الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَعْلُومًا، وَهُوَ الْمَوْعِدُ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا أَوْ زَمَانًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ وَأَنْ يَكُونَ زَمَانًا. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَهَارُونُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ زَمَانُ الْهَلَاكِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ مَصْدَرُ هَلَكَ يَهْلِكُ وَهُوَ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ. وَقِيلَ: هَلَكَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا فَعَلَى تَعْدِيَتِهِ يَكُونُ مُضَافًا لِلْمَفْعُولِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ:
وَمَهْمَهٍ هَالِكِ مَنْ تَعَرَّجَا وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ فِي هَذَا الْبَيْتِ، بَلْ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ هَالِكًا فِيهِ لَازِمٌ وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ أَصْلُهُ هَالِكٍ مَنْ تَعَرَّجَا. فَمَنْ فَاعِلٌ ثُمَّ أُضْمِرَ فِي هَالِكٍ ضَمِيرُ مَهْمَهٍ، وَانْتَصَبَ مِنْ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ ثُمَّ أضاف مَنْ نَصَبَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَوْصُولِ هَلْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ؟ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
أَسِيلَاتُ أَبْدَانٍ دِقَاقٌ خُصُورُهَا
…
وَثِيرَاتُ مَا الْتَفَّتْ عَلَيْهَا الْمَلَاحِفُ
وَقَالَ آخَرُ:
فَعُجْتُهَا قِبَلَ الْأَخْيَارِ مَنْزِلَةً
…
وَالطَّيِّبِي كُلِّ مَا الْتَاثَتْ بِهِ الْأُزُرُ
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 78]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)
بَرِحَ: زَالَ مُضَارِعُ يَزُولُ، وَمُضَارِعُ يَزَالُ فَتَكُونُ مِنْ أَخَوَاتِ كَانَ النَّاقِصَةِ. الْحِقَبُ:
السُّنُونُ وَاحِدُهَا حِقْبَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ تَنْأَ عَنْهَا حِقْبَةً لَا تُلَاقِهَا
…
فَإِنَّكَ مما أحدثت بالمحرب
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحُقُبُ سَنَةٌ، وَيَأْتِي قَوْلُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِيهِ. السَّرَبُ: الْمَسْلَكُ فِي جَوْفِ الْأَرْضِ. النَّصَبُ: التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ. الصَّخْرَةُ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ حَجَرٌ كَبِيرٌ. السَّفِينَةُ مَعْرُوفَةٌ وَتُجْمَعُ عَلَى سُفُنٍ وَعَلَى سَفَائِنَ، وَتُحْذَفُ التَّاءُ فَيُقَالُ سَفِينَةٌ وَسَفِينٌ وَهُوَ مِمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمَخْلُوقِ نَادِرٌ فِي الْمَصْنُوعِ، نحو عمامة وعمام. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مَتَى تَأْتِهِ تَأْتِ لُجَّ بَحْرٍ
…
تَقَاذَفُ في غوار به السَّفِينُ
الْإِمْرُ الْبَشِعُ مِنَ الْأُمُورِ كَالدَّاهِيَةِ وَالْإِدِّ وَنَحْوِهِ. الْجِدَارُ مَعْرُوفٌ وَيُجْمَعُ عَلَى جُدُرٍ وَجُدْرَانٍ.
انْقَضَّ سَقَطَ، ومن أبيات معاياة الْأَعْرَابِ:
مَرَّ كَمَا انْقَضَّ عَلَى كَوْكَبٍ
…
عِفْرِيتُ جِنٍّ فِي الدُّجَى الْأَجْدَلِ
عَابَ الرَّجُلَ ذَكَرَ وَصْفًا فِيهِ يُذَمُّ بِهِ، وَعَابَ السَّفِينَةَ أَحْدَثَ فِيهَا مَا تَنْقُصُ بِهِ.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا
الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً.
مُوسى الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عليه السلام، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مُوسَى غَيْرَهُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ وَهُوَ مُوسَى بْنَ مَيْشًا بْنِ يُوسُفَ، أو موسى بن إفرائيم بْنِ يُوسُفَ فَقَوْلٌ لَا يَصِحُّ، بَلِ الثَّابِتُ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَفِي التَّوَارِيخِ أَنَّهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ نبيّ إِسْرَائِيلَ، وَالْمُرْسَلُ هُوَ وَأَخُوهُ هَارُونُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَفَتَاهُ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ بن إفرائيم بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
، وَالْفَتَى الشَّابُّ وَلَمَّا كَانَ الْخَدَمُ أَكْثَرَ مَا يَكُونُونَ فِتْيَانًا قِيلَ لِلْخَادِمِ فَتًى عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الْأَدَبِ، وَنَدَبَتِ الشَّرِيعَةُ إِلَى ذَلِكَ.
فَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَلَا أَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي» .
وَقَالَ: لِفَتاهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُهُ وَيَتْبَعُهُ. وَقِيلَ: كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعِلْمَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ يُوشَعَ كَانَ ابْنَ أُخْتِ مُوسَى عليه السلام وَسَبَبُ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ مُوسَى عليه السلام جَلَسَ يَوْمًا فِي مَجْلِسٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَطَبَ فَأَبْلَغَ، فَقِيلَ لَهُ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ بِطُولِ سَيْفِ الْبَحْرِ حَتَّى يَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَسِيرُ
أَيْ لَا أَزَالُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهُوَ سَائِرٌ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
فَمَا بَرِحُوا حَتَّى تَهَادَتْ نِسَاؤُهُمْ
…
بِبَطْحَاءِ ذِي قار عباب اللَّطَائِمِ
انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ حَذْفُ خَبَرِ لَا أَبْرَحُ وَهِيَ مِنْ أَخَوَاتِ كَانَ، وَنَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ حَذْفَ خَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا لَا يَجُوزُ وإن دل الدليل عَلَى حَذْفِهِ إِلَّا مَا جَاءَ فِي الشِّعْرِ مِنْ قَوْلِهِ:
لَهَفِي عَلَيْكَ لِلَهْفَةٍ مِنْ خَائِفٍ
…
يَبْغِي جِوَارَكَ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ
أَيْ حِينَ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لَا أَبْرَحُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى لَا أَزُولُ مِنْ بَرِحَ الْمَكَانَ فَقَدْ دَلَّ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى لَا أَزَالُ فَلَا بُدَّ مِنَ الْخَبَرِ قُلْتُ: هُوَ بِمَعْنَى لَا أَزَالُ وَقَدْ حُذِفَ الْخَبَرُ لِأَنَّ الْحَالَ وَالْكَلَامَ مَعًا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ، أَمَّا الْحَالُ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ حَالَ سَفَرٍ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ غَايَةٌ مَضْرُوبَةٌ تَسْتَدْعِي مَا هِيَ غَايَةٌ لَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا يَبْرَحُ مَسِيرِي حَتَّى أَبْلُغَ عَلَى أَنَّ
