الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِمُنَاسِبِهِ، وَارْتَقَى فِي ذُرْوَةِ الفصاحة إلى أعلا مَنَاصِبِهِ، وَارِدًا مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ أَمِينِهِ لِسَانِ مَنْ لَمْ يَتْلُ مِنْ قَبْلُ كِتَابًا وَلَا خطه بيمينه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 54 الى 57]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
الْقَوْمُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا وَاحِدُهُ امْرُؤٌ، وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يُجْمَعَ، وَشَذَّ جَمْعُهُ، قَالُوا: أَقْوَامٌ، وَجَمْعُ جَمْعِهِ قَالُوا: أَقَاوِيمٌ فَقِيلَ يُخْتَصُّ بِالرِّجَالِ. قَالَ تَعَالَى:
لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ «1» ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ «2» . وَقَالَ زُهَيْرٌ:
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وَقَالَ آخَرُ:
قَوْمِي هُمْ قَتَلُوا أُمَيْمَ أَخِي
…
فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي
وَقَالَ آخَرُ:
لَا يَبْعُدُنَّ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ
…
سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزُرِ
وَقِيلَ: لَا يُخْتَصُّ بِالرِّجَالِ بَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ «3» ، وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ «4» . كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: أَمَّا إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى التَّخْصِيصِ فَيَبْطُلُ الْعُمُومُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُخَصَّصَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَيَكُونُ انْدِرَاجُ النِّسَاءِ فِي الْقَوْمِ على سبيل الاستتباع
(1) سورة الحجرات: 49/ 11.
(2)
سورة الحجرات: 49/ 11.
(3)
سورة نوح: 71/ 1.
(4)
سورة غافر: 40/ 41. [.....]
وَتَغْلِيبِ الرِّجَالِ، وَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ. وَسُمِّيَ الرِّجَالُ قَوْمًا لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِالْأُمُورِ.
الْبَارِئُ: الْخَالِقُ، بَرَأَ يَبْرَأُ: خَلَقَ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْبَارِئِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «1» ، مَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَايُنِ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى التَّوْكِيدِ. وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: الْبَارِئُ هُوَ الْمُبْدِعُ الْمُحْدِثُ، وَالْخَالِقُ هُوَ الْمُقَدِّرُ النَّاقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بَرَأَ وَأَنْشَأَ وَأَبْدَعَ نَظَائِرُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ تَبَرَّى الشَّيْءُ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ انْفِصَالُهُ مِنْهُ، فَالْخَلْقُ قَدْ فُصِلُوا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، انْتَهَى. وَقَالَ أُمَيَّةُ: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فِي الْأَرْحَامِ مَاءً حَتَّى يَصِيرَ دَمًا. الْقَتْلُ:
إِزْهَاقُ الرُّوحِ بِفِعْلِ أَحَدٍ، مِنْ طَعْنٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ ذَبْحٍ أَوْ خَنْقٍ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ فَهُوَ مَوْتُ هَلَاكٍ، وَالْمُقَتَّلُ: الْمُذَلَّلُ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِسَهْمَيْكَ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ شَرَحُوهُ: بِالْمُذَلَّلِ.
خَيْرٌ: هِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهَا شُذُوذًا فِي الْكَلَامِ فَنَقَصَ بِنَاؤُهَا فَانْصَرَفَتْ، كَمَا حَذَفُوهَا شُذُوذًا فِي الشِّعْرِ مِنْ أحب للتي لِلتَّفْضِيلِ، وَقَالَ الْأَحْوَصُ:
وَزَادَنِي كَلَفًا بِالْحُبِّ أَنْ مُنِعْتُ
…
وَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا
وَقَدْ نَطَقُوا بِالْهَمْزَةِ فِي الشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
بِلَالٌ خَيْرُ النَّاسِ وَابْنُ الْأَخْيَرِ وَتَأْتِي خَيْرٌ أَيْضًا لَا، بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، تَقُولُ: فِي زَيْدٍ خَيْرٌ، تُرِيدُ بِذَلِكَ خَصْلَةً جَمِيلَةً، وَمُخَفَّفًا مِنْ خَيِّرٍ: رَجُلٌ خَيْرٌ، أَيْ فِيهِ خَيْرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ. حَتَّى: حَرْفٌ مَعْنَاهُ الْكَثِيرُ، فِيهِ الْغَايَةُ، وَتَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِبْدَالُ حَائِهَا عَيْنًا لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَسُمِعَ فِيهَا الْإِمَالَةُ قَلِيلًا، وَأَحْكَامُهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي النَّحْوِ. الرُّؤْيَةُ الْإِبْصَارُ، وَالْمَاضِي رَأَى، عَيْنُهُ هَمْزَةٌ تُحْذَفُ فِي مُضَارِعِهِ، وَالْأَمْرِ مِنْهُ وَبِنَاءِ أَفْعَلَ، وَالْأَمْرِ مِنْهُ، وَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، تَقُولُ: يَرَى وَتَرَى وَنَرَى وَأَرَى زَيْدًا، وَأَرَيْتُ زَيْدًا، وَرِ زَيْدًا، وَمَرِ زَيْدًا، وَمَرِيَ. وَتَثْبُتُ فِي الرُّؤْيَةِ وَالرَّأْيِ وَالرُّؤْيَا وَالْمَرْأَى وَالْمَرْئِيِّ وَالْمَرْأَةُ وَاسْتَرْأَى وَأَرْأَى مِنْ كَذَا، وَفِي مَا أَرْأَهُ وَأَرْئِهِ فِي التَّعَجُّبِ. وَهَذَا الْحَذْفُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ إِذَا كَانَ مَدْلُولُ رَأَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِبْصَارِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ الِاعْتِقَادِ، فَإِنْ كَانَتْ رَأَى بِمَعْنَى أَصَابَ رِئَتَهُ، فلا تحذف
(1) سورة الحشر: 59/ 24.
الْهَمْزَةُ، بَلْ تَقُولُ: رَآهُ يَرْآهُ: أَيْ أَصَابَ رِئَتَهُ، نَقَلَهُ صَاحِبُ كِتَابِ الْأَمْرِ. وَلُغَةُ تَمِيمٍ إِثْبَاتُ الْهَمْزِ فِيمَا حَذَفَ مِنْهُ غَيْرُهُمْ، فَيَقُولُونَ: يَرْأَى وَأَرْئَى؟ وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: فَجَمَعَ بَيْنَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ وَالْإِثْبَاتِ:
أَلَمْ تَرَ مَا لَاقَيْتُ وَالدَّهْرُ أَعْصَرُ
…
وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْأَى وَيَسْمَعُ
الْجَهْرَةُ: الْعَلَانِيَةُ، وَمِنْهُ الْجَهْرُ: ضِدُّ السِّرِّ، وَفَتْحُ عَيْنِ هَذَا النَّحْوِ مَسْمُوعٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، مَقِيسٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَيُقَالُ: جَهَرَ الرَّجُلُ الْأَمْرَ:
كَشَفَهُ، وَجَهَرَتِ الرَّكْيَةُ: أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْحَمْأَةِ وَأَظْهَرَتِ الْمَاءَ، قَالَ:
إِذَا وَرَدْنَا آجنا جهرنا
…
أو حاليا من أهله عمزنا
والجمهوري: الْعَالِي الصَّوْتِ، وَصَوْتٌ جَهِيرٌ: عَالٍ، وَوَجْهٌ جَهِيرٌ: ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ، وَالْأَجْهَرُ: الْأَعْمَى، سُمِّيَ عَلَى الضِّدِّ. الْبَعْثُ: الْإِحْيَاءُ، وَأَصْلُهُ الْإِثَارَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أُنِيخُهَا مَا بَدَا لِي ثُمَّ أَبْعَثُهَا
…
كَأَنَّهَا كَاسِرٌ فِي الْجَوِّ فَتْخَاءُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَفِتْيَانِ صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحرَةٍ
…
فَقَامُوا جَمِيعًا بين عان وَنَشْوَانِ
وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْإِرْسَالُ، وَمِنْهُ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا «1» ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى الْإِفَاقَةِ مِنَ الْغَشْيِ أَوِ النَّوْمِ، وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ «2» ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي هُوَ إِزَالَةُ مَا يَمْنَعُ عَنِ التَّصَرُّفِ. ظَلَّلَ: فَعَّلَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظِّلِّ، وَالظِّلُّ أَصْلُهُ الْمَنْفَعَةُ، وَالسَّحَابَةُ ظُلَّةٌ لِمَا يَحْصُلُ تَحْتَهَا مِنَ الظِّلِّ، وَمِنْهُ قِيلَ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ كُنْتَ مَوْلَى الظل أَوْ فِي ظِلَالِهِ
…
ظَلَمْتَ وَلَكِنْ لَا يَدَيْ لَكَ بِالظُّلْمِ
الْغَمَامُ: اسْمُ جِنْسٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ، تَقُولُ: غَمَامَةٌ وَغَمَامٌ، نَحْوَ: حَمَامَةٍ وَحَمَامٍ، وَهُوَ السَّحَابُ. وَقِيلَ: مَا ابْيَضَّ مِنَ السَّحَابِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَبْرَدُ مِنَ السَّحَابِ وَأَرَقُّ، وَسُمِّيَ غَمَامًا لِأَنَّهُ يَغُمُّ وَجْهَ السَّمَاءِ: أَيْ يَسْتُرُهُ، وَمِنْهُ: الْغَمُّ وَالْغَمَمُ وَالْأَغَمُّ وَالْغُمَّةُ وَالْغُمَّى وَالْغَمَّاءُ، وَغُمَّ الْهِلَالُ: سُتِرَ، وَالنَّبْتُ الْغَمِيمُ: هُوَ الَّذِي يَسْتُرُ مَا يُسَامِتُهُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ.
الْمَنُّ: مَصْدَرُ مَنَنْتُ، أَيْ قَطَعْتُ، وَالْمَنُّ: الْإِحْسَانُ، وَالْمَنُّ: صَمْغَةٌ تَنْزِلُ عَلَى الشجر حلوة،
(1) سورة النحل: 16/ 36.
