المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ١

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر

- ‌منهج التفسير:

- ‌عمل دار الفكر

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌سورة الفاتحة 1

- ‌[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]

- ‌سورة البقرة 2

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 16]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 19]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 20]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 25]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 29]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 33]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 34]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 35]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 36 الى 39]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 46]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 49]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 50 الى 53]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 54 الى 57]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 61]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 62 الى 66]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 82]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 86]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 96]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 103]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 113]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 123]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 131]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 132 الى 141]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74]

[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74]

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

الْبَقَرَةُ: الْأُنْثَى مِنْ هَذَا الْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ، وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ. وَالْبَاقِرُ وَالْبَقِيرُ وَالْبَيْقُورُ وَالْبَاقُورُ، قَالُوا: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بَقَرَةً لِأَنَّهَا تَبْقُرُ الْأَرْضَ، أَيْ تَشُقُّهَا لِلْحَرْثِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: الْبَاقِرُ. وَكَانَ هُوَ وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفُصَحَاءِ. الْعِيَاذُ وَالْمَعَاذُ: الِاعْتِصَامُ. الْفِعْلُ مِنْهُ: عَاذَ يَعُوذُ. الْجَهْلُ:

مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: جَهِلَ يَجْهَلُ، قِيلَ: وَقَدْ جُمِعَ عَلَى أَجِهَالٍ، وَهُوَ شَاذٌّ.

قَالَ الشَّنْفَرَى:

وَلَا تَزْدَهِي الْأَجْهَالُ حِلْمِي وَلَا أَرَى

سَؤُولًا بِأَطْرَافِ الْأَقَاوِيلِ أَنْمُلُ

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ جَاهِلٍ، كَأَصْحَابٍ: جَمْعِ صَاحِبٍ. الْفَارِضُ: الْمُسِنُّ الَّتِي انْقَطَعَتْ وِلَادَتُهَا مِنَ الْكِبَرِ. يُقَالُ: فَرَضَتْ وَفَرُضَتْ تَفْرِضُ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا، وَالْمَصْدَرُ فَرُوضٌ، وَالْفَرْضُ: الْقَطْعُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

ص: 400

كُمَيْتٍ بَهِيمِ اللَّوْنِ لَيْسَ بِفَارِضٍ

وَلَا بِعَوَانٍ ذَاتِ لَوْنٍ مُخَصَّفِ

وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا قَدُمَ وَطَالَ أَمْرُهُ: فَارِضٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:

يَا رُبَّ ذِي ضَغَنٍ عَلَيَّ فَارِضٍ

لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ

وَكَأَنَّ الْمُسِنَّ سُمِّيَتْ فَارِضًا لِأَنَّهَا فَرَضَتْ سِنَّهَا، أَيْ قَطَعَتْهَا وَبَلَغَتْ آخِرَهَا، قَالَ خُفَافُ بْنُ نُدْبَةَ:

لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتَ ضَيْفَكَ فَارِضًا

تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ

وَلَمْ تُعْطِهِ بِكْرًا فَيَرْضَى سَمِينَهُ

فَكَيْفَ تُجَازَى بِالْمَوَدَّةِ وَالْفَضْلِ

الْبِكْرُ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ مِنَ الصِّغَرِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الَّتِي وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا. وَالْبِكْرُ مِنَ النِّسَاءِ: الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا الرَّجُلُ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هِيَ الَّتِي لَمْ تَحْمَلْ. وَالْبِكْرُ مِنَ الْأَوْلَادِ: الْأَوَّلُ، وَمِنَ الْحَاجَاتِ: الْأُولَى.

قَالَ الرَّاجِزُ:

يَا بِكْرَ بِكْرَيْنِ وَيَا خِلْبَ الْكَبِدِ

أَصْبَحْتَ مِنِّي كَذِرَاعٍ مِنْ عَضُدِ

وَالْبَكْرُ، بِفَتْحِ الْبَاءِ: الْفَتَى مِنَ الْإِبِلِ، وَالْأُنْثَى: بَكْرَةٌ، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّقَدُّمِ فِي الزَّمَانِ، وَمِنْهُ الْبَكْرَةُ وَالْبَاكُورَةُ. وَالْعَوَانُ: النِّصْفُ، وَهِيَ الَّتِي وَلَدَتْ بَطْنًا أَوْ بَطْنَيْنِ، وَقِيلَ: الَّتِي وَلَدَتْ مَرَّةً. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: الْعَوَانُ لَا تَعْلَمُ الْخِمْرَةَ، وَيُقَالُ: عَوَنَتِ الْمَرْأَةُ، وَحَرْبٌ عَوَانٌ، وَهِيَ الَّتِي قُوتِلَ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَجُمِعَ عَلَى فُعُلٍ: قَالُوا عُوُنٌ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمُعْتَلِّ مِنْ فَعَأَلٍ، وَيَجُوزُ ضَمُّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِي الشِّعْرِ، مِنْهُ:

وَفِي الْأَكُفِّ اللَّامِعَاتِ سُوُرٌ بَيْنَ: ظَرْفُ مَكَانٍ مُتَوَسِّطُ التَّصَرُّفِ، تَقُولُ: هُوَ بَعِيدٌ بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، وَنَقِيٌّ بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ. قَالَ تَعَالَى: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ «1» ، وَدُخُولُهَا إِذَا كَانَتْ ظَرْفًا: بَيْنَ مَا تُمْكِنُ الْبَيْنِيَّةُ فِيهِ، وَالْمَالُ بَيْنَ زَيْدٍ وَبَيْنَ عمرو، مسموع مِنْ كَلَامِهِمْ، وَيَنْتَقِلُ مِنَ الْمَكَانِيَّةِ إِلَى الزَّمَانِيَّةِ إِذَا لَحِقَتْهَا مَا، أَوِ الْأَلِفُ، فَيَزُولُ عَنْهَا الِاخْتِصَاصُ بِالْأَسْمَاءِ، فَيَلِيهَا إِذْ ذَاكَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ، وَرُبَّمَا أُضِيفَتْ بينا إلى المصدر. ولبين فِي عِلْمِ الْكُوفِيِّينَ بَابٌ مَعْقُودٌ كَبِيرٌ. اللَّوْنُ: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ عَلَى الْقِيَاسِ أَلْوَانٌ. وَاللَّوْنُ: النَّوْعُ، وَمِنْهُ أَلْوَانُ

(1) سورة الكهف: 18/ 78.

ص: 401

الطَّعَامِ: أَنْوَاعُهُ. وَقَالُوا: فُلَانٌ مُتَلَوِّنٌ: إِذَا كَانَ لَا يَثْبُتُ عَلَى خُلُقٍ وَاحِدٍ وَحَالٍ وَاحِدٍ، وَمِنْهُ:

يَتَلَوَّنُ تَلَوُّنَ الْحِرْبَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحِرْبَاءَ، لِصَفَاءِ جِسْمِهَا، أَيُّ لَوْنٍ قَابَلَتْهُ ظَهَرَ عَلَيْهَا، فَتَنْقَلِبُ مِنْ لَوْنٍ إِلَى لَوْنٍ. الصُّفْرَةُ: لَوْنٌ مَعْرُوفٌ، وَقِيَاسُ الْفِعْلِ مِنْ هَذَا الْمَصْدَرِ: صَفِرَ، فَهُوَ أَصْفَرُ، وَهِيَ صَفْرَاءُ، كَقَوْلِهِمْ: شَهُبَ: فهو أشبه، وَهِيَ شَهْبَاءُ. الْفُقُوعُ: أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّفْرَةِ وَأَبْلَغُهُ، يُقَالُ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ وَوَارِسٌ، وَأَسْوَدُ حَالِكٌ وَحَايِكٌ، وأبيض نفق وَلَمُقٌ، وَأَحْمَرُ قَانِيُّ وَزِنْجِيُّ، وَأَخْضَرُ نَاضِرٌ وَمُدْهَامٌّ، وَأَزْرَقُ خطباني وأرمك رداني. السُّرُورُ: لَذَّةٌ فِي الْقَلْبِ عِنْدَ حُصُولِ نَفْعٍ أَوْ تَوَقُّعِهِ أَوْ رُؤْيَةِ أَمْرٍ مُعْجِبٍ رَائِقٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: السُّرُورُ وَالْفَرَحُ وَالْحُبُورُ وَالْجَذَلُ نَظَائِرُ، وَنَقِيضُ السُّرُورِ: الْغَمُّ. الذَّلُولُ: الرَّيِّضُ الَّذِي زَالَتْ صُعُوبَتُهُ، يُقَالُ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذِّلِّ، بِكَسْرِ الذَّالِ، وَرَجُلٌ ذَلِيلٌ: بَيِّنُ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ، وَالْفِعْلُ:

ذَلَّ يَذِلُّ. الْإِثَارَةُ: الِاسْتِخْرَاجُ وَالْقَلْقَلَةُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

يُهِيلُ وَيُذْرِي تُرْبَهَا وَيُثِيرُهُ

إِثَارَةَ نَبَّاشِ الْهَوَاجِرِ مُخْمِسِ

وَقَالَ النَّابِغَةُ:

يُثِرْنَ الْحَصَى حَتَّى يُبَاشِرْنَ تُرْبَهُ

إِذَا الشَّمْسُ مَجَّتْ رِيقَهَا بِالْكَلَاكِلِ

الْحَرْثُ: مَصْدَرُ حَرَثَ يَحْرُثُ، وَهُوَ شَقُّ الْأَرْضِ لِيُبْذَرَ فِيهَا الْحَبُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا حُرِثَ وَزُرِعَ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ «1» . وَالْحَرْثُ: الزَّرْعُ، وَالْحَرْثُ:

الْكَسْبُ، وَالْحَرَائِثُ: الْإِبِلُ، الْوَاحِدَةُ حَرِيثَةٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ الْحَارِثُ

، لِأَنَّ الْحَارِثَ هُوَ الْكَاسِبُ، وَاحْتِرَاثُ الْمَالِ: اكْتِسَابُهُ. الْمُسَلَّمَةُ: الْمُخَلَّصَةُ الْمُبَرَّأَةُ مِنَ الْعُيُوبِ، سَلَّمَ لَهُ كَذَا: أَيْ خَلَّصَ، سَلَامًا وَسَلَامَةً مِثْلُ: اللَّذَاذُ وَاللَّذَاذَةُ. الشِّيَةُ: مَصْدَرُ وَشَى الثَّوْبَ، يَشِيَهُ وَشْيًا وَشِيَةً: حَسَّنَهُ وَزَيَّنَهُ بِخُطُوطٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّاعِي فِي الْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ: وَاشٍ، لِأَنَّهُ يُحَسِّنُ كَذِبَهُ عِنْدَهُمْ حَتَّى يُقْبَلَ، وَالشِّيَةُ: اللُّمْعَةُ الْمُخَالِفَةُ لِلَّوْنِ، وَمِنْهُ ثَوْرٌ مَوْشِيِّ الْقَوَائِمِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ

طَاوِي الْمَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرَدِ

الْآنَ: ظَرْفُ زَمَانٍ، حَضَرَ جَمِيعُهُ أَوْ بَعْضُهُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْحُضُورِ. وَقِيلَ:

زَائِدَةٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنَ الْفِعْلِ، يُقَالُ: آنَ يَئِينُ أَيْنًا: أَيْ حَانَ. الدَّرْءُ: الدَّفْعُ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ. وقال الشاعر:

(1) سورة البقرة: 2/ 223.

ص: 402

فَنَكَّبَ عَنْهُمُ دَرْءَ الْأَعَادِي وادّار: تَفَاعُلٌ مِنْهُ، وَلِمَصْدَرِهِ حُكْمٌ يُخَالِفُ مَصَادِرَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَوَّلُهَا هَمْزَةُ وَصْلٍ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. الْقَسَاوَةُ: غِلَظُ الْقَلْبِ وَصَلَابَتُهُ. يُقَالُ: قَسَا يَقْسُو قَسْوًا وَقَسْوَةً وَقَسَاوَةً، وَقَسَا وَجَسَا وَعَسَا مُتَقَارِبَةٌ. الشَّقُّ، أَنْ يَجْعَلَ الشَّيْءَ شِقَّيْنِ، وَتَشَقَّقَ مِنْهُ. الْخَشْيَةُ: الْخَوْفُ مَعَ تَعَظُّمِ الْمَخْشِيِّ. يُقَالُ: خَشِيَ يَخْشَى. الْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ مُتَقَارِبَةٌ. يُقَالُ مِنْهُ: غَفَلَ يَغْفُلُ، وَمَكَانٌ غُفْلٌ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ.

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً الْآيَةَ. وُجِدَ قَتِيلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْمُهُ عَامِيلُ، وَلَمْ يَدْرُوا قَاتِلَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي سَبَبِ قَتْلِهِ. فَقَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ:

كَانَ الْقَاتِلُ ابْنَ عَمِّ الْمَقْتُولِ، وَكَانَ مِسْكِينًا، وَالْمَقْتُولُ كَثِيرَ الْمَالِ. وَقِيلَ: كَانَ أَخَاهُ، وَقِيلَ:

ابْنُ أَخِيهِ، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ عُمْرُهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: كَانَ تَحْتَ عَامِيلَ بِنْتُ عَمٍّ لَا مِثْلَ لَهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، فَقَتَلَهُ لِيَنْكِحَهَا. وَطَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِمْ. وَالَّذِي سَأَلَ مُوسَى الْبَيَانَ هُوَ الْقَاتِلُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَسَأَلُوا مُوسَى، وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُخَالَفَتِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُمْ فِي أَكْثَرِ أَنْبَائِهِمْ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ وَالتَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ «1» ، وَقَوْمُ مُوسَى أَتْبَاعُهُ وَأَشْيَاعُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

يَأْمُرُكُمْ، بِضَمِّ الرَّاءِ، وعن أبي عمرو: والسكون وَالِاخْتِلَاسُ وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى بَارِئِكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَاضِي إِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ بِمَا أَخْبَرَ مُوسَى، وَأَنْ تَذْبَحُوا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي ليأمر، وَهُوَ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَيْ بِأَنْ تَذْبَحُوا. وَلِحَذْفِ الْحَرْفِ هُنَا مُسَوِّغَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ، إِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ مُتَأَثِّرًا بِحَرْفِ الْجَرِّ، أَنْ يُحْذَفَ الْحَرْفُ، كَمَا قَالَ:

أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَالثَّانِي: كَوْنُهُ مَعَ إِنَّ، وَهُوَ يَجُوزُ مَعَهَا حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ إِذَا لَمْ يُلْبِسْ. وَدَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَأَيُّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لَوْ ذَبَحُوهَا لَكَانَ يَقَعُ الِامْتِثَالُ.

وَقَدْ رَوَى

(1) سورة البقرة: 2/ 63.

ص: 403

الْحَسَنُ مَرْفُوعًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوِ اعْتَرَضُوا بَقَرَةً فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» .

وَإِنَّمَا اخْتُصَّ الْبَقَرُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الْبَقَرَ وَيَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَاخْتُبِرُوا بِذَلِكَ، إِذْ هَذَا مِنَ الِابْتِلَاءِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنْ يُؤْمَرَ الْإِنْسَانُ بِقَتْلِ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَصِلَ الْخَيْرُ لِلْغُلَامِ الَّذِي كَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ. وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: لَمْ تَكُنْ مِنْ بَقَرِ الدُّنْيَا، بَلْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْبَقَرُ سَيِّدُ الْحَيَوَانَاتِ الْإِنْسِيَّةِ.

