الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 89]
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79)
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84)
قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى. قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى.
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فجاؤوا مُصْطَفِّينَ إِلَى مَكَانِ الْمَوْعِدِ، وَبِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَصًا وَحَبْلٌ، وَجَاءَ مُوسَى وَأَخُوهُ وَمَعَهُ عَصَاهُ فَوَقَفُوا وقالُوا: يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَذَكَرُوا الْإِلْقَاءَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ آيَةَ مُوسَى فِي إِلْقَاءِ الْعَصَا. قِيلَ: خَيَّرُوهُ ثِقَةً مِنْهُمْ بِالْغَلَبِ لِمُوسَى، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُقَاوِمُهُمْ فِي السِّحْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا التَّخْيِيرُ مِنْهُمُ اسْتِعْمَالُ أَدَبٍ حَسَنٍ مَعَهُ وَتَوَاضُعٌ لَهُ وَخَفْضُ جَنَاحٍ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى إِعْطَائِهِمُ النَّصَفَةَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ اللَّهُ عز وجل أَلْهَمَهُمْ ذَلِكَ وَعَلَّمَ مُوسَى عليه السلام اخْتِيَارَ إِلْقَائِهِمْ أَوَّلًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْأَدَبِ بِأَدَبٍ حَتَّى يُبْرِزُوا مَا مَعَهُمْ مِنْ مَكَائِدِ السِّحْرِ وَيَسْتَنْفِذُوا أَقْصَى طُرُقِهِمْ وَمَجْهُودِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا أَظْهَرَ اللَّهُ سُلْطَانَهُ وَقَذَفَ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَدَمَغَهُ وَسَلَّطَ الْمُعْجِزَةَ عَلَى السِّحْرِ فَمَحَقَتْهُ، وَكَانَتْ آيَةً بَيِّنَةً لِلنَّاظِرِينَ بَيِّنَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ انْتَهَى. وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَخَطَابَةٌ وَإِنَّ مَا بَعْدَهُ يَنْسَبِكُ بِمَصْدَرٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَخْتَارُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الرَّفْعَ الْأَمْرُ إِلْقَاؤُكَ أَوْ إِلْقَاؤُنَا فَجَعَلَهُ خبر المبتدأ مَحْذُوفٍ، وَاخْتَارَ
أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِلْقَاؤُكَ أَوَّلُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى فَتَحْسُنُ الْمُقَابَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبِ اللَّفْظِيِّ لَمْ تَحْصُلِ الْمُقَابَلَةُ لِأَنَّا قَدَّرْنَا إِلْقَاؤُكَ أَوَّلُ، وَمُقَابَلَةُ كَوْنِهِمْ يَكُونُونَ أَوَّلَ مَنْ يُلْقِي لَكِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إِلْقَاؤُهُمْ أَوَّلَ فَهِيَ مُقَابَلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ. وَفِي تَقْدِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ الْأَمْرُ إِلْقَاؤُكَ لَا مُقَابَلَةَ فِيهِ.
وَقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ النَّصْبَ اخْتَرْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تفسير إعراب، وَتَفْسِيرُ الْإِعْرَابِ إِمَّا نَخْتَارُ أَنْ تُلْقِيَ وَتَقَدَّمَ نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْأَعْرَافِ.
قالَ بَلْ أَلْقُوا لَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْإِلْقَاءِ مِنْ بَابِ تَجْوِيزِ السِّحْرِ وَالْأَمْرِ بِهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي ذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ إِلْقَائِهِمْ وَالْمُعْجِزَةِ، وَتَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى كَشْفِ الشُّبْهَةِ إِذِ الْأَمْرُ مَقْرُونٌ بِشَرْطٍ أَيْ أَلْقُوا إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ لِقَوْلِهِ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ «1» ثُمَّ قَالَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَلْقَوْا فَإِذَا.
قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فَإِذا حِبالُهُمْ الْفَاءُ جَوَابُ مَا حُذِفَ وَتَقْدِيرُهُ فَأَلْقَوْا وَإِذَا فِي هَذَا ظَرْفُ مَكَانٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِ أَلْقَوْا انْتَهَى. فَقَوْلُهُ فَإِذا الْفَاءُ جَوَابُ مَا حُذِفَ وَتَقْدِيرُهُ فَأَلْقَوْا لَيْسَتْ هَذِهِ فَاءَ جَوَابٍ لِأَنَّ فَأَلْقَوْا لَا تُجَابُ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْعَطْفِ عَطَفَتْ جُمْلَةَ الْمُفَاجَأَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ. وَقَوْلُهُ وَإِذَا فِي هَذَا ظَرْفُ مَكَانٍ يَعْنِي أَنَّ إِذَا الَّتِي لِلْمُفَاجَأَةِ ظَرْفُ مَكَانٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَقَوْلِهِ: وَالْعَامِلُ فِيهِ أَلْقَوْا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْفَاءَ تَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ وَلِأَنَّ إِذَا هَذِهِ إِنَّمَا هِيَ مَعْمُولَةٌ لِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ إِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا هِيَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ يُخَيَّلُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِذَا وَيُخَيَّلُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهَذَا نَظِيرُ: خَرَجْتُ فَإِذَا الْأَسَدُ رَابِضٌ وَرَابِضًا فَإِذَا رَفَعْنَا رَابِضًا كَانَتْ إِذَا مَعْمُولَةً، وَالتَّقْدِيرُ فَبِالْحَضْرَةِ الْأَسَدُ رَابِضٌ أَوْ فِي الْمَكَانِ، وَإِذَا نصبتا كَانَتْ إِذَا خَبَرًا وَلِذَلِكَ تَكْتَفِي بِهَا، وَبِالْمَرْفُوعِ بَعْدَهَا كَلَامًا نَحْوِ خَرَجْتُ فَإِذَا الْأَسَدُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ فِي إِذَا هَذِهِ إِذَا الْمُفَاجَأَةُ وَالتَّحْقِيقُ فِيهَا أَنَّهَا إِذَا الْكَائِنَةُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ الطَّالِبَةُ نَاصِبًا لَهَا وَجُمْلَةٌ تُضَافُ إِلَيْهَا خُصَّتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِأَنْ يَكُونَ ناصبها فعلا مخصوصا وهو فِعْلُ الْمُفَاجَأَةِ، وَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ لَا غَيْرُ فَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ فَفَاجَأَ مُوسَى وَقْتَ تَخْيِيلِ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ وَالْمَعْنَى عَلَى مُفَاجَأَتِهِ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ مُخَيِّلَةً إِلَيْهِ السَّعْيَ انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: وَالتَّحْقِيقُ فِيهَا إِذَا كَانَتِ الْكَائِنَةُ بِمَعْنَى
(1) سورة البقرة: 2/ 23 وغيرها.
