المعنى: وإثما فَيُحْتَمَلُ أَنْ تُخَرَّجَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ: أو كلما عُوهِدُوا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ تُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ. وَانْتِصَابُ عَهْدًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصدر، أَيْ مُعَاهَدَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ عَلَى تَضْمِينِ عَاهَدَ مَعْنَى: أَعْطَى، أَيْ أعطوا عهدا. وقرىء: عَهِدُوا، فَيَكُونُ عَهْدًا مَصْدَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ. مَا الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. نَبَذَهُ:
طَرَحَهُ، أَوْ نَقَضَهُ، أَوْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، أَوِ اعْتَزَلَهُ، أَوْ رَمَاهُ. أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَنِسْبَةُ النَّبْذِ إِلَى الْعَهْدِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْعَهْدَ مَعْنًى، وَالنَّبْذَ حَقِيقَةٌ، إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُتَجَسِّدَاتِ: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ «1» ، إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
«2» ، فَنَبَذَ خَاتَمَهُ، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ، لَنُبِذَ بِالْعَراءِ «3» .
فَرِيقٌ مِنْهُمْ: الْفَرِيقُ اسْمُ جِنْسٍ لَا وَاحِدَ لَهُ، يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وقرأ
(1) سورة القصص: 28/ 40.
(2)
سورة مريم: 19/ 16. [.....]
(3)
سورة القلم: 68/ 49.
عَبْدُ اللَّهِ: نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ تُخَالِفُ سَوَادَ الْمُصْحَفِ، فَالْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ.
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونَ أَكْثَرُهُمْ مُبْتَدَأً، وَلَا يُؤْمِنُونَ خبر عَنْهُ، وَالضَّمِيرُ فِي أَكْثَرِهِمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي عَاهَدُوا، وَهُمُ الْيَهُودُ. وَمَعْنَى هَذَا الْإِضْرَابِ هُوَ: انْتِقَالٌ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ، وَيَكُونُ الْأَكْثَرُ عَلَى هَذَا وَاقِعًا على ما لا يَقَعُ عَلَيْهِ الْفَرِيقُ، كَأَنَّهُ أَعَمُّ، لِأَنَّ مَنْ نَبَذَ الْعَهْدَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَلِ الْفَرِيقُ الَّذِي نَبَذَ الْعَهْدَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ الْفَرِيقِ، مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَيَكُونَ أَكْثَرُهُمْ مَعْطُوفًا عَلَى فَرِيقٍ، أَيْ نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ، جُمْلَةً حَالِيَّةً، الْعَامِلُ فِيهَا نَبَذَهُ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ أَكْثَرُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ الْفَرِيقُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَأُسْنِدَ النَّبْذُ إِلَيْهِ، كَانَ فِيمَا يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّابِذُونَ قَلِيلًا، فَبَيَّنَ أَنَّ النَّابِذِينَ هُمُ الْأَكْثَرُ، وَصَارَ ذِكْرُ الْأَكْثَرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْيَسِيرُ مِنْهُمْ، فَكَانَ هَذَا إِضْرَابًا عَمَّا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ الْفَرِيقِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْقَلِيلِ. وَالضَّمِيرُ فِي أَكْثَرُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْفَرِيقِ، أَوْ عَلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ، ذَكَرَ الْأَكْثَرَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالنَّبْذِ، أَوْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ آمَنَ، وَمَنْ آمَنَ فَمَا نَبَذَ الْعَهْدَ.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي كُتُبِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ: الضَّمِيرُ فِي جَاءَهُمْ عَائِدٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى عُلَمَائِهِمْ، وَالرَّسُولُ، محمد صلى الله عليه وسلم، أَوْ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، أَوْ مَعْنَاهُ الرِّسَالَةُ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا، كَمَا فَسَّرُوا بِذَلِكَ قَوْلَهُ:
لَقَدْ كَذَبَ الواشون ما بحت عندهم
…
بِلَيْلَى وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أَيْ بِرِسَالَةٍ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْيَهُودِ إِنَّمَا سِيقَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ قل، وفَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالِالْتِفَاتِ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى اسْمٍ غَائِبٍ، وَوُصِفَ بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ: تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، إِذِ الرَّسُولُ عَلَى قَدْرِ الْمُرْسَلِ. ثُمَّ وُصِفَ أَيْضًا بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، قَالُوا: وَتَصْدِيقُهُ أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ تَصْدِيقُهُ عَلَى قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ، أَوْ تَصْدِيقُهُ: إِخْبَارُهُ بِأَنَّ الَّذِي مَعَهُمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُوسَى، أَوْ تَصْدِيقُهُ: إِظْهَارُ مَا سَأَلُوا عَنْهُ مِنْ غَوَامِضِ
التَّوْرَاةِ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. وَإِذَا فُسِّرَ بِعِيسَى، فَتَصْدِيقُهُ هُوَ بِالتَّوْرَاةِ، وَإِذَا فُسِّرَ بِالرِّسَالَةِ، فَنِسْبَةُ الْمَجِيءِ وَالتَّصْدِيقِ إِلَى الرِّسَالَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مُصَدِّقًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَحَسَّنَ مَجِيئَهَا مِنَ النَّكِرَةِ كَوْنُهَا قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» . لِما مَعَهُمْ: هُوَ التَّوْرَاةُ. وَقِيلَ: جَمِيعُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ، كَزَبُورِ دَاوُدَ، وَصُحُفِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي يُؤْمِنُونَ بِهَا.
نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: الْكِتَابُ الَّذِي أُوتُوهُ هُوَ التَّوْرَاةُ، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَأُوتُوا، عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَمَفْعُولٌ أَوَّلٌ عَلَى مَذْهَبِ السُّهَيْلِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ. كِتابَ اللَّهِ: هُوَ مَفْعُولٌ بِنَبَذَ. فَقِيلَ: كتاب الله هو التوراة. وَمَعْنَى نَبْذِهِمْ لَهُ:
اطِّرَاحُ أَحْكَامِهِ، أَوِ اطِّرَاحُ مَا فِيهِ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذِ الْكُفْرُ بِبَعْضٍ، كُفْرٌ بِالْجَمِيعِ.
وَقِيلَ: الْإِنْجِيلُ، وَنَبْذُهُمْ لَهُ: اطِّرَاحُهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَهَذَا أَظْهَرُ، إِذِ الْكَلَامُ مَعَ الرَّسُولِ. فَصَارَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُصَدِّقُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهُمْ بِالْعَكْسِ، يُكَذِّبُونَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَطْرَحُونَهُ. وَأَضَافَ الْكِتَابَ إِلَى اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهُ، كَمَا أَضَافَ الرَّسُولَ إِلَيْهِ بِالْوَصْفِ السَّابِقِ، فَصَارَ ذَلِكَ غَايَةً فِي ذَمِّهِمْ، إِذْ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِكِتَابِهِ الْمُصَدِّقِ لِكِتَابِهِمْ، وَهُوَ شَاهِدٌ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ، فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ، وَهَذَا مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الشَّيْءِ جُمْلَةً. تَقُولُ الْعَرَبُ: جَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَدُبُرَ أُذُنِهِ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
تَمِيمُ بْنَ مُرٍّ لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي
…
بِظَهْرٍ وَلَا يَعْيَا عَلَيْكَ جَوَابُهَا
وَقَالَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا جُعِلَ وَرَاءَ الظَّهْرِ فَلَا يُمْكِنُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ:
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا «2» . وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: النَّبْذُ وَالطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ مُتَقَارِبَةٌ، لَكِنَّ النَّبْذَ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِيمَا يَئِسَ، وَالطَّرْحُ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الْمَبْسُوطِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَالْإِلْقَاءُ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مُلَاقَاةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ.
كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَصَاحِبُ الْحَالِ فَرِيقٌ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ نَبَذَ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِمَنْ يَعْلَمُ بِمَنْ يَجْهَلُ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِالشَّيْءِ لَا يَحْفُلُ بِهِ وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا شُعُورَ لَهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ. وَمُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ، لَا يُدَاخِلُهُمْ فِيهِ شَكٌّ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَتَحَقُّقِهِ، وَإِنَّمَا نَبَذُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَابَرَةِ
(1) سورة البقرة: 2/ 79.
(2)
سورة هود: 11/ 92.
وَالْعِنَادِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ بين أيديهم يقرأونه، وَلَكِنَّهُمْ نَبَذُوا الْعَمَلَ بِهِ. وَعَنْ سُفْيَانَ أَدْرَجُوهُ فِي الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، وَحَلَّوْهُ بِالذَّهَبِ، وَلَمْ يُحِلُّوا حَلَالَهُ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا حَرَامَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَسُفْيَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ هُوَ التَّوْرَاةُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ محمد صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ صَادِقٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كُتُبُ اللَّهِ، وَأَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا حَقٌّ، وَالْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ.