وَقَرَأَ: أَتَتَّخِذُنا؟ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ هُوَ لِمُوسَى. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالْيَاءِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. هُزُواً، قَرَأَ حَمْزَةُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ، وَالْقَزَّازُ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ وَالْمُفَضَّلُ، بِإِسْكَانِ الزَّايِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: بِضَمِّ الزَّايِ وَالْوَاوِ بَدَلَ الْهَمْزِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِضَمِّ الزَّايِ وَالْهَمْزَةِ، وَفِيهِ ثَلَاثُ لغات التي قرىء بِهَا، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ:

أَتَتَّخِذُنا هُزُواً، فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ اسْمَ الْمَفْعُولِ، أَيْ مهزوأ، كَقَوْلِهِ: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، وَهَذَا خَلْقُ اللَّهِ، أَوْ يَكُونَ أُخْبِرُوا بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ أَتَتَّخِذُنَا نفس الهزؤ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِهْزَاءِ مِمَّنْ يَكُونُ جَاهِلًا، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مَكَانَ هُزُءٍ، أَوْ ذَوِي هُزُءٍ، وَإِجَابَتُهُمْ نَبِيَّهُمْ حِينَ أَخْبَرَهُمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، بِقَوْلِهِمْ: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً دَلِيلٌ عَلَى سُوءِ عَقِيدَتِهِمْ فِي نَبِيِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ، إِذْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ صَحِيحٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمَا كَانَ جَوَابُهُمْ إِلَّا امْتِثَالَ الْأَمْرِ، وَجَوَابُهُمْ هَذَا كُفْرٌ بِمُوسَى. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ:

كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُصَدِّقِينَ، وَلَكِنْ جَرَى هَذَا عَلَى نَحْوِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ غِلَظِ الطَّبْعِ وَالْجَفَاءِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَالْعُذْرُ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنْ مُوسَى تَعْيِينَ الْقَاتِلِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا، رأوا تباين مَا بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَبُعْدَهُ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّ مُوسَى دَاعَبَهُمْ، وَقَدْ لَا يَكُونُ أَخْبَرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَنَّ الْقَتِيلَ يُضْرَبُ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ فَيَحْيَا وَيُخْبِرُ بِمَنْ قَتَلَهُ، أَوْ يَكُونُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ إِحْيَاءِ مَيِّتٍ بِبَعْضِ مَيِّتٍ، فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِهْزَاءِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَتَّخِذَنَا هُزُوًا؟ وَقِيلَ:

هُوَ اسْتِفْهَامٌ حَقِيقَةً لَيْسَ فِيهِ إِنْكَارٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِرْشَادٍ لَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَعِنَادٍ.

قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، لَمَّا فَهِمَ مُوسَى عليه السلام عَنْهُمْ أَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهُمْ إِنَّمَا هِيَ لِاعْتِقَادِهِمْ فِيهَا أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ، اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ وَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ، أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِاللَّهِ، فَيُخْبِرَ عَنْهُ بِأَمْرٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ تَعَالَى، إِذِ

ص: 404

الْإِخْبَارُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ اللَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْجَاهِلِينَ، فِيهِ تَصْرِيحٌ أَنَّ ثَمَّ جَاهِلِينَ، وَاسْتَعَاذَ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْ أَكُونَ مِنْكُمْ، لِأَنَّهُمْ جَوَّزُوا عَلَى مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَخُصُوصًا فِي التَّبْلِيغِ، عَنِ اللَّهِ أَنْ يُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ بِالْكَذِبِ. قَالُوا: وَالْجَهْلُ بَسِيطٌ، وَمُرَكَّبٌ الْبَسِيطُ: عَامٌّ وَخَاصٌّ. الْعَامُّ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْخَاصُّ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِبَعْضِ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْمُرَكَّبُ: أَنْ يَجْهَلَ، وَيَجْهَلَ أَنَّهُ يَجْهَلُ. فَالْعَامُّ وَالْمُرَكَّبُ لَا يُوصَفُ بِهِمَا مَنْ لَهُ بَعْضُ عِلْمٍ، فَضْلًا عَنْ نَبِيٍّ شُرِّفَ بِالرِّسَالَةِ وَالتَّكْلِيمِ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ. فَالَّذِي اسْتَعَاذَ مِنْهُ مُوسَى هُوَ خَاصٌّ، وَهُوَ الْمُفْضِي إِلَى أَنْ يُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَهْزِئًا، أَوِ الْمُقَابِلُ لِجَهْلِهِمْ. فَقَالُوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا لِمَنْ يُخْبِرُهُمْ عَنِ اللَّهِ، أَوْ مَعْنَاهُ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْمُؤْمِنِينَ. فَإِنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ، أَوْ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِالْجَوَابِ، لَا عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ، إِذْ ذَاكَ جَهْلٌ، وَالْأَمْرُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَأَنْسُبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ جَوَابِ السَّائِلِ الْمُسْتَرْشِدِ إِلَى الْهُزُءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ السِّتَّةُ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى مُوسَى. قِيلَ: وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأَدَبِ، كَمَا اسْتَعَاذَ نُوحٌ عليه السلام أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ «1» ، وَكَمَا فِي: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ.

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ، لَمَّا قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، وَعَلِمُوا أَنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ كَانَ عَزِيمَةً وَطَلَبًا، جَازَ مَا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا فِيهِ تَعْنِيتٌ مِنْهُمْ وَقِلَّةُ طَوَاعِيَةٍ، إِذْ لَوِ امْتَثَلُوا فَذَبَحُوا بَقَرَةً، لَكَانُوا قَدْ أَتَوْا بِالْمَأْمُورِ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمَا. وَكَسْرُ الْعَيْنِ مِنِ ادْعُ لُغَةُ بَنِي عَامِرٍ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا «2» ، وَجَزْمُ يُبَيِّنْ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَمَا هِيَ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: سَلْ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ مَا هِيَ، وَمَفْعُولُ يُبَيِّنْ: هِيَ الْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَالْفِعْلُ مُعَلَّقٌ، لِأَنَّ مَعْنَى يُبَيِّنْ لَنَا يُعْلِمُنَا مَا هِيَ، لِأَنَّ التَّبْيِينَ يَلْزَمُهُ الْإِعْلَامُ، وَالضَّمِيرُ فِي هِيَ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: يُبَيِّنْ لَنَا مَا الْبَقَرَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِذَبْحِهَا، وَلَمْ يُرِيدُوا تَبْيِينَ مَاهِيَّةِ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ عَنِ الْوَصْفِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: مَا صِفَتُهَا؟ وَلِذَلِكَ أُجِيبُوا بِالْوَصْفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ. وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَلَى طَرِيقِ التَّعَنُّتِ، كما

(1) سورة هود: 11/ 47.

(2)

سورة البقرة: 2/ 61.

ص: 405

قَدَّمْنَاهُ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ مِنْ بَقَرَةٍ مَيِّتَةٍ يُضْرَبُ بِهَا مَيِّتٌ فَيَحْيَا، إِذْ ذَاكَ فِي غَايَةِ الِاسْتِغْرَابِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْمَأْلُوفِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا قَوْلَهُ: أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ، فَسَأَلُوا تَبْيِينَ ذَلِكَ، إِذْ تَبْيِينُ الْمُجْمَلِ وَاجِبٌ، أَوْ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يَنْسَخَ عَنْهُمْ تَكْلِيفَ الذَّبْحِ، لِثِقَلِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْلَمُوا الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمِرُوا بِذَلِكَ.

وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: ادْعُ لَنا رَبَّكَ، كَيْفَ خَصُّوا لَفْظَ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى مُوسَى، وَذَلِكَ لِمَا عَلِمُوا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلُوا مُوسَى اسْتِرْشَادًا لَا عِنَادًا، إِذْ لَوْ كَانَ عِنَادًا لَكَفَرُوا بِهِ وَعُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُمْ، كَمَا عُجِّلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «1» ، وَفِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَفِي امْتِنَاعِهِمْ مِنْ قَبُولِ التَّوْرَاةِ، وَقَوْلِهِمْ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «2» . وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَأَجَابَهُ.

قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ: صفة لبقرة، وَالصِّفَةُ إِذَا كَانَتْ مَنْفِيَّةً بِلَا، وَجَبَ تَكْرَارُهَا، كَمَا قَالَ:

وَفِتْيَانُ صِدْقٍ لَا ضِعَافٌ وَلَا عُزْلُ فَإِنْ جَاءَتْ غَيْرَ مُكَرَّرَةٍ، فَبَابُهَا الشِّعْرُ، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمُجْمَلِ، فَقَدَّرَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا، أَيْ لَا هِيَ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ، فَقَدْ أَبْعَدَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْوَصْفُ بِالْمُفْرَدِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا حَذْفَ. عَوانٌ: تَفْسِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ. بَيْنَ ذلِكَ: يَقْتَضِي بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَدْخُلُ عَلَى مَا يُمْكِنُ التَّثْنِيَةُ فِيهِ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَهَا إِلَّا اسْمُ إِشَارَةٍ مُفْرَدٌ، فَقِيلَ: أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى مُفْرَدٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَوَانٌ بَيْنَ مَا ذُكِرَ، فَصُورَتُهُ صُورَةُ الْمُفْرَدِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُثَنًّى، لِأَنَّ تَثْنِيَةَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَجَمْعَهُ لَيْسَ تَثْنِيَةً وَلَا جَمْعًا حَقِيقَةً، بَلْ كَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ، قَالُوا: وَقَدْ أُجْرِىَ الضَّمِيرُ مُجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، قَالَ رُؤْبَةُ:

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ

كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

قِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ كَأَنَّهُ؟ وَهَلَّا قُلْتَ: كَأَنَّهَا، فَيَعُودَ عَلَى الْخُطُوطِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا، فَيَعُودَ عَلَى السَّوَادِ وَالْبَلَقِ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَانَ ذَاكَ، وَقَالَ لَبِيدٌ:

إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى

وَكِلَا ذَلِكَ وجه وقبل

(1) سورة المائدة: 5/ 24.

(2)

سورة النساء: 4/ 153.

ص: 406

قيل: أرادوا كلا ذَيْنِكَ، فَأَطْلَقَ الْمُفْرَدَ وَأَرَادَ بِهِ الْمُثَنَّى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ أَطْلَقَ ذَلِكَ وَيُرِيدُ بِهِ ذَيْنِكَ، وَهَذَا مُجْمَلٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمَعْطُوفُ، لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَهَذَا، أَيْ بَيْنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا

أَبُو حجر إلا ليال قلائل

أَيْ: فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَاغِيهِ، فَحُذِفَ لِفَهْمِ المعنى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» أَيْ وَالْبَرْدَ. وَإِنَّمَا جُعِلَتْ عَوَانًا لِأَنَّهُ أَكْمَلُ أَحْوَالِهَا، فَالصَّغِيرَةُ نَاقِصَةٌ لِتَجَاوُزِهَا حَالَتَهُ.

فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ: أَيْ مِنْ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَلَا تُكَرِّرُوا السُّؤَالَ، وَلَا تَعَنَّتُوا فِي أَمْرِ مَا أُمِرْتُمْ بِذَبْحِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. حرّضتم عَلَى امْتِثَالِ مَا أُمِرُوا بِهِ، شَفَقَةً مِنْهُ. وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا تُؤْمَرُونَهُ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، إِذْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ، وَلِتَنَاسُبِ أَوَاخِرِ الْآيِ، كَمَا قُصِدَ تَنَاسُبُ الْإِعْرَابِ فِي أَوَاخِرِ الْأَبْيَاتِ فِي قَوْلِهِ:

وَلَا بُدَّ يَوْمًا أَنَّ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ إِذْ آخِرُ الْبَيْتِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا قَوْلُهُ:

وَمَا يَدْرُونَ أَيْنَ الْمَصَارِعُ وأجاز بعضهم أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: فَافْعَلُوا أَمْرَكُمْ، وَيَكُونَ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَأْمُورَكُمْ، وَفِيهِ بُعْدٌ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها لَمَّا تَعَرَّفُوا سِنَّ هَذِهِ، شَرَعُوا فِي تَعَرُّفِ لَوْنِهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى نَقْصِ فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، إذ قد تقدّم أمران: أَمْرُ اللَّهِ لَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، وَأَمْرُ الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ، النَّاصِحِ لَهُمْ، الْمُشْفِقِ عَلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِ:

فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَرْتَدِعُوا عَنِ السُّؤَالِ عَنْ لَوْنِهَا، وَالْقَوْلُ فِي: ادْعُ لَنا رَبَّكَ، وَفِي جَزْمِ: يُبَيِّنْ، وَفِي الْجُمْلَةِ الْمُسْتَفْهَمِ بِهَا وَالْمَحْذُوفِ بَعْدَهُ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهُ، فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ: قَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ اللَّوْنُ الْمَعْرُوفُ: وَلِذَلِكَ أُكِّدَ بِالْفُقُوعِ وَالسُّرُورِ، فَهِيَ صَفْرَاءُ حَتَّى الْقَرْنُ وَالظِّلْفُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: عَنَى بِهِ هُنَا السَّوَادَ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَصَفْرَاءُ لَيْسَتْ بِمُصْفَرَّةٍ

وَلَكِنَّ سَوْدَاءَ مِثْلَ الْحُمَمْ

(1) سورة النحل: 16/ 81.

ص: 407

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: صَفْرَاءُ الْقَرْنِ وَالظِّلْفِ خَاصَّةً. فاقِعٌ: أَيْ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ أَوِ الْخَالِصُ الصُّفْرَةِ، قَالَهُ قُطْرُبٌ، أَوِ الصَّافِي، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ. لَوْنُها: ذَكَرُوا فِي إِعْرَابِهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَهُ فَاعِلٌ مَرْفُوعٌ بفاقع، وفاقع صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فَاقِعٌ. وَالثَّالِثُ: أنه مبتدأ، وتَسُرُّ النَّاظِرِينَ خَبَرٌ. وَأُنِّثَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِكَوْنِهِ أُضِيفَ إِلَى مُؤَنَّثٍ، كَمَا قَالُوا: ذَهَبَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ، إِذْ هُوَ الصُّفْرَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: صُفْرَتُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِمْ: جَاءَتْهُ كِتَابِي فَاحْتَقَرَهَا، عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ وَالْوَجْهُ الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ إِعْرَابَ لونها مبتدأ، وفاقع خبر مقدّم لَا يُجِيزُهُ الْكُوفِيُّونَ، أَوْ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ خَبَرَهُ، فِيهِ تَأْنِيثُ الْخَبَرِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ. وَكَوْنُ لونها فاعلا بفاقع جَارٍ عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ، ولا يحتاج إلى تقديم، وَلَا تَأْخِيرٍ، وَلَا تَأْوِيلٍ، وَلَمْ يُؤَنِّثْ فَاقِعًا وَإِنْ كَانَ صِفَةً لِمُؤَنَّثٍ، لِأَنَّهُ رفع السبي، وَهُوَ مُذَكَّرٌ فَصَارَ نَحْوَ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ حَسَنٌ أَبُوهَا، وَلَا يَصِحُّ هُنَا أَنْ يكون تابعا لصفراء عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُطَابَقَةَ، إِذْ ذَاكَ لِلْمَتْبُوعِ. أَلَاَ تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ أَسْوَدُ حَالِكٌ، وَسَوْدَاءُ حَالِكَةٌ، وَلَا يَجُوزُ سَوْدَاءُ حَالِكٌ؟ فَأَمَّا قَوْلُهُ:

وَإِنِّي لَأَسْقِي الشَّرْبَ صَفْرَاءَ فَاقِعًا

كَأَنَّ ذَكِيَّ الْمِسْكِ فِيهَا يُفَتَّقُ

فَبَابُهُ الشِّعْرُ، إِذَا كَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ صَفْرَاءَ فَاقِعَةً، وَجَاءَ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها، وَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ، لِأَنَّهُ أَرَادَ تَأْكِيدَ نِسْبَةِ الصُّفْرَةِ، فَحَكَمَ عَلَيْهَا أَنَّهَا صَفْرَاءُ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَى اللَّوْنِ أَنَّهُ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ، فَابْتَدَأَ أَوَّلًا بِوَصْفِ الْبَقَرَةِ بِالصُّفْرَةِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِوَصْفِ اللَّوْنِ بِهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هِيَ صَفْرَاءُ، وَلَوْنُهَا شَدِيدُ الصُّفْرَةِ. فَقَدِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا تَعَلُّقِ الصُّفْرَةِ لَفْظًا، إِذْ تَعَلَّقَتْ أَوَّلًا بِالذَّاتِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِالْعَرَضِ الَّذِي هُوَ اللَّوْنُ، وَاخْتَلَفَ الْمُتَعَلِّقُ أَيْضًا، لِأَنَّ مُطْلَقَ الصُّفْرَةِ مُخَالِفٌ لِشَدِيدِ الصُّفْرَةِ، وَمَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى التَّوْكِيدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ، فَهَلَّا قِيلَ: صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ؟ وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذَلِكَ اللَّوْنِ؟

قُلْتُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ التَّوْكِيدُ، لِأَنَّ اللَّوْنَ اسْمٌ لِلْهَيْئَةِ، وَهِيَ الصُّفْرَةُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: شَدِيدُ الصُّفْرَةِ صُفْرَتُهَا، فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: جَدَّ جِدُّهُ، وَجُنُونُكَ جُنُونٌ. اه كَلَامُهُ. وَقَالَ وَهْبٌ: إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا خُيِّلَ إِلَيْكَ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا.