حَتَّى أَبْلُغَ هُوَ الْخَبَرُ، فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ أُقِيمَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَهُوَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ، فَانْقَلَبَ الْفِعْلُ عَنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ وَجْهٌ لِطَيْفٌ انْتَهَى. وَهُمَا وَجْهَانِ خَلَطَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَجَعَلَ الْفِعْلَ مُسْنَدًا إِلَى الْمُتَكَلِّمِ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا وَجَعَلَ الْخَبَرَ مَحْذُوفًا كَمَا قَدَّرَهُ ابن عطية وحَتَّى أَبْلُغَ فَضْلَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ وَغَايَةٌ لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي جَعَلَ لَا أَبْرَحُ مُسْنَدًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ الْمَحْذُوفِ وَجَعَلَهُ لَا أَبْرَحُ هُوَ حَتَّى أَبْلُغَ فَهُوَ عُمْدَةٌ إِذْ أَصْلُهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ لِأَنَّهُ خَبَرُ أَبْرَحُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا أَبْرَحُ مَا أَنَا عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَلْزَمُ الْمَسِيرَ وَالطَّلَبَ وَلَا أَتْرُكُهُ وَلَا أُفَارِقُهُ حَتَّى أَبْلُغَ كَمَا تَقُولُ لَا أَبْرَحُ الْمَكَانَ انْتَهَى. يَعْنِي إِنَّ بَرِحَ يَكُونُ بِمَعْنَى فَارَقَ فَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ إِلَى مَفْعُولٍ وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ،
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى مِصْرَ أَنْزَلَ قَوْمَهُ بِمِصْرَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْحَالُ خَطَبَ يَوْمًا فَذَكَّرَ بِآلَاءِ اللَّهِ وَأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا يُرَى قَطُّ أَنَّ مُوسَى عليه السلام أَنْزَلَ قَوْمَهُ بِمِصْرَ إِلَّا فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ بَلِ الْمُتَظَاهِرُ أَنَّ مُوسَى مَاتَ بِفَحْصِ التِّيهِ قَبْلَ فَتْحِ دِيَارِ الْجَبَّارِينَ، وَهَذَا
الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى مِصْرَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاسْتَقَرُّوا بَعْدَ هَلَاكِ الْقِبْطِ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ النِّعْمَةَ فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى نَبِيَّكُمْ وَكَلَّمَهُ فَقَالُوا لَهُ: قَدْ عَلِمْنَا هَذَا فَأَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟
قَالَ: أَنَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بَلْ أَعْلَمُ مِنْكَ عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ وَهُوَ الْخَضِرُ، كَانَ الْخَضِرُ فِي أَيَّامِ أَفْرِيدُونَ قَبْلَ مُوسَى وَكَانَ عَلَى مَقْدُمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْأَكْبَرِ وَبَقِيَ إِلَى أَيَّامِ مُوسَى، وَذَكَرَ أَيْضًا فِي أَسْئِلَةِ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي عِبَادِكَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي فَادْلُلْنِي عَلَيْهِ، قَالَ: أَعْلَمُ مِنْكَ الْخَضِرُ
انْتَهَى. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ هَلْ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لا.
ومَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ مُجْتَمَعُ بَحْرِ فَارِسَ وَبَحْرِ الرُّومِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ ذِرَاعٌ يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ مِنْ شَمَالٍ إِلَى جَنُوبٍ فِي أَرْضِ فَارِسَ مِنْ وَرَاءِ أَذْرَبِيجَانَ، فَالرُّكْنُ الَّذِي لِاجْتِمَاعِ الْبَحْرَيْنِ مِمَّا يَلِي بَرَّ الشَّامِ هُوَ مُجْتَمَعُ الْبَحْرَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هُوَ عِنْدَ طَنْجَةَ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْبَحْرُ
الْمُحِيطُ وَالْبَحْرُ الْخَارِجُ مِنْهُ مِنْ دَبُورٍ إِلَى صِبَا. وَعَنْ أُبَيٍّ بِإِفْرِيقِيَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ بَحْرُ الْأَنْدَلُسِ وَالْقَرْيَةُ الَّتِي أَبَتْ أَنْ تُضِيفَهُمَا هِيَ الْجَزِيرَةُ الْخَضْرَاءُ. وَقِيلَ: مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ بَحْرٌ مِلْحٌ وَبَحْرٌ عَذْبٌ فَيَكُونُ الْخَضِرُ عَلَى هَذَا عِنْدَ مَوْقِعِ نَهْرٍ عَظِيمٍ فِي الْبَحْرِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْبَحْرَانِ كِنَايَةٌ عَنْ مُوسَى وَالْخَضِرُ لِأَنَّهُمَا بَحْرَا عِلْمٍ. وَهَذَا شَبِيهٌ بِتَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ وَغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا بَحْرَا مَاءٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الْبَحْرَيْنِ مُوسَى وَالْخَضِرُ لِأَنَّهُمَا كَانَا بَحْرَيْنِ فِي الْعِلْمِ انْتَهَى. وَقِيلَ: بَحْرُ الْقُلْزُمِ. وَقِيلَ: بَحْرُ الْأَزْرَقِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ مَجْمَعَ بِكَسْرِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ وَالنَّضْرُ عَنِ ابْنِ مُسْلِمٍ فِي كِلَا الْحَرْفَيْنِ وَهُوَ شَاذٌّ، وَقِيَاسُهُ مِنْ يَفْعَلُ فَتْحُ الْمِيمِ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ هُوَ اسْمُ مَكَانِ جَمْعِ الْبَحْرَيْنِ. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحُقُبُ الدَّهْرُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو وَأَبُو هُرَيْرَةَ: ثَمَانُونَ سَنَةً.
وَقَالَ الْحَسَنُ: سَبْعُونَ. وَقِيلَ: سَنَةٌ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: وَقْتٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ أَمْضِيَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَبْلُغَ فَغَيَّا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا بِبُلُوغِهِ الْمَجْمَعِ وَإِمَّا بِمُضِيِّهِ حُقُباً. وَقِيلَ: هِيَ تَغْيِيَةٌ لِقَوْلِهِ لَا أَبْرَحُ كَقَوْلِكَ لَا أُفَارِقُكَ أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي، فَالْمَعْنَى لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ إِلَى أَنْ أَمْضِيَ زَمَانًا أَتَيَقَّنُ مَعَهُ فَوَاتَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ حُقُباً بِإِسْكَانِ الْقَافِ وَالْجُمْهُورُ بِضَمِّهَا.
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ فسار فَلَمَّا بَلَغا أَيْ مُوسَى وَفَتَاهُ مَجْمَعَ بَيْنِهِما أَيْ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ نَسِيا حُوتَهُما
وَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْحُوتِ وَقِصَّتِهِ أَنَّ مُوسَى عليه السلام حِينَ أُوحِيَ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رؤوسهما فَنَامَ مُوسَى وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ سَرَباً وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ.
قِيلَ: وَكَانَ الْحُوتُ مَالِحًا. وَقِيلَ: مَشْوِيًّا. وَقِيلَ: طَرِيًّا.
وَقِيلَ: جَمَعَ يُوشَعُ الْحُوتَ وَالْخُبْزَ فِي مِكْتَلٍ فَنَزَلَا لَيْلَةً عَلَى شَاطِئِ عَيْنٍ تُسَمَّى عَيْنَ الْحَيَاةِ وَنَامَ مُوسَى، فَلَمَّا أَصَابَ السَّمَكَةَ رَوْحُ الْمَاءِ وَبَرْدُهُ عَاشَتْ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا أَكَلَا مِنْهَا. وَقِيلَ: تَوَضَّأَ يُوشَعُ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ فَانْتَضَحَ الْمَاءُ عَلَى الْحُوتِ فَعَاشَ وَوَقَعَ فِي الْمَاءِ
، وَالظَّاهِرُ نِسْبَةُ النِّسْيَانِ إِلَى مُوسَى وَفَتَاهُ.