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، مَعْنَى اتَّبَعُوا: أَيِ اقْتَدَوْا بِهِ إِمَامًا، أَوْ فَضَّلُوا، لِأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ شَيْئًا فَضَّلَهُ، أَوْ قَصَدَ وَاوَ الضَّمِيرِ فِي وَاتَّبَعُوا لِلْيَهُودِ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ: يَعُودُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى جَمِيعِ الْيَهُودِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمَّا جَاءَهُمْ إِلَى آخِرِهَا، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمْ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّبَعَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لَا أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى مَجِيءِ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ ذَلِكَ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ، بِخِلَافِ نَبْذِ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى مَجِيءِ الرَّسُولِ. وَتَتْلُو: تَتَبِّعُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ تَدَّعِي، أَوْ تَقْرَأُ، أَوْ تُحَدِّثُ، قَالَهُ عَطَاءٌ، أَوْ تَرْوِي، قَالَهُ يَمَانٌ، أَوْ تَعْمَلُ، أَوْ تَكْذِبُ، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَهِيَ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَمَا مَوْصُولَةٌ، صِلَتُهَا تَتْلُو، وَهُوَ مُضَارِعٌ فِي مَعْنَى الْمَاضِي، أَيْ مَا تَلَتْ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْمَعْنَى: مَا كَانَتْ تَتْلُو، لَا يُرِيدُونَ أَنَّ صِلَةَ مَا مَحْذُوفَةٌ، وَهِيَ كَانَتْ وَتَتْلُو، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّ الْمُضَارِعَ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَاضِي، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ، هُوَ إِخْبَارٌ بِقِيَامِ زَيْدٍ، وَهُوَ مَاضٍ لِدَلَالَةِ كَانَ عَلَيْهِ. وَالشَّيَاطِينُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ الشَّيْطَانُ، تَبَادَرَ الذِّهْنُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْجَانِّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: الشَّيَاطُونَ، بِالرَّفْعِ بِالْوَاوِ، هُوَ شَاذٌّ، قَاسَهُ عَلَى قَوْلِ الْعَرَبِ: بُسْتَانُ فُلَانٍ حَوْلَهُ بَسَاتُونَ، رَوَاهُ الْأَصْمَعِيُّ. قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْجِنَّ فَاحِشٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: شَبَّهَ فِيهِ الْيَاءَ قَبْلَ النُّونِ بِيَاءِ جَمْعِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْغَلَطِ.
وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: خَطَّأَهُ الْخَازَرْبَجِيُّ.
عَلَى مُلْكِ: مُتَعَلِّقٌ بِتَتْلُو، وَتَلَا يَتَعَدَّى بِعَلَى إِذَا كَانَ مُتَعَلِّقُهَا يُتْلَى عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: يُتْلَى عَلَى زَيْدٍ الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ الْمُلْكُ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَخْصًا يُتْلَى عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ زَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ عَلَى تَكُونُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ تَتْلُو فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا:
لَا تَكُونُ عَلَى فِي مَعْنَى فِي، بَلْ هَذَا مِنَ التَّضْمِينِ فِي الْفِعْلِ ضُمِّنَ تَتَقَوَّلُ، فَعُدِّيَتْ بِعَلَى لِأَنَّ تَقَوَّلَ: تُعَدَّى بِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا «1» وَمَعْنَى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أَيْ شَرْعِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَحَالِهِ. وَقِيلَ: عَلَى عَهْدِهِ، وَفِي زَمَانِهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ. وَقِيلَ: عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ آلَاتِ مُلْكِهِ. وَفَسَّرُوا مَا يَتْلُو الشَّيَاطِينُ بِالسِّحْرِ، قَالُوا: وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَالْأَظْهَرُ عَلَى مَا نُقِلَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، مِنْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَتَبَتِ السِّحْرَ وَاخْتَلَقَتْهُ وَنَسَبَتْهُ إِلَى سُلَيْمَانَ وَآصَفَ. وَقِيلَ: الَّذِي تَلَتْهُ هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي تُضِيفُهُ إِلَى مَا تَسْتَرِقُ مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، وَأَضَافُوا ذَلِكَ إِلَى سُلَيْمَانَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ مَا يَتْلُونَهُ، لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مَعَهُ: مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِظْهَارِ الْخَوَارِقِ، وَتَسْخِيرِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَتَقْرِيبِ الْمُتَبَاعِدَاتِ، وَتَأْلِيفِ الْخَوَاطِرِ، وَتَكْلِيمِ الْعَجْمَاوَاتِ، كَانَ أَمْرًا عَظِيمًا. وَالسَّاحِرُ يَدَّعِي أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ: مِنْ تَسْخِيرِ الْجِنِّ، وَبُلُوغِ الْآمَالِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الْخَوَاطِرِ، بَلْ وَيَدَّعِي قَلْبَ الْأَعْيَانِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى السِّحْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا حَصَلَ بِالسِّحْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كَيْفِيَّاتِ مَا رَتَّبُوهُ مِنْ هَذَا الَّذِي تَلَوْهُ قِصَصًا كَثِيرَةً، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَلَا الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ الصَّحِيحُ لِشَيْءٍ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ نَذْكُرْهُ.
وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ: تَنْزِيهٌ لِسُلَيْمَانَ عَنِ الْكُفْرِ، أَيْ لَيْسَ مَا اخْتَلَقَتْهُ الْجِنُّ مِنْ نِسْبَةِ مَا تَدَّعِيهِ إِلَى سُلَيْمَانَ تَعَاطَاهُ سُلَيْمَانُ، لِأَنَّهُ كُفْرٌ، وَمَنْ نَبَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، فَضْلًا عَنِ الْكُفْرِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نَفْيِ الشَّيْءِ عَمَّنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَا نَسَبُوهُ إِلَى سُلَيْمَانَ مِنَ السِّحْرِ يَكُونُ كُفْرًا، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ نَسَبُوا إِلَيْهِ الْكُفْرَ مَعَ السِّحْرِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذَكَرَ سُلَيْمَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ: انْظُرُوا إِلَى مُحَمَّدٍ يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا.
وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْآيَاتِ أَنَّ أَحَدًا نَسَبَ سُلَيْمَانَ إِلَى الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهَا آيَةٌ نَزَلَتْ فِي السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ الْيَهُودَ نَسَبَتْهُ إِلَى السِّحْرِ وَالْعَمَلِ بِهِ.
وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا: كُفْرُهُمْ، إِمَّا بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وَإِمَّا تَعَلُّمِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا بِتَكْفِيرِهِمْ سُلَيْمَانَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَاسْتِعْمَالُ لَكِنَّ هَنَا حَسَنٌ، لِأَنَّهَا بَيْنَ نَفْيٍ وإثبات. وقرىء: وَلَكِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، فَيَجِبُ إِعْمَالُهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وابن
(1) سورة الحاقة: 69/ 44.
كثير وأبي عمرو. وقرىء: بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَرَفْعِ مَا بَعْدَهَا بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ. وَإِذَا خُفِّفَتْ، فَهَلْ يَجُوزُ إِعْمَالُهَا؟ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ الْجُمْهُورُ: عَلَى الْمَنْعِ وَنَقَلَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الرِّمَاكِ عَنْ يُونُسَ جَوَازَ إِعْمَالِهَا، وَنَقَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ عَنِ الْأَخْفَشِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: الِاخْتِيَارُ، التَّشْدِيدُ إِذَا كَانَ قَبْلَهَا وَاوٌ، وَالتَّخْفِيفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَاوٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُخَفَّفَةً تَكُونُ عَاطِفَةً وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى وَاوٍ مَعَهَا. كَبَلْ: فَإِذَا كَانَتْ قَبْلَهَا وَاوٌ لَمْ تُشْبِهْ بَلْ، لِأَنَّ بَلْ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ، فَإِذَا كَانَتْ لَكِنَّ مُشَدَّدَةً عَمِلَتْ عَمَلَ إِنَّ، وَلَمْ تَكُنْ عَاطِفَةً. انْتَهَى الْكَلَامُ. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ لَكِنَّ تَكُونُ عَاطِفَةً، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَكِنَّ تَكُونُ عَاطِفَةً. وَذَهَبَ يُونُسُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَا يُحْفَظُ ذَلِكَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، بَلْ إِذَا جَاءَ بَعْدَهَا مَا يُوهِمُ الْعَطْفَ، كَانَتْ مَقْرُونَةً بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ «1» . وَأَمَّا إِذَا جَاءَتْ بَعْدَهَا الْجُمْلَةُ، فَتَارَةً تَكُونُ بِالْوَاوِ، وَتَارَةً لَا يَكُونُ مَعَهَا الْوَاوُ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
إِنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لَا تُخْشَى بَوَادِرُهُ
…
لَكِنْ وَقَائِعَهُ فِي الْحَرْبِ تُنْتَظَرُ
وَأَمَّا مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ النَّحْوِيِّينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا قَامَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو، وَمَا ضَرَبْتُ زَيْدًا لَكِنْ عَمْرًا، وَمَا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ لَكِنْ عَمْرٍو، فَهُوَ مِنْ تَمْثِيلِهِمْ، لَا أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ. ومن غريب ما قيل فِي لَكِنَّ: أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمٍ ثَلَاثٍ: لَا لِلنَّفْيِ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ، وَأَنَّ الَّتِي لِلْإِثْبَاتِ وَالتَّحْقِيقِ، وَأَنَّ الْهَمْزَةَ حُذِفَتْ لِلِاسْتِثْقَالِ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَسِيطَةٌ.
