المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ١

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر

- ‌منهج التفسير:

- ‌عمل دار الفكر

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌سورة الفاتحة 1

- ‌[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]

- ‌سورة البقرة 2

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 16]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 19]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 20]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 25]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 29]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 33]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 34]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 35]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 36 الى 39]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 46]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 49]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 50 الى 53]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 54 الى 57]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 61]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 62 الى 66]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 82]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 86]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 96]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 103]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 113]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 123]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 131]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 132 الى 141]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]

الَّذِي هُوَ: أُولَئِكَ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِخِبْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُفْرَدٌ، وَالْآخَرُ جُمْلَةٌ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْخُلُودِ، وَهَلْ هُوَ الْمُكْثُ زَمَانًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، أَوْ زَمَانًا له نهاية؟

[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]

يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

ابْنُ: مَحْذُوفُ اللَّامِ، وَقِيلَ: الْيَاءُ خِلَافٌ، وَفِي وَزْنِهِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ خِلَافٌ، فَقِيلَ: فِعْلٌ، وَقِيلَ: فَعِلٍ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ يَاءٌ جَعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْبِنَاءِ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ. وَالِابْنُ فَرْعٌ عَنِ الْأَبِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ، وَجُعِلَ قَوْلُهُمْ: الْبُنُوَّةُ شَاذٌّ كَالْفُتُوَّةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ وَاوٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَخْفَشُ، جَعَلَ الْبُنُوَّةَ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، وَلِكَوْنِ اللَّامِ الْمَحْذُوفَةِ وَاوًا أَكْثَرَ مِنْهَا يَاءٌ. وَجَمْعُ ابْنٍ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَقَالُوا: أَبْنَاءٌ، وَجَمْعُ سَلَامَةٍ، فَقَالُوا:

بَنُونَ، وَهُوَ جَمْعٌ شَاذٌّ، إِذْ لَمْ يَسْلَمْ فِيهِ بِنَاءُ الْوَاحِدِ، فَلَمْ يَقُولُوا: ابْنُونَ، وَلِذَلِكَ عَامَلَتِ الْعَرَبُ هَذَا الْجَمْعَ فِي بَعْضِ كَلَامِهَا مُعَامَلَةَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، فَأُلْحِقَتِ التَّاءُ فِي فِعْلِهِ، كَمَا أُلْحِقَتْ فِي فِعْلِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، قَالَ النَّابِغَةُ:

قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُو بَنِي أَسَدٍ

يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّارًا لِأَقْوَامِ

وَقَدْ سُمِعَ الْجَمْعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فِيهِ مُصَغَّرًا، قَالَ يُسَدِّدُ:

أَبَيْنُوهَا الْأَصَاغِرَ خُلَّتِي وَهُوَ شَاذٌّ أَيْضًا.

إِسْرَائِيلَ: اسْمٌ عَجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ إِسْرَا: وَهُوَ الْعَبْدُ، وَإِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَذَلِكَ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ، فَيَكُونُ مِثْلَ: جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَعِزْرَائِيلَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَقِيلَ: مَعْنَى إِسْرَا: صَفْوَةٌ، وَإِيلَ: اللَّهُ تَعَالَى، فَمَعْنَاهُ: صَفْوَةُ اللَّهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِسْرَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَسْرِ، وَهُوَ الشَّدُّ، فَكَأَنَّ إِسْرَائِيلَ مَعْنَاهُ: الَّذِي

ص: 277

شَدَّهُ اللَّهُ وَأَتْقَنَ خَلْقَهُ. وَقِيلَ: أَسْرَى بِاللَّيْلِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَسُمِّيَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: أَسَرَ جِنِّيًّا كان يطفىء سُرُجَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ اسْمُ الْجِنِّيِّ: إِيلَ، فَسُمِّيَ إِسْرَائِيلُ، وَكَانَ يَخْدُمُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ، وَآخِرَ مَنْ يَخْرُجُ، قَالَهُ كَعْبٌ. وَقِيلَ: أَسْرَى بِاللَّيْلِ هَارِبًا مِنْ أَخِيهِ عَيْصُو إِلَى خَالِهِ، فِي حِكَايَةٍ طَوِيلَةٍ ذَكَرُوهَا، فَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ أَقَاوِيلٌ ضِعَافٌ، وَفِيهِ تَصَرُّفَاتٌ لِلْعَرَبِ بقوله: إِسْرَائِيلُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ وياء بعدها، وهي قراءة الْجُمْهُورِ. وَإِسْرَايِيلُ بِيَاءَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَالْأَعْشَى وَعِيسَى بْنُ عمر. وإسرائيل بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ ثُمَّ لَامٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ وَرْشٍ. وَإِسْرَاءَلُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَلَامٌ، وَإِسْرِئِلُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ، وَإِسْرَالُ بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ بَعْدَهَا لَامٌ خَفِيفَةٌ، وَإِسْرَالُ بِأَلِفٍ غَيْرِ مُمَالَةٍ، قَالَ أُمَيَّةَ:

لَا أَرَى مَنْ يُعَيِّشُنِي فِي حَيَاتِي

غَيْرَ نَفْسِي إِلَّا بَنِي إِسْرَالَا

وَهِيَ رِوَايَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ نَافِعٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وغيرهم:

وإسرائين بَنُونٍ بَدَلَ اللَّامِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

يَقُولُ أَهْلُ السُّوءِ لَمَّا جِينَا

هَذَا وَرَبِّ الْبَيْتِ إِسْرَائِينَا

كَمَا قَالُوا: سِجِّيلٌ، وَسِجِّينٌ، وَرَفْلٌ، وَرَفْنٌ، وَجِبْرِيلُ، وَجِبْرِينُ، أُبْدِلَتْ بِالنُّونِ كَمَا أُبْدِلَتِ النُّونُ بِهَا فِي أَصِيلَانِ قَالُوا: أَصِيلَالِ، وَإِذَا جَمَعْتَهُ جَمْعَ تَكْسِيرٍ قُلْتَ: أَسَارِيلُ، وَحُكِيَ:

أَسَارِلَةٌ وَأَسَارِلٌ. الذِّكْرُ: بِكَسْرِ الذَّالِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَالذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَبِالْكَسْرِ ضِدُّهُ: الصَّمْتُ، وَبِالضَّمِّ ضِدُّهُ: النِّسْيَانُ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّيَقُّظِ وَالتَّنَبُّهِ، وَيُقَالُ: اجْعَلْهُ مِنْكَ عَلَى ذِكْرٍ. النِّعْمَةُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُنْعَمِ بِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ: كالذبح، والنقض، وَالرَّعْيِ، وَالطَّحْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْقَاسُ.

