المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 22] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٧

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الإسراء

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 22]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 49]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 69]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 77]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 111]

- ‌سورة الكهف

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 59]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 78]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 110]

- ‌سورة مريم

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 33]

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 98]

- ‌سورة طه

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 41]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 64]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 89]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 90 الى 135]

- ‌سورة الأنبياء

- ‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 50]

- ‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 112]

- ‌سورة الحج

- ‌[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 37]

- ‌[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 78]

- ‌سورة المؤمنون

- ‌[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 77]

- ‌[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 118]

الفصل: ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 22]

[الجزء السابع]

‌سورة الإسراء

[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 22]

بسم الله الرحمن الرحيم

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)

فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)

وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)

مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)

كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)

ص: 5

جَاسَ يَجُوسُ جَوْسًا وَجَوَسَانًا تَرَدَّدَ فِي الْغَارَةِ قَالَهُ اللَّيْثُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَاسُوا فَتَّشُوا هَلْ بَقِيَ مِمَّنْ لَمْ يُقْتَلْ. وَقَالَ الفراء: قيلوا. قَالَ حَسَّانُ:

وَمِنَّا الَّذِي لَاقَى لِسَيْفِ مُحَمَّدٍ

فَجَاسَ بِهِ الْأَعْدَاءُ عَرْضَ الْعَسَاكِرِ

وَقَالَ قُطْرُبٌ: نَزَلُوا، قَالَ الشَّاعِرُ:

فَجُسْنَا دِيَارَهُمْ عَنْوَةً

وَأَبْنَاءُ سَادَاتِهِمْ مُوَثَّقِينَا

وَقِيلَ: دَاسُوا، وَمِنْهُ:

إِلَيْكَ جُسْنَا اللَّيْلَ بِالْمَطِيِّ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْجَوْسُ وَالْحَوْسُ وَالْعَوْسُ وَالْهَوْسُ الطَّوَافُ بِاللَّيْلِ. فَالْجَوْسُ وَالْحَوْسُ طَلَبُ الشَّيْءِ بِاسْتِقْصَاءٍ. حَظَرْتُ الشَّيْءَ مَنَعْتُهُ.

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي

ص: 6

بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً.

سَبَبُ نُزُولِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقُرَيْشٍ الْإِسْرَاءَ بِهِ وَتَكْذِيبُهُمْ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ قَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ بِإِجْمَاعٍ وَقِيلَ: إِلَّا آيَتَيْنِ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ وَقِيلَ: إِلَّا أَرْبَعَ هَاتَانِ وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَقَوْلُهُ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَزَادَ مُقَاتِلٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ الْآيَةَ وَقَالَ قَتَادَةُ إِلَّا ثَمَانِيَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إِلَى آخِرِهِنَّ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ وَنَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ مِنْ مَكْرِهِمْ، وَكَانَ مِنْ مَكْرِهِمْ نِسْبَتُهُ إِلَى الْكَذِبِ والسحر والسعر وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا رَمَوْهُ بِهِ، أَعْقَبَ تَعَالَى ذَلِكَ بِذِكْرِ شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ وَاحْتِفَائِهِ بِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُبْحَانَ فِي الْبَقَرَةِ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ كَعُثْمَانَ لِلرَّجُلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ فِي آخِرِهِ زَائِدَتَيْنِ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ بِالْعَلَمِيَّةِ وَإِضَافَتُهُ لَا تَزِيدُهُ تَعْرِيفًا انْتَهَى. وَيَعْنِيَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُضَفْ كَقَوْلِهِ:

سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ وَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ عَلَمٌ لَنُوِيَ تَنْكِيرُهُ ثُمَّ يُضَافُ وَصَارَ إِذْ ذَاكَ تَعْرِيفُهُ بِالْإِضَافَةِ لَا بِالْعَلَمِيَّةِ.

أَسْرى بِمَعْنَى سَرَى وَلَيْسَتِ الْهَمْزَةُ فيه للتعدية وعدّيا بِالْبَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ، بَلِ الْمَعْنَى جَعَلَهُ يَسْرِي لِأَنَّ السُّرَى يَدُلُّ عَلَى الِانْتِقَالِ كَمَشَى وَجَرَى وَهُوَ مُسْتَحِيلٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ «1» أَيْ لَأَذْهَبَ سَمْعَهُمْ، فَأَسْرَى وَسَرَى عَلَى هَذَا كسقى وأسقى إذا كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ سَرَى بِعَبْدِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ أَسْرى مُعَدَّاةٌ بِالْهَمْزَةِ إِلَى مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَسْرَى الْمَلَائِكَةَ بِعَبْدِهِ لِأَنَّهُ يُقْلِقُ أَنْ يُسْنَدَ أَسْرَى وَهُوَ بِمَعْنَى سَرَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ فِعْلٌ يُعْطِي النُّقْلَةَ كَمَشَى وَجَرَى وَأَحْضَرَ وَانْتَقَلَ، فَلَا يَحْسُنُ إِسْنَادُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَنَحْنُ نَجِدُ مَنْدُوحَةً فَإِذَا صَرَّحَتِ الشَّرِيعَةُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا النَّحْوِ

كقوله في الحديث:

(1) سورة البقرة: 2/ 20.

ص: 7

«أَتَيْتُهُ سَعْيًا وَأَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»

حُمِلَ ذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخَلِّصِ مِنْ نَفْيِ الحوادث، وأَسْرى فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَخْرُجُ فَصِيحَةً كَمَا ذَكَرْنَا وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَجَوُّزِ قَلَقٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَإِنَّهُ أَلْزَمُ لِلنُّقْلَةِ مِنْ أَتَيْتُهُ وَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمُ انْتَهَى. وَإِنَّمَا احْتَاجَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَى اعْتِقَادَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَسْرَى بِمَعْنَى سَرَى لَزِمَ مِنْ كَوْنِ الْبَاءِ لِلتَّعْدِيَةِ مُشَارَكَةُ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ وَهَذَا شَيْءٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ، فَإِذَا قُلْتَ: قُمْتُ بِزَيْدٍ لَزِمَ مِنْهُ قِيَامُكَ وَقِيَامُ زِيدٍ عِنْدَهُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، الْتَبَسَتْ عِنْدَهُ بَاءُ التَّعْدِيَةِ بِبَاءِ الْحَالِ، فَبَاءُ الْحَالِ يَلْزَمُ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ إِذِ الْمَعْنَى قُمْتُ مُلْتَبِسًا بِزَيْدٍ وَبَاءُ التَّعْدِيَةِ مُرَادِفَةٌ لِلْهَمْزَةِ، فَقُمْتُ بِزَيْدٍ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَقَوْلِكَ أَقَمْتُ زَيْدًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِقَامَتِكَهُ أَنْ تَقُومَ أَنْتَ.

قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ أَسْرَى بِمَعْنَى سَرَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «1» يَعْنِي أَنْ يَكُونَ التقدير لسرت مَلَائِكَتُهُ بِعَبْدِهِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُشَارَكَةَ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَأَيْضًا فَمَوَارِدُ الْقُرْآنِ فِي فَأَسْرِ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَوَصْلِهَا يَقْتَضِي أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ «2» وأَنْ أَسْرِ بِعِبادِي «3» قرىء بِالْقَطْعِ وَالْوَصْلِ، وَيَبْعُدُ مَعَ الْقَطْعِ تَقْدِيرُ مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ إِذْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ، فَيُسْتَدَلُّ بِالْمُصَرَّحِ عَلَى الْمَحْذُوفِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِسْرَاءَ كَانَ بِشَخْصِهِ وَلِذَلِكَ كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ بِهِ وَشَنَّعَتْ عَلَيْهِ، وَحِينَ قَصَّ ذلك على أم هانىء قَالَتْ: لَا تُحَدِّثِ النَّاسَ بِهَا فَيُكَذِّبُوكَ وَلَوْ كَانَ مَنَامًا اسْتُنْكِرَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ. وَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ مَرْوِيٌّ فِي الْمَسَانِيدِ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ رَوَاهُ عِشْرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ. قِيلَ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّهُ كَانَ مَنَامًا فَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُمَا، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُشَاهِدَا ذَلِكَ لِصِغَرِ عَائِشَةَ وَكُفْرِ مُعَاوِيَةَ إِذْ ذَاكَ، وَلِأَنَّهُمَا لَمْ يُسْنِدَا ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَا حَدَّثَا بِهِ عَنْهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ كَانَ فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا رَآهَا وَقَوْلُهُ: بِعَبْدِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ الْأَنْصَارِيُّ: لَمَّا وَصَلَ محمد صلى الله عليه وسلم إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الرَّفِيعَةِ فِي الْمَعَارِجِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا محمد بم أُشَرِّفُكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ بِنِسْبَتِي إِلَيْكَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَنْزَلَ فِيهِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ الْآيَةَ

انْتَهَى. وَعَنْهُ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَعَنْهُ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ وَهَذِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَاخْتِصَاصٍ. وقال الشاعر:

(1) سورة البقرة: 2/ 17.

(2)

سورة هود: 11/ 18 وسورة الحجر: 15/ 65.

(3)

سورة طه: 20/ 77 وسورة الشعراء: 26/ 52.

ص: 8

لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا

لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي

وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: لَوْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْمٌ أَشْرَفُ مِنْهُ لَسَمَّاهُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ.

وَانْتَصَبَ لَيْلًا عَلَى الظَّرْفِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّرَى لَا يَكُونُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وَقِيلَ: يَعْنِي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَلَمْ يَكُنْ إِدْلَاجًا وَلَا ادِّلَاجًا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْلًا بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَأَنَّهُ أَسْرَى بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنَّ التَّنْكِيرَ فِيهِ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ مِنَ اللَّيْلِ أَيْ بَعْضِ اللَّيْلِ كَقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ «1» عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ هُوَ الْمَسْجِدُ الْمُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ. وَقِيلَ مِنَ الْحِجْرِ. وَقِيلَ مِنْ بَيْنِ زَمْزَمَ وَالْمَقَامِ. وَقِيلَ مِنْ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ. وَقِيلَ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هانىء. وَقِيلَ مِنْ سَقْفِ بَيْتِهِ عليه السلام، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ أَطْلَقَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَلَى مَكَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِعَامٍ وَنِصْفٍ فِي رَجَبٍ. وَقِيلَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَالرَّسُولُ عليه السلام ابْنُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً وَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ بَعْدَ الْمَبْعَثِ بِسَبْعَةِ أَعْوَامٍ. وَعَنِ الْحَرْبِيِّ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَالْمُتَحَقِّقُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ شَقِّ الصَّحِيفَةِ وَقَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ، وَوَقَعَ لِشَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ ذَلِكَ وَهْمٌ مِنْ شَرِيكٍ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْقَاسِمِ الرُّعَيْنِيُّ فِي تَارِيخِهِ: أُسْرِيَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا فِي بَيْتِ أم هانىء بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَأُسْرِيَ بِهِ وَرَجَعَ مِنْ لَيْلَتِهِ وَقَصَّ الْقِصَّةَ عَلَى أُمِّ هانىء وَقَالَ:«مُثِّلَ لِيَ النَّبِيُّونَ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ» . وَقَامَ لِيَخْرُجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَتَشَبَّثَتْ أُمُّ هانىء بِثَوْبِهِ فَقَالَ: «مَا لَكِ» ؟ قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ يُكَذِّبَكَ قَوْمُكَ إِنْ أَخْبَرْتَهُمْ، قَالَ:«وَإِنْ كَذَّبُونِي» فَخَرَجَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمَّ فَحَدَّثَهُمْ فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَوَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ تَعَجُّبًا وَإِنْكَارًا، وَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَسَعَى رِجَالٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لقد صدق، قالوا:

(1) سورة الإسراء: 17/ 79.