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: الضَّمِيرُ فِي يُعَلِّمُونَ اخْتُلِفَ فِي مَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الشَّيَاطِينِ، يَقْصِدُونَ بِهِ إِغْوَاءَهُمْ وَإِضْلَالَهُمْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي كَفَرُوا. قَالُوا: أَوْ خَبَرًا ثَانِيًا. وَقِيلَ:
حَالٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَرُدَّ بِأَنَّ لَكِنَّ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَالِ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ كَفَرُوا، بَدَلَ الْفِعْلِ مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ تَعْلِيمَ الشَّيَاطِينِ السِّحْرَ كُفْرٌ فِي الْمَعْنَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ، عَلَى اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ ضَمِيرُ اتَّبَعُوا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يَعْلَمُ الْمُتَّبِعُونَ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ النَّاسَ، فَالنَّاسُ مُعَلِّمُونَ لِلْمُتَّبِعِينَ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُونَ مُعَلِّمِينَ لِلشَّيَاطِينِ.
(1) سورة الأحزاب: 33/ 40.
وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَلْبُ الْأَعْيَانِ وَاخْتِرَاعُهَا وَتَغْيِيرُ صُوَرِ النَّاسِ مِمَّا يُشْبِهُ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، كَالطَّيَرَانِ وَقَطْعِ الْمَسَافَاتِ فِي لَيْلَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ خُدَعٌ وَمَخَارِيقُ وَتَمْوِيهَاتٌ وَشَعْوَذَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «1» .
وَفِي الْحَدِيثِ، حِينَ سَحَرَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ» .
وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: يَرَوْنَ أَنَّ السِّحْرَ لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الِإسْتِرَابَاذِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمْرٌ يَأْخُذُ بِالْعَيْنِ عَلَى جِهَةِ الْحِيلَةِ، وَمِنْهُ:
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ «2» ،
كَمَا رُوِيَ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ كَانَتْ مَمْلُوءَةً زِئْبَقًا، فَسَجَرُوا تَحْتَهَا نَارًا، فَحَمِيَتِ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ، فَتَحَرَّكَتْ وَسَعَتْ.
وَلِأَرْبَابِ الْحِيَلِ وَالدَّكِّ وَالشَّعْوَذَةِ مِنْ هَذَا أَشْيَاءُ، يُبَيَّنُ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ الْمُسَمَّى (بِكَشْفِ الدَّكِّ وَالشَّعْوَذَةِ وَإِيضَاحِ الشَّكِّ) ، وَفِي كِتَابِ (إِرْخَاءِ السُّتُورِ وَالْكَلَلِ فِي الشَّعْوَذَةِ وَالْحِيَلِ) .
وَفِي الْحَدِيثِ، حِينَ انْشَقَّ الْقَمَرُ نِصْفَيْنِ بِمَكَّةَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اصْبِرُوا حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلُ الْبَوَادِي، فَإِنْ لَمْ يُخْبِرُوا بِذَلِكَ، كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ سَحَرَ أَعْيُنَنَا، فَأَتَوْا فَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ عَظِيمٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ خِدْمَةِ الْجِنِّ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوهُ مَنْ جنس لطيف أجسامهم وهيآتها، فَلَطُفَ وَدَقَّ وَخَفِيَ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْسَامٍ تُجْمَعُ وَتُحْرَقُ، وَتُتَّخَذُ مِنْهَا أَرْمِدَةٌ وَمِدَادٌ، وَيُتْلَى عَلَيْهَا أَسْمَاءٌ وَعَزَائِمُ، ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا مِنَ السِّحْرِ.
السَّادِسُ: أَنَّ أَصْلَهُ طَلْسَمَاتٌ وَقَلْفَطْرِيَّاتٌ، تُبْنَى عَلَى تَأْثِيرِ خَصَائِصِ الْكَوَاكِبِ، كَتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِي زِئْبَقِ عَصَى فِرْعَوْنَ، أَوِ اسْتِخْدَامِ الشَّيَاطِينِ لِتَسْهِيلِ مَا عَسُرَ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَاتٍ مَمْزُوجَةٍ بِكُفْرٍ. قَالَ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا الَّتِي قَالُوهَا فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ أَنْوَاعٌ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، وَقَدْ ضُمَّ إِلَيْهَا أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِنَ الشَّعْبَذَةِ وَالدَّكِّ وَالنَّارِنْجِيَّاتِ وَالْأَوْفَاقِ وَالْعَزَائِمِ وَضُرُوبِ الْمَنَادِلِ وَالصَّرَعِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَا يُشَكُّ فِي أَنَّ السِّحْرَ كَانَ مَوْجُودًا، لِنُطْقِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِهِ. وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا الْآنَ، فَكُلَّمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي الْكُتُبِ، فَهُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ. وَكَذَلِكَ الْعَزَائِمُ وَضَرْبُ الْمَنْدَلِ، وَالنَّاسُ الَّذِينَ يُعْتَقَدُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ، يُصَدِّقُونَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَيُصْغُونَ إِلَى سَمَاعِهَا. وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الْعِلْمِ، إِذَا أَفْلَسَ، وَضَعَ كُتُبًا وَذَكَرَ فِيهَا أَشْيَاءَ مِنْ رَأْسِهِ، وَبَاعَهَا فِي الْأَسْوَاقِ بِالدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ. وَقَدْ أَطْلَقَ اسْمَ السِّحْرِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَشْيِ بَيْنَ النَّاسِ بِالنَّمِيمَةِ، لِأَنَّ فِيهِ قلب الصديق
(1) سورة طه: 20/ 66.
(2)
سورة الأعراف: 7/ 116.
عَدُوًّا، وَالْحَبِيبِ بَغِيضًا. كَمَا أُطْلِقَ عَلَى حُسْنِ التَّوَسُّلِ بِاللَّفْظِ الرَّائِقِ الْعَذْبِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِمَالَةِ، وَسُمِّيَ: سِحْرًا حَلَالًا.
وَقَدْ رُوِيَ إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا
، وَقَالَ:
وَحَدِيثُهَا السِّحْرُ الْحَلَالُ لَوَ انَّهُ
…
لَمْ يَجْنِ قتل المسلم المنحرز
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: أَنَّهُمْ يُفَهِّمُونَهُمْ إِيَّاهُ بِالْإِقْرَاءِ وَالتَّعْلِيمِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَدُلُّونَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ، فَأَطْلَقَ عَلَى الدَّلَالَةِ تَعْلِيمًا، تسمية للمسبب بالسبب. وقيل: الْمَعْنَى يُوَقِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّهَا حَقٌّ، تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا تَمَّ لَهُ مَا تَمَّ بِذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا تَسْمِيَةٌ لِلْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ. وَقِيلَ: يُعَلِّمُونَ مَعْنَاهُ يُعْلِمُونَ، أَيْ يُعْلِمُونَهُمْ بِمَا يَتَعَلَّمُونَ بِهِ السِّحْرَ، أَوْ بِمَنْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ وَلَمْ يُعَلِّمُوهُمْ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْلَامِ لَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيمِ. وَأَمَّا حُكْمُ السِّحْرِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ يُعَظَّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّيَاطِينِ، وَإِضَافَةِ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ إِلَيْهَا، فَهُوَ كُفْرٌ إِجْمَاعًا، لَا يَحِلُّ تَعَلُّمُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ.
وَكَذَا مَا قُصِدَ بِتَعَلُّمِهِ سَفْكُ الدِّمَاءِ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالْأَصْدِقَاءِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يُحْتَمَلُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ تَعَلُّمُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ. وَمَا كَانَ مِنْ نَوْعِ التَّحَيُّلِ وَالتَّخْيِيلِ وَالدَّكِّ وَالشَّعْبَذَةِ، فَإِنْ قَصَدَ بِتَعْلِيمِهِ الْعَمَلَ بِهِ وَالتَّمْوِيهَ عَلَى النَّاسِ، فَلَا يَنْبَغِي تَعَلُّمُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبَاطِلِ. وَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مَعْرِفَتَهُ لِئَلَّا تَتِمَّ عَلَيْهِ مَخَايِلُ السَّحَرَةِ وَخُدَعُهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِتَعَلُّمِهِ، أَوِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَتَفْرِيجِ النَّاسِ عَلَى خِفَّةِ صَنْعَتِهِ فَيُكْرَهُ.
رُوِيَ: لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي.
وَأَمَّا سِحْرُ الْبَيَانِ، فَمَا أُرِيدَ بِهِ تَأْلِيفُ الْقُلُوبِ عَلَى الْخَيْرِ، فَهُوَ السِّحْرُ الْحَلَالُ، أَوْ سَتْرُ الْحَقِّ، فَلَا يَجُوزُ تَعَلُّمُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ. وَأَمَّا حُكْمُ السَّاحِرِ حَدًّا وَتَوْبَةً، فَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُفَسِّرُونَ لِذَلِكَ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ، فَتُذْكَرُ فِيهِ.
