الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّاسِ وَأَنْصَحِهِمُ انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ رحمة اللَّهُ انْتَهَى.
فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ وَتَرَضَّى عَنْهُ إِذْ هُوَ مِنْ أَوَائِلِ أَكَابِرِ شُيُوخِهِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَانَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَلَهُ أَخْبَارٌ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَطْعَنُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي أُرْجُوزَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا الْمُنَبِّهَةَ:
وَابْنُ عُبَيْدٍ شَيْخُ الِاعْتِزَالِ
…
وَشَارِعُ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ عُقْباً بِسُكُونِ الْقَافِ وَالتَّنْوِينِ، وَعَنْ عَاصِمٍ عُقْبَى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ عَلَى وَزْنِ رُجْعَى، وَالْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْقَافِ وَالتَّنْوِينِ وَالثَّلَاثُ بمعنى العاقبة.
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 59]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَاّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
الْهَشِيمُ الْيَابِسُ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَاحِدُهُ هَشِيمَةٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: كُلُّ شَيْءٍ كَانَ رَطْبًا وَيَبِسَ، وَمِنْهُ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَهَشِيمِ الثَّرِيدِ، وَأَصْلُ الْهَشِيمِ الْمُتَفَتِّتُ مِنْ يَابِسِ الْعُشْبِ. ذَرَى وَأَذْرَى لُغَتَانِ فَرَّقَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: تَذْرُوهُ تَجِيءُ بِهِ وَتَذْهَبُ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَرْفَعُهُ. غَادَرَ ترك من الغدر، ومنه تَرْكُ الْوَفَاءِ، وَمِنْهُ الْغَدِيرُ، وَهُوَ مَا تَرَكَهُ السَّيْلُ. الصَّفُّ الشَّخْصُ بِإِزَاءِ الْآخَرِ إِلَى نِهَايَتِهِمْ وُقُوفًا أَوْ جُلُوسًا أَوْ عَلَى غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ طُولًا أَوْ تَحْلِيقًا يُقَالُ مِنْهُ: صَفَّ يَصُفُّ وَالْجَمْعُ صُفُوفٌ. الْعَضُدُ الْعُضْوُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مَعْرُوفٌ وَفِيهِ لُغَتَانِ، فَتْحُ الْعَيْنِ وَضَمُّ الضَّادِ وَإِسْكَانُهَا وَفَتْحُهَا وَضَمُّ الْعَيْنِ وَالضَّادِ وَإِسْكَانُ الضَّادِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْعَوْنِ وَالنَّصِيرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْإِعْضَادُ التَّقَوِّي وَطَلَبُ الْمَعُونَةِ يُقَالُ: اعْتَضَدْتُ بِفُلَانٍ اسْتَعَنْتُ بِهِ. الْمَوْبِقُ الْمَهْلِكُ يُقَالُ: وَبِقَ يَوْبَقُ وَبَقًا وَوَبَقَ يَبِقُ وُبُوقًا إِذَا هَلَكَ فَهُوَ وَابِقٌ، وَأَوْبَقَتْهُ ذُنُوبُهُ أَهْلَكَتْهُ. أَدْحَضَ الْحَقُّ أَرْهَقَهُ قَالَهُ ثَعْلَبٌ، وَأَصْلُهُ مِنْ إِدْحَاضِ الْقَدَمِ وَهُوَ إِزْلَاقُهَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَرَدْتُ وَنَجَّى الْيَشْكُرِيَّ حِذَارُهُ
…
وَحَادَ كَمَا حَادَ الْبَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ
وَقَالَ آخَرُ:
أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْوَفَاءَ وَهِبْتَهُ
…
وَحِدْتَ كما حاد البعير المدحض
والدحض الطين الذي يزهق فِيهِ. الْمَوْئِلُ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَنْجَى يُقَالُ وَالَتْ نَفْسُ فُلَانٍ نَجَتْ.
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ الْبَيْتِ غَفْلَتَهُ
…
وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثَمَّ مَا يَئِلُ
أَيْ مَا يَنْجُو. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَلْجَأُ يُقَالُ: وَأَلَ فُلَانٌ إِلَى كذا ألجأ، يئل وألا وءولا.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْمَثَلِ الْأَوَّلِ حَالَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَمَا آلَ إِلَيْهِ مَا افْتَخَرَ بِهِ الْكَافِرُ مِنَ الْهَلَاكِ، بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَثَلِ حَالَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاضْمِحْلَالَهَا وَمَصِيرَ مَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ والترفه إلى الهلاك وكَماءٍ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ أَيِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا كَمَاءٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْكَافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْ ضَرْبًا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ وَأَقُولُ إِنَّ كَماءٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ وَاضْرِبْ أَيْ وَصَيِّرْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ صِفَتُهَا شِبْهُ مَاءٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي قَوْلِهِ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ «1» فِي يُونُسَ فَأَصْبَحَ أَيْ صَارَ وَلَا يُرَادُ تَقْيِيدُ الْخَبَرِ بِالصَّبَاحِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا
…
أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا
وَقِيلَ: هِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّقْيِيدِ بِالصَّبَاحِ لِأَنَّ الْآفَاتِ السَّمَاوِيَّةَ أَكْثَرُ مَا تَطْرُقُ لَيْلًا فَهِيَ كَقَوْلِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ «2» . وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تُذْرِيهِ مِنْ أَذْرَى رُبَاعِيًّا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَخَلَفٌ وَابْنُ عِيسَى وَابْنُ جَرِيرٍ: الرِّيحُ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَالْجُمْهُورُ تَذْرُوهُ الرِّياحُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قُدْرَتَهُ الْبَاهِرَةَ فِي صَيْرُورَةِ مَا كَانَ فِي غَايَةِ النَّضْرَةِ وَالْبَهْجَةِ إِلَى حَالَةِ التَّفَتُّتِ وَالتَّلَاشِي إِلَى أَنْ فرقته الرياح
(1) سورة يونس: 10/ 24.