(2)
سورة الكهف: 18/ 19.
وَفِي الْمُرَادِ بِهِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ سَتَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّلْوَى: اسْمُ جِنْسٍ، وَاحِدُهَا سَلْوَاةٌ، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَالْأَلِفُ فِيهَا لِلْإِلْحَاقِ لَا لِلتَّأْنِيثِ نَحْوَ: عَلْقَى وَعَلْقَاةٌ، إِذْ لَوْ كَانَتْ لِلتَّأْنِيثِ لَمَا أُنِّثَ بِالْهَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ سَلْوَةٌ
…
كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ الْقَطْرِ
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّلْوَى وَاحِدَةٌ، وَجَمْعُهَا سَلَاوًى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَمْعُهُ وَوَاحِدُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وقال مؤرح السُّدُوسِيُّ: السَّلْوَى هُوَ الْعَسَلُ بِلُغَةِ كِنَانَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ
…
أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ طَائِرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ غَلِطَ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ:
أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا فَظَنَّ السَّلْوَى الْعَسَلَ. وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ يُبَيِّنَانِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ غَلَطًا: أَحَدُهُمَا: مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ مُؤَرِّجٍ مِنْ كَوْنِهِ الْعَسَلَ بِلُغَةِ كِنَانَةَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: نَشُورُهَا لِأَجْلِ الْقَافِيَةِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَكْلِ بِالشَّوْرِ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، قَالُوا: وَاشْتِقَاقُ السَّلْوَى مِنَ السَّلْوَةِ، لِأَنَّهُ لِطِيبِهِ يُسْلِي عَنْ غَيْرِهِ. الطَّيِّبُ: فَيْعَلٌ مِنْ طَابَ يَطِيبُ، وَهُوَ اللَّذِيذُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اخْتِصَاصِ هَذَا الْوَزْنِ بِالْمُعْتَلِّ، إِلَّا مَا شَذَّ، وَفِي تَخْفِيفِ هَذَا النَّوْعِ وَبِالْمُخَفَّفِ مِنْهُ سُمِّيَتْ مَدِينَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَيْبَةَ.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ: عَدَّ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ هَذَا إِنْعَامًا خَامِسًا، وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مُنْقَطِعَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَتْلِ، وَالْقَتْلُ لَا يَكُونُ نِعْمَةً، وَضُعِّفَ بِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا بِهِ يَتَخَلَّصُونَ مِنْ عِقَابِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ هُوَ التَّوْبَةُ. وَإِذَا كَانَ قَدْ عَدَّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ، فَلَأَنْ يُعَدِّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الدِّينِيَّةَ أَوْلَى. وَلَمَّا لَمْ يَكْمُلْ وَصْفُ هَذِهِ النِّعْمَةِ إِلَّا بِمُقَدَّمَةِ مَا تَسَبَّبَتْ عَنْهُ، قَدَّمَ ذِكْرَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْخِطَابُ هُوَ مُحَاوَرَةُ مُوسَى لِقَوْمِهِ حِينَ رَجَعَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَوَجَدَهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْعِجْلَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِقَوْمِهِ، لِلتَّبْلِيغِ، وَإِقْبَالِ مُوسَى عَلَيْهِ بِالنِّدَاءِ، وَنِدَاؤُهُ بِلَفْظِ يَا قَوْمِ، مُشْعِرٌ بِالتَّحَنُّنِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَهُمْ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: يَا أَخِي، وَيَا صَدِيقِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِقَبُولِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِ، بِخِلَافِ أَنْ لَوْ نَادَاهُ بِاسْمِهِ، أَوْ بِالْوَصْفِ الْقَبِيحِ الصَّادِرِ مِنْهُ. وَفِي ذَلِكَ أيضا هزلهم لِقَبُولِهِمُ
الْأَمْرَ بِالتَّوْبَةِ، بَعْدَ تَقْرِيعِهِمْ بِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَيُّ ظُلْمٍ أَعْظَمُ مِنِ اتِّخَاذِ إِلَهٍ غَيْرِهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» . وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَفْحَشُ الظُّلْمِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْإِنْسَانِ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، فَإِذَا ظَلَمَهَا، كَانَ ذَلِكَ أَفْحَشَ مِنْ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ. وَيَا قَوْمِ:
مُنَادًى مُضَافٌ إِلَى يَاءِ المتكلم، وقد حذفت واجتزى بِالْكَسْرَةِ عَنْهَا، وَهَذِهِ اللُّغَةُ أَكْثَرُ مَا فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ جَاءَ إِثْبَاتُهَا كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يَا عِبَادِي فَاتَّقُونِ، بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ سَاكِنَةً، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، فَتَقُولُ: يَا غُلَامِيَ، وَفَتْحُ مَا قَبْلَهَا وَقَلْبُ الْيَاءِ أَلِفًا، فَتَقُولُ: يَا غُلَامًا. وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ حَذْفَ الْأَلِفِ وَالِاجْتِزَاءَ بِالْفَتْحَةِ عَنْهَا، فَتَقُولُ: يَا غُلَامَ، وأجازوا ضَمَّهُ وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الْإِضَافَةِ فَتَقُولُ: يَا غُلَامُ، تُرِيدُ: يَا غُلَامِي. وَعَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ «2» ، قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ «3» ، هَكَذَا أَطْلَقُوا، وَفَصَلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا أَوِ اسْمًا، إِنْ كَانَ فِعْلًا فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَى الضَّمِّ، وَمَثَّلَ الْفِعْلَ بِمِثْلِ:
يَا ضَارِبِيَّ، فَلَا يُجِيزُ فِي هَذَا يَا ضَارِبُ، وَظَاهِرُ الْخِطَابِ اخْتِصَاصُهُ بِمُتَّخِذِي الْعِجْلَ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: مَنْ عَبَدَ وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْ جُعِلُوا ظَالِمِينَ، لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَمْنَعُوهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ. وَالْبَاءُ فِي بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ سَبَبِيَّةٌ، وَاحْتِمَالُ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي قَوْلِهِ:
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ «4» جَاءَ هُنَا أَيْ بِعَمَلِكُمُ الْعِجْلَ وَعِبَادَتِهِ، أَوْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا. قَالَ السُّلَمِيُّ: عِجْلُ كُلِّ وَاحِدٍ نَفْسُهُ، فَمَنْ أَسْقَطَ مُرَادَهُ وَخَالَفَ هواه فقد برىء مِنْ ظُلْمِهِ.
فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ الْفَاءُ فِي فَتُوبُوا مَعَهَا التَّسْبِيبُ، لِأَنَّ الظُّلْمَ سَبَبٌ لِلتَّوْبَةِ، وَلَمَّا كَانَ السَّامِرِيُّ قَدْ عَمِلَ لَهُمْ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا، قِيلَ لَهُمْ: تُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ، أَيْ مُنْشِئِكُمْ وَمُوجِدِكُمْ مِنَ الْعَدَمِ، إِذْ مُوجِدُ الْأَعْيَانِ هُوَ الْمُوجِدُ حَقِيقَةً. وَأَمَّا عَمَلُ الْعِجْلِ وَاتِّخَاذُهُ فَلَيْسَ فِيهِ إِبْرَازُ الذَّوَاتِ مِنَ الْعَدَمِ، إِنَّمَا ذَلِكَ تَأْلِيفٌ تَرْكِيبِيٌّ لَا خَلْقَ أَعْيَانٍ، فَنُبِّهُوا بِلَفْظِ الْبَارِي عَلَى الصَّانِعِ، أَيِ الَّذِي أَوْجَدَكُمْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، لَا الَّذِي صَنَعَهُ، مَصْنُوعٌ مِثْلَهُ، فَلِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَانَ ذِكْرُ الْبَارِي هُنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِظُهُورِ حَرَكَةِ الْإِعْرَابِ فِي بَارِئِكُمْ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: الِاخْتِلَاسُ، رَوَيَ ذَلِكَ عَنْهُ سِيبَوَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ:
الْإِسْكَانُ، وَذَلِكَ إِجْرَاءٌ لِلْمُنْفَصِلِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ مِنْ كَلِمَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَسْكِينُ مِثْلَ إِبِلٍ، فَأَجْرَى الْمَكْسُورَانِ فِي بَارِئِكُمْ مَجْرَى إِبِلٍ، وَمَنَعَ الْمُبَرِّدُ التسكين في حركة
(1) سورة لقمان: 31/ 13.
(2)
سورة الأنبياء: 21/ 112.
(3)
سورة يوسف: 12/ 33.
(4)
سورة البقرة: 2/ 92.
الْإِعْرَابِ، وَزَعَمَ أَنَّ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو لَحْنٌ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ أَبَا عَمْرٍو لَمْ يَقْرَأْ إِلَّا بِأَثَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلُغَةُ الْعَرَبِ تُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْكَارُ الْمُبَرِّدِ لِذَلِكَ مُنْكَرٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ
…
إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ
وَقَالَ آخَرُ:
رُحْتَ وَفِي رِجْلَيْكَ مَا فِيهِمَا
…
وَقَدْ بَدَا هَنُكَ مِنَ الْمِئْزَرِ
وَقَالَ آخَرُ:
أَوْ نَهْرُ تَيْرَى فَمَا تَعْرِفْكُمُ الْعَرَبُ وَقَدْ خَلَطَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، فَأَنْشَدُوا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْكِينِ مِمَّا لَيْسَتْ حَرَكَتُهُ حَرَكَةَ إِعْرَابٍ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: أَمَّا حَرَكَةُ الْبِنَاءِ فَلَمْ يَخْتَلِفِ النُّحَاةُ فِي جَوَازِ تَسْكِينِهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو مَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ «1» . وَقِرَاءَةُ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ «2» .
وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو: أَنَّ لُغَةَ تَمِيمٍ تَسْكِينُ الْمَرْفُوعِ مِنْ يَعْلَمُهُ وَنَحْوِهِ، وَمِثْلُ تَسْكِينِ بَارِئِكُمْ، قِرَاءَةُ حَمْزَةَ، وَمَكْرَ السَّيِّئِ «3» . وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: بَارِيِكُمْ، بِكَسْرِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ. وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَخْرِيجَانِ أَحَدُهُمَا: أن الأصل الهمز، وَأَنَّهُ مِنْ بَرَأَ، فَخُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِالْإِبْدَالِ الْمَحْضِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، إِذْ قِيَاسُ هَذَا التَّخْفِيفِ جَعْلُهَا بَيْنَ بَيْنٍ. وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ بَارِيكُمْ، بِالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَيَكُونُ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرَيْتُ الْقَلَمَ، إِذَا أَصْلَحْتَهُ، أَوْ مِنَ الْبَرِيِّ: وَهُوَ التُّرَابُ، ثُمَّ حُرِّكَ حَرْفُ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسُهُ تَقْدِيرًا لِحَرَكَةٍ فِي مِثْلِ هَذَا رَفْعًا وَجَرًّا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَوْمًا تَوَافَيْنَا الْهَوَى غَيْرَ مَاضِي وَقَالَ آخَرُ:
وَلَمْ تُخْتَضَبْ سُمُرُ الْعَوَالِي بِالدَّمِ وَقَالَ آخر:
(1) سورة الزخرف: 43/ 80.
(2)
سورة البقرة: 2/ 228.
(3)
سورة فاطر: 35/ 43.
خَبِيثُ الثَّرَى كَأَبِي الْأَزِيدِ وَهَذَا كُلُّهُ تَعْلِيلُ شُذُوذٍ. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي اخْتِصَاصِ ذِكْرِ الْبَارِئِ هُنَا كَلَامًا حَسَنًا هَذَا نَصُّهُ. فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ أَيْنَ اخْتُصَّ هَذَا الْمَوْضِعُ بِذِكْرِ الْبَارِئِ؟ قُلْتُ: الْبَارِئُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بَرِيئًا مِنَ التَّفَاوُتِ، مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ «1» ، وَمُتَمَيِّزًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالصُّوَرِ الْمُتَبَايِنَةِ، فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيعٌ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ تَرْكِ عِبَادَةِ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ الَّذِي بَرَأَهُمْ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ عَلَى الْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، أَبْرِيَاءٌ مِنَ التَّفَاوُتِ وَالتَّنَافُرِ إِلَى عِبَادَةِ الْبَقَرِ الَّتِي هِيَ مَثَلٌ فِي الْغَبَاوَةِ وَالْبَلَادَةِ. فِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ: أَبْلَدُ مِنْ ثَوْرٍ، حَتَّى عَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِسَخَطِ اللَّهِ وَنُزُولِ أَمْرِهِ بِأَنْ يَفُكَّ مَا رَكَّبَهُ مِنْ خَلْقِهِمْ وَيَنْثُرَ مَا نَظَمَ مِنْ صُوَرِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ حِينَ لَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ فِي ذَلِكَ وَغَبَطُوهَا بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ الْقَتْلُ الْمَعْرُوفُ مِنْ إِزْهَاقِ الرُّوحِ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ يُبَاشِرُونَ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ. وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ مِنْ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا بِكَوْنِهِ كَانَتِ التَّوْرَاةُ فِي شَرِيعَتِهِ مُتَقَرِّرَةً بِقَتْلِ النَّفْسِ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ أَمَرَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مُتَجَدِّدٍ عُقُوبَةً لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَالْمَأْمُورُ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ عُبَّادُ الْعِجْلِ، أَوْ مَنْ عَبَدَ وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْ. وَالْمَعْنَى: اقْتُلُوا الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ مَنْ أَهْلِكُمْ، كَقَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «2» ، أَيْ مِنْ أَهْلِكُمْ وَجِلْدَتِكُمْ، أَوِ الْجَمِيعُ مَأْمُورُونَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أُمِرُوا بِأَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْقَتْلِ، وَسُمِّيَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْقَتْلِ قَتْلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: ذَلِّلُوا أَهْوَاءَكُمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّقْتِيلَ بِمَعْنَى التَّذْلِيلِ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ حَسَّانَ:
إِنَّ الَّتِي عَاطَيْتَنِي فَرَدَدْتُهَا
…
قُتِلَتْ قُتِلْتَ فَهَاتِهَا لَمْ تَقْتُلْ
فَتَلَخَّصَ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ. الثَّانِي:
الِاسْتِسْلَامُ لِلْقَتْلِ. وَالثَّالِثُ: التَّذْلِيلُ لِلْأَهْوَاءِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَأْمُورُونَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، فَقِيلَ: وَقَعَ الْقَتْلُ هَكَذَا قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ. وَقِيلَ: قتل بعضهم بعضا من غَيْرِ تَعْيِينِ قَاتِلٍ وَلَا مَقْتُولٍ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُونَ هُمُ الَّذِينَ اعْتَزَلُوا مَعَ هَارُونَ، وَالْمَقْتُولُونَ عُبَّادُ الْعِجْلِ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُونَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مع
(1) سورة الملك: 67/ 3.
(2)
سورة التوبة: 9/ 128.
مُوسَى فِي الْمُنَاجَاةِ بِطُورِ سَيْنَاءَ، وَالْمَقْتُولُونَ مَنْ عَدَاهُمْ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ بَعْضَهُمْ قَتَلَ بَعْضًا، فَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ، فَقِيلَ: اصْطَفُّوا صَفَّيْنِ، فَاجْتَلَدُوا بِالسُّيُوفِ وَالْخَنَاجِرِ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا، فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً لِلْمَقْتُولِ، وَتَوْبَةً لِلْقَاتِلِ، وَقِيلَ:
أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ظَلَامًا فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: وَقَفَ عُبَّادُ الْعِجْلِ صَفًّا، وَدَخَلَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ عَلَيْهِمْ بِالسِّلَاحِ فَقَتَلُوهُمْ. وَقِيلَ: احْتَبَى عُبَّادُ الْعِجْلِ فِي أَفَنِيَةِ دُورِهِمْ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِهِ، وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَهُمْ مُحْتَبُونَ فَقَالَ: مَلْعُونٌ مَنْ حَلَّ حَبْوَتَهُ، أَوْ مَدَّ طَرْفَهُ إِلَى قَاتِلِهِ، أَوِ اتَّقَاهُ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، فَيَقُولُونَ: آمِينَ. فَمَا حَلَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَبْوَتَهُ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا.
وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ لَهُمْ: مَنْ حَلَّ حَبْوَتَهُ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ
، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّعْنَةَ. وَقِيلَ:
إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُبْصِرُ وَلَدَهُ وَوَالِدَهُ وَجَارَهُ وَقَرِيبَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْمُضِيُّ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ ضَبَابَةً وَسَحَابَةً سَوْدَاءَ لَا يَتَبَاصَرُونَ تَحْتَهَا، وَأُمِرُوا أَنْ يَحْتَبُوا بِأَفْنِيَةِ بُيُوتِهِمْ، وَيَأْخُذَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ سُيُوفَهُمْ، وَقِيلَ لَهُمْ: اصْبِرُوا، فَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ مَدَّ طَرْفَهُ، أَوْ حَلَّ حَبْوَتَهُ، أَوِ اتَّقَى بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، فَيَقُولُونَ: آمِينَ، فَقَتَّلُوهُمْ إِلَى الْمَسَاءِ، حَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ، قَالَا:
يَا رَبِّ! هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ، فَكُشِفَتِ السَّحَابَةُ وَنَزَلَتِ التَّوْبَةُ، فَسَقَطَتِ الشِّفَارُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَكَانَتِ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا. انْتَهَى مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ بَعْضِ مَا أَوْرَدَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ وَفِي الْقَاتِلِينَ وَالْمَقْتُولِينَ. وَفِي ذَلِكَ مِنَ الِاتِّعَاظِ وَالِاعْتِبَارِ مَا يُوجِبُ مُبَادَرَةَ الِازْدِجَارِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْمَلِكِ الْقَهَّارِ. وَانْظُرْ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، إِذْ جَعَلَ تَوْبَتَهَا فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْمُعَاوَدَةِ إِلَيْهِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّوْبَةَ هِيَ نَفْسُ الْقَتْلِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَوْبَتُهَمْ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ، فَتُوبُوا، وَالْفَاءُ كَهِيَ فِي فَتُوبُوا مَعَهَا السَّبَبِيَّةُ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنِ الْقَتْلَ هُوَ تَمَامُ تَوْبَتِهِمْ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالْمَعْنَى فَأَتْبِعُوا التَّوْبَةَ الْقَتْلَ، تَتِمَّةً لِتَوْبَتِكُمْ. وَقَدْ أَنْكَرَ فِي الْمُنْتَخَبِ كَوْنَ الْقَتْلِ يَكُونُ تَوْبَةً وَجَعَلَ الْقَتْلَ شَرْطًا فِي التَّوْبَةِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ مَجَازًا، كَمَا يُقَالُ لِلْغَاصِبِ إِذَا قَصَدَ التَّوْبَةَ: تَوْبَتُكَ رَدُّ مَا غَصَبْتَ، يَعْنِي أَنَّهُ لا تنم تَوْبَتُكَ إِلَّا بِهِ، فَكَذَلِكَ هنا. وتعدية التوبة بإلى مَعْنَاهُ الِانْتِهَاءُ بِهَا إِلَى اللَّهِ، فَتَكُونُ بَرِيئَةً مِنَ الرِّيَاءِ فِي التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُمْ إِنْ رَاءَوْا بِهَا لَمْ تَكُنْ إِلَى اللَّهِ. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الْمُنْتَخَبِ مِنْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، إِذْ قَدْ نَقَلْنَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ. وَأَمَّا مَنْعُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، بِأَنَّ الْقَتْلَ هُوَ نَقْضُ الْبِنْيَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، يَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ إِنَّمَا
يُسَمَّى قَتِيلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، قَالَ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ لِكَوْنِهَا مَصَالِحُ لِذَلِكَ الْمُكَلَّفِ، وَلَا يَكُونُ مَصْلَحَةً إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْقَتْلِ حَالُ تَكْلِيفٍ حَتَّى يَكُونَ الْقَتْلُ مَصْلَحَةً فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ مِنَ الْإِمَاتَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَحْسُنُ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا كَانَ صَلَاحًا لِمُكَلَّفٍ آخَرَ، وَبِخِلَافِ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِأَنْ يَجْرَحَ نَفْسَهُ أَوْ يَقْطَعَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلَا يَحْصُلَ الْمَوْتُ عَقِيبَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ حَيًّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ صَلَاحًا فِي الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي الِاعْتِزَالِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ.
وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُنَا بِالْمَصْلَحَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ بَابِ الزَّوَاجِرِ وَالرَّوَادِعِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ اعْتِبَارُ حَالِ الْمُكَلَّفِ، بَلْ يَصْنَعُ الزَّوَاجِرَ لِازْدِجَارِ غَيْرِهِ. وَإِذَا فَعَلَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ بِمَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ، اتَّعَظَ بِهِ غَيْرُهُ وَانْكَفَّ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَكُونُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ.
وَقَرَأَ قَتَادَةُ فِيمَا نَقَلَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالتَّبْرِيزِيُّ وَغَيْرُهُمْ: فَأَقِيلُوا أَنْفُسَكُمْ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَرَأَ قَتَادَةُ: فاقتلوا أَنْفُسَكُمْ. فَأَمَّا فَأَقِيلُوا، فَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْإِقَالَةِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ أَنْفُسَكُمْ قَدْ تَوَرَّطَتْ فِي عَذَابِ اللَّهِ بِهَذَا الْفِعْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَعَاطَيْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَدْ هَلَكَتْ فَأَقِيلُوهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْتِزَامِ الطَّاعَةِ، وَأَزِيلُوا آثَارَ تِلْكَ الْمَعَاصِي بِإِظْهَارِ الطَّاعَاتِ.
وَأَمَّا فَاقْتَالُوا أَنْفُسَكُمْ، فَقَالُوا: هُوَ افْتَعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، أَيْ فَاسْتَقِيلُوهَا، وَالْمَشْهُورُ اسْتَقَالَ لَا اقْتَالَ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: يَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُهَا وَاوًا كَاقْتَادُوا، وَيُحْتَمَلُ أْنَ تَكُونَ يَاءً كَأَقْيَاسٍ، وَالتَّصْرِيفُ يَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاسْتِقَالَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ جِنِّي، فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لَا شَكَّ مَسْمُوعَةٌ بِدَلِيلِ نَقْلِ قَتَادَةَ لَهَا وَيَكُونُ مِمَّا جَاءَتْ فِيهِ افْتَعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ، وَذَلِكَ نَحْوَ: اعْتَصَمَ وَاسْتَعْصَمَ. قَالَ السُّلَمِيُّ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ. ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِأَسْرَارِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالتَّبَرِّي مِنْهَا، فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِبِسَاطِ الْأُنْسِ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: كَانَتْ تَوْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ، وَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَشَدُّ، وَهُوَ إِفْنَاءُ نُفُوسِهِمْ عَنْ مُرَادِهَا مَعَ بَقَاءِ رُسُومِ الْهَيَاكِلِ. وَقَالَ فَارِسٌ: التَّوْبَةُ مَحْوُ الْبَشَرِيَّةِ بِمُبَايَنَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقِيلَ: تُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ وَطَاعَاتِكُمْ، وَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فِي طَاعَاتِهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ عَمَّا دُونَ اللَّهِ وَعَنِ اللَّهِ بِالْفَرَاغِ مِنْ طَلَبِ الْجَزَاءِ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى أَصْلِ الْعَدَمِ، وَيَبْقَى الْحَقُّ كَمَا لَمْ يَزَلْ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللَّطَائِفِ: التَّوْبَةُ بِقَتْلِ النَّفْسِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ لَهُمْ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ جَهْرًا، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ، وَأَوَّلُ قَدَمٍ فِي الْقَصْدِ إِلَى اللَّهِ الْخُرُوجُ عَنِ النَّفْسِ تَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّ تَوْبَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ أَشَقَّ، وَلَا كَمَا تَوَهَّمُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مُقَاسَاةَ الْقَتْلِ مَرَّةً، وَأَمَّا أَهْلُ الْخُصُوصِ فَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ قَتْلٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بميت
…
إنما الميت ميت الْأَحْيَاءِ
ذلِكُمْ: إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، أَيِ الْقَتْلُ: خَيْرٌ لَكُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَتُوبُوا وَاقْتُلُوا، فَأَوْقَعَ الْمُفْرَدَ مَوْقِعَ التَّثْنِيَةِ، أَيْ فَالتَّوْبَةُ وَالْقَتْلُ خَيْرٌ لَكُمْ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1» أَيْ بَيْنَ ذَيْنِكَ أَيِ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى
…
وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقُبُلُ
أَيْ: وَكِلَا ذَيْنِكَ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَاقْتُلُوا، هَلْ هُوَ تَفْسِيرٌ لِلتَّوْبَةِ؟ فَتَكُونُ التَّوْبَةُ هِيَ الْقَتْلَ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكُمْ مُفْرَدًا أُشِيرَ بِهِ إِلَى مُفْرَدٍ، وَهُوَ الْقَتْلُ، أَوْ يَكُونُ الْقَتْلُ مُغَايِرًا لِلتَّوْبَةِ، فَيَحْتَمِلُ هَذَا الَّذِي قاله هذا الْقَائِلُ، وَلَكِنَّ الْأَرْجَحَ خَيْرٌ، إِنْ كَانَتْ لِلتَّفْضِيلِ فَقِيلَ: الْمَعْنَى خَيْرٌ مِنَ الْعِصْيَانِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ. وَقِيلَ: خَيْرٌ مِنْ ثَمَرَةِ الْعِصْيَانِ، وَهُوَ الْهَلَاكُ الَّذِي لَهُمْ، إِذِ الْهَلَاكُ الْمُتَنَاهِي خَيْرٌ مِنَ الْهَلَاكِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي، إِذِ الْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ. وَكِلَا هَذَيْنِ التَّوْجِيهَيْنِ لَيْسَ التَّفْضِيلُ عَلَى بَابِهِ، إِذِ الْعِصْيَانُ وَالْهَلَاكُ غَيْرُ الْمُتَنَاهِي لَا خَيْرَ فِيهِ، فَيُوصَفُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ أَزْيَدُ فِي الْخَيْرِيَّةِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ بَلْ أُرِيدَ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ. لَكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِخَيْرٍ إِنْ كَانَ لِلتَّفْضِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنَّهَا خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ خير كَائِنٌ لَكُمْ. وَالتَّخْرِيجَانِ يَجْرِيَانِ فِي نَصْبِ قَوْلِهِ: عِنْدَ بارِئِكُمْ. وَالْعِنْدِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ، إِذْ هِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ وَتُجُوِّزَ بِهِ عَنْ مَعْنَى حُصُولِ ثَوَابِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَرَّرَ الْبَارِئَ بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ تَوْكِيدًا، وَلِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَنَاسَبَ الْإِظْهَارُ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ هُوَ رَاجِحٌ عِنْدَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، فَكَمَا رَأَى أَنَّ إِنْشَاءَكُمْ رَاجِحٌ، رَأَى أَنَّ إِعْدَامَكُمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنَ الْقَتْلِ رَاجِحٌ، فَيَنْبَغِي التَّسْلِيمُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَتَلَقِّي مَا يَرِدُ مِنْ قبله بالقبول والامتثال.
(1) سورة البقرة: 2/ 68.
فَتابَ عَلَيْكُمْ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ عُطِفَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، أَيْ فَامْتَثَلْتُمْ ذَلِكَ فَتَابَ عَلَيْكُمْ. وَتَكُونُ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ مُنْدَرِجَتَيْنِ تَحْتَ الْإِضَافَةِ إِلَى الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ: إِذْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ.
وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ قَوْلِ مُوسَى عَلَى تَقْدِيرِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قَالَ:
فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ تَابَ عَلَيْكُمْ، فَتَكُونُ الْفَاءُ إِذْ ذَاكَ رَابِطَةً لِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفَةِ، هِيَ وَحَرْفُ الشَّرْطِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَوَابَ يَجُوزُ حَذْفُهُ كَثِيرًا لِلدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِعْلُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ دُونَ الْأَدَاةِ فَيَجُوزُ حَذْفُهُ إِذَا كان منفيا بلا فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَطَلِّقْهَا فَلَسْتَ لَهَا بِكُفْؤٍ
…
وَإِنْ لَا يَعْلُ مِفْرَقَكَ الْحُسَامُ
التَّقْدِيرُ: وَإِنْ لَا تُطَلِّقْهَا يَعْلُ، فَإِنْ كان غير منفي بلا، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
سَقَتْهُ الرَّوَاعِدُ مِنْ صَيْفٍ وَإِنْ
…
مِنْ خَرِيفٍ فَلَنْ يُعْدَمَا
التَّقْدِيرُ: وَإِنْ سَقَتْهُ مِنْ خَرِيفٍ فَلَنْ يُعْدَمَ الرِّيَّ، وَذَلِكَ عَلَى أَحَدِ التَّخْرِيجَيْنِ فِي الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ حَذْفُ فِعْلِ الشَّرْطِ وَفِعْلِ الْجَوَابِ دُونَ أَنْ يَجُوزَ فِي الضَّرُورَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ
…
كَانَ عَيِيًّا مُعْدِمًا قَالَتْ وَإِنْ
التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كَانَ عَيِيًّا مُعْدِمًا أَتَزَوَّجُهُ. وَأَمَّا حَذْفُ فِعْلِ الشَّرْطِ وَأَدَاةِ الشَّرْطِ مَعًا، وَإِبْقَاءُ الْجَوَابِ، فَلَا يَجُوزُ إذا لَمْ يَثْبُتُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا جَزْمُ الْفِعْلِ بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَخَوَاتِهِمَا فَلَهُ. وَلِتَعْلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ مَكَانٌ آخَرُ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ كَمَا قُلْنَا: إِخْبَارٌ عَنِ الْمَأْمُورِينَ بِالْقَتْلِ الْمُمْتَثِلِينَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ عَلَى الْبَاقِينَ، وَجَعَلَ اللَّهُ الْقَتْلَ لِمَنْ قُتِلَ شَهَادَةً، وَتَابَ عَلَى الْبَاقِينَ وَعَفَا عَنْهُمْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ آدَمَ: فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «1» ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى: هَذِهِ مُحَاوَرَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى، وَذَلِكَ بَعْدَ مُحَاوَرَتِهِ لَهُمْ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذَا. وَالضَّمِيرُ فِي قُلْتُمْ قِيلَ لِلسَّبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ، وَذُكِرَ
(1) سورة البقرة: 2/ 37. [.....]