الْوَقْتِ هَذَا مَذْهَبُ الرِّيَاشِيِّ أَنَّ إِذَا الْفُجَائِيَّةَ ظَرْفُ زَمَانٍ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ، وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهَا حَرْفٌ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ أَيْضًا وَقَوْلُهُ الطَّالِبَةُ نَاصِبًا لَهَا صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ: وَجُمْلَةٌ تُضَافُ إِلَيْهَا هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ وَإِمَّا مَعْمُولَةً لِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ تُضَافَ إِلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ بعض لجملة أَوْ مَعْمُولَةً لِبَعْضِهَا، فَلَا تُمْكِنُ الْإِضَافَةُ. وَقَوْلُهُ خُصَّتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِأَنْ يكون ناصبها فعلا مخصوصا وَهُوَ فِعْلُ الْمُفَاجَأَةِ قَدْ بَيَّنَّا النَّاصِبَ لَهَا، وَقَوْلُهُ وَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ لَا غَيْرُ هَذَا الْحَصْرُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ قَدْ نَصَّ الْأَخْفَشُ فِي الْأَوْسَطِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَصْحُوبَةَ بِقَدْ تَلِيهَا وَهِيَ فِعْلِيَّةٌ تَقُولُ: خَرَجْتُ فَإِذَا قَدْ ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَةَ الِاشْتِغَالِ خَرَجْتُ فَإِذَا زِيدٌ قَدْ ضَرَبَهُ عَمْرٌو، بِرَفْعِ زَيْدٍ وَنَصْبِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَعْنَى عَلَى مُفَاجَأَتِهِ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ مُخَيِّلَةً إِلَيْهِ السَّعْيَ فَهَذَا بِعَكْسِ مَا قُدِّرَ بَلِ الْمَعْنَى عَلَى مُفَاجَأَةِ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ إِيَّاهُ. فَإِذَا قُلْتَ: خَرَجْتُ فَإِذَا السَّبْعُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ فَاجَأَنِي السَّبْعُ وَهَجَمَ ظُهُورُهُ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى عُصِيَّهُمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ حَيْثُ كَانَ وَهُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الْكَسْرَ إِتْبَاعٌ لِحَرَكَةِ الصَّادِ وَحَرَكَةُ الصَّادِ لِأَجْلِ الْيَاءِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ الْحَسَنُ وَعُصْيُهُمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ مَعَ الرَّفْعِ فَهُوَ أَيْضًا جَمْعٌ كَالْعَامَّةِ لَكِنَّهُ عَلَى فُعْلٍ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى وَأَبُو حَيْوَةَ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَرَوْحٌ وَالْوَلِيدَانِ وَابْنُ ذَكْوَانَ تُخَيَّلُ بِالتَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَفِيهِ ضَمِيرُ الحبال والعصي وأَنَّها تَسْعى بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّاكِ تَخَيَّلُ بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ تَتَخَيَّلُ وَفِيهَا أَيْضًا ضمير ما ذكر وأَنَّها تَسْعى بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ لَكِنَّهُ فَاعِلٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّهَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حُبَارَةَ الْهُذَلِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي كِتَابِ الْكَامِلِ مِنْ تَأْلِيفِهِ عَنْ أَبِي السَّمَّاكِ أَنَّهُ قَرَأَ تُخَيَّلُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ الْمَضْمُومَةِ وَكَسْرِ الْيَاءِ وَالضَّمِيرُ فيه فاعل، وأَنَّها تَسْعى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَنَسَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ إِلَى الْحَسَنِ وَالثَّقَفِيِّ يَعْنِي عِيسَى، وَمَنْ بَنَى تُخَيَّلُ لِلْمَفْعُولِ فَالْمُخَيِّلُ لَهُمْ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ لِلْمِحْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَيْمَنَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ نُخَيِّلُ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْيَاءِ، فَالْمُخَيِّلُ لَهُمْ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى مُوسَى لِقَوْلِهِ قَبْلُ قالَ بَلْ أَلْقُوا وَلِقَوْلِهِ بَعْدُ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْقَصَصِ أَنَّ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ كَانَتْ تَتَحَرَّكُ وَتَنْتَقِلُ الِانْتِقَالَ الَّذِي يُشْبِهُ انْتِقَالَ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ السَّعْيَ وَهُوَ وَصْفُ مَنْ يَمْشِي مِنَ الْحَيَوَانِ، فَرُوِيَ أَنَّهُمْ جعلوا في الحبال زِئْبَقًا وَأَلْقَوْهَا
فِي الشَّمْسِ فَأَصَابَ الزِّئْبَقُ حَرَارَةَ الشَّمْسِ فَتَحَرَّكَ فَتَحَرَّكَتِ الْعِصِيُّ وَالْحِبَالُ مَعَهُ. وَقِيلَ:
حَفَرُوا الْأَرْضَ وَجَعَلُوا تَحْتَهَا نَارًا وَكَانَتِ الْعِصِيُّ وَالْحِبَالُ مَمْلُوءَةً بِزِئْبَقٍ، فَلَمَّا أَصَابَتْهَا حَرَارَةُ الْأَرْضِ تَحَرَّكَتْ وَكَانَ هذا من باب الدّرك. وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمْ تَتَحَرَّكْ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ سِحْرِ الْعُيُونِ وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا فَقَالُوا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ «1» فَكَانَ النَّاظِرُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ أَوْجَسَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ ذَلِكَ لِطَبْعِ الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُمْكِنُ الْخُلُوُّ مِنْ مِثْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: كَانَ خَوْفُهُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْتَتِنُوا لِهَوْلِ مَا رَأَى قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، وَالْإِيجَاسُ هُوَ مِنَ الْهَاجِسِ الَّذِي يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَلَيْسَ يتمكن وخِيفَةً أَصْلُهُ خَوْفَةً قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ خَوْفَةً بِفَتْحِ الْخَاءِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ كُسِرَتِ الْخَاءُ لِلتَّنَاسُبِ.
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى تَقْرِيرٌ لِغَلَبَتِهِ وَقَهْرِهِ وَتَوْكِيدٌ بِالِاسْتِئْنَافِ وَبِكَلِمَةِ التَّوْكِيدِ وَبِتَكْرِيرِ الضَّمِيرِ وَبِلَامِ التَّعْرِيفِ، وَبِالْأَعْلَوِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّفْضِيلِ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ لَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ وَأَلْقِ عَصَاكَ لِمَا فِي لَفْظِ الْيَمِينِ مِنْ مَعْنَى الْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ مَا فِي يَمِينِكَ وَلَمْ يَقُلْ عَصَاكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرًا لَهَا أَيْ لَا تُبَالِ بِكَثْرَةِ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ، وَأَلْقِ الْعُوَيْدَ الْفَرْدَ الصَّغِيرَ الْجِرْمِ الَّذِي فِي يَمِينِكَ فَإِنَّهُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ يَتَلَقَّفُهَا عَلَى حِدَّتِهِ وَكَثْرَتِهَا وَصِغَرِهِ وَعِظَمِهَا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لَهَا أَيْ لَا تَحْتَفِلُ بِهَذِهِ الْأَجْرَامِ الْكَبِيرَةِ الْكَثِيرَةِ فَإِنَّ فِي يَمِينِكَ شَيْئًا أَعْظَمَ مِنْهَا كُلِّهَا وَهَذِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا أَقَلُّ شَيْءٍ وَأَنْزَرُهُ عِنْدَهَا، فَأَلْقِهِ تَتَلَقَّفْهَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَمْحَقْهَا انْتَهَى. وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَخِطَابُهُ لَا طَائِلَ فِي ذَلِكَ.
وَفِي قَوْلِهِ تَلْقَفْ جمل عَلَى مَعْنَى مَا لَا عَلَى لَفْظِهَا إِذْ أُطْلِقَتْ مَا عَلَى الْعَصَا وَالْعَصَا مُؤَنَّثَةٌ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَلْقَفْ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مَجْزُومًا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ كَذَلِكَ وَبِرَفْعِ الْفَاءِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُلْقَى. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَفْصٌ وَعِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ تَلْقَفْ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَعَنْ قُنْبُلٍ أَنَّهُ كَانَ يُشَدِّدُ مِنْ تَلَقَّفْ يُرِيدُ يَتَلَقَّفْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَيْدُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ إن صَنَعْتُمْ كَيْدٌ، وَمَعْنَى صَنَعُوا هُنَا زَوَّرُوا وَافْتَعَلُوا كَقَوْلِهِ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ «2» . وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَيْدُ سَحِرٍ بِالنَّصْبِ
(1) سورة الأعراف: 7/ 116.
(2)
سورة الأعراف: 7/ 117.
مَفْعُولًا لِصَنَعُوا وَمَا مُهَيِّئَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو بَحْرِيَّةَ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سِحْرٍ بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ بِمَعْنَى ذِي سِحْرٍ أَوْ ذَوِي سِحْرٍ، أَوْ هُمْ لِتَوَغُّلِهِمْ فِي سِحْرِهِمْ كَأَنَّهُمُ السِّحْرُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِذَاتِهِ، أَوْ بَيِّنُ الْكَيْدِ لِأَنَّهُ يَكُونُ سِحْرًا وَغَيْرَ سِحْرٍ كَمَا تَبِينُ الْمِائَةُ بِدِرْهَمٍ وَنَحْوُهُ عِلْمُ فِقْهٍ وَعِلْمُ نَحْوٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَاحِرٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَحَرَ، وَأُفْرِدَ سَاحِرٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّ فِعْلَ الْجَمِيعِ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنَ السِّحْرِ، وَذَلِكَ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ فَكَأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ سَاحِرٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَى مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ لَا إِلَى مَعْنَى الْعَدَدِ، فَلَوْ جُمِعَ لَخُيِّلَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعَدَدُ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أَيْ هَذَا الْجِنْسُ انْتَهَى.