وَما أُنْزِلَ: ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا مَوْصُولٌ اسْمِيٌّ مَنْصُوبٌ، وَأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ:
السِّحْرَ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ التَّغَايُرُ، فَلَا يَكُونُ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ سِحْرًا. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ، أَيْ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ، والَّذِي أُنْزِلَ «1» ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَا عَلَّمُوهُ النَّاسَ، أَوْ مَا اتَّبَعُوهُ هُوَ مُنَزَّلٌ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْمُنَزَّلِ الَّذِي عُلِّمَ، أَوِ الَّذِي اتُّبِعَ فَقِيلَ: عِلْمُ السِّحْرِ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ لِلنَّاسِ، مَنْ تَعَلَّمَهُ مِنْهُمْ وَعَمِلَ بِهِ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ تَجَنَّبَهُ أَوْ تَعَلَّمَهُ لَا يَعْمَلُ بِهِ وَلَكِنْ لِيَتَوَقَّاهُ وَلِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ كَانَ مُؤْمِنًا، كَمَا ابْتُلِيَ قَوْمُ
(1) سورة البقرة: 2/ 185.
طَالُوتَ بِالنَّهَرِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الْمُنَزَّلُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَهُوَ دُونَ السِّحْرِ. وَقِيلَ: السِّحْرُ لِيُعْلَمَ عَلَى جِهَةِ التَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَالتَّعْلِيمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا هُوَ تَعْرِيفٌ يَسِيرٌ بِمَبَادِئِهِ. وَقِيلَ: مَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَالْمَعْنَى: افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَافْتِرَاءً عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَلَكَانِ نَازِلًا عَلَيْهِمَا السِّحْرُ، قَالَ: لِأَنَّهُ كُفْرٌ، وَالْمَلَائِكَةُ مَعْصُومُونَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ إِنْزَالُهُ، وَلَا يُضَافُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ يُبْطِلُهُ، وَإِنَّمَا الْمُنَزَّلُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ الشَّرْعُ، وَإِنَّهُمَا كَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: مَا حَرْفُ نَفْيٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بِالسِّحْرِ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ.
عَلَى الْمَلَكَيْنِ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا مَلَكَانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَلَكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ «1» ، فَقِيلَ: هَمَّا جِبْرِيلَ وَمِيكَالُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ. وَقِيلَ: مَلَكَانِ غَيْرُهُمَا وَهُمَا: هَارُوتُ وَمَارُوتُ.
وَقِيلَ: مَلَكَانِ غَيْرُهُمَا، وَسَيَأْتِي إِعْرَابُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَلَى تَقْدِيرِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبْزَى: الْمَلِكَيْنِ، بِكَسْرِ اللَّامِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا رَجُلَانِ سَاحِرَانِ كَانَا بِبَابِلَ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُعَلِّمُ النَّاسَ السِّحْرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا عِلْجَانِ بِبَابِلِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: هُمَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبْزَى: هُمَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: هُمَا شَيْطَانَانِ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبْزَى تَكُونُ مَا نَافِيَةً، وَعَلَى سَائِرِ الْأَقْوَالِ، فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، تَكُونُ مَا مَوْصُولَةً. وَمَعْنَى الْإِنْزَالِ: الْقَذْفُ فِي قُلُوبِهِمَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: الْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ، قَصَصًا كَثِيرًا، تَتَضَمَّنُ:
أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعَجَّبَتْ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَكَّتَهُمْ، بِأَنْ قَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ لِلْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَرَكَّبَ فِيهِمَا الشَّهْوَةَ، فَحَكَمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَافْتُتِنَا بِامْرَأَةٍ، تُسَمَّى بِالْعَرَبِيَّةِ الزُّهْرَةَ، وَبِالْفَارِسِيَّةِ مِيذَخْتَ، فَطَلَبَاهَا وَامْتَنَعَتْ، إِلَّا أَنْ يَعْبُدَا صَنَمًا، وَيَشْرَبَا الْخَمْرَ وَيَقْتُلَا. فَخَافَا عَلَى أَمْرِهِمَا، فَعَلَّمَاهَا مَا تَصْعَدُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا تَنْزِلُ بِهِ، فَصَعِدَتْ وَنَسِيَتْ مَا تَنْزِلُ بِهِ، فَمُسِخَتْ. وَأَنَّهُمَا تَشَفَّعَا بِإِدْرِيسَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَخَيَّرَهُمَا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَهُمَا بِبَابِلَ
(1) سورة البقرة: 2/ 34.
يُعَذَّبَانِ. وَذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمَا اخْتِلَافًا. وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ. وَالْمَلَائِكَةُ مَعْصُومُونَ، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ «1» ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ «2» ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ. وَلَا يَصِحُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَلْعَنُ الزُّهْرَةَ وَلَا ابْنَ عُمَرَ. وَقِيلَ: سَبَبُ إِنْزَالِ الْمَلَكَيْنِ: أَنَّ السَّحَرَةَ كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَادَّعَوُا النُّبُوَّةَ، وَتَحَدَّوُا النَّاسَ بِالسِّحْرِ. فَجَاءَا لِيُعَلِّمَا النَّاسَ السِّحْرَ، فَيَتَمَكَّنُوا مِنْ مُعَارَضَةِ السِّحْرِ، فَيَتَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمُ النُّبُوَّةَ، أَوْ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ وَالسِّحْرَ مَاهِيَّتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ، وَيَعْرِضُ بَيْنَهُمَا الالتباس. فجاء الإيضاح الْمَاهِيَّتَيْنِ، أَوْ لِأَنَّ السِّحْرَ الَّذِي يُوقِعُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ كَانَ مُبَاحًا، أَوْ مَنْدُوبًا، فَبُعِثَا لِذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ الْقَوْمُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. أَوْ لِأَنَّ الْجِنَّ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ مَا لَمْ تَقْدِرِ الْبَشَرُ عَلَى مِثْلِهِ، فَأُنْزِلَا بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْمُعَارَضَةِ. وَقِيلَ: أُنْزِلَا عَلَى إِدْرِيسَ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَكُونُونَ رُسُلًا لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَلَا بُدَّ مِنْ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ.
بِبابِلَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مِنْ نَصِيبِينَ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ. وَقِيلَ: هِيَ جَبَلُ دَمَاوَنْدَ. وَقِيلَ: هِيَ بِالْمَغْرِبِ. وَقِيلَ: فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، فِيهَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، وَسُمِّيَتْ بِبَابِلَ، قَالَ الْخَلِيلُ: لِتَبَلْبُلِ الْأَلْسِنَةِ حِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهَا، أَتَتْ رِيحٌ فَحَشَرَتِ النَّاسَ إِلَى بَابِلَ، فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا يَقُولُ الْآخَرُ، ثُمَّ فَرَّقَتْهُمُ الرِّيحُ فِي الْبِلَادِ. وَقِيلَ: لِتَبَلْبُلِ الْأَلْسِنَةِ بِهَا عِنْدَ سُقُوطِ قَصْرِ نَمْرُوذَ. هارُوتَ وَمارُوتَ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ التَّاءِ، وَهُمَا بَدَلٌ مِنَ الْمَلَكَيْنِ، وَتَكُونُ الْفَتْحَةُ عَلَامَةً لِلْجَرِّ لِأَنَّهُمَا لَا يَنْصَرِفَانِ، وَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُمَا اسْمَانِ لَهُمَا. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ، فَتَكُونُ الْفَتْحَةُ عَلَامَةً لِلنَّصْبِ، وَلَا يَكُونُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَيْنِ لِلْمَلَكَيْنِ. وَقِيلَ: هُمَا قَبِيلَتَانِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونَانِ بَدَلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَتَكُونُ الْفَتْحَةُ عَلَامَةً لِلنَّصْبِ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ الشَّيَاطِينَ. وَأَمَّا مَنْ رَفَعَ الشَّيَاطِينَ، فَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الذَّمِّ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَذُمُّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، أَيْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أُقَارِعُ عَوْفٍ لَا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا
…
وُجُوهُ قُرُودٍ تَبْتَغِي من تُخَادِعُ
وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْمَلَكَيْنِ، بِفَتْحِ اللَّامِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِهَا، فَيَكُونَانِ بَدَلًا مِنَ الْمَلَكَيْنِ، إِلَّا إِذَا فُسِّرَا بِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عليهما السلام، فَلَا يَكُونُ هاروت وماروت بدلا
(1) سورة التحريم: 66/ 6.
(2)
سورة الأنبياء: 21/ 19 و 20.