فِي اخْتِيَارِ السَّبْعِينَ كَيْفِيَّةٌ سَتَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي مَكَانِهَا فِي الْأَعْرَافِ. وَقِيلَ:
الضَّمِيرُ لِسَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: الَّذِينَ انْفَرَدُوا مَعَ هَارُونَ وَلَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ: تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَصَابَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ هُمُ السَّبْعُونَ رَجُلًا الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى وَمَضَى بِهِمْ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ وَمُنَاجَاتِهِ، وَمَا ذُكِرَ لَا يُمْكِنُ مَعَ ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْتُمْ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقَائِلَ ذَلِكَ هُمُ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، وَهُوَ هُنَا بَعِيدٌ. وَفِي نِدَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِنَبِيِّهِمْ بِاسْمِهِ سُوءُ أَدَبٍ مِنْهُمْ مَعَهُ، إِذْ لَمْ يَقُولُوا:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ يَا كَلِيمَ اللَّهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُشْعِرُ بِصِفَاتِ التَّعْظِيمِ، وَهِيَ كَانَتْ عادتهم معه: يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ على طعام واحد، يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلها، يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا..
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ: قِيلَ مَعْنَاهُ: لَنْ نُصَدِّقَكَ فِيمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يُرِيدُوا نَفْيَ الْإِيمَانِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ لَكَ، وَلَمْ يَقُولُوا بِكَ نَحْوَ: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «1» ، أَيْ بِمُصَدِّقٍ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَنْ نُقِرَّ لَكَ، فَعَبَّرَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ وَعَدَّاهُ بِاللَّامِ، وَقَدْ جَاءَ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قَالَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي «2» ، قَالُوا: أَقْرَرْنَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى:
لَنْ نُقِرَّ لَكَ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لَنْ نُؤْمِنَ لِأَجْلِ قَوْلِكَ بِالتَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ الْكَمَالِ، أَيْ لَا يَكْمُلُ إِيمَانُنَا لَكَ، كَمَا قِيلَ فِي
قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً حَتَّى: هُنَا حَرْفُ غَايَةٍ، أَخْبَرُوا بِنَفْيِ إِيمَانِهِمْ مُسْتَصْحَبًا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَمَفْهُومُهَا أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوُا اللَّهَ جَهْرَةً آمَنُوا، وَالرُّؤْيَةُ هُنَا: هِيَ الْبَصَرِيَّةُ، وَهِيَ الَّتِي لَا حِجَابَ دُونَهَا وَلَا سَاتِرَ، وَانْتِصَابُ جَهْرَةً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ مُزِيلٌ لِاحْتِمَالِ الرُّؤْيَةِ أَنْ تَكُونَ مَنَامًا أَوْ عِلْمًا بِالْقَلْبِ. وَالْمَعْنَى حَتَّى نَرَى اللَّهَ عِيَانًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ وَبِالدُّعَاءِ، أَيْ أَعْلَنَ بِهَا فَأُرِيدَ بِهَا نَوْعٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَانْتِصَابُهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: قَعَدَ الْقُرْفُصَاءَ، وَفِي: نَصْبِ هَذَا النَّوْعِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَالْأَصَحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْفِعْلِ السَّابِقِ يُعَدَّى إِلَى النَّوْعِ، كَمَا تَعَدَّى إِلَى لَفْظِ الْمَصْدَرِ الْمُلَاقَى مَعَ الْفِعْلِ فِي الِاشْتِقَاقِ، وَقِيلَ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَذْفِ، أَيْ ذوي
(1) سورة يوسف: 12/ 17.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 81.
جَهْرَةٍ، أَوْ عَلَى مَعْنَى جَاهِرِينَ بِالرُّؤْيَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ نَحْوَ: رَجُلٌ صَوْمٌ، لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ لَا تُرَادُ هُنَا. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْجَهْرَةُ مِنْ صِفَاتِ الرُّؤْيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الرَّائِينَ، وَثَمَّ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا لِمَعْنَى الْقَوْلِ، أَوِ الْقَائِلِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَإِذْ قُلْتُمْ كَذَا قَوْلًا جَهْرَةً أَوْ جَاهِرِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، لَمْ يُسِرُّوهُ وَلَمْ يَتَكَاتَمُوا بِهِ، بَلْ صَرَّحُوا بِهِ وَجَهَرُوا بِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ مغيابا لرؤية. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْجَهْرَةَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُهُ بِالرُّؤْيَةِ لَا بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: جَهَرَةً، بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَهَرَةً مَصْدَرًا كَالْغَلَبَةِ، فَتَكُونُ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى جَهْرَةً الْمُسَكَّنَةِ الْهَاءِ سَوَاءً، وَيَجْرِي فِيهَا مِنَ الْإِعْرَابِ الْوُجُوهُ الَّتِي سَبَقَتْ فِي جَهْرَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لَجَاهِرٍ، كَمَا تَقُولُ: فَاسِقٌ وَفَسَقَةٌ، فَيَكُونُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ جَاهِرِينَ بِالرُّؤْيَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى عليه السلام رَادَّهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ رُؤْيَةَ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ مُحَالٌ، وَأَنَّ مَنِ اسْتَجَازَ عَلَى اللَّهِ الرُّؤْيَةَ، فَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ أَوِ الْإِعْرَاضِ، فَرَادُّوهُ بَعْدَ بَيَانِ الْحُجَّةِ وَوُضُوحِ الْبُرْهَانِ، وَلَجُّوا فَكَانُوا فِي الْكُفْرِ كَعَبَدَةِ الْعِجْلِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الصَّاعِقَةَ، كَمَا سَلَّطَ عَلَى أُولَئِكَ الْقَتْلَ، تَسْوِيَةً بَيْنَ الْكُفْرَيْنِ، وَدَلَالَةً عَلَى عِظَمِهَا بِعِظَمِ الْمِحْنَةِ. اهـ. كَلَامُهُ. وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِاسْتِحَالَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
ذَهَبَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالنَّجَّارِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ شَارَكَهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ إِلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَارِي سبحانه وتعالى، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ. فَقَالَ الْكَرَّامِيَّةُ: يُرَى فِي جِهَةِ فَوْقَ وَلَهُ تَحْتٌ، وَيُرَى جِسْمًا، وَقَالَتِ الْمُشَبِّهَةُ: يُرَى عَلَى صُورَةٍ، وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَا مُقَابِلًا، وَلَا مُحَاذِيًا، وَلَا مُتَمَكِّنًا، وَلَا مُتَحَيِّزًا، وَلَا مُتَلَوِّنًا، وَلَا عَلَى صُورَةٍ وَلَا هَيْئَةٍ، وَلَا عَلَى اجْتِمَاعٍ وَجِسْمِيَّةٍ، بَلْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ، يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا عَلِمُوهُ كَذَلِكَ قَبْلُ. وَقَدِ اسْتَفَاضَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَدْ رَأَيْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ مِنْ فُضَلَاءِ الْإِمَامِيَّةِ فِيهَا مُجَلَّدَةً كَبِيرَةً، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ اسْتِحَالَةِ الرُّؤْيَةِ، لَكِنَّ عَادَتَهُ تَحْمِيلُ الْأَلْفَاظِ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، خُصُوصًا مَا يَجُرُّ إِلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، نُعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي. وَكَذَلِكَ
اخْتَلَفُوا فِي رُؤْيَةِ الْحَقِّ نَفْسَهُ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرَى نَفْسَهُ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ، وَذَهَبَ الْكَعْبِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرَى نَفْسَهُ وَلَا غَيْرَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ النَّجَّارِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ.
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ: أَيِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْكُمْ وَأَحَاطَتْ بِكُمْ. وَأَصْلُ الْأَخْذِ: الْقَبْضُ بِالْيَدِ. وَالصَّاعِقَةُ هُنَا: هَلْ هِيَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ أَحْرَقَتْهُمْ، أَوِ الْمَوْتُ، أَوْ جُنْدٌ سَمَاوِيٌّ سَمِعُوا حِسَّهُمْ فَمَاتُوا، أَوِ الْفَزَعُ فَدَامَ حَتَّى مَاتُوا، أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِمْ، أَوِ الْعَذَابُ الَّذِي يَمُوتُونَ مِنْهُ، أَوْ صَيْحَةٌ سَمَاوِيَّةٌ؟ أَقْوَالٌ، أَصَحُّهَا: أَنَّهَا سَبَبُ الْمَوْتِ، لَا الْمَوْتُ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ، قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ «1» . وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُدَّةَ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الصَّعْقِ كَانَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَقِيلَ: أَصَابَ مُوسَى مَا أَصَابَهُمْ، وَقِيلَ صُعِقَ وَلَمْ يَمُتْ، قَالُوا: وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ جَاءَ، فَلَمَّا أَفَاقَ فِي حَقِّ مُوسَى وَجَاءَ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ في حقهم، وأكثر استعماله الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ بَعْثُ الْأَمْوَاتِ. وَقِيلَ: غُشِيَ عَلَيْهِمْ كَهُوَ وَلَمْ يَمُوتُوا، وَالصَّعْقُ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْمَوْتِ، وَقَالَ جَرِيرٌ:
وَهَلْ كَانَ الْفَرَزْدَقُ غَيْرَ قِرْدٍ
…
أَصَابَتْهُ الصَّوَاعِقُ فَاسْتَدَارَا
وَالظَّاهِرُ أَنَّ سبب أخذ الصاعقة إياهم قَوْلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، إِذْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَيَسْأَلُوا الرُّؤْيَةَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَقِيلَ: سَبَبُ أخذ الصعقة إِيَّاهُمْ هُوَ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ كُفْرِهِمْ بِمُوسَى، أَوْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ لَمَّا جَاءَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ أَوْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ.