أَوْفَى، وَوَفَى، وَوَفَّى: لُغًى ثَلَاثٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَتَأْتِي أَوْفَى بِمَعْنَى: ارْتَفَعَ، قَالَ:

رُبَّمَا أَوْفَيْتُ فِي عِلْمٍ

تَرْفَعْنَ ثَوْبِي شَمَالَاتٍ

وَالْمِيفَاتُ: مَكَانٌ مُرْتَفِعٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: أَوْفَيْتُ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: وَفَّيْتُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَفَى بِالْعَهْدِ، وَأَوْفَى بِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ

كَمَا وَفَّى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا

وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ وَفَّيْتُ بِالْعَهْدِ، وَأَوْفَيْتُ بِهِ، وَأَوْفَيْتُ الْكَيْلَ لَا غَيْرُ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ. وَفَى الشَّيْءُ: تَمَّ، وَوَفَّى الْكَيْلَ وَأَوْفَيْتُهُ: أَتْمَمْتَهُ، وَوَفَّى رِيشُ الطَّائِرِ: بَلَغَ التَّمَامَ،

ص: 278

وَدِرْهَمٌ وَافٍ: أَيْ تَامٌّ كَامِلٌ. الرَّهَبُ، وَالرُّهْبُ، وَالرَّهْبُ، وَالرَّهْبَةُ: الْخَوْفُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّهَابَةِ، وَهُوَ عَظْمُ الصَّدْرِ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْخَوْفُ. وَالرَّهَبُ: النَّصْلُ، لِأَنَّهُ يُرْهَبُ مِنْهُ، وَالرَّهْبَةُ وَالْخَشْيَةُ وَالْمَخَافَةُ نَظَائِرُ. التَّصْدِيقُ: اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمُطَابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ بِهِ، وَالتَّكْذِيبُ يُقَابِلُهُ.

أَوَّلُ: عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: أَفْعَلُ، وَفَاؤُهُ وَعَيْنُهُ وَاوَانِ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ فِعْلٌ لِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ، فَهُوَ مِمَّا فَاؤُهُ وَعَيْنُهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ إِلَّا: ددن، وقفس، وَبُبَنٌ، وَبَابُوسٌ. وَقِيلَ: إِنَّ بَابُوسًا أَعْجَمِيٌّ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ أَفْعَلُ مِنْ وَأَلَ إِذَا لَجَأَ، فَأَصْلُهُ أَوْأَلُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، ثُمَّ بِالْإِدْغَامِ، وَهَذَا تَخْفِيفٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ، إِذْ تَخْفِيفُ مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ أَفْعَلُ من آل يؤل، فَأَصْلُهُ أَأُولُ، ثُمَّ قُلِبَ فَصَارَ أَوْأَلُ أَعْفَلُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، ثُمَّ بِالْإِدْغَامِ.

وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، وَيُسْتَعْمَلُ أَوَّلُ اسْتِعْمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، فَيَكُونَ مَصْرُوفًا، وَتَلِيهِ الْعَوَامِلُ نَحْوَ: أَفْكَلُ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَدِيمٍ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ: ما تَرَكْتُ لَهُ أَوَّلًا وَلَا آخِرًا، أَيْ مَا تَرَكْتُ لَهُ قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا. وَالِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي:

أَنْ يُجْرَى مَجْرَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَيُسْتَعْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَائِهِ مِنْ كَوْنِهِ بِمَنْ مَلْفُوظًا بِهَا، أَوْ مُقَدَّرَةً، وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَبِالْإِضَافَةِ. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: ابْدَأْ بِهَذَا أَوَّلُ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ بِاتِّفَاقٍ، وَالْخِلَافُ فِي عِلَّةِ بِنَائِهِ ذَلِكَ لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَّلُ الْأَشْيَاءِ، أَمْ لِشِبْهِ الْقَطْعِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَّلُ مَنْ كَذَا. وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْقَطْعَ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْخِلَافُ إِذَا بُنِيَ، أَهْوَ ظَرْفٌ أَوِ اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ؟ وَهُوَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُبْنَى لِلْقَطْعِ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهِ، وَكُلُّ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي عِلْمِ النَّحْوِ. الثَّمَنُ:

الْعِوَضُ الْمَبْذُولُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ، وَقَالَ:

إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ دُنْيَا أَوْ ظَفِرْتَ بِهَا

فَمَا أَصَبْتَ بِتَرْكِ الْحَجِّ مِنْ ثَمَنِ

أَيْ مِنْ عِوَضٍ.

الْقَلِيلُ: يُقَابِلُهُ الْكَثِيرُ، وَاتَّفَقَا فِي زِنَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَاخْتَلَفَا فِي زِنَةِ الْفِعْلِ، فَمَاضِي الْقَلِيلِ فَعَلَ، وَمَاضِي الْكَثِيرِ فَعُلَ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْفَاعِلِ مَنْ قَلَّ عَلَى فَاعِلٍ نَحْوَ: شَذَّ يَشِذُّ، فَهُوَ شَاذٌّ، لَكِنْ حُمِلَ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَمِثْلُ قَلَّ فَهُوَ قَلِيلٌ، صَحَّ فَهُوَ صَحِيحٌ.

اللَّبْسُ: الْخَلْطُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَبَسْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: خَلَطْتَهُ، وَالْتَبَسَ بِهِ: اخْتَلَطَ، وَقَالَ الْعَجَّاجُ:

ص: 279

لِمَا لَبِسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي وَجَاءَ أَلْبَسَ بِمَعْنَى لَبَّسَ.

وَقَالَ آخَرُ:

وَكَتِيبَةٍ أَلْبَسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ

حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي

الْكَتْمُ، وَالْكِتْمَانُ: الْإِخْفَاءُ، وَضِدُّهُ: الْإِظْهَارُ، وَمِنْهُ الْكَتْمُ: وَرَقٌ يُصْبَغُ بِهِ الشَّيْبُ.

الرُّكُوعُ: لَهُ مَعْنَيَانِ فِي اللُّغَةِ: أَحَدُهُمَا: التّطَامُنُ وَالِانْحِنَاءُ، وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَأَبِي زَيْدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:

أُخَبِّرُ أَخْبَارَ الْقُرُونِ الَّتِي مَضَتْ

أَدُبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ

وَالثَّانِي: الذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُفَضَّلِ وَالْأَصْمَعِيِّ، قَالَ الْأَضْبَطُ السَّعْدِيُّ:

لَا تُهِينُ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أَنْ

تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهُ

يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ هَذَا افْتِتَاحُ الْكَلَامِ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمُنَاسَبَةُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ هُنَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ فِيهِ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ الْمَخْتُومِ عَلَيْهِمْ بِالشَّقَاوَةِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَذِكْرِ جُمَلٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ قَاطِبَةً بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ بِذِكْرِ أَصْلِهِمْ آدَمَ، وَمَا جَرَى لَهُ مِنْ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِبْلِيسُ. وَكَانَتْ هَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ: أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىَ، أَهْلَ كِتَابٍ، مُظْهِرِينَ اتِّبَاعَ الرُّسُلِ وَالِاقْتِدَاءَ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدِ انْدَرَجَ ذِكْرُهُمْ عُمُومًا فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا «1» ، فَجَرَّدَ ذِكْرَهُمْ هُنَا خُصُوصًا، إِذْ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ هُنَا، وَذَكَرُوا مَا يَقْتَضِي لَهُمُ الْإِيمَانَ بِهَذَا الْكِتَابِ، كَمَا آمَنُوا بِكُتُبِهِمُ السَّابِقَةِ، إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ عَلَى مَا سَيَأْتِي جُمْلَةً مُفَصَّلَةً. وَنَاسَبَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ قِصَّةَ آدَمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصلاة والسلام، لأنهم بعد ما أُوتُوا مِنَ الْبَيَانِ الْوَاضِحِ وَالدَّلِيلِ اللَّائِحِ، الْمَذْكُورِ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مِنْ الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، ظَهَرَ مِنْهُمْ ضِدُّ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالنِّدَاءِ لِيُحَرِّكَهُمْ لِسَمَاعِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، نَحْوَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا، وَيا آدَمُ اسْكُنْ «2» .