ص: 9

أَتُصَدِّقُهُ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ عَلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، فَسُمِّيَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ سَافَرَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَاسْتَنْعَتُوهُ، فَجُلِّيَ لَهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ فَطَفِقَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَنْعَتُهُ لَهُمْ، فَقَالُوا: أَمَّا النَّعْتُ فَقَدْ أَصَابَ فَقَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا، فَأَخْبَرَهُمْ بِعَدَدِ جِمَالِهَا وَأَحْوَالِهَا وَقَالَ:«تَقْدَمُ يَوْمَ كَذَا مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ» فَخَرَجُوا يَشْتَدُّونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ نَحْوَ الثَّنِيَّةِ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ شَرَقَتْ. وَقَالَ آخَرُ:

وَهَذِهِ وَاللَّهِ الْعِيرُ قَدْ أَقْبَلَتْ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ بَيِّنٌ، وَقَدْ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَكَانَ الْعُرُوجُ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ

، وَأَخْبَرَ قُرَيْشًا أَيْضًا بِمَا رَأَى فِي السَّمَاءِ مِنَ الْعَجَائِبِ، وَأَنَّهُ لَقِيَ الْأَنْبِيَاءَ وَبَلَغَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ وَسِدْرَةَ الْمُنْتَهَى. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أن هَذِهِ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ هِيَ غَيْرُ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ.

والْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَسُمِّيَ الْأَقْصَى لِأَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَقْصَى بُيُوتِ اللَّهِ الْفَاضِلَةِ مِنَ الْكَعْبَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَقْصَى الْبَعِيدَ دُونَ مُفَاضَلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سِوَاهُ، وَيَكُونَ الْمَقْصِدُ إِظْهَارَ الْعَجَبِ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى هَذَا الْبُعْدِ فِي لَيْلَةٍ انْتَهَى. وَلَفْظَةُ: إِلَى تَقْتَضِي أَنَّهُ انْتَهَى الْإِسْرَاءُ بِهِ إِلَى حَدِّ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَلَا يَدُلُّ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ عَلَى دُخُولِهِ.

والَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صِفَةُ مَدْحٍ لِإِزَالَةِ اشْتِرَاطٍ عَارِضٍ وَبَرَكَتُهُ بِمَا خُصَّ بِهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الدِّينِيَّةِ كَالنُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْقُطْرِ وَنَوَاحِيهِ وَنَوَادِيهِ، وَالدُّنْيَاوِيَّةِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَطِيبِ الْأَرْضِ.

وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ تَعَالَى بَارَكَ فِيمَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الْفُرَاتِ وَخَصَّ فِلَسْطِينَ بِالتَّقْدِيسِ» .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِنُرِيَهُ بِالنُّونِ وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ لِيُرِيَهُ بِالْيَاءِ فَيَكُونُ الِالْتِفَاتُ فِي آيَاتِنَا وَهَذِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ وَالْآيَاتُ الَّتِي أُرِيَهَا هِيَ الْعَجَائِبُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّاسَ

وَإِسْرَاؤُهُ مِنْ مَكَّةَ وَعُرُوجُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَوَصْفُهُ الْأَنْبِيَاءَ وَاحِدًا وَاحِدًا حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لِيُرِيَ مُحَمَّدًا لِلنَّاسِ آيَةً، أَيْ يَكُونُ النبي صلى الله عليه وسلم آيَةً فِي أَنْ يَصْنَعَ اللَّهُ بِبَشَرٍ هَذَا الصُّنْعَ فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ عَلَى هَذَا رُؤْيَةَ الْقَلْبِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ مُحَمَّدٍ الْبَصِيرُ بِأَفْعَالِهِ الْعَالِمُ بِتَهْذِيبِهَا

ص: 10

وَخُلُوصِهَا فَيُكْرِمُهُ وَيُقَرِّبُهُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ الْإِسْرَاءِ، فَهِيَ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ بَلِيغَةٌ إِلَى ذَلِكَ أَيْ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُونَ الْبَصِيرُ بِأَفْعَالِكُمُ انْتَهَى.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَشْرِيفَ الرسول صلى الله عليه وسلم بِالْإِسْرَاءِ وَإِرَاءَتَهُ الْآيَاتِ ذَكَرَ تَشْرِيفَ مُوسَى بِإِيتَائِهِ التَّوْرَاةَ وَآتَيْنا مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَاءَتِهِ مِنَ السُّوءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْخَبَرِ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفُ قَوْلِهِ وَآتَيْنَا عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنْ تَقْدِيرِ الْخَبَرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَسْرَيْنَا بِعَبْدِنَا وَأَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا وَآتَيْنَا. وَقَالَ الْعُكْبَرِيُّ وَآتَيْنَا مَعْطُوفٌ عَلَى أَسْرَى انْتَهَى. وَفِيهِ بُعْدٌ والْكِتابَ هُنَا التَّوْرَاةُ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ مِنْ وَجَعَلْنَاهُ عَلَى الْكِتَابِ، ويحتمل أن يعود على مُوسَى، وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً وَلَا نَهْيَ وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً تَعْلِيلًا أَيْ لِأَنْ لَا يَتَّخِذُوا وَلَا نَفْيَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْ زَائِدَةً وَيَكُونَ لَا تَتَّخِذُوا مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ خِلَافًا لِمُجَوِّزِ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَةِ أَنْ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ: يَتَّخِذُوا بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَالْوَكِيلُ فَعِيلٌ مِنَ التَّوَكُّلِ أَيْ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ رَبًّا تَكِلُونَ إِلَيْهِ أُمُورَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَفِيظًا لَكُمْ سِوَايَ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: قِيلَ لِلرَّبِّ وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عِبَادِهِ، لَا عَلَى مَعْنَى ارْتِفَاعِ مَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ وَانْحِطَاطِ أَمْرِ الْوَكِيلِ انْتَهَى. وَانْتَصَبَ ذُرِّيَّةَ عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا ذُرِّيَّةً أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ وَكِيلًا، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِيَتَّخِذُوا ووكيلا وَفِي مَعْنَى الْجَمْعِ أَيْ لَا يَتَّخِذُوا وُكَلَاءَ ذُرِّيَّةً، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ ذُرِّيَّةُ بِالرَّفْعِ وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَتَّخِذُوا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاءَةِ بِالتَّاءِ لِأَنَّكَ لَا تُبْدِلُ مِنْ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ لَوْ قُلْتَ ضَرَبْتُكَ زَيْدًا عَلَى الْبَدَلِ لَمْ يَجُزْ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ إِطْلَاقِ أَنَّكَ لَا تُبْدِلُ مِنْ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي بدل بعض من كل وَبَدَلِ اشْتِمَالٍ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَدَلِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ التَّوْكِيدَ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِكُمْ صَغِيرِكُمْ وَكَبِيرِكُمْ وَإِنْ لَمْ يُفِدِ التَّوْكِيدَ، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ الْمَنْعُ وَمَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ الْجَوَازُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّسْهِيلِ، وَذَكَرَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ تَنْبِيهًا عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي نَجَّاهُمْ بِهَا مِنَ الْغَرَقِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبَانُ بْنُ

ص: 11

عُثْمَانَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ بِكَسْرِ ذَالِ ذِرِّيَّةَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا بِفَتْحِهَا. وَعَنْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ذَرِّيَّةً بِفَتْحِ الذَّالِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى وَزْنِ فَعِلِيَّةٍ كَمَطِيَّةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى نُوحٍ.

قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ شُكْرُهُ إِذَا أَكَلَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا فَرَغَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ إِذَا لَبِسَ ثَوْبًا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَإِذَا نَزَعَهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مُوسَى انْتَهَى. وَنَبَّهَ عَلَى الشُّكْرِ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّوْحِيدَ إِذِ النِّعَمُ الَّتِي يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا هِيَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ كُونُوا مُوَحِّدِينَ شَاكِرِينَ لِنِعَمِ اللَّهِ مُقْتَدِينَ بِنُوحٍ الَّذِي أَنْتُمْ ذُرِّيَّةُ مَنْ حُمِلَ مَعَهُ.

وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً.

قَضَى يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ «1» وَلَمَّا ضُمِّنَ هُنَا مَعْنَى الْإِيحَاءِ أَوِ الْإِنْفَاذِ تَعَدَّى بِإِلَى أَيْ وَأَوْحَيْنَا أَوْ أَنْفَذْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقَضَاءِ الْمَحْتُومِ الْمَبْتُوتِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ أَعْلَمْنَاهُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا قَضَيْنَا عَلَيْهِمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا كَتَبْنَا. وَاللَّامُ فِي لَتُفْسِدُنَّ جَوَابُ قَسَمٍ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفًا وَيَكُونُ مُتَعَلَّقُ الْقَضَاءِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَعُلُوِّهِمْ، ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَحُذِفَ مُتَعَلَّقُ قَضَيْنَا وَأُبْقِيَ مَنْصُوبُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَيْنَا أُجْرِيَ مَجْرَى القسم ولتفسدنّ جَوَابُهُ، كَقَوْلِهِمْ قَضَاءُ اللَّهِ لَأَقُومَنَّ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ جُبَيْرٍ فِي الْكُتُبِ عَلَى الْجَمْعِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِفْرَادِ فَاحْتُمِلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجِنْسَ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ التَّوْرَاةُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لَتُفْسَدُنَّ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ السِّينِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ يُفْسِدُكُمْ غَيْرُكُمْ. فَقِيلَ مِنَ الْإِضْلَالِ. وَقِيلَ مِنَ الْغَلَبَةِ. وَقَرَأَ عِيسَى لَتَفْسُدُنَّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ السِّينِ أَيْ فَسَدْتُمْ بأنفسكم بارتكاب المعاصي

(1) سورة القصص: 28/ 29.

ص: 12

مَرَّتَيْنِ أُولَاهُمَا قَتْلُ زَكَرِيَّاءَ عليه السلام قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ، وَقَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ صِدِّيقَةُ مَلِكُهُمْ تَنَافَسُوا عَلَى الْمُلْكِ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا يَسْمَعُونَ مِنْ زَكَرِيَّا. فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: قُمْ فِي قَوْمِكَ أُوحِ عَلَى لِسَانِكَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ عَدَوْا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ فَانْفَلَقَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فَدَخَلَ فِيهَا، وَأَدْرَكَهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهِ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهَا فَوَضَعُوا الْمِنْشَارَ فِي وَسَطِهَا حَتَّى قَطَعُوهُ فِي وَسَطِهَا.

وَقِيلَ: سَبَبُ قَتْلِ زَكَرِيَّا أَنَّهُمُ اتَّهَمُوهُ بِمَرْيَمَ قِيلَ قَالُوا حِينَ حَمَلَتْ مَرْيَمُ: ضَيَّعَ بِنْتَ سَيِّدِنَا حَتَّى زَنَتْ، فَقَطَعُوهُ بِالْمِنْشَارِ فِي الشَّجَرَةِ.