وَعَرَّفَ فِي قَوْلِهِ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ لِأَنَّهُ عَادَ عَلَى سَاحِرٍ النَّكِرَةِ قَبْلَهُ كَقَوْلِهِ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا نُكِّرَ يَعْنِي أَوَّلًا مِنْ أَجْلِ تَنْكِيرِ الْمُضَافِ لَا مِنْ أَجْلِ تَنْكِيرِهِ فِي نَفْسِهِ كَقَوْلِ الْعَجَّاجِ:
فِي سَعْيِ دُنْيَا طَالَ مَا قَدْ مُدَّتِ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه: لَا فِي أَمْرِ دُنْيَا وَلَا فِي أَمْرِ آخِرَةٍ الْمُرَادُ تَنْكِيرُ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدٌ سِحْرِيٌّ وَفِي سَعْيٍ دُنْيَاوِيٍّ وَأَمْرٍ دُنْيَاوِيٍّ وَأُخْرَاوِيٍّ انْتَهَى. وَقَوْلُ الْعَجَّاجِ: فِي سَعْيِ دُنْيَا، مَحْمُولٌ عَلَى الضَّرُورَةِ إِذْ دُنْيَا تَأْنِيثُ الْأَدْنَى، وَلَا يُسْتَعْمَلُ تَأْنِيثُهُ إِلَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَحْرِيفِ الرُّوَاةِ.
وَمَعْنَى وَلا يُفْلِحُ لَا يَظْفَرُ بِبُغْيَتِهِ حَيْثُ أَتى أَيْ حَيْثُ تَوَجَّهَ وَسَلَكَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مَعْنَاهُ أن الساحر بقتل حيث تقف وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ عُدِمَ الْفَلَاحَ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ أَيْنَ أَتَى وَبَعْدَ هَذَا جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَزَالَ إِيجَاسُ الْخِيفَةِ وَأَلْقَى مَا فِي يَمِينِهِ وَتَلَقَّفَتْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ثُمَّ انْقَلَبَتْ عَصًا، وَفَقَدُوا الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ وَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُعْجِزٌ لَيْسَ فِي طَوْقِ الْبَشَرِ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً وَجَاءَ التَّرْكِيبُ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ وَلَمْ يَأْتِ فَسَجَدُوا كَأَنَّهُ جَاءَهُمْ أَمْرٌ وَأَزْعَجَهُمْ وَأَخَذَهُمْ فَصَنَعَ بِهِمْ ذَلِكَ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ سُرْعَةِ مَا تَأَثَّرُوا لِذَلِكَ الْخَارِقِ الْعَظِيمِ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ وَقَعُوا سَاجِدِينَ. وَقَدَّمَ مُوسَى فِي الْأَعْرَافِ وَأَخَّرَ هَارُونَ
(1) سورة المزمل: 73/ 16.
لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ وَلِكَوْنِ مُوسَى هُوَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ الْعَصَا الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا مَا ظَهَرَ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَأَخَّرَ مُوسَى لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى «1» وأزواجا مِنْ نَبَاتٍ إِذَا كَانَ شَتَّى صِفَةً لِقَوْلِهِ أَزْوَاجًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَقَامَ عَمْرٌو وزيد إذا لو أولا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلَانِ مِنْ قَائِلَيْنِ نَطَقَتْ طَائِفَةٌ بِقَوْلِهِمْ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، وَطَائِفَةٌ بِقَوْلِهِمْ: رَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى وَلَمَّا اشْتَرَكُوا فِي الْمَعْنَى صَحَّ نِسْبَةُ كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِلَى الْجَمِيعِ. وَقِيلَ: قَدَّمَ هارُونَ هُنَا لِأَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْ مُوسى. وَقِيلَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ رَبَّى مُوسَى فبدؤوا بِهَارُونَ لِيَزُولَ تَمْوِيهُ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَبَّى مُوسَى فَيَقُولُ أَنَا رَبَّيْتُهُ. وَقَالُوا: رَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى وَلَمْ يَكْتَفُوا بِقَوْلِهِمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِرَبِّ هَذَيْنِ وَكَانَ فِيمَا قَبْلُ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ آمَنْتُمْ وفي لأقطعن ولأصلبن فِي الْأَعْرَافِ. وَتَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهَا وَجَاءَ هناك آمنتم به وَهُنَا لَهُ، وَآمَنَ يُوصَلُ بِالْبَاءِ إِذَا كَانَ بِاللَّهِ وَبِاللَّامِ لِغَيْرِهِ فِي الْأَكْثَرِ نَحْوَ فَما آمَنَ لِمُوسى «2» لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ «3» وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «4» فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ «5» وَاحْتَمَلَ الضَّمِيرُ فِي بِهِ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُوسَى وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الرَّبِّ، وَأَرَادَ بِالتَّقْطِيعِ وَالتَّصْلِيبِ فِي الْجُذُوعِ التَّمْثِيلَ بِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْجِذْعُ مَقَرًّا لِلْمَصْلُوبِ وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ اشْتِمَالَ الظَّرْفِ عَلَى الْمَظْرُوفِ عدّي الفعل بفي الَّتِي لِلْوِعَاءِ. وَقِيلَ فِي بِمَعْنَى عَلَى. وَقِيلَ: نَقَرَ فِرْعَوْنُ الْخَشَبَ وَصَلَبَهُمْ فِي دَاخِلِهِ فَصَارَ ظَرْفًا لَهُمْ حَقِيقَةً حَتَّى يَمُوتُوا فِيهِ جُوعًا وَعَطَشًا وَمِنْ تَعْدِيَةِ صلب بفي قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَهُمْ صَلَبُوا الْعَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ
…
فَلَا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا
وَفِرْعَوْنُ أَوَّلُ مَنْ صَلَبَ، وَأَقْسَمَ فِرْعَوْنُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ فِعْلُ نَفْسِهِ وَعَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، وَهُوَ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أي أبي وَأَيَّ مَنْ آمَنْتُمْ بِهِ. وقيل: أبي وَأَيَّ مُوسَى، وَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّعْذِيبِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ:
بِدَلِيلِ قَوْلِهِ آمَنْتُمْ لَهُ وَاللَّامُ مَعَ الْإِيمَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ «6» وَفِيهِ نَفَاحَةٌ بِاقْتِدَارِهِ وَقَهْرِهِ وَمَا أَلِفَهُ وَضَرِيَ بِهِ مِنْ تَعْذِيبِ النَّاسِ بأنواع العذاب، وتوضيح لِمُوسَى عليه السلام وَاسْتِضْعَافٍ مَعَ الْهُزْءِ بِهِ انْتَهَى. وهو قول الطبري
(1) سورة طه: 20/ 129.
(2)
سورة يونس: 10/ 83.
(3)
سورة البقرة: 2/ 55.
(4)
سورة يوسف: 12/ 17.
(5)
سورة العنكبوت: 29/ 26.
(6)
سورة التوبة: 9/ 61.
قَالَ: يُرِيدُ نَفْسَهُ وَمُوسَى عليه السلام، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَذْهَبُ مَعَ مَخْرَقَةِ فِرْعَوْنَ وَلَتَعْلَمُنَّ هنا معلق وأَيُّنا أَشَدُّ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِقَوْلِهِ وَلَتَعْلَمُنَّ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ أَوْ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِنْ كان لَتَعْلَمُنَّ مُعَدًّى تَعْدِيَةَ عَرَفَ، وَيَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ أَيُّنا مفعولا لَتَعْلَمُنَّ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِ سيبويه وأَشَدُّ خبر مبتدأ محذوف، وأَيُّنا مَوْصُولَةٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا صِلَةٌ والتقدير ولَتَعْلَمُنَّ مَنْ هُوَ أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى.
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ أَيْ لَنْ نَخْتَارَ اتِّبَاعَكَ وَكَوْنَنَا مِنْ حِزْبِكَ وَسَلَامَتَنَا مِنْ عَذَابِكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي أَتَتْنَا وَعَلِمْنَا صِحَّتَهَا. وَفِي قَوْلِهِمْ هَذَا تَوْهِينٌ لَهُ وَاسْتِصْغَارٌ لَمَّا هَدَّدَهُمْ بِهِ وَعَدَمُ اكْتِرَاثٍ بِقَوْلِهِ. وَفِي نِسْبَةِ الْمَجِيءِ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَاتُ جَاءَتْ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِالسِّحْرِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيْسَ بِسِحْرٍ فَكَانُوا عَلَى جَلِيَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ بِالْمُعْجِزِ، وَغَيْرُهُمْ يُقَلِّدُهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَيْضًا فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ النَّفْعُ بِهَا فَكَانَتْ بَيِّنَاتٍ وَاضِحَةً فِي حَقِّهِمْ.
