المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 112] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٧

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الإسراء

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 22]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 49]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 69]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 77]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 111]

- ‌سورة الكهف

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 59]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 78]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 110]

- ‌سورة مريم

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 33]

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 98]

- ‌سورة طه

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 41]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 64]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 89]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 90 الى 135]

- ‌سورة الأنبياء

- ‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 50]

- ‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 112]

- ‌سورة الحج

- ‌[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 37]

- ‌[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 78]

- ‌سورة المؤمنون

- ‌[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 77]

- ‌[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 118]

الفصل: ‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 112]

وَلَمَّا ذَكَرَ التَّقْوَى ذَكَرَ مَا أَنْتَجَتْهُ وَهُوَ خَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِشْفَاقُ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالسَّاعَةُ الْقِيَامَةُ وَبِالْغَيْبِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: يَخَافُونَهُ وَلَمْ يَرَوْهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَخَافُونَ عَذَابَهُ وَلَمْ يَرَوْهُ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَخَافُونَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: يَخَافُونَهُ إِذَا غَابُوا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَالْإِشْفَاقُ شِدَّةُ الْخَوْفِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ، وَتَكُونُ الصِّلَةُ الْأَوْلَى مُشْعِرَةً بِالتَّجَدُّدِ دَائِمًا كَأَنَّهَا حالتهم فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَالصِّلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ عَنْهُ بِالِاسْمِ الْمُشْعِرِ بِثُبُوتِ الْوَصْفِ كَأَنَّهَا حَالَتُهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ مَا آتَى مُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام أَشَارَ إِلَى مَا آتَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَالَ وَهذا أَيِ الْقُرْآنُ ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَيْ كَثِيرٌ مَنَافِعُهُ غَزِيرٌ خَبَرُهُ، وَجَاءَ هُنَا الْوَصْفُ بِالِاسْمِ ثُمَّ بِالْجُمْلَةِ جَرْيًا عَلَى الْأَشْهَرِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ «1» وَبَيَّنَّا هُنَاكَ حِكْمَةَ تَقْدِيمِ الْجُمْلَةِ عَلَى الِاسْمِ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ وَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى ذِكْرٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ كَمَا أَنْكَرَ أَسْلَافُ الْيَهُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى موسى عليه السلام.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 112]

وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَاّعِبِينَ (55)

قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَاّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60)

قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)

قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)

وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)

وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)

حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ (100)

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)

إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)

وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (112)

(1) سورة الأنعام: 6/ 92.

ص: 437

التِّمْثَالُ: الصُّورَةُ الْمَصْنُوعَةُ مُشَبَّهَةً بِمَخْلُوقٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، مَثَّلْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا شَبَّهْتَهُ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهَوْتُ وَلَيْلَةٍ

بِآنِسَةٍ كَأَنَّهَا خَطُّ تِمْثَالِ

الْجَذُّ: الْقَطْعُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

بَنُو الْمُهَلَّبِ جَذَّ اللَّهُ دَابِرَهُمْ

أَمْسَوْا رَمَادًا فَلَا أَصْلٌ وَلَا طَرَفُ

النَّكْسُ: قَلْبُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يَصِيرُ أَعْلَاهُ أَسْفَلُ، وَنَكَّسَ رَأْسَهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ طَأْطَأَ حَتَّى صَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَلُ. الْبَرْدُ: مَصْدَرُ بَرُدَ، يُقَالُ: بَرَّدَ الْمَاءُ حَرَارَةَ الْجَوْفِ يُبَرِّدُهَا. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَعَطَّلَ قَلُوصِيِ فِي الرِّكَابِ فَإِنَّهَا

سَتُبَرِّدُ أَكْبَادًا وَتَبْكِي بَوَاكِيَا

ص: 440

النَّفْشُ: رَعْيُ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ بِغَيْرِ رَاعٍ، وَالْهُمْلُ بِالنَّهَارِ بِلَا رَاعٍ، الْغَوْصُ: الدُّخُولُ تَحْتَ الْمَاءِ لِاسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا بَهِجٌ

مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ

النُّونُ: الْحُوتُ وَيُجْمَعُ عَلَى نِينَانٍ، وَرُوِيَ: النِّينَانُ قَبْلَهُ الْحُمْرُ. الْفَرْجُ: يُطْلَقُ عَلَى الْحُرِّ وَالذَّكَرُ مُقَابِلُ الْحُرِّ وَعَلَى الدُّبُرِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَأَنْتَ إِذَا اسْتَدْبَرْتَهُ شَدَّ فَرْجَهُ

مُضَافُ فُوَيْقِ الْأَرْضِ لَيْسَ بِأَعْزَلَ

الْحَدَبُ: الْمُسَنَّمُ من الأرض كالجبل والكدية وَالْقَبْرِ وَنَحْوُهُ. النَّسَلَانُ: مُقَارَبَةُ الْخَطْوِ مَعَ الْإِسْرَاعِ قَالَ الشَّاعِرُ:

عُسْلَانُ الذِّئْبِ أَمْسَى قَارِبًا

بَرُدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسِلَ

الْحَصَبُ: الْحَطَبُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ إِذَا رَمَى بِهِ فِي النَّارِ قَبْلَ وَقَبْلَ أن يرمي به لا يُسَمَّى حَصَبًا.

وَقِيلَ: الْحَصَبُ مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ. السِّجِلُّ: الصَّحِيفَةُ.

وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ.

لَمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا غَيْرَ مُرَاعًى فِي ذِكْرِهِمُ التَّرْتِيبُ الزَّمَانِيُّ، وَذَكَرَ بَعْضَ مَا نَالَ كَثِيرًا مِنْهُمْ مِنَ الِابْتِلَاءِ كُلُّ ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلِيَتَأَسَّى بِهِمْ فِيمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رُشْدَهُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِي رُشْدَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ وَأَضَافَ الرُّشْدَ إِلَى إِبْراهِيمَ بِمَعْنَى أَنَّهُ رُشْدُ مِثْلِهِ وَهُوَ رُشْدُ الْأَنْبِيَاءِ وَلَهُ شَأْنٌ أَيُّ شَأْنٍ، وَالرُّشْدُ النُّبُوَّةُ وَالِاهْتِدَاءُ إِلَى وُجُوهِ الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَوْ هُمَا دَاخِلَانِ تَحْتَ الرُّشْدِ أَوِ الصُّحُفِ وَالْحِكْمَةِ أَوِ التَّوْفِيقِ لِلْخَيْرِ صَغِيرًا أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ مَحْذُوفٍ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ وَلِذَلِكَ بَنَى قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلُ مُوسَى وَهَارُونُ قَالَهُ الضَّحَّاكُ

ص: 441

كَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ «1» أَيْ مِنْ قبل إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ مِنْ قَبْلُ بُلُوغِهِ أَوْ مِنْ قَبْلُ نُبُوَّتِهِ يَعْنِي حِينَ كَانَ فِي صُلْبِ آدَمَ. وَأَخَذَ مِيثَاقَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مِنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهَا مَحْذُوفَاتٌ لَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهَا دَلِيلٌ بِخِلَافِ مِنْ قَبْلُ مُوسَى وَهَارُونَ لِتَقَدُّمِ ذِكْرُهُمَا. وَقُرْبُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: عَلَى الرشاء وَعَلَّمَهُ تَعَالَى أَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُ أَحْوَالًا عَجِيبَةً وَأَسْرَارًا بَدِيعَةً فَأَهَّلَهُ لَخُلَّتِهِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَدْحِ وَأَبْلَغِهِ إِذْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَاهُ الرُّشْدَ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا آتَاهُ بِهِ عليه السلام.

ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَفْسِيرِ الرُّشْدِ وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَرَفْضِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ. وإِذْ مَعْمُولَةٌ لِآتَيْنَا أَوْ رُشْدَهُ وعالِمِينَ وَبِمَحْذُوفٍ أَيِ اذْكُرْ مِنْ أَوْقَاتِ رُشْدِهِ هَذَا الْوَقْتَ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ أَبِيهِ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ فِي النَّصِيحَةِ وَإِنْقَاذُهُ مِنَ الضَّلَالِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْمِهِ كَقَوْلِهِ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «2» وَفِي قَوْلِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ تَحْقِيرٌ لَهَا وَتَصْغِيرٌ لِشَأْنِهَا وَتَجَاهُلٌ بِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا وَبِتَعْظِيمِهِمْ لَهَا. وَفِي خِطَابِهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ أَنْتُمْ اسْتِهَانَةٌ بِهِمْ وَتَوْقِيفٌ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَعَكَفَ يَتَعَدَّى بِعَلَى كَقَوْلِهِ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ «3» فَقِيلَ لَها هُنَا بِمَعْنَى عَلَيْهَا كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «4» وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ فِي لَها لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ لِتَعْظِيمِهَا، وَصِلَةُ عاكِفُونَ مَحْذُوفَةٌ أَيْ عَلَى عِبَادَتِهَا.

وَقِيلَ: ضَمَّنَ عاكِفُونَ مَعْنَى عَابِدِينَ فَعَدَّاهُ بِاللَّامِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَنْوِ لِلْعَاكِفِينَ مَحْذُوفًا وَأَجْرَاهُ مَجْرَى مَا لَا يَتَعَدَّى كَقَوْلِهِ فَاعِلُونَ الْعُكُوفَ لَهَا أَوْ وَاقِفُونَ لَهَا انْتَهَى.

وَلَمَّا سَأَلَهُمْ أَجَابُوهُ بِالتَّقْلِيدِ الْبَحْتِ، وَأَنَّهُ فِعْلُ آبَائِهِمُ اقْتَدَوْا بِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ بُرْهَانٍ، وَمَا أَقْبَحَ هَذَا التَّقْلِيدَ الَّذِي أَدَّى بِهِمْ إِلَى عِبَادَةِ خَشَبٍ وَحَجَرٍ وَمَعْدِنٍ وَلَجَاجَهُمْ فِي ذَلِكَ وَنُصْرَةَ تَقْلِيدِهِمْ وَكَانَ سؤاله إياهم عَنْ عِبَادَةِ التَّمَاثِيلِ وَغَايَتِهِ أَنْ يَذْكُرُوا شُبْهَةً فِي ذَلِكَ فَيُبْطِلُهَا، فَلَمَّا أَجَابُوهُ بِمَا لَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِيهِ وَبَدَا ضَلَالُهُمْ قالَ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ فِي حَيْرَةٍ وَاضِحَةٍ لَا الْتِبَاسَ فِيهَا، وَحَكَمَ بِالضَّلَالِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ وَجَعَلَ الضلال مستقرا لهم وأَنْتُمْ تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ اسْمُ كَانَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

(1) سورة الأنعام: 6/ 84.

(2)

سورة الشعراء: 26/ 214.

(3)

سورة الأعراف: 7/ 138.

(4)

سورة الإسراء: 17/ 7.

ص: 442

وأَنْتُمْ مِنَ التَّأْكِيدِ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْكَلَامُ مَعَ الْإِخْلَالِ بِهِ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى ضَمِيرِ هُوَ فِي حُكْمِ بَعْضِ الْفِعْلِ مُمْتَنِعٌ وَنَحْوُهُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ «1» انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ الْكَلَامُ مَعَ الْإِخْلَالِ بِهِ لِأَنَّ الْكُوفِيِّينَ يُجِيزُونَ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ الْمَرْفُوعِ مِنْ غَيْرِ تَأْكِيدٍ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ الْمَرْفُوعِ، وَلَا فَصْلٍ وَتَنْظِيرُهُ ذَلِكَ: بَاسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِهِ فِي اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ وَزَوْجُكُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اسْكُنْ بَلْ قَوْلُهُ: وَزَوْجُكَ مُرْتَفِعٌ عَلَى إِضْمَارٍ، وَلِيَسْكُنْ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ وَقَوْلُهُ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ.

وَلَمَّا جَرَى هَذَا السُّؤَالُ وَهَذَا الْجَوَابُ تَعَجَّبُوا مِنْ تَضْلِيلِهِ إِيَّاهُمْ إِذْ كَانَ قَدْ نَشَأَ بَيْنَهُمْ وَجَوَّزُوا أَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ لَا الْجِدِّ، فَاسْتَفْهَمُوهُ أَهَذَا جِدٌّ مِنْهُ أَمْ لَعِبٌ وَالضَّمِيرُ فِي قالُوا عَائِدٌ عَلَى أبيه وقومه وبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ أَجِئْتَنا وَلَمْ يُرِيدُوا حَقِيقَةَ الْمَجِيءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْهُمْ غَائِبًا فَجَاءَهُمْ وَهُوَ نَظِيرُ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ «2» وَالْحَقُّ هُنَا ضِدُّ الْبَاطِلِ وَهُوَ الْجِدُّ، وَلِذَلِكَ قَابَلُوهُ بِاللَّعِبِ، وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً لِكَوْنِهَا أَثْبَتَ كَأَنَّهُمْ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَاعِبٌ هَازِلٌ فِي مَقَالَتِهِ لَهُمْ وَلِكَوْنِهَا فَاصِلَةً.

ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ قَوْلِهِمْ وَأَخْبَرَ عَنِ الْجِدِّ وَأَنَّ الْمَالِكَ لَهُمْ وَالْمُسْتَحِقَّ الْعِبَادَةَ هُوَ رَبُّهُمْ وَرَبُّ هَذَا الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ الْمُنْدَرِجِ فِيهِ أَنْتُمْ وَمَعْبُودَاتُكُمْ نَبَّهَ عَلَى الْمُوجِبِ للعبادة وهو منشىء هَذَا الْعَالَمِ وَمُخْتَرِعُهُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَطَرَهُنَّ عَائِدٌ على السموات وَالْأَرْضِ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنِ السموات وَالْأَرْضُ تَبْلُغُ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْهُ جَاءَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ الْقِلَّةِ. وَقِيلَ فِي فَطَرَهُنَّ عَائِدٌ عَلَى التَّمَاثِيلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَوْنُهُ لِلتَّمَاثِيلِ أَدْخَلَ فِي تَضْلِيلِهِمْ وَأَثْبَتَ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَطَرَهُنَّ عِبَارَةٌ عَنْهَا كَأَنَّهَا تَعْقِلُ، هَذِهِ مِنْ حَيْثُ لَهَا طَاعَةٌ وَانْقِيَادٌ وَقَدْ وُصِفَتْ فِي مَوَاضِعَ بِمَا يُوصَفُ بِهِ مَنْ يَعْقِلُ. وَقَالَ غَيْرُ فَطَرَهُنَّ أَعَادَ ضَمِيرَ مَنْ يَعْقِلُ لِمَا صَدَرَ مِنْهُنَّ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ مَنْ يَعْقِلُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «3»

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «أطلت السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ» .

انْتَهَى. وَكَأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ وَهَذَا الْقَائِلُ تَخَيَّلَا أَنَّ هُنَّ مِنَ الضَّمَائِرِ الَّتِي تَخُصُّ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الْمُؤَنَّثَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ الْمَجْمُوعِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَلا تَظْلِمُوا

(1) سورة البقرة: 2/ 35.

(2)

سورة الشعراء: 26/ 30.

(3)

سورة فصلت: 41/ 11.

ص: 443

فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ «1» وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى وَوَصْفِهِ بِالِاخْتِرَاعِ لِهَذَا العالم ومِنَ لِلتَّبْعِيضِ أَيِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالرُّبُوبِيَّةِ كَثِيرُونَ، وَأَنَا بَعْضٌ مِنْهُمْ أَيْ مَا قُلْتُهُ أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ عَلَيْهِ شُهُودٌ كَثِيرُونَ فَهُوَ مَقَالٌ مصحح بالشهود. وعَلى ذلِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَأَنَا شَاهِدٌ عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَوْ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ أَيْ أَعْنِي عَلى ذلِكُمْ أَوْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ فِي صِلَةِ أل لِاتِّسَاعِهِمْ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ أَقْوَالٌ تَقَدَّمَتْ فِي إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «2» وَبَادَرَهُمْ أَوَّلًا بِالْقَوْلِ الْمُنَبِّهِ عَلَى دَلَالَةِ الْعَقْلِ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِالْقَوْلِ، فَانْتَقَلَ إِلَى الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي مَآلُهُ إِلَى الدَّلَالَةِ التَّامَّةِ عَلَى عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي عِبَارَةِ مَا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ بِالْكَسْرِ وَالتَّقْطِيعِ وَهُوَ لَا يَدْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَشْعُرُ بِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ فَكِّ أَجْزَائِهِ فَقَالَ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَتَاللَّهِ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِاللَّهِ بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَسْفَلُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّاءِ وَالْبَاءِ؟ قُلْتُ: إِنَّ الْبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا، وَإِنَّ التَّاءَ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ التَّعَجُّبُ، كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مَنْ تَسَهُّلِ الْكَيْدِ عَلَى يَدِهِ وَتَأْتِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا مَقْنُوطًا مِنْهُ لِصُعُوبَتِهِ وَتَعَذُّرِهِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ مِثْلَهُ صَعْبٌ مُتَعَذِّرٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ خُصُوصًا فِي زمن نمرود مَعَ عُتُوِّهِ وَاسْتِكْبَارِهِ وَقُوَّةِ سُلْطَانِهِ وَتَهَالُكِهِ عَلَى نَصْرِ دِينِهِ وَلَكِنْ:

إِذَا اللَّهُ سَنَى عَقْدَ شَيْءٍ تَيَسَّرَا انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ الْبَاءُ هِيَ الْأَصْلُ إِنَّمَا كَانَتْ أَصْلًا لِأَنَّهَا أَوْسَعُ حُرُوفِ الْقَسَمِ إِذْ تَدْخُلُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمُضْمَرِ وَيُصَرَّحُ بِفِعْلِ الْقَسَمِ مَعَهَا وَتُحْذَفُ وَأَمَّا أَنَّ التَّاءَ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْقَسَمِ الَّذِي أُبْدِلَ مِنْ بَاءِ الْقَسَمِ فَشَيْءٌ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ، وَلَا يَقُومُ عَلَى ذَلِكَ دليل وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ السُّهَيْلِيُّ وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا أَصْلًا لِآخَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ التَّاءَ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ التَّعَجُّبُ فَنُصُوصُ النُّحَاةِ أَنَّ التَّاءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا تَعَجُّبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ وَاللَّامُ هِيَ الَّتِي يَلْزَمُهَا التَّعَجُّبُ فِي الْقَسَمِ.

وَالْكَيْدُ الِاحْتِيَالُ فِي وُصُولِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَكِيدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ خَاطَبَ بِهَا أَبَاهُ وَقَوْمَهُ وَأَنَّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ الْقَوْلِ مِنْ قَوْلِهِ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ. وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ سِرًّا مَنْ قَوْمِهِ وَسَمِعَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: سَمِعَهُ قَوْمٌ مِنْ ضَعَفَتِهِمْ مِمَّنْ كَانَ يَسِيرُ فِي آخِرِ الناس يوم

(1) سورة التوبة: 9/ 36.

(2)

سورة الأعراف: 7/ 21. [.....]

ص: 444

خَرَجُوا إِلَى الْعِيدِ وَكَانَتِ الْأَصْنَامُ سَبْعِينَ. وَقِيلَ: اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ مُضَارِعُ وَلَّى. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ تُوَلُّوا فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَهِيَ الثَّانِيَةُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَالْأَوْلَى عَلَى مَذْهَبِ هِشَامٍ وَهُوَ مُضَارِعُ تَوَلَّى وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ «1» وَمُتَعَلِّقُ تُوَلُّوا مَحْذُوفٌ أَيْ إِلَى عِيدِكُمْ.

وَرُوِيَ أَنَّ آزَرَ خَرَجَ بِهِ فِي يَوْمِ عِيدٍ لَهُمْ فَبَدَؤُوا بِبَيْتِ الْأَصْنَامِ فَدَخَلُوهُ وَسَجَدُوا لَهَا وَوَضَعُوا بَيْنَهَا طَعَامًا خَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ، وَقَالُوا: لَنْ تَرْجِعَ بَرَكَةُ الْآلِهَةِ عَلَى طَعَامِنَا فَذَهَبُوا، فَلَمَّا كَانَ فِي الطَّرِيقِ ثَنَى عَزْمَهُ عَنِ الْمَسِيرِ مَعَهُمْ فَقَعَدَ وَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ.