وقيل شعياء قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَإِنْ كَانَ زَكَرِيَّاءُ مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ يُقْتَلْ وَإِنَّ الَّذِي دَخَلَ الشَّجَرَةَ وَقُطِعَ نِصْفَيْنِ بِالْمِنْشَارِ فِي وَسَطِهَا هُوَ شعياء، وَكَانَ قَبْلَ زَكَرِيَّاءَ وَحُبِسَ أَرْمِيَاءُ حِينَ أَنْذَرَهُمْ سَخَطَ اللَّهِ وَالْآخِرَةَ قَبْلَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ وَقَصْدَ قَتْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَعْلَمَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْهُمْ عِصْيَانٌ وَكُفْرٌ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ وَفِي الْكُتُبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ سَيُرْسِلُ عَلَيْهِمْ أُمَّةً تَغْلِبُهُمْ وَتَقْتُلُهُمْ وَتُذِلُّهُمْ ثُمَّ يَرْحَمُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَجْعَلُ لَهُمُ الْكَرَّةَ وَيَرُدُّهُمْ إِلَى حَالِهِمُ الْأُولَى مِنَ الظُّهُورِ فَتَقَعُ مِنْهُمُ الْمَعَاصِي وَكُفْرُ النِّعَمِ وَالظُّلْمُ وَالْقَتْلُ وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أُمَّةً أُخْرَى تُخَرِّبُ دِيَارَهُمْ وَتَقْتُلُهُمْ وَتُجْلِيهِمْ جَلَاءً مُبَرِّحًا وَدَلَّ الْوُجُودُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ كُلِّهِ، قِيلَ وَكَانَ بَيْنَ آخِرِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِائَتَا سَنَةٍ وَعَشْرُ سِنِينَ مُلْكًا مُؤَيَّدًا ثَابِتًا. وَقِيلَ سَبْعُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ لَتَعْصُنَّ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَلَتَعْلُنَّ أَيْ تَطْغَوْنَ وَتَعْظُمُونَ.

وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عُلِيًّا كَبِيرًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عُلُوًّا وَالصَّحِيحُ فِي فُعُولٍ الْمَصْدَرُ أَكْثَرُ كَقَوْلِهِ: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً «1» بِخِلَافِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ الْإِعْلَالَ فِيهِ هُوَ الْمَقِيسُ وَشَذَّ التَّصْحِيحُ نَحْوُ نَهُوَ وَنُهُوٌّ خِلَافًا لِلفَرَّاءِ إِذْ جَعَلَ ذَلِكَ قِيَاسًا فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أَيْ مَوْعِدُ أُولَاهُمَا لِأَنَّ الْوَعْدَ قَدْ سَبَقَ ذَلِكَ وَالْمَوْعُودُ هُوَ الْعِقَابُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَعْدُ عِقَابِ أُولَاهُمَا. وَقِيلَ: الْوَعْدُ بِمَعْنَى الْوَعِيدِ.

وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْمَوْعِدِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ، وَالضَّمِيرُ فِي أُولَاهُمَا عَائِدٌ عَلَى الْمَرَّتَيْنِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عِباداً وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عَبِيدًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَزَاهُمْ وَقَتَادَةُ جَالُوتُ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ غَزَاهُمْ سَنْجَارِيبُ وَجُنُودُهُ مَلِكُ بَابِلَ. وَقِيلَ بخت نصر، وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ قَبْلُ فِي جَيْشٍ مِنَ الْفُرْسِ وهو حامل يسير في مطبخ

(1) سورة الفرقان: 25/ 21. [.....]

ص: 13

الْمَلِكِ، فَاطَّلَعَ مِنْ جَوْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْفُرْسُ لِأَنَّهُ كَانَ يُدَاخِلُهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الْجَيْشُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلْمَلِكِ الْأَعْظَمِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ جَعَلَهُ الْمَلِكُ رَئِيسَ جَيْشٍ وَبَعَثَهُ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَهُمْ وَجَلَّاهُمْ ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَجَدَ الْمَلِكَ قَدْ مَاتَ فَمَلَكَ مَوْضِعَهُ، وَاسْتَمَرَّتْ حَالُهُ حَتَّى مَلَكَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقِيلَ هُمُ الْعَمَالِقَةُ وَكَانُوا كُفَّارًا. وَقِيلَ: كَانَ الْمَبْعُوثُونَ قَوْمًا مُؤْمِنِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ وَأَمَرَهُمْ بِغَزْوِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْبَعْثُ هُنَا الْإِرْسَالُ وَالتَّسْلِيطُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما فعلوا وَلَمْ نَمْنَعْهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَعَلَا أَسْنَدَ بَعْثَ الْكَفَرَةِ إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «1» وَكَقَوْلِ الدَّاعِي: وَخَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ وَأَسْنَدَ الْجَوْسَ وَهُوَ التَّرَدُّدُ خِلَالَ الدِّيَارِ بِالْفَسَادِ إِلَيْهِمْ، فَتَخْرِيبُ الْمَسْجِدِ وَإِحْرَاقُ التَّوْرَاةِ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوْسِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا فَعَلُوا دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعَثْنا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ تِلْكَ الْأُمَّةِ رَسُولًا بأمره بِغَزْو بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَكُونُ الْبَعْثَةُ بِأَمْرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبَّرَ بِالْبَعْثِ عَمَّا أَلْقَى فِي نَفْسِ الْمَلِكِ أَيْ غَزَاهُمُ انْتَهَى. أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أَيْ قِتَالٍ وَحَرْبٍ شَدِيدٍ لِقُوَّتِهِمْ وَنَجْدَتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَجاسُوا بِالْجِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَطَلْحَةُ فَحَاسُوا بالحاء المهملة. وقرىء فَتَجَوَّسُوا عَلَى وَزْنِ تَكَسَّرُوا بِالْجِيمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ خِلالَ الدِّيارِ وَاحِدًا وَيُجْمَعُ عَلَى خَلَلٍ كَجَبَلٍ وَجِبَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِلَالَ مُفْرَدًا كَالْخَلَلِ وَهُوَ وَسَطُ الدِّيَارِ وَمَا بَيْنَهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْبِعْثَةِ الْأُولَى خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَوَقَعَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَالْجَلَاءُ وَالْأَسْرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ حِينَ غُزُوا جَاسَ الْغَازُونَ خِلَالَ الدِّيَارِ وَلَمْ يَكُنْ قَتْلٌ وَلَا قِتَالٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَانْصَرَفَتْ عَنْهُمُ الْجُيُوشُ. وَالضَّمِيرُ في وَكانَ عائدا عَلَى وَعْدِ أُولَاهُمَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانَ وَعْدُ الْعِقَابِ وَعْدًا لَا بُدَّ أَنْ يُفْعَلَ انْتَهَى. وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى الْجُيُوشِ ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ، وَجَعَلَ رَدَدْنا مَوْضِعَ نَرُدُّ إِذْ وَقَتَ إِخْبَارِهِمْ لَمْ يَقَعِ الْأَمْرُ بَعْدُ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ وَعْدُ اللَّهِ فِي غَايَةِ الثِّقَةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَبَّرَ عَنْ مُسْتَقْبَلِهِ بِالْمَاضِي، وَالْكَرَّةُ الدَّوْلَةُ وَالْغَلَبَةُ عَلَى الَّذِينَ بُعِثُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى تَابُوا وَرَجَعُوا عَنِ الْفَسَادِ مَلَكُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الكرة قبل بخت نصر وَاسْتِبْقَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسْرَاهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَرُجُوعِ الْمُلْكِ إِلَيْهِمْ، وَذُكِرَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ أَنَّ مَلِكًا غَزَا أَهْلَ بابل وكان بخت نصر قَدْ قَتَلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِمَّنْ يقرأ

(1) سورة الأنعام: 6/ 129.

ص: 14

التوراة وبقي بَقِيَّتَهُ عِنْدَهُمْ بِبَابِلَ فِي الدل، فَلَمَّا غَزَاهُمْ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَغَلَبَ عَلَى بَابِلَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَرُدَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَفَعَلَ، وَبَعْدَ مُدَّةٍ قَامَتْ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ فَرَجَعُوا إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانُوا. وَقِيلَ: الْكَرَّةُ تَقْوِيَةُ طَالُوتَ حَتَّى حَارَبَ جَالُوتَ وَنَصْرُ دَاوُدَ عَلَى قَتْلِ جَالُوتَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَكْثَرَ شَرًّا فِي زَمَانِ دَاوُدَ عليه السلام. وَانْتَصَبَ نَفِيراً عَلَى التَّمْيِيزِ. فَقِيلَ: النَّفِيرُ وَالنَّافِرُ وَاحِدٌ وَأَصْلُهُ مِنْ يَنْفِرُ مَعَ الرَّجُلِ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَفْرٍ كَكَلْبٍ وَكَلِيبٍ وَعَبْدٍ وَعَبِيدٍ، وَهُمُ الْمُجْتَمِعُونَ لِلْمَصِيرِ إِلَى الْأَعْدَاءِ. وَقِيلَ: النَّفِيرُ مَصْدَرٌ أَيْ أَكْثَرَ خُرُوجًا إِلَى الْغَزْوِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

فَأَكْرِمْ بِقَحْطَانَ مِنْ وَالِدٍ

وَحِمْيَرُ أَكْرِمْ بِقَوْمٍ نَفِيرًا

وَيُرْوَى بِالْحِمْيَرِيِّينَ أَكْرِمْ نَفِيرًا، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَكْثَرُ نَفِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ، وَأَكْثَرُ نَفِيرًا مِنَ الْأَعْدَاءِ.

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَيْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ كَانَ ثَوَابُ الطَّاعَةِ لِأَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ بِمَعْصِيَتِهِ كَانَ عِقَابُ الْإِسَاءَةِ لِأَنْفُسِكُمْ لَا يَتَعَدَّى الْإِحْسَانُ وَالْإِسَاءَةُ إِلَى غَيْرِكُمْ، وَجَوَابُ وَإِنْ أَسَأْتُمْ قَوْلُهُ: فَلَها عَلَى حَذْفِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَلَهَا خَبَرُهُ تَقْدِيرُهُ فَالْإِسَاءَةُ لَهَا. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ:

جَاءَ فَلَهَا بِاللَّامِ ازْدِوَاجًا انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ قَابَلَ قَوْلَهُ لِأَنْفُسِكُمْ بِقَوْلِهِ فَلَهَا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:

اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى أَيْ فَإِلَيْهَا تَرْجِعُ الْإِسَاءَةُ. وَقِيلَ اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ فَعَلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ:

فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وللقم فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أَيِ الْمَرَّةُ الْآخِرَةِ فِي إِفْسَادِكُمْ وَعُلُوِّكُمْ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ إِذَا الْأُولَى تَقْدِيرُهُ بَعَثْنَاهُمْ عَلَيْكُمْ وَإِفْسَادُهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَتْلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عليهما السلام. وَسَبَبُ قَتْلِهِ فِيمَا

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ مَلِكًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا، فَنَهَاهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا وَكَانَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ حَاجَةٌ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ الْمَلِكِ تَقْضِيهَا، فَأَلْقَتْ أُمُّهَا إِلَيْهَا أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْ ذَبْحِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بِسَبَبِ مَا كَانَ مَنْعُهُ مِنْ تَزَوُّجِ ابْنَتِهَا فَسَأَلَتْهُ ذَلِكَ، فدافعها فألحق عَلَيْهِ فَدَعَا بِطَسْتٍ فَذَبَحَهُ فَنَدَرَتْ قَطْرَةٌ عَلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بعث اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُ نَصَّرَ وَأُلْقِيَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا.