وَالْوَاوُ فِي وَالَّذِي فَطَرَنا وَاوُ عَطْفٍ عَلَى مَا جاءَنا أَيْ وعلى الَّذِي فَطَرَنا لَمَّا لَاحَتْ لَهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ فِي الْمُعْجِزَةِ بدؤوا بِهَا ثُمَّ تَرَقَّوْا إِلَى الْقَادِرِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرُوا وَصْفَ الِاخْتِرَاعِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ الَّذِي فَطَرَنا تَبْيِينًا لِعَجْزِ فِرْعَوْنَ وَتَكْذِيبِهِ فِي ادِّعَاءِ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَاهِيَّتِهِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ صَرْفِ ذُبَابَةٍ فَضْلًا عَنِ اخْتِرَاعِهَا. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْقَسَمِ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، وَلَا يَكُونُ لَنْ نُؤْثِرَكَ جَوَابًا لِأَنَّهُ لَا يُجَابُ فِي النَّفْيِ بلن إِلَّا فِي شَاذٍّ مِنَ الشعر وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي وَصِلَتُهُ أَنْتَ قاضٍ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا أَنْتَ قَاضِيهِ. قِيلَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً لِأَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ تُوصَلُ بِالْأَفْعَالِ، وَهَذِهِ مَوْصُولَةٌ بِابْتِدَاءٍ وَخَبَرٍ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَلْ قَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ مِنَ النُّحَاةِ إِلَى أَنَّ مَا الْمَصْدَرِيَّةَ تُوصَلُ بِالْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ. وَانْتَصَبَ هذِهِ الْحَياةَ عَلَى الظَّرْفِ وَمَا مُهَيِّئَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ إِنَّ قَضَاءَكَ كَائِنٌ فِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا لَا فِي الْآخِرَةِ، بَلْ فِي الْآخِرَةِ لَنَا النَّعِيمُ وَلَكَ الْعَذَابُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَقْضِي مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ خِطَابًا لِفِرْعَوْنَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ تُقْضَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ هَذِهِ الْحَيَاةُ بِالرَّفْعِ اتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ فَأَجْرَى مَجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ، ثُمَّ بُنِيَ الْفِعْلُ لِذَلِكَ وَرُفِعَ بِهِ كَمَا تَقُولُ: صِيمَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَوُلِدَ لَهُ سِتُّونَ عَامًا. وَلَمْ يُصَرَّحْ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَنْفَذَ فِيهِمْ وَعِيدَهُ وَلَا أَنَّهُ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى
سَلَّمَهُمْ مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ «1» وَقِيلَ: أَنْفَذَ فِيهِمْ وَعِيدَهُ وَصَلَبَهُمْ عَلَى الْجُذُوعِ وَإِكْرَاهُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى السِّحْرِ. قِيلَ: حَمَلَهُمْ عَلَى مُعَارَضَةِ مُوسَى.
وَقِيلَ: كَانَ يَأْخُذُ وِلْدَانَ النَّاسِ وَيُجَرِّبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَشَارَتِ السَّحَرَةُ إِلَى ذَلِكَ قَالَهُ الْحَسَنُ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أَيْ وَثَوَابُ اللَّهِ وَمَا أَعَّدَهُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَرِنَا مُوسَى نائما ففعل فوجده ويحرسه عَصَاهُ، فَقَالُوا: مَا هَذَا بِسِحْرٍ السَّاحِرُ إِذَا نَامَ بَطَلَ سِحْرُهُ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُعَارِضُوهُ وَيَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا عَدَمُ الْإِكْرَاهِ.
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ- إِلَى- مَنْ تَزَكَّى قِيلَ هُوَ حِكَايَةٌ لَهُمْ عِظَةٌ لِفِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ تَنْبِيهًا عَلَى قُبْحِ مَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ وَحُسْنِ مَا فَعَلَ السَّحَرَةُ مَوْعِظَةً وَتَحْذِيرًا، وَالْمُجْرِمُ هُنَا الْكَافِرُ لِذِكْرِ مُقَابِلِهِ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً وَلِقَوْلِهِ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أَيْ يُعَذَّبُ عَذَابًا يَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْمَوْتِ ثُمَّ لَا يُجْهَزُ عَلَيْهِ فَيَسْتَرِيحُ، بَلْ يُعَادُ جِلْدُهُ وَيُجَدَّدُ عَذَابُهُ فَهُوَ لَا يَحْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَدْخُلُ النَّارَ فَهُمْ يُقَارِبُونَ الْمَوْتَ وَلَا يُجْهَزُ عَلَيْهِمْ فَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّهُمْ يَمُاتُونَ إِمَاتَةً»
وَهَذَا هُوَ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يموت في الآخرة وتَزَكَّى تَطَهَّرَ مِنْ دَنَسِ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى.
هَذَا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ مُوسَى عليه السلام وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقَالِ السَّحَرَةِ الْمُتَقَدِّمِ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ، حَدَثَ فِيهَا لِمُوسَى وَفِرْعَوْنَ حَوَادِثُ، وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا انْقَضَى أَمْرُ السَّحَرَةِ وَغَلَبَ مُوسَى وَقَوِيَ أَمْرُهُ وَعَدَهُ فِرْعَوْنُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَقَامَ مُوسَى عَلَى وَعْدِهِ حَتَّى غَدَرَهُ فِرْعَوْنُ وَنَكَثَ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُهُمْ مَعَهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ حِينَئِذٍ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ إِلَى آخِرِهَا كُلَّمَا جَاءَتْ آيَةٌ وَعَدَ فِرْعَوْنُ أَنْ يُرْسِلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ انْكِشَافِ الْعَذَابِ، فَإِذَا انْكَشَفَ نَكَثَ حَتَّى تَأْتِيَ أُخْرَى فلما كملت
(1) سورة القصص: 28/ 35.
الْآيَاتُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى عليه السلام أَنْ يُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اللَّيْلِ سَارِيًا وَالسُّرَى مَسِيرُ اللَّيْلِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَنْ تَكُونُ مُفَسِّرَةً وَأَنْ تَكُونَ الناصبة للمضارع وبِعِبادِي إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لِقَوْلِهِ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِيحَاءَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَبِأَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ كَانَ مُتَقَدِّمًا بِمِصْرَ عَلَى وَقْتِ اتِّبَاعِ فِرْعَوْنَ مُوسَى وَقَوْمَهُ بِجُنُودِهِ. وَقِيلَ: كَانَ الْوَحْيُ بِالضَّرْبِ حِينَ قَارَبَ فِرْعَوْنُ لَحَاقَهُ وَقَوِيَ فَزَعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
وَيُرْوَى أَنَّ مُوسَى عليه السلام نَهَضَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، فَسَارَ بِهِمْ مِنْ مِصْرَ يُرِيدُ بَحْرَ الْقُلْزُمِ، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ فِرْعَوْنَ فَجَمَعَ جُنُودَهُ وَحَشَرَهُمْ وَنَهَضَ وَرَاءَهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنْ يَقْصِدَ الْبَحْرَ فَجَزَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَرَأَوْا أَنَّ الْعَدُوَّ مِنْ وَرَائِهِمْ وَالْبَحْرَ مِنْ أَمَامِهِمْ وَمُوسَى يَثِقُ بِصُنْعِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ فِرْعَوْنُ قَدْ نَهَضُوا نَحْوَ الْبَحْرِ طَمِعَ فِيهِمْ وَكَانَ مَقْصِدُهُمْ إِلَى مَوْضِعٍ يَنْقَطِعُ فِيهِ الْفُحُوصُ وَالطُّرُقُ الْوَاسِعَةُ.
قِيلَ: وَكَانَ فِي خَيْلِ فِرْعَوْنَ سَبْعُونَ أَلْفَ أَدْهَمَ وَنِسْبَةُ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَلْوَانِ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ مِنْ هَذَا فَضَرَبَ مُوسَى عليه السلام الْبَحْرَ فَانْفَرَقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً طُرُقًا وَاسِعَةً بَيْنَهَا حِيطَانُ الْمَاءِ وَاقِفَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ طَرِيقٌ وَاحِدٌ
لِقَوْلِهِ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً انْتَهَى.