تَسُرُّ النَّاظِرِينَ: أَيْ تُبْهِجُ النَّاظِرِينَ إِلَيْهَا مِنْ سِمَنِهَا وَمَنْظَرِهَا وَلَوْنِهَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا خَبَرًا، كَقَوْلِهِ: لَوْنُهَا، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَجَاءَ هَذَا الوصف بالفعل، ولم يجىء بِاسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُشْعِرُ بِالْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ. وَلَمَّا

ص: 408

كَانَ لَوْنُهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَجَدَّدُ، جَاءَ الْوَصْفُ بِهِ بِالِاسْمِ لَا بِالْفِعْلِ، وَتَأَخَّرَ هَذَا الْوَصْفُ عَنِ الْوَصْفِ قَبْلَهُ، لأنه ناشىء عَنِ الْوَصْفِ قَبْلَهُ، أَوْ كالناشىء، لِأَنَّ اللَّوْنَ إِذَا كَانَ بَهِجًا جَمِيلًا، دَهِشَتْ فِيهِ الْأَبْصَارُ، وَعَجِبَتْ مِنْ حُسْنِهِ الْبَصَائِرُ، وَجَاءَ بِوَصْفِ الْجَمْعِ فِي النَّاظِرِينَ، لِيُوَضِّحَ أَنَّ أَعْيُنَ النَّاسِ طَامِحَةٌ إِلَيْهَا، مُتَلَذِّذَةٌ فِيهَا بِالنَّظَرِ. فَلَيْسَتْ مِمَّا تُعْجِبُ شَخْصًا دُونَ شَخْصٍ، وَلِذَلِكَ أَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ هِيَ بِصَدَدِ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سُرَّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ هُنَا مِنْ نَظَرِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْفِكْرُ، فَيَكُونُ السُّرُورُ قَدْ حَصَلَ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي بَدَائِعِ صُنْعِ اللَّهِ، مِنْ تَحْسِينِ لَوْنِهَا وَتَكْمِيلِ خَلْقِهَا. وَالضَّمِيرُ فِي تَسُرُّ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تَسُرُّ صِفَةٌ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّوْنِ الَّذِي تَسُرُّ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ التَّأْنِيثِ، وَلِذَلِكَ مَنْ قَرَأَ يَسُرُّ بِالْيَاءِ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّوْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَوْنُهَا مُبْتَدَأً، وَيَسُرُّ خَبَرًا، وَيَكُونَ فاقعا صفة تابعة لصفراء، عَلَى حَدِّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدْنَاهُ وَهُوَ:

وَإِنِّي لَأَسْقِي الشَّرْبَ صَفْرَاءَ فَاقِعًا عَلَى قِلَّةِ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَوْنُهَا فَاعِلًا بفاقع، ويسر إخبار مستأنف. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ يُشِيرُونَ إِلَى أَنَّ الصُّفْرَةَ مِنَ الْأَلْوَانِ السَّارَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهُهُ، يَرْغَبُ فِي النِّعَالِ الصُّفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصُّفْرَةُ تَبْسُطُ النَّفْسَ وَتُذْهِبُ الْهَمَّ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا يَحُضُّ عَلَى لُبْسِ النِّعَالِ الصُّفْرِ. وَنَهَى ابْنُ الزُّبَيْرِ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ لِبَاسِ النِّعَالِ السُّودِ، لِأَنَّهَا تُهِمُّ.

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ المرسي في ري الظَّمْآنِ وَجْهُ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمْ، أَنَّ كُلَّ بَقَرَةٍ لَا تَصْلُحُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ آيَةً، لِمَا عَلِمُوا مِنْ نَاقَةِ صَالِحٍ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ، فَظَنُّوا أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَكُونُ آيَةً إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ، وَذَلِكَ لَمَّا نُبِّئُوا أَنَّهَا آيَةٌ، سَأَلُوا عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلُوا مُوسَى عَنْ ذَلِكَ، بَلْ سَأَلُوهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، إِذِ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِالْآيَاتِ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ التَّعْيِينِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُقْتَضَاهُ الْإِطْلَاقُ، لِأَنَّهُمْ لَوْ عَمِلُوا بِمُطْلَقِهِ لَمْ يَحْصُلِ التَّقَصِّي عَنِ الْأَمْرِ بِيَقِينٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا لَمْ يُمْكِنُ التَّمَاثُلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ، سَاغَ لَهُمُ السُّؤَالُ، فَأُخْبِرُوا بِسِنِّهَا، فَوَجَدُوا مِثْلَهَا فِي السِّنِّ كَثِيرًا، فَسَأَلُوا عَنِ اللَّوْنِ، فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ، فَلَمْ يَزُلِ اللَّبْسُ بِذَلِكَ، فَسَأَلُوا عَنِ الْعَمَلِ، فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ، وَعَنْ بَعْضِ أَوْصَافِهَا الْخَاصِّ بِهَا، فَزَالَ اللَّبْسُ بِتَبْيِينِ السِّنِّ وَاللَّوْنِ وَالْعَمَلِ وَبَعْضِ

ص: 409

الْأَوْصَافِ، إِذْ وُجُودُ بَقَرٍ كَثِيرٍ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ يَنْدُرُ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى تَكْرَارِ السُّؤَالِ: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ.

إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا: هَذَا تَعْلِيلٌ لِتَكْرَارِ هَذَا السُّؤَالِ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ عَلَى اسْتِقْصَاءِ أَوْصَافِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ تَشَابُهُهَا عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ كَثِيرٌ مِنَ الْبَقَرِ يُمَاثِلُهَا فِي السِّنِّ وَاللَّوْنِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: إِنَّ الْبَاقِرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

مَا لِي رَأَيْتُكَ بَعْدَ عَهْدِكَ مُوحِشًا

خَلَقًا كَحَوْضِ الْبَاقِرِ الْمُتَهَدِّمِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَشَابَهَ، جَعَلُوهُ فِعْلًا مَاضِيًا عَلَى وَزْنِ تفاعل، مسند الضمير الْبَقَرِ، عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ مُذَكَّرٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَشَابَهُ، بِضَمِّ الْهَاءِ، جَعَلَهُ مُضَارِعًا مَحْذُوفَ التَّاءِ، وَمَاضِيهِ تَشَابَهَ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْبَقَرِ، عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ مُؤَنَّثٌ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ شَدَّدَ الشِّينَ، جَعَلَهُ مُضَارِعًا وَمَاضِيهِ تَشَابَهُ، أَصْلُهُ: تَتَشَابَهُ، فَأُدْغِمَ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْبَقَرِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ، وَقَرَأَ مُحَمَّدٌ الْمُعَيْطِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِذِي الشَّامَةِ: تُشُبِّهَ عَلَيْنَا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: تَشَبَّهَ، جَعَلَهُ مَاضِيًا عَلَى تَفَعَّلَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَشَّابَهُ، بِالْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ، جَعَلَهُ مُضَارِعًا مِنْ تَفَاعَلَ، وَلَكِنَّهُ أَدْغَمَ التاء في الشين. وقرىء: مُتَشَبِّهٌ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَشَبَّهَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: يَتَشَابَهُ، مُضَارِعُ تَشَابَهَ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْبَقَرِ.

وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تَشَابَهَتْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مُتَشَابِهٌ وَمُتَشَابِهَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: تَشَّابَهَتْ، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ مَعَ كَوْنِهِ فِعْلًا مَاضِيًا، وَبِتَاءِ التَّأْنِيثِ آخِرَهُ. فهذه اثنا عشر قِرَاءَةً. وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ ظَاهِرٌ، إِلَّا قِرَاءَةَ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ تَشَّابَهَتْ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا وَجْهَ لَهَا. وَتَبْيِينُ مَا قَالَهُ: إِنَّ تَشْدِيدَ الشِّينِ إِنَّمَا يكون بإدغام التاء فيها، وَالْمَاضِي لَا يَكُونُ فِيهِ تَاءَانِ، فَتَبْقَى إِحْدَاهُمَا وَتُدْغَمُ الْأُخْرَى. وَيُمْكِنُ أَنْ تُوَجَّهَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: اشَّابَهَتْ، وَالتَّاءُ هِيَ تَاءُ الْبَقَرَةِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْبَقَرَةَ اشَّابَهَتْ عَلَيْنَا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ لِحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ فِي آخِرِ الْفِعْلِ، أَوِ اشَّابَهَتْ أَصْلُهُ: تَشَابَهَتْ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الشِّينِ وَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ. فَحِينَ أَدْرَجَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْقِرَاءَةَ، صَارَ اللَّفْظُ: أَنَّ الْبَقَرَةَ اشَّابَهَتْ، فَظَنَّ السَّامِعُ أَنَّ تَاءَ الْبَقَرَةِ هِيَ تَاءٌ فِي الْفِعْلِ، إِذِ النُّطْقُ وَاحِدٌ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ: تَشَّابَهَتْ، وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ رَأْسٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَمِمَّنْ أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ مُسْتَنْبِطِ عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ يُزْرِي عَلَى الْعَرَبِ وَعَلَى مَنْ يَسْتَشْهِدُ بِكَلَامِهِمْ، كَالْفَرَزْدَقِ، إِذَا جَاءَ فِي شِعْرِهِمْ مَا لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً لَا وَجْهَ

ص: 410

لَهَا، وَإِنَّ الْبَقَرَ تَعْلِيلٌ لِلسُّؤَالِ، كَمَا تَقُولُ: أَكْرِمْ زَيْدًا إِنَّهُ عَالِمٌ، فَالْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى السُّؤَالِ هُوَ حُصُولُ تَشَابُهِ الْبَقَرِ عَلَيْهِمْ.

وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ: أَيْ لَمُهْتَدُونَ إِلَى عَيْنِ الْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِذَبْحِهَا، أَوْ إِلَى مَا خَفِيَ مِنْ أَمْرِ الْقَاتِلِ، أَوْ إِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أُمِرْنَا بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ. وَفِي تَعْلِيقِ هِدَايَتِهِمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إِنَابَةٌ وَانْقِيَادٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى نَدَمِهِمْ عَلَى تَرْكِ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «ولم يَسْتَثْنُوا لَمَا بُيِّنَتْ لَهُمْ آخِرَ الْأَبَدِ» .

وَجَوَابُ هَذَا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ، أَيْ إِنْ شاء الله اهتدينا، وإذ حُذِفَ الْجَوَابُ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ وَمَنْفِيًّا بِلَمْ، وَقِيَاسُ الشَّرْطِ الَّذِي حُذِفَ جَوَابُهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الدَّلِيلِ عَلَى الْجَوَابِ، فَكَانَ التَّرْتِيبُ أَنْ يُقَالَ فِي الْكَلَامِ: إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ قَائِمٌ، لَكِنَّهُ تَوَسَّطَ هُنَا بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، لِيَحْصُلَ تَوَافُقُ رؤوس الْآيِ، وَلِلِاهْتِمَامِ بِتَعْلِيقِ الْهِدَايَةِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَجَاءَ خَبَرُ إِنَّ اسْمًا، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الثُّبُوتِ وَعَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ حَاصِلَةٌ لَهُمْ، وَأَكَّدَ بحر في التَّأْكِيدِ إِنَّ وَاللَّامِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِهَذَا الشَّرْطِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ أَخْبَرُوا بِثُبُوتِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ. وَأَكَّدُوا تِلْكَ النِّسْبَةَ، وَلَوْ كَانَ تَعْلِيقًا مَحْضًا لَمَا احْتِيجَ إِلَى تَأْكِيدٍ، وَلَكِنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا صَانِعُ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالصُّنْعِ، فَذَكَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: إِنَّ قَوْمَ مُوسَى، مَعَ غِلَظِ أَفْهَامِهِمْ وَقِلَّةِ عُقُولِهِمْ، كَانُوا أَعْرَفَ بِاللَّهِ وَأَكْمَلَ تَوْحِيدًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: قَدْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يهتدوا، وهم شاؤوا أَنْ لَا يَهْتَدُوا، فَغَلَبَتْ مَشِيئَتُهُمْ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى: ما شاؤوا إلا كَمَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَتَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً لَنَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا كَالْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ. لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، لَا ذَلُولٌ صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ، وَمَنْ قَالَ هُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَا هِيَ ذَلُولٌ، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَتُثِيرُ الْأَرْضَ: صِفَةٌ لذلول، وهي صفة دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ إِثَارَتِهَا الْأَرْضَ، أَيْ لَا تُثِيرُ فَتَذِلَّ، فَهُوَ مِنْ بَابِ:

عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بمناره اللَّفْظُ نَفْيُ الذِّلِّ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الْإِثَارَةِ، فَيَنْتَفِي كَوْنُهَا ذَلُولًا. وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ:

ص: 411

نَفْيَ مُعَادِلٍ لِقَوْلِهِ: لَا ذَلُولٌ. وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ، وَالصِّفَتَانِ مَنْفِيَّتَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ لَا تَسْقِي مَنْفِيٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّهَا لَمْ تُذَلَّلْ بِالْعَمَلِ، لَا فِي حَرْثٍ، وَلَا فِي سَقْيٍ، وَلِهَذَا نُفِيَ عَنْهَا إِثَارَةُ الْأَرْضِ وَسَقْيُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ تِلْكَ الْبَقَرَةُ وَحْشِيَّةً، وَلِهَذَا وُصِفَتْ بِأَنَّهَا لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ بِالْحَرْثِ، وَلَا يُسْنَى عَلَيْهَا فَتُسْقِيَ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، فِعْلٌ مُثْبَتٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْبَقَرَةِ أَنَّهَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَتَحْرُثُهَا، وَنَفَى عَنْهَا سَقْيُ الْحَرْثِ. وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَا كَانَ يَحْرُثُ لَا يَنْتَفِي كَوْنُهُ ذَلُولًا.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى تُثِيرُ الْأَرْضَ بِغَيْرِ الْحَرْثِ بَطَرًا وَمَرَحًا، وَمِنْ عَادَةِ الْبَقَرِ، إِذَا بَطِرَتْ، تَضْرِبُ بِقَرْنِهَا وَأَظْلَافِهَا، فَتُثِيرُ تُرَابَ الْأَرْضِ، وَيَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْغُبَارُ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: لَا ذَلُولٌ، لِأَنَّ وَصْفَهَا بِالْمَرَحِ وَالْبَطَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا ذَلُولٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا ذَلُولٌ، صِفَةٌ لِبَقَرَةٍ بِمَعْنَى: بَقَرَةٌ غَيْرُ ذَلُولٍ، يَعْنِي: لَمْ تُذَلَّلْ لِلْحَرْثِ وَإِثَارَةِ الْأَرْضِ، وَلَا هِيَ مِنَ النَّوَاضِحِ الَّتِي يُسْنَى عَلَيْهَا بِسَقْيِ الْحُرُوثِ. وَلَا: الْأُولَى لِلنَّفْيِ، وَالثَّانِيَةُ مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ وَتَسْقِي، عَلَى أَنَّ الْفِعْلَيْنِ صِفَتَانِ لذلول، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةً وَسَاقِيَةً. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَوَافَقَهُ عَلَى جَعْلِ لَا الثَّانِيَةِ مَزِيدَةً صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ، وَمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا ذَلُولٌ، صِفَةٌ مَنْفِيَّةٌ بِلَا، وَإِذَا كَانَ الْوَصْفُ قَدْ نُفِيَ بِلَا، لَزِمَ تَكْرَارُ لَا النَّافِيَةِ، لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ لَا كِرِيمٍ وَلَا شُجَاعٍ، وَقَالَ تَعَالَى: ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ «1» وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ «2» لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَ بِغَيْرِ تَكْرَارٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْهَا النَّفْيُ، إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَإِذَا آلَ تَقْدِيرُهُمَا إِلَى لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةً وَسَاقِيَةً، كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ تَكْرَارِ لَا النَّافِيَةِ، وَعَلَى مَا قَدَّرَاهُ كَانَ نَظِيرَ:

جَاءَنِي رَجُلٌ لَا كِرِيمٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي شِعْرٍ، كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهَا مِنْ نَكِرَةٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَالْجُمْلَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا هِيَ قَوْلُهُ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، وَالنَّكِرَةُ هِيَ قَوْلُهُ: لَا ذَلُولٌ، أَوْ قَوْلُهُ:

بَقَرَةٌ، فَإِنْ عَنَى بِالنَّكِرَةِ بَقَرَةً، فَقَدْ وُصِفَتْ، وَالْحَالُ مِنَ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ جَائِزَةٌ جَوَازًا حَسَنًا، وَإِنْ عَنَى بِالنَّكِرَةِ لَا ذَلُولٌ، فَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِمَّنْ لَمْ يُحَصِّلْ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ، وَلَا أمعن

(1) سورة المرسلات: 77/ 30 و 31.