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَبْعُوثُ فِي المرة الآخرة بخت نصر لِأَنَّ قَتْلَ يَحْيَى بَعْدَ رفع عيسى، وبخت نصر كَانَ قَبْلَ عِيسَى بِزَمَنٍ

ص: 15

طَوِيلٍ. وَقِيلَ: الْمَبْعُوثُ عَلَيْهِمُ الْإِسْكَنْدَرُ وَبَيْنَ الْإِسْكَنْدَرِ وَعِيسَى نَحْوُ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ، وَلَكِنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْمَرَّةِ الْأُخْرَى حين قتلوا شعياء فكان بخت نصر إِذْ ذَاكَ حَيًّا فَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُمْ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَاتَّبَعَهُمْ إِلَى مِصْرَ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير أَنَّ الَّذِي غَزَاهُمْ آخِرًا مَلِكٌ اسْمُهُ خَرْدُوسُ وَتَوَلَّى قَتْلَهُمْ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ قَائِدٌ لَهُ فَسَكَنَ الدَّمُ. وَقِيلَ قَتَلَهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ بَنِي إسرائيل يقال له لا حب. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ يَحْيَى قَدْ أُعْطِيَ حُسْنًا وَجَمَالًا فَرَاوَدَتْهُ امْرَأَةُ الْمَلِكِ عَنْ نَفْسِهِ فَأَبَى، فَقَالَتْ لِابْنَتِهَا: سَلِي أَبَاكِ رَأْسَ يَحْيَى فَأَعْطَاهَا مَا سألت.

وقرأ الجمهور لِيَسُوؤُا بِلَامِ كَيْ وَيَاءِ الْغَيْبَةِ وَضَمِيرِ الْجَمْعِ الْغَائِبِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَبْعُوثِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ لِيَسُوءَ بِالْيَاءِ وَهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى الْإِفْرَادِ وَالْفَاعِلُ الْمُضْمَرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى الْوَعْدِ أَوْ عَلَى الْبَعْثِ الدَّالِّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْجَزَاءِ الْمَحْذُوفَةِ.

وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْكِسَائِيُّ لِنَسُوءَ بِالنُّونِ

الَّتِي لِلْعَظَمَةِ وَفِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ لِنَسُوءُنَّ بِلَامِ الْأَمْرِ وَالنُّونِ الَّتِي لِلْعَظَمَةِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ آخِرًا.

وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا لَنَسُوءُنَّ وَلَيَسُوءُنَّ بِالنُّونِ وَالْيَاءِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ وَهِيَ لَامُ الْقَسَمِ

، وَدَخَلَتْ لَامُ الْأَمْرِ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ «1» وَجَوَابُ إِذَا هُوَ الْجُمْلَةُ الْأَمْرِيَّةُ عَلَى تَقْدِيرِ الْفَاءِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ لِيُسِيءَ بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَفِي مُصْحَفِ أَنَسٍ لِيَسُوءَ وَجْهَكُمْ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْوُجُوهِ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّ آثَارَ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ فِي الْقَلْبِ تَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ، فَفِي الْفَرَحِ يَظْهَرُ الْإِسْفَارُ وَالْإِشْرَاقُ، وَفِي الْحُزْنِ يَظْهَرُ الْكُلُوحُ وَالْغَبَرَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْجُمْلَةِ بِالْوَجْهِ فَإِنَّهُمْ سَاءُوهُمْ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالسَّبْيِ فَحَصَلَتِ الْإِسَاءَةُ لِلذَّوَاتِ كُلِّهَا أَوْ عَنْ سَادَاتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ بِالْوُجُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْخِطَابِ يَا وَجْهَ الْعَرَبِ.

وَاللَّامُ فِي وَلِيَدْخُلُوا لَامُ كَيْ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ لَامَ كَيْ، وَمَنْ قَرَأَ بِلَامِ الْأَمْرِ أَوْ بِلَامِ الْقَسَمِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَلِيَدْخُلُوا وَمَا بَعْدَهَا أَمْرًا، وَجَازَ أَنْ تَكُونَ لَامُ كَيْ أَيْ وَبَعَثْنَاهُمْ لِيَدْخُلُوا. والْمَسْجِدَ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَعْنَى كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَيْ بِالسَّيْفِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالْإِذْلَالِ، وَهَذَا يَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أُولَى الْمَرَّتَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَتْلٌ وَلَا قِتَالٌ وَلَا نَهْبٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ. وَلِيُتَبِّرُوا يُهْلِكُوا. وَقَالَ قُطْرُبٌ:

يهدموا. قال الشاعر:

(1) سورة العنكبوت: 29/ 12.

ص: 16

فَمَا النَّاسُ إِلَّا عَامِلَانِ فَعَامِلٌ

يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعُ

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَفْعُولَةٌ بيتبروا أَيْ يُهْلِكُوا مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْطَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا ظَرْفِيَّةٌ أَيْ مُدَّةَ اسْتِيلَائِهِمْ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إِنْ تُبْتُمْ وَانْزَجَرْتُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، وَهَذِهِ التَّرْجِئَةُ لَيْسَتْ لِرُجُوعِ دَوْلَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ تَرَحُّمِ الْمُطِيعِ مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنَ الطَّاعَةِ أَنْ يَتَّبِعُوا عِيسَى وَمُحَمَّدًا عليهما السلام فَلَمْ يَفْعَلُوا. وَإِنْ عُدْتُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ مَرَّةً ثَالِثَةً عُدْنَا إِلَى الْعُقُوبَةِ وَقَدْ عَادُوا فَأَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النِّقْمَةَ بِتَسْلِيطِ الْأَكَاسِرَةِ وَضَرْبِ الْإِتَاوَةِ عَلَيْهِمْ. وَعَنِ الْحَسَنِ عَادُوا فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: ثُمَّ كَانَ آخِرُ ذَلِكَ أَنْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْعَرَبِ فَهُمْ مِنْهُ فِي عَذَابٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ انْتَهَى. وَمَعْنَى عُدْنا أَيْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْعُقُوبَةِ. وَقَالَ تَعَالَى:

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «1» ثُمَّ ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ جَعْلُ جَهَنَّمَ لَهُمْ حَصِيراً وَالْحَصِيرُ السِّجْنُ. قَالَ لَبِيدٌ:

وَمَقَامُهُ غَلَبَ الرِّجَالَ كَأَنَّهُمْ

جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ

وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي فِرَاشًا، وَعَنْهُ أَيْضًا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَصْرِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا حَاصِرَةٌ لَهُمْ مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ، فَحَصِيرٌ مَعْنَاهُ ذَاتُ حَصْرٍ إِذْ لَوْ كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ لَزِمَتْهُ التَّاءُ لِجَرَيَانِهِ عَلَى مُؤَنَّثٍ كَمَا تَقُولُ: رَحِيمَةٌ وَعَلِيمَةٌ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ كَقَوْلِهِ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أَيْ ذَاتُ انْفِطَارٍ.

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.

لما ذكر تعالى من اخْتَصَّهُ بِالْإِسْرَاءِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ آتَاهُ التَّوْرَاةَ وَهُوَ مُوسَى عليه السلام وَأَنَّهَا هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَكَرَ مَا قَضَى عَلَيْهِمْ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيطِ عليهم

(1) سورة 7/ 167.

ص: 17

بِذُنُوبِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ رَادِعًا مَنْ عَقَلَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ فَذَكَرَ مَا شَرَّفَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْقُرْآنِ النَّاسِخِ لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَكُلِّ كِتَابٍ إِلَهِيٍّ، وَأَنَّهُ يَهْدِي لِلطَّرِيقَةِ أَوِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. وَقَالَ الضحاك والكلبي والفراء لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ هِيَ شَهَادَةُ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِلْأَوَامِرِ والنواهي وأَقْوَمُ هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ إِذْ قُدِّرَ أَقْوَمُ الْحَالَاتِ وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ أَقْوَمُ مِمَّا عَدَاهَا أَوْ مِنْ كُلِّ حَالٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ أَقْوَمُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهَا التَّفْضِيلُ إِذْ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُرْشِدُ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ وَطَرِيقَةٍ غَيْرِهَا، وَفُضِّلَتْ هَذِهِ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الْمَعْنَى الَّتِي هِيَ قَيِّمَةٌ أَيْ مُسْتَقِيمَةٌ كَمَا قَالَ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ «1» وفِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ «2» أَيْ مُسْتَقِيمَةُ الطَّرِيقَةِ، قَائِمَةٌ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. وقال الزمخشري: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ لِلْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْحَالَاتِ وَأَشَدُّهَا أَوْ لِلْمِلَّةِ أَوْ لِلطَّرِيقَةِ، وَأَيْنَمَا قَدَّرْتَ لَمْ تَجِدْ مَعَ الْإِثْبَاتِ ذَوْقَ الْبَلَاغَةِ الَّذِي تَجِدُهُ مَعَ الْحَذْفِ لِمَا فِي إِبْهَامِ الْمَوْصُوفِ لِحَذْفِهِ مِنْ فَخَامَةٍ تُفْقَدُ مَعَ إِيضَاحِهِ انْتَهَى.

وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ قَيْدٌ فِي الْإِيمَانِ الْكَامِلِ إِذِ الْعَمَلُ هُوَ كَمَالُ الْإِيمَانِ، نَبَّهَ عَلَى الْحَالَةِ الْكَامِلَةِ لِيَتَحَلَّى بِهَا الْمُؤْمِنُ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُفَرِّطُ فِي عَمَلِهِ لَهُ بِإِيمَانِهِ حَظٌّ فِي عَمَلِ الصَّالِحَاتِ وَالْأَجْرُ الْكَبِيرُ الْجَنَّةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَارَ وَالْكُفَّارَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْفَسَقَةَ؟ قُلْتُ: كَانَ النَّاسُ حِينَئِذٍ إِمَّا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَإِمَّا مُشْرِكٌ، وَإِنَّمَا حَدَثَ أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَهَذَا مُكَابَرَةٌ بَلْ وَقَعَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ هَنَاتٌ وَسَقَطَاتٌ بَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَبَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ.

وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً بُشِّرُوا بِفَوْزِهِمْ بِالْجَنَّةِ وَبِكَيْنُونَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِأَعْدَائِهِمُ الْكُفَّارِ، إِذْ فِي عِلْمِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَتَبْشِيرِهِمْ بِهِ مَسَرَّةٌ لَهُمْ، فَهُمَا بِشَارَتَانِ وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَيُخْبَرَ بِأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ دَاخِلًا تَحْتَ الْبِشَارَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ لَا يُعَدُّ لَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ شَرْطًا فِي نَجَاتِهِ مِنَ الْعَذَابِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيُبَشِّرُ مُشَدَّدًا مُضَارِعُ بَشَّرَ الْمُشَدَّدِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ وَابْنُ

(1) سورة البيّنة: 98/ 5.

(2)

سورة البيّنة: 98/ 3.

ص: 18

وَثَّابٍ وَالْأَخَوَانِ وَيُبَشِّرُ مُضَارِعُ بَشَرَ الْمُخَفَّفِ وَمَعْنَى أَعْتَدْنا أَعْدَدْنَا وَهَيَّأْنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ عَقِبَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ، وَانْدَرَجُوا فِيمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَقُولُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الْجُسْمَانِيِّ وَبَعْضُهُمْ قَالَ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «1» فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالْآخِرَةِ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ بِهَا.