مِنْهُمَا، وَلَكِنْ يَتَعَلَّقَانِ بِالشَّيَاطِينِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا فِي رَفْعِ الشَّيَاطِينِ وَنَصْبِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ: هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِالرَّفْعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، إِنْ كَانَا مَلَكَيْنِ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَا بَدَلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَهُ، إِنْ كَانَا شَيْطَانَيْنِ. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْقَوْلُ فِي هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَأَنَّهُمَا أَعْجَمِيَّانِ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمَا مُشْتَقَّانِ مِنَ الْهَرْتِ وَالْمَرْتِ، وَهُوَ الْكَسْرُ، وَقَوْلُهُ خَطَأٌ، بِدَلِيلِ مَنْعِهِمُ الصَّرْفَ لَهُمَا، وَلَوْ كَانَا، كَمَا زَعَمَ، لَانْصَرَفَا، كَمَا انْصَرَفَ جَامُوسٌ إِذَا سَمَّيْتَ بِهِ.
وَاخْتُصَّتْ بَابِلُ بِالْإِنْزَالِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَكْثَرَ الْبِلَادِ سِحْرًا.
وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ، مِنْ عَلَّمَ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّعْلِيمِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ هُنَا بِمَعْنَى يُعَلِّمَانِ التَّضْعِيفُ، وَالْهَمْزَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْلَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ. وَمَا يُعَلِّمَانِ: مِنْ أَعْلَمَ قَالَ: لِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا نَزَلَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ وَيَنْهَيَانِ عَنْهُ. وَالضَّمِيرُ فِي يُعَلِّمَانِ عَائِدٌ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، أَيْ وَمَا يُعَلِّمُ الْمَلَكَانِ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ، أَيْ بِإِظْهَارِ الْفَاعِلِ لَا إِضْمَارِهِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ عَائِدًا عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَفِي الثَّانِي عَلَى الْبَدَلِ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ، فَزِيدَتْ هُنَا لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ: مَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ، فَإِنَّهَا زِيدَتْ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَشَرْطُ زِيَادَتِهَا هُنَا مَوْجُودٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا نَكِرَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى زِيَادَةِ مِنْ فِي (كِتَابِ مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ أحد هنا بمعنى واحد، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. حَتَّى يَقُولا: حَتَّى هُنَا: حَرْفُ غَايَةٍ، وَالْمَعْنَى انْتِفَاءُ تَعْلِيمِهِمَا، أَوْ إِعْلَامِهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي يُعَلِّمَانِ إِلَى أَنْ يَقُولَا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَتَّى هُنَا بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ، وَهَذَا مَعْنًى لِحَتَّى لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ذَكَرَهُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي (التَّسْهِيلِ) وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ:
لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً
…
حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ
قَالَ: يُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَجُودَ، وَمَا فِي إِنَّما كَافَّةٌ، لِإِنَّ عَنِ الْعَمَلِ، فَيَصِيرُ مِنْ حُرُوفِ الِابْتِدَاءِ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ عَمَلَ إِنَّ مَعَ وُجُودِ مَا، نَحْوُ: إِنَّمَا زيدا قَائِمٌ. نَحْنُ فِتْنَةٌ: أَيِ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ.
فَلا تَكْفُرْ:
قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: كَانَا يُعَلِّمَانِ تَعْلِيمَ إِنْذَارٍ لَا تَعْلِيمَ دُعَاءٍ إِلَيْهِ
،
كَأَنَّهُمَا يَقُولَانِ: لَا تَفْعَلْ كَذَا، كَمَا لَوْ سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ صِفَةِ الزِّنَا، أَوِ الْقَتْلِ، فَأُخْبِرَ بِصِفَتِهِ لِيَجْتَنِبَهُ. فَكَانَ الْمَعْنَى فِي يُعَلِّمَانِ: يُعْلِمَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَا تَكْفُرْ: فَلَا تَتَعَلَّمْ، مُعْتَقِدًا أَنَّهُ حَقٌّ فَتَكْفُرَ. وَحَكَى الَمَهْدَوِيُّ: أَنَّ قَوْلَهُمَا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ، فَلَا تَكْفُرْ اسْتِهْزَاءٌ، لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يَقُولَانِهِ لِمَنْ قَدْ تَحَقَّقَا ضَلَالَهُ. وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) قَوْلُهُ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ تَوْكِيدٌ لِقَبُولِ الشَّرْعِ وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ تَمْتَثِلُ وَأُخْرَى تُخَالِفُ. وَقِيلَ: فَلَا تَكْفُرْ، أَيْ لَا تَسْتَعْمِلْهُ فِيمَا نُهِيتَ عَنْهُ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَفْتَ عَلَيْهِ فَتَحَرَّزْ مِنْ أَنْ يَنْفُذَ لِسَاحِرٍ عَلَيْكَ تَمْوِيهٌ.
وَقِيلَ: فَلَا تَفْعَلْهُ لِتَعْمَلَ بِهِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: تَعَلُّمُهُ جَائِزٌ وَالْعَمَلُ بِهِ كُفْرٌ. وَقِيلَ: فَلَا تَكْفُرْ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن تَعَلُّمَهُ كُفْرٌ. وَقِيلَ: فَلَا تَكْفُرْ بِنَا، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ: إِنَّ الْمَلَكَيْنِ نَزَلَا مِنَ السَّمَاءِ بِالسِّحْرِ، وَإِنَّ مَنْ تَعَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ مُؤْمِنًا، كَمَا جَاءَ فِي نَهَرِ طَالُوتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا حَكَاهُ الَمَهْدَوِيُّ أَنَّ قَوْلَهُمَا: فَلَا تَكْفُرْ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، لَا عَلَى سَبِيلِ النَّصِيحَةِ. وَقَوْلَهُ: حَتَّى يَقُولَا مُطْلَقًا فِي الْقَوْلِ، وَأَقَلُّ مَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَقِيلَ مَرَّةٌ، وَقِيلَ سَبْعُ مَرَّاتٍ، وَقِيلَ تِسْعُ مَرَّاتٍ، وَقِيلَ ثَلَاثٌ. وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، فَيَكُونُ مُحْتَمَلًا، وَالْمُتَحَقِّقُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَلَقِّي ذَلِكَ الْعِلْمِ مِنْهُمَا، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَارُوتُ وَمَارُوتُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا أَحَدٌ، وَيَخْتَلِفُ إِلَيْهِمَا شَيْطَانَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ اخْتِلَافَةً وَاحِدَةً، فَيَتَعَلَّمَانِ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقَانِ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ هُمَا اللَّذَانِ يُبَاشِرَانِ التَّعْلِيمَ لِقَوْلِهِ: وَما يُعَلِّمانِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ قِصَصًا فِيمَا يَعْرِضُ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ الْمَلَكَيْنِ وَبَيْنَ مَنْ جَاءَ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُمَا، وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ الْقَصَصِ أَنَّهُمَا يَأْمُرَانِهِ بِأَنْ يَبُولَ فِي تَنُّورٍ.
فَاخْتَلَفُوا فِي الْإِيمَانِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، أَيَرَى فَارِسًا مُقَنَّعًا بِحَدِيدٍ يَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى يَغِيبَ فِي السَّمَاءِ؟ أَوْ نُورًا خَرَجَ مِنْ رَمَادٍ يَسْطَعُ حَتَّى يَدْخُلَ السَّمَاءَ؟ أَوْ طَائِرًا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ ثِيَابِهِ وَطَارَ نَحْوَ السَّمَاءِ؟ وَفَسَّرُوا ذَلِكَ الْخَارِجَ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ. وَهَذَا كُلُّهُ شَيْءٌ لَا يَصِحُّ أَلْبَتَّةَ، فَلِذَلِكَ لَخَّصْنَا مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ، حَتَّى لَا نُخَلِّيَ كِتَابَنَا مِمَّا ذكروه.