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ، وَكَانُوا إِذَا خَرَجُوا إِلَى عِيدِهِمْ لَمْ يَتْرُكُوا إِلَّا مَرِيضًا فَأَتَاهُمْ إِبْرَاهِيمُ بِالَّذِي هُمْ فِيهِ فَنَظَرَ قَبْلَ يَوْمِ الْعِيدِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي أَشْتَكِي غَدًا وَأَصْبَحَ مَعْصُوبَ الرَّأْسِ فَخَرَجُوا وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَقَالَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ إِلَى آخِرِهِ وَسَمِعَهُ رَجُلٌ فَحَفِظَهُ ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ فَانْتَشَرَ

انْتَهَى.

وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَتَوَلَّوْا إِلَى عِيدِهِمْ فَأَتَى إِبْرَاهِيمُ الْأَصْنَامَ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حُطَامًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَخَذَ مِنْ كُلِّ عُضْوَيْنِ عُضْوًا. وَقِيلَ: وَكَانَتِ الْأَصْنَامُ مُصْطَفَّةً وَصَنَمٌ مِنْهَا عَظِيمٌ مُسْتَقْبِلُ الْبَابِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِي عَيْنَيْهِ دُرَّتَانِ مُضِيئَتَانِ، فَكَسَرَهَا بِفَأْسٍ إِلَّا ذَلِكَ الصَّنَمَ وَعَلَّقَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِهِ. وَقِيلَ: عَلَّقَهُ فِي يَدِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جُذاذاً بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَحُمَيدٌ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةٍ بِكَسْرِهَا، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو السَّمَّاكِ بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَاتٌ أَجْوَدُهَا الضَّمُّ كالحطام وَالرُّفَاتِ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ جُذاذاً بِالضَّمِّ جَمْعُ جُذَاذَةٍ كَزُجَاجٍ وَزُجَاجَةٍ. وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ جَمْعُ جَذِيذٍ كَكَرِيمٍ وَكِرَامٍ. وَقِيلَ: الْفَتْحُ مَصْدَرٌ كَالْحَصَادِ بِمَعْنَى الْمَحْصُودِ فَالْمَعْنَى مَجْذُوذِينَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ فِي لُغَاتِهِ الثَّلَاثِ هُوَ مَصْدَرٌ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ.

وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: جُذَذًا بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ جَذِيذٍ كَجَدِيدٍ وَجُدُدٍ. وَقُرِئَ جذذا بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الذَّالِ مخففا من فعل كسر وفي سُرُرٍ جَمْعُ سَرِيرٍ وَهِيَ لُغَةٌ لِكَلْبٍ، أَوْ جَمْعُ جُذَّةٍ كَقُبَّةٍ وَقُبَبٍ.

وَأَتَى بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ فِي قَوْلِهِ فَجَعَلَهُمْ إِذْ كَانَتْ تَعْبُدُ وَقَوْلُهُ إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَجَعَلَهُمْ أَيْ فَلَمْ يكسره، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ يُحْتَمَلُ أن يعود

(1) سورة الصافات: 37/ 90.

ص: 445

عَلَى الْأَصْنَامِ وَأَنْ يَعُودَ عَلَى عِبَادِهِ، وَالْكِبْرُ هُنَا عِظَمُ الْجُثَّةِ أَوْ كَبِيرًا فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ لِكَوْنِهِمْ صَاغُوهُ مَنْ ذَهَبٍ وَجَعَلُوا فِي عَيْنَيْهِ جَوْهَرَتَيْنِ تُضِيئَانِ بِاللَّيْلِ، وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ تَرَجِّيًا مِنْهُ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ رَجْعُهُ إِلَيْهِ وَإِلَى شَرْعِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَبْقَى الْكَبِيرَ لِأَنَّهُ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَّا إِلَيْهِ لِمَا تَسَامَعُوهُ مِنْ إنكار لِدِينِهِمْ وَسَبِّهِ لِآلِهَتِهِمْ فَيَبْكِتُهُمْ بِمَا أَجَابَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْكَبِيرِ الْمَتْرُوكِ وَلَكِنْ يُضْعِفُ ذَلِكَ دُخُولُ التَّرَجِّي فِي الْكَلَامِ انْتَهَى وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى هَذَا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَى الْعَالِمِ فِي حَلِّ الْمُشْكِلَاتِ، فَيَقُولُونَ مَا لِهَؤُلَاءِ مَكْسُورَةً وَمَالَكَ صَحِيحًا وَالْفَأْسُ عَلَى عَاتِقِكَ قَالَ: هَذَا بِنَاءٌ عَلَى ظَنِّهِ بِهِمْ لِمَا جَرَّبَ وَذَاقَ مِنْ مُكَابَرَتِهِمْ لِعُقُولِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي آلِهَتِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهَا أَوْ قَالَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ وَاسْتِجْهَالًا، وَإِنَّ قِيَاسَ حَالِ مَنْ يُسْجَدُ لَهُ وَيُؤَهَّلُ لِلْعِبَادَةِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ فِي حَلِّ الْمُشْكِلِ فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى الصَّنَمِ بِمُكَابَرَتِهِمْ لِعُقُولِهِمْ وَرُسُوخِ الْإِشْرَاكِ فِي أَعْرَاقِهِمْ فَأَيُّ فَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ فِي رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ حَتَّى يَجْعَلَهُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ غَرَضًا؟ قُلْتُ: إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَاجِزٌ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَظَهَرَ أَنَّهُمْ فِي عِبَادَتِهِ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ.

قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.

فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ إِلَى آلِهَتِهِمْ وَرَأَوْا مَا فُعِلَ بِهَا اسْتَفْهَمُوا عَلَى سَبِيلِ الْبَحْثِ وَالْإِنْكَارِ فَقَالُوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا أَيِ التَّكْسِيرَ وَالتَّحْطِيمَ إِنَّهُ لِظَالِمٌ فِي اجْتِرَائِهِ عَلَى الْآلِهَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ قالُوا أَيْ قَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَهُ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «2» يَذْكُرُهُمْ أَيْ بِسُوءٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَئِنْ ذَكَّرْتَنِي لَتَنْدَمَنَّ أَيْ بِسُوءٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا حُكْمُ الْفِعْلَيْنِ بَعْدَ سَمِعْنا فَتًى وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: هُمَا صِفَتَانِ لِفَتًى إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ يَذْكُرُهُمْ لَا بُدَّ مِنْهُ لِسَمِعَ لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْدًا وَتَسْكُتُ حَتَّى تَذْكُرَ شَيْئًا مِمَّا يُسْمَعُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى.

(1) سورة الأنبياء: 21/ 63.

(2)

سورة الأنبياء: 21/ 57.