(2)
سورة الكهف: 18/ 42.
وَلَعِبَتْ بِهِ ذَاهِبَةً وَجَائِيَةً، أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ اقْتِدَارِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنِ الْإِنْشَاءِ وَالْإِفْنَاءِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَتُهُ تَعَالَى.
وَلَمَّا حَقَّرَ تَعَالَى حَالَ الدُّنْيَا بِمَا ضَرَبَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَثَلِ ذَكَرَ أَنَّ مَا افْتَخَرَ بِهِ عُيَيْنَةُ وَأَضْرَابُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ إِنَّمَا ذَلِكَ زِينَةُ هَذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا الْمُحَقَّرَةِ، وَأَنَّ مَصِيرَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِلَى النَّفَادِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَرَثَ بِهِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِزِينَةِ الْمَالِ وَالْبَنِينَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مَقَرُّ زِينَةُ أَوْ وَضَعَ الْمَالَ وَالْبَنِينَ مَنْزِلَةَ الْمَعْنَى وَالْكَثْرَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ زِينَةُ وَلَمَّا ذَكَرَ مَآلَ مَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى الْفَنَاءِ انْدَرَجَ فِيهِ هَذَا الْجُزْئِيُّ مِنْ كَوْنِ الْمَالِ وَالْبَنِينَ زِينَةً، وَأَنْتَجَ. أَنَّ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَانٍ إِذْ ذَاكَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَتَرْتِيبُ هَذَا الْإِنْتَاجِ أَنْ يُقَالَ الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَكُلُّ مَا كَانَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا فَهُوَ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ فَالْمَالُ وَالْبَنُونَ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ، وَمِنْ بَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ مَا كان كذلك بقبح بِالْعَاقِلِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِهِ أَوْ يَفْرَحَ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا بُرْهَانٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ.
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قَالَ الْجُمْهُورُ
هِيَ الْكَلِمَاتُ الْمَأْثُورُ فَضْلُهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَيْسَرَةَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَبْقَى لِلْآخِرَةِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ مَرْوِيٌّ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: كُلُّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ عَطَاءٍ: أَنَّهَا النِّيَّاتُ الصَّالِحَةُ فَإِنَّ بِهَا تُتَقَبَّلُ الْأَعْمَالُ وَتُرْفَعُ، وَمَعْنَى خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أَنَّهَا دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ وَخَيْرَاتُ الدُّنْيَا مُنْقَرِضَةٌ فَانِيَةٌ، وَالدَّائِمُ الْبَاقِي خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَرِضِ الْمُنْقَضِي.
وَخَيْرٌ أَمَلًا أَيْ وَخَيْرٌ رَجَاءً لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَأْمُلُ فِي الدُّنْيَا ثَوَابَ اللَّهِ وَنَصِيبَهُ فِي الْآخِرَةِ دُونَ ذِي الْمَالِ وَالْبَنِينَ الْعَارِي مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجُو ثَوَابًا.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ الدُّنْيَا مِنَ النَّفَادِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَوَائِلِ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ كَقَوْلِهِ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً «1» . وَقَالَ:
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «2» . وَقَالَ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً «3» . وَقَالَ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ «4» وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْفَكُّ نِظَامُ هذا
(1) سورة الطور: 52/ 9.
(2)
سورة النمل: 27/ 88.
(3)
سورة طه: 20/ 105.
(4)
سورة التكوير: 81/ 3.
الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ وَيُؤْتَى بِالْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ، وَانْتَصَبَ وَيَوْمَ عَلَى إِضْمَارِ اذْكُرْ أَوْ بِالْفِعْلِ المضمر عند قوله قَدْ جِئْتُمُونا
أَيْ قُلْنَا يَوْمَ كَذَا لَقَدْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَعَاصِمٌ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ نُسَيِّرُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ الْجِبَالَ بِالنَّصْبِ، وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَسَنُ وَشِبْلٌ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى وَالزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ وَطَلْحَةُ وَالْيَزِيدِيُّ وَالزُّبَيْرِيُّ عَنْ رِجَالِهِ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْجِبالَ بِالرَّفْعِ وَعَنِ الْحَسَنِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِضَمِّ الْيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عُمَرَ وتسير مِنْ سَارَتِ الْجِبَالُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ سُيِّرَتِ الْجِبَالُ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً أَيْ مُنْكَشِفَةً ظَاهِرَةً لِذَهَابِ الْجِبَالِ وَالظِّرَابِ وَالشَّجَرِ وَالْعِمَارَةِ، أَوْ تَرَى أَهْلَ الْأَرْضِ بَارِزِينَ مِنْ بَطْنِهَا. وَقَرَأَ عِيسَى وَتَرَى الْأَرْضَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَحَشَرْناهُمْ أَيْ أَقَمْنَاهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَجَمَعْنَاهُمْ لِعَرْصَةِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لم جِيءَ بِحَشَرْنَاهُمْ مَاضِيًا بَعْدَ تَسِيرُ وَتَرَى؟ قُلْتُ:
لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حَشْرَهُمْ قَبْلَ التَّسْيِيرِ وَقَبْلَ الْبُرُوزِ لِيُعَايِنُوا تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَالْعَظَائِمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
وَحَشَرْناهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ لَا وَاوَ الْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى وَقَدْ حَشَرْناهُمْ أَيْ يُوقَعُ التَّسْيِيرُ فِي حَالَةِ حَشْرِهِمْ. وَقِيلَ: وَحَشَرْناهُمْ عُرِضُوا
وَوُضِعَ الْكِتابُ مِمَّا وُضِعَ فِيهِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
نُغَادِرُ بَنُونِ الْعَظَمَةِ وَقَتَادَةُ تُغَادِرُ عَلَى الْإِسْنَادِ إِلَى الْقُدْرَةِ أَوِ الْأَرْضِ، وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَاصِمٍ كَذَلِكَ أَوْ بِفَتْحِ الدَّالِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَاحِدٍ بِالرَّفْعِ وَعِصْمَةُ كَذَلِكَ، وَالضَّحَّاكُ نُغْدِرُ بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ وكسر الدال، وانتصب فًّا
عَلَى الْحَالِ وَهُوَ مُفْرَدٌ تَنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْجَمْعِ أَيْ صُفُوفًا.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ صُفُوفًا يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ» .
الْحَدِيثُ بِطُولِهِ
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا أَنْتُمْ مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًّا» .
أَوِ انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَوْضُوعِ مَوْضِعَ الْحَالِ أَيْ مصطفين. وقيل: المعنى فًّا
صَفًّا فَحُذِفَ صَفًّا وَهُوَ مراد، وهذا التكرار منبىء عَنِ اسْتِيفَاءِ الصُّفُوفِ إِلَى آخِرِهَا، شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْجُنْدِ الْمَعْرُوضِينَ عَلَى السُّلْطَانِ مُصْطَفِّينَ ظَاهِرِينَ يَرَى جَمَاعَتَهُمْ كَمَا يَرَى كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَحْجُبُ أَحَدٌ أَحَدًا.
َدْ جِئْتُمُونا
مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أي وقلنا وما خَلَقْناكُمْ
نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَجِيئًا مِثْلَ مَجِيءِ خَلْقِكُمْ أَيْ
«حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ
، وَخَالِينَ مِنَ الْمَالِ والولد وأن هُنَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَفُصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ بِحَرْفِ النَّفْيِ وَهُوَ
لَنْ كَمَا فُصِلَ فِي قَوْلِهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ «1» ولْ
لِلْإِضْرَابِ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِبْطَالِ، وَالْمَعْنَى أَنْ لن نجمع لإعادتكم وحشركم وْعِداً
أَيْ مَكَانَ وَعْدٍ أَوْ زَمَانَ وَعْدٍ لِإِنْجَازِ مَا وُعِدْتُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالْخِطَابُ في قَدْ جِئْتُمُونا
لِلْكُفَّارِ الْمُنْكِرِينَ الْبَعْثَ عَلَى سَبِيلِ تَقْرِيعِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ.
وَوُضِعَ الْكِتابُ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَوُضِعَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ الْكِتابُ بِالنَّصْبِ.