وَقِيلَ: كَانَ النِّسْيَانُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ فَتَى مُوسَى نَسِيَ أَنْ يُعْلِمَ مُوسَى أَمْرَ الْحُوتِ إِذْ كَانَ نَائِمًا، وَقَدْ أَحَسَّ يُوشَعُ بِخُرُوجِهِ مِنَ الْمِكْتَلِ إِلَى الْبَحْرِ وَرَآهُ قَدِ اتَّخَذَ السَّرَبَ فَأَشْفَقَ أَنْ يُوقِظَ مُوسَى. وَقَالَ أُؤَخِّرُ إِلَى أَنْ يَسْتَيْقِظَ ثُمَّ نَسِيَ أَنْ يُعْلِمَهُ حَتَّى ارْتَحَلَا وجاوَزا وَقَدْ يُسْنَدُ الشَّيْءُ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَعَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ نَسِيَ أَحَدُهُمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ نَسِيا تَفَقُّدَ أَمْرِهِ وَمَا يَكُونُ مِنْهُ مِمَّا جُعِلَ أَمَارَةً عَلَى الظَّفَرِ بِالطِّلْبَةِ. وَقِيلَ: نَسِيَ يُوشَعُ أَنْ يُقَدِّمَهُ، وَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ بِشَيْءٍ انْتَهَى.
وَشُبِّهَ بِالسَّرَبِ مَسْلَكُ الْحُوتِ فِي الْمَاءِ حِينَ لَمْ يَنْطَبِقِ الْمَاءُ بَعْدَهُ بَلْ بَقِيَ كَالطَّاقِ، هَذَا الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَقِيَ مَوْضِعُ سُلُوكِهِ فَارِغًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَاءً جَامِدًا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَجَرًا صَلْدًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّمَا اتَّخَذَ سَبِيلَهُ سَرَبًا فِي الْبَرِّ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْبَحْرِ ثُمَّ عَامَ عَلَى الْعَادَةِ كَأَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ سَرَباً تَصَرُّفًا وَجَوَلَانًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَحْلٌ سَارِبٌ أَيْ مُهْمَلٌ يَرْعَى حَيْثُ شَاءَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَسارِبٌ بِالنَّهارِ «1» أَيْ مُتَصَرِّفٌ.
وَقَالَ قَوْمٌ: اتَّخَذَ سَرَباً فِي التراب من المكتمل، وَصَادَفَ فِي طَرِيقِهِ حَجَرًا فَنَقَبَهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّرَبَ كَانَ فِي الْمَاءِ وَلَا يُفَسَّرُ إِلَّا بِمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَاءَ صَارَ عَلَيْهِ كَالطَّاقِ
وَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِمُوسَى عليه السلام أَوِ الْخَضِرِ إِنْ قُلْنَا أَنَّهُ نَبِيٌّ وَإِلَّا تَكُنْ كَرَامَةً.
وَقِيلَ: عَادَ مَوْضِعَ سُلُوكِ الْحُوتِ حَجَرًا طَرِيقًا وَأَنَّ مُوسَى مَشَى عَلَيْهِ مُتَّبِعًا لِلْحُوتِ حَتَّى أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ وَفِيهَا وَجَدَ الْخَضِرَ
فَلَمَّا جاوَزا أَيْ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَوْعِدَ وَهُوَ الصَّخْرَةُ. قِيلَ: سَارَا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الصَّخْرَةِ اللَّيْلَةَ وَالْغَدَ إِلَى الظُّهْرِ وَأُلْقِيَ عَلَى مُوسَى النَّصَبُ وَالْجُوعُ حِينَ جَاوَزَ الْمَوْعِدَ وَلَمْ يَنْصَبْ وَلَا جَاعَ قَبْلَ ذَلِكَ فَتَذَكَّرَ الْحُوتَ وَطَلَبَهُ. وَقَوْلُهُ مِنْ سَفَرِنا هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَسِيرِهِمَا وَرَاءَ الصَّخْرَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَصَباً بِفَتْحَتَيْنِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ بِضَمَّتَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ وَهِيَ إِحْدَى اللُّغَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي فِيهَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف نَسِيَ يُوشَعُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ لَا يُنْسَى لِكَوْنِهِ أَمَارَةً لَهُمَا عَلَى الطِّلْبَةِ الَّتِي تَنَاهَضَا مِنْ أَجْلِهَا وَلِكَوْنِهِ مُعْجِزَتَيْنِ بَيِّنَتَيْنِ وَهُمَا حَيَاةُ السَّمَكَةِ الْمَمْلُوحَةِ الْمَأْكُولِ مِنْهَا وَقِيلَ: مَا كَانَتْ إِلَّا شِقَّ سَمَكَةٍ وَقِيَامُ الْمَاءِ وَانْتِصَابُهُ مِثْلُ الطَّاقِ وَنُفُوذُهَا فِي مِثْلِ السَّرَبِ، ثُمَّ كَيْفَ اسْتَمَرَّ بِهِ النِّسْيَانُ حَتَّى خَلَّفَا الْمَوْعِدَ وَسَارَا مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ إِلَى ظُهْرِ الْغَدِ، وَحَتَّى طَلَبَ مُوسَى عليه السلام الْحُوتَ قُلْتُ: قَدْ شَغَلَهُ الشَّيْطَانُ بِوَسَاوِسِهِ فذهب بفكره كل
(1) سورة الرعد: 13/ 10.
مَذْهَبٍ حَتَّى اعْتَرَاهُ النِّسْيَانُ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ضَرِيَ بِمُشَاهَدَةِ أَمْثَالِهِ عِنْدَ مُوسَى مِنَ الْعَجَائِبِ، وَاسْتَأْنَسَ بِأَخَوَاتِهِ فَأَعَانَ الْإِلْفَ عَلَى قِلَّةِ الِاهْتِمَامِ انْتَهَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ غَالِبُ بْنُ عَطِيَّةَ وَالدَّانِيُّ عَبْدُ الْحَقِّ الْمُفَسِّرُ: سَمِعْتُ أَبَا الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيَّ يَقُولُ فِي وَعْظِهِ: مَشَى مُوسَى إِلَى الْمُنَاجَاةِ فَبَقِيَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى طَعَامٍ، وَلَمَّا مَشَى إِلَى بَشَرٍ لَحِقَهُ الْجُوعُ فِي بَعْضِ يَوْمٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ الْتِئَامِ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَرَأَيْتَ وإِذْ أَوَيْنا وفَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ؟ قُلْتُ: لَمَّا طَلَبَ مُوسَى الْحُوتَ ذَكَرَ يُوشَعُ مَا رَأَى مِنْهُ وَمَا اعْتَرَاهُ مِنْ نِسْيَانِهِ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ فَدُهِشَ فَطَفِقَ يَسْأَلُ مُوسَى عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَرَأَيْتَ مَا دَهَانِي إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فَحُذِفَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَكَوْنُ أَرَأَيْتُكَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي شَرْحِنَا لِكِتَابِ التَّسْهِيلِ.
وَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِأَرَأَيْتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ: إِنَّ الْعَرَبَ أَخْرَجَتْهَا عَنْ مَعْنَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَقَالُوا: أَرَأَيْتُكَ وَأَرَيْتُكَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ لَمْ تُحْذَفْ هَمْزَتُهَا قَالَ: وَشَذَّتْ أَيْضًا فَأَلْزَمَتْهَا الْخِطَابَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا تَقُولُ فِيهَا أَبَدًا أَرَانِي زَيْدٌ عَمْرًا مَا صَنَعَ، وَتَقُولُ هَذَا عَلَى مَعْنَى أَعْلَمُ. وَشَذَّتْ أَيْضًا فَأَخْرَجَتْهَا عَنْ مَوْضِعِهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِدَلِيلِ دُخُولِ الْفَاءِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فَمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ إِلَّا وَقَدْ أُخْرِجَتْ لِمَعْنَى أَمَّا أَوْ تَنَبَّهْ، وَالْمَعْنَى أَمَّا إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَالْأَمْرُ كَذَا، وَقَدْ أَخْرَجَتْهَا أَيْضًا إِلَى مَعْنَى أَخْبِرْنِي كَمَا قَدَّمْنَا، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَلَا بُدَّ بَعْدَهَا مِنَ الِاسْمِ الْمُسْتَخْبَرِ عَنْهُ وَتَلْزَمُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا الِاسْتِفْهَامَ، وَقَدْ يَخْرُجُ لِمَعْنَى أَمَّا وَيَكُونُ أَبَدًا بَعْدَهَا الشَّرْطُ وَظَرْفُ الزَّمَانِ فَقَوْلُهُ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ مَعْنَاهُ أَمَّا إِذْ أَوَيْنا فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أَوْ تَنَبَّهْ إِذْ أَوَيْنا وَلَيْسَتِ الْفَاءُ إِلَّا جَوَابًا لِأَرَأَيْتَ، لِأَنَّ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجَازَى بِهَا إِلَّا مَقْرُونَةً بِمَا بَلَا خِلَافٍ انْتَهَى كَلَامُ الْأَخْفَشِ. وَفِيهِ إِنَّ أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَلَا بُدَّ بَعْدَهَا مِنَ الِاسْمِ الْمُسْتَخْبَرِ عَنْهُ، وَتَلْزَمُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا الِاسْتِفْهَامَ وَهَذَانِ مَفْقُودَانِ فِي تَقْدِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَرَأَيْتَ هُنَا بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَمَعْنَى نَسِيتُ الْحُوتَ نَسِيتُ ذِكْرَ مَا جَرَى فِيهِ لَكَ.
وَفِي قَوْلِهِ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ حُسْنُ أَدَبٍ سَبَّبَ النِّسْيَانَ إِلَى المتسبب فيه بوسوسته وأَنْ أَذْكُرَهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْحُوتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ
فِي وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً عَائِدٌ عَلَى الْحُوتِ كَمَا عَادَ فِي قَوْلِهِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً وَهُوَ مِنْ كَلَامِ يُوشَعَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى أَيْ اتَّخَذَ مُوسَى.
وَمَعْنَى عَجَباً أَيْ تَعَجُّبٌ مِنْ ذَلِكَ أَوِ اتِّخَاذًا عَجَباً وَهُوَ أَنَّ أَثَرَهُ بَقِيَ إِلَى حَيْثُ سَارَ.
وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ سَبِيلَهُ عَجَباً وَهُوَ كَوْنُهُ شَبِيهَ السَّرَبِ قَالَ: أَوْ قَالَ عَجَباً فِي آخِرِ كَلَامٍ تَعَجُّبًا مِنْ حَالِهِ فِي رُؤْيَةِ تِلْكَ الْعَجِيبَةِ وَنِسْيَانِهِ لَهَا، أَوْ مِمَّا رَأَى مِنَ الْمُعْجِزَتَيْنِ وَقَوْلُهُ:
وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَجَباً حِكَايَةٌ لِتَعَجُّبِ مُوسَى وَلَيْسَ بِذَلِكَ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ يُوشَعَ لِمُوسَى أَيِ اتَّخَذَ الْحُوتُ سَبِيلًا عَجَبًا لِلنَّاسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ تَمَامَ الْخَبَرِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ التَّعَجُّبَ فَقَالَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ عَجَباً لِهَذَا الْأَمْرِ، وَمَوْضِعُ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ حُوتٌ قَدْ مَاتَ وَأَكَلَ شِقَّهُ ثُمَّ حَيَى بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو شُجَاعٍ فِي كِتَابِ الطَّبَرِيِّ رَأَيْتُهُ أَتَيْتُ بِهِ فَإِذَا هُوَ شَقُّ حُوتٍ وَعَيْنٌ وَاحِدَةٌ وَشَقٌّ آخَرُ لَيْسَ فِيهِ شيّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَنَا رَأَيْتُهُ وَالشِّقُّ الَّذِي فِيهِ شَيٌّ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ لَيْسَتْ تَحْتَهَا شَوْكَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ الْآيَةَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَ الْحُوتِ مِنَ الْبَحْرِ عَجَباً أَيْ تَعَجَّبَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنِ الْحُوتِ أَنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ عَجَباً لِلنَّاسِ انْتَهَى. وَقَرَأَ حَفْصٌ: وَما أَنْسانِيهُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَفِي الْفَتْحِ عَلَيْهِ اللَّهُ وَذَلِكَ فِي الْوَصْلِ وَأَمَالَ الْكِسَائِيُّ فَتْحَةَ السِّينِ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ أَنْ أَذْكُرَهُ إِلَّا الشَّيْطانُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَاتِّخَاذُ سَبِيلِهِ عَطْفٌ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي أَذْكُرَهُ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى أَمْرِ الْحُوتِ وَفَقْدِهِ وَاتِّخَاذِهِ سَبِيلًا فِي الْبَحْرِ لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الظَّفَرِ بِالطِّلْبَةِ مِنْ لِقَاءِ ذَلِكَ الْعَبْدِ الصالح وَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ نَبْغِيهِ. وَقُرِئَ نَبْغِ بِغَيْرِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَإِثْبَاتُهَا أَحْسَنُ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ، وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالْأَكْثَرُ فِيهِ طَرْحُ الْيَاءِ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَأَثْبَتَهَا فِي الْحَالَيْنِ ابْنُ كَثِيرٍ.