وَقَدْ يُرَادُ بِقَوْلِهِ طَرِيقاً الْجِنْسُ
فَدَخَلَ مُوسَى عليه السلام بَعْدَ أَنْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحَ الصَّبَا فَجَفَّفَتْ تِلْكَ الطُّرُقَ حَتَّى يَبِسَتْ وَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَوَصَلَ فِرْعَوْنُ إِلَى الْمَدْخَلِ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ فِي الْبَحْرِ فَرَأَى الْمَاءَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَجَزَعَ قَوْمُهُ وَاسْتَعْظَمُوا الْأَمْرَ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّمَا انْفَلَقَ مِنْ هَيْبَتِي
وَتَقَدَّمَ غَرَقُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَةَ اضْرِبْ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ مَسِّ الْعَصَا البحر بِقُوَّةٍ، وَتَحَامُلٍ عَلَى الْعَصَا وَيُوَضِّحُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ «2» فَالْمَعْنَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ لِيَنْفَلِقَ لَهُمْ فَيَصِيرَ طَرِيقًا فَتَعَدَّى إِلَى الطَّرِيقِ بِدُخُولِ هَذَا الْمَعْنَى لَمَّا كَانَ الطَّرِيقُ مُتَسَبِّبًا عَنِ الضَّرْبِ جُعِلَ كَأَنَّهُ الْمَضْرُوبُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فَاجْعَلْ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ لَهُ فِي مَالِهِ سَهْمًا، وَضَرَبَ اللَّبَنَ عَمِلَهُ انْتَهَى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ» .
وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرِ الْمَضْرُوبَ حَقِيقَةً وَهُوَ الْبَحْرُ، وَلَوْ كَانَ صَرَّحَ بِالْمَضْرُوبِ حَقِيقَةً لَكَانَ التَّرْكِيبُ طَرِيقًا
(1) سورة الحجر: 15/ 29 وسورة ص: 38/ 72.
(2)
سورة الشعراء: 26/ 36. [.....]
فِيهِ، فَكَانَ يَعُودُ عَلَى البحر المضروب ويَبَساً مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ الطَّرِيقُ وَصَفَهُ بِمَا آلَ إِلَيْهِ إِذْ كَانَ حَالَةَ الضَّرْبِ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْيُبْسِ بَلْ مَرَّتْ عَلَيْهِ الصَّبَا فَجَفَّفَتْهُ كَمَا رُوِيَ، وَيُقَالُ: يَبَسَ يُبْسًا وَيَبَسًا كَالْعُدْمِ وَالْعَدَمِ وَمِنْ كَوْنِهِ مَصْدَرًا وُصِفَ بِهِ الْمُؤَنَّثُ قَالُوا: شَاةٌ يَبَسٌ وَنَاقَةٌ يَبَسٌ إِذَا جَفَّ لَبَنُهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ يَبْسًا بِسُكُونِ الْبَاءِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: قَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا كَالْعَامَّةِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِسْكَانِ الْمَصْدَرَ وَبِالْفَتْحِ الِاسْمَ كَالنَّفْضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَخْلُو الْيَبَسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَفَّفًا عَنِ الْيَبْسِ أَوْ صِفَةً عَلَى فُعْلٍ أَوْ جَمْعَ يَابِسٍ كَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وُصِفَ بِهِ الْوَاحِدُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ وَمَعًا جِيَاعًا جَعَلَهُ لِفَرْطِ جُوعِهِ كَجَمَاعَةِ جِيَاعٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ:
يَابِسًا اسْمَ فَاعِلٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَخَافُ وَهِيَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فَاضْرِبْ وَقِيلَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلطَّرِيقِ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ أَيْ لَا تَخَافُ فِيهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَحَمْزَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا تَخَفْ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ أَوْ عَلَى نَهْيٍ مُسْتَأْنَفٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ دَرْكًا بِسُكُونِ الرَّاءِ وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا، وَالدَّرْكُ وَالدَّرَكُ اسْمَانِ مِنَ الْإِدْرَاكِ أَيْ لَا يُدْرِكُكَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وَلَا يَلْحَقُونَكَ وَلا تَخْشى أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ غَرَقًا وَعَطْفُهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لَا تَخَافُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجَزْمِ فَخُرِّجَ عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ جِيءَ بِهَا لِأَجْلِ أَوَاخِرِ الْآيِ فَاصِلَةً نَحْوَ قَوْلِهِ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا «1» وَعَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ مُسْتَأْنَفٌ أَيْ وَأَنْتَ لَا تَخْشى وَعَلَى أَنَّهُ مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْحَرَكَةِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: أَلَمْ يَأْتِيكَ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ
…
وَلَا تَرضَّاهَا وَلَا تَمَلَّقِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَتْبَعَهُمْ بِسُكُونِ التَّاءِ، وَأَتْبَعَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى تَبِعَ فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ «2» وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ فَتَكُونُ التَّاءُ زَائِدَةً أَيْ جُنُودُهُ، أَوْ تَكُونُ لِلْحَالِ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ أَيْ رُؤَسَاؤُهُ وَحَشَمُهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ فَاتَّبَعَهُمْ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَذَا عَنِ الْحَسَنِ فِي جَمِيعِ مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ «3» وَالْبَاءُ فِي بِجُنُودِهِ فِي مَوْضِعِ الحال كَمَا تَقُولُ: خَرَجَ زَيْدٌ بِسِلَاحِهِ أَوِ الْبَاءِ لِلتَّعَدِّي لِمَفْعُولٍ ثَانٍ بِحَرْفِ جَرٍّ، إِذْ لَا يَتَعَدَّى اتَّبَعَ بِنَفْسِهِ إِلَّا إِلَى حَرْفٍ واحد.
(1) سورة الأحزاب: 133/ 67.
(2)
سورة الأعراف: 6/ 175.
(3)
سورة الصافات: 37/ 10.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ مُجَرَّدٍ مِنَ الزِّيَادَةِ.
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْأَعْمَشُ فَغَشَّاهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشَّاهُمْ بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ فَالْفَاعِلُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مَا وَفِي الثَّانِيَةِ الْفَاعِلُ اللَّهُ أَيْ فَغَشَّاهُمُ اللَّهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ فِرْعَوْنُ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَّطَ جُنُودَهُ وَتَسَبَّبَ لِهَلَاكِهِمْ. وَقَالَ مَا غَشِيَهُمْ مِنْ بَابِ الِاخْتِصَارِ وَمِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي تَسْتَقِلُّ مَعَ قِلَّتِهَا بِالْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، أَيْ غَشِيَهُمْ مَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا غَشِيَهُمْ إِبْهَامٌ أَهَوَلُ مِنَ النَّصِّ عَلَى قَدْرِ مَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي غَشِيَهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَائِدٌ عَلَى فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، وَقِيلَ الْأَوَّلُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَالثَّانِي عَلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَقْدِيرُهُ فَنَجَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وقرىء وَجُنُودُهُ عَطْفًا عَلَى فِرْعَوْنَ.
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أَيْ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ إِلَى هَذِهِ النِّهَايَةِ وَيَعْنِي الضَّلَالَ فِي الدِّينِ.
وَقِيلَ: أَضَلَّهُمْ فِي الْبَحْرِ لِأَنَّهُمْ غَرِقُوا فِيهِ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْقَاضِي عَلَى مَذْهَبِهِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الضَّلَالُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ بَلْ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَضَلَّهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُ بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ خَالِقًا لِلْكُفْرِ لِأَنَّ مَنْ ذَمَّ غَيْرَهُ بِفِعْلِ شَيْءٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَذْمُومُ فَاعِلًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَإِلَّا اسْتَحَقَّ الذَّامُّ الذَّمَّ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ وَما هَدى أَيْ مَا هَدَاهُمْ إِلَى الدِّينِ، أَوْ مَا نَجَا مِنَ الْغَرَقِ، أَوْ مَا اهْتَدَى فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ هَدى قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى اهتدى.
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ نِعَمِهِ وَبَدَأَ بِإِزَالَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ مِنَ الْإِذْلَالِ وَالْخَرَاجِ وَالذَّبْحِ وَهِيَ آكَدُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِأَنَّ إِزَالَةَ الضَّرَرِ أَعْظَمُ فِي النِّعْمَةِ مِنْ إِيصَالِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمَنْفَعَةِ الدِّينِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ إِذْ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ مُوسَى كِتَابًا فِيهِ بَيَانُ دِينِهِمْ وَشَرْحُ شَرِيعَتِهِمْ، ثُمَّ يَذْكُرُ الْمَنْفَعَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ وَهُوَ قَوْلُهُ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ نَجَا مَعَ مُوسَى بَعْدَ إِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم اعْتِرَاضًا فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ مُوسَى تَوْبِيخًا لَهُمْ إِذْ لَمْ يَصْبِرْ سَلَفُهُمْ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أَنْجَيْنَا آبَاءَكُمْ مِنْ تَعْذِيبِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَخَاطَبَ الجميع
(1) سورة النجم: 53/ 16.