والْكِتابُ اسْمُ جِنْسٍ أَيْ كُتُبُ أَعْمَالِ الْخَلْقِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصَّحَائِفُ كُلُّهَا جُعِلَتْ كِتَابًا وَاحِدًا وَوَضَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِمُحَاسَبَةِ الْخَلْقِ وَإِشْفَاقُهُمْ خَوْفُهُمْ مِنْ كَشْفِ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَفَضْحِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ، وَنَادَوْا هَلَكَتَهُمُ الَّتِي هُلِكُوا خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ الْهَلَكَاتِ فَقَالُوا يَا وَيْلَنَا وَالْمُرَادُ مَنْ بِحَضْرَتِهِمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا يَا مَنْ بِحَضْرَتِنَا انْظُرُوا هَلَكَتَنَا، وَكَذَا مَا جَاءَ مِنْ نِدَاءِ مَا لَا يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «2» يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ «3» يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «4» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَا عَجَبًا لِهَذِهِ الْفَلِيقَةِ
…
فَيَا عَجَبًا مِنْ رَحْلِهَا الْمُتَحَمَّلِ
إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَنْبِيهُ مَنْ يَعْقِلُ بِالتَّعَجُّبِ مِمَّا حل بالمنادي. ولا يُغادِرُ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّمُ وَالْكَبِيرَةُ الْقَهْقَهَةُ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: الْقُبْلَةُ وَالزِّنَا وَعَنْ غَيْرِهِ السَّهْوُ والعمد. وعن الفضيل صبحوا وَاللَّهِ مِنَ الصَّغَائِرِ قَبْلَ الْكَبَائِرِ، وَقُدِّمَتِ الصَّغِيرَةُ اهْتِمَامًا بِهَا، وَإِذَا أُحْصِيَتْ فَالْكَبِيرَةُ أَحْرَى إِلَّا أَحْصاها ضَبَطَهَا وَحَفِظَهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً فِي الصُّحُفِ عَتِيدًا أَوْ جَزَاءَ مَا عَمِلُوا. وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً فَيَكْتُبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْمَلْ أَوْ يَزِيدُ فِي عِقَابِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ أَوْ يُعَذِّبُهُ بِغَيْرِ جُرْمٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا يُزْعَمُ مِنْ ظُلْمِ اللَّهِ فِي تَعْذِيبِ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ انْتَهَى. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ مِنْهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى كُلٌّ مَمْلُوكُونَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَمْلُوكِيهِ بِمَا يَشَاءُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ،
وَالصَّحِيحُ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي الْجَنَّةِ خَدَمًا لِأَهْلِهَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ
(1) سورة القيامة: 75/ 3.
(2)
سورة يوسف: 12/ 84.
(3)
سورة الزمر: 39/ 56.
(4)
سورة يس: 36/ 52. [.....]
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً.
ذَكَرُوا فِي ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ نبيه عليه الصلاة والسلام بِمُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ وَكَانَ أُولَئِكَ الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ تَأَنَّفُوا عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ، وَذَكَرُوا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم طَرْدَهُمْ عَنْهُ وَذَلِكَ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّكَثُّرِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَشَرَفِ الْأَصْلِ وَالنَّسَبِ، وَكَانَ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءُ بِخِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ نَاسَبَ ذِكْرُ قِصَّةِ إِبْلِيسَ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالِافْتِخَارِ بِالْأَصْلِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي الِارْتِبَاطِ هُوَ ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ قَبْلَ ضَرْبِ الْمَثَلَيْنِ، وَإِمَّا أَنَّهُ وَاضِحٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ الْمَثَلَيْنِ فَلَا وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْحَشْرَ وَذَكَرَ خَوْفَ الْمُشْرِكِينَ مِمَّا سُطِّرَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ هُوَ الَّذِي حَمَلَ الْمُجْرِمِينَ عَلَى مَعَاصِيهِمْ وَاتِّخَاذِ شُرَكَاءَ مَعَ اللَّهِ نَاسَبَ ذِكْرَ إِبْلِيسَ وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ ذُرِّيَّتِهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَبْعِيدًا عَنِ الْمَعَاصِي، وَعَنِ امْتِثَالِ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اسْتِثْنَاءِ إِبْلِيسَ أَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ أَمْ مُنْقَطِعٌ، وَهَلْ هُوَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَيْسَ مِنْهُمْ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ قَتَادَةُ:
الْجِنُّ حَيٌّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: هُوَ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ ظَفِرَتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ فَأَسَرَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: هُوَ أَوَّلُ الْجِنِّ وبدايتهم كَآدَمَ فِي الْإِنْسِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ إِبْلِيسُ وَقَبِيلُهُ جِنًّا لَكِنَّ الشَّيَاطِينَ الْيَوْمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَهُوَ كَنُوحٍ فِي الْإِنْسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ جَارٍ مَجْرَى التَّعْلِيلِ بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ إِبْلِيسَ مِنَ السَّاجِدِينَ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا لَهُ لَمْ يَسْجُدْ فَقِيلَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَالْفَاءُ لِلتَّسْبِيبِ أَيْضًا جَعَلَ كَوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ سَبَبًا فِي فِسْقِهِ، يَعْنِي إِنَّهُ لَوْ كَانَ مَلَكًا كَسَائِرِ مَنْ سَجَدَ لِآدَمَ لَمْ يَفْسُقْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعْصُومُونَ أَلْبَتَّةَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا يَجُوزُ عَلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَمَا قَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «1» وَهَذَا الْكَلَامُ الْمُعْتَرَضُ تَعَمُّدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَعَلَا لِصِيَانَةِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ وُقُوعِ شُبْهَةٍ فِي عِصْمَتِهِمْ، فَمَا أَبْعَدَ الْبَوْنُ بَيْنَ مَا تَعَمَّدَهُ اللَّهُ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ ضَادَّهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ مَلَكًا وَرَئِيسًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَعَصَى فَلُعِنَ وَمُسِخَ شَيْطَانًا، ثُمَّ وَرَّكَهُ عَلَى ابن عباس انتهى.