فَارْتَدَّا رَجَعَا عَلَى أَدْرَاجِهِمَا مِنْ حَيْثُ جَاءَا. قَصَصاً أَيْ يَقُصَّانِ الْأَثَرَ قَصَصاً فَانْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِإِضْمَارِ يَقُصَّانِ، أَوْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُقْتَصِّينَ فَيُنْصَبُ بِقَوْلِهِ فَارْتَدَّا فَوَجَدا أَيْ مُوسَى وَالْفَتَى عَبْداً مِنْ عِبادِنا هَذِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَاخْتِصَاصٍ،
وَجَدَاهُ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي فَقَدَ الْحُوتَ عِنْدَهَا وَهُوَ مُسَجَّى فِي
ثَوْبِهِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْأَرْضِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ فَرَفَعَ رَأَسَهُ، وَقَالَ: أَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ ثُمَّ قَالَ لَهُ، مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ: أَلَمْ يَكُنْ لَكَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا يَشْغَلُكَ عَنِ السَّفَرِ إِلَى هُنَا؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ لِقَاءَكَ وَأَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكَ، قَالَ لَهُ: إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ أَنَا.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ الْخَضِرُ وَخَالَفَ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ فَزَعَمَ أَنَّهُ عَالِمٌ آخَرُ. وَقِيلَ: الْيَسَعُ. وَقِيلَ: إِلْيَاسُ. وَقِيلَ: خَضِرُونُ بْنُ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ عليه السلام.
قِيلَ: وَاسْمُ الْخَضِرِ بَلْيَا بْنُ مَلْكَانَ
، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيٌّ وَكَانَ عِلْمُهُ مَعْرِفَةَ بَوَاطِنَ قَدْ أُوحِيَتْ إِلَيْهِ، وَعِلْمُ مُوسَى الْأَحْكَامَ وَالْفُتْيَا بِالظَّاهِرِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ وُجِدَ قَاعِدًا عَلَى ثَبَجِ الْبَحْرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ سُمِّيَ خَضِرًا لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَالِيَةٍ فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ.
وَقِيلَ: كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ.
وَقِيلَ: جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ.
وَقِيلَ: الصَّلْبَةُ وَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ. وَقِيلَ: كَانَتْ أُمُّهُ رُومِيَّةً وَأَبُوهُ فَارِسِيٌّ.
وَقِيلَ: كَانَ ابْنَ مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ أَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَلَحِقَ بِجَزَائِرَ الْبَحْرِ فَطَلَبَهُ أَبُوهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ.
وَقَالَ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمَرْسِيُّ: أَمَّا خَضِرُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَلَيْسَ بِحَيٍّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَلَزِمَهُ الْمَجِيءُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعُهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَمْ يَسَعْهُمَا إِلَّا اتِّبَاعِي» .
انْتَهَى هكذا أوراد لحديث وَمَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عِيسَى حَيٌّ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَعَلَّ
الْحَدِيثَ: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمْ يَسَعْهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» .
وَالرَّحْمَةُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا هِيَ الْوَحْيُ وَالنُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: الرِّزْقُ. وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أَيْ مِنْ عِنْدِنَا أَيْ مِمَّا يَخْتَصُّ بِنَا مِنَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ. وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مِنْ لَدُنَّا بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَهِيَ لُغَةٌ فِي لَدُنْ وَهِيَ الْأَصْلُ.
قِيلَ: وَقَدْ أُولِعَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الصَّلَاحِ بِادِّعَاءِ هَذَا الْعِلْمِ وَيُسَمُّونَهُ الْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ، وَأَنَّهُ يُلْقَى فِي رَوْعِ الصَّالِحِ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُخْبِرَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى الْخَضِرَ. وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُطِيعٍ الْقُشَيْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يُخْبِرُ عَنْ شَيْخٍ لَهُ أَنَّهُ رَأَى الْخَضِرَ وَحَدَّثَهُ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ الْخَضِرُ؟ وَمِنْ أَيْنَ عَرِفَ ذَلِكَ؟ فَسَكَتَ. وَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَضِرِيَّةَ رُتْبَةٌ يَتَوَلَّاهَا بَعْضُ الصَّالِحِينَ عَلَى قَدَمِ الْخَضِرِ، وَسَمِعْنَا الْحَدِيثَ عَنْ
شَيْخٍ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ الْعَبَّاسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ وَكَانَ أَصْحَابُهُ الْحَنَابِلَةُ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ بِالْخَضِرِ.
قالَ لَهُ مُوسى فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَلَمَّا الْتَقَيَا وَتَرَاجَعَا الْكَلَامَ وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّوَاضُعِ لِلْعَالِمِ، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الرِّحْلَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَعَلَى حُسْنِ التَّلَطُّفِ وَالِاسْتِنْزَالِ وَالْأَدَبِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ. بِقَوْلِهِ هَلْ أَتَّبِعُكَ وَفِيهِ الْمُسَافَرَةُ مَعَ الْعَالِمِ لِاقْتِبَاسِ فَوَائِدِهِ، وَالْمَعْنَى هَلْ يَخِفُّ عَلَيْكَ وَيَتَّفِقُ لَكَ وَانْتَصَبَ رُشْداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ تُعَلِّمَنِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي أَتَّبِعُكَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عِلْماً ذَا رُشْدٍ أُرْشَدُ بِهِ فِي دِينِي، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَمَا دَلَّتْ حَاجَتُهُ إِلَى التَّعَلُّمِ مِنْ آخَرَ فِي عَهْدِهِ أَنَّهُ كَمَا قِيلَ مُوسَى بْنُ مِيشَا لَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ لِأَنَّ النَّبِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَإِمَامَهُمُ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الدِّينِ؟ قُلْتُ:
لَا غَضَاضَةَ بِالنَّبِيِّ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ مِنْ نَبِيٍّ قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَغُضُّ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ دُونَهُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نُوفًا ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ بِصَاحِبِ مُوسَى، وَأَنَّ مُوسَى هُوَ مُوسَى بْنُ مِيشَا فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْيَزِيدِيُّ رُشْداً بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ، وَنَفَى الْخَضِرُ اسْتِطَاعَةَ الصَّبْرِ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ كَأَنَّهَا مِمَّا لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْتَقِيمُ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَتَوَلَّى أُمُورًا هِيَ فِي ظَاهِرِهَا يُنْكِرُهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَكَيْفَ النَّبِيُّ فَلَا يَتَمَالَكُ أَنْ يَشْمَئِزَّ لِذَلِكَ، وَيُبَادِرَ بِالْإِنْكَارِ وَكَيْفَ تَصْبِرُ أَيْ إِنَّ صَبْرَكَ عَلَى مَا لَا خِبْرَةَ لَكَ بِهِ مُسْتَبْعَدٌ، وَفِيهِ إِبْدَاءُ عُذْرٍ لَهُ حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ لِمَا يَرَى مِنْ مُنَافَاةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ شَرِيعَتِهِ. وَانْتَصَبَ خُبْراً عَلَى التَّمْيِيزِ أَيْ مِمَّا لَمْ يُحِطْ بِهِ خُبْرُكَ فَهُوَ مَنْقُولٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ لِأَنَّ مَعْنَى بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ لَمْ تُخْبَرْهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ هُرْمُزَ خُبْراً بِضَمِّ الْبَاءِ.
قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَعَدَهُ بِوِجْدَانِهِ صابِراً وَقَرَنَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عِلْمًا مِنْهُ بِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَصُعُوبَتِهِ، إِذْ لَا يَصْبِرُ إِلَّا عَلَى مَا يُنَافِي ما هو عليه إذ رَآهُ وَلا أَعْصِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صابِراً أَيْ صابِراً وَغَيْرَ عَاصٍ فَيَكُونُ فِي
مَوْضِعِ نَصْبِ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ صَافَّاتٍ ويَقْبِضُ «1» أَيْ وَقَابِضَاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى سَتَجِدُنِي فَلَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالْمَشِيئَةِ لَفْظًا.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَعَدَ مُوسَى مِنْ نَفْسِهِ بِشَيْئَيْنِ: بِالصَّبْرِ وَقَرَنَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ فَصَبَرَ حِينَ وَجَدَ عَلَى يَدَيِ الْخَضِرِ فِيمَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْفِعْلِ، وَبِأَنْ لَا يَعْصِيَهُ فَأَطْلَقَ وَلَمْ يُقْرِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَعَصَاهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ فَلا تَسْئَلْنِي فَكَانَ يَسْأَلُهُ فَمَا قَرَنَ بِالِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ وَمَا أَطْلَقَهُ وَقَعَ فِيهِ الْخُلْفُ انْتَهَى. وَهَذَا مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَلا أَعْصِي مَعْطُوفًا عَلَى سَتَجِدُنِي فَلَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ.
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي أَيْ إِذَا رَأَيْتَ مِنِّي شَيْئًا خَفِيَ عَلَيْكَ وَجْهُ صِحَّتِهِ فَأَنْكَرْتَ فِي نَفْسِكَ فَلَا تُفَاتِحْنِي بِالسُّؤَالِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الْفَاتِحَ عَلَيْكَ، وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الْمُتَعَلِّمِ مع العالم المتبوع. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فَلا تَسْئَلْنِي وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ مُشَدِّدَةَ النُّونِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْهَمْزِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ. كُلُّهُمْ بِيَاءٍ فِي الْحَالَيْنِ انْتَهَى. وَعَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي حَذْفِ الْيَاءِ خِلَافٌ غَرِيبٌ.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
فَانْطَلَقا أَيْ مُوسَى وَالْخَضِرُ وَكَانَ مَعَهُمْ يُوشَعُ وَلَمْ يُضْمَرْ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ التَّبَعِ.
وَقِيلَ: كَانَ مُوسَى قَدْ صَرَفَهُ وَرَدَّهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي السَّفِينَةِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَهْدٌ فِي سَفِينَةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَرُوِيَ فِي كَيْفِيَّةِ رُكُوبِهِمَا السَّفِينَةَ وَخَرْقِهَا وَسَدِّهَا أَقْوَالٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا قَالَا: «فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ
(1) سورة الملك: 67/ 19.
مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَها إِلَى قَوْلِهِ عُسْراً» قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَكَانَ الْأَوَّلُ مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ» .
وَاللَّامُ فِي لِتُغْرِقَ أَهْلَها. قِيلَ: لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَقِيلَ: لَامُ الْعِلَّةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ لِيَغْرَقَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ أَهْلَها بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّ تَاءِ الْخِطَابِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَنَصْبِ لَامِ أَهْلَها. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا فَتَحَا الْغَيْنَ وَشَدَّدَا الرَّاءَ.
ثُمَّ ذَكَّرَهُ الْخَضِرُ بِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ نَفْيِ اسْتِطَاعَتِهِ الصَّبْرَ لِمَا يَرَى فَقَالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَالظَّاهِرُ حَمْلُ النِّسْيَانِ عَلَى وَضْعِهِ.
وَقَدْ قَالَ عليه السلام: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا»
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَسِيَ الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ عَدَمِ سُؤَالِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُخْبِرَ لَهُ أَوَّلًا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ أُبَيِّ ابن كَعْبٍ أَنَّهُ مَا نَسِيَ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ هَذَا مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ أَنَّهُ نَسِيَ وَصِيَّتَهُ وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى النَّاسِي، أَوْ أَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ النَّهْيِ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْيَانِ تَوَهَّمَهُ أَنَّهُ نَسِيَ لِيَبْسُطَ عُذْرَهُ فِي الْإِنْكَارِ وَهُوَ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ الَّتِي يُنْفَى بِهَا الْكَذِبُ مَعَ التَّوَصُّلِ إِلَى الْغَرَضِ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام.
هَذِهِ أُخْتِي وَإِنِّي سَقِيمٌ: أَوْ أَرَادَ بِالنِّسْيَانِ التَّرْكَ أَيْ لَا تُؤاخِذْنِي بِمَا تَرَكْتُ مِنْ وَصِيَّتِكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ انْتَهَى.
وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَلَامَ أُبَيٍّ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَلَا يُعْتَمَدُ إِلَّا
قَوْلُ الرَّسُولِ: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا» .
وَلا تُرْهِقْنِي لَا تُغْشِنِي وَتُكَلِّفْنِي مِنْ أَمْرِي وَهُوَ اتِّبَاعُكَ عُسْراً أَيْ شَيْئًا صَعْبًا، بَلْ سَهِّلْ عَلَيَّ فِي مُتَابَعَتِكَ بِتَرْكِ الْمُنَاقَشَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ عُسْراً بِضَمِّ السِّينِ حَيْثُ وَقَعَ فَانْطَلَقَا فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَخَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ وَلَمْ يَقَعْ غَرَقٌ بِأَهْلِهَا، فَانْطَلَقَا فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ على الساحل إذا بصر الْخَضِرُ غُلاماً يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَمَرَّ بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى غُلَامٍ حَسَنِ الْهَيْئَةِ وَضِيءِ الْوَجْهِ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ. وَقِيلَ: رَضَّهُ بِحَجَرٍ. وَقِيلَ: ذَبَحَهُ. وَقِيلَ: فَتَلَ عُنُقَهُ. وَقِيلَ: ضَرَبَ بِرَأْسِهِ الْحَائِطَ.
قِيلَ: وَكَانَ هَذَا الْغُلَامُ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ وَلِهَذَا قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً. وَقِيلَ: كَانَ الْغُلَامُ بَالِغًا شَابًّا، وَالْعَرَبُ تُبْقِي عَلَى الشَّابِّ اسْمَ الْغُلَامِ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ فِي الْحَجَّاجِ:
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الَّذِي قَدْ أَصَابَهَا
…
غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا
وَقَالَ آخَرُ:
تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي
…
غُلَامٌ إذا هو جيت لَسْتُ بِشَاعِرِ
وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الِاغْتِلَامِ وَهُوَ شِدَّةُ الشَّبَقِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الشَّبَابِ الَّذِينَ قَدْ بَلَغُوا الْحُلُمَ وَيَتَنَاوَلُ الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ تَجَوُّزًا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يؤول إِلَيْهِ. (وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ هَذَا الْغُلَامِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ أُمِّهِ) وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ.
وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ كَانَ يُفْسِدُ وَيُقْسِمُ لِأَبَوَيْهِ أَنَّهُ مَا فَعَلَ فَيُقْسِمَانِ عَلَى قَسَمِهِ وَيَحْمِيَانِهِ مِمَّنْ يَطْلُبُهُ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْعُرْسِ وَالْعَرَائِسِ أَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا قَالَ لِلْخَضِرِ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً غَضِبَ الْخَضِرُ وَاقْتَلَعَ كَتِفَ الصَّبِيِّ الْأَيْسَرَ وَقَشَّرَ اللَّحْمَ عَنْهُ، وَإِذَا فِي عَظْمِ كَتِفِهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أَبَدًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ خَرَقَها بغير فاء وفَقَتَلَهُ بِالْفَاءِ؟ قُلْتُ:
جُعِلَ خَرَقَهَا جَزَاءً لِلشَّرْطِ، وَجُعِلَ قَتَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْطِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَالْجَزَاءُ قَالَ أَقَتَلْتَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ خُولِفَ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: لِأَنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ لَمْ يَتَعَقَّبِ الرُّكُوبَ وَقَدْ تَعَقَّبَ الْقَتْلُ لِقَاءَ الْغُلَامِ انْتَهَى.