(2)

سورة الواقعة: 56/ 43 و 44.

ص: 412

النَّظَرَ فِي كِتَابِهِ، بَلْ قَدْ أَجَازَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ، فِي مَوَاضِعَ مَجِيءَ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ، وَإِنْ لَمْ تُوصَفْ، وَإِنْ كَانَ الْإِتْبَاعُ هُوَ الْوَجْهَ وَالْأَحْسَنَ، قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا لَا يَكُونُ الِاسْمُ فِيهِ إِلَّا نَكِرَةً، وَقَدْ يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى نَصْبِ: هَذَا رَجُلٌ مُنْطَلِقًا، يُرِيدُ عَلَى الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ عِيسَى، ثُمَّ قَالَ: وَزَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَنَصَبَهُ كَنَصْبِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ جَعَلَهُ حَالًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ صِفَةً، وَمِثْلُ ذَلِكَ: مَرَرْتُ بِرِجُلٍ قَائِمًا، إِذَا جَعَلْتَ الْمُرُورَ بِهِ فِي حَالِ قِيَامٍ، وَقَدْ يَجُوزُ عَلَى هَذَا: فِيهَا رَجُلٌ قَائِمًا، وَمِثْلُ ذَلِكَ: عَلَيْهِ مِائَةٌ بَيْضَاءَ، وَالرَّفْعُ الْوَجْهُ، وَعَلَيْهِ مِائَةٌ دَيْنًا، الرَّفْعُ الْوَجْهُ، وَزَعَمَ يُونُسُ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: مَرَرْتُ بِمَاءٍ قَعْدَةَ رَجُلٍ، وَالْوَجْهُ الْجَرُّ، وَكَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا يَنْتَصِبُ، لِأَنَّهُ قَبِيحٌ أَنْ يَكُونَ صِفَةً فَقَالَ: رَاقُودٌ خَلَا وَعَلَيْكَ نِحْيٌ سَمْنًا، وَقَالَ فِي بَابِ نَعَمْ، فَإِذَا قُلْتَ لِي عَسَلٌ مِلْءُ جَرَّةٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ شَعْرُ كَلْبَيْنِ، فَالْوَجْهُ الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ، وَالنَّصْبُ يَجُوزُ كَنَصْبِهِ، عَلَيْهِ مِائَةٌ بَيْضَاءَ، فَهَذِهِ نُصُوصُ سِيبَوَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لَمَا قَاسَهُ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْجَائِزِ لَا يُقَالُ بِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَاسَ، وَإِنْ كَانَ الْإِتْبَاعُ لِلنَّكِرَةِ أَحْسَنَ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ مَا ذهب إليه أبو محمد هُوَ قَوْلُ الضُّعَفَاءِ فِي صِنَاعَةِ الْإِعْرَابِ، الَّذِينَ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى كَلَامِ الْإِمَامِ.

وَأَجَازَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ أَنْ يَكُونَ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي ذَلُولٌ تَقْدِيرُهُ: لَا تُذَلُّ فِي حَالِ إِثَارَتِهَا، وَالْوَجْهُ مَا بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: لَا ذَلُولَ، بِالْفَتْحِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَعْنَى لَا ذَلُولَ هُنَاكَ، أَيْ حَيْثُ هِيَ، وَهُوَ نَفْيٌ لِذِلِّهَا، وَلِأَنْ تُوصَفَ بِهِ فَيُقَالَ: هِيَ ذَلُولٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُكَ: مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَا بَخِيلَ وَلَا جَبَانَ، أَيْ فِيهِمْ، أَوْ حَيْثُ هُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَعَلَى مَا قَدَّرَهُ يَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، صِفَةً لِاسْمِ لَا، وَهِيَ مَنْفِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهَا جُمْلَةٌ مَنْفِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ خَبَرًا، لِأَنَّهُ كَانَ يَتَنَافَرُ هَذَا التَّرْكِيبُ مَعَ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:

يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ يَبْقَى كَلَامًا مُنْفَلِتًا مِمَّا بَعْدَهُ، إِذْ لَا تَحْصُلُ بِهِ الْإِفَادَةُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَيَكُونَ مَحَطَّ الْخَبَرِ هُوَ قَوْلُهُ: مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها، لِأَنَّهَا صِفَةٌ فِي اللَّفْظِ، وَهِيَ الْخَبَرُ فِي الْمَعْنَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى نَافِيًا ذِلَّةَ هَذِهِ البقر، إِذْ هِيَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْمَنْفِيِّ بِلَا الَّذِي بُنِيَ مَعَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَعْنِي لَا ذَلُولَ، عَلَى قِرَاءَةِ السُّلَمِيِّ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ عَلَى

ص: 413

تَقْدِيرِ أَنَّ تُثِيرُ وَمَا بَعْدَهَا الْخَبَرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ بَقَرَةٌ، إِذِ الْعَائِدُ الَّذِي فِي تُثِيرُ وَفِي تَسْقِي ضَمِيرُ اسْمِ لَا، وَلَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تُثِيرُ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ يَكُونُ دَالًّا عَلَى نَفْيِ ذَلُولٌ مَعَ الْخَبَرِ عَنِ الْوُجُودِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَكُونُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمَا عَلَيْهِ الْوُجُودُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى نَفْيُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْضِهِمْ وَإِلَى حَرْثِهَا وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. فَكَمَا يُتَعَقَّلُ انْتِفَاءُ ذَلُولٌ مَعَ اعْتِقَادِ كَوْنِ تُثِيرُ وَمَا بَعْدَهُ صِفَةً، لِأَنَّكَ قَيَّدْتَ الْخَبَرَ بِتَقْدِيرِكَهُ حَيْثُ هِيَ، فَصَلُحَ هَذَا النَّفْيُ، كَذَلِكَ يُتَعَقَّلُ انْتِفَاءُ ذَلُولٌ مَعَ الْخَبَرِ عَنْهُ، حَيْثُ اعْتُقِدَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْخَبَرَيْنِ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الْأَرْضُ وَالْحَرْثُ، وَكَمَا تُقَدِّرُ مَا مِنْ ذَلُولٍ مُثِيرَةٍ وَلَا سَاقِيَةٍ حَيْثُ تِلْكَ الْبَقَرَةُ، كَذَلِكَ تُقَدَّرُ مَا مِنْ ذَلُولٍ تُثِيرُ أَرْضَهُمْ وَلَا تَسْقِي حَرْثَهُمْ. فَكِلَاهُمَا نَفْيٌ قَدْ تَخَصَّصَ، إِمَّا بِالْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ، وَإِمَّا بِتَعَلُّقِ الْخَبَرِ الْمُثْبِتِ.

وَقَدِ انْتَفَى وَصْفُ البقرة بذلول وَمَا بَعْدَهَا، إِمَّا بِكَوْنِ الْجُمْلَةِ صِفَةً وَالرَّابِطُ الْخَبَرُ الْمَحْذُوفُ، وَإِمَّا بِكَوْنِ الْجُمْلَةِ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، إِذْ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى رَابِطٍ يَرْبُطُهَا بِمَا قَبْلَهَا، إِذَا جَعَلْتَ تُثِيرُ خَبَرًا لَا يُقَالَ إِنَّ الرَّابِطَ هُنَا هُوَ الْعُمُومُ، إِذِ الْبَقَرَةُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ اسْمِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الرَّابِطَ بِالْعُمُومِ إِنَّمَا قِيلَ بِهِ فِي نَحْوِ: زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ خِلَافُهُ. وَبَابُ نِعْمَ بَابٌ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، لَوْ قُلْتَ زَيْدٌ لَا رَجُلٌ فِي الدَّارِ، وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ لا عاقل في الدار، وَأَنْتَ تَعْنِي الْخَبَرَ وَالصِّفَةَ وَتَجْعَلُ الرَّابِطَ الْعُمُومَ، لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، انْتَفَى زَيْدٌ فِيهَا، وَإِذَا قُلْتَ: لَا عَاقِلَ فِي الدَّارِ، انْتَفَى الْعَقْلُ عَنِ الْمُرُورِ بِهِ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ تُثِيرُ وتسقي خبرا للا ذَلُولٌ، أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَتَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْإِثَارَةِ وَنَفْيِ السَّقْيِ، مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْجُمْلَتَيْنِ صِفَةً لِلْبَقَرَةِ. وَأَمَّا تَمْثِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِذَلِكَ، بِمَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَا بَخِيلَ وَلَا جَبَانَ فِيهِمْ، أَوْ حَيْثُ هُمْ، فَتَمْثِيلٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ صِفَةً لِقَوْمٍ لَيْسَ الرَّابِطُ فِيهَا الْعُمُومَ، إِنَّمَا الرَّابِطُ هَذَا الضَّمِيرُ، وَكَذَلِكَ مَا قَرَّرَهُ هُوَ الرَّابِطُ فِيهِ الضَّمِيرُ، إِذْ قَدَّرَهُ لَا ذَلُولَ هُنَاكَ، أَيْ حَيْثُ هِيَ، فَهَذَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ، وَحَصَلَ بِهِ الرَّبْطُ كَمَا حَصَلَ فِي تَمْثِيلِهِ بِقَوْلِهِ: فِيهِمْ، أَوْ: حَيْثُ هُمْ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ أن قوله تَعَالَى: لَا ذَلُولٌ فِي قِرَاءَةِ السُّلَمِيِّ يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً، وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ خَبَرٍ، وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً، وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ خَبَرَ لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ. وَكَانَتْ قِرَاءَةُ

ص: 414

الْجُمْهُورِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمُفْرَدِ أَوْلَى مِنَ الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ فِي قِرَاءَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَلَى أَحَدِ تَخْرِيجَيْهَا، تَكُونُ قَدْ بَدَأْتَ بِالْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ وَقَدَّمْتَهُ عَلَى الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ لَا ذَلُولٌ الْمَنْفِيُّ مَعَهَا جُمْلَةٌ وَمُسَلَّمَةٌ مُفْرَدٌ، فَقَدْ قَدَّمْتَ الْوَصْفَ بِالْجُمْلَةِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِتَسْقِي مَحْذُوفٌ، لِأَنَّ سَقَى يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: تُسْقِي بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَسْقَى، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدْ قرىء: نَسْقِيكُمْ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّهَا. مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ، أَوْ مِنَ الشِّيَاتِ وَالْأَلْوَانِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ، أَوْ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْحَرْثِ وَالسَّقْيِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الِاسْتِعْمَالِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَهَا أَعْفَوْهَا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْآخَرُ:

أَوْ مُعْبِرُ الظَّهْرِ يُنْبِي عَنْ وَلَيْتَهُ

مَا حَجَّ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا اعْتَمَرَا

أَوْ مِنَ الْحَرَامِ، لَا غَصْبَ فِيهَا وَلَا سَرِقَةَ وَلَا غَيْرُهُمَا، بَلْ هِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ مُسَلَّمَةُ الْقَوَائِمِ وَالْخَلْقِ، قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، أَوْ مُسَلَّمَةٌ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، لِتَكُونَ خَالِيَةً مِنَ الْعُيُوبِ، بَرِيئَةً مِنَ الْغُصُوبِ، مُكَمَّلَةَ الْخَلْقِ، شَدِيدَةَ الْأَسْرِ، كَامِلَةَ الْمَعَانِي، صَالِحَةً لِأَنْ تَظْهَرَ فِيهَا آيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمُعْجِزَةُ رَسُولِهِ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَمُسَلَّمَةٌ، بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنَ السَّلَامَةِ، وَقَالَهُ غَيْرُهُ، فَقَالَ: هِيَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ وَزْنَهَا مُفَعَّلَةٌ مِنَ السَّلَامَةِ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ الَّذِي فِي مُسَلَّمَةٌ لَيْسَ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ، بَلْ هُوَ تَضْعِيفُ النَّقْلِ وَالتَّعْدِيَةِ، يُقَالُ: سَلَّمَ كَذَا، ثُمَّ إِذَا عَدَّيْتَهُ بِالتَّضْعِيفِ، فَالتَّضْعِيفُ هُنَا كَهُوَ فِي قَوْلِهِ: فَرَّحْتُ زَيْدًا، إِذْ أَصْلُهُ: فَرِحَ زَيْدٌ، وَكَذَلِكَ هَذَا أَصْلُهُ: سَلَّمَ زيد، ثُمَّ يُضَعَّفُ فَيَصِيرُ يَتَعَدَّى. فَلَيْسَ إِذَنْ هُنَا مُبَالَغَةٌ بَلْ هُوَ الْمُرَادِفُ لِلْبِنَاءِ المتعدّي بالهمزة. لاشية فِيهَا: أَيْ لَا بَيَاضَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ: لَا وَضَحَ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ لَوْنَيْنِ مِنْ سَوَادٍ وَبَيَاضٍ، أَوْ لَا عَيْبَ فِيهَا، أَوْ: لَا لَوْنَ يُخَالِفُ لَوْنَهَا مِنْ سَوَادٍ أَوْ بَيَاضٍ، أَوْ: لَا سَوَادَ فِي الْوَجْهِ وَالْقَوَائِمِ، وَهُوَ الشِّيَةُ فِي الْبَقَرِ، يُقَالُ ثَوْرٌ مُوَشًّى، إِذَا كَانَ فِي وَجْهِهِ وَقَوَائِمِهِ سَوَادٌ. وقيل: لا شِيَةَ فِيهَا، تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: مُسَلَّمَةٌ، أَيْ خَلُصَتْ صُفْرَتُهَا عَنْ أَخْلَاطِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالثَّوْرُ الْأَشْيَهُ الَّذِي ظَهَرَ بَلَقُهُ، يُقَالُ: فَرَسٌ أَبْلَقُ، وَكَبْشٌ أَخْرَجُ، وَتَيْسٌ أَبْرَقُ، وَكَلْبٌ أَبْقَعُ، وَثَوْرٌ أَشْيَهُ. كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْبَلِقَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ الْأَشْيَهُ مَأْخُوذًا مِنَ الشِّيَةِ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ.

قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ بَعْدَهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ:

ص: 415

بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ، وَعَنْهُ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: حَذَفُ وَاوِ قَالُوا، إِذْ لَمْ يَعْتَدَّ بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ، إِذْ هُوَ نَقْلٌ عَارِضٌ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: إِقْرَارُ الْوَاوِ اعْتِدَادًا بِالنَّقْلِ، وَاعْتِبَارًا لِعَارِضِ التَّحْرِيكِ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَمْ تُحْذَفْ إِلَّا لِأَجْلِ سُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا. فَإِذَا ذَهَبَ مُوجِبُ الْحَذْفِ عَادَتِ الْوَاوُ إِلَى حَالِهَا مِنَ الثُّبُوتِ. وَانْتِصَابُ الْآنَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَهُوَ ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُمْ: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ إِلَى لَا شِيَةَ فِيها، وَالْعَامِلُ فِيهِ جِئْتَ، وَلَا يُرَادُ بِجِئْتَ أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا فَجَاءَ، وَإِنَّمَا مَجَازُهُ نَطَقْتَ بِالْحَقِّ، فَبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِجِئْتَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَجَأْتَ الْحَقَّ، أَيْ إِنَّ الْحَقَّ كَانَ لَمْ يَجِئْنَا فَأَجَأْتَهُ. وَهُنَا وَصْفٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ، أَيِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِشْكَالٌ، وَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ مُحَاوَرَةٍ حَاوَرَهَا مَعَهُمْ جَاءَ بِالْحَقِّ، فَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ هَذَا الْوَصْفُ لَمَا كَانَ لِتَقْيِيدِهِمْ مَجِيئَهُ بِالْحَقِّ بِهَذَا الطَّرَفِ الْخَاصِّ فَائِدَةٌ. وَقَدْ ذَهَبَ قَتَادَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا وَصْفَ مَحْذُوفٌ هُنَا، وَقَالَ: كَفَرُوا بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَأْتِيهِمْ إِلَّا بِالْحَقِّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَالُوا: وَمَعْنَى بِالْحَقِّ:

بِحَقِيقَةِ نَعْتِ الْبَقَرَةِ، وَمَا بَقِيَ فِيهَا إِشْكَالٌ.

فَذَبَحُوها: قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَطَلَبُوهَا وَحَصَّلُوهَا، أَيْ هَذِهِ الْبَقَرَةَ الْجَامِعَةَ لِلْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ، وَتَحْصِيلُهَا كَانَ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ بِأَنَّهَا كَانَتْ وَحْشِيَّةً فَأَخَذُوهَا، أَوْ بِاشْتِرَائِهَا مِنَ الشَّابِّ الْبَارِّ بِأَبَوَيْهِ. وَهَذَا الَّذِي تَظَافَرَتْ عَلَيْهِ أَقَاوِيلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَقَصَصًا كَثِيرًا مُضْطَرِبًا أَضْرَبْنَا عَنْ نَقْلِهِ صَفْحًا كَعَادَتِنَا فِي أَكْثَرِ الْقِصَصِ الَّذِي يَنْقُلُونَهُ، إِذْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا صَحَّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَنْ رَسُولِهِ فِي قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ.

وَما كادُوا يَفْعَلُونَ: كَنَّى عَنِ الذَّبْحِ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُكَنَّى بِهِ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ.

وَكَادَ فِي الثُّبُوتِ تَدُلُّ عَلَى الْمُقَارَبَةِ. فَإِذَا قُلْتَ: كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ، فَمَعْنَاهُ مُقَارَبَةُ الْقِيَامِ، وَلَمْ يَتَلَبَّسْ بِهِ. فَإِذَا قُلْتَ: مَا كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ، فَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْمُقَارَبَةِ، فَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وُجُوبًا وَنَفْيًا. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّهَا إِذَا أُثْبِتَتْ، دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الْخَبَرِ، وَإِذَا نُفِيَتْ، دَلَّتْ عَلَى إِثْبَاتِ الْخَبَرِ، مُسْتَدِلًّا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَذَبَحُوها يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ زَمَانُ نَفْيِ الْمُقَارَبَةِ وَالذَّبْحِ، إِذِ الْمَعْنَى: وَمَا قَارَبُوا ذَبْحَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، أَيْ وَقَعَ الذَّبْحُ بَعْدَ أَنْ نَفَى مُقَارَبَتُهُ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَعَسَّرُوا فِي ذَبْحِهَا، ثُمَّ ذَبَحُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ. قِيلَ: وَالسَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ مَا كَادُوا يَذْبَحُونَ هُوَ: إِمَّا غَلَاءُ

ص: 416

ثَمَنِهَا، وَإِمَّا خَوْفُ فَضِيحَةِ الْقَاتِلِ، وَإِمَّا قِلَّةُ انْقِيَادٍ وَتَعَنُّتٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا عُهِدَ مِنْهُمْ.

وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ: أَهِيَ الَّتِي أُمِرُوا أَوَّلًا بِذَبْحِهَا، وَأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الذَّبْحُ عَلَيْهَا أَوَّلًا لَمَا وَقَعَ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْمُعَيَّنَةِ؟ أَمِ الْمَأْمُورُ بِهَا أَوَّلًا هِيَ بَقَرَةٌ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ مَخْصُوصَةً بِلَوْنٍ وَصِفَاتٍ، فَذَبَحُوا الْمَخْصُوصَةَ؟ فَكَانَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مَخْصُوصًا لِانْتِقَالِ الْحُكْمِ مِنَ الْبَقَرَةِ الْمُطْلَقَةِ إِلَى الْبَقَرَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَيَجُوزُ النَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ الْمَخْصُوصَةَ يَتَنَاوَلُهَا الْأَمْرُ بِذَبْحِ بِقَرَةٍ، فَلَوْ وَقَعَ الذَّبْحُ عَلَيْهَا بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ، لَكَانُوا مُمْتَثِلِينَ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الثَّانِي: هَلِ الْوَاجِبُ كَوْنُهَا بِالصِّفَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَهِيَ كَوْنُهَا لَا ذَلُولٌ إِلَى آخِرِهِ؟ أَمْ يَنْضَافُ إِلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي جَوَابِ السُّؤَالَيْنِ قَبْلُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْوَصْفِ الْأَخِيرِ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ، وَصَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا؟ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ هَذَا الثَّانِي، لِأَنَّ الظَّاهِرَ اشْتِرَاكُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا هي، وما لونها، وما هِيَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اشْتُهِرَ فِي الْإِخْبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ الْبَيَانُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ التَّسْهِيلِ بِالْأَشَقِّ، وَعَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ.

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ «1» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ وَجُودِهِمَا وَنُزُولِهِمَا عَلَى حَسَبِ تِلَاوَتِهِمَا، فَيَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، فَذَبَحُوهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِمَا لَهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ السِّرِّ، ثُمَّ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرُ الْقَتِيلِ، فَأَظْهَرَ لَهُمْ مَا كَانَ أَخْفَاهُ عَنْهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ بِقَوْلِهِ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، وَلَا شَيْءَ يَضْطَرُّنَا إِلَى اعْتِقَادِ تَقَدُّمِ قَتْلِ الْقَتِيلِ. ثُمَّ سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِ قَاتِلِهِ، إِذْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ مُتَقَدِّمًا فِي النُّزُولِ، وَالتِّلَاوَةِ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ، وَيَكُونُ قَتْلُ الْقَتِيلِ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ، وَالتِّلَاوَةِ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ، وَلَا إِلَى اعْتِقَادِ كَوْنِ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ وَمَا بَعْدَهُ مُؤَخَّرًا فِي النُّزُولِ، مُتَقَدِّمًا فِي التِّلَاوَةِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ قَتْلِهِمْ مُقَدَّمًا فِي النُّزُولِ، مُتَأَخِّرًا فِي التِّلَاوَةِ، دُونَ تَعَرُّضٍ لِزَمَانِ وُجُودِ الْقِصَّتَيْنِ. وَإِنَّمَا حَمَلَ مَنْ حَمَلَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، اعْتِبَارَ مَا رَوَوْا مِنَ الْقَصَصِ الَّذِي لَا يَصِحُّ، إِذْ لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ أَوْلَى، إِذِ الْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ، إِنَّمَا يَكُونُ لِمُرَجِّحٍ، وَلَا مُرَجِّحَ، بَلْ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي تَكْلِيفِهِمْ أَوَّلًا ذَبْحَ بَقَرَةٍ. هَلْ يَمْتَثِلُونَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَامْتِثَالُ التَّكَالِيفِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ فِيهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ حِكْمَةٌ أَعْظَمُ مِنِ

(1) سورة البقرة: 2/ 54.

ص: 417

امْتِثَالِ مَا تَظْهَرُ فِيهِ حِكْمَةٌ، لِأَنَّهَا طَوَاعِيَةٌ صِرْفٌ، وَعُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَاسْتِسْلَامٌ خَالِصٌ، بِخِلَافِ مَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، فَإِنَّ فِي الْعَقْلِ دَاعِيَةً إِلَى امْتِثَالِهِ، وَحَضًّا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: إِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ الْقَتِيلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِأَمْرِهِ تَعَالَى بِالذَّبْحِ، فَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ، وَعَنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ. فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأُولَى خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأُولَى فِي الْوُجُودِ. فَأَمَّا التَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ فَغَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّهُ تَارَةً يُقَدَّمُ ذِكْرُ السَّبَبِ عَلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ، وَأُخْرَى عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا ذَبَحُوهَا قَالَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً مِنْ قَبْلُ وَاخْتَلَفْتُمْ فَإِنِّي مُظْهِرٌ لَكُمُ الْقَاتِلَ الَّذِي سَتَرْتُمُوهُ، بِأَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْقَتِيلِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَكَسَ، لَمَا كَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً، وَلَذَهَبَ الْغَرَضُ فِي تَثْنِيَةِ التَّقْرِيعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ وَقَعَ أَوَّلًا، ثُمَّ أُمِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا نَقْلُ شَيْءٍ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا حَمْلَ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا وَأَنَّ الْقَتْلَ تَأَخَّرَ، كَحَالِهِمَا فِي التِّلَاوَةِ.

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ حَسَنٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ، فِي الْجُمَلِ، وَفِي الْكَلِمَاتِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَوْرَدَ مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا، مِنْ ذَلِكَ: قِصَّةُ نُوحٍ عليه السلام فِي إِهْلَاكِ قَوْمِهِ، وَقَوْلُهُ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها «1» ، وَفِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا بِالتَّرَبُّصِ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ، وَبِمَتَاعٍ إِلَى الْحَوْلِ، إِذِ النَّاسِخُ مُقَدَّمٌ، وَالْمَنْسُوخُ مُتَأَخِّرٌ. وَذَكَرَ مِنْ تَقْدِيمِ الْكَلِمَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ عَلَى زَعْمِهِ كَثِيرًا، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مِنَ الضَّرَائِرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ. وَنِسْبَةُ الْقَتِيلِ إِلَى جَمْعٍ، إِمَّا لِأَنَّ الْقَاتِلِينَ جَمْعٌ، وَهُمْ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْقَاتِلَ وَاحِدٌ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِيهِمْ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي نِسْبَةِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْقَبِيلَةِ، إِذَا وُجِدَ مِنْ بَعْضِهَا مَا يُذَمُّ بِهِ أَوْ يُمْدَحُ.

فَادَّارَأْتُمْ فِيها قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَتَدَارَأْتُمْ، عَلَى وزن

(1) سورة هود: 11/ 41.

ص: 418

تَفَاعَلْتُمْ، وَهُوَ الْأَصْلُ، هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُ مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو السَّوَّارِ الْغَنَوِيُّ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: فَتَدَارَأْتُمْ عَلَى الْأَصْلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَقَلَ مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ أَبَا السَّوَّارِ قَرَأَ: فَدَرَأْتُمْ، بِغَيْرِ أَلِفٍ قَبْلَ الرَّاءِ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا التَّدَارُؤُ، وَهُوَ التَّدَافُعُ، أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْأَيْدِي، لِشِدَّةِ الِاخْتِصَامِ. وَيَحْتَمِلُ الْمَجَازَ، بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ طَرَحَ قَتْلَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَدَفَعَ الْمَطْرُوحُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إِلَى الطَّارِحِ، أَوْ بِأَنْ دَفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالتُّهْمَةِ وَالْبَرَاءَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي: فِيهَا عَائِدٌ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ: عَلَى الْقَتَلَةِ، فَيَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ، وَقِيلَ: عَلَى التُّهْمَةِ، فَيَعُودُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ.

وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، مَا: مَنْصُوبٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ مَعْهُودٌ، فَلِذَلِكَ أَتَى بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ دَالٌّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكْرَارِ، وَلَا تَكْرَارَ، إِذْ لَا تَجَدُّدَ فِيهِ، لِأَنَّهَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَلِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَمْ يَأْتِ بِالْفِعْلِ. وَجَاءَ اسْمُ الْفَاعِلِ مُعْمَلًا، وَلَمْ يُضَفْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَاضِيًا، لِأَنَّهُ حَكَى مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا وَقْتَ التَّدَارُؤِ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا حَكَى الْحَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ «1» . وَدَخَلَتْ كَانَ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى تَقَدُّمِ الْكِتْمَانِ، وَالْعَائِدُ عَلَى مَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ مِنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ وَقَاتِلِهِ، وَعَلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْقَتِيلِ وَغَيْرِهِ، فَيَكُونَ الْقَتِيلُ مِنْ جُمْلَةِ أَفْرَادِهِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا كَتَمُوهُ عَنِ النَّاسِ أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها

: جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها.

وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ التَّدَارُؤَ لَا يُجْدِي شَيْئًا، إِذِ اللَّهُ تَعَالَى مُظْهِرٌ مَا كُتِمَ مِنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ. وَالْهَاءُ فِي اضْرِبُوهُ عَائِدٌ عَلَى النَّفْسِ، عَلَى تَذْكِيرِ النَّفْسِ، إِذْ فِيهَا التَّأْنِيثُ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَالتَّذْكِيرُ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَإِذْ قَتَلْتُمْ ذَا نَفْسٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ، فَرُوعِيَ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ مُؤَنَّثًا فِي قَوْلِهِ:

فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا، وَرُوعِيَ الْمَحْذُوفُ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ مُذَكَّرًا فِي قَوْلِهِ: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ

،

(1) سورة الكهف: 18/ 18.

ص: 419

أَوْ عَائِدٌ عَلَى الْقَتِيلِ، أَيْ، فَقُلْنَا: اضْرِبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا. الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِأَيِّ بَعْضٍ كَانَ، فَقِيلَ: ضَرَبُوهُ بِلِسَانِهَا، أَوْ بِفَخِذِهَا الْيُمْنَى، أَوْ بِذَنَبِهَا، أَوْ بِالْغُضْرُوفِ، أَوْ بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ، وَهُوَ أَصْلُ الْأُذُنِ، أَوْ بِالْبِضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، أَوْ بِالْعَجْبِ، وَهُوَ أَصْلُ الذَّنَبِ، أَوْ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعًا، أَوْ بِعَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِبَعْضِهَا لِلْآلَةِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ بِالْقَدُومِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ، أَيْ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ.

وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَمَا قَبْلَهُ، التَّقْدِيرُ: فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ، دَلَّ عَلَى ضَرَبُوهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها

، وَدَلَّ عَلَى فَحَيِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى.

وَنُقِلَ أَنَّ الضَّرْبَ كَانَ عَلَى جِيدِ الْقَتِيلِ، وَذَلِكَ قَبْلَ دَفْنِهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مَكَثُوا فِي طَلَبِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَوْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ أُمِرُوا بِطَلَبِهَا، وَلَمْ تَكُنْ فِي صُلْبٍ وَلَا رَحِمٍ، فَلَا يَكُونُ الضَّرْبُ إِلَّا بَعْدَ دَفْنِهِ. قِيلَ: عَلَى قَبْرِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ الْمُبَاشَرُ بِالضَّرْبِ لَا الْقَبْرَ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ قَامَ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ فَقَالَ: قَتَلَنِي ابْنُ أَخِي، فَقَالَ بَنُو أَخِيهِ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَكَذَّبُوا بِالْحَقِّ بَعْدَ مُعَايَنَتِهِ، ثُمَّ مَاتَ مَكَانَهُ.