وَقَرَأَ عَمْرٌو عَلَى الصَّعْقَةِ، وَاسْتَعْظَمَ سُؤَالَ الرُّؤْيَةِ حَيْثُ وَقَعَ، لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، فَطَلَبُهَا فِي الدُّنْيَا هُوَ مُسْتَنْكَرٌ، أَوْ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ أَنْ يُزِيلَ التَّكْلِيفَ عَنِ الْعَبْدِ حَالَ مَا يَرَاهُ، فَكَانَ طَلَبُهَا طَلَبًا لِإِزَالَةِ التَّكْلِيفِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي كَانَ طَلَبُ الدَّلَائِلِ الزَّائِدَةِ تَعَنُّتًا وَلِأَنَّ فِي مَنْعِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا ضَرْبًا مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُهِمَّةِ لِلْخَلْقِ، فَلِذَلِكَ اسْتُنْكِرَ.
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَمُتَعَلِّقُ النَّظَرِ: أَخْذُ الصَّعْقَةِ إِيَّاكُمْ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى مَا حَلَّ بِكُمْ مِنْهَا أَوْ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَخِرُّ مَيِّتًا، أَوْ إِلَى الْأَحْيَاءِ، أَوْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا تَأْخُذُكُمْ. فَعَبَّرَ بِالنَّظَرِ عَنِ الْعِلْمِ، أَوْ إِلَى آثَارِ الصَّاعِقَةِ فِي أَجْسَامِكُمْ بَعْدَ أَنْ بُعِثْتُمْ، أَوْ يَنْظُرَ كُلٌّ مِنْكُمْ إِلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْعُزَيْرِ، قَالُوا: حَيِيَ عُضْوًا بعد
(1) سورة الأعراف: 7/ 155.
عُضْوٍ، أَوْ إِلَى أَوَائِلِ مَا كَانَ يَنْزِلُ مِنَ الصَّاعِقَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ، أَوْ أَنْتُمْ يُقَابِلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ دُورُ آلِ فُلَانٍ تَتَرَاءَى، أَيْ يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِجَابَةُ السُّؤَالِ فِي حُصُولِ الرُّؤْيَةِ لَهُمْ، لَكَانَ وَجْهًا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَظَرْتُ الرَّجُلَ، أَيِ انْتَظَرْتُهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فإنكما إن تنظراني ساعة
…
مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ
لَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَيْسَ بِمَنْقُولٍ، فَلَا أَجْسُرُ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ. وَقَدْ عَدَّ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ هَذَا إِنْعَامًا سَادِسًا، وَذَكَرَ فِي كَوْنِهِ إِنْعَامًا وُجُوهًا: مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِ ذَلِكَ إِنْعَامًا، وَهُوَ أَنَّ إِحْيَاءَهُمْ لِأَنْ يَتُوبُوا عَنِ التَّعَنُّتِ، وَلِأَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ وَيَفُوزُوا بِجَزِيلِ الثَّوَابِ مَنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَلَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا بَعْدَ أَنْ كُلِّفَ عَبَدَةُ الْعِجْلِ بِالْقَتْلِ وَلَا قَبْلَهُ. وَقَدْ قِيلَ بِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ مَعْطُوفَةٌ بِالْوَاوِ، وَالْوَاوُ لَا تَدُلُّ بِوَضْعِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا أَحَلَّهُمُ اللَّهُ مَحَلَّ مُنَاجَاتِهِ، وَأَسْمَعَهُمْ لَذِيذَ خِطَابِهِ، اشْرَأَبَّتْ نُفُوسُهُمْ لِلْفَخْرِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ، فَعَامَلَهُمُ اللَّهُ بِنَقِيضِ مَا حَصَلَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالصَّعْقَةِ الَّتِي هِيَ خُضُوعٌ وَتَذَلُّلٌ تَأْدِيبًا لَهُمْ وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ. «1»
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ، وَدَلَّ الْعَطْفُ بِثُمَّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ أَخْذِ الصَّاعِقَةِ وَالْبَعْثِ زَمَانًا تُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُهْلَةُ وَالتَّأْخِيرُ، هُوَ زَمَانُ مَا نَشَأَ عَنِ الصَّاعِقَةِ مِنَ الْمَوْتِ، أَوِ الْغَشْيِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي مَرَّ. وَالْبَعْثُ هُنَا: الْإِحْيَاءُ، ذُكِرَ أَنَّهُمْ لَمَّا مَاتُوا لَمْ يَزَلْ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ فِي إَحْيَائِهِمْ وَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُولُونَ قَتَلْتَ خِيَارَنَا حَتَّى أَحْيَاهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا رَجُلًا بَعْدَ رَجُلٍ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَحْيَوْنَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْبَعْثِ الْإِرْسَالُ، أَيْ أَرْسَلْنَاكُمْ.
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَحْيَاهُمُ اللَّهُ سَأَلُوا أَنْ يَبْعَثَهُمْ أَنْبِيَاءَ فَبَعَثَهُمْ أَنْبِيَاءَ.
وَقِيلَ: مَعْنَى الْبَعْثِ: الْإِفَاقَةُ مِنَ الْغَشْيَةِ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنهم صُعِقُوا وَلَمْ يَمُوتُوا. وَقِيلَ: الْبَعْثُ هُنَا: الْقِيَامُ بِسُرْعَةٍ مِنْ مَصَارِعِهِمْ، وَمِنْهُ قَالُوا:
يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «2» ؟ وَقِيلَ مَعْنَى الْبَعْثِ هُنَا، التَّعْلِيمُ، أَيْ ثُمَّ عَلَّمْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ جَهْلِكُمْ، وَالْمَوْتُ هُنَا ظَاهِرُهُ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَكَانَ إِحْيَاؤُهُمْ لِأَجْلِ اسْتِيفَاءِ أَعْمَارِهِمْ. وَمَنْ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ غَشْيًا وَهُمُودًا كَانَ الْمَوْتُ مَجَازًا، قَالَ تَعَالَى:
(1) سورة آل عمران: 3/ 13.
(2)
سورة يس: 36/ 52.
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ»
، وَالَّذِي أَتَاهُ مُقَدِّمَاتُهُ سُمِّيَتْ مَوْتًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا
…
قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
جَعَلَ نَفْسَهُ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حُمِلَ الْمَوْتُ عَلَى الْجَهْلِ كَانَ مَجَازًا، وَقَدْ كَنَى عَنِ الْعِلْمِ بِالْحَيَاةِ، وَعَنِ الْجَهْلِ بِالْمَوْتِ. قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «2» ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحْمَةُ اللَّهِ:
إنما النفس كالزجاجة والعلم سِرَاجٌ وَحِكْمَةُ اللَّهِ زَيْتُ
فَإِذَا أَبْصَرْتَ فَإِنَّكَ حَيٌّ
…
وَإِذَا أَظْلَمْتَ فَإِنَّكَ مَيْتُ
وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ:
أَخُو الْعِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ
…
وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ
وَذُو الْجَهْلِ مَيْتٌ وَهُوَ مَاشٍ عَلَى الثَّرَى
…
يُظَنُّ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَهُوَ عَدِيمُ
وَلَا يَدْخُلُ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خِطَابِ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ، لِأَنَّهُ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ لِلَّذِينِ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، وَلِقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَفاقَ «3» ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي الْمَوْتِ. وَأَخْطَأَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ مُوسَى قَدْ مَاتَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: وَفِي مُتَعَلِّقِ الشُّكْرِ أَقْوَالٌ يَنْبَنِي أَكْثَرُهَا عَلَى الْمُرَادِ بِالْبَعْثِ وَالْمَوْتِ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا حَقِيقَةٌ قَالَ: الْمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعْمَتَهُ بِالْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَسَائِرِ نِعَمِهِ الَّتِي أَسْدَاهَا إِلَيْهِمْ، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مَجَازًا عَنْ إِرْسَالِهِمْ أَنْبِيَاءَ، أَوْ إِثَارَتِهِمْ مِنَ الْغَشْيِ، أَوْ تَعْلِيمِهِمْ بَعْدَ الْجَهْلِ، جَعَلَ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ أَحَدَ هَذِهِ الْمَجَازَاتِ. وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ تَوْبَتِهِ عَلَيْهِمْ وَتَفْصِيلِ شَرَائِعِهِ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَرَائِعُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعْمَةَ الله بعد ما كَفَرْتُمُوهَا إِذَا رَأَيْتُمْ بَأْسَ اللَّهِ فِي رَمْيِكُمْ بِالصَّاعِقَةِ وَإِذَاقَتِكُمُ الْمَوْتَ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي دَارِ الدُّنْيَا لِيُكَلِّفَهُمْ وَلِيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْإِيمَانِ وَمِنْ تَلَافِي مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَرَائِمِ. أَمَّا أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ، فَلِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَلَفْظُ الشُّكْرِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ لِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «4» ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ تَكْلِيفِ مَنْ أعيد بعد موته،
(1) سورة ابراهيم: 14/ 17.
(2)
سورة الأنعام: 6/ 122.
(3)
سورة الأعراف: 7/ 143.
(4)
سورة سبأ: 34/ 13.