(1) سورة الأنبياء: 21/ 27.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فَخَرَجَ عَمَّا أَمَرَهُ رَبُّهُ بِهِ مِنَ السُّجُودِ. قَالَ رُؤْبَةُ:
يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرَا
…
فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا حَوَائِرَا
وَقِيلَ: فَفَسَقَ صَارَ فَاسِقًا كَافِرًا بِسَبَبِ أَمْرِ رَبِّهِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ اسْجُدُوا لِآدَمَ حَيْثُ لَمْ يَمْتَثِلْهُ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَفَسَقَ بِأَمْرِ رَبِّهِ أَيْ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَمْرٌ كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِكَ أَيْ بِحَسَبِ مُرَادِكَ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَتَتَّخِذُونَهُ لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ أَيْ أَبَعْدَ مَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ تَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي مَعَ ثُبُوتِ عَدَاوَتِهِ لَكُمْ تَتَّخِذُونَهُ وَلِيًّا. وَقَرَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَخْطُبُ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ بِفَتْحِ الذَّالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِإِبْلِيسَ ذُرِّيَّةً وَقَالَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنْهُمْ قَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْمَشُ. قَالَ قَتَادَةُ: يَنْكِحُ وَيَنْسُلُ كَمَا يَنْسُلُ بَنُو آدَمَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا يَكُونُ ذُرِّيَّةٌ إِلَّا مِنْ زَوْجَةٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِإِبْلِيسَ إِنِّي لَا أَخْلُقُ لِآدَمَ ذُرِّيَّةً إِلَّا ذَرَأْتُ لَكَ مِثْلَهَا، فَلَيْسَ يُولَدُ لِوَلَدِ آدَمَ وَلَدٌ إِلَّا وُلِدَ مَعَهُ شَيْطَانٌ يُقْرَنُ به.
وقيل لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: أَلَكَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ» .
وَسَمَّى الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ جَمَاعَةً اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا كَيْفِيَّاتٍ فِي وَطْئِهِ وَإِنْسَالِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِإِبْلِيسَ وَلَدٌ وَإِنَّمَا الشَّيَاطِينُ هُمُ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ عَلَى بُلُوغِ مَقَاصِدِهِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أَيْ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا مِنَ اللَّهِ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ وَقَالَ لِلظَّالِمِينَ لِأَنَّهُمُ اعْتَاضُوا مِنَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَجَعَلُوا مَكَانَ وِلَايَتِهِمْ إِبْلِيسَ وذريته، وهذا نفس الظالم لِأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غيره مَوْضِعِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا أَشْهَدْتُهُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ والسبختياني وَعَوْنٌ الْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ: مَا أَشْهَدْنَاهُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي أَشْهَدْتُهُمْ عَلَى إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ أَيْ لَمْ أُشَاوِرْهُمْ فِي خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ بَلْ خَلَقْتُهُمْ عَلَى مَا أَرَدْتُ، وَلِهَذَا قَالَ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي إِنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ شُرَكَاءَ لِي فِي الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَكُونُونَ شُرَكَاءَ فِيهَا لَوْ كَانُوا شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَنَفَى مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا أَعْتَضِدُ بِهِمْ فِي خَلْقِهَا وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أَيْ وَلَا أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ خَلْقَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَهُمْ أَعْوَانًا فَوَضَعَ الْمُضِلِّينَ موضع
(1) سورة النساء: 4/ 29.
الضَّمِيرِ ذَمًّا لَهُمْ بِالْإِضْلَالِ فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا لِي عَضُداً فِي الْخَلْقِ فَمَا لَكُمْ تَتَّخِذُونَهُمْ شُرَكَاءَ فِي الْعِبَادَةِ انْتَهَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا أَشْهَدَهُمْ ذَلِكَ وَلَا اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي خَلْقِهَا بَلْ خَلَقْتُهُمْ لِيُطِيعُونِي وَيَعْبُدُونِي فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهُمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ فِي أَشْهَدْتُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ وَعَلَى النَّاسِ بِالْجُمْلَةِ، فَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ الرَّدَّ عَلَى طَوَائِفَ مِنَ الْمُنَجِّمِينَ وَأَهْلِ الطَّبَائِعِ وَالْمُتَحَكِّمِينَ وَالْأَطِبَّاءِ وَسِوَاهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ يَتَخَرَّصُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ الصَّقَلِّيُّ وَتَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّهَا رَادَّةٌ عَلَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ، وَذَكَرَ هَذَا بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ انْتَهَى.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ وَشَيْبَةُ وَما كُنْتُ بِفَتْحِ التَّاءِ خِطَابًا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى وَمَا صَحَّ لَكَ الِاعْتِضَادُ بِهِمْ، وَمَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْتَزَّ بِهِمُ انْتَهَى. وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ الْمَعْنَى إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ نَبِيِّهِ وَخِطَابٌ مِنْهُ تَعَالَى لَهُ فِي انْتِفَاءِ كَيْنُونَتِهِ مُتَّخِذَ عَضُدٍ مِنَ الْمُضِلِّينَ، بَلْ هُوَ مُذْ كَانَ وَوُجِدَ عليه السلام فِي غَايَةِ التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَالْبُعْدِ عَنْهُمْ لِتَعْلَمَ أُمَّتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَحْفُوظًا مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ لَمْ يَعْتَضِدْ بِمُضِلٍّ وَلَا مَالَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُتَّخِذًا الْمُضِلِّينَ أَعْمَلَ اسْمَ الْفَاعِلِ.