ص: 446

وَأَمَّا قَوْلُهُ: هُمَا صِفَتَانِ فَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِمَا أَذْكُرُهُ أَمَّا سَمِعَ فَإِمَّا أَنْ يَدْخُلَ عَلَى مَسْمُوعٍ أَوْ غَيْرِهِ إِنْ دَخَلَتْ عَلَى مَسْمُوعٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ نَحْوَ: سَمِعْتُ كَلَامَ زِيدٍ وَمَقَالَةَ خَالِدٍ، وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى غَيْرِ مَسْمُوعٍ فَاخْتُلِفَ فِيهَا. فَقِيلَ: أَنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْفَارِسِيِّ، وَيَكُونُ الثَّانِي مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صَوْتٍ فَلَا يُقَالُ سَمِعْتُ زَيْدًا يَرْكَبُ، وَمَذْهَبُ غَيْرِهِ أَنَّ سَمِعَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ وَالْفِعْلُ بَعْدَهُ إِنْ كَانَ مَعْرِفَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهَا أَوْ نَكِرَةً فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ يُسْتَدَلُّ لَهُمَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الْآخَرِ يَتَمَشَّى قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ صِفَةٌ لِفَتًى، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِسَمِعَ.

وَأَمَّا يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ لَمَّا قَالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ وَأَتَوْا بِهِ مُنَكَّرًا قِيلَ: مَنْ يُقَالُ لَهُ فَقِيلَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، وَارْتَفَعَ إِبْراهِيمُ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِجُمْلَةٍ تُحْكَى بِقَالَ، إِمَّا عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يُقالُ لَهُ حِينَ يُدْعَى يَا إِبْراهِيمُ وَإِمَّا عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أي هُوَ إِبْراهِيمُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُفْرَدٌ مَفْعُولٌ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَيَكُونُ مِنَ الْإِسْنَادِ لِلَّفْظِ لَا لِمَدْلُولِهِ، أَيْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ وَهَذَا الْآخَرُ هُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي إِجَازَتِهِ فَذَهَبَ الزَّجَّاجِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ خَرُوفٍ وَابْنُ مَالِكٍ إِلَى تَجْوِيزِ نَصْبِ الْقَوْلِ لِلْمُفْرَدِ مِمَّا لَا يَكُونُ مُقْتَطَعًا مِنْ جُمْلَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ:

إِذَا ذُقْتُ فَاهًا قُلْتُ طَعْمُ مُدَامَةٍ وَلَا مُفْرَدًا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ نَحْوَ قُلْتُ: خُطْبَةً وَلَا مَصْدَرًا نَحْوَ قُلْتُ قَوْلًا، وَلَا صِفَةً لَهُ نَحْوَ: قُلْتُ حَقًّا بَلْ لِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ نَحْوَ قُلْتُ زَيْدًا. وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ إِذْ لَا يُحْفَظُ مِنْ لِسَانِهِمْ قَالَ: فُلَانٌ زَيْدًا وَلَا قَالَ ضَرَبَ وَلَا قَالَ لَيْتَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْقَوْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِحِكَايَةِ الْجُمَلِ وَذَهَبَ الْأَعْلَمُ إِلَى أَنَّ إِبْراهِيمُ ارْتَفَعَ بِالْإِهْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ عَامِلٌ يُؤَثِّرُ فِي لَفْظِهِ، إِذِ الْقَوْلُ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي الْمُفْرَدِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ فَبَقِيَ مُهْمَلًا وَالْمُهْمَلُ إِذَا ضُمَّ إِلَى غَيْرِهِ ارْتَفَعَ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: وَاحِدٌ وَاثْنَانِ إِذَا عَدُّوا وَلَمْ يُدْخِلُوا عَامِلًا لَا فِي اللَّفْظِ وَلَا فِي التَّقْدِيرِ، وَعَطَفُوا بَعْضَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ عَلَى بَعْضٍ، وَالْكَلَامُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَعْلَمِ وَإِبْطَالُهُ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ.

قالُوا فَأْتُوا أَيْ أَحْضِرُوهُ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أَيْ مُعَايَنًا بِمَرْأًى مِنْهُمْ فَعَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ في موضع الحال وعَلى مَعْنَاهَا الِاسْتِعْلَاءِ الْمُجَازِيِ كَأَنَّهُ لِتَحْدِيقِهِمْ إِلَيْهِ وَارْتِفَاعِ

ص: 447

أَبْصَارِهِمْ لِرُؤْيَتِهِ مُسْتَعْلٍ عَلَى أَبْصَارِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِمَا سُمِعَ مِنْهُ أَوْ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ تَكْسِيرِ أَصْنَامِهِمْ، أَوْ يَشْهَدُونَ مَا يَحِلُّ بِهِ مِنْ عَذَابِنَا أَوْ غَلَبِنَا لَهُ الْمُؤَدِّي إِلَى عَذَابِهِ.

وَقِيلَ: النَّاسِ هُنَا خَوَاصُّ الْمَلِكِ وَأَوْلِيَاؤُهُ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَأْتُوا بِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ.

قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا أَيِ الْكَسْرَ وَالتَّهْشِيمَ بِآلِهَتِنا وَارْتِفَاعُ أَنْتَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ فَعَلْتَ وَلَمَّا حُذِفَ انْفَصَلَ الضَّمِيرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَإِذَا تَقَدَّمَ الِاسْمُ فِي نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ عَلَى الْفِعْلِ كَانَ الْفِعْلُ صَادِرًا وَاسْتُفْهِمَ عَنْ فَاعِلِهِ وَهُوَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ الْفِعْلُ كَانَ الْفِعْلُ مَشْكُوكًا فِيهِ فَاسْتُفْهِمَ عَنْهُ أَوَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَلْ لِلْإِضْرَابِ عَنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ قَالَ لَمْ أَفْعَلْهُ إِنَّمَا الْفَاعِلُ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى كَبِيرُهُمْ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا فِي كَسْرِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ تَعْظِيمُهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ لَهُ وَلِمَا دُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ كَانَ ذَلِكَ حَامِلًا عَلَى تَحْطِيمِهَا وَكَسْرِهَا فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْكَبِيرِ إِذْ كَانَ تَعْظِيمُهُمْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ مَا دُونَهُ، وَقَالَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْكَبِيرِ مُتَقَيِّدًا بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ قَدْ عَلَّقَ عَلَى مُمْتَنِعٍ أَيْ فَلَمْ يَكُنْ وَقَعَ أَيْ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَامُ يَنْطِقُونَ وَيُخْبِرُونَ مَنِ الَّذِي صَنَعَ بِهِمْ ذَلِكَ فَالْكَبِيرُ هُوَ الَّذِي صَنَعَ ذَلِكَ وَأَشَارَ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ابْنُ قُتَيْبَةَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مِنْ تَعَارِيضِ الْكَلَامِ وَلَطَائِفِ هَذَا النَّوْعِ لَا يَتَغَلْغَلُ فِيهَا إِلَّا أَذْهَانُ الرَّاضَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي، وَالْقَوْلُ فِيهِ إِنَّ قَصْدَ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ إِلَى أَنْ يَنْسِبَ الْفِعْلَ الصَّادِرَ عَنْهُ إِلَى الصَّنَمِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَقْرِيرَهُ لِنَفْسِهِ وَإِثْبَاتَهُ لَهَا عَلَى أُسْلُوبٍ تَعْرِيضِيٍّ يَبْلُغُ فِيهِ غَرَضَهُ مِنْ إِلْزَامِهِمُ الْحُجَّةَ وَتَبْكِيتِهِمْ، وَهَذَا كَمَا قَالَ لَكَ صَاحِبُكَ وَقَدْ كَتَبْتَ إِلَيْهِ كِتَابًا بِخَطٍّ رَشِيقٍ وَأَنْتَ شَهِيرٌ بِحُسْنِ الْخَطِّ: أَأَنْتَ كَتَبْتَ هَذَا وَصَاحِبُكَ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْخَطَّ أَوْ لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى خَرْمَشَةٍ فَاسِدَةٍ؟ فَقُلْتُ لَهُ: بَلْ كَتَبْتُهُ أَنْتَ كَانَ قَصْدُكُ بِهَذَا الْجَوَابِ تَقْرِيرَهُ لَكَ مَعَ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ لَا نَفْيُهُ عَنْكَ وَلَا إِثْبَاتُهُ لِلْأُمِّيِّ أَوِ الْمُخَرْمِشِ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ وَالْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَكُمَا لِلْعَاجِزِ منكما استهزاء وإثبات لِلْقَادِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِمَا يَعُودُ إِلَى تَجْوِيزِهِ مَذْهَبُهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: مَا تُنْكِرُونَ أَنْ يَفْعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فَإِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ يُعْبَدُ وَيُدَّعَى إِلَهًا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى هَذَا وَأَشَدَّ مِنْهُ.

وَيُحْكَى أَنَّهُ قَالَ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا غَضَبٌ أَنْ يُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ الصِّغَارُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا انْتَهَى. وَمَنْ جَعَلَ الْفَاعِلَ بِفِعْلِهِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ فَتًى أَوْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ أَوْ قَالَ آخَرُ بِغَيْرِ

ص: 448

الْمُطَابِقِ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَوْ وَقَفَ عَلَى بَلْ فَعَلَهُ أَيْ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ وَجَعَلَ كَبِيرُهُمْ هَذَا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَهُوَ الْكِسَائِيُّ أَوْ أَصْلُهُ فَعَلَهُ بِمَعْنَى لَعَلَّهُ وَخَفَّفَ اللَّامَ وَهُوَ الْفَرَّاءُ مُسْتَدِلًّا بِقِرَاءَةِ ابْنِ السُّمَيْفِعِ فَعَلَهُ بِمَعْنَى لَعَلَّهُ مُشَدَّدُ اللَّامِ فَهُمْ بُعَدَاءٌ عَنْ طَرِيقِ الْفَصَاحَةِ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أَيْ إِلَى عُقُولِهِمْ حِينَ ظَهَرَ لَهُمْ مَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام مِنْ أَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي أَهَّلُوهَا لِلْعِبَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ تُسْأَلَ وَتُسْتَفْسَرَ قَبْلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرَجَعُوا أَيْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ فِي سُؤَالِكُمْ إِبْرَاهِيمَ حِينَ سَأَلْتُمُوهُ وَلَمْ تَسْأَلُوهَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، أَوْ حِينَ عَبَدْتُمْ مَا لَا يَنْطِقُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ حِينَ لَمْ تَحْفَظُوا آلِهَتَكُمْ قَالَهُ وَهْبٌ، أَوْ فِي عِبَادَةِ الْأَصَاغِرِ مَعَ هَذَا الْكَبِيرِ قَالَهُ وَهْبٌ أَيْضًا، أَوْ حِينَ أَبْهَتَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَالْفَأْسُ فِي عُنُقِ الْكَبِيرِ قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَابْنُ إِسْحَاقٍ أَوْ الظَّالِمُونَ حقيقة حيث نسيتم إِبْرَاهِيمَ إِلَى الظُّلْمِ فِي قولكم إنه على الظَّالِمِينَ إِذْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ مُسْتَحِقَّةٌ لِمَا فُعِلَ بِهَا.

ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أي ارتكبوا فِي ضَلَالِهِمْ وَعَلِمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَنْطِقُ فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ حِينَ نَبَّهَ عَلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ لِلَّذِي يَرْتَطِمُ فِي غَيِّهِ كَأَنَّهُ مَنْكُوسٌ عَلَى رَأْسِهِ وَهِيَ أَقْبَحُ هَيْئَةٍ للإنسان، فكان عقله منكوس أي مقلوب لِانْقِلَابِ شَكْلِهِ، وَجَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ فَرُجُوعُهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِقَامَةِ فِكْرِهِمْ وَنَكْسُهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ كناية عن تطأطئ رؤوسهم وَتَنْكِيسِهَا إِلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْخَجَلِ وَالِانْكِسَارِ مِمَّا بَهَتَهُمْ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَدَمَغَهُمْ بِهِ فَلَمْ يُطِيقُوا جَوَابًا.

وَلَقَدْ عَلِمَتِ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ مَعْمُولٍ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ قَائِلِينَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فَكَيْفَ تَقُولُ لَنَا فَسْئَلُوهُمْ إِنَّمَا قَصَدْتَ بِذَلِكَ تَوْبِيخًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّكْسُ لِلْفِكْرَةِ فِيمَا يُجِيبُونَ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِد نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أَيْ رَدَّتِ السَّفِلَةُ عَلَى الرؤساء وعَلِمْتَ هُنَا مُعَلَّقَةٌ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ عَلِمْتَ إِنْ تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ أَوْ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِنْ تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَكْرَاوِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ بِتَشْدِيدٍ كَافِ نُكِسُوا وَقَرَأَ رِضْوَانُ بْنُ الْمَعْبُودِ نُكِسُوا بِتَخْفِيفِ الْكَافِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ نَكَسُوا أَنْفُسَهُمْ.

وَلَمَّا ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَخَذَ يُقَرِّعُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ بِعِبَادِهِ تَمَاثِيلَ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ،

ص: 449

ثُمَّ أَبْدَى لَهُمُ التَّضَجُّرَ مِنْهُمْ وَمِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ أُفٍّ وَاللُّغَاتُ فِيهَا وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لِبَيَانِ الْمُتَأَفَّفِ بِهِ أَيْ لَكُمْ وَلِآلِهَتِكُمْ، هَذَا التَّأَفُّفُ ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا بِهِ يُدْرَكُ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْعَقْلُ فَقَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ قُبْحَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَإِنْكَارٍ.

قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ.

وَلَمَّا نَبَّهَهُمْ عَلَى قَبِيحِ مُرْتَكَبِهِمْ وَغَلَبِهِمْ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لَاذُوا بِالْإِيذَاءِ لَهُ وَالْغَضَبِ لِآلِهَتِهِمْ وَاخْتَارُوا أَشَدَّ الْعَذَابِ وَهُوَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلْإِعْدَامِ الْمَحْضِ وَالْإِتْلَافِ بِالْكُلِّيَّةِ وَكَذَا كُلُّ مَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَكَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ يعدل إلى المناصبة والإذاية كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ دَمَغَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ مَا آتَاهُمْ بِهِ عَدَلُوا إِلَى الِانْتِقَامِ وَإِيثَارِ الِاغْتِيَالِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ قالُوا حَرِّقُوهُ أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقِيلَ: أَشَارَ بِإِحْرَاقِهِ نُمْرُوذُ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ الْعَجَمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرِيدُ الْأَكْرَادَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَوَى أَنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ أَيْ بَادِيَتِهَا فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرُوا لِهَذَا الْقَائِلِ اسْمًا مُخْتَلَفًا فِيهِ لَا يُوقَفُ مِنْهُ عَلَى حَقِيقَةٍ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مَضْبُوطًا بِالشَّكْلِ وَالنُّقَطِ، وَهَكَذَا تَقَعُ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ فِي التَّفَاسِيرِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ مِنْهَا عَلَى حَقِيقَةِ لَفْظٍ لِعَدَمِ الشَّكْلِ وَالنُّقَطِ فَيَنْبَغِي إطْرَاحُ نَقْلِهَا.

ص: 450

وَرُوِيَ أَنَّهُمْ حِينَ هَمُّوا بِإِحْرَاقِهِ حَبَسُوهُ ثُمَّ بَنَوْا بَيْتًا كَالْحَظِيرَةِ بِكُوثَى

وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ حَبْسِهِ وَفِي عَرْضِ الْحَظِيرَةِ وَطُولِهَا، وَمُدَّةِ جَمْعِ الْحَطَبِ، وَمُدَّةِ الْإِيقَادِ، وَمُدَّةِ سِنِّهِ إِذْ ذَاكَ، وَمُدَّةِ إِقَامَتِهِ فِي النَّارِ وَكَيْفِيَّةِ مَا صَارَتْ أَمَاكِنُ النَّارِ اخْتِلَافًا مُتَعَارِضًا تَرَكْنَا ذِكَرَهُ وَاتَّخَذُوا مَنْجَنِيقًا. قِيلَ: بِتَعْلِيمِ إِبْلِيسَ إِذْ كَانَ لَمْ يُصْنَعْ قَبْلُ فَشُدَّ إِبْرَاهِيمُ رِبَاطًا وَوُضِعَ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ وَرُمِيَ بِهِ فَوَقَعَ فِي النَّارِ.

وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام جَاءَهُ وَهُوَ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ:

أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا

، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَشْيَاءَ صَدَرَتْ مِنَ الْوَزَغِ وَالْبَغْلِ وَالْخُطَّافِ وَالضِّفْدِعِ وَالْعُضْرُفُوطُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا نَجَا بِقَوْلِهِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

قِيلَ: وَأَطَلَّ نُمْرُوذُ مِنَ الصَّرْحِ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ فِي رَوْضَةٍ وَمَعَهُ جَلِيسٌ لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ إِنِّي مُقَرِّبٌ إِلَى آلِهِكَ فَذَبَحَ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَقَرَةٍ. وَكَفَّ عَنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذْ ذَاكَ ابْنَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً،

وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي حِكَايَةِ مَا جَرَى لِإِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي صَحَّ هُوَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلاماً وَخَرَجَ مِنْهَا سَالِمًا فَكَانَتْ أَعْظَمَ آيَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّ القائل قُلْنا يا نارُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ عليه السلام بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يَقُلْ: وَسَلاماً لَهَلَكَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْبَرْدِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ لَمَا أَحْرَقَتْ نَارٌ بَعْدَهَا وَلَا اتَّقَدَتْ انْتَهَى. وَمَعْنَى وَسَلاماً سَلَامَةٌ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا هُنَا تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتْ تَحِيَّةً لَكَانَ الرَّفْعُ أَوْلَى بِهَا مِنَ النَّصْبِ. وَالْمَعْنَى ذَاتُ بَرْدٍ وَسَلَامٍ فَبُولِغَ فِي ذلك كان ذاتها برد وسلام، وَلَمَّا كَانَتِ النَّارُ تَنْفَعِلُ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْهَا كَمَا يَنْفَعِلُ مَنْ يَعْقِلُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ لَهَا وَالنِّدَاءِ وَالْأَمْرِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف بَرُدَتِ النَّارُ وَهِيَ نَارٌ؟ قُلْتُ: نَزَعَ اللَّهُ عَنْهَا طَبْعَهَا الَّذِي طَبَعَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْإِحْرَاقِ وَأَبْقَاهَا عَلَى الْإِضَاءَةِ وَالْإِشْرَاقِ وَالِاشْتِعَالِ، كَمَا كَانَتْ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ بِقُدْرَتِهِ عَنْ جِسْمِ إِبْرَاهِيمَ أَدْنَى حَرِّهَا وَيُذِيقَهُ فِيهَا عَكْسَ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُ بِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلى إِبْراهِيمَ انْتَهَى.

وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا هِيَ نَارٌ مَسْجُورَةٌ لَا تُحْرِقُ فَرَمَوْا فِيهَا شَيْخًا مِنْهُمْ فَاحْتَرَقَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا. قِيلَ: هُوَ إِلْقَاؤُهُ فِي النَّارِ فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أَيِ الْمُبَالِغِينَ فِي الْخُسْرَانِ وَهُوَ إِبْطَالُ مَا رَامُوهُ جَادَلُوا إِبْرَاهِيمَ فَجَدَلَهُمْ وَبَكَّتَهُمْ وَأَظْهَرَ لَهُمْ وَأَقَرَّ عُقُولَهُمْ، وَتَقَوَّوْا عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ وَالْإِلْقَاءِ فَخَلَّصَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ مِنْ أَحْقَرِ خَلْقِهِ وَأَضْعَفِهِ وَهُوَ الْبَعُوضُ يَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَيَشْرَبُ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَى نُمْرُوذَ بَعُوضَةً وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ إِذَايَتِهَا لَهُ وَفِي مُدَّةِ إِقَامَتِهَا تُؤْذِيهِ إِلَى أَنْ مَاتَ مِنْهَا.