وَمُعَايَنَةِ الْأَهْوَالِ الَّتِي تَضْطَرُّهُ وَتُلْجِئُهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بَعْدَ الِاقْتِرَافِ. فَقَالَ قَوْمٌ: سَقَطَ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ لِيَكُونَ تَكْلِيفُهُمْ مُعْتَبَرًا بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَبْقَى تَكْلِيفُهُمْ لِئَلَّا يَخْلُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ مِنْ تَعَبُّدٍ، وَلَا يُمْنَعُ حُكْمُ التَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ «1» ، وَذَلِكَ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا التَّوْرَاةَ، فَلَمَّا نَتَقَ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ آمَنُوا وَقَبِلُوهَا، فَكَانَ إِيمَانُهُمْ بِهَا إِيمَانَ اضْطِرَارٍ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ، وَمِثْلُهُمْ قَوْمُ يُونُسَ فِي إِيمَانِهِمْ. اه كَلَامُهُ.
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ: مَفْعُولٌ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِالْغَمَامِ، كَمَا تَقُولُ:
ظَلَّلْتُ عَلَى فلان بالرداء، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ لَا عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى جَعَلْنَاهُ عَلَيْكُمْ ظُلَلًا. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ فَعَّلَ فِيهِ، بِجَعْلِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ كَقَوْلِهِمْ:
عَدَلْتُ زَيْدًا، أَيْ جَعَلْتُهُ عَدْلًا، فَكَذَلِكَ هَذَا مَعْنَاهُ: جَعَلْنَا الْغَمَامَ عَلَيْكُمْ ظُلَّةً، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ فَعَّلَ فِيهِ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، فَيَكُونُ التَّضْعِيفُ أَصْلُهُ لِلتَّعْدِيَةِ، ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ يُعَدَّى بِعَلَى، فَكَانَ الْأَصْلُ: وَظَلَّلْنَاكُمْ، أَيْ أَظْلَلْنَاكُمْ بِالْغَمَامِ، نَحْوَ مَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ»
، ثُمَّ ضُمِّنَ ظَلَّلَ مَعْنَى كَلَّلَ أَوْ شِبْهَهُ مِمَّا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى، فَعَدَّاهُ بِعَلَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعَانِي فَعَّلَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، إِذْ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أن الغمام ظلل علينا، فَيَكُونُ قَدْ جُعِلَ عَلَى الْغَمَامِ شَيْءٌ يَكُونُ ظُلَّةً لِلْغَمَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغَمَامِ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ الْغَمَامُ الَّذِي أَتَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي تَأْتِي فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ «2» ، وَلَيْسَ بِغَمَامٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ غَمَامًا لِكَوْنِهِ يُشْبِهُ الْغَمَامَ. وَقِيلَ: الَّذِينَ ظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَجْرَى الْعَادَةَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يُحْدِثُ فِيهَا ذَنْبًا أَظَلَّتْهُ غَمَامَةٌ.
وَحُكِيَ أَنَّ شَخْصًا عَبَدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَلَمْ تُظِلُّهُ غَمَامَةٌ، فَجَاءَ إِلَى أَصْحَابِ الْغَمَائِمِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ فَقَالُوا: لَعَلَّكَ أَحْدَثْتَ ذَنْبًا، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنِّي رَفَعْتُ طَرْفِي إِلَى السَّمَاءِ وَأَعَدْتُهُ بِغَيْرِ فِكْرٍ، فَقَالُوا لَهُ: ذَلِكَ ذَنْبُكَ، وَكَانَتْ فِيهِمْ جَمَاعَةٌ يُسَمَّوْنَ أَصْحَابَ الْغَمَائِمِ، فَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ فِيهِمْ مَنْ لَهُ هَذِهِ الْكَرَامَةُ الظَّاهِرَةُ الْبَاهِرَةُ. وَالْمَكَانُ الَّذِي أَظَلَّتْهُمْ فِيهِ الْغَمَامَةُ كَانَ فِي التِّيهِ بَيْنَ الشَّامِ وَمِصْرَ لَمَّا شَكَوْا حَرَّ الشَّمْسِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي
(1) سورة الأعراف: 7/ 171.
(2)
سورة البقرة: 2/ 210.
قِصَّتِهِمْ. وَقِيلَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ عَفْرَاءُ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ وَلَا ظِلٌّ، وَقَعُوا فِيهَا حِينَ خَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَأَظَلَّهُمُ اللَّهُ بِالْغَمَامِ، وَوَقَاهُمْ حَرَّ الشَّمْسِ.
وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى الْمَنُّ: اسْمُ جِنْسٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَفِي الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْوَالٌ: مَا يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ، أَوْ صَمْغَةٌ طَيِّبَةٌ حُلْوَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَوْ شَرَابٌ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ يَشْرَبُونَهُ بَعْدَ مَزْجِهِ بِالْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةَ أَوْ عَسَلٌ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ أَوِ الرُّقَاقُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الذُّرَةِ أَوْ مِنَ النِّقْيِ، وَهُوَ قَوْلُ وَهْبٍ أَوِ الزَّنْجَبِيلُ، وَهُوَ قو السُّدِّيُّ، أَوِ التَّرَنْجَبِينُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ عَسَلٌ حَامِضٌ، قَالَهُ عَمْرُو بْنُ عِيسَى أَوْ جَمِيعُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ وَجَاءَهُمْ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَدَلِيلُهُ
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ» .
وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى مُوسَى.
وَفِي السَّلْوَى الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْوَالٌ: طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى، أَوْ هُوَ السُّمَانَى نَفْسُهُ، أَوْ طُيُورٌ حُمْرٌ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا سَحَابَةً فَمُطِرَتْ فِي عَرْضِ مِيلٍ وَطُولِ رُمْحٍ فِي السَّمَاءِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ أَوْ طَيْرٌ يَكُونُ بِالْهِنْدِ أَكْبَرُ مِنَ الْعُصْفُورِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ أَوْ طَيْرٌ سَمِينٌ مِثْلُ الْحَمَامِ أَوِ الْعَسَلُ بِلُغَةِ كِنَانَةَ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِمُ السَّلْوَى مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، فَيَخْتَارُونَ مِنْهَا السَّمِينَ وَيَتْرُكُونَ الْهَزِيلَ وَقِيلَ: كَانَتْ رِيحُ الْجَنُوبِ تَسُوقُهَا إِلَيْهِمْ فَيَخْتَارُونَ مِنْهَا حَاجَتَهُمْ وَيَذْهَبُ الْبَاقِي. وَقِيلَ: كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى الشَّجَرِ فَيَنْطَبِخُ نِصْفُهَا وَيَنْشَوِي نِصْفُهَا. وَكَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالسَّلْوَى بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَقِيلَ: دَائِمًا، وَقِيلَ: كُلَّمَا أَحَبُّوا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ حِكَايَاتٍ فِي التَّظْلِيلِ وَنُزُولِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَتَظَافَرَتْ أَقَاوِيلُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي فَحْصِ التِّيهِ، وَسَتَأْتِي قِصَّتُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ لَنَا من حر الشَّمْسِ؟ فَظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ، وَقَالُوا: مَنْ لَنَا بِالطَّعَامِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَقَالُوا: مَنْ لَنَا بِالْمَاءِ؟ فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِضَرْبِ الْحَجَرِ، وَهَذِهِ دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ. وَزِيدَ فِي تِلْكَ الْحِكَايَاتِ أَنَّهُمْ قَالُوا: بِمَ نَسْتَصْبِحُ؟ فَضُرِبَ لَهُمْ عَمُودٌ مِنْ نُورٍ فِي وَسَطِ مَحَلَّتِهِمْ، وَقِيلَ: مِنْ نَارٍ، وَقَالُوا: مَنْ لَنَا بِاللِّبَاسِ؟ فَأُعْطُوا أَنْ لَا يَبْلَى لَهُمْ ثَوْبٌ، وَلَا يَخْلَقَ، وَلَا يَدْرَنَ، وَأَنْ تَنْمُوَ صِغَارُهَا حَسَبَ نُمُوِّ الصِّبْيَانِ. كُلُوا: أَمْرُ إِبَاحَةٍ وَإِذْنٍ كَقَوْلِهِ: فَاصْطادُوا «1» ، فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «2» ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن الأصل
(1) سورة المائدة: 5/ 2.
(2)
سورة الجمعة: 62/ 10.
فِي الْأَشْيَاءِ الْحَظْرُ، أَوْ دُومُوا عَلَى الْأَكْلِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْأَصْلُ فيها الإباحة، وهاهنا قَوْلٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَقُلْنَا: كُلُوا، وَالْقَوْلُ يُحْذَفُ كَثِيرًا وَيَبْقَى الْمَقُولُ، وَذَلِكَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَمِنْهُ: أَكَفَرْتُمْ؟ أَيْ فَيُقَالُ: أَكَفَرْتُمْ؟ وَحَذْفُ الْمَقُولِ وَإِبْقَاءُ الْقَوْلِ قَلِيلٌ، وَذَلِكَ أَيْضًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَنَحْنُ الْأُلَى قُلْتُمْ فَأَنَّى مُلِئْتُمْ
…
بِرُؤْيَتِنَا قَبْلَ اهْتِمَامٍ بِكُمْ رُعْبًا
التَّقْدِيرُ: قُلْتُمْ نُقَاتِلُهُمْ. مِنْ طَيِّباتِ: مِنْ: لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى بَعْضُ الطَّيِّبَاتِ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَلَا يَتَخَرَّجُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ، وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا لِلْجِنْسِ، لِأَنَّ الَّتِي لِلْجِنْسِ فِي إِثْبَاتِهَا خِلَافٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَدَّرَ بَعْدَهُ مَوْصُولٌ يَكُونُ صِفَةً لَهُ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا لِلْبَدَلِ، إِذْ هُوَ مَعْنًى مُخْتَلَفٌ فِي إِثْبَاتِهِ، وَلَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ هُنَا مَا يُرَجِّحُ ذَلِكَ. وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا قِيلَ: الْحَلَالُ، وَقِيلَ:
اللَّذِيذُ الْمُشْتَهَى. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ كُلُوا مِنْ عِوَضِ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، عَوَّضَهُمْ عَنْ جَمِيعِ مَآكِلِهِمْ الْمُسْتَلَذَّةِ بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى، فَكَانَا بَدَلًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ أَنَّهُ لَا يَكْفِي وَضْعُ الْمَالِكِ الطَّعَامَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ، بَلْ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَهُوَ قَوْلٌ. وَقِيلَ: يُمْلَكُ بِالْوَضْعِ فَقَطْ، وَقِيلَ: بِالْأَخْذِ وَالتَّنَاوُلِ، وَقِيلَ: لَا يُمْلَكُ بِحَالٍ، بَلْ يُنْتَفَعُ بِهِ وَهُوَ عَلَى ملك المالك. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا رَزَقْناكُمْ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا رَزَقْنَاكُمُوهُ، وَشُرُوطُ الْحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجَوِّزَ مُجَوِّزٌ فِيهَا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ، وَيَكُونُ يُطْلَقُ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَالْأَوَّلُ أَسْبَقُ إِلَى الذِّهْنِ.