وَقَرَأَ عِيسَى عَضُداً بِسُكُونِ الضَّادِ خَفَّفَ فَعْلًا كَمَا قَالُوا: رَجْلٌ وَسَبْعٌ فِي رَجُلٍ وَسَبُعٍ وَهِيَ لُغَةٌ عَنْ تَمِيمٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَ شيبة وَأَبُو عُمَرَ وَفِي رِوَايَةِ هَارُونَ وَخَارِجَةَ وَالْخَفَّافِ عَضُداً بِضَمَّتَيْنِ، وَعَنِ الْحَسَنِ عَضُداً بِفَتْحَتَيْنِ وَعَنْهُ أَيْضًا بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ عَضُداً بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الضَّادِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيَوْمَ يَقُولُ بِالْيَاءِ أَيِ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَيَحْيَى وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمْزَةُ وَابْنُ مِقْسَمٍ: نَقُولُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ أَيْ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا نادُوا شُرَكائِيَ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِكُمْ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَمَفْعُولَا زَعَمْتُمْ مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِمَا إِذِ التَّقْدِيرُ زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَائِيَ وَالنِّدَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ، أَيْ اسْتَغِيثُوا بِشُرَكَائِكُمْ وَالْمُرَادُ نَادُوهُمْ لِدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ أَوْ لِلشَّفَاعَةِ لَكُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بَيْنَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الدَّاعِينَ وَالْمَدْعُوِّينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالشُّرَكَاءُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْهُدَى وَأَهْلِ الضَّلَالَةِ، وَالظَّاهِرُ وُقُوعُ الدُّعَاءِ حَقِيقَةً وَانْتِفَاءُ الْإِجَابَةِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً كَأَنَّ فِكْرَةَ الْكَافِرِ وَنَظَرَهُ فِي أَنَّ تِلْكَ الْجَمَادَاتِ لَا تُغْنِي شَيْئًا وَلَا تَنْفَعُ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ شُرَكائِيَ مَمْدُودًا مُضَافًا لِلْيَاءِ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ مَكَّةَ مَقْصُورًا مُضَافًا لَهَا أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ بَيْنَهُمْ عَلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْبَيْنُ هُنَا الْوَصْلُ أي وَجَعَلْنا نواصلهم فِي الدُّنْيَا هَلَاكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِجَعَلْنَا، وَعَلَى الظَّرْفِ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: الْمَوْبِقُ الْمَهْلِكُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا يُوبِقُهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَمُجَاهِدٌ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَجْرِي بِدَمٍ وَصَدِيدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَدَاوَةً. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:
إِنَّهُ الْمَجْلِسُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَوْعِدُ.
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ هِيَ رُؤْيَةُ عَيْنٍ أَيْ عَايَنُوهَا، وَالظَّنُّ هُنَا قِيلَ: عَلَى مَوْضُوعِهِ مِنْ كَوْنِهِ تَرْجِيحَ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ. وَكَوْنُهُمْ لَمْ يَجْزِمُوا بِدُخُولِهَا رَجَاءً وَطَمَعًا فِي رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى فَظَنُّوا أَيْقَنُوا قَالَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمَعْنَى مُواقِعُوها مُخَالِطُوهَا وَاقِعُونَ فِيهَا كَقَوْلِهِ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ «1» الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ «2» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَطْلَقَ النَّاسُ أَنَّ الظَّنَّ هُنَا بِمَعْنَى التَّيَقُّنِ، وَلَوْ قَالَ بَدَلَ ظَنُّوا أَيْقَنُوا لَكَانَ الْكَلَامُ مُتَّسِقًا عَلَى مُبَالَغَةٍ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ بِالظَّنِّ لَا تَجِيءُ أَبَدًا فِي مَوْضِعِ يَقِينٍ تَامٍّ قد ناله الحسن بَلْ أَعْظَمُ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَجِيءَ فِي مَوْضِعِ عِلْمٍ مُتَحَقِّقٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الْمَظْنُونُ وَإِلَّا فَمَنْ يَقَعُ وَيُحَسُّ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعِبَارَةُ عَنْهُ بِالظَّنِّ.
وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَأَمَّلْ قَوْلَ دُرَيْدُ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ انْتَهَى. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ مُلَاقُوهَا مَكَانَ مُواقِعُوها وَقَرَأَهُ كَذَلِكَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ، وَالْأَوْلَى جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِمُخَالَفَةِ سَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ مُلَافُّوهَا بِالْفَاءِ مُشَدَّدَةً مِنْ لَفَفْتُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْكَافِرَ لَيَرَى جَهَنَّمَ وَيَظُنُّ أَنَّهَا مُوَاقِعَتُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» .