(1) سورة البقرة: 2/ 121. [.....]

(2)

سورة البقرة: 2/ 35.

ص: 280

وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَضَافَهُمْ إِلَى لَفْظِ إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ يَعْقُوبُ، وَلَمْ يَقُلْ:

يَا بَنِي يَعْقُوبَ، لِمَا فِي لَفْظِ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ صَفْوَةُ اللَّهِ، وَذَلِكَ عَلَى أَحْسَنِ تَفَاسِيرِهِ، فَهَزَّهُمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ يَا بَنِي صَفْوَةِ اللَّهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ أَبِيهِمْ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ: يَا ابْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ أَطِعِ اللَّهَ، فَتُضِيفُهُ إِلَى مَا يُحَرِّكُهُ لِطَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ أَنْ يَقْتَفِيَ أَثَرَ آبَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مَحْمُودًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَحْمُودًا؟ أَلَا تَرَى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «1» ، بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا «2» ، وَفِي قَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ انْتَمَى إِلَى شَخْصٍ، وَلَوْ بِوَسَائِطَ كَثِيرَةٍ، يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَعَلَيْهِ يَا بَنِي آدَمَ «3» وَيُسَمَّى ذَلِكَ أَبًا. قَالَ تَعَالَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ «4» ، وَفِي إِضَافَتِهِمْ إِلَى إِسْرَائِيلَ تَشْرِيفٌ لَهُمْ بِذِكْرِ نِسْبَتِهِمْ لِهَذَا الْأَصْلِ الطَّيِّبِ، وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خليل الرحمن. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اسْمَانِ إِلَّا يَعْقُوبُ، فَإِنَّهُ يَعْقُوبُ، وَهُوَ إِسْرَائِيلُ. وَنَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: أَنَّ الْمَسِيحَ اسْمُ عَلَمٍ لِعِيسَى، لَا اشْتِقَاقَ لَهُ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ خَمْسَةً من الأنبياء ذو واسمين: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم، وَعِيسَى وَالْمَسِيحُ، وَإِسْرَائِيلُ وَيَعْقُوبُ، وَيُونُسُ وَذُو النُّونِ، وَإِلْيَاسُ وَذُو الْكِفْلِ.

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَمَا وَالَاهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَآمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَسْلَافُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُدَمَاؤُهُمْ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ لَا يُقَالُ لَهُ:

وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، إِلَّا عَلَى ضَرْبٍ بَعِيدٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَلِأَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ لَا يُقَالُ لَهُ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، إِلَّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: اذْكُرُوا الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ وَالذِّكْرَ بِالْقَلْبِ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى:

أَمِرُّوا النِّعَمَ عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْهَا، فَإِنَّ إِمْرَارَهَا عَلَى اللِّسَانِ وَمُدَارَسَتَهَا سَبَبٌ فِي أَنْ لَا تُنْسَى. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى: تَنَبَّهُوا لِلنِّعَمِ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْ شُكْرِهَا. وَفِي النِّعْمَةِ الْمَأْمُورِ بِشُكْرِهَا أَوْ بِحِفْظِهَا أَقْوَالٌ: مَا اسْتُودِعُوا مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ وَإِيتَائِهِمُ التَّوْرَاةَ ونحو

(1) سورة الزخرف: 43/ 22 و 23.

(2)

سورة البقرة: 2/ 170.

(3)

سورة الأعراف: 7/ 26 و 27 و 31 و 35.

(4)

سورة الحج: 22/ 78.

ص: 281

ذَلِكَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ، أَوْ إِدْرَاكُهُمْ مُدَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ عِلْمُ التَّوْرَاةِ، أَوْ جَمِيعُ النِّعَمِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ وَعَلَى سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَلَى تَصَارِيفِ الْأَحْوَالِ. وَأَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا اخْتَصَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ النِّعَمِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَنِعَمُ اللَّهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَةٌ: اسْتَنْقَذَهُمْ مِنْ بَلَاءِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ الْمُعَظَّمَةَ، وَظَلَّلَ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ الْغَمَامَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطَاهُمْ عَمُودًا مِنَ النُّورِ لِيُضِيءَ لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لَا تَتَشَعَّثُ، وَثِيَابُهُمْ لَا تَبْلَى. وَإِنَّمَا ذُكِّرُوا بِهَذِهِ النِّعَمِ لِأَنَّ فِي جُمْلَتِهَا مَا شَهِدَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ:

التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ، ولئن يَحْذَرُوا مُخَالَفَةَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ السَّالِفَةِ يُطْمِعُ فِي النِّعَمِ الْخَالِفَةِ، وَذَلِكَ الطَّمَعُ يَمْنَعُ مِنْ إِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ.

وَهَذِهِ النِّعَمُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى آبَائِهِمْ، فَهِيَ أَيْضًا نِعَمٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ حَصَلَ بِهَا النَّسْلُ، وَلِأَنَّ الِانْتِسَابَ إِلَى آبَاءٍ شُرِّفُوا بِنِعَمٍ تَعْظِيمٌ فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ:

عَبِيدُ النِّعَمِ كَثِيرُونَ، وَعَبِيدُ الْمُنْعِمِ قَلِيلُونَ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ذكر المنعم فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «1» ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَفِي قَوْلِهِ: نِعْمَتِيَ، نَوْعُ الْتِفَاتٍ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِنا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ. وَفِي إِضَافَةِ النِّعْمَةِ إِلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِظَمِ قَدْرِهَا وَسَعَةِ بَرِّهَا وَحُسْنِ مَوْقِعِهَا، وَيَجُوزُ فِي الْيَاءِ مِنْ نِعْمَتِي الْإِسْكَانُ وَالْفَتْحُ، وَالْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَتْحِ. وَأَنْعَمْتُ: صِلَةُ الَّتِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: أَنْعَمْتُهَا عَلَيْكُمْ.

وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. الْعَهْدُ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ لُغَةً فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ «2» ، وَيَحْتَمِلُ الْعَهْدُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْمُعَاهِدِ وَإِلَى الْمُعَاهَدِ. وَفِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الْعَهْدَيْنِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرُسُلِهِ، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. الثَّانِي: مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: مَا ذُكِرَ لَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الرَّابِعُ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَعَهْدُهُمْ قَبُولُهَا وَالْمُجَازَاةُ عَلَيْهَا. الْخَامِسُ: تَرْكُ الْكَبَائِرِ وَعَهْدُهُمْ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ. السَّادِسُ: إِصْلَاحُ الدِّينِ وَعَهْدُهُمْ إِصْلَاحُ آخِرَتِهِمْ. السَّابِعُ: مُجَاهَدَةُ النُّفُوسِ وَعَهْدُهُمُ الْمَعُونَةُ عَلَى ذَلِكَ. الثَّامِنُ: إِصْلَاحُ

(1) سورة البقرة: 2/ 152.