وَفِي بَعْضِ الْقَصَصِ أَنَّهُ قَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ، لا بني عَمِّهِ، ثُمَّ سَقَطَ مَيِّتًا، فَأُخِذَا وَقُتِلَا، وَلَمْ يُوَرِّثُوا قَاتِلًا بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَانَ الضَّرْبُ بِمَيِّتٍ لَا حَيَاةَ فِيهِ، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَى ذِي شُبْهَةٍ أَنَّ الْحَيَاةَ إِنَّمَا انْقَلَبَتْ إِلَيْهِ مِمَّا ضُرِبَ بِهِ لِتَزُولَ الشُّبْهَةُ وَتَتَأَكَّدَ الْحُجَّةُ.

كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى

: إِنَّ كَانَ هَذَا خِطَابًا لِلَّذِينِ حَضَرُوا إِحْيَاءَ الْقَتِيلِ، كَانَ ثَمَّ إضمار قول: أي وقلنا لَهُمْ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدَّرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ خِطَابًا مِنْ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَإِنْ كَانَ لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى: كَمَا أُحْيِيَ قَتِيلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الدُّنْيَا، كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِانْتِظَامِ الْآيِ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَلِئَلَّا يَخْتَلِفَ خِطَابُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

، وَخِطَابُ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قُلُوبُكُمْ أَنَّهُ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْكَافُ مِنْ كَذَلِكَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ محذوف منصوب بقوله: يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى

، أَيْ إِحْيَاءً مِثْلَ ذَلِكَ الْإِحْيَاءِ، يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَالْمُمَاثَلَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي مُطْلَقِ الْإِحْيَاءِ لاقى كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى إِحْيَاءِ الْقَتِيلِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى نَفْسِ الْقَتِيلِ، وَيُحْتَاجُ فِي تَصْحِيحِ ذَلِكَ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِثْلَ إِحْيَاءِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ، يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، فَجَعْلُهُ إِشَارَةً إِلَى الْمَصْدَرِ أَوْلَى وَأَقَلُّ تَكَلُّفًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْحَاضِرِينَ إِحْيَاءَ الْقَتِيلِ،

ص: 420

فَحِكْمَةُ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ، اطْمِئْنَانُ قُلُوبِهِمْ وَانْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ عَنْهُمْ، إِذِ الَّذِي كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ آمَنُوا بِهِ مُشَاهَدَةً.

وَيُرِيكُمْ آياتِهِ

: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ الِاسْتِئْنَافُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى يُحْيِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَاتِ جَمْعٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَهِيَ مَا أَرَاهُمْ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، وَالْعَصَا، وَالْحَجَرِ، وَالْغَمَامِ، وَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالسِّحْرِ، وَالْبَحْرِ، وَالطُّورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ أَعْمَى النَّاسِ قُلُوبًا، وَأَشَدَّ قَسْوَةً وَتَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِمْ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي شَاهَدُوا فِيهَا تِلْكَ الْعَجَائِبَ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ

، وَإِنْ كَانَتْ آيَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، الْعَالِمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، الْمُخْتَارِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، وَعَلَى بَرَاءَةِ سَاحَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا، وَعَلَى تَعَيُّنِ تِلْكَ التُّهْمَةِ عَلَى مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ الْقَتْلَ.

انْتَهَى كَلَامُهُ.

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

: أَيْ لَعَلَّكُمْ تَمْتَنِعُونَ مِنْ عِصْيَانِهِ، وَتَعْمَلُونَ عَلَى قَضِيَّةِ عُقُولِكُمْ، مِنْ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَنْفُسِ كُلِّهَا، لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ، مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، أَيْ كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَعْثِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ، وَإِنَّمَا شُرِطَ ذَلِكَ لِمَا فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ مِنَ التَّقَرُّبِ، وَأَدَاءِ التَّكْلِيفِ، وَاكْتِسَابِ الثَّوَابِ، وَالْإِشْعَارِ بِحُسْنِ تَقْدِيمِ الْقُرْبَةِ عَلَى الطَّلَبِ، وَمَا فِي التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ، لِتَشْدِيدِهِمْ مِنَ اللُّطْفِ لَهُمْ وَلِآخَرِينَ فِي تَرْكِ التَّشْدِيدِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَارْتِسَامِهَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَفْتِيشٍ وَتَكْثِيرِ سُؤَالٍ، وَنَفْعِ الْيَتِيمِ بِالتِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى بَرَكَةِ الْبَرِّ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَتَجْهِيلِ الْهَازِئِ بِمَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ. وَبَيَانِ أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُتَقَرِّبِ إِلَى رَبِّهِ: أَنْ يَتَنَوَّقَ فِي اخْتِيَارِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ، وَأَنْ يَخْتَارَهُ فَتِيَّ السِّنِّ غَيْرَ فَخْمٍ وَلَا ضَرِعٍ، حَسَنَ اللَّوْنِ بَرِيئًا مِنَ الْعُيُوبِ، يُونِقُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُغَالِيَ بِثَمَنِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ ضَحَّى بِنَجِيبَةٍ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْخِطَابِ نَسْخٌ لَهُ، وَأَنَّ النَّسْخَ قَبْلَ الْفِعْلِ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ وَإِمْكَانِهِ لِأَدَائِهِ إِلَى الْبَدْءِ، وَلِيَعْلَمَ بِمَا أُمِرَ مِنْ مَسِّ الْمَيِّتِ بِالْمَيِّتِ، وَحُصُولِ الْحَيَاةِ عَقِيبَهُ، وَأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الْمُسَبِّبُ لَا الْأَسْبَابُ، لِأَنَّ الْمَوْتَيْنِ الْحَاصِلَيْنِ فِي الْجِسْمَيْنِ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْهُمَا حَيَاةٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً، انْتَزَعُوهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهَا مِنْ قِصَّةِ هذا القتل، وَلَا

ص: 421

يَظْهَرُ اسْتِنْبَاطُهُمْ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى حِرْمَانِ الْقَاتِلِ مِيرَاثَ الْمَقْتُولِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرِثُهُ. وَأَقُولُ: لَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْقِصَّةُ، إِنْ صَحَّتْ، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي آخِرِهَا: فَمَا وَرِثَ قَاتِلٌ بَعْدَهَا مِمَّنْ قَتَلَهُ.

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وابن عباس وَابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُ، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً، لَا مِنْ دِيَتِهِ، وَلَا مِنْ سَائِرِ مَالِهِ.

وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالُوا: إِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَرِثَ. وَقَالَ عُثْمَانُ اللَّيْثِيُّ: يَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَأِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ: لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ مِنْ دِيَتِهِ، وَلَا مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً، يَرِثُ مِنْ مَالِهِ دُونَ دِيَتِهِ. وَيُرْوَى مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا قَتَلَ الْبَاغِي الْعَادِلَ، أَوِ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ، لَا يَتَوَارَثَانِ لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ. وَقَالُوا:

اسْتَدَلَّ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ، بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ قَتَلَنِي، وَقَالَ الْجُمْهُورُ خِلَافَهُ. وَقَالُوا فِي صِفَةِ الْبَقَرَةِ اسْتِدْلَالٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، قَالُوا: فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى حَصْرِ الْحَيَوَانِ بِصِفَاتِهِ، أَنَّهُ إِذَا حُصِرَ بِصِفَةٍ يُعْرَفُ بِهَا جَازَ السَّلَمُ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:

لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ خِلَافِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ اسْتِنْبَاطُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُحْيِيَ مَيِّتَهُمْ لِيُفْصِحَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى قَاتِلِهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ حَيَوَانٍ لَهُمْ، فَجَعَلَ سَبَبَ حَيَاةِ مَقْتُولِهِمْ بِقَتْلِ حَيَوَانٍ لَهُمْ صَارَتِ الْإِشَارَةُ مِنْهُ، أَنَّ مَنْ أَرَادَ حَيَاةَ قَلْبِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا بِذَبْحِ نَفْسِهِ. فَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهَدَاتِ حَيِيَ قَلْبُهُ بِأَنْوَارِ الْمُشَاهَدَاتِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ حَيَاةً فِي الْأَبَدِ أَمَاتَ فِي الدُّنْيَا ذِكْرَهُ بِالْخُمُولِ.

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، مَعْنَى ثُمَّ قَسَتْ: اسْتِبْعَادُ الْقَسْوَةِ بعد ما ذَكَرَ مَا يُوجِبُ لِينَ الْقُلُوبِ وَرِقَّتَهَا وَنَحْوَهُ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. انْتَهَى. وَهُوَ يُذْكَرُ عَنْهُ أَنَّ الْعَطْفَ بِثُمَّ يَقْتَضِي الِاسْتِبْعَادَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «1» . وَهَذَا الِاسْتِبْعَادُ لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْعَطْفِ بِثُمَّ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَجِيءِ هذه الجمل ووقوعها بعد ما تَقَدَّمَ مِمَّا لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهَا، وَلِأَنَّ صُدُورَ هَذَا الْخَارِقِ الْعَظِيمِ الْخَارِجِ عَنْ مِقْدَارِ الْبَشَرِ، فِيهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ وَالْعِظَاتِ مَا يَقْتَضِي لِينَ الْقُلُوبِ وَالْإِنَابَةَ إِلَى الله

(1) سورة الأنعام: 6/ 1. [.....]

ص: 422

تَعَالَى، وَالتَّسْلِيمَ لِأَقْضِيَتِهِ، فَصَدَرَ مِنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ غِلَظِ الْقُلُوبِ وَعَدَمِ انْتِفَاعِهَا، بِمَا شَاهَدَتْ، وَالتَّعَنُّتِ وَالتَّكْذِيبِ، حتى نقل أنهم بعد ما حَيِيَ الْقَتِيلُ، وَأَخْبَرَ بِمَنْ قَتَلَهُ قَالُوا:

كَذَبَ. وَالضَّمِيرُ فِي قُلُوبُكُمْ ضَمِيرُ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُ، وَأَنْكَرُوا قَتْلَهُ. وَقِيلَ: قُلُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا قَسَتْ بِمَعَاصِيهِمْ وَمَا ارْتَكَبُوهُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ.

وَكَنَّى بِالْقَسْوَةِ عَنْ نُبُوِّ الْقَلْبِ عَنِ الِاعْتِبَارِ، وَأَنَّ الْمَوَاعِظَ لَا تَجُولُ فِيهَا. وَأَتَى بِمِنْ فِي قَوْلِهِ:

مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْقَسْوَةَ كَانَ ابْتِدَاؤُهَا عَقِيبَ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ الْخَارِقِ، وَلَكِنَّ الْعَطْفَ بِثُمَّ يَقْتَضِي الْمُهْلَةَ، فَيَتَدَافَعُ مَعْنَى ثُمَّ، وَمَعْنَى مِنْ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَجَوُّزٍ فِي أَحَدِهِمَا.

وَالتَّجَوُّزُ فِي ثُمَّ أَوْلَى، لِأَنَّ سَجَايَاهُمْ تَقْتَضِي الْمُبَادَرَةَ إِلَى الْمَعَاصِي بِحَيْثُ يُشَاهِدُونَ الْآيَةَ الْعَظِيمَةَ، فَيَنْحَرِفُونَ إِثْرَهَا إِلَى الْمَعْصِيَةِ عِنَادًا وَتَكْذِيبًا، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ قِيلَ: إِلَى إِحْيَاءِ الْقَتِيلِ، وَقِيلَ: إِلَى كَلَامِ الْقَتِيلِ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ مَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَرَفْعِ الْجَبَلِ، وَانْبِجَاسِ الْمَاءِ، وَإِحْيَاءِ الْقَتِيلِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ.

فَهِيَ كَالْحِجارَةِ: يُرِيدُ فِي الْقَسْوَةِ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ حُكِمَ فِيهَا بِتَشْبِيهِ قُلُوبِهِمْ بِالْحِجَارَةِ، إِذِ الْحَجَرُ لَا يَتَأَثَّرُ بِمَوْعِظَةٍ، وَيَعْنِي أَنَّ قُلُوبَهُمْ صُلْبَةٌ، لَا تُخَلْخِلُهَا الْخَوَارِقُ، كَمَا أَنَّ الْحَجَرَ خُلِقَ صُلْبًا. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اعْتِيَاصَ قُلُوبِهِمْ لَيْسَ لِعَارِضٍ، بَلْ خُلِقَ ذَلِكَ فِيهَا خَلْقًا أَوَّلِيًّا، كَمَا أَنَّ صَلَابَةَ الْحَجَرِ كَذَلِكَ. وَالْكَافُ الْمُفِيدَةُ مَعْنَى التَّشْبِيهِ: حَرْفٌ وَفَاقًا لِسِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ النَّحْوِيِّينَ، خِلَافًا لِمَنِ ادَّعَى أَنَّهَا تَكُونُ اسْمًا فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ عَنِ الْأَخْفَشِ. فَتَعَلُّقُهُ هُنَا بِمَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَهِيَ كَائِنَةٌ كَالْحِجَارَةِ، خِلَافًا لِابْنِ عُصْفُورٍ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ، وَدَلَائِلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحِجَارَةِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ. وَجُمِعَتِ الْحِجَارَةُ وَلَمْ تُفْرَدْ، فَيُقَالَ كَالْحَجْرِ، فَيَكُونَ أَخْصَرَ، إِذْ دَلَالَةُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْجِنْسِ كَدَلَالَةِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ قُوبِلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ، لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ جَمْعٌ، فَنَاسَبَ مُقَابَلَتَهُ بِالْجَمْعِ، وَلِأَنَّ قُلُوبَهُمْ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقَسْوَةِ، كَمَا أَنَّ الْحِجَارَةَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الصَّلَابَةِ. فَلَوْ قِيلَ: كَالْحَجَرِ، لَأَفْهَمَ ذَلِكَ عَدَمَ التَّفَاوُتِ، إِذْ يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَادُ ذَلِكَ.

أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، أَوْ: بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوْ بِمَعْنَى أَوْ لِلْإِبْهَامِ، أَوْ لِلْإِبَاحَةِ، أَوْ لِلشَّكِّ، أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، أَقْوَالٌ: وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مَثَلًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي، وَالْأَحْسَنُ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ.

وَكَأَنَّ قُلُوبَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: قُلُوبٌ كَالْحِجَارَةِ قَسْوَةً، وَقُلُوبٌ أشد قسوة من الحجارة، فَأَجْمَلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، ثُمَّ فَصَّلَ وَنَوَّعَ إِلَى مُشَبَّهٍ بِالْحِجَارَةِ، وَإِلَى أَشَدَّ مِنْهَا،

ص: 423

إِذْ مَا كَانَ أَشَدُّ، كَانَ مُشَارِكًا فِي مُطْلَقِ الْقَسْوَةِ، ثُمَّ امْتَازَ بِالْأَشَدِّيَّةِ. وَانْتِصَابُ قَسْوَةً عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى تَقْتَضِيهِ الْكَافُ وَيَقْتَضِيهِ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْتَصِبُ عَنْهُ التَّمْيِيزُ. تَقُولُ: زيد كعمروا حِلْمًا، وَهَذَا التَّمْيِيزُ مُنْتَصِبٌ بَعْدَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، مَنْقُولٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ نَقْلٌ غَرِيبٌ، فَتُؤَخِّرُ هَذَا التَّمْيِيزَ وَتُقِيمُ مَا كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ مُقَامَهُ.