وَمَعْنَى مَصْرِفاً مَعْدِلًا وَمَرَاعًا. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي كبير الهذلي:
أزهير مل عَنْ شَيْبَةَ مِنْ مَصْرِفِ
…
أَمْ لَا خُلُودَ لِبَاذِلٍ مُتَكَلِّفِ
وَأَجَازَ أَبُو مُعَاذٍ مَصْرِفاً بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهِيَ قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ جَعَلَهُ مَصْدَرًا كَالْمَضْرَبِ لِأَنَّ مُضَارِعَهُ يَصْرِفُ عَلَى يَفْعِلُ كيصرف.
(1) سورة التوبة: 9/ 118.
(2)
سورة البقرة: 2/ 46.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً.
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ صَدْرِ هذه الآية: وشَيْءٍ هُنَا مُفْرَدٌ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ أَيْ أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَأَتَّى مِنْهَا الْجِدَالُ إِنْ فَصَّلْتَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. جَدَلًا خُصُومَةً وَمُمَارَاةً يَعْنِي أَنَّ جَدَلَ الْإِنْسَانِ أَكْثَرُ مِنْ جَدَلِ كُلِّ شَيْءٍ وَنَحْوُهُ، فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَانْتَصَبَ جَدَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ. قِيلَ: الْإِنْسانُ هُنَا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. وَقِيلَ: ابْنُ الزِّبَعْرَى. وَقِيلَ:
أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَكَانَ جِدَالُهُ فِي الْبَعْثِ حِينَ أَتَى بِعَظْمٍ فَذَرَّهُ، فَقَالَ: أَيَقْدِرُ اللَّهُ عَلَى إِعَادَةِ هَذَا؟ قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. قِيلَ: كُلُّ مَنْ يَعْقِلُ مِنْ مَلَكٍ وَجِنٍّ يُجَادِلُ والْإِنْسانُ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جَدَلًا انْتَهَى.
وَكَثِيرًا مَا يُذْكَرُ الْإِنْسَانُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ
وَقَدْ تَلَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا حِينَ عَاتَبَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى النَّوْمِ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ:
إِنَّمَا نَفْسِي بِيَدِ اللَّهِ
، فَاسْتُعْمِلَ الْإِنْسانُ عَلَى الْعُمُومِ. وَفِي قوله وَما مَنَعَ النَّاسَ الْآيَةَ تَأَسُّفٌ عَلَيْهِمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى فَسَادِ حَالِهِمْ لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَمْ يَكُنْ بِقَصْدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا لِيَجِيئَهُمُ الْعَذَابُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا هُمْ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ لَكِنَّ الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ يَسُوقُهُمْ إِلَى هَذَا فَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي التَّأَسُّفَ عليهم. والنَّاسَ يُرَادُ بِهِ كُفَّارُ عَصْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ تَوَلَّوْا دَفْعَ الشَّرِيعَةِ وَتَكْذِيبَهَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الْأُولَى نَصْبٌ وَالثَّانِيَةَ رَفْعٌ وَقَبْلَهُمَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَما مَنَعَ النَّاسَ الْإِيمَانَ إِلَّا انْتِظَارُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَهِيَ الْإِهْلَاكُ أَوْ انْتِظَارُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ يَعْنِي عَذَابَ الْآخِرَةِ انْتَهَى. وَهُوَ مُسْتَرَقٌ مِنْ قَوْلِ الزَّجَّاجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ مَا مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا طَلَبُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَعْنَى مَا مَنَعَهُمْ إِلَّا أَنِّي قَدْ قَدَّرْتُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ
وَأُحُدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ نَحْوٌ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ التَّقْدِيرُ وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِلَّا مَا سَبَقَ فِي عِلْمِنَا وَقَضَائِنَا أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ مِنَ الْمَسْخِ وَالصَّيْحَةِ وَالْخَسْفِ وَالْغَرَقِ وَعَذَابِ الظُّلَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَرَادَ بِالْأَوَّلِينَ مَنْ أُهْلِكَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: إِلَّا إِرَادَةُ أَوِ انْتِظَارُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّتُنَا فِي الْأَوَّلِينَ، وَمَنْ قَدَّرَ الْمُضَافَ هَذَا أَوِ الطَّلَبَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ عَدَمَ صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا قَالَ حِكَايَةً عَنْ بَعْضِهِمْ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «1» . وَقِيلَ: مَا هُنَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ لَا نَافِيَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ وَأَيُّ شَيْءٍ مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا والْهُدى الرَّسُولُ أَوِ الْقُرْآنُ قَوْلَانِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَخَلَفٌ وَأَيُّوبُ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْكُوفِيُّونَ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى قُبُلًا لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ حَكَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْمُقَابَلَةِ، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعَ قَبِيلٍ أَيْ يَجِيئُهُمُ الْعَذَابُ أَنْوَاعًا وَأَلْوَانًا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَمُجَاهِدٌ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ قُبُلًا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَمَعْنَاهُ عِيَانًا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ أَيْضًا بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَهُوَ تَخْفِيفُ قُبُلٍ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ. وَذَكَرَ ابن قتيبة أنه قرىء بِفَتْحَتَيْنِ وَحَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ مُسْتَقْبَلًا. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَة قَبِيلًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَبَاءٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ أَيْ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ لِمَنْ آمَنَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِمَنْ كَفَرَ لَا ليجادلوا ولا ليتمنى عَلَيْهِمُ الِاقْتِرَاحَاتُ لِيُدْحِضُوا لِيُزِيلُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي يَجْمَعُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَعَلَامَاتِ الرَّسُولِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَما أُنْذِرُوا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَاحْتَمَلَتْ مَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَما أُنْذَرُوهُ وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ وَإِنْذَارُهُمْ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عَائِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ هُزُواً أَيْ سُخْرِيَةً وَاسْتِخْفَافًا لِقَوْلِهِمْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لَوْ شِئْنَا لقلنا مثل هذا وجدا لهم للرسل صلى الله عليه وسلم قولهم وما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا «2» وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ الْمُضَافُ إِلَى الرَّبِّ هُوَ الْقُرْآنُ وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا فِي قَوْلِهِ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَإِعْرَاضُهُ عَنْهَا كَوْنُهُ لَا يَتَذَكَّرُ حِينَ ذُكِّرَ وَلَمْ يَتَدَبَّرْ وَنَسِيَ عَاقِبَةَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي غَيْرَ مُفَكِّرٍ فِيهَا وَلَا نَاظِرٍ فِي أَنَّ الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ يجزيان بما عملا.