فَيَتَعَلَّمُونَ: قال الْفَرَّاءُ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَيَأْبَوْنَ فَيَتَعَلَّمُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا: هُوَ عَطْفٌ عَلَى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاجُ بِسَبَبِ لَفْظِ الْجَمْعِ فِي يُعَلِّمُونَ وَقَدْ قَالَ مِنْهُمَا وَأَجَازَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ عَطْفُ فَيَتَعَلَّمُونَ عَلَى يُعَلِّمُونَ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ خَاصَّةً، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمَا رَاجِعٌ إِلَيْهِمَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا، إِنَّمَا جَاءَ بَعْدَ
ذِكْرِ الْمَلَكَيْنِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَفَرُوا، قَالَ: وَارْتَفَعَتْ فَيَتَعَلَّمُونَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ عَنِ الْمَلَكَيْنِ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَكْفُرْ، فَيَتَعَلَّمُوا لِيَجْعَلَا كُفْرَهُ سَبَبًا لِتَعَلُّمِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى كَفَرُوا فَيَتَعَلَّمُونَ. يُرِيدُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ فَيَتَعَلَّمُونَ لَيْسَ بِجَوَابٍ لِقَوْلِهِ: فَلَا تَكْفُرْ، فَيُنْصَبُ كما نصب لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ «1» ، لِأَنَّ كُفْرَ مَنْ نُهِيَ أَنْ يَكْفُرَ فِي الْآيَةِ، لَيْسَ سَبَبًا لِتَعَلُّمِ مَنْ يَتَعَلَّمُ. وَكَفَرُوا: فِي مَوْضِعِ فِعْلٍ مَرْفُوعٍ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ، مَرْفُوعٌ، وَلَا وَجْهَ لِاعْتِرَاضِ مَنِ اعْتَرَضَ فِي الْعَطْفِ عَلَى كَفَرُوا، أَوْ عَلَى يَعْلَمُونَ، بِأَنَّ فِيهِ إِضْمَارَ الْمَلَكَيْنِ. قِيلَ: ذَكَرَهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما إِنَّمَا جَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَكَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ، هو على إضمارهم، أَيْ فَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ، فَتَكُونُ جُمْلَةً ابْتِدَائِيَّةً مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا عَطْفَ الْجُمَلِ، وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي فَيَتَعَلَّمُونَ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَيَتَعَلَّمُونَ مَعْطُوفًا عَلَى يُعَلِّمَانِ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي فَيَتَعَلَّمُونَ لِأَحَدٍ، وَجُمِعَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2» . وَهَذَا الْعَطْفُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَنْفِيٍّ، فلذلك الْمَنْفِيُّ هُوَ مُوجَبٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ كُلَّ وَاحِدٍ، إِذَا قَالَا لَهُ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ هَذَا الْوَجْهَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: الْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى يُعَلِّمَانِ فَيَتَعَلَّمُونَ، وَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ يُعَلِّمَانِ، بِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا وَجْهَ لِقَوْلِ الزَّجَّاجِ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ يُعَلِّمَانِ، لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي النَّصِّ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي عَلِيٍّ، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ مُغَالَطَةٌ، لِأَنَّ الزَّجَّاجَ لَمْ يُرِدْ أَنَّ فَيَتَعَلَّمُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى يُعَلِّمَانِ، الدَّاخِلِ عَلَيْهَا مَا النَّافِيَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا مَا يُعَلِّمَانِ، فَيَكُونَ يُعَلِّمَانِ مَوْجُودًا فِي النَّصِّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّ يُعَلِّمَانِ مُضْمَرَةٌ مُثْبَتَةٌ لَا مَنْفِيَّةٌ.
وَهَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي النَّصِّ. وَحَمَلَ أَبَا عَلِيٍّ عَلَى هَذِهِ الْمُغَالَطَةِ حُبُّ رَدِّهِ عَلَى الزَّجَّاجِ وَتَخْطِئَتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مُولَعًا بِذَلِكَ. وَلِلشَّنَآنِ الْجَارِي بَيْنَهُمَا سَبَبٌ ذَكَرَهُ النَّاسُ. انْتَهَى مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْعَطْفِ، وَأَكْثَرُهُ كَلَامُ الَمَهْدَوِيِّ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ. وَتَلَخَّصَ فِي هَذَا الْعَطْفِ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَيَأْبَوْنَ فَيَتَعَلَّمُونَ، أَوْ يُعَلِّمَانِ فَيَتَعَلَّمُونَ، أَيْ عَلَى مُثْبَتٍ، أَوْ يَتَعَلَّمُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ عَلَى فِعْلِيَّةٍ، أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، أَوْ معطوفا على
(1) سورة طه: 20/ 61.
(2)
سورة الحاقة: 69/ 47.
كَفَرُوا، أَوْ عَلَى يُعَلِّمَانِ الْمَنْفِيَّةِ لِكَوْنِهَا مُوجَبَةً فِي الْمَعْنَى. فَتِلْكَ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ، أَقْرَبُهَا إِلَى اللَّفْظِ هَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ.
مِنْهُما: الضَّمِيرُ فِي الظَّاهِرِ عَائِدٌ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، أَيْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنَ الملكين، سواء قرىء بِفَتْحِ اللَّامِ، أَوْ كَسْرِهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى السِّحْرِ، وَعَلَى الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الملكين، سواء قرىء بِفَتْحِ اللَّامِ، أَوْ كَسْرِهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى السِّحْرِ، وَعَلَى الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ، الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَكْفُرْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ مِقْدَارَ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ: مَا مَوْصُولَةٌ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، لِأَجْلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا. وَالْمَصْدَرِيَّةُ لَا يَعُودُ عَلَيْهَا ضَمِيرٌ، لِأَنَّهَا حَرْفٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ هُوَ السِّحْرُ. وَعَنَى بِالتَّفْرِيقِ: تَفْرِيقَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، بِحَيْثُ تَقَعُ الشَّحْنَاءُ وَالْبَغْضَاءُ فَيَفْتَرِقَانِ، أَوْ تَفْرِيقَ الدِّينِ، بِحَيْثُ إِذَا تَعَلَّمَ فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مُرْتَدًّا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا.
بَيْنَ الْمَرْءِ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالْهَمْزِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: الْمَرِ بِغَيْرِ هَمْزٍ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: الْمُرْءِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ.
وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: الْمِرْءِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْهَمْزِ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا: الْمَرِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْقَاطِ الْهَمْزِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ. فَأَمَّا فَتْحُ الْمِيمِ وَكَسْرُهَا وَضَمُّهَا فَلُغَاتٌ، وَأَمَّا الْمَرِ بِكَسْرِ الرَّاءِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ، وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ، وَأَمَّا تَشْدِيدُهَا بَعْدَ الْحَذْفِ، فَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَوَى الْوَقْفَ فَشَدَّدَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ: مُسْتَطَرٌّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ فِي الْوَقْفِ، ثُمَّ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، فَأَقَرَّهَا عَلَى تَشْدِيدِهَا فِيهِ. وَزَوْجِهِ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ امْرَأَةَ الرَّجُلِ. وَقِيلَ الزَّوْجُ هُنَا: الْأَقَارِبُ وَالْإِخْوَانُ، وَهُمُ الصِّنْفُ الْمُلَائِمُ لِلْإِنْسَانِ، وَمِنْهُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ «1» ، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ «2» .
وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ: الضَّمِيرُ الَّذِي هُوَ: هُمْ عَائِدٌ عَلَى السَّحَرَةِ الَّذِينَ عَادَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ فَيَتَعَلَّمُونَ. وَقِيلَ: عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ عَادَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ وَاتَّبَعُوا. وَقِيلَ: عَلَى الشَّيَاطِينِ. وَبِضَارِّينَ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّ مَا حِجَازِيَّةٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّ مَا تَمِيمِيَّةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: مَا يُفَرِّقُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بإثبات النون
(1) سورة الحج: 22/ 5. [.....]
(2)
سورة الصافات: 37/ 22.
فِي بِضَارِّينَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: بِحَذْفِهَا، وَخَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا حُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْفَاعِلِ فِي صِلَةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَذْفَهَا لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ إِلَى أَحَدٍ، وَفُصِلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ بِهِ، كَمَا قَالَ:
هُمَا أَخَوَا فِي الْحَرْبِ مَنْ لَا أَخَا لَهُ وكما قال:
كما حط الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْمًا يَهُودِيٍّ وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، ثُمَّ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَحَدًا مَجْرُورٌ بِمِنْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ؟ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُضَافُ إِلَى أَحَدٍ، وَهُوَ مَجْرُورٌ بِمِنْ؟ قلت: جعل الجار جزأ مِنَ الْمَجْرُورِ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّخْرِيجُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ، وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ ضَرَائِرَ الشِّعْرِ، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ مُضَافٌ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِعَامِلِ جَرٍّ، فَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ لَا الْإِضَافَةُ. وَأَمَّا جَعْلُ حَرْفِ الجر جزأ مِنَ الْمَجْرُورِ، فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِيهِ. وَجُزْءُ الشَّيْءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الشَّيْءِ، وَالْأَجْوَدُ التَّخْرِيجُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ لَهُ نَظِيرًا فِي نَظْمِ الْعَرَبِ وَنَثْرِهَا. فَمِنَ النَّثْرِ قَوْلُ الْعَرَبِ، قطا قطا بَيْضُكِ ثِنْتَا وَبَيْضِي مِائَتَا، يُرِيدُونَ: ثِنْتَانِ وَمِائَتَانِ.
مِنْ أَحَدٍ، من زائدة، وأحد: مَفْعُولٌ بِضَارِّينَ. وَمِنْ تُزَادُ فِي الْمَفْعُولِ، إِلَّا أَنَّ الْمَعْهُودَ زِيَادَتُهَا فِي الْمَفْعُولِ الَّذِي يَكُونُ مَعْمُولًا لِلْفَاعِلِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ حَرْفُ النَّفْيِ نَحْوُ: مَا ضَرَبْتُ مِنْ رَجُلٍ، وَمَا ضَرَبَ زَيْدٌ مِنْ رَجُلٍ. وَهُنَا حُمِلَتِ الْجُمْلَةُ مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا يَضُرُّونَ مِنْ أَحَدٍ. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: مُسْتَثْنًى مُفَرَّغٌ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: بِضارِّينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ: مِنْ أَحَدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ بِهِ، أَيِ السِّحْرِ الْمُفَرَّقِ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّرَرِ الْمَصْدَرِ المعرب الْمَحْذُوفِ.