ص: 451

وَالضَّمِيرُ فِي وَنَجَّيْناهُ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَضُمِّنَ مَعْنَى أَخْرَجْنَاهُ بِنَجَاتِنَا إِلَى الْأَرْضِ وَلِذَلِكَ تَعَدَّى نَجَّيْناهُ بِإِلَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَى مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ أَيْ مُنْتَهِيًا إِلَى الْأَرْضِ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَا تَضْمِينَ في وَنَجَّيْناهُ على هذا والْأَرْضِ الَّتِي خَرَجَا مِنْهَا هِيَ كُوثَى مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَالْأَرْضُ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا هِيَ أَرْضُ الشَّامِ وَبَرَكَتُهَا مَا فِيهَا مِنَ الْخِصْبِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَبَعْثِ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا. وَقِيلَ: مَكَّةَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، كَمَا قَالَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ أَرْضُ مِصْرَ وَبَرَكَتُهَا نِيلُهَا وَزَكَاةُ زُرُوعِهَا وَعِمَارَةُ مَوَاضِعِهَا.

وَرُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيم خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ وَمَعَهُ لُوطٌ وَكَانَ ابْنَ أَخِيهِ، فَآمَنَتْ بِهِ سَارَّةٌ وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ فَأَخْرَجَهَا مَعَهُ فَارًّا بِدِينِهِ، وَفِي هَذِهِ الْخُرْجَةِ لَقِيَ الْجَبَّارَ الَّذِي رَامَ أَخْذَهَا مِنْهُ فَنَزَلَ حَرَّانَ وَمَكَثَ زَمَانًا بِهَا.

وَقِيلَ: سَارَّةُ ابْنَةُ مَلِكِ حَرَّانَ تَزَوَّجَهَا إِبْرَاهِيمُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَبُوهَا أَنْ لَا يُغَيِّرَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا ابْنَةُ عَمِّهِ هَارَانَ الْأَكْبَرِ، ثُمَّ قَدِمَ مِصْرَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ فَنَزَلَ السَّبْعَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَنَزَلَ لُوطٌ بِالْمُؤْتَفِكَةِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنَ السَّبْعِ أَوْ أَقْرَبَ فَبَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا. وَالنَّافِلَةُ الْعَطِيَّةُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ أَوِ الزِّيَادَةُ كَالْمُتَطَوِّعِ بِهِ إِذَا كَانَ إِسْحَاقُ ثَمَرَةَ دُعَائِهِ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ يَعْقُوبَ زِيَادَةً مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ. وَقِيلَ: النَّافِلَةُ وَلَدُ الْوَلَدِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مَصْدَرًا كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ وَهَبْنا بَلْ مِنْ مَعْنَاهُ، وَعَلَى الْآخَرِينَ يُرَادُ بِهِ يَعْقُوبَ فينتصب على الحال، وكُلًّا يَشْمَلُ مِنْ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.

يَهْدُونَ بِأَمْرِنا يُرْشِدُونَ النَّاسَ إِلَى الدين. وأَئِمَّةً قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِمْ. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ أَيْ خَصَصْنَاهُمْ بِشَرَفِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ الْإِيحَاءَ هُوَ التَّنْبِئَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِعْلَ الْخَيْراتِ أَصْلُهُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلَ الْخَيْراتِ ثُمَّ فَعَلَا الْخَيِرَاتْ وكذلك إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ انْتَهَى. وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا رَأَى أَنَّ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ لَيْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمُوحَى إِلَيْهِمْ بَلْ هُمْ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ مُشْتَرِكُونَ، بَنَى الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى ضَمِيرِ الْمُوحَى، فَلَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِعْلُهُمُ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامُهُمُ الصَّلَاةَ وَإِيتَاؤُهُمُ الزَّكَاةَ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إِذِ الْفَاعِلُ مَعَ الْمَصْدَرِ مَحْذُوفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا مِنْ حَيْثُ

(1) سورة آل عمران: 3/ 96.

ص: 452

الْمَعْنَى إِلَى ظَاهِرٍ مَحْذُوفٍ يَشْمَلُ الْمُوحَى إِلَيْهِمْ وَغَيْرَهُمْ، أَيْ فِعْلَ الْمُكَلَّفِينَ الْخَيْرَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُضَافًا إِلَى الْمُوحَى إِلَيْهِمْ أَيْ أَنْ يَفْعَلُوا الْخَيْرَاتِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَتْبَاعُهُمْ جَارُونَ مَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُ اخْتِصَاصُهُمْ بِهِ ثُمَّ اعْتِقَادُ بِنَاءِ الْمَصْدَرِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَالصَّحِيحُ مَنْعُهُ، فَلَيْسَ مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مُخْتَارًا.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِقَامُ مَصْدَرٌ وَفِي هَذَا نَظَرٌ انْتَهَى. وَأَيُّ نَظَرٍ فِي هَذَا وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ الْإِقَامَةَ بِالتَّاءِ وَهُوَ الْمَقِيسُ فِي مَصْدَرِ أَفْعَلَ إِذَا اعْتَلَّتْ عَيْنُهُ وَحَسُنَ ذَلِكَ هُنَا أَنَّهُ قَابِلٌ وَإِيتاءَ وَهُوَ بِغَيْرِ تَاءٍ فَتَقَعُ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَحُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ إِقَامَةِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ عِوَضٌ عَنْهَا انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ زَعَمَ أَنَّ تَاءَ التَّأْنِيثِ قَدْ تُحْذَفُ لِلْإِضَافَةِ وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى إبراهيم ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى مَنْ هَاجَرَ مَعَهُ فَارًّا بِدِينِهِ وَهُوَ لُوطٌ ابْنُ أَخِيهِ وَانْتَصَبَ وَلُوطاً عَلَى الِاشْتِغَالِ وَالْحُكْمُ الَّذِي أُوتِيَهُ النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: حُسْنُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْقَضَاءِ. وَقِيلَ: حِفْظُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْحُكْمَ ذَكَرَ مَا يَكُونُ بِهِ وهو العلم والْقَرْيَةِ سَدُومُ وَكَانَتْ قُرَاهُمْ سَبْعًا وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْوَاحِدَةِ لِاتِّفَاقِ أَهْلِهَا عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَكَانَتْ مِنْ كُورَةِ فِلَسْطِينَ إِلَى حَدِّ السَّرَاةِ إِلَى حَدِّ نَجْدٍ بِالْحِجَازِ، قَلَبَ مِنْهَا تَعَالَى سِتًّا وَأَبْقَى مِنْهَا زَغْرَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحَلَّ لُوطٍ وَأَهْلِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِ أَيْ وَنَجَّيْناهُ مِنَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَيْ خَلَّصْنَاهُ مِنْهُمْ أَوْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ، وَنَسَبَ عَمَلَ الْخَبائِثَ إِلَى الْقَرْيَةِ مَجَازًا وَهُوَ لِأَهْلِهَا وَانْتَصَبَ الْخَبائِثَ