(1) سورة الأنفال: 8/ 32.
(2)
سورة يس: 36/ 15.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ قَوْلِهِ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَهْتَدُونَ أَبَدًا وَهَذَا مِنَ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُوَ مَنْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ إِذْ قَدِ اهْتَدَى كَثِيرٌ مِنَ الْكَفَرَةِ وَآمَنُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الْجَمِيعِ أَيْ وَإِنْ تَدْعُهُمْ أَيْ إِلَى الْهُدى جَمِيعًا فَلَنْ يَهْتَدُوا جَمِيعًا أَبَداً وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ فَأُفْرِدَ ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ فَجَمَعَ وَجَعَلُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ إِلَى الْهُدَى وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِ الِاهْتِدَاءِ، سَبَبًا لِانْتِفَاءِ هِدَايَتِهِمْ، وَهَذَا الشَّرْطُ كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِلرَّسُولِ عَنْ تَقْدِيرِ قَوْلِهِ مَالِي لَا أَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى حِرْصًا مِنْهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى حُصُولِ إِيمَانِهِمْ، فَقِيلَ: وَإِنْ تَدْعُهُمْ وَتَقْيِيدُهُ بِالْأَبَدِيَّةِ مُبَالَغَةٌ فِي انْتِفَاءِ هِدَايَتِهِمْ.
والْغَفُورُ صفة مبالغة وذُو الرَّحْمَةِ أَيِ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلَ رَحْمَتِهِ وهو كونه تعالى لَوْ يُؤاخِذُهُمْ عَاجِلًا بَلْ يُمْهِلُهُمْ مَعَ إِفْرَاطِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَعَدَاوَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَالْمَوْعِدُ أَجَلُ الْمَوْتِ، أَوْ عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَوْ يَوْمُ بَدْرٍ، أَوْ يَوْمُ أُحُدٍ، وَأَيَّامُ النَّصْرِ أَوِ الْعَذَابِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ أَقْوَالٌ.
وَالْمَوْئِلُ قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَحْرَزُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمَخْلَصُ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ دُونِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْعِدِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ مَوِّلًا بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا يَاءٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الْحُلْوَانِيِّ عَنْهُ مَوِلًا بِكَسْرِ الْوَاوِ خَفِيفَةً مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا يَاءٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ الْوَاوِ وهمزة بعدها مكسورة، وإشارة تَعَالَى بِقَوْلِهِ وَتِلْكَ الْقُرى إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ أَهْلَ مَكَّةَ وَالْعَرَبِ كَقُرَى ثَمُودٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ، لِيَعْتَبِرُوا بِمَا جَرَى عَلَيْهِمْ وَلِيَحْذَرُوا مَا يَحِلُّ بِهِمْ كَمَا حَلَّ بِتِلْكَ الْقُرَى. وَتِلْكَ مبتدأ والْقُرى صِفَةٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَالْخَبَرُ أَهْلَكْناهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تكون الْقُرى الخبر وأَهْلَكْناهُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ كَقَوْلِهِ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «1» وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ أَيْ وَأَهْلَكْنَا تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ وتِلْكَ الْقُرى عَلَى إِضْمَارِ مُضَافٍ أَيْ وَأَصْحَابَ تِلْكَ الْقُرَى، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ أَهْلَكْناهُمْ.
وَقَوْلُهُ لَمَّا ظَلَمُوا إِشْعَارٌ بِعِلَّةِ الْإِهْلَاكِ وَهِيَ الظُّلْمُ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ عَلَى حَرْفِيَّةِ لَمَّا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْنَى حِينٍ لِأَنَّ الظَّرْفَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ. وَفِي قَوْلِهِ لَمَّا ظَلَمُوا تَحْذِيرٌ مِنَ الظُّلْمِ إِذْ نَتِيجَتُهُ الْإِهْلَاكُ وضربنا لإهلاكهم وقتا
(1) سورة النمل: 27/ 52.