وَيَدْعُ الْإِنْسانُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ ذَامَّةً لِمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنَ الدُّعَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ فِي أَوْقَاتِ الْغَضَبِ وَالضَّجَرِ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ بَعْضَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ كَانَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِتَعْجِيلِ مَا وُعِدَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ فِي الْآخِرَةِ، كَقَوْلِ النَّضْرِ:

فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «2» الْآيَةَ. وَكُتِبَ وَيَدْعُ بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى حَسَبِ السَّمْعِ وَالْإِنْسَانُ هُنَا لَيْسَ وَاحِدًا مُعَيَّنًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي طِبَاعِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ إِذَا ضَجِرَ وَغَضِبَ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ بِالشَّرِّ أَنْ يُصِيبَهُ كَمَا يَدْعُو بِالْخَيْرِ أَنْ يُصِيبَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ تَثَبُّتِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ. وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَشَارَ بِهِ إِلَى آدَمَ لَمَّا نُفِخَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ وَأَبْصَرَ، فَلَمَّا مَشَى الرُّوحُ فِي بَدَنِهِ قَبْلَ سَاقِهِ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَذَهَبَ يَمْشِي مُسْتَعْجِلًا فَلَمْ يَقْدِرْ، أَوِ الْمَعْنَى ذُو عَجَلَةٍ مَوْرُوثَةٍ مِنْ أَبِيكُمُ انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ تَنْبُو عَنْهُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ ذَمٌّ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «3» الْآيَةَ.

وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولُوا: فَاهْدِنَا إِلَيْهِ وَارْحَمْنَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مُعَاتَبَةٌ لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا نَالَهُمْ شَرٌّ وَضُرٌّ دَعَوْا وَأَلَحُّوا فِي الدُّعَاءِ وَاسْتَعْجَلُوا الْفَرَجَ، مِثْلَ الدُّعَاءِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ أَنْ يَدْعُوهُ فِي حَالَةِ الْخَيْرِ انْتَهَى. وَالْبَاءُ في بِالشَّرِّ وبِالْخَيْرِ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى فِي، وَالْمَدْعُوُّ بِهِ لَيْسَ الشَّرَّ وَلَا الْخَيْرَ، وَيُرَادُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ حَالَتَاهُ فِي الشَّرِّ وَالْخَيْرِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ لِلَّهِ والرغبة والذكر، وَيَنْبُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: دُعاءَهُ إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ يَقْتَضِي وُجُودَهُ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ شَبَّهَ دُعاءَهُ فِي حَالَةِ الشَّرِّ بِدُعَاءٍ مَقْصُودٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ فِي حَالَةِ الْخَيْرِ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَيَدْعُ الْإِنْسانُ فِي طَلَبِ الْمُحَرَّمِ كَمَا يَدْعُو فِي طَلَبِ الْمُبَاحِ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْقُرْآنَ وَأَنَّهُ هَادٍ إِلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَكْمُلِ الِانْتِفَاعُ إِلَّا بِهِ، وَمَا دَلَّ عَلَى تَوْحِيدِهِ مِنْ عَجَائِبِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وأَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ عَجَلَةَ الْإِنْسَانِ وَانْتِقَالَهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ هَذَا الْعَالَمِ كَذَلِكَ فِي

(1) سورة البقرة: 2/ 80.

(2)

سورة الأنفال: 8/ 32.

(3)

سورة الأنفال: 8/ 32.

ص: 19

الِانْتِقَالِ لَا يَثْبُتُ عَلَى حَالٍ، فَنُورٌ عَقِبَ ظُلْمَةٍ وبالعكس، وازدياد نور وانتقاص. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لِجَعَلَ بِمَعْنَى صير، وآيَتَيْنِ ثَانِي الْمَفْعُولَيْنِ وَيَكُونَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا آيَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا عَلَامَتَانِ لِلنَّظَرِ وَالْعِبْرَةِ، وَتَكُونُ الْإِضَافَةُ في آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ لِلتَّبْيِينِ كَإِضَافَةِ الْعَدَدِ إِلَى الْمَعْدُودِ، أَيْ فَمَحَوْنا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ، وَجَعَلْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ النار مُبْصِرَةً. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ وَجَعَلْنَا نَيِّرَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيتين، وقدّره بعضهم و: جعلنا ذَوَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَيْ صَاحِبَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يُرَادُ بِهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ آيَتَيْنِ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، واللَّيْلَ وَالنَّهارَ ظَرْفَانِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، أَيْ وَجَعَلْنَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَتَيْنِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَيْسَ جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي حَالَةً تَقَدَّمَتْ نُقِلَ الشَّيْءُ عَنْهَا إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، وَلَا بِمَعْنَى سَمَّى وَحَكَمَ، وَالْآيَةُ فِيهَا إِقْبَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِدْبَارُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يُعْلَمُ، وَنُقْصَانُ أَحَدِهِمَا بِزِيَادَةِ الْآخَرِ، وَضَوْءُ النَّهَارِ وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ إِذَا قُلْنَا أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ هُمَا الْمَجْعُولَانِ آيَتَيْنِ فَمَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِيهِ، بَلْ خُلِقَ أَسْوَدَ أَوَّلَ حَالِهِ وَلَا تَقْتَضِي الْفَاءُ تَعْقِيبًا وَهَذَا كَمَا يَقُولُ بَنَيْتُ دَارِي فَبَدَأْتُ بِالْأُسِّ. وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْآيَتَيْنِ هُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَقِيلَ: مَحْوُ الْقَمَرِ كَوْنُهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ نُورًا. وَقِيلَ: مَحْوُهُ طُلُوعُهُ صَغِيرًا ثُمَّ يَنْمُو ثُمَّ يَنْقُصُ حَتَّى يُسْتَرَ.

وَقِيلَ: مَحْوُهُ نَقْصُهُ عَمَّا كَانَ خُلِقَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِضَاءَةِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ نُورَ الشَّمْسِ سَبْعِينَ جُزْءًا وَنُورَ الْقَمَرِ كَذَلِكَ، فَمَحَا مِنْ نُورِ الْقَمَرِ حَتَّى صَارَ عَلَى جُزْءٍ وَاحِدٍ، وجعل ما محا مِنْهُ زَائِدًا فِي نُورِ الشَّمْسِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ

وَابْنِ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: جَعَلْنَاهَا لَا تُبْصَرُ الْمَرْئِيَّاتُ فِيهَا كَمَا لَا يُبْصَرُ مَا مُحِيَ مِنَ الْكِتَابِ.

قَالَ: وَهَذَا مِنَ الْبَلَاغَةِ الْحَسَنَةِ جِدًّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أَيْ جَعَلْنَا اللَّيْلَ ممحوا لضوء مَطْمُوسَهُ، مُظْلِمًا لَا يُسْتَبَانُ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا لَا يُسْتَبَانُ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَمْحُوِّ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مُبْصِرًا أَيْ يُبْصَرُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ وَتُسْتَبَانُ، أَوْ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ الَّتِي هِيَ الْقَمَرُ حَيْثُ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ فَتُرَى بِهِ الْأَشْيَاءُ رُؤْيَةً بَيِّنَةً، وَجَعَلْنَا الشَّمْسَ ذَاتَ شُعَاعٍ يُبْصَرُ فِي ضَوْئِهَا كُلُّ شَيْءٍ انْتَهَى. وَنُسِبَ الْإِبْصَارُ إِلَى آيَةَ النَّهارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ: لَيْلٌ قَائِمٌ وَنَائِمٌ، أَيْ يُقَامُ فِيهِ وَيُنَامُ فِيهِ. فَالْمَعْنَى يُبْصَرُ فِيهَا.

وَقِيلَ: مَعْنَى مُبْصِرَةً مُضِيئَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ أَفْعَلَ، وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ مَنْ أسند أفعل إليه كقولهم: أَجْبَنَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ أَهْلُهُ جُبَنَاءَ، وَأَضْعَفَ إِذَا كَانَ دَوَابُّهُ ضِعَافًا فَأَبْصَرَتِ

ص: 20

الْآيَةُ إِذَا كَانَ أَصْحَابُهَا بُصَرَاءَ.

وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مُبْصِرَةً بِفَتْحِ الْمِيمِ،

وَالصَّادِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الِاسْمِ، وَكَثُرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي صِفَاتِ الْأَمْكِنَةِ كَقَوْلِهِمْ: أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ وَمَكَانٌ مَضَبَّةٌ، وَعَلَّلَ الْمَحْوَ وَالْإِبْصَارَ بِابْتِغَاءِ الْفَضْلِ وَعِلْمِ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، وَوَلِيَ التَّعْلِيلَ بِالِابْتِغَاءِ مَا وَلِيَهُ مِنْ آيَةِ النَّهَارِ وَتَأَخَّرَ التَّعْلِيلُ بِالْعِلْمِ عَنْ آيَةِ اللَّيْلِ. وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ «1» الْبُدَاءَةُ بِتَعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ تَعْلِيلِ الْمُتَأَخِّرِ بِالْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَهُمَا طَرِيقَانِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا.

وَمَعْنَى لِتَبْتَغُوا لِتَتَوَصَّلُوا إِلَى اسْتِبَانَةِ أَعْمَالِكُمْ وَتَصَرُّفِكُمْ فِي مَعَايِشِكُمْ وَالْحِسابَ لِلشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ آيَةِ اللَّيْلِ لَا مِنْ جِهَةِ آيَةِ النَّهَارِ وَكُلَّ شَيْءٍ مِمَّا تَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ فَصَّلْناهُ بَيَّنَّاهُ تَبْيِينًا غَيْرَ مُلْتَبِسٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَصْبَ وَكُلَّ شَيْءٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَرْجَحَ مِنَ الرَّفْعِ لِسَبْقِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ وَكُلَّ شَيْءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَالْحِسابَ وَالطَّائِرَ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا قُدِّرَ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَخَاطَبَ اللَّهُ الْعَرَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا تَعْرِفُ إِذْ كَانَ مِنْ عَادَتِهَا التَّيَمُّنُ وَالتَّشَاؤُمُ بِالطَّيْرِ فِي كَوْنِهَا سَانِحَةً وَبَارِحَةً وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى فَعَلَتْهُ بِالظِّبَاءِ وَحَيَوَانِ الْفَلَاةِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَطَيُّرًا. وَكَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ الطِّيَرَةَ قَاضِيَةٌ بِمَا يَلْقَى الْإِنْسَانُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَبْلَغِ إِشَارَةٍ أَنَّ جَمِيعَ ما يلقى الإنسان من خَيْرٍ وَشَرٍّ فَقَدْ سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ وَأُلْزِمَ حَظُّهُ وَعَمَلُهُ وَمَكْسَبُهُ فِي عُنُقِهِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْحَظِّ وَالْعَمَلِ إِذْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ بِالطَّائِرِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِحَسَبِ مُعْتَقَدِ الْعَرَبِ فِي التَّطَيُّرِ، وَقَوْلِهِمْ فِي الْأُمُورِ عَلَى الطَّائِرِ الْمَيْمُونِ وَبِأَسْعَدِ طَائِرٍ، وَمِنْهُ مَا طَارَ فِي الْمُحَاصَّةِ وَالسَّهْمِ، وَمِنْهُ فَطَارَ لَنَا مِنَ الْقَادِمِينَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَيْ كَانَ ذَلِكَ حَظَّنَا.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طائِرَهُ عَمَلَهُ، وَعَنِ السُّدِّيِّ كِتَابَهُ الَّذِي يَطِيرُ إِلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: الطَّائِرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَظُّ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْبَخْتَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: يَا ابْنَ آدَمَ بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ إِذَا بُعِثْتَ قُلِّدْتَهَا فِي عُنُقِكَ، وَخُصَّ الْعُنُقُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الزِّينَةِ وَالشَّيْنِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا زَانَهُ كَمَا يُزَيِّنُ الطَّوْقُ وَالْحُلِيُّ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا شَانَهُ كَالْغُلِّ فِي الرَّقَبَةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ طَيْرَهُ. وقرىء: فِي عُنُقِهِ بِسُكُونِ النُّونِ. وقرأ الجمهور ومنهم أبو جعفر:

(1) سورة القصص: 28/ 73.