وَالْإِذْنُ هُنَا فَسَّرَ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ. فَقَالَ الْحَسَنُ: الْإِذْنُ هُنَا:
هُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمَسْحُورِ وَضَرَرِ السِّحْرِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْعِلْمُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْخَلْقُ، وَيُضَافُ إلى إذنه قوله: كُنْ فَيَكُونُ «1» . وَقِيلَ: الْأَمْرُ، قِيلَ: وَالْإِذْنُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَاسْتُبْعِدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالسِّحْرِ، وَلِأَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَأُوِّلَ مَعْنَى الْأَمْرِ فِيهِ بِأَنْ يفسر التفريق
(1) سورة البقرة: 2/ 117.
بِالصَّيْرُورَةِ. كَافِرًا فَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّمُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ وَضَرَرٌ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَحْدَثَ اللَّهُ عِنْدَهُ شَيْئًا، وَرُبَّمَا لَمْ يُحْدِثْ.
وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ لِمَنْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ ضَرَرَهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَنْ يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ أَيْضًا يَضُرُّ مَنْ تَعَلَّمَهُ.
وَلَمَّا كَانَ إِثْبَاتُ الضَّرَرِ بِشَيْءٍ لَا يَنْفِي النَّفْعَ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الشَّيْءُ فَيَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ وَيَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ، نَفَى النَّفْعَ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَتَى بِلَفْظِ لَا، لِأَنَّهَا يُنْفَى بِهَا الْحَالُ وَالْمُسْتَقْبَلُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَلا يَنْفَعُهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى يَضُرُّهُمْ، وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ صِلَةٌ لِمَا، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ لَا يَنْفَعُهُمْ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ، أَيْ وَهُوَ لَا يَنْفَعُهُمْ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَتَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَتَكُونُ جُمْلَةً حَالِيَّةً، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَقَدْ قِيلَ: الضَّرَرُ وَعَدَمُ النَّفْعِ مُخْتَصٌّ بِالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ، إِنْ كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ، فَهُوَ يَجُرُّ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَى التَّنْكِيلِ بِهِ، إِذَا عَثَرَ عَلَيْهِ، وَإِلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ هَذَا فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ. وَلَقَدْ عَلِمُوا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ عليه السلام، وَكَانُوا حَاضِرِينَ اسْتِخْرَاجَ الشَّيَاطِينِ السِّحْرَ وَدَفْنَهُ، أَوْ أَخْذَ سُلَيْمَانَ السِّحْرَ وَدَفْنَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَلَمَّا أَخْرَجُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا هَذَا مِنْ عَمَلِ سليمان ولا من دخائزه. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى مَنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ قَاطِبَةً، أَيْ عَلِمُوا ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى عُلَمَاءِ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَلَكَيْنِ، لِأَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ لِمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ: فَلَا تَكْفُرْ، فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَأُتِيَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَعَلِمَ: هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُتَعَدِّيَةَ لِمَفْعُولَيْنِ، وَعُلِّقَتْ عَنِ الجملة، ويحتمل أن يكون الْمُتَعَدِّيَةَ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَعُلِّقَتْ أَيْضًا كَمَا عُلِّقَتْ عَرَفْتُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَظْهَرُ فِي الْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِهَا. وَاللَّامُ فِي: لَمَنِ اشْتَراهُ هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَهِيَ الْمَانِعَةُ مَنْ عَمِلَ عَلِمَ، وَهِيَ أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْلِيقِ، وَأَجَازُوا حَذْفَهَا، وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَنْعِ الْعَمَلِ، وَخَرَّجُوا عَلَى ذَلِكَ.
إِنِّي وَجَدْتُ مَلَاكَ الشِّيمَةِ الأدب يُرِيدُ لِمَلَاكِ الشِّيمَةِ. وَمَنْ هُنَا مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ:
مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَاللَّامُ فِي لَقَدْ لِلْقَسَمِ. هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ
وَأَكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ عَلِمُوا مُقْسَمٌ عَلَيْهَا التَّقْدِيرُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا. وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَهُ غَيْرُ مُقْسَمٍ عَلَيْهَا. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَتَانِ مُقْسَمًا عَلَيْهِمَا، وَتَكُونَ مَنْ لِلشَّرْطِ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: اللَّامُ فِي لَمَنِ اشْتَراهُ هِيَ الَّتِي يُوطَأُ بِهَا الْقَسَمُ مِثْلَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ «1» ، وَمَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَهِيَ شَرْطٌ وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَاشْتَرَاهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ صِلَةٌ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ خَبَرٌ عَنْ مَنْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ قَسَمٌ وَشَرْطٌ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُمَا ذُو خَبَرٍ، فَكَانَ الْجَوَابُ لِلسَّابِقِ، وَهُوَ الْقَسَمُ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ. هَذَا هُوَ تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ وَتَوْضِيحُهُ. وُفِي كِلَا الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ: لِمَنِ اشْتَرَاهُ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: بِيَعْلَمُوا. وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الزَّجَّاجِ رَدُّ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَنْ شَرْطٌ، وَقَالَ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ تَوْجِيهُ، كَوْنِهِ لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ.
وَأَرَى الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يَلِي مَنْ هُوَ مَاضٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، لِأَنَّ الِاشْتِرَاءَ قَدْ وَقَعَ، وَجَعْلُهُ شَرْطًا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ مَاضِيًا لَفْظًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا فِي الْمَعْنَى. فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي اشْتَرَاهُ عَائِدٌ عَلَى السِّحْرِ، أَوِ الْكُفْرِ، أَوْ كِتَابِهِمُ الَّذِي بَاعُوهُ بِالسِّحْرِ، أَوِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ تَعَوَّضُوا عَنْهُ بِكُتُبِ السِّحْرِ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. وَالْخَلَاقُ: النَّصِيبُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ الدِّينُ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوِ الْقَوَامُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْخَلَاصُ، أَوِ الْقَدَرُ، قَالَهُ قَتَادَةُ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ.
وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بِئْسَ، وَفِي مَا الْوَاقِعَةُ بَعْدَهَا، وَمَعْنَاهُ: ذُمَّ مَا بَاعُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى السِّحْرِ، أَوِ الْكُفْرِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي بِئْسَمَا السِّحْرُ، أَوِ الْكُفْرُ.
وَالضَّمِيرُ فِي: شَرَوْا، وَيَعْلَمُونَ، بِاتِّفَاقٍ لِلْيَهُودِ. فَمَتَى فُسِّرَ الضَّمِيرُ فِي وَلَقَدْ عَلِمُوا بِأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ، أَوِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ سُلَيْمَانَ، وَفِي زَمَانِهِ، أَوِ الْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ، أَوْ بِكَسْرِهَا، فَلَا إِشْكَالَ لِاخْتِلَافِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْعِلْمُ. وَإِنِ اتَّحَدَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، أُوِّلَ الْعِلْمُ الثَّانِي بِالْعَقْلِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ ثَمَرَتِهِ، فَلَمَّا انْتَفَى الْأَصْلُ، نُفِيَ ثَمَرَتُهُ. أَوْ بِالْعَمَلِ، لِأَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ الْعِلْمِ، فَلَمَّا انْتَفَتِ الثَّمَرَةُ، جُعِلَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مَنْفِيًّا، أَوْ أُوِّلَ مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمَحْذُوفُ، أَيْ عَلِمُوا ضَرَرَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا نَفْعَهُ فِي الدُّنْيَا. أو علموا نفي
(1) سورة الأحزاب: 33/ 60.
الثَّوَابِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
ذُمَّ ذَلِكَ لَمَّا بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَوْ وَأَقْسَامِهَا، وَهِيَ هنا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى جَوَابِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا تَمَنِّيًا لِإِيمَانِهِمْ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ، إِيمَانَهُمْ وَاخْتِيَارَهُمْ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَيْتَهُمْ آمَنُوا، ثُمَّ ابْتُدِئَ: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ، انْتَهَى.
فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ للو جواب لَازِمٌ، لِأَنَّهَا قَدْ تُجَابُ إِذَا كَانَتْ لِلتَّمَنِّي بِالْفَاءِ، كَمَا يُجَابُ لَيْتَ. إِلَّا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ دَسَّ فِي كَلَامِهِ هَذَا، وَيُحْرِجُهُ مَذْهَبُهُ الِاعْتِزَالِيُّ، حَيْثُ جَعَلَ التَّمَنِّيَ كِنَايَةً عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ أَرَادَ إِيمَانَهُمْ، فَلَمْ يَقَعْ مُرَادُهُ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، وَالطَّائِفَةُ الَّذِينَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ عَدْلِيَّةً:
قَالُوا يُرِيدُ وَلَا يَكُونُ مُرَادُهُ
…
عَدَلُوا وَلَكِنْ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْرِفَةِ
وَأَنَّهُمْ آمَنُوا، يَتَقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَوْ إِيمَانُهُمْ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ. فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ وَلَوْ إِيمَانُهُمْ ثَابِتٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ وَلَوْ ثَبَتَ إِيمَانُهُمْ. فَفِي كُلٍّ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ حَذْفٌ لِلْمُسْنَدِ، وَإِبْقَاءُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُمْ لِلْيَهُودِ، أَوِ الَّذِينَ يُعَلَّمُونَ السِّحْرَ، قَوْلَانِ. وَالْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى: الْإِيمَانُ التَّامُّ، وَالتَّقْوَى الْجَامِعَةُ لِضُرُوبِهَا، أَوِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَقْوَى الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ، قَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ.