(2)

سورة البقرة: 2/ 27.

ص: 282

السَّرَائِرِ وَعَهْدُهُمْ إِصْلَاحُ الظَّوَاهِرِ. التَّاسِعُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ»

، قَالَهُ الْحَسَنُ.

الْعَاشِرُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «2» . الْحَادِي عَشَرَ: الْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَاتِ وَعَهْدُهُمْ إِيصَالُهُمْ إِلَى مَنَازِلِ الرِّعَايَاتِ. الثَّانِي عَشَرَ:

الْإِيمَانُ بِهِ وَطَاعَتُهُ، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الثَّوَابِ عَلَى الْحَسَنَاتِ.

الثَّالِثَ عَشَرَ: حِفْظُ آدَابِ الظَّوَاهِرِ وَعَهْدُهُمْ فِي السَّرَائِرِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: عَهْدُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عليه السلام لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنِّي بَاعِثٌ من بني إسماعيل نَبِيًّا فَمَنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَ بِالنُّورِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ غَفَرْتُ لَهُ وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلْتُ لَهُ أَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ.

الْخَامِسَ عَشَرَ: شَرْطُ الْعُبُودِيَّةِ وَعَهْدُهُمْ شَرْطُ الرُّبُوبِيَّةِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَوْفُوا فِي دَارِ مِحْنَتِي عَلَى بِسَاطِ خِدْمَتِي بِحِفْظِ حُرْمَتِي، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فِي دَارِ نِعْمَتِي عَلَى بِسَاطِ كَرَامَتِي بِقُرْبِي وَرُؤْيَتِي، قَالَهُ الثَّوْرِيُّ. السَّابِعَ عَشَرَ: لَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ أُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ، قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ زِيَادٍ. الثَّامِنَ عَشَرَ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا «3» الْآيَةَ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَعَهْدُهُمْ إِدْخَالُهُمُ الْجَنَّةَ. التَّاسِعَ عَشَرَ: أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَوَصَايَاهُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. الْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي فِي التَّوَكُّلِ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فِي كِفَايَةِ الْمُهِمَّاتِ، قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي فِي حِفْظِ حُدُودِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بِحِفْظِ أَسْرَارِكُمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ غَيْرِي. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ:

عَهْدُهُ حِفْظُ الْمَعْرِفَةِ وَعَهْدُنَا إِيصَالُ الْمَعْرِفَةِ، قاله القشيري. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي الَّذِي قَبِلْتُمْ يَوْمَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ أُوفِ بِعَهْدِكُمُ الَّذِي ضَمِنْتُ لَكُمْ يَوْمَ التَّلَاقِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي اكْتَفُوا مِنِّي بِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أَرْضَ عَنْكُمْ بِكُمْ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الْعَهْدَيْنِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ الْمَعْنَى طَلَبُ الْإِيفَاءِ بِمَا الْتَزَمُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَرْتِيبُ إِنْجَازِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ عَهْدًا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، أَوْ إِبْرَازًا لِمَا تَفَضَّلَ بِهِ تَعَالَى فِي صُورَةِ الْمَشْرُوطِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ فَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى الْإِيفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ «4» ، إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «5» ،

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ لَهُ عَهْدًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» .

وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: أُوَفِّ بِعَهْدِكُمْ مُشَدَّدًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ

(1) سورة البقرة: 2/ 93.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 187.

(3)

سورة المائدة: 5/ 12.

(4)

سورة التوبة: 9/ 111.

(5)

سورة مريم: 19/ 87.

ص: 283

التَّكْثِيرُ، وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّكْثِيرُ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ عَلَى لَفْظِ أُوفِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُبَالِغْ فِي إِيفَائِكُمْ، فَضَمِنَ تَعَالَى إِعْطَاءَ الْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «1» . وَانْجِزَامُ الْمُضَارِعِ بَعْدَ الْأَمْرِ نَحْوَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى شَرْطٍ سَابِقٍ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْأَمْرِ وَهُوَ طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا آخَرَ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فَتَقُولُ: اضْرِبْ زَيْدًا، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّلَبِ بِمَا هُوَ طَلَبُ شَيْءٍ أَصْلًا، لَكِنْ إِذَا لُوحِظَ مَعْنَى شَرْطٍ سَابِقٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْأَمْرِ ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَإِذَا قُلْتَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ضُمِّنَ اضْرِبْ مَعْنَى: إِنْ تَضْرِبْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْأَمْرِ نَابَتْ مَنَابَ الشَّرْطِ، وَمَعْنَى النِّيَابَةِ أَنَّهُ كَانَ التَّقْدِيرُ: اضْرِبْ زَيْدًا، إِنْ تَضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ثُمَّ حُذِفَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَأُنِيبَتْ جُمْلَةُ الْأَمْرِ مَنَابَهَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، بَلْ عَمِلَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى الْجَزْمَ لِتَضَمُّنِ الشَّرْطِ، كَمَا عَمِلَتْ مِنْ الشَّرْطِيَّةِ الْجَزْمَ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى إِنْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عَمِلَتِ الْجَزْمَ لِنِيَابَتِهَا مَنَابَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ، الْعَمَلُ إِنَّمَا هُوَ لِلشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَارِسِيِّ وَالسِّيرَافِيِّ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. إِيَّايَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرًا بَعْدَهُ لِانْفِصَالِ الضَّمِيرِ، وَإِيَّايَ ارْهَبُوا، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ قَبْلَهُ، وَهُمْ مِنَ السَّجَاوِنْدِيِّ، إِذْ قَدَّرَهُ وَارْهَبُوا إِيَّايَ، وَفِي مَجِيئِهِ ضَمِيرُ نَصْبٍ مُنَاسَبَةً لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ أَمْرٌ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَأْكِيدًا، إِذِ الْكَلَامُ مَفْرُوغٌ فِي قَالَبِ جُمْلَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَ ضَمِيرَ رَفْعٍ لَجَازَ، لَكِنْ يَفُوتُ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ.

وَحُذِفَتِ الْيَاءُ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ فَارْهَبُونِ لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ أَوْكَدُ فِي إِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ مِنْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ فِي التَّقْدِيرِ، وَإِيَّاكَ نَعْبُدُ، جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَفَادٌ عِنْدَهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّا لَا نَذْهَبُ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَارْهَبُونِ، دَخَلَتْ فِي جَوَابِ أَمْرٍ مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: تَنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ. وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مَا نَصُّهُ: تَقُولُ: كُلُّ رَجُلٍ يَأْتِيكَ فَاضْرِبْ، لِأَنَّ يَأْتِيكَ صفة هاهنا، كَأَنَّكَ قُلْتَ: كُلُّ رَجُلٍ صَالِحٍ فَاضْرِبْ، انْتَهَى. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: قَوْلُهُ كُلَّ رجل

(1) سورة الأنعام: 6/ 160.