ص: 21

وَنُخْرِجُ بِنُونٍ مُضَارِعُ أَخْرَجَ. كِتاباً بِالنَّصْبِ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا وَيُخْرَجُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ كِتاباً أَيْ وَيُخْرَجُ الطَّائِرُ كِتَابًا. وَعَنْهُ أَيْضًا كِتَابٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ: وَيَخْرُجُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَيْ طَائِرُهُ كِتَابًا إِلَّا الْحَسَنَ فَقَرَأَ: كِتَابٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ يَخْرُجُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: وَيُخْرِجُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ وَيُخْرِجُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَلْقاهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ يَلْقاهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ.

مَنْشُوراً غَيْرَ مَطْوِيٍّ لِيُمْكِنَهُ قراءته، ويَلْقاهُ ومَنْشُوراً صِفَتَانِ لِكِتَابٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْشُوراً حَالًا مِنْ مَفْعُولِ يَلْقَاهُ اقْرَأْ كِتابَكَ مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يُقَالُ لَهُ:

اقْرَأْ كِتابَكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَقْرَأُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا قَارِئًا. وَقَالَ الزمخشري وغيره. وبِنَفْسِكَ فَاعِلُ كَفى انْتَهَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ لَا اللُّزُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا حُذِفَتِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الِاسْمُ بِكَفَى. قَالَ الشَّاعِرُ:

كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ ناهيا وقال آخر:

وَيُخْبِرُنِي عَنْ غَائِبِ الْمَرْءِ هَدْيُهُ

كَفَى الْهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ الْمَرْءُ مُخْبِرَا

وَقِيلَ: فَاعِلُ كَفى ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، أَيْ كَفَى هُوَ أَيِ الِاكْتِفَاءُ بِنَفْسِكَ. وَقِيلَ:

كَفى اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى اكْتَفِ، وَالْفَاعِلُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْمُخَاطَبِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا تَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً. وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِنَّ بِنَفْسِكَ هُوَ فَاعِلُ كَفى فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَدْخُلَ تَاءُ التَّأْنِيثِ لِتَأْنِيثِ الْفَاعِلُ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ كَفَتْ بِنَفْسِكَ كَمَا تُلْحَقُ مَعَ زِيَادَةِ مِنْ فِي الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ مُؤَنَّثًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها «1» وَقَوْلِهِ: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ «2» وَلَا نَحْفَظُهُ جَاءَ التَّأْنِيثُ فِي كَفَى إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ مُؤَنَّثًا مَجْرُورًا بِالْبَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْسِكَ ذَاتُكَ أَيْ كَفَى بِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُرِيدُ بِنَفْسِهِ جَوَارِحَهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْ مَا أَشَدَّ كِفَايَةَ ما علمت بما علمت. والْيَوْمَ منصوب بكفى وعَلَيْكَ متعلق بحسيبا. وَمَعْنَى حَسِيباً حَاكِمًا عَلَيْكَ بِعَمَلِكَ قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ أَنْصَفَكَ اللَّهُ وَجَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُحَاسِبًا يَعْنِي فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ كَجَلِيسٍ وَخَلِيطٍ. وَقِيلَ: حَاسِبًا كضريب القداح

(1) سورة الأنبياء: 21/ 6.

(2)

سورة الأنعام: 6/ 4.

ص: 22

أَيْ ضَارِبِهَا، وَصَرِيمٍ بِمَعْنَى صَارِمٍ يَعْنِي أَنَّهُ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ كَرَحِيمٍ وَحَفِيظٍ، وَذَكَرَ حَسِيباً لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِيدِ وَالْقَاضِي وَالْأَمِيرِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ يَتَوَلَّاهَا الرجال، وَكَأَنَّهُ قِيلَ:

كَفَى بِنَفْسِكَ رَجُلًا حَسِيبًا. وَقَالَ الْأَنْبَارِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ حَسِيباً وَالنَّفْسُ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّهُ يَعْنِي بِالنَّفْسِ الشَّخْصَ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا عَلَامَةَ لِلتَّأْنِيثِ فِي لَفْظِ النَّفْسِ، فَشُبِّهَتْ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «1» . وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا مَنِ اهْتَدى الْآيَةَ قَالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتِ الْإِشَارَةُ فِي الْهُدَى إِلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ، وَفِي الضَّلَالِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ هَذَا قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ اكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ وَإِثْمُكُمْ عَلَيَّ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا غَيَّا انْتِفَاءَ التَّعْذِيبِ بِبِعْثَةِ الرَّسُولِ عليه السلام، وَالْمَعْنَى حَتَّى يَبْعَثَ رَسُولًا فَيُكَذَّبُ وَلَا يُؤْمَنُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَانْتِفَاءُ التَّعْذِيبِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا بِالْهَلَاكِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ فَهُوَ يَشْمَلُهُمَا، وَيَدُلُّ عَلَى الشُّمُولِ قَوْلُهُ فِي الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذا أَرَدْنا

وَفِي الْآخِرَةِ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً

وَآيٌ كَثِيرَةٌ نُصَّ فِيهَا عَلَى الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ حِينَ كَذَّبَتِ الرُّسُلَ. وَقَوْلُهُ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نذير؟ وقالوا: بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ، وَكُلَّمَا تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ أَزْمَانِ الْإِلْقَاءِ فَتَعُمُّ الْمُلْقَيْنَ.

وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «2» وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذَا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا، أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أُمَّةً بِعَذَابٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ الْحُجَّةُ لَازِمَةٌ لَهُمْ قَبْلَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ لِأَنَّ مَعَهُمْ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ اللَّهُ وَقَدْ أَغْفَلُوا النَّظَرَ وَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ، وَاسْتِيجَابُهُمُ الْعَذَابَ لِإِغْفَالِهِمُ النَّظَرَ فِيمَا مَعَهُمْ رُكُونُهُمْ لِذَلِكَ الْإِغْفَالِ الشَّرَائِعَ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ وَالْعَمَلُ بِهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ. قُلْتُ: بَعْثَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم من جُمْلَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى النَّظَرِ وَالْإِيقَاظِ مِنْ رَقْدَةِ الْغَفْلَةِ لِئَلَّا يَقُولُوا كُنَّا غَافِلِينَ، فَلَوْلَا بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا يُنَبِّهُنَا عَلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْعَقْلِ انْتَهَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى وَمَا كُنَّا مُسْتَأْصِلِينَ فِي الدُّنْيَا لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ حَتَّى

(1) سورة المزمل: 73/ 18.

(2)

سورة فاطر: 35/ 24.

ص: 23

يَبْعَثَ رَسُولًا إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَقَطْعًا لِلْعُذْرِ عَنْهُمْ، كَمَا فَعَلْنَا بِعَادٍ وَثَمُودَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ وَغَيْرِهَا.

وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا.

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ عِلَّةَ إِهْلَاكِهِمْ وَهِيَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّمَادِي عَلَى الْفَسَادِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذا أَرَدْنا

وَقْتَ إِهْلَاكِ قَوْمٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ زَمَانِ إِهْلَاكِهِمْ إِلَّا قَلِيلٌ انْتَهَى. فَتُؤَوَّلُ أَرَدْنا

عَلَى مَعْنَى دَنَا وَقْتُ إِهْلَاكِهِمْ وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَرْنَا، وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ، وَاخْتُلِفَ فِي مُتَعَلَّقِهِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا وَفَسَقُوا. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا وَرَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَقَالَ:

أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَعَلُوا، وَالْأَمْرُ مَجَازٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ بِالْفِسْقِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ افْسُقُوا وَهَذَا لَا يَكُونُ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا، وَوَجْهُ الْمَجَازِ أَنَّهُ صَبَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ صَبًّا فَجَعَلُوهَا ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعَاصِي وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَكَأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ لِتَسَبُّبِ إِيلَاءِ النِّعْمَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا خَوَّلَهُمْ إِيَّاهَا لِيَشْكُرُوا وَيَعْمَلُوا فِيهَا الْخَيْرَ وَيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ كَمَا خَلَقَهُمْ أَصِحَّاءَ أَقْوِيَاءَ وَأَقْدَرَهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ إِيثَارَ الطَّاعَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَآثَرُوا الْفُسُوقَ فَلَمَّا فَسَقُوا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَدَمَّرَهُمْ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا زَعَمْتَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَفَسَقُوا؟ قُلْتُ: لِأَنَّ حَذْفَ مَا لَا دليل عليه غير جائز فَكَيْفَ يُحْذَفُ مَا الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى نَقِيضِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ فَسَقُوا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَفِيضٌ.

يُقَالُ: أَمَرْتُهُ فَقَامَ وَأَمَرْتُهُ فَقَرَأَ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قِيَامٌ أَوْ قِرَاءَةٌ، وَلَوْ ذَهَبْتَ تُقَدِّرُ غَيْرَهُ فَقَدْ رُمْتَ مِنْ مُخَاطِبِكَ عِلْمَ الْغَيْبِ وَلَا يَلْزَمُ هَذَا قَوْلَهُمْ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي أَوْ فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرِي لِأَنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلْأَمْرِ مُنَاقِضٌ لَهُ، وَلَا يَكُونُ مَا يُنَاقِضُ الْأَمْرَ مَأْمُورًا بِهِ، فَكَانَ مُحَالًا أَنْ يُقْصَدَ أَصْلًا حَتَّى يُجْعَلَ دَالًّا عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذَا الْكَلَامِ غَيْرَ مَدْلُولٍ

ص: 24

عَلَيْهِ وَلَا مَنْوِيٍّ، لِأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَنْوِي لِأَمْرِهِ مَأْمُورًا بِهِ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كَانَ مِنِّي أَمْرٌ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ طَاعَةٌ كَمَا أَنَّ مَنْ يَقُولُ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى غَيْرُ قَاصِدٍ إِلَى مَفْعُولٍ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا كَانَ ثُبُوتُ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْقِسْطِ وَالْخَيْرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَمَرْنَاهُمْ بِالْخَيْرِ فَفَسَقُوا

؟ قُلْتُ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَفَسَقُوا

يُدَافِعُهُ فَكَأَنَّكَ أَظْهَرْتَ شَيْئًا وَأَنْتَ تَدَّعِي إِضْمَارَ خِلَافِهِ، فَكَانَ صَرْفُ الْأَمْرِ إِلَى الْمَجَازِ هُوَ الْوَجْهَ. وَنَظِيرُ أَمَرَ شَاءَ فِي أَنَّ مَفْعُولَهُ اسْتَفَاضَ فِيهِ الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ تَقُولُ: لَوْ شَاءَ لَأَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَلَوْ شَاءَ لَأَسَاءَ إِلَيْكَ، تُرِيدُ لَوْ شَاءَ الْإِحْسَانَ وَلَوْ شَاءَ الْإِسَاءَةَ فَلَوْ ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خِلَافَ مَا أَظْهَرْتَ وَقُلْتَ: قَدْ دَلَّتْ حَالُ مَنْ أَسْنَدْتَ إِلَيْهِ الْمَشِيئَةَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِسَاءَةِ فَاتْرُكِ الظَّاهِرَ الْمَنْطُوقَ بِهِ وَأَضْمِرْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حَالُ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَدَادٍ انْتَهَى.