بِوَاعَدْنَاكُمْ وَإِنْ كَانَ الْمَوْعُودُونَ هُمُ السَبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى عليه السلام لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّ سَمَاعَ أُولَئِكَ السَبْعِينَ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ إِذْ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ وَتَسْكُنُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَعَلَى وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى «1» فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَطَلْحَةُ: قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ وَوَاعَدْتُكُمْ مَا رَزَقَتْكُمْ بِتَاءِ الضَّمِيرِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَحُمَيدٌ نَجَّيْنَاكُمْ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ قَبْلَهَا وَبِنُونَ الْعَظَمَةِ وَتَقَدَّمَ خِلَافُ أَبِي عَمْرٍو وَفِي وَاعَدَ فِي الْبَقَرَةِ.
وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا الْحَلَالُ اللَّذِيذُ لأنه جمع الوصفين. وقرىء الْأَيْمَنَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْجَرِّ عَلَى الْجِوَارِ نَحْوَ جُحْرِ ضَبٍّ خَرِبٍ انْتَهَى. وَهَذَا مِنَ الشُّذُوذِ وَالْقِلَّةِ بِحَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُخَرَّجَ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَعْتٌ لِلطُّورِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْيُمْنِ وَأَمَّا لِكَوْنِهِ عَلَى يَمِينِ مَنْ يَسْتَقْبِلُ الْجَبَلَ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ فِيمَا رَزَقَهُمْ وَهُوَ أَنْ يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فِيهَا بِأَنْ يَكْفُرُوهَا وَيَشْغَلَهُمُ اللَّهْوُ وَالنِّعَمُ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا، وَأَنْ يُنْفِقُوهَا فِي الْمَعَاصِي وَيَمْنَعُوا الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِمْ فِيهَا.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَلَا تَطْغُوا فِيهِ بِضَمِّ الْغَيْنِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ لَا يَظْلِمْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَيَأْخُذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ يَعْنِي بِغَيْرِ حَقٍّ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ:
لَا تُجَاوِزُوا حَدَّ الْإِبَاحَةِ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: لَا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ أَيْ لَا تَسْتَعِينُوا بِنِعْمَتِي عَلَى مُخَالَفَتِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَحِلَّ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَمَنْ يَحْلِلْ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ فَيَجِبُ وَيَلْحَقُ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَلَامِ يَحْلُلْ أَيْ يَنْزِلُ وَهِيَ قِرَاءَةُ قَتَادَةَ وَأَبِي حَيْوَةَ وَالْأَعْمَشِ وَطَلْحَةَ وَوَافَقَ ابْنُ عُتَيْبَةَ فِي يَحْلُلُ فَضَمَّ، وَفِي الْإِقْنَاعِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ مَا نَصَّهُ ابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ لَا يَحِلَّنَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي بِلَامٍ وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ وَفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: لَا تَتَعَرَّضُوا لِلطُّغْيَانِ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي مِنْ بَابِ لَا أَرَيَنَّكَ هُنَا وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ قَتَادَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَابْنُ وَثَّابِ وَالْأَعْمَشُ فَيُحِلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنَ الْإِحْلَالِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ مِنْ حَلَّ بِنَفْسِهِ، وَالْفَاعِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ تُرِكَ لِشُهْرَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ فَيَحِلُّ بِهِ طُغْيَانُكُمْ غَضَبِي عَلَيْكُمْ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ وَلا تَطْغَوْا فَيَصِيرُ غَضَبِي فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ بِهِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى غَضَبِي فَيَصِيرُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِفِعْلِهِ، وَقَدْ حُذِفَ مِنْهُ الْمَفْعُولُ لِلدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَذَابُ أَوْ نَحْوُهُ انْتَهَى. فَقَدْ هَوى كَنَّى بِهِ عَنِ الهلاك،
(1) سورة البقرة: 2/ 57.
وَأَصْلُهُ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ جَبَلٍ فَيَهْلِكَ يُقَالُ هَوَى الرَّجُلُ أَيْ سَقَطَ، وَيُشْبِهُ الَّذِي يَقَعُ فِي وَرْطَةٍ بعد أن بِنَجْوَةٍ مِنْهَا بِالسَّاقِطِ، أَوْ هَوى فِي جَهَنَّمَ وَفِي سُخْطِ اللَّهِ وَغَضَبُ اللَّهِ عُقُوبَاتُهُ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالنُّزُولِ.
وَلَمَّا حَذَّرَ تَعَالَى مِنَ الطُّغْيَانِ فِيمَا رَزَقَ وَحَذَّرَ مِنْ حُلُولِ غَضَبِهِ فَتَحَ بَابَ الرَّجَاءِ لِلتَّائِبِينَ وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الشِّرْكِ وَآمَنَ أَيْ وَحَّدَ اللَّهَ وَعَمِلَ صالِحاً أَدَّى الْفَرَائِضَ ثُمَّ اهْتَدى لَزِمَ الْهِدَايَةَ وَأَدَامَهَا إِلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمْ يَشُكَّ فِي إِيمَانِهِ. وَقِيلَ: ثُمَّ اسْتَقَامَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي تَقْوَى فِي مَعْنَى ثُمَّ اهْتَدى أَنْ يَكُونَ ثُمَّ حَفِظَ مُعْتَقَدَاتِهِ مِنْ أَنْ يُخَالِفَ الْحَقَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّ الِاهْتِدَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَغَيْرُ الْعَمَلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الِاهْتِدَاءُ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ وَالثَّبَاتُ عَلَى الْهُدَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ التَّوْبَةُ وَالْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَنَحْوُهُ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «1» وَكَلِمَةُ التَّرَاخِي دَلَّتْ عَلَى تَبَايُنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ دَلَالَتَهَا عَلَى تَبَايُنِ الْوَقْتَيْنِ فِي جَاءَنِي زَيْدٌ ثُمَّ عُمَرُ، وَأَعْنِي أَنَّ مَنْزِلَةَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْخَبَرِ مُبَايِنَةٌ لِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا أَعْلَى مِنْهُ وَأَفْضَلُ.
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى. قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً. قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً.
لَمَّا نَهَضَ مُوسَى عليه السلام بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ حَيْثُ كَانَ الْمَوْعِدُ أَنْ يُكَلِّمَ اللَّهُ مُوسَى بِمَا فِيهِ شَرَفُ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، رَأَى عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يُقْدِمَ وَحْدَهُ مُبَادِرًا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَحِرْصًا عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ وَشَوْقًا إِلَى مُنَاجَاتِهِ، وَاسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: تَسِيرُونَ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ فَلَمَّا انْتَهَى مُوسَى عليه السلام وَنَاجَى رَبَّهُ، زَادَهُ فِي الْأَجَلِ عَشْرًا وَحِينَئِذٍ وَقَفَهُ عَلَى اسْتِعْجَالِهِ دُونَ الْقَوْمِ لِيُخْبِرَهُ مُوسَى أَنَّهُمْ عَلَى الْأَثَرِ
فَيَقَعُ الْإِعْلَامُ لَهُ بِمَا صَنَعُوا وَما اسْتِفْهَامٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ عَجَّلَ بِكَ
(1) سورة فصلت: 41/ 30، وسورة الأحقاف: 46/ 13.
عَنْهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانَ قَدْ مَضَى مَعَ النُّقَبَاءِ إِلَى الطُّورِ عَلَى الْمَوْعِدِ الْمَضْرُوبِ ثُمَّ تَقَدَّمَهُمْ شَوْقًا إِلَى كَلَامِ رَبِّهِ وَيُنْجِزُ مَا وَعَدَ بِهِ بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى رِضَا اللَّهِ، وَزَالَ عَنْهُ أَنَّهُ عز وجل مَا وَقَّتَ أَفْعَالَهُ إِلَّا نَظَرًا إِلَى دَوَاعِي الْحِكْمَةِ وَعِلْمًا بِالْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِكُلِّ وَقْتٍ، فَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ النُّقَبَاءُ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ عز وجل عَنْ قَوْمِكَ يُرِيدُ بِهِ جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ لَا السَبْعِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ يَقُولُ مَنْ جَوَّزَ أَنْ يُرَادَ جَمِيعُ قَوْمِهِ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ فَارَقَهُمْ قَبْلَ الْمِيعَادِ وَجْهٌ صَحِيحٌ مَا يَأْبَاهُ قَوْلُهُ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي انْتَهَى. وَما أَعْجَلَكَ سُؤَالٌ عَنْ سَبَبِ الْعَجَلَةِ وَأَجَابَ بِقَوْلِهِ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى لِأَنَّ قَوْلَهُ وَما أَعْجَلَكَ تَضَمَّنَ تَأَخُّرَ قَوْمِهِ عَنْهُ، فَأَجَابَ مُشِيرًا إِلَيْهِمْ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ إِنَّهُمْ عَلَى أَثَرِهِ جَائِينَ لِلْمَوْعِدِ، وَذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَجِيئُوا لِلْمَوْعِدِ. ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى الْعَجَلَةِ وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى مِنْ طَلَبِهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى فِي السَّبْقِ إِلَى مَا وَعَدَهُ رَبُّهُ وَمَعْنَى إِلَيْكَ إِلَى مَكَانِ وعدك ولِتَرْضى أَيْ لِيَدُومَ رِضَاكَ وَيَسْتَمِرَّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَنْهُ رَاضِيًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: ما أَعْجَلَكَ سُؤَالٌ عَنْ سَبَبِ الْعَجَلَةِ، فَكَانَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: طَلَبَ زِيَادَةَ رِضَاكَ وَالشَّوْقِ إِلَى كَلَامِكَ وَيُنْجِزُ مَوْعِدَكَ وَقَوْلُهُ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي كَمَا تَرَى غَيْرُ مُنْطَبِقٍ عَلَيْهِ. قُلْتُ: قَدْ تَضَمَّنَ مَا وَاجَهَهُ بِهِ رَبُّ الْعِزَّةِ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا إِنْكَارُ الْعَجَلَةِ فِي نَفْسِهَا، وَالثَّانِي السُّؤَالُ عَنْ سَبَبِ الْمُسْتَنْكَرِ وَالْحَامِلِ عَلَيْهِ، فَكَانَ أَهَمُّ الْأَمْرَيْنِ إِلَى مُوسَى بَسْطَ الْعُذْرِ وَتَمْهِيدَ الْعِلَّةِ فِي نَفْسِ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَاعْتَلَّ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنِّي إِلَّا تَقَدُّمٌ يَسِيرٌ مِثْلُهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْعَادَةِ وَلَا يُحْتَفَلُ بِهِ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ سَبَقْتُهُ إِلَّا مَسَافَةٌ قَرِيبَةٌ يَتَقَدَّمُ بِمِثْلِهَا الْوَفْدُ رَأَسُهُمْ وَمُقَدَّمُهُمْ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِجَوَابِ السُّؤَالِ عَنِ السَّبَبِ فَقَالَ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَارَ لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ التَّهَيُّبِ لِعِتَابِ اللَّهِ فَأَذْهَلَهُ ذَلِكَ عَنِ الْجَوَابِ الْمُنْطَبِقِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى حُدُودِ الْكَلَامِ انْتَهَى. وَفِيهِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أُولَائِي بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَعِيسَى فِي رِوَايَةٍ أُولاءِ بِالْقَصْرِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ أُولَايَ بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ. وَقَرَأَ عِيسَى وَيَعْقُوبُ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ إِثْرِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أُثْرِي بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ وَتُرْوَى عَنْ عِيسَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُولاءِ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ عَلَى أَثَرِي
بفتح الهمز والثاء وعَلى أَثَرِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ.
قَالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ بِمَا فَعَلَ السَّامِرِيُّ أَوْ أَلْقَيْنَاهُمْ فِي فِتْنَةٍ أَيْ مَيْلٍ مَعَ الشَّهَوَاتِ وَوُقُوعٍ فِي اخْتِلَافٍ مِنْ بَعْدِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ فِرَاقِكَ لَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ بِالْقَوْمِ الْمَفْتُونِينَ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ مَعَ هَارُونَ، وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ مَا نَجَا مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فَإِنْ قُلْتَ: فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَحَسَبُوا أَرْبَعِينَ مَعَ أَيَّامِهَا، وَقَالُوا قَدْ أَكْمَلْنَا الْعِدَّةَ ثُمَّ كَانَ أَمْرُ الْعِجْلِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى عِنْدَ مَقْدَمِهِ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قُلْتُ: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْفِتْنَةِ الْمُتَرَقِّبَةِ بِلَفْظِ الْمَوْجُودَةِ الْكَائِنَةِ عَلَى عَادَتِهِ، وَافْتَرَضَ السَّامِرِيُّ غَيْبَتَهُ فَعَزَمَ عَلَى إِضْلَالِهِمْ غَبَّ انْطِلَاقِهِ. وَأَخَذَ فِي تَدْبِيرِ ذَلِكَ فَكَانَ بَدْءُ الْفِتْنَةِ مَوْجُودًا انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَضَلَّهُمُ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ أَبُو مُعَاذٍ وَفِرْقَةٌ وَأَضَلُّهُمْ بِرَفْعِ اللَّامِ مُبْتَدَأٌ وَالسَّامِرِيُّ خَبَرُهُ وَكَانَ أَشَدَّهُمْ ضَلَالًا لِأَنَّهُ ضَالٌّ في نفسه مصل غَيْرَهُ. وَفِي الْقِرَاءَةِ الشُّهْرَى أَسْنَدَ الضَّلَالَ إِلَى السَّامِرِيِّ لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَبَ فِي ضَلَالِهِمْ، وَأَسْنَدَ الْفِتْنَةَ إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خلقها في قلوبهم. والسَّامِرِيُّ قِيلَ اسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظُفَرَ. وَقِيلَ: مَنْجَا وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ مُوسَى أَوِ ابْنُ عَمِّهِ أَوْ عَظِيمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبِيلَةٍ تُعْرَفُ بِالسَّامِرَةِ، أَوْ عِلْجٌ مِنْ كِرْمَانَ، أَوْ مِنْ بَاجِرْمَا أَوْ مِنَ الْيَهُودِ أَوْ مِنَ الْقِبْطِ آمَنَ بِمُوسَى وَخَرَجَ مَعَهُ، وَكَانَ جَارَهُ أَوْ مِنْ عُبَّادِ الْبَقَرِ وَقَعَ فِي مِصْرَ فَدَخَلَ فِي بَنِي اسْرَائِيلَ بِظَاهِرِهِ وَفِي قَلْبِهِ عبادة البقر أقوال. وتقدم فِي الْأَعْرَافِ كَيْفِيَّةُ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ وَقَبْلَ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ وذلك بعد ما اسْتَوْفَى الْأَرْبَعِينَ وَانْتَصَبَ غَضْبانَ أَسِفاً عَلَى الْحَالِ، وَالْأَسَفُ أَشَدُّ الْغَضَبِ. وَقِيلَ: الْحُزْنُ وَغَضَبُهُ مِنْ حَيْثُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَغْيِيرِ مُنَكَرِهِمْ، وَأَسَفُهُ وَهُوَ حُزْنُهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْضِعُ عُقُوبَةٍ لَا يَدَ لَهُ بدفعها وَلَا بُدَّ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَسَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَتَى كَانَ مِنْ ذِي قُدْرَةٍ عَلَى مَنْ دُونَهُ فَهُوَ غَضَبٌ، وَمَتَى كَانَ مِنَ الْأَقَلِّ عَلَى الْأَقْوَى فَهُوَ حُزْنٌ، وَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ مُطَّرِدٌ، ثُمَّ أَخَذَ مُوسَى عليه السلام يُوَبِّخُهُمْ عَلَى إِضْلَالِهِمْ وَالْوَعْدِ الْحَسَنِ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفُتُوحِ فِي الْأَرْضِ وَالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَدَهَمُ اللَّهُ بعد ما اسْتَوْفَى الْأَرْبَعِينَ أَنْ يُعْطِيَهُمُ التَّوْرَاةَ الَّتِي فِيهَا
هُدًى وَنُورٌ، وَلَا وَعْدٌ أَحْسَنُ مِنْ ذَاكَ وَأَجْمَلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَعْدُ الْحَسَنُ الْجَنَّةُ. وَقِيلَ:
أَنْ يُسْمِعَهُمْ كَلَامَهُ وَالْعَهْدُ الزَّمَانُ، يُرِيدُ مُفَارَقَتَهُ لَهُمْ يُقَالُ طَالَ عَهْدِي بِكَذَا أَيْ طَالَ زَمَانِي بِسَبَبِ مُفَارَقَتِكَ، وَعَدُوهُ أَنْ يُقِيمُوا عَلَى أَمْرِهِ وَمَا تَرَكَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ فَأَخْلَفُوا مَوْعِدَهُ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ انْتَهَى.