ص: 284

يَأْتِيكَ فَاضْرِبْ، بِمَنْزِلَةِ زَيْدًا فَاضْرِبْ، إِلَّا أَنَّ هُنَا مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَجْلِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْفِعْلِ، فَانْتَصَبَ كُلَّ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ: زَيْدًا فَاضْرِبْ، انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ لِي وجه إلا حسنية الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ خَرُوفٍ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ، أَعْنِي: زَيْدًا فَاضْرِبْ، تَرْكِيبٌ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ «1» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الَّذِي ظَهَرَ فِيهَا بَعْدَ الْبَحْثِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي: زَيْدًا فَاضْرِبْ، تَنَبَّهْ:

فَاضْرِبْ زَيْدًا، ثُمَّ حُذِفَ تَنَبَّهْ فَصَارَ: فَاضْرِبْ زَيْدًا. فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفَاءُ صَدْرًا قَدَّمُوا الِاسْمَ إِصْلَاحًا لِلَّفْظِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ هُنَا لِتَرْبِطَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، انْتَهَى مَا لُخِّصَ مِنْ كَلَامِهِ.

وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَإِيَّايَ ارْهَبُوا، تَنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ، فَتَكُونُ الْفَاءُ دَخَلَتْ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَتْ مُؤَخَّرَةً مِنْ تَقْدِيمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي:

أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَتُنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ، ثُمَّ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ فَانْفَصَلَ، وَأُخِّرَتِ الْفَاءُ حِينَ قُدِّمِ الْمَفْعُولُ وَفِعْلُ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ تَنَبَّهُوا مَحْذُوفٌ، فَالْتَقَى بَعْدَ حَذْفِهِ حَرْفَانِ: الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ وَالْفَاءُ، الَّتِي هِيَ جَوَابُ أَمْرٍ، فَتَصَدَّرَتِ الْفَاءُ، فَقُدِّمَ الْمَفْعُولَ وَأُخِّرَتِ الْفَاءُ إِصْلَاحًا لِلَّفْظِ، ثُمَّ أُعِيدَ الْمَفْعُولُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَلِتَكْمِيلِ الْفَاصِلَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْأَخِيرِ لَا يَكُونُ إِيَّايَ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، بَلْ مَعْمُولًا لِهَذَا الْفِعْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ، وَلَا يَبْعُدُ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ بِالضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، كَمَا أُكِّدَ الْمُتَّصِلُ بِالْمُنْفَصِلِ فِي نَحْوِ: ضَرَبْتُكَ إِيَّاكَ، وَالْمَعْنَى: ارْهَبُونِ أَنْ أُنْزِلَ بِكُمْ مَا أَنْزَلَتُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ النِّقْمَاتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ مِنَ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ مَعْنَى فَارْهَبُونِ: أَنْ لَا تَنْقُضُوا عَهْدِي، وَفِي الْأَمْرِ بِالرَّهْبَةِ وَعِيدٌ بَالِغٌ، وَلَيْسَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ وَالتَّهْوِيلُ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «2» ، تَشْدِيدٌ لِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَطْلُوبٌ، وَاعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ غَيْرُ مَطْلُوبٍ فَافْتَرَقَا. وَقِيلَ: الْخَوْفُ خَوْفَانِ، خَوْفُ الْعُقَابِ، وَهُوَ نَصِيبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَيَزُولُ، وَخَوْفُ جَلَالٍ، وَهُوَ نَصِيبُ أَهْلِ الْقَلْبِ، وَلَا يَزُولُ. وَقَالَ السُّلَمِيُّ: الرَّهْبَةُ: خَشْيَةُ الْقَلْبِ مِنْ رَدِيءِ خَوَاطِرِهِ. وَقَالَ سَهْلٌ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، مَوْضِعُ الْيَقِينِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، مَوْضِعُ الْعِلْمِ السَّابِقِ وَمَوْضِعُ الْمَكْرِ وَالِاسْتِدْرَاجِ.

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَفْرِدُونِي بِالْخَشْيَةِ لِانْفِرَادِي بِالْقُدْرَةِ عَلَى الإيجاد.

(1) سورة الزمر: 39/ 66. [.....]

(2)

سورة فصلت: 41/ 40.

ص: 285

وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ الْمَأْمُورِينَ قَبْلُ هُمْ، وَهَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَظَاهِرُهُ اتِّحَادُ الْمَأْمُورِ. وَقِيلَ: أُنْزِلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ، عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ كَعْبٌ وَمَنْ معه. وما فِي قَوْلِهِ: بِما أَنْزَلْتُ مَوْصُولَةٌ، أَيْ بِالَّذِي أَنْزَلْتُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْزَلْتُهُ، وَشُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، وَالَّذِي أَنْزَلَ تَعَالَى هُوَ الْقُرْآنُ، وَالَّذِي مَعَهُمْ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ بِما أَنْزَلْتُ: مِنْ كِتَابٍ وَرَسُولٍ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَآمِنُوا بِإِنْزَالِي لِمَا مَعَكُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَتَكُونُ اللَّامُ فِي لِمَا مِنْ تَمَامِ الْمَصْدَرِ لَا مِنْ تَمَامِ. مُصَدِّقاً. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ لِما مَعَكُمْ مِنْ تَمَامِ مُصَدِّقاً، وَاللَّامُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فِي لِمَا مُقَوِّيَةٌ لِلتَّعْدِيَةِ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «1» . وَإِعْرَابُ مُصَدِّقًا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ مَا مَصْدَرِيَّةً حَالٌ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: لِما مَعَكُمْ. وَلَا نَقُولُ: يَبْعُدُ ذَلِكَ لِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى ذِي الْحَالِ، لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ مُقَوٍّ لِلتَّعْدِيَةِ، فَهُوَ كَالْحَرْفِ الزَّائِدِ، وَصَارَ نَظِيرَ: زَيْدٌ ضَارِبٌ، مُجَرَّدَةً لِهِنْدٍ، التَّقْدِيرُ: ضَارِبٌ هِنْدًا مُجَرَّدَةً، ثُمَّ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْحَالُ، وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ الْحَالُ الْمُصَدَّرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْعُدُ وَصْفُ الْإِنْزَالِ بِالتَّصْدِيقِ إِلَّا أَنَّ يُتَجَوَّزَ بِهِ، وَيُرَادُ بِهِ الْمُنَزَّلُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ لِمَا مَعَكُمْ مِنْ تَمَامِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُنَزَّلُ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا لِلْمَفْعُولِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُصَدِّقًا حال مِنَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ الْمَحْذُوفِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أَنْزَلْتُ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: بِمَا أَنْزَلْتُ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ أَيْضًا.

وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى نَكِرَةٍ غَيْرِ صِفَةٍ، فَإِنَّهُ يَبْقَى مُفْرَدًا مُذَكَّرًا، وَالنَّكِرَةُ تُطَابِقُ مَا قَبْلَهَا، فَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا كَانَ مُفْرَدًا، وَإِنْ كَانَ تَثْنِيَةً كَانَ تَثْنِيَةً، وَإِنْ كَانَ جَمْعًا كَانَ جَمْعًا، فَتَقُولُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ رَجُلٍ، وَهِنْدٌ أَفْضَلُ امْرَأَةٍ، وَالزَّيْدَانِ أَفْضَلُ رَجُلَيْنِ، وَالزَّيْدُونَ أَفْضَلُ رِجَالٍ. وَلَا تَخْلُو تِلْكَ النَّكِرَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنْ أَنْ تَكُونَ صِفَةً أَوْ غَيْرَ صِفَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صِفَةٍ فَالْمُطَابَقَةُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَجَازَ أَبُو الْعَبَّاسِ:

إِخْوَتُكَ أَفْضَلُ رَجُلٍ، بِالْإِفْرَادِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ. وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ جَمْعٌ جَازَتِ الْمُطَابَقَةُ وَجَازَ الْإِفْرَادُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أنشده الفراء:

(1) سورة هود: 11/ 107.

ص: 286

وَإِذَا هُمْ طَعِمُوا فَأَلْأَمُ طَاعِمٍ

وَإِذَا هُمْ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ

فَأَفْرَدَ بِقَوْلِهِ: طَاعِمٍ، وَجَمَعَ بُقُولِهِ: جِيَاعِ. وَإِذَا أُفْرِدَتِ النَّكِرَةُ الصِّفَةُ، وَقَبْلَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ جَمْعٌ، فَهُوَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مُتَأَوَّلٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقْدِيرُهُ مَنْ طَعِمَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَدَّرُ وَصْفًا لِمُفْرَدٍ يُؤَدِّي مَعْنَى جَمْعٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَلْأَمُ طَاعِمٍ، وَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ، وَقَامَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ، فَيَكُونُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ فِي التَّقْدِيرِ وَفْقَ مَا تَقَدَّمَهُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَكُونُ التَّجَوُّزُ فِي الْجَمْعِ، فَإِذَا قِيلَ مَثَلًا الزَّيْدُونَ أَفْضَلُ عَالِمٍ، فَالْمَعْنَى: كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّيْدِينَ أَفْضَلُ عَالِمٍ. وَهَذِهِ النَّكِرَةُ أَصْلُهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ التَّعْرِيفُ وَالْجَمْعُ، فَاخْتَصَرُوا الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَبِنَاءَ الْجَمْعِ. وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ هُوَ النَّكِرَةُ فِي الْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْتَ: أَبُوكَ أَفْضَلُ عَالِمٍ، فَتَقْدِيرُهُ: عِنْدَهُمْ أَبُوكَ الْأَفْضَلُ الْعَالِمُ، وَأُضِيفَ أَفْضَلُ إِلَى مَا هُوَ هُوَ فِي الْمَعْنَى.

وَجَمِيعُ أَحْكَامِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ تَأَوَّلُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِمَنْ كَفَرَ، أَوْ أَوَّلَ حِزْبٍ كَفَرَ، أَوْ لَا يَكُنْ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَوَّلَ كَافِرٍ. وَالنَّهْيُ عَنْ أَنْ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْكُفْرِ لَهُمْ ثَانِيًا أَوْ آخِرًا، فَمَفْهُومُ الصِّفَةِ هُنَا غَيْرُ مُرَادٍ. وَلَمَّا أُشْكِلَتِ الْأَوَّلِيَّةُ هُنَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَوَّلَ صِلَةٌ يَعْنِي زَائِدَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَكُونُوا كَافِرِينَ بِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا مَعْطُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا آخِرَ كَافِرٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَخَصَّ الْأَوَّلِيَّةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَفْحَشُ، لِمَا فِيهَا مِنَ الِابْتِدَاءِ بِهَا، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

مِنْ أُنَاسٍ لَيْسَ فِي أَخْلَاقِهِمْ

عَاجِلُ الْفُحْشِ وَلَا سُوءُ جَزَعْ

لَا يُرِيدُ أَنَّ فِيهِمْ فُحْشًا آجِلًا، بَلْ أَرَادَ لَا فُحْشَ عِنْدَهُمْ، لَا عَاجِلًا، وَلَا آجِلًا، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَلَا تَكُونُوا مِثْلَ أَوَّلِ كَافِرٍ بِهِ، أَيْ وَلَا تَكُونُوا وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ مَوْصُوفًا مِثْلَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ لَا كِتَابَ لَهُ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى صِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ أَوَّلُ كَافِرٍ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِذْ هُمْ مَنْظُورٌ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا مَظْنُونٌ بِهِمْ عِلْمٌ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى حَذْفِ صِلَةٍ يَصِحُّ بِهَا الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ كُفْرَ قُرَيْشٍ كَانَ مَعَ الْجَهْلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ شَبِيهٌ بِالَّذِي قَبْلَهُ. وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَ صِلَةً غَيْرَ هَذِهِ، أَيْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِكُمْ لِذِكْرِهِ، بَلْ تَثَبَّتُوا فِيهِ وَرَاجِعُوا عُقُولَكُمْ فِيهِ. وَقِيلَ:

ذِكْرُ الْأَوَّلِيَّةِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مُؤْمِنٍ بِهِ، لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ وَبِصِفَتِهِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْمُبَشِّرِينَ بِزَمَانِهِ وَالْمُسْتَفْتِحِينَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، فَلَمَّا بُعِثَ كَانَ أَمْرُهُمْ عَلَى

ص: 287

الْعَكْسِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1» ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَا تَسُنُّوا الْكُفْرَ سُنَّةً، فَإِنَّ وِزْرَ الْمُبْتَدِئِينَ فِيمَا يَسُنُّونَ أَعْظَمُ مِنْ وِزْرِ الْمُقْتَدِينَ فِيمَا يَتَّبِعُونَ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ فِي بِمَا أَنْزَلْتُ، وَهُوَ القرآن، قاله ابن جريج، أَوْ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُنَزَّلِ يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ عَلَى النِّعْمَةِ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ، وَلِذَلِكَ ذَكَّرَ الضَّمِيرَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلَى الْمَوْصُولِ فِي لِمَا مَعَكُمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَفَرُوا بِمَا يُصَدِّقُهُ، فَقَدْ كَفَرُوا بِهِ، وَالْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، وَهُوَ مَنْطُوقٌ بِهِ مَقْصُودٌ لِلْحَدِيثِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ.

وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا. الِاشْتِرَاءُ هُنَا مَجَازٌ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِبْدَالُ، كَمَا قَالَ:

كَمَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا وَقَالَ آخَرُ:

فَإِنِّي شَرَيْتُ الْحُلْمَ بَعْدَكَ بِالْجَهْلِ وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِبْدَالِ، جَازَ أَنْ تَدْخُلَ الْبَاءُ عَلَى الْآيَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى مَا كَانَ ثَمَنًا، لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ حَقِيقَتُهُ أَنْ يُشْتَرَى بِهِ، لَكِنْ لَمَّا دَخَلَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ جَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ يَكُونُ الْمَنْصُوبُ فِيهِ هُوَ الْحَاصِلَ، وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ هُوَ الزَّائِلُ، بِخِلَافِ مَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ قَوْلَكَ: بَدَّلْتُ أَوْ أَبْدَلْتُ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ مَعْنَاهُ: أَخَذْتُ الدِّينَارَ بَدَلًا عَنِ الدِّرْهَمِ، وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: وَلَا تَسْتَبْدِلُوا بِآيَاتِي الْعَظِيمَةِ أَشْيَاءَ حَقِيرَةً خَسِيسَةً. وَلَوْ أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى الثَّمَنِ دُونَ الْآيَاتِ لَانْعَكَسَ هَذَا الْمَعْنَى، إِذْ كَانَ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ هُمْ بَذَلُوا ثَمَنًا قَلِيلًا وَأَخَذُوا الْآيَاتِ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ:

وَدُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الْآيَاتِ كَدُخُولِهَا عَلَى الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَا عَيْنَ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ دَخَلَتِ الْبَاءُ عَلَى الثَّمَنِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. انْتَهَى كَلَامُ الَمَهْدَوِيِّ وَمَعْنَاهُ:

أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَنَانِيرُ وَلَا دَرَاهِمُ فِي الْبَيْعِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَبْذُولِ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا، لَكِنْ يَخْتَلِفُ دُخُولُ الْبَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ نَسَبَ الشِّرَاءَ إِلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمُتَعَاقِدِينَ جَعَلَ مَا حَصَّلَ هُوَ الْمُثَمَّنَ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْبَاءُ، وَجَعْلَ مَا بَذَلَ هُوَ الثَّمَنَ فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءُ، وَنَفْسُ الْآيَاتِ لَا يُشْتَرَى بِهَا، فَاحْتِيجَ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: بِتَعْلِيمِ آيَاتِي، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقِيلَ: بِتَغْيِيرِ آيَاتِي، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: بِكِتْمَانِ آيَاتِي، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، بَلْ كَنَى بِالْآيَاتِ عَنِ الْأَوَامِرِ والنواهي.

(1) سورة البقرة: 2/ 89.

ص: 288

وَعَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَاتُ، مَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ، أَوِ الْقُرْآنِ، أَوْ مَا أَوْضَحَ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، أَوِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَعَلَى الْأَقَاوِيلِ فِي ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ، وَالْقَوْلِ بَعْدَهَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: ثَمَنًا قَلِيلًا. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُضَافَ هُوَ التَّعْلِيمُ، قَالَ:

الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ الْأُجْرَةُ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي شَرِيعَتِهِمْ، أَوِ الرَّاتِبُ الْمُرْصَدُ لَهُمْ عَلَى التَّعْلِيمِ، فَنُهُوا عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ التَّغْيِيرُ، قَالَ الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ الرِّيَاسَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِهِمْ خَافُوا فَوَاتَهَا لَوْ صَارُوا أَتْبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمَنْ جَعَلَ الْآيَاتِ كِنَايَةً عَنِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، جَعَلَ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ هُوَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا الَّتِي اشْتَغَلُوا بِهَا عَنْ إِيقَاعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَوَصَفَ الثَّمَنَ بِالْقَلِيلِ، لِأَنَّ مَا حَصَلَ عِوَضًا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا، وَإِنْ بَلَغَ مَا بَلَغَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «1» ، فَلَيْسَ وَصْفُ الثَّمَنِ بِالْقِلَّةِ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تُخَصِّصُ النَّكِرَاتِ، بَلْ مِنَ الْأَوْصَافِ اللَّازِمَةِ لِلثَّمَنِ الْمُحَصَّلِ بِالْآيَاتِ، إِذْ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَعْطُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ثَمَنًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا عَلَى مَنْعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ وَالْعِلْمِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تَصِحُّ، وَقَدْ صَحَّ

أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَأْخُذُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ:«إِنَّ خَيْرَ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» .

وَقَدْ تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْكَرَاهَةُ، لِكَوْنِ ذَلِكَ عِبَادَةً بَدَنِيَّةً، وَلَا دَلِيلَ لِذَلِكَ الذَّاهِبِ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهَا.

وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ: الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِعْرَابًا، كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَيَقْرُبُ مَعْنَى التَّقْوَى مِنْ مَعْنَى الرَّهْبَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّهْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الِاتِّقَاءُ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجَزْمِ بِحُصُولِ مَا يُتَّقَى مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالرَّهْبَةِ لِأَجْلِ أَنَّ جَوَازَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَى جَوَازِ الْعِقَابِ هُنَاكَ وَتَعْيِينِهِ هُنَا: أَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُجَوِّزُ الْعِقَابَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَرْكُ الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، وَشِرَاءُ الثَّمَنِ الْيَسِيرِ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُحَتِّمُ العقاب وتعينه، إذ

(1) سورة النساء: 4/ 77.

ص: 289

لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ: فَارْهَبُونِ، وَقِيلَ فِي هَذَا: فَاتَّقُونِ، أَيِ اتَّخِذُوا وِقَايَةً مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَمْتَثِلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يُقَيَّدَ ارْهَبُونِ وَاتَقُونِ بِشَيْءٍ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ بِخَوْفِ اللَّهِ وَاتِّقَائِهِ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا سِيقَ الْأَمْرُ عَقِيبَهُ دُخُولًا وَاضِحًا، فَكَانَ الْمَعْنَى: ارْهَبُونِ، إِنْ لَمْ تَذْكُرُوا نِعْمَتِي وَلَمْ تُوفُوا بِعَهْدِي، وَاتَّقَوْنِ، إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ وَإِنِ اشْتَرَيْتُمْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا.

وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ: أَيِ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِالْإِسْلَامِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ التَّوْرَاةَ بِمَا كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ بِمَا بَدَّلُوا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوِ الْأَمَانَةَ بِالْخِيَانَةِ لِأَنَّهُمُ ائْتُمِنُوا عَلَى إِبْدَاءِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، فَخَانُوا فِي ذَلِكَ بِكِتْمَانِهِ وَتَبْدِيلِهِ، أَوِ الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَى غَيْرِهِمْ وَجَحْدِهِمْ أَنَّهُ مَا بُعِثَ إِلَيْهِمْ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ إِيمَانَ مُنَافِقِي الْيَهُودِ بِإِبْطَانِ كُفْرِهِمْ، أَوْ صفة النبي صلى الله عليه وسلم بِصِفَةِ الدَّجَّالِ. وَظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِالْبَاطِلِ لِلْإِلْصَاقِ، كَقَوْلِكَ: خَلَطْتُ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ، فَكَأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ أَنْ يَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فلا يتيمز الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، كَهِيَ فِي كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، قَالَ: كَأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا تَجْعَلُوا الْحَقَّ مُلْتَبِسًا مُشْتَبِهًا بِبَاطِلِكُمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ عَنْ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَصَرْفٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ.

وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ: مَجْزُومٌ عَطْفًا عَلَى تَلْبِسُوا، وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، كَمَا قَالُوا: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، بِالْجَزْمِ نَهْيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، وَجُوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا على إِضْمَارِ أَنْ، وَهُوَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَيُسَمَّى عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ النَّصْبُ عَلَى الصَّرْفِ. وَالْجَرْمِيُّ يَرَى أَنَّ النَّصْبَ بِنَفْسِ الْوَاوِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَمَا جَوَّزُوهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ النَّهْيُ مُنْسَحِبًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، مَعْنَاهُ: النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ بِالْمَفْهُومِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِالْتِبَاسِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ رُجِّحَ الْجَزْمُ.

وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَاتِمِينَ، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُثْبَتَةَ الْمُصَدَّرَةَ بِمُضَارِعٍ، إِذَا وَقَعَتْ حَالًا لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ، وَالتَّقْدِيرُ الْإِعْرَابِيُّ هُوَ أَنْ تُضْمِرَ قَبْلَ

ص: 290

الْمُضَارِعِ هُنَا مُبْتَدَأً تَقْدِيرُهُ: وَأَنْتُمْ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَلَا يَظْهَرُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهُمْ قَدْ نُهُوا عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالْحَالِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْحَالُ لَازِمَةً، وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَقَعُ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ إِلَّا وَيَكُونُ الْحَقُّ مَكْتُومًا، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ نَعَى عَلَيْهِمْ كَتْمَهُمُ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ حَقٌّ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ، عَلَى مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ، وَهُوَ سِيبَوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّنَاسُبُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، وَكِلَا التَّخْرِيجَيْنِ تَخْرِيجُ شُذُوذٍ. وَالْحَقُّ الَّذِي كَتَمُوهُ هُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، أَوِ الْإِسْلَامُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ يَكُونُ الْحَقُّ عَامًّا فَيَنْدَرِجُ فِيهِ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ، وَمَا جَاءَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَكِتْمَانُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيُظْهِرُونَ خِلَافَهُ.

وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ اقْتِصَارًا، إِذِ الْمَقْصُودُ:

وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ، فَلَا يُنَاسِبُ مَنْ كَانَ عَالِمًا أَنْ يَكْتُمَ الْحَقَّ وَيُلْبِسَهُ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ قَدَّرُوا حَذْفَهُ حَذْفَ اخْتِصَارٍ، وَفِيهِ أَقَاوِيلُ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ هُوَ وَصِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ صلى الله عليه وسلم. الثَّانِي: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ. الثَّالِثُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ لِلنَّاسِ قَاطِبَةً. الرَّابِعُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي حَالِ عِلْمِكُمْ أَنَّكُمْ لَابِسُونَ كَاتِمُونَ، فَجَعَلَ مَفْعُولَ الْعِلْمِ اللَّبْسَ وَالْكَتْمَ الْمَفْهُومَيْنِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، قَالَ: وَهُوَ أَقْبَحُ، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْقَبِيحِ رُبَّمَا عُذِرَ رَاكِبُهُ، انْتَهَى. فَكَانَ مَا قَدَّرَهُ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قُبْحَ أَوْ تَحْرِيمَ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَلَمْ يَشْهَدْ تَعَالَى لَهُمْ بِعِلْمٍ، وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ كِتْمَانِ مَا عَلِمُوا، انْتَهَى.

وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّ مَفْعُولَ تَعْلَمُونَ هُوَ الْحَقَّ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَهُ، لِأَنَّ الْمَكْتُومَ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَغَيْرَ حَقٍّ، فَإِذَا كَانَ حَقًّا وَعَلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ، كَانَ كِتْمَانُهُ لَهُ أشد معصية وَأَعْظَمَ ذَنْبًا، لِأَنَّ الْعَاصِيَ عَلَى عِلْمٍ أَعْصَى مِنَ الْجَاهِلِ الْعَاصِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ بِعِلْمِ حَقٍّ مَخْصُوصٍ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُمْ بِعِلْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، قَالَ:

وَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الْجُمْلَةَ تَكُونُ مَعْطُوفَةً، وَإِنْ كَانَتْ ثُبُوتِيَّةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ جُمْلَةِ النَّهْيِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُنَاسِبَةً فِي الْإِخْبَارِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي تَخْرِيجِنَا لِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَتَكْتُمُونَ.

وَالْأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ كَوْنِ الْعِلْمِ حُذِفَ مَفْعُولُهُ حَذْفَ اقْتِصَارٍ،

ص: 291

إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، لَا يَصْلُحُ لَهُ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَلَا كِتْمَانُهُ. وَهَذِهِ الْحَالُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا أَنَّهَا قَيْدٌ فِي النَّهْيِ عَنِ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ، فَلَا تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى جَوَازِ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ حَالَةَ الْجَهْلِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِحَالِ الشَّيْءِ لَا يَدْرِي كَوْنَهُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا: أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْقَبِيحَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا أَفْحَشُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا مَعَ الْجَهْلِ بِهَا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَا تَتَوَهَّمُوا، أَنْ يَلْتَئِمَ لَكُمْ جَمْعُ الضِّدَّيْنِ وَالْكَوْنُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَحَلَّيْنِ، فَإِمَّا مَبْسُوطَةٌ بِحَقٍّ، وَإِمَّا مَرْبُوطَةٌ بِحَطٍّ، وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، تَدْلِيسٌ، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ تَلْبِيسٌ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَقَّ الْحَقِّ تَقْدِيسٌ، انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كِتْمَانُهُ.

وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ «1» ، وَيَعْنِي بِذَلِكَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَزَكَاتَهُمْ، فَقِيلَ: هِيَ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقِيلَ: جِنْسُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. قِيلَ: أَرَادَ الْمَفْرُوضَةَ، وَقِيلَ:

صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ: احْفَظُوا أَدَبَ الْحَضْرَةِ، فَحِفْظُ الْأَدَبِ لِلْخِدْمَةِ مِنَ الْخِدْمَةِ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، زَكَاةَ الْهِمَمِ، كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النِّعَمِ، قَالَ قَائِلُهُمْ:

كُلُّ شَيْءٍ لَهُ زَكَاةٌ تُؤَدَّى

وَزَكَاةُ الْجَمَالِ رَحْمَةُ مِثْلِي.

وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ: خِطَابٌ لِلْيَهُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ: الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الرُّكُوعُ الْمَعْرُوفُ فِي الصَّلَاةِ، وَأُمِرُوا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوعُ مُنْدَرِجًا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي أُمِرُوا بِإِقَامَتِهَا، لِأَنَّهُ رُكُوعٌ فِي صَلَاتِهِمْ، فَنَبَّهَ بِالْأَمْرِ بِهِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ فِي صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: كَنَى بِالرُّكُوعِ عَنِ الصَّلَاةِ: أَيْ وَصَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ، كَمَا يُكْنَى عَنْهَا بِالسَّجْدَةِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِالْجُزْءِ، وَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ مَعَ دَلَالَةٌ عَلَى إِيقَاعِهَا فِي جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِيقَاعُهَا فِي جَمَاعَةٍ.

وَالرَّاكِعُونَ: قِيلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْجِنْسَ مِنَ الرَّاكِعِينَ.

وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَاتٍ بِالْوَاوِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي فِي الْوَضْعِ تَرْتِيبًا ترتيب

(1) سورة التوبة: 9/ 71.

ص: 292