وَما ظَلَمُونا نَفْيٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَقَعْ منهم ظلم لله تَعَالَى، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أنه ليس من شرط نَفْيَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ إِمْكَانُ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ ظُلْمَ الْإِنْسَانِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ أَلْبَتَّةَ.
قِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا ظَلَمُونَا بِقَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا قَابَلْنَاهُمْ بِهِ مِنَ الصَّاعِقَةِ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِادِّخَارِهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِفَسَادِ طَعَامِهِمْ وَتَقْلِيصِ أَرْزَاقِهِمْ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِإِبَائِهِمْ عَلَى مُوسَى أَنْ يَدْخُلُوا قَرْيَةَ الْجَبَّارِينَ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِاسْتِحْبَابِهِمُ الْعَذَابَ وَقَطْعِهِمْ مَادَّةَ الرِّزْقِ عَنْهُمْ، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِكُفْرِ النِّعَمِ، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِحُلُولِ النِّقَمِ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
وَاتَّفَقَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَعَصَوْا وَلَمْ يُقَابِلُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ، قَالَ: وَالْمَعْنَى وَمَا وَضَعُوا فِعْلَهُمْ فِي مَوْضِعِ مَضَرَّةٍ لَنَا، وَلَكِنْ وَضَعُوهُ فِي مَوْضِعِ مَضَرَّةٍ لَهُمْ حَيْثُ لَا يَجِبُ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَظَلَمُوا بِأَنْ كَفَرُوا هَذِهِ النِّعَمَ، وَمَا ظَلَمُونَا، قَالَ: فَاخْتَصَرَ الْكَلَامَ بِحَذْفِهِ لِدَلَالَةِ وَمَا ظَلَمُونَا عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ، كَمَا زَعَمَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَ مِنْهُمُ ارْتِكَابُ قَبَائِحَ مِنِ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ إِلَهًا، وَمِنْ سُؤَالِ رُؤْيَةِ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُقَصَّ هُنَا. فَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما ظَلَمُونا جُمْلَةٌ مَنْفِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِحِ لَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا بِذَلِكَ نَقْصٌ وَلَا ضَرَرٌ، بَلْ وَبَالُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَمُخْتَصٌّ بِهِمْ، لَا يَصِلُ إِلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٌ.
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ: لَكِنْ هُنَا وَقَعَتْ أَحْسَنَ مَوْقِعٍ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا نَفْيٌ وَجَاءَ بَعْدَهَا إِيجَابٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ «1» ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ «2» ، أَعْنِي أَنْ يَتَقَدَّمَ إِيجَابٌ ثُمَّ يَجِيءُ بَعْدَهَا نَفْيٌ، لِأَنَّ الِاسْتِدْرَاكَ الْحَاصِلَ بِهَا إنما يكون يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلِهَا بِوَجْهٍ مَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ، فَلَمَّا نُفِيَ ذَلِكَ الظُّلْمُ أَنْ يَصِلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَقِيَتِ النَّفْسُ مُتَشَوِّفَةً وَمُتَطَلِّعَةً إِلَى ذِكْرِ مَنْ وَقَعَ بِهِ الظُّلْمُ، فَاسْتُدْرِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ الظُّلْمَ الْحَاصِلَ مِنْهُمْ إِنَّمَا كَانَ وَاقِعًا بِهِمْ، وَأَحْسَنُ مَوَاقِعِهَا أَنْ تَكُونَ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ، وَيَلِيهِ أَنْ تَقَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَيَلِيهِ أَنْ تَقَعَ بَيْنَ الْخِلَافَيْنِ، وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ خِلَافٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ. أَذَلِكَ تَرْكِيبٌ عَرَبِيٌّ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِكَ: مَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَلَكِنْ هُوَ ضَاحِكٌ، وَقَدْ تُكُلِّمَ عَلَى ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ نَحْوَ: مَا خَرَجَ زَيْدٌ وَلَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَمْرٌو. وَطِبَاقُ الْكَلَامِ أَنْ يُثْبَتَ مَا بَعْدَ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ مَا نُفِيَ قَبْلَهَا، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، لَكِنْ دَخَلَتْ كَانُوا هُنَا مُشْعِرَةً بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَمِنْ طَرِيقَتِهِمْ، وَلِأَنَّهَا أَيْضًا تَكُونُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَكُونُ الْمُسْنَدُ لَا يَنْقَطِعُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً «3» فَكَانَ الْمَعْنَى: وَلَكِنْ لَمْ يَزَالُوا ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ بِكَثْرَةِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَنِ المخالفات. ويظلمون: صُورَتُهُ صُورَةُ الْمُضَارِعِ، وَهُوَ مَاضٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمُضَارِعُ بِمَعْنَى الماضي.
(1) سورة هود: 11/ 101. [.....]
(2)
سورة البقرة: 2/ 13.
(3)
سورة الأحزاب: 33/ 40.
وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ وَلَا فِيمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِهِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَقُدِّمَ مَعْمُولُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ هُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْفُسَهُمْ، لِيَحْصُلَ بذلك توافق رؤوس الْآيِ وَالْفَوَاصِلِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْإِخْبَارِ عَمَّنْ حَلَّ بِهِ الْفِعْلُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى صَارَ الْعَامِلُ فِي الْمَفْعُولِ تَوْكِيدًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. فَلَيْسَ ذِكْرُهُ ضَرُورِيًّا، وَبِأَنَّ التوكيد أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْمُؤَكَّدِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ: مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا وَلَكِنْ ضَرَبْتُ عَمْرًا، فَذِكْرُ ضَرَبْتُ الثَّانِيَةِ أَفَادَتِ التَّأْكِيدَ، لِأَنَّ لَكِنْ مَوْضُوعُهَا أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُنَافِيًا لِمَا قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا وَلَكِنْ عَمْرًا، فَلَسْتَ مُضْطَرًّا لِذِكْرِ الْعَامِلِ. فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى قَوْلُهُ:
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فِي مَعْنَى: وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، كَانَ ذِكْرُ الْعَامِلِ فِي الْمَفْعُولِ لَيْسَ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ، إِذْ لَوْ قِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ، لَكَانَ كَلَامًا عَرَبِيًّا، وَيُكْتَفَى بِدَلَالَةِ لَكِنْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُنَافٍ لِمَا قَبْلَهَا، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْمُحَسِّنَاتُ لِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ كَانَ تَقْدِيمُهُ هُنَا الْأَفْصَحَ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ذِكْرِ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فُصُولًا مِنْهَا: أَمْرُ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، إِيَّاهُمْ بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُقَارَفَةِ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الْعِجْلِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَالتَّلَطُّفُ بِهِمْ فِي نِدَائِهِمْ بِيَا قَوْمِ، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى عِلَّةِ الظُّلْمِ الَّذِي كَانَ وَبَالُهُ رَاجِعًا عَلَيْهِمْ، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ تَوْبَتَهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِسَابِقِ رَحْمَتِهِ، ثُمَّ التَّوْبِيخُ لَهُمْ بِسُؤَالِهِمْ مَا كَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ، وَهُوَ رُؤْيَةُ اللَّهِ عِيَانًا، لِأَنَّهُ كَانَ سُؤَالَ تَعَنُّتٍ. ثُمَّ ذِكْرُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ مِنْ أَخْذِ الصَّاعِقَةِ إِيَّاهُمْ. ثُمَّ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِالْبَعْثِ، وَهُوَ مِنَ الْخَوَارِقِ الْعَظِيمَةِ أَنْ يُحْيَى الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ مَاتَ. ثُمَّ إِسْعَافُهُمْ بِمَا سَأَلُوهُ، إِذْ وَقَعُوا فِي التِّيهِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى مَا يُزِيلُ ضَرَرَهُمْ وَحَاجَتَهُمْ مَنْ لَفْحِ الشَّمْسِ، وَتَغْذِيَةِ أَجْسَادِهِمْ بِمَا يَصْلُحُ لَهَا، فَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ وَأَكْبَرِ الْمُعْجِزَاتِ حَيْثُ يُسَخَّرُ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِ، فَكَانَ عَلَى مَا قِيلَ: تُظِلُّهُمْ بِالنَّهَارِ وَتَذْهَبُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُنَوِّرَ عَلَيْهِمُ الْقَمَرُ. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَهَذَا مِنْ أَشْرَفِ الْمَأْكُولِ، إِذْ جَمَعَ بَيْنَ الْغِذَاءِ وَالدَّوَاءِ، بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَلَاوَةِ الَّتِي فِي الْمَنِّ وَالدَّسَمِ الَّذِي فِي السَّلْوَى، وَهُمَا مُقْمِعَا الْحَرَارَةِ وَمُثِيرَا الْقُوَّةِ لِلْبَدَنِ. ثُمَّ الْأَمْرُ لَهُمْ بِتَنَاوُلِ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ مُطْلَقٌ. ثُمَّ التَّنْصِيصُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَبِحَقِّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. ثُمَّ ذِكْرُ أَنَّهُ رِزْقٌ مِنْهُ لَهُمْ لَمْ يَتْعَبُوا فِي تَحْصِيلِهِ