وَانْتَصَبَ وَعْداً عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِيَعِدُكُمْ مَحْذُوفٌ أَوْ أَطْلَقَ الْوَعْدَ وَيُرَادُ بِهِ الْمَوْعُودُ فَيَكُونُ هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ وَفِي قَوْلِهِ أَفَطالَ إِلَى آخِرِهِ تَوْقِيفٌ عَلَى أَعْذَارٍ لَمْ تَكُنْ وَلَا تَصِحُّ لَهُمْ وَهُوَ طُولُ الْعَهْدِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ خُلْفٌ فِي الْمَوْعِدِ وَإِرَادَةُ حُلُولِ غَضَبِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّهُمْ عَمِلُوا عَمَلَ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ. وَسُمِّيَ الْعَذَابُ غَضَبًا مِنْ حيث هو ناشىء عَنِ الْغَضَبِ فَإِنْ جُعِلَ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ فَصِفَةُ ذَاتٍ أَوْ عَنْ ظُهُورِ النِّقْمَةِ والعذاب فصفة فعل. ومَوْعِدِي مصدر يحتمل أن يضاف إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ أَوَجَدْتُمُونِي أَخْلَفْتُ مَا وَعَدْتُكُمْ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: فُلَانٌ أَخْلَفَ وَعْدَ فُلَانٍ إِذَا وَجَدَهُ وَقْعُ فِيهِ الْخُلْفُ قَالَهُ الْمُفَضَّلُ، وَأَنْ يُضَافَ إِلَى الْمَفْعُولِ وَكَانُوا وَعَدُوهُ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ وَسُنَّةِ مُوسَى عليه السلام وَلَا يُخَالِفُوا أَمْرَ اللَّهِ أَبَدًا فَأَخْلَفُوا مَوْعِدَهُ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ.
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَقَعْنَبٌ بِمُلْكِنَا بِضَمِّ الْمِيمِ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ سَعْدَانَ بِفَتْحِهَا وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ عُمَرَ رضي الله عنه بِمَلَكِنِا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ وَحَقِيقَتُهُ بِسُلْطَانِنَا، فَالْمَلْكُ وَالْمُلْكُ بِمَنْزِلَةِ النَّقْضِ وَالنُّقْضِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لُغَاتٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَفَرَّقَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ بَيْنَ مَعَانِيهَا فَمَعْنَى الضَّمِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا مُلْكٌ فَنُخْلِفَ مَوْعِدَكَ بِسُلْطَانِهِ وَإِنَّمَا أَخْلَفْنَاهُ بِنَظَرٍ أَدَّى إِلَيْهِ مَا فَعَلَ السَّامِرِيُّ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ لَهُمْ مُلْكًا وَإِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:
لَا يَشْتَكِي سَقْطٌ مِنْهَا وَقَدْ رَقَصَتْ
…
بِهَا الْمَفَاوِزُ حَتَّى ظَهْرُهَا حَدِبُ
أَيْ لَا يَكُونُ مِنْهَا سَقْطَةٌ فَتَشْتَكِيَ، وَفَتْحُ الْمِيمِ مَصْدَرٌ مِنْ مَلَكَ وَالْمَعْنَى مَا فَعَلْنَا ذَلِكَ بِأَنَّا مَلَكْنَا الصَّوَابَ وَلَا وَقَفْنَا لَهُ، بَلْ غَلَبَتْنَا أَنْفُسُنَا وَكَسْرُ الْمِيمِ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا تَحُوزُهُ الْيَدُ وَلَكِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُبْرِمُهَا الْإِنْسَانُ وَمَعْنَاهَا كَمَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْمَصْدَرُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ أي بِمَلْكِنا الصَّوَابُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِأَنْ مَلَكْنَا أَمْرَنَا أَيْ لَوْ مَلَكْنَا أَمَرْنَا وَخَلَّيْنَا وَرَأَيْنَا لَمَا أَخْلَفْنَاهُ، وَلَكِنْ غُلِبْنَا مِنْ جِهَةِ السَّامِرِيِّ وَكَيْدِهِ.
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ وَأَبُو رَجَاءٍ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَحُمَيدٌ وَيَعْقُوبُ غَيْرَ رَوْحٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ شَدَّدُوا الْمِيمَ، وَالْأَوْزَارُ الْأَثْقَالُ أَطْلَقَ عَلَى مَا كَانُوا اسْتَعَارُوا مِنْ لَقِيطٍ بِرَسْمِ التَّزَيُّنِ أَوْزَارًا لِثِقَلِهَا، أَوْ لِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَثِمُوا فِي ذَلِكَ فَسُمِّيَتْ أَوْزَارًا لَمَّا حَصَلَتِ الْأَوْزَارُ الَّتِي هِيَ الْآثَامُ بِسَبَبِهَا. وَالْقَوْمُ هُنَا الْقِبْطُ. وَقِيلَ: أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِعَارَةِ مُوسَى. وَقِيلَ: أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ مِمَّا كَانَ عَلَى الَّذِينَ غَرِقُوا. وَقِيلَ: الْأَوْزَارُ الَّتِي هِيَ الْآثَامُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرُدُّوهَا إِلَى أَصْحَابِهَا، وَمَعْنَى أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْآثَامَ وَقَذَفُوهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ كَمَا جَاؤُهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ. وقيل معنى فَقَذَفْناها أَيِ الْحُلِيَّ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا. وَقِيلَ فَقَذَفْناها فِي النَّارِ أَيْ ذَلِكَ الْحُلِيَّ، وَكَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ السَّامِرِيُّ فَحُفِرَتْ حُفْرَةً وَسُجِّرَتْ فِيهَا النَّارُ وَقَذَفَ كُلُّ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي النَّارِ. وَقَذَفَ السَّامِرِيُّ مَا مَعَهُ. وَمَعْنَى فَكَذلِكَ أَيْ مِثْلُ قَذْفِنَا إِيَّاهَا أَلْقَى السَّامِرِيُّ مَا كَانَ مَعَهُ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ الْعِجْلَ لَمْ يَصْنَعْهُ السَّامِرِيُّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أَرَاهُمْ أَنَّهُ يُلْقِي حُلِيًّا فِي يَدِهِ مِثْلَ مَا أَلْقَوْا وَإِنَّمَا أَلْقَى التُّرْبَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ موطىء حَيْزُومِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عليه السلام، أَوْحَى إِلَيْهِ وَلَيُّهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهَا إِذَا خَالَطَتْ مَوَاتًا صَارَ حَيَوَانًا فَأَخْرَجَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ مِنَ الْحُفْرَةِ عِجْلًا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُلِيِّ الَّتِي سَبَكَتْهَا النَّارُ تَخُورُ كَخَوْرِ الْعَجَاجِيلِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ هُوَ خَلْقُ الْعِجْلِ لِلِامْتِحَانِ أَيِ امْتَحَنَّاهُمْ بِخَلْقِ الْعِجْلِ وَحَمَلَهُمُ السَّامِرِيُّ عَلَى الضَّلَالِ وَأَوْقَعَهُمْ فِيهِ حِينَ قَالَ لَهُمْ هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى انْتَهَى.
وَقِيلَ: مَعْنَى جَسَداً شَخْصًا. وَقِيلَ: لَا يَتَغَذَّى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ لَهُ خُوارٌ فِي الْأَعْرَافِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَقالُوا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ ضَلُّوا حِينَ قَالَ كِبَارُهُمْ لصغارهم وهذا إِشَارَةٌ إِلَى الْعِجْلَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَقالُوا عَائِدٌ عَلَى السَّامِرِيِّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لِجُرْمِهِ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ وَعَلَى تَابِعِيهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ فَنَسِي بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَنَسِيَ عَائِدٌ عَلَى السَّامِرِيِّ أَيْ فَنَسِيَ إِسْلَامَهُ وَإِيمَانَهُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ فَتَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ قَالَهُ مَكْحُولٌ، وَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ فَنَسِيَ أَنَّ الْعِجْلَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وفَنَسِيَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَحُلُّ فِي شَيْءٍ وَلَا يَحُلُّ فِيهِ شَيْءٌ وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ فَنَسِيَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ عَنْ السَّامِرِيِّ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