وَمَعْنَى زَكِيَّةً طَاهِرَةً مِنَ الذُّنُوبِ، وَوَصَفَهَا بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا أَذْنَبَتْ، قِيلَ أَوْ لِأَنَّهَا صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغِ الْحِنْثَ. وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ نَفْسٍ يَرُدُّهُ وَيَدُلُّ عَلَى كِبَرِ الْغُلَامِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لَمْ يَحْتَلِمْ لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ بِنَفْسٍ وَلَا بِغَيْرِ نَفْسٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَنَافِعٌ وَالْيَزِيدِيُّ وَابْنُ مُسْلِمٍ وَزَيْدٌ وَابْنُ بُكَيْرٍ عَنْ يَعْقُوبَ وَالتَّمَّارِ عَنْ رُوَيْسٍ عَنْهُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو زَاكِيَةً بِالْأَلِفِ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكُوفِيُّونَ زَكِيَّةً بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ زَاكِيَةٍ لِأَنَّ فَعِيلًا الْمُحَوَّلَ مِنْ فَاعِلٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُكْراً بِإِسْكَانِ الْكَافِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَطَلْحَةُ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو حَاتِمٍ بِرَفْعِ الْكَافِ حَيْثُ كَانَ مَنْصُوبًا. وَالنُّكْرُ قِيلَ: أَقَلُّ مِنَ الْإِمْرِ لِأَنَّ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَهْوَنُ مِنْ إِغْرَاقِ أَهْلِ السَّفِينَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ شَيْئًا أَنْكَرَ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ
الْخَرْقَ يُمْكِنُ سَدُّهُ وَالْقَتْلُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَدَارُكِ الْحَيَاةِ مَعَهُ. وَفِي قَوْلِهِ لَكَ زَجْرٌ وَإِغْلَاظٌ لَيْسَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَوْقِعَهُ التَّسَاؤُلُ بِأَنَّهُ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إِلَى تَرْكِ السُّؤَالِ وَاسْتِعْذَارِ مُوسَى بِالنِّسْيَانِ أَفْظَعُ وَأَفْظَعُ فِي الْمُخَالَفَةِ لِمَا كَانَ أَخَذَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَانْتِفَاءِ الْعِصْيَانِ.
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلا تُصاحِبْنِي أَيْ فَأَوْقِعِ الْفِرَاقَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا تُصاحِبْنِي مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ. وَقَرَأَ عِيسَى وَيَعْقُوبُ فَلَا تَصْحَبْنِي مُضَارِعُ صَحِبَ وَعِيسَى أَيْضًا بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مُضَارِعُ أَصْحَبَ، وَرَوَاهَا سَهْلٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْ فَلَا تُصْحِبْنِي عِلْمَكَ وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فَلَا تُصْحِبْنِي إِيَّاكَ وَبَعْضُهُمْ نَفْسَكَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ وَشَدِّ النُّونِ. وَمَعْنَى قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أَيْ قَدِ اعْتَذَرْتَ إِلَيَّ وَبَلَغْتَ إِلَى الْعُذْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ لَدُنِّي بِإِدْغَامِ نُونِ لَدُنْ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ الَّتِي اتَّصَلَتْ بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَهِيَ نُونُ لَدُنِ اتَّصَلَتْ بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ أَصْلَ الْأَسْمَاءِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ تَلْحَقْ نُونُ الْوِقَايَةِ نَحْوُ غُلَامِي وَفَرَسِي، وَأَشَمَّ شُعْبَةُ الضَّمَّ فِي الدَّالِ، وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ سُكُونُ الدَّالِ. قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَهُوَ غَلَطٌ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَلَيْسَتْ بِغَلَطٍ لِأَنَّ مِنْ لُغَاتِهَا لَدْ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الدَّالِ. وَقَرَأَ عِيسَى عُذْراً بِضَمِّ الذَّالِ وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَنْ أُبَيٍّ عُذْرِي بِكَسْرِ الرَّاءِ مُضَافًا إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا أَنَّهُ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا»
وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَعَا لِأَحَدٍ بَدَأَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ صَبَرَ عَلَى صَاحِبِهِ لَرَأَى الْعَجَبَ»
وَلَكِنَّهُ قَالَ فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً.
وَالْقَرْيَةُ الَّتِي أَتَيَا أَهْلَهَا إِنْطَاكِيَةُ أَوِ الْأُبُلَّةُ أَوْ بِجَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ وَهِيَ الْجَزِيرَةُ الْخَضْرَاءُ، أَوْ بُرْقَةُ أَوْ أَبُو حَوْرَانَ بِنَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، أَوْ نَاصِرَةُ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ أَوْ قَرْيَةٌ بِأَرْمِينِيَّةَ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَيِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ كَانَتْ قصة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا كَانَا يَمْشِيَانِ عَلَى مَجَالِسِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ يَسْتَطْعِمَانِهِمْ وَهَذِهِ عِبْرَةٌ مُصَرِّحَةٌ بِهَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَكَرَّرَ لَفْظُ أَهْلَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَقَدْ يَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ عَنِ التَّوْكِيدِ وَهُوَ أَنَّهُمَا حين أتيا أهل القرية لَمْ يَأْتِيَا جَمِيعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ إِنَّمَا أَتَيَا بَعْضَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ اسْتَطْعَما احْتَمَلَ أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَطْعِمَا إِلَّا ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي أَتَيَاهُ فَجِيءَ بِلَفْظِ أَهْلِهَا لِيَعُمَّ جَمِيعَهُمْ وَأَنَّهُمْ يُتْبِعُونَهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا بِالِاسْتِطْعَامِ، وَلَوْ كَانَ التركيب استطعماهم لَكَانَ عَائِدًا عَلَى الْبَعْضِ الْمَأْتِيِّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضَيِّفُوهُما بِالتَّشْدِيدِ مِنْ ضَيَّفَ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو رَزِينٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ وَأَبَانَ بِكَسْرِ الضَّادِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ مِنْ أَضَافَ، كَمَا تَقُولُ مَيَّلَ وَأَمَالَ، وَإِسْنَادُ الْإِرَادَةِ إِلَى الْجِدَارِ مِنَ الْمَجَازِ الْبَلِيغِ وَالِاسْتِعَارَةِ الْبَارِعَةِ وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِسْنَادُ أَشْيَاءَ تَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ إِلَى مَا لَا يَعْقِلُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَإِلَى الْجَمَادِ، أَوِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَكَانَ الْعَاقِلِ لَكَانَ صَادِرًا مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ. وَقَدْ أَكْثَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ وَمَنْ لَهُ أَدْنَى مُطَالَعَةٍ لِكَلَامِ الْعَرَبِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدٍ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمُحَرِّفِينَ لِكَلَامِ اللَّهِ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ كَانَ يَجْعَلُ الضَّمِيرَ لِلْخَضِرِ لِأَنَّ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ آفَةِ الْجَهْلِ وَسُقْمِ الْفَهْمِ أَرَاهُ أَعْلَى الْكَلَامَ طَبَقَةً أَدْنَاهُ مَنْزِلَةً، فَتَمَحَّلَ لِيَرُدَّهُ إِلَى مَا هُوَ عِنْدَهُ أَصَحُّ وَأَفْصَحُ، وَعِنْدَهُ أَنَّ مَا كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الْمَجَازِ أَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيِّ مِنْ أَنَّهُ يُنْكِرُ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَهُوَ أَحَدُ الْأُدَبَاءِ الشُّعَرَاءِ الْفُحُولِ الْمُجِيدِينَ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنْقَضَّ أَيْ يَسْقُطُ مِنِ انْقِضَاضِ الطَّائِرِ، وَوَزْنُهُ انْفَعَلَ نَحْوُ انْجَرَّ.
قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: مِنَ الْقَضَّةِ وَهِيَ الْحَصَى الصِّغَارُ، وَمِنْهُ طَعَامٌ قَضَضٌ إِذَا كَانَ فِيهِ حَصًى، فَعَلَى هَذَا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أَيْ يَتَفَتَّتُ فَيَصِيرُ حَصَاةً انْتَهَى. وَقِيلَ: وَزْنُهُ افْعَلَّ مِنَ النَّقْضِ كَاحْمَرَّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ
يَنْقَضَّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ نَقَضْتُهُ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ يُرِيدُ لِيَنْقَضَّ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِأَنِ الْمُقَدَّرَةِ بَعْدَ اللَّامِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو شَيْخٍ خَيْوَانُ بْنُ خَالِدٍ الْهُنَائِيٌّ وَخُلَيْدُ بْنُ سَعْدٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ يَنْقَاصُ بِالصَّادِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ مَعَ الْأَلِفِ
، وَوَزْنُهُ يَنْفَعِلُ اللَّازِمُ مِنْ قَاصَ يَقِيصُ إِذَا كَسَرْتَهُ تَقُولُ: قَصَيْتُهُ فَانْقَاصَ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَتَقُولُ الْعَرَبُ انْقَاصَتِ السِّنُّ إِذَا انْشَقَّتْ طُولًا. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: مُنْقَاصٌ وَمُنْكَثِبُ. وَقِيلَ: إِذَا تَصَدَّعَتْ كَيْفَ كَانَ.
وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
فراق كقص السَّنِّ فَالصَّبْرَ إِنَّهُ
…
لِكُلِّ أناس عشرة وحبور
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: يَنْقَاضُ بِأَلِفٍ وضاد معجمة وهو مِنْ قَوْلِهِمْ: قُضْتُهُ مُعْجَمَةً فَانْقَاضَ أَيْ هَدَمْتُهُ فَانْهَدَمَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالْمَشْهُورُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِصَادٍ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ.
فَأَقامَهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَهْدِمْهُ وَبَنَاهُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ هَدَمَهُ وَقَعَدَ يَبْنِيهِ.
وَوَقَعَ هَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وأيد بقوله لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لِأَنَّ بِنَاءَهُ بَعْدَ هَدْمِهِ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَجْرًا. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَسَحَهُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ فَقَامَ. وَقِيلَ: أَقَامَهُ بِعَمُودٍ عَمَدَهُ بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سَوَّاهُ بِالشِّيدِ أَيْ لَبَّسَهُ بِهِ وَهُوَ الْجَيَّارُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: دَفَعَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ وَهَذَا أَلْيَقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَتِ الْحَالُ حَالَ اضْطِرَارٍ وَافْتِقَارٍ إِلَى المطعم وقد لزتهما الْحَاجَةُ إِلَى آخَرِ كَسْبِ الْمَرْءِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ فَلَمْ يَجِدَا مُوَاسِيًا، فَلَمَّا أَقَامَ الْجِدَارَ لَمْ يَتَمَالَكْ مُوسَى لِمَا رَأَى مِنَ الْحِرْمَانِ وَمِسَاسِ الْحَاجَةِ أَنْ قالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وَطَلَبْتَ عَلَى عَمَلِكَ جُعْلًا حَتَّى تَنْتَعِشَ بِهِ وَتَسْتَدْفِعَ الضَّرُورَةَ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلِهِ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُؤَالًا فَفِي ضِمْنِهِ الْإِنْكَارُ لِفِعْلِهِ، وَالْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ أَخْذِ الْأَجْرِ وَفِي ذَلِكَ تَخْطِئَةُ تَرْكِ الْأَجْرِ انْتَهَى. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ بحرية ولتخذت بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَخَاءٍ مَكْسُورَةٍ، يُقَالُ تَخِذَ وَاتَّخَذَ نَحْوُ تَبِعَ وَاتَّبَعَ، افْتَعَلَ مِنْ تَخِذَ وَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي التَّاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إِلَى جَنْبِ غَرْزِهَا
…
نَسِيفًا كَأُفْحُوصِ الْقَطَاةِ الْمُطَرَّقِ
وَالتَّاءُ أَصْلٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَلَيْسَ مِنَ الْأَخْذِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الِاتِّخَاذُ افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا التَّاءَ أَصْلِيَّةً فَقَالُوا فِي الثُّلَاثِيِّ تَخِذَ كَمَا قَالُوا تَقِيَ مِنِ اتَّقَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ لَوْ شِئْتَ أَيْ هَذَا الْإِعْرَاضُ سَبَبُ الْفِرَاقِ بَيْنِي وَبَيْنِكَ عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ مِنْ مِيعَادِهِ. أَنَّهُ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سُؤَالًا فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُهُ، إِذِ الْمَعْنَى أَلَمْ تَكُنْ تَتَّخِذُ عَلَيْهِ أَجْرًا لِاحْتِيَاجِنَا إِلَيْهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ تُصُوِّرَ فِرَاقٌ بَيْنَهُمَا عِنْدَ حُلُولِ مِيعَادِهِ عَلَى مَا قَالَ مُوسَى عليه السلام إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي فَأَشَارَ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ مُبْتَدَأً وَأَخْبَرَ عَنْهُ كَمَا تَقُولُ: هَذَا أَخُوكَ فَلَا يَكُونُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى غَيْرِ الْأَخِ انْتَهَى. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ فِراقُ بَيْنِي بِالتَّنْوِينِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِضَافَةِ. وَالْبَيْنُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّلَاحُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُصْطَحِبَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَذَلِكَ مُسْتَعَارٌ فِيهِ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ وَمُسْتَعْمَلٌ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، وَتَكْرِيرُهُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ وَعُدُولُهُ عَنْ بَيْنِنَا لِمَعْنَى التَّأْكِيدِ.
سَأُنَبِّئُكَ أَيْ سَأُخْبِرُكَ بِتَأْوِيلِ مَا رَأَيْتَ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ، أَيْ بِمَا آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ فِيمَا كَانَ ظَاهِرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ سَأُنْبِيكَ بِإِخْلَاصِ الْيَاءِ مِنْ