تَقُولُ: زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهًا مِنْ عَمْرٍو، وَتَقْدِيرُهُ: وَجْهُ زَيْدٍ أَحْسَنُ مِنْ وَجْهِ عَمْرٍو، فَأَخَّرْتَ وَجْهًا وَأَقَمْتَ مَا كَانَ مُضَافًا مُقَامَهُ، فَارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ، كَمَا كَانَ وَجْهُ مُبْتَدَأً، وَلَمَّا تَأَخَّرَ أَدَّى إِلَى حَذْفِ وَجْهٍ مِنْ قَوْلِكَ: مِنْ وَجْهِ عَمْرٍو، وَإِقَامَةِ عَمْرٍو مُقَامَهُ، فَقُلْتَ: مِنْ عَمْرٍو، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَصْلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِزِيَادَةِ الْحُسْنِ حَقِيقَةً لَيْسَ الرَّجُلَ إِنَّمَا هُوَ الْوَجْهُ، وَنَظِيرُ هَذَا: مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ الْحَسَنِ الْوَجْهِ، أَوِ الْوَجْهُ أَصْلُ هَذَا الرَّفْعِ، لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْحُسْنِ حَقِيقَةً لَيْسَ هُوَ الرَّجُلَ إِنَّمَا هُوَ الْوَجْهُ، وَإِنَّمَا أَوْضَحْنَا هَذَا، لِأَنَّ ذِكْرَ مَجِيءِ التَّمْيِيزِ مَنْقُولًا مِنَ الْمُبْتَدَأِ غَرِيبٌ، وَأَفْرَدَ أَشَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا عَنْ جَمْعٍ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهَا هُنَا هُوَ بِمِنْ، لَكِنَّهَا حُذِفَتْ، وَهُوَ مَكَانٌ حَسَّنَ حَذْفَهَا، إِذْ وَقَعَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ وَعُطِفَ، أَوْ أَشَدُّ، عَلَى قَوْلِهِ: كَالْحِجَارَةِ، فَهُوَ عَطْفُ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُفْرَدِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ عَلَى سَفَرٍ، أَوْ مُقِيمٌ، فَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي أَشَدُّ عَائِدٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا أَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ ارْتِفَاعَهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَوْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً، فَيَصِيرَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ، التَّقْدِيرُ: أَوْ مِثْلُ أَشَدِّ، فُحُذِفَ مِثْلُ وَأُقِيمَ أَشَدُّ مُقَامَهُ، وَيَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَشَدُّ إِذْ ذَاكَ غَيْرَ عَائِدٍ عَلَى الْقُلُوبِ، إِذْ كَانَ الْأَصْلُ أَوْ مِثْلُ شَيْءٍ أَشَدَّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ، فَالضَّمِيرُ فِي أَشَدُّ عَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ بأشدّ الْمَحْذُوفِ. وَيُعَضِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ، بِنَصْبِ الدَّالِ عَطْفًا عَلَى، كَالْحِجَارَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَارَ إِلَى هَذَا إِلَّا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ خَاصَّةً. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، فَلَهَا التَّوْجِيهُ السَّابِقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلَا إِضْمَارَ فِيهِ، فَكَانَ أَرْجَحَ.

وَقَدْ رَدَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ فِي مُنْتَخَبِهِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ، فَقَالَ: هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، لَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، فَكَيْفَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ:

أَشَدُّ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ وَهِيَ أَشَدُّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ صَحِيحٌ، وَلَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ، أَنَّ الْكَافَ اسْمٌ، إِنَّمَا يُرِيدُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ مَرْفُوعٍ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْكَافِ عَنِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَقَوْلَهُ:

ص: 424

فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَشَدُّ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ هِيَ أَشَدُّ، قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَوْلَى غَيْرُ هَذَا، لِأَنَّهُ تَقْدِيرٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَالَ أَشَدُّ قَسْوَةً؟ وَفِعْلُ الْقَسْوَةِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَفِعْلُ التَّعَجُّبِ، قُلْتُ: لِكَوْنِهِ أَبْيَنَ وَأَدَلَّ عَلَى فَرْطِ الْقَسْوَةِ. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ لَا يُقْصَدَ مَعْنَى الْأَقْسَى، وَلَكِنْ قُصِدَ وَصْفُ الْقَسْوَةِ بِالشِّدَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ:

اشْتَدَّتْ قَسْوَةُ الْحِجَارَةِ، وَقُلُوبُهُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَفِعْلُ الْقَسْوَةِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَفِعْلُ التَّعَجُّبِ أَنَّ قَسَا يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَفِعْلُ التَّعَجُّبِ بِجَوَازِ اجْتِمَاعِ الشَّرَائِطِ الْمُجَوِّزَةِ لِبِنَاءِ ذَلِكَ، وَهِيَ كَوْنُهُ مِنْ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ مُجَرَّدٍ مُتَصَرِّفٍ تَامٍّ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ، وَالنَّقْصِ مُثْبَتٍ. وَفِي كَوْنِهِ مِنْ أَفْعَلَ، أَوْ مِنْ كَوْنٍ، أَوْ مِنْ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ خِلَافٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: أَوْ أَشَدُّ قَسَاوَةً، وَهُوَ مَصْدَرٌ لِقَسَا أَيْضًا.

وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ: لَمَّا شَبَّهَ تَعَالَى قُلُوبَهُمْ بِالْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا أَشَدُّ قَسْوَةً عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي مَفْهُومِ، أَوْ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا عَلِمَهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ صَلَابَةِ الْأَحْجَارِ، وَأَخَذَ يَذْكُرُ جِهَةَ كَوْنِ قُلُوبِهِمْ أَشَدَّ قَسْوَةً: وَالْمَعْنَى أَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءِ جَاسِيَةٌ صُلْبَةٌ لَا تُلَيِّنُهَا الْمَوَاعِظُ، وَلَا تَتَأَثَّرُ لِلزَّوَاجِرِ، وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَقْبَلُ التَّخَلْخُلَ، وَأَنَّهَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي قَبُولِ ذَلِكَ، عَلَى حَسَبِ التَّقْسِيمِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ. فَقَدْ فُضِّلَتِ الْأَحْجَارُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فِي أَنَّ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ التَّخَلْخُلَ، وَأَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءِ فِي شِدَّةِ الْقَسَاوَةِ.

وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ إِلَى آخِرِهِ، هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَجَرُ مِمَّنْ يَعْقِلُ لَسَقَطَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَشَقَّقَ مِنْ هَيْبَتِهِ، وَأَنْتُمْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِيكُمُ الْعَقْلَ الَّذِي بِهِ إِدْرَاكُ الْأُمُورِ، وَالنَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقُلُوبُكُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَأَبْعَدُ عَنِ الْخَيْرِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْمَثَلِ: بَلْ أَخْبَرَ عَنِ الْحِجَارَةِ بِعَيْنِهَا، وَقَسَّمَهَا لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ كون قلوبهم أشد قسوة مِنَ الْحِجَارَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنَّ مُشَدَّدَةً، وَقَرَأَ قَتَادَةُ: وَإِنْ مُخَفَّفَةً، وَكَذَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُعْمَلَةً، وَيَكُونَ مِنَ الْحِجَارَةِ في موضع خبرها، وما فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهَا، وَهُوَ اسْمُهَا، وَاللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، أُدْخِلَتْ عَلَى الِاسْمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَالِاسْمُ إِذَا تَأَخَّرَ جَازَ دُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً، وَإِعْمَالُهَا مُخَفَّفَةً لَا يُجِيزُهُ الْكُوفِيُّونَ، وَهُمْ

ص: 425

مَحْجُوجُونَ بِالسَّمَاعِ الثَّابِتِ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ عمرو لَمُنْطَلِقٌ، بِسُكُونِ النُّونِ، إِلَّا أَنَّهَا إِذَا خُفِّفَتْ لَا تَعْمَلُ فِي ضَمِيرِ لَا، تَقُولُ: إِنَّكَ مُنْطَلِقٌ، إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي الشَّعْرِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ مُعْمَلَةً، بَلْ تَكُونُ ملغاة، وما فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ. وَاللَّامُ فِي لَمَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لام الِابْتِدَاءِ لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنَّ الْمُؤَكِّدَةِ وَإِنِ النَّافِيَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ سليمان الأخفش الصَّغِيرِ. وَأَكْثَرِ نُحَاةِ بَغْدَادَ، وَبِهِ قَالَ: مِنْ نُحَاةِ بِلَادِنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَخْضَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لَامٌ اخْتُلِسَتْ لِلْفَرْقِ، وَلَيْسَتْ لَامَ الِابْتِدَاءِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَمِنْ كُبَرَاءِ بِلَادِنَا ابْنُ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُعْرِبُونَ فِي إِنِ الْمُخَفَّفَةِ هُنَا إِلَّا هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنَّهَا الْمُلْغَاةُ، وَأَنَّ اللَّامَ فِي لَمَا لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ خَفَّفَ إِنْ، فَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ لَازِمَةٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنِ الَّتِي بِمَعْنَى مَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ لَامُ التَّوْكِيدِ فِي لَمَا. وقال الزمخشري: وقرىء: وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ، وَهِيَ إِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ الَّتِي يَلْزَمُهَا اللَّامُ الْفَارِقَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ «1» ، وَجَعْلُهُمْ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثقيلة، هُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْفَرَّاءُ فَزَعَمَ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِنْ هِيَ النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، فَإِذَا قُلْتَ: إِنْ زَيْدٌ لَقَائِمٌ، فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ: مَا زَيْدٌ إِلَّا قَائِمٌ.

وَأَمَّا الْكِسَائِيُّ فَزَعَمَ أَنَّهَا إِنْ وَلِيَهَا فِعْلٌ، كَانَتْ إِنْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَإِنْ وَلِيَهَا اسْمٌ، كَانَتِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَذَهَبَ قُطْرُبٌ إِلَى أَنَّهَا إِذَا وَلِيَهَا فِعْلٌ، كَانَتْ بِمَعْنَى قَدْ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَا بِمِيمٍ مُخَفَّفَةٍ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، قَالَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَعَلَّهُ سَقَطَتْ وَاوٌ، أَيْ وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ مُتَّجِهَةٍ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَّجِهَةٍ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا إِذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْرَأُ وَإِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، فَحِينَئِذٍ يَعْسُرُ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. أَمَّا إِذَا قَرَأَ بِتَخْفِيفِ إِنْ، وَهُوَ الْمَظْنُونُ بِهِ ذَلِكَ، فَيَظْهَرُ تَوْجِيهُهَا بَعْضَ ظُهُورٍ، إِذْ تَكُونُ إِنْ نَافِيَةً، وَتَكُونُ لَمَّا بِمَنْزِلَةِ إِلَّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ «2» ، وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ «3» ، وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا»

، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ لما بالتشديد،

(1) سورة يس: 36/ 32.

(2)

سورة الطارق: 86/ 4.

(3)

سورة يس: 36/ 32.

(4)

سورة الزخرف: 43/ 35.

ص: 426

وَيَكُونُ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمُبْتَدَأُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَمَا مِنَ الْحِجَارَةِ حَجَرٌ إِلَّا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَكَذَلِكَ مَا فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1» ، أَيْ وَمَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ «2» ، أَيْ وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ، وَحَذْفُ هذا المبتدأ أحسن، دلالة الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ يُشَكِّلُ مَعْنَى الْحَصْرِ، إِذْ يَظْهَرُ بِهَذَا التَّفْضِيلِ أَنَّ الْأَحْجَارَ مُتَعَدِّدَةٌ، فَمِنْهَا مَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَمِنْهَا مَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَمِنْهَا مَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَإِذَا حَصَرْتَ، أَفْهَمَ الْمَفْهُومُ قَبْلَهُ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْأَحْجَارِ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا، أَيْ تَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَيَتَشَقَّقُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَيَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَلَا يَبْعُدُ ذَلِكَ إِذَا حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى الْقَابِلِيَّةِ، إِذْ كُلُّ حَجَرٍ يَقْبَلُ ذَلِكَ، وَلَا يَمْتَنِعُ فِيهِ، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ. فَإِذَا تَلَخَّصَ هَذَا كُلُّهُ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مُتَوَجِّهَةً عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَقْرَأَ طَلْحَةُ، وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ. وَأَمَّا إِنْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْرَأُ وَإِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، فَيَعْسُرُ تَوْجِيهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِنَّ الْمُشَدَّدَةَ هِيَ بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةِ، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَيُمْكِنُ أَنْ تُوَجَّهَ قِرَاءَةُ طَلْحَةَ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، مَعَ قِرَاءَةِ إِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، بِأَنْ يَكُونَ اسْمُ إِنَّ مَحْذُوفًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ:

وَلَكِنَّ زِنْجِيٌّ عَظِيمُ الْمَشَافِرِ وَفِي قَوْلِهِ:

فَلَيْتَ دَفَعْتَ الْهَمَّ عَنِّي سَاعَةً وَتَكُونُ لَمَّا بِمَعْنَى حِينَ، عَلَى مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ، أَوْ حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ مِنْهَا مُنْقَادًا، أَوْ لَيِّنًا، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا. فَإِذَا كَانُوا قَدْ حَذَفُوا الِاسْمَ وَالْخَبَرَ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ فِي لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ، فَقَالَ: إِنَّ وَصَاحِبَهَا، فَحَذْفُ الِاسْمِ وَحْدَهُ أَسْهَلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَتَفَجَّرُ بِالْيَاءِ، مُضَارِعُ تَفَجَّرَ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يَنْفَجِرُ بِالْيَاءِ، مُضَارِعُ انْفَجَرَ، وَكِلَاهُمَا مُطَاوِعٌ. أَمَّا يَتَفَجَّرُ فَمُطَاوِعُ تَفَجَّرَ، وَأَمَّا يَنْفَجِرُ فَمُطَاوِعُ فَجَرَ مُخَفَّفًا. وَالتَّفَجُّرُ: التَّفَتُّحُ بِالسَّعَةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالِانْفِجَارُ دُونَهُ، وَالْمَعْنَى: إن من الحجارة ما فِيهِ خُرُوقٌ وَاسِعَةٌ يَنْدَفِقُ مِنْهَا الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْغَمْرُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالضَّحَّاكُ: مِنْهَا الْأَنْهَارُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْهُ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى حَمْلٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ مَا لَهَا هُنَا لَفْظٌ وَمَعْنًى، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحِجَارَةُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مفردا

(1) سورة الصافات: 37/ 164.

(2)

سورة النساء: 4/ 159.

ص: 427

لِمَعْنًى، فَيَكُونَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَاحِدًا، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَلْحَجَرَ الَّذِي يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ، إِنَّمَا الْمَعْنَى لَلْأَحْجَارَ الَّتِي يَتَفَجَّرُ مِنْهَا الْأَنْهَارُ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَنْهَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» الْآيَةَ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَجَرَ الَّذِي يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي ضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا.

وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، التَّشَقُّقُ: التَّصَدُّعُ بِطُولٍ أَوْ بِعَرْضٍ، فَيَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ بِقِلَّةٍ حَتَّى لَا يَكُونَ نَهْرًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَشَّقَّقُ، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ، وَأَصْلُهُ يَتَشَقَّقُ، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الشِّينِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: تَشَقَّقُ، بِالتَّاءِ وَالشِّينِ الْمُخَفَّفَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَرَأَيْتُهَا مَعْزُوَّةً لِابْنِ مُصَرِّفٍ. وَفِي النُّسْخَةِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ. مَا نَصُّهُ: وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ: يَنْشَقَّقُ، بِالنُّونِ وَقَافَيْنِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ اللِّسَانُ أَنْ يَكُونَ بِقَافٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وَقَدْ يَجِيءُ الْفَكُّ فِي شِعْرٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِعُ مَجْزُومًا، جَازَ الْفَكُّ فَصِيحًا، وَهُوَ هُنَا مَرْفُوعٌ، فَلَا يَجُوزُ الْفَكُّ، إِلَّا أَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيهَا، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِعُ بِالنُّونِ مَعَ الْقَافَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْأُولَى مِنْهُمَا، فَلَا يَجُوزُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يجوز لَمَا تَتَفَجَّرُ بِالتَّاءِ، وَلَا يجوز لَمَا تَتَفَجَّرُ بِالتَّاءِ، وَلَا يَجُوزُ تَتَشَقَّقُ بِالتَّاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: تَتَفَجَّرُ فَأَنَّثَهُ لِتَأْنِيثِ الْأَنْهَارِ، وَلَا يَكُونُ فِي تَشَقَّقُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ مَا أَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنَّ مِنْهَا لَلْحِجَارَةَ الَّتِي تَشَّقَّقُ، وَأَمَّا يَشَّقَّقُ بِالْيَاءِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى اللَّفْظِ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ. وَلَمْ يُنْقَلْ هُنَا أَنَّ أَحَدًا قَرَأَ مِنْهَا الْمَاءُ، فَيُعِيدُ عَلَى الْمَعْنَى، إِنَّمَا نُقِلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَمَا يتفجر منه الأنهار، فكان قوله يتفجر حملا على اللفظ ومنها حملا على المعنى ومحسن هذا هنا انه ولى الضمير جمع وهو الْأَنْهَارُ، فَنَاسَبَ الْجَمْعُ الْجَمْعَ، وَلِأَنَّ الْأَنْهَارَ مِنْ حَيْثُ هِيَ جَمْعٌ، يَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ حَجَرٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ الْأَنْهَارُ مِنْ أَحْجَارٍ، فَلِذَلِكَ نَاسَبَ مُرَاعَاةَ الْمَعْنَى هُنَا. وَأَمَّا فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ، فَالْمَاءُ لَيْسَ جَمْعًا، فَلَا يُنَاسِبُ فِي حَمْلِ مِنْهُ عَلَى الْمَعْنَى، بَلْ أَجْرَى يشقق، ومنه عَلَى اللَّفْظِ.

وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، الْهُبُوطُ هُنَا: التَّرَدِّي مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: يَهْبُطُ، بِضَمِّ الْبَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَخَشْيَةُ اللَّهِ: خَوْفُهُ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ هُنَا حَقِيقَةٌ. وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ قَوْمٌ مَعْنَاهُ:

مِنْ خَشْيَةِ الْحِجَارَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، وَأَنَّ اللَّهَ تعالى جعل لهذه

(1) سورة البقرة: 2/ 25.

ص: 428

الْأَحْجَارِ الَّتِي تَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَمْيِيزًا قَامَ لَهَا مَقَامَ الْفِعْلِ الْمُودَعِ فِيمَنْ يَعْقِلُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ بَعْضَ الْحِجَارَةِ بِالْخَشْيَةِ، وَبَعْضَهَا بِالْإِرَادَةِ، وَوَصَفَ جَمِيعَهَا بِالنُّطْقِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّأْوِيبِ وَالتَّصَدُّعِ، وَكُلُّ هَذِهِ صِفَاتٌ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَالْمَعْرِفَةِ. قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ «1» الْآيَةَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «2» ، يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «3» ،

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ وَأَنَّهُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ مَا مَرَّ بِحَجْرٍ وَلَا مُدَرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِنَّهُ يَشْهَدُ لِمَنْ يَسْتَلِمُهُ» .

وَفِي حَدِيثِ الْحَجَرِ الَّذِي فَرَّ بِثَوْبِ مُوسَى عليه السلام وَصَارَ يَعْدُو خَلْفَهُ وَيَقُولُ: «ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ» .

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أُحُدٍ: «إِنَّ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» .

وَفِي حَدِيثِ حِرَاءٍ: «لَمَّا اهْتَزَّ اسْكُنْ حِرَاءُ» .

وَفِي حَدِيثِ: «تَسْبِيحِ صِغَارِ الْحَصَى بِكَفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَأَحَادِيثُ أُخَرُ عَلَى نُطْقِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَانْقِيَادِ الشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِيهَا قُوَّةً مُمَيِّزَةً، وَصِفَةً نَاطِقَةً، وَحَرَكَةً اخْتِيَارِيَّةً، لَمَا صَدَرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا حَسُنَ وَصْفُهَا بِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْخَشْيَةُ هُنَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مُصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى فَاعِلٍ. وَالْمُرَادُ بِالْحَجَرِ الَّذِي يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هُوَ الْبَرَدُ، وَالْمُرَادُ بِخَشْيَةِ اللَّهِ: إِخَافَتُهُ عِبَادَهُ، فَأَطْلَقَ الْخَشْيَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ الْإِخْشَاءَ، أَيْ نُزُولُ الْبَرَدِ بِهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَيَزْجُرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَهَذَا قَوْلٌ مُتَكَلَّفٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ. وَالْبَرَدُ لَيْسَ بِحِجَارَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَدَّ عِنْدَ النُّزُولِ، فَهُوَ مَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْخَشْيَةُ هُنَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، وَفَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْعِبَادُ.

والمعنى: إن من الحجارة مَا يَنْزِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ عِنْدِ الزَّلْزَلَةِ مِنْ خَشْيَةِ عِبَادِ اللَّهِ إِيَّاهُ.

وَتَحْقِيقُهُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا خَشْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى، صَارَتْ تِلْكَ الْخَشْيَةُ كَالْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي ذَلِكَ الْهُبُوطِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَمَا يَهْبِطُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ مِنَ الْقُلُوبِ قُلُوبًا تَطْمَئِنُّ وَتَسْكُنُ، وَتَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَنَّى بِالْهُبُوطِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ قُلُوبَ الْمُخْلِصِينَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ مِنْها، فَظَاهِرُ الكلام

(1) سورة الحشر: 59/ 21.

(2)

سورة الإسراء: 17/ 44.

(3)

سورة سبأ: 34/ 10.

ص: 429

التَّقْسِيمُ لِلْحِجَارَةِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ، وَالْهُبُوطُ لَا يَلِيقُ بِالْقُلُوبِ، إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْحِجَارَةِ. وَلَيْسَ تَأْوِيلُ الْهُبُوطِ بِأَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الْخَشْيَةِ إِنْ تَأَوَّلْنَاهَا. وَقَدْ أَمْكَنَ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ حَمْلَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عليه السلام، إِذْ جَعَلَهُ دَكًّا. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ هُنَا مَجَازٌ مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ، كَمَا اسْتُعِيرَتِ الْإِرَادَةُ لِلْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ «1» ، وَكَمَا قَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ:

بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حُجُرَاتِهِ

تَرَى الْأُكْمَ مِنْهُ سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ

وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:

لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَضَعْضَعَتْ

سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ

أَيْ مَنْ رَأَى الْحَجَرَ مُتَرَدِّيًا مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، تَخَيَّلَ فِيهِ الْخَشْيَةَ، فَاسْتَعَارَ الْخَشْيَةَ، كِنَايَةً عَنِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ عَلَى مَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا. فَمَنْ يَرَاهَا يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الِانْفِعَالَ السَّرِيعَ هُوَ مَخَافَةُ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ وَالنُّطْقَ لَا يَحِلَّانِ فِي الْجَمَادَاتِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ. وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بِهَا مَلَائِكَةً، هِيَ الَّتِي تُسَلِّمُ وَتَتَكَلَّمُ،

كَمَا وَرَدَ أَنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تُنَادِي: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي.

وَالْأَرْحَامُ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ، وَلَا لَهَا إِدْرَاكٌ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَسْجُدَ الْمَعَانِي، أَوْ تَتَكَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مَلَكًا يَقُولُ ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَتَأَوَّلُوا: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونحبه، أي يحبه أَهْلُهُ وَنُحِبُّ أَهْلَهُ، كَقَوْلِهِ تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» . وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْحِجَارَةِ قَدْرًا مَا مِنَ الْإِدْرَاكِ، تَقَعُ بِهِ الْخَشْيَةُ وَالْحَرَكَةُ. وَاخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْخَشْيَةَ مَجَازٌ عَنِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ امْتِنَاعِهَا، وَتَرْتِيبُ تَقْسِيمِ هَذِهِ الْحِجَارَةِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ جِدًّا، وَهُوَ عَلَى حَسَبِ التَّرَقِّي. فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالَّذِي تَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، أَيْ خُلِقَ ذَا خُرُوقٍ مُتَّسِعَةٍ، فَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ تَفَعُّلٌ وَلَا فِعْلٌ، أَيْ أَنَّهَا خُلِقَتْ ذَاتَ خُرُوقٍ بِحَيْثُ لَا يُحْتَاجُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا صُدُورُ فِعْلٍ مِنْهَا. ثُمَّ تَرَقَّى مِنْ هَذَا الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ الَّذِي يَنْفَعِلُ انْفِعَالًا يَسِيرًا، وَهُوَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ تَشَقُّقٌ بِحَيْثُ يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ. ثُمَّ تَرَقَّى مِنْ هَذَا الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ الَّذِي يَنْفَعِلُ انْفِعَالًا عَظِيمًا، بِحَيْثُ يَتَحَرَّكُ وَيَتَدَهْدَهُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، ثُمَّ رَسَّخَ هَذَا الانفعال التامّ بأن

(1) سورة الكهف: 18/ 77.

(2)

سورة يوسف: 12/ 82.

ص: 430

ذَلِكَ هُوَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ طَوَاعِيَتِهِ وَانْقِيَادِهِ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، فَكَنَّى بِالْخَشْيَةِ عَنِ الطَّوَاعِيَةِ وَالِانْقِيَادِ، لِأَنَّ مَنْ خَشِيَ أَطَاعَ وَانْقَادَ.

وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: هَذَا فِيهِ وَعِيدٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أَفْهَمَ أَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ أَفْعَالٌ فَاسِدَةٌ وَأَعْمَالٌ قَبِيحَةٌ، مِنْ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُعَانَدَةِ رُسُلِهِ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، بَلْ هُوَ تَعَالَى يُحْصِيهَا عَلَيْهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَغْفُلْ عَنْهَا كَانَ مُجَازِيًا عَلَيْهَا. وَالْغَفْلَةُ إِنْ أُرِيدَ بِهَا السَّهْوُ، فَالسَّهْوُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا التَّرْكُ عَنْ عَمْدٍ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، فَنَفَى اللَّهُ تَعَالَى الْغَفْلَةَ عَنْهُ.

وَانْتِفَاءُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ عَقْلًا، وَلِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَعَ إِمْكَانِهِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ، قَالَ: لِأَنَّهُ يُوهِمُ جَوَازَ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ «1» ؟ وَقَوْلِهِ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ «2» ، فَقَدْ نَفَى عَنْهُ تَعَالَى مَا لَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَهُ لَهُ. وبغافل: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا حِجَازِيَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا تَمِيمِيَّةً، فَدَخَلَتِ الْبَاءُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَسَوَّغَ ذَلِكَ النَّفْيُ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُوجَبِ؟ لَا تَقُولُ:

زَيْدٌ بِقَائِمٍ، وَلَا: مَا زَيْدٌ إِلَّا بِقَائِمٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِغَافِلٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ مَا، لِأَنَّهَا الْحِجَازِيَّةُ، يُقَوِّي ذَلِكَ دُخُولُ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ قَدْ تَجِيءُ شَاذَّةً مَعَ التَّمِيمِيَّةِ.

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ، مِنْ أَنَّ الْبَاءَ مَعَ التَّمِيمِيَّةِ قَدْ تَجِيءُ شَاذَّةً، لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ نَحْوِيٌّ فِيمَا عَلِمْنَاهُ، بَلِ الْقَائِلُونَ قَائِلَانِ، قَائِلٌ: بِأَنَّ التَّمِيمِيَّةَ لَا تَدْخُلُ الْبَاءُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ بَعْدَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَائِلٌ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجَرَّ بِالْبَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:

لَعَمْرُكَ مَا مَعْنٌ بِتَارِكِ حَقِّهِ وَأَشْعَارُ بَنِي تَمِيمٍ تَتَضَمَّنُ جَرَّ الْخَبَرِ بِالْبَاءِ كَثِيرًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْمَلُونَ بِالتَّاءِ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى نَسَقِ قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ بَنِي إسرائيل، ويكون ذلك

(1) سورة البقرة: 2/ 255.

(2)

سورة الأنعام: 6/ 14. [.....]

ص: 431

الْتِفَاتًا، إِذْ خَرَجَ مِنْ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ:

يَعْلَمُونَ. وحكمة هذا الالتفات أنه أَعْرَضَ عَنْ مُخَاطَبَتِهِمْ، وَأَبْرَزَهُمْ فِي صُورَةِ مَنْ لَا يُقْبَلُ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، وَجَعَلَهُمْ كَالْغَائِبِينَ عَنْهُ، لِأَنَّ مُخَاطَبَةَ الشَّخْصِ وَمُوَاجَهَتَهُ بِالْكَلَامِ إِقْبَالٌ مِنَ الْمُخَاطِبِ عَلَيْهِ، وَتَأْنِيسٌ لَهُ، فَقَطَعَ عَنْهُمْ مُوَاجَهَتَهُ لَهُمْ بِالْخِطَابِ، لِكَثْرَةِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ.

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ فُصُولًا عَظِيمَةً، وَمُحَاوَرَاتٍ كَثِيرَةً، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، شَافَهَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَذَلِكَ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، فَلَمْ يُبَادِرُوا لِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَخْرَجُوا ذَلِكَ مُخْرَجَ الْهُزُؤِ، إِذْ لَمْ يَفْهَمُوا سِرَّ الْأَمْرِ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرُوا بِالِامْتِثَالِ، فَأَجَابَهُمْ مُوسَى بِاسْتِعَاذَتِهِ بِاللَّهِ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ جَهِلَ، فَيُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ، فَرَدَّ عليهم بأن استعمال الهزء فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ تعالى، وفي غيره، وهو يَسْتَعِيذُ مِنْهُ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَتَعَنَّتُوا فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي أَوْصَافِهَا، وَكَانَ يُجْزِئُهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، إِذِ الْمَأْمُورُ بِهِ بَقَرَةٌ مُطْلَقَةٌ، فَسَأَلُوا مَا هِيَ؟ وَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَهَا لَهُمْ، إِذْ كَانَ دُعَاؤُهُ أَقْرَبَ لِلْإِجَابَةِ مِنْ دُعَائِهِمْ، فَأَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِسِنِّهَا. ثُمَّ خَافَ مِنْ كَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَمِنْ تَعَنُّتِهِمْ، كَمَا جَاءَ، إِنَّمَا أَهْلَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَبَادَرَ إِلَى أَمْرِهِمْ بِأَنْ يَفْعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ، حَتَّى قَطَعَ سُؤَالَهُمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى أَمْرِهِ، وَسَأَلُوا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى ثَانِيًا عَنْ لَوْنِهَا، إِذْ قَدْ أُخْبِرُوا بِسِنِّهَا، فَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَوْنِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ ثَانِيًا أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، إِذْ عَلِمَ مِنْهُمْ تَعَنُّتَهُمْ، لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، وَخَالَفُوا أَمْرَ مُوسَى ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ. فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ أَبْقَاهُمْ عَلَى طَبِيعَتِهِمْ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ. فَسَأَلُوا ثَالِثًا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ عَنْهَا، فَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَالِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ وَبَاقِي الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا، فَحِينَئِذٍ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُوسَى جَاءَ بِالْحَقِّ الْوَاضِحِ الَّذِي بَيَّنَ أَمْرَ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، فَالْتَمَسُوهَا حَتَّى حَصَّلُوهَا وَذَبَحُوهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بَعْدَ تَرْدِيدٍ كَثِيرٍ وَبُطْءٍ عَظِيمٍ، وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا قَارَبُوا ذَبْحَهَا، بَلْ بَقُوا مُتَطَلِّبِينَ أَشْيَاءَ لِيَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ تَحْصِيلُهَا وَذَبْحُهَا.

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَتْلِ النَّفْسِ، وَتَدَافُعِهِمْ فِيمَنْ قَتَلَهَا، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَأُمِرُوا بِأَنْ يَضْرِبُوا ذَلِكَ الْقَتِيلَ بِبَعْضِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ، فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَانْكَشَفَ لَهُمْ سِرُّ أَمْرِ اللَّهِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَأَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُعْجِزِ الْخَارِقِ، مَا

ص: 432