أَمَّا مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمَجَازِ وَهُوَ أَنَّ أَمَرْنا مُتْرَفِيها

صَبَبْنَا عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ صَبًّا فَيَبْعُدُ جِدًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَقْدَرَهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى آخِرِهِ فَمَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ حَذْفَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزِ تَعْلِيلٌ لَا يَصِحُّ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، بَلْ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ. وَقَوْلُهُ فَكَيْفَ يُحْذَفُ مَا الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى نَقِيضِهِ إِلَى قَوْلِهِ عِلْمَ الْغَيْبِ، فَنَقُولُ: حَذْفُ الشَّيْءِ تَارَةً يَكُونُ لِدَلَالَةٍ مُوَافِقَةٍ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا مَثَّلَ بِهِ فِي قَوْلِهِ أَمَرْتُهُ فَقَامَ وَأَمَرْتُهُ فَقَرَأَ، وَتَارَةً يَكُونُ لِدَلَالَةِ خِلَافِهِ أَوْ ضِدِّهِ أَوْ نَقِيضِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» قَالُوا:

تَقْدِيرُهُ مَا سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» قَالُوا: الْحَرَّ وَالْبَرْدَ.

وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا

أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي

أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ

أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي

تَقْدِيرُهُ: أُرِيدُ الْخَيْرَ وَأَجْتَنِبُ الشَّرَّ، وَتَقُولُ: أَمَرْتُهُ فَلَمْ يُحْسِنْ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَمَرْتُهُ بِعَدَمِ الْإِحْسَانِ فَلَمْ يُحْسِنْ، بَلِ الْمَعْنَى أَمَرْتُهُ بِالْإِحْسَانِ فَلَمْ يُحْسِنْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ يُسْتَدَلُّ عَلَى حَذْفِ النَّقِيضِ بِإِثْبَاتِ نَقِيضِهِ، وَدَلَالَةُ النَّقِيضِ عَلَى النَّقِيضِ كَدَلَالَةِ النَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، وَكَذَلِكَ أَمَرْتُهُ فَأَسَاءَ إِلَيَّ الْمَعْنَى أَمَرْتُهُ بِالْإِسَاءَةِ فَأَسَاءَ إِلَيَّ، إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَمَرْتُهُ بِالْإِحْسَانِ فَأَسَاءَ إِلَيَّ. وَقَوْلُهُ وَلَا يَلْزَمُ هَذَا قَوْلَهُمْ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي. نَقُولُ: بَلْ يَلْزَمُ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ

(1) سورة الأنعام: 3/ 13. [.....]

(2)

سورة النحل: 16/ 81.

ص: 25

ذَلِكَ مُنَافٍ أَيْ لِأَنَّ الْعِصْيَانَ مُنَافٍ وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ: فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ غَيْرَ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ وَلَا مَنْوِيٍّ هَذَا لَا يَسْلَمُ بَلْ هُوَ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ وَمَنْوِيٌّ لَا دَلَالَةُ الْمُوَافِقِ بَلْ دَلَالَةُ الْمُنَاقِضِ كَمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَنْوِي لِأَمْرِهِ مَأْمُورًا بِهِ هَذَا أَيْضًا لَا يَسْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي جَوَابِ السُّؤَال لِأَنَّ قَوْلَهُ فَفَسَقُوا

يُدَافِعُهُ، فَكَأَنَّكَ أَظْهَرْتَ شَيْئًا وَأَنْتَ تَدَّعِي إِضْمَارَ خِلَافِهِ. قُلْنَا: نَعَمْ يَدَّعِي إِضْمَارَ خِلَافِهِ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ نَقِيضُهُ. وَقَوْلُهُ: وَنَظِيرُ أَمَرَ شَاءَ فِي أَنَّ مَفْعُولَهُ اسْتَفَاضَ فِيهِ الْحَذْفُ. قُلْتُ: لَيْسَ نَظِيرَهُ لِأَنَّ مَفْعُولَ أَمَرَ لَمْ يَسْتَفِضْ فِيهِ الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ مِثْلُ شَاءَ مَحْذُوفًا مَفْعُولُهُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ مُثْبَتَ الْمَفْعُولِ لِانْتِفَاءِ الدَّلَالَةِ عَلَى حَذْفِهِ. قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ «1» أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «2» أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا «3» قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ «4» أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا «5» أَيْ بِهِ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْفِسْقِ لِأَنَّ الْفِسْقَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَوْنُهُ فِسْقًا يُنَافِي كَوْنَهُ مأمورا به، أَنَّ كَوْنَهُ مَعْصِيَةً يُنَافِي كَوْنَهَا مَأْمُورًا بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَدُلَّ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَيْسَ بِفِسْقٍ. هَذَا الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فَلَا أدري لم أَصَرَّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ عَلَى قَوْلِهِ مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرُوهُ، وَهُوَ أَنْ الْمَعْنَى أَمَرْنَاهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْقَوْمُ خَالَفُوا ذَلِكَ عِنَادًا وَأَقْدَمُوا عَلَى الْفِسْقِ انْتَهَى.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى أَمَرْنا

كَثَّرْنَا أَيْ كَثَّرْنَا مُتْرَفِيها

يُقَالُ: أَمِرَ اللَّهُ الْقَوْمَ أَيْ كَثَّرَهُمْ حَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَمِرَ الْقَوْمُ إِذَا كَثُرُوا وَأَمِرَهُمُ اللَّهُ إِذَا كَثَّرَهُمُ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْجَيِّدُ فِي أَمَرْنَا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كَثَّرْنَا، وَاسْتَدَلَّ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِمَا جَاءَ

فِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ وَمُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ»

أَيْ كَثِيرَةُ النَّسْلِ، يُقَالُ: أَمِرَ اللَّهُ الْمُهْرَةَ أَيْ كَثَّرَ وَلَدَهَا، وَمَنْ أَنْكَرَ أَمِرَ اللَّهُ الْقَوْمَ بِمَعْنَى كَثَّرَهُمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ لُغَةً وَيَكُونُ مِنْ بَابِ مَا لَزِمَ وعدّي بالحركة

(1) سورة الأعراف: 7/ 28.

(2)

سورة يوسف: 12/ 40.

(3)

سورة الطور: 52/ 32.

(4)

سورة الأعراف: 7/ 29.

(5)

سورة الفرقان: 25/ 60.

ص: 26

الْمُخْتَلِفَةِ، إِذْ يُقَالُ: أَمِرَ الْقَوْمُ كَثُرُوا وَأَمِرَهُمُ اللَّهُ كَثَّرَهُمْ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُطَاوَعَةِ أَمِرَهُمُ اللَّهُ فَأَمِرُوا كَقَوْلِكَ شَتَرَ اللَّهُ عَيْنَهُ فَشُتِرَتْ، وَجَدَعَ أَنْفَهُ وَثَلَمَ سِنَّهُ فَثُلِمَتْ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَعِكْرِمَةُ. أَمَرْنا

بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَحَكَاهَا النَّحَّاسُ وَصَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَدَّ الْفَرَّاءُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ إِذْ نُقِلَ أَنَّهَا لُغَةٌ كَفَتْحِ الْمِيمِ وَمَعْنَاهَا كَثَّرْنَا. حَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ يُقَالُ: أَمَرَ اللَّهُ مَالَهُ وَأَمِرَهُ أَيْ كَثَّرَهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا.

وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَسَلَّامٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَالْكَلْبِيُّ: آمَرْنَا بِالْمَدِّ

وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَابْنِ هُرْمُزَ، وَعَاصِمٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَنَافِعٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ يَعْقُوبَ وَمَعْنَاهُ كَثَّرْنَا. يُقَالُ أَمِرَ اللَّهُ الْقَوْمَ وَآمَرَهُمْ فَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ:

أَمَرْنا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْبَاقِرِ

وَعَاصِمٍ وَأَبِي عُمَرَ وَعُدِّيَ أَمَرَ بِالتَّضْعِيفِ، وَالْمَعْنَى أَيْضًا كَثَّرْنَا وَقَدْ يَكُونُ أَمَرْنا

بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى وَلَّيْنَاهُمْ وَصَيَّرْنَاهُمْ أُمَرَاءَ، وَاللَّازِمُ مِنْ ذَلِكَ أُمِّرَ فُلَانٌ إِذَا صَارَ أَمِيرًا أَيْ وَلِيَ الْأَمْرَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا وَجْهَ لِكَوْنِ أَمَرْنا

مِنَ الْإِمَارَةِ لِأَنَّ رِيَاسَتَهُمْ لَا تَكُونُ إِلَّا لِوَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ وَالْإِهْلَاكُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مُدَّةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَمَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمِيرَ هُوَ الْمَلِكُ بَلْ كَوْنُهُ مِمَّنْ يَأْمُرُ وَيُؤْتَمَرُ بِهِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَمِيرًا مَنْ يُؤْتَمَرُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْمَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ إِذَا مُلِّكَ عَلَيْهَا مُتْرَفٌ ثُمَّ فَسَقَ ثُمَّ آخَرُ فَفَسَقَ ثُمَّ كَذَلِكَ كَثُرَ الْفَسَادُ وَتَوَالَى الْكُفْرُ وَنَزَلَ بِهِمْ عَلَى الْآخِرِ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ أَنِّي قرأت وقرىء بِحَضْرَتِي وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها

الْآيَةَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ. فَأَقُولُ فِي النَّوْمِ: مَا أَفْصَحَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَالْقَوْلُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ هُوَ وَعِيدُ اللَّهِ الَّذِي قَالَهُ رَسُولُهُمْ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ

لَأَمْلَأَنَّ وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي.

وَالتَّدْمِيرُ الْإِهْلَاكُ مَعَ طَمْسِ الْأَثَرِ وَهَدْمِ الْبِنَاءِ. وَكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى المفعول بأهلكنا أَيْ كَثِيرًا مِنَ الْقُرُونِ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ بَيَانٌ لِكَمْ وَتَمْيِيزٌ لَهُ كَمَا يُمَيَّزُ الْعَدَدُ بِالْجِنْسِ، وَالْقُرُونُ عَادٌ وَثَمُودُ وَغَيْرُهُمْ وَيَعْنِي بِالْإِهْلَاكِ هُنَا الْإِهْلَاكَ بِالْعَذَابِ، وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ وَقَالَ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ بَعْدِ آدَمَ لِأَنَّ نُوحًا أَوَّلُ نَبِيٍّ بَالَغَ قَوْمُهُ فِي تَكْذِيبِهِ، وَقَوْمُهُ أَوَّلُ مَنْ حَلَّتْ بِهِمُ الْعُقُوبَةُ بِالْعُظْمَى وَهِيَ الِاسْتِئْصَالُ بِالطُّوفَانِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي عُمُرِ القرن ومِنَ الْأُولَى لِلتَّبْيِينِ وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الغاية وتعلقا

ص: 27

بأهلكنا لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ مِنَ الثَّانِيَةُ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْبَاءُ يَعْنِي فِي وَكَفى بِرَبِّكَ إِنَّمَا تَجِيءُ فِي الْأَغْلَبِ فِي مَدْحٍ أَوْ ذم انتهى. وبِذُنُوبِ عِبادِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الذُّنُوبَ هِيَ أَسْبَابُ الْهَلَكَةِ، وخَبِيراً بَصِيراً تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا فَيُعَاقِبُ عَلَيْهَا وَيَتَعَلَّقُ بِذُنُوبِ بِخَبِيرًا أَوْ بِبَصِيرًا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: تَتَعَلَّقُ بِكَفَى انْتَهَى. وَهَذَا وَهْمٌ والْعاجِلَةَ هِيَ الدُّنْيَا وَمَعْنَى إِرَادَتِهَا إيثارها على الآخرة، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُقَابِلُ في قوله: مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَالتَّقْدِيرُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ كَافِرٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ كَالْمُنَافِقِ وَالْمُرَائِي وَالْمُهَاجِرِ لِلدُّنْيَا وَالْمُجَاهِدِ لِلْغَنِيمَةِ وَالذِّكْرِ كَمَا

قَالَ عليه السلام: «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ نَصِيبٍ» .

وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا يَغْزُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِلْغَنِيمَةِ لَا لِلثَّوَابِ، ومَنْ شَرْطٌ وَجَوَابُهُ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ فَقَيَّدَ الْمُعَجَّلَ بِمَشِيئَتِهِ أَيْ مَا يشاء تعجيله. ولِمَنْ نُرِيدُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى مَنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَهِيَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَلَكِنْ جَاءَتِ الضَّمَائِرُ هُنَا عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى الْمَعْنَى، فَقَيَّدَ الْمُعَجَّلَ بِإِرَادَتِهِ فَلَيْسَ مَنْ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ يَحْصُلُ لَهُ مَا يُرِيدُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَخْتَارُونَ الدُّنْيَا وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْهَا إِلَّا مَا قَسَمَهُ الله لهم، وكثيرا مِنْهُمْ يَتَمَنَّوْنَ النَّزْرَ الْيَسِيرَ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ، وَيَجْمَعُ لَهُمْ شَقَاوَةَ الدُّنْيَا وَشَقَاوَةَ الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا نَشاءُ بِالنُّونِ وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مَا يَشَاءُ بِالْيَاءِ. فَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي يَشَاءُ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ فَقِرَاءَةُ النُّونِ وَالْيَاءِ سَوَاءٌ. وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَنِ الْعَائِدِ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ فِي لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَامًّا بَلْ لَا يَكُونُ لَهُ مَا يَشَاءُ إِلَّا آحاد أَرَادَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لِمَنْ نُرِيدُ يُقَدَّرُ مَعَ تَقْدِيرِهِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ لِمَنْ نُرِيدُ تَعْجِيلَهُ لَهُ أَيْ تَعْجِيلَ مَا نَشَاءُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ الْمَعْنَى لِمَنْ نُرِيدُ هَلَكَتَهُ وَمَا قَالَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظٌ فِي الْآيَةِ.

وجَعَلْنا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ جَهَنَّمَ وَالثَّانِي لَهُ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدَ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، فَنَقُولُ: جَهَنَّمُ لِلْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَهَؤُلَاءِ للجنة ويَصْلاها حَالٌ مِنْ جَهَنَّمَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي لَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: مَفْعُولُ

ص: 28

جَعَلْنا الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَصِيرًا أَوْ جَزَاءً انْتَهَى. مَذْمُوماً إِشَارَةٌ إِلَى الْإِهَانَةِ.

مَدْحُوراً إِشَارَةٌ إِلَى الْبُعْدِ وَالطَّرْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أَيْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِأَنْ يُؤْثِرَهَا عَلَى الدُّنْيَا، وَيَعْقِدَ إِرَادَتَهُ بِهَا وَسَعى فِيمَا كُلِّفَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ سَعْيَها أَيِ السَّعْيَ الْمُعَدَّ لِلنَّجَاةِ فِيهَا. وَهُوَ مُؤْمِنٌ هُوَ الشَّرْطُ الْأَعْظَمُ فِي النَّجَاةِ فَلَا تَنْفَعُ إِرَادَةٌ وَلَا سَعْيٌ إِلَّا بِحُصُولِهِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ النَّاشِئُ عَنْهُ إِرَادَةُ الْآخِرَةِ وَالسَّعْيُ لِلنَّجَاةِ فِيهَا وَحُصُولُ الثَّوَابِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ: إِيمَانٌ ثَابِتٌ، وَنِيَّةٌ صَادِقَةٌ، وَعَمَلٌ مُصِيبٌ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَأُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ وَرَاعَى مَعْنَى مَنْ فَلِذَلِكَ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَشْكُرُهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَهُوَ تَعَالَى الْمَشْكُورُ عَلَى مَا أَعْطَى مِنَ الْعَقْلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِيضَاحِ الدَّلَائِلِ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلشُّكْرِ حَقِيقَةً وَمَعْنَى شُكْرِهِ تعالى المطيع الإثناء عَلَيْهِ وَثَوَابُهُ عَلَى طَاعَتِهِ. وانتصب كُلًّا بنمد وَالْإِمْدَادُ الْمُوَاصَلَةُ بِالشَّيْءِ، وَالْمَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نُمِدُّ كَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَعْرَبُوا هؤُلاءِ بَدَلًا مِنْ كُلًّا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ كُلٍّ عَلَى تَقْدِيرِ كُلُّ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ إِذْ ذَاكَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيُرُ كُلُّ الْفَرِيقَيْنِ فَيَكُونُ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِمْدَادَ هُوَ فِي الرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ فِي الدُّنْيَا مُرِيدِي الْعَاجِلَةَ الْكَافِرِينَ، وَمُرِيدِي الْآخِرَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَمُدُّ الْجَمِيعَ بِالرِّزْقِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْآخِرَةِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أَيْ إِنَّ رِزْقَهُ لَا يَضِيقُ عَنْ مُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ مِنَ الطَّاعَاتِ لِمُرِيدِ الْآخِرَةِ وَالْمَعَاصِي لِمُرِيدِ الْعَاجِلَةِ، فَيَكُونُ الْعَطَاءُ عِبَارَةٌ عَمَّا قَسَمَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَيَنْبُو لَفْظُ الْعَطَاءِ عَلَى الْإِمْدَادِ بِالْمَعَاصِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ انْظُرْ بَصَرِيَّةٌ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الدُّنْيَا مُشَاهَدٌ وكَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، لِأَنَّ نَظَرَ يَتَعَدَّى بِهِ، فَانْظُرْ هُنَا مُعَلَّقَةٌ.

وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ مُفْضِيًا وَسَبَبًا إِلَى الْعِلْمِ جَازَ أَنْ يُعَلَّقَ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ انْظُرْ مِنْ نَظَرِ الْفِكْرِ فَلَا كَلَامَ فِي تَعْلِيقِهِ إِذْ هُوَ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ. وَالتَّفْضِيلُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الطَّاعَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ كَأَنَّهُ قِيلَ: انْظُرْ فِي تَفْضِيلِ فَرِيقٍ عَلَى فَرِيقٍ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قِيلَ فِي تَفْضِيلِ شَخْصٍ عَلَى شَخْصٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَالْمَفْضُولُ فِي قَوْلِهِ: أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِنْ دَرَجَاتِ الدُّنْيَا وَمِنْ تَفْضِيلِ الدُّنْيَا.

وَرُوِيَ أَنْ قَوْمًا مِنَ الْأَشْرَافِ وَمَنْ دُونَهُمُ اجْتَمَعُوا بِبَابِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَخَرَجَ

ص: 29

الْإِذْنُ لِبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ فَشَقَّ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ سهيل بن عمر: وَإِنَّمَا أُتِينَا مِنْ قِبَلِنَا إِنَّهُمْ دُعُوا وَدُعِينَا، - يَعْنِي إِلَى الْإِسْلَامِ- فَأَسْرَعُوا وَأَبْطَأْنَا، وَهَذَا بَابُ عُمَرَ فَكَيْفَ التَّفَاوُتُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَئِنْ حَسَدْتُمُوهُمْ عَلَى بَابِ عُمَرَ لَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أكثر. وقرىء أَكْثَرُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: أَكْبَرُ دَرَجاتٍ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ لَكِنَّهُ في المعنى، ولا بد أَكْبَرُ دَرَجاتٍ مِنْ كُلِّ مَا يُضَافُ بِالْوُجُودِ أَوْ بِالْفَرْضِ، وَرَأَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ وَالتَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ فِي ذلك

حديثا «إِنَّ أَنْزَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْفَلَهُمْ دَرَجَةً كَالنَّجْمِ يُرَى فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَقَدْ أَرْضَى اللَّهُ الْجَمِيعَ فَمَا يَغْبِطُ أَحَدٌ أَحَدًا» .

وَالْخِطَابُ فِي لَا تَجْعَلْ لِلسَّامِعِ غَيْرِ الرَّسُولِ.

وَقَالَ الطبري وغيره: الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُرَادُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. فَتَقْعُدَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَوْلِهِمْ شَحَذَ الشَّفْرَةَ حَتَّى قَعَدَتْ كَأَنَّهَا حَرْبَةٌ، بِمَعْنَى صَارَتْ. يَعْنِي فَتَصِيرُ جَامِعًا عَلَى نَفْسِكَ الذَّمَّ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْهَلَاكِ مِنَ الذُّلِّ وَالْخِذْلَانِ وَالْعَجْزِ عَنِ النُّصْرَةِ مِمَّنْ جَعَلْتَهُ شَرِيكًا لَهُ انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنِ اسْتِعْمَالِ فَتَقْعُدَ بِمَعْنَى فَتَصِيرَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَقَعَدَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى صَارَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَثَلِ، وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّهُ يَطَّرِدُ جَعْلُ قَعَدَ بِمَعْنَى صَارَ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَ الرَّاجِزِ:

لَا يُقْنِعُ الْجَارِيَةَ الْخِضَابُ

وَلَا الْوِشَاحَانِ وَلَا الْجِلْبَابُ

مِنْ دُونِ أَنْ تَلْتَقِي الْأَرْكَابُ

وَيَقْعُدَ الْأَيْرُ لَهُ لُعَابُ

وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: قَعَدَ لَا يُسْأَلُ حَاجَةً إِلَّا قضاها بمعنى صار، فالزمخشري أَخَذَ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِ الْفَرَّاءِ، وَالْقُعُودُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمُكْثِ أَيْ فَيَمْكُثُ فِي النَّاسِ مَذْمُوماً مَخْذُولًا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ سَأَلَ عَنْ حَالِ شَخْصٍ هُوَ قَاعِدٌ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، وَمَعْنَاهُ مَاكِثٌ وَمُقِيمٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا أَمْ جَالِسًا، وَقَدْ يُرَادُ الْقُعُودُ حَقِيقَةً لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَذْمُومِ الْمَخْذُولِ أَنْ يَقْعُدَ حَائِرًا مُتَفَكِّرًا، وَعَبَّرَ بِغَالِبِ حَالِهِ وَهِيَ الْقُعُودُ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَتَقْعُدَ فَتَعْجِزَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا أَقْعَدَكَ عَنِ الْمَكَارِمِ والذمّ هنا لا حق مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ ذَوِي الْعُقُولِ فِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ يَجْعَلُ عُودًا أَوْ حَجَرًا أَفْضَلَ مِنْ نَفْسِهِ وَيَخُصُّهُ بِالْكَرَامَةِ وَيَنْسُبُ إِلَيْهِ الْأُلُوهِيَّةَ وَيُشْرِكُهُ مَعَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَالْخِذْلَانُ فِي هَذَا يَكُونُ بِإِسْلَامِ اللَّهِ وَلَا يَكْفُلُ لَهُ بِنَصْرٍ، وَالْمَخْذُولُ الَّذِي لَا يَنْصُرُهُ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَنْصُرَهُ. وَانْتَصَبَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا عَلَى الْحَالِ، وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِتَقْعُدَ كُلًّا لِمُذَكَّرَيْنِ مُثَنًّى مَعْنًى اتِّفَاقًا مُفْرَدًا لَفْظًا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ كَمَعْيٍ فَلَامُهُ أَلْفٌ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، مُثَنًّى لَفْظًا عِنْدَ

ص: 30