لَمَثُوبَةٌ: اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، لَا الْوَاقِعَةُ فِي جَوَابِ لَوْ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ لا ثيبوا، ثُمَّ ابْتَدَأَ عَلَى طَرِيقِ الْإِخْبَارِ الِاسْتِئْنَافِيِّ، لَا عَلَى طَرِيقِ تَعْلِيقِهِ بِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، وَتَرَتُّبِهِ عَلَيْهِمَا، هَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ، أَعْنِي أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ. وَقِيلَ:
اللَّامُ هِيَ الْوَاقِعَةُ فِي جَوَابِ لَوْ، وَالْجَوَابُ: هُوَ قَوْلُهُ: لَمَثُوبَةٌ، أَيِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ.
وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الرَّاغِبِ، وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ: أُوثِرَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ فِي جواب لو، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْمَثُوبَةِ وَاسْتِقْرَارِهَا، كَمَا عُدِلَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ فِي: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لِذَلِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُخْتَارُهُ غَيْرُ مُخْتَارٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وُقُوعُ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ جَوَابًا لِلَوْ، إِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْمُخْتَلَفُ فِي تَخْرِيجِهِ. وَلَا تَثْبُتُ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ بِالْمُحْتَمَلِ، وَلَيْسَ مِثْلُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لِثُبُوتِ رَفْعِ سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَوَجَّهَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: بِأَنَّ مَثُوبَةٌ مَصْدَرٌ يَقَعُ لِلْمَاضِي وَالِاسْتِقْبَالِ، فَصَلُحَ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهُ لِلْمُضِيِّ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَثُوبَةٌ بِضَمِّ الثَّاءِ، كَالْمَشُورَةِ.
وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو السَّمَّالِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: بِسُكُونِ الثَّاءِ، كَمَشْوُرَةٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَمَثُوبَةٌ، أَيْ لَثَوَابٌ، وَهُوَ الْجَزَاءُ وَالْأَجْرُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى بِأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ. وَقِيلَ: لَمَثُوبَةٌ:
لَرَجْعَةٌ إِلَى اللَّهِ خَيْرٌ.
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: هَذَا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ كَائِنَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَهَذَا الْوَصْفُ هُوَ الْمُسَوِّغُ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ. وَفِي وَصْفِ الْمَثُوبَةِ بِكَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَفْخِيمٌ وَتَعْظِيمٌ لَهَا، وَلِمُنَاسَبَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. لِذَلِكَ، كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ وَاتَّقَيْتُمْ مَحَارِمَهُ، هُوَ الَّذِي ثَوَابُكُمْ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِذَلِكَ لَكُمْ. وَاكْتَفَى بِالتَّنْكِيرِ فِي ذَلِكَ، إِذِ الْمَعْنَى لَشَيْءٌ مِنَ الثَّوَابِ.
قَلِيلُكَ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلُ خَيْرٌ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: لَمَثُوبَةٌ، وَلَيْسَ خَيْرٌ هُنَا أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، بَلْ هِيَ لِلتَّفْضِيلِ، لَا لِلْأَفْضَلِيَّةِ. فَهِيَ كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ، وخَيْرٌ مُسْتَقَرًّا.
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ: جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ: التَّقْدِيرُ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لَكَانَ تَحْصِيلُ الْمَثُوبَةِ خَيْرًا، وَيَعْنِي سَبَبَ الْمَثُوبَةِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى. وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ لَآمَنُوا، لِأَنَّ مَنْ كَانَ ذَا عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَهُوَ يُسَارِعُ إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَلَا الْبَاطِلُ، فَهُوَ يُبَالِغُ فِي اجْتِنَابِهِ. وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ اقْتِصَارًا، فَالْمَعْنَى: لَوْ كَانُوا مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ، أَوِ اخْتِصَارًا، فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ التَّفْضِيلَ فِي ذَلِكَ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَقِيلَ: الْعِلْمُ هنا كناية عن العمل، أَيْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِعِلْمِهِمْ، وَلَمَّا انْتَفَتْ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ، جُعِلَ الْعِلْمُ مُنْتَفِيًا.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ خُبْثِ السَّرِيرَةِ، وَعَدَمِ التَّوْفِيقِ وَالطَّوَاعِيَةِ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَنَصْبِ الْمُعَادَاةِ لَهُمْ، حَتَّى انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى عَدَاوَتِهِمْ مَنْ لَا يَلْحَقُهُ
ضَرَرُ عَدَاوَتِهِمْ، وَهُوَ مَنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَادَى، لِأَنَّهُ السَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَهُوَ جِبْرِيلَ.
أَتَى بِالْقُرْآنِ الْمُصَدِّقِ لِكِتَابِهِمْ، وَالْمُشْتَمِلِ عَلَى الْهُدَى وَالْبِشَارَةِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إِلَى وَلَائِهِ وَمَحَبَّتِهِ. ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ، أَيْ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، أَيْ مُبْغِضًا لَهُمْ، فَاللَّهُ عَدُوُّهُ، أَيْ مُعَامِلُهُ بِمَا يُنَاسِبُ فِعْلَهُ الْقَبِيحَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى رَسُولِهِ بِالْخِطَابِ، فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ، وَأَنَّهَا لِوُضُوحِهَا، لَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا مُتَمَرِّدٌ فِي فِسْقِهِ. ثُمَّ أَخَذَ يُسَلِّيهِ بِأَنَّ عَادَةَ هَؤُلَاءِ نَكْثُ عُهُودِهِمْ، فَلَا تُبَالِ بِمَنْ طَرِيقَتُهُ هَذِهِ، وَأَنَّهُمْ سَلَكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مَعَكَ، إِذْ أَتَيْتَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالرِّسَالَةِ، فَنَبَذُوا كِتَابَهُ تَعَالَى وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، بِحَيْثُ صَارُوا لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ لِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ التَّبْشِيرِ بِكَ، وَإِلْزَامِهِمُ اتِّبَاعَكَ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى الْكِتَابِ، وَلَا سَبَقَ لَهُمْ بِكَ عِلْمٌ مِنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ مَخَازِيهِمْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا مَا أَلْقَتْ إِلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ مِنْ كُتُبِ السِّحْرِ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ. ثُمَّ نَزَّهَ نَبِيَّهُ سُلَيْمَانَ عَنِ الْكُفْرِ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ فِي أَخْبَارِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَأَنَّهُمَا لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا حَتَّى يَنْصَحَاهُ بِأَنَّهُمَا جُعِلَا ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا، وَأَنَّهُمَا لِمُبَالَغَتِهِمَا فِي النَّصِيحَةِ يَنْهَيَانِ عَنِ الْكُفْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ قُصَارَى مَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا هُوَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ. ثُمَّ أَثْبَتَ أَنَّ مَا يَتَعَلَّمُونَ هُوَ ضَرَرٌ لِمُلَابِسِهِ وَمُتَعَلِّمِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِحَقِيقَةِ الضَّرَرِ، وَأَنَّ مُتَعَاطِيَ ذَلِكَ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَمِّ مَا بَاعُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، إِذْ مَا تَعَوَّضُوهُ مَآلُهُ إِلَى الْخُسْرَانِ.
ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا لَوْ سَلَكُوهُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى، لَحَصَلَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا اجْتَرَمُوهُ مِنَ الْمَآثِمِ، وَاكْتَسَبُوهُ مِنَ الْجَرَائِمِ، يُعْفِي عَلَى آثَارِهِ جَرُّ ذَيْلِ الْإِيمَانِ، وَيُبْدِلُ بِالْإِسَاءَةِ جَمِيلَ الْإِحْسَانِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ فِيهَا مَا يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ، وَقَوْلِهِ: وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ، وَذِكْرِ نَبْذِ الْعُهُودِ، وَنَبْذِ كِتَابِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ الشَّيَاطِينِ، وَتَعَلُّمِ مَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِآيَةٍ تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ الْجَمِيلَ لِمَنْ آمَنَ وَاتَّقَى. فَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَيْنَ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ، وَصَارَ فِيهَا اسْتِطْرَادٌ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَإِخْبَارٌ بمغيب بعد مغيب، متناسقا تَنَاسُقَ اللَّآلِئِ فِي عُقُودِهَا، مُتَّضِحَةً اتِّضَاحَ الدَّرَارِي فِي مَطَالِعِ سُعُودِهَا، مُعْلِمَةً صِدْقَ مَنْ أَتَى بِهَا، وَهُوَ مَا قَرَأَ الْكُتُبَ، وَلَا دَارَسَ، وَلَا رَحَلَ، وَلَا عاشر الأخبار، وَلَا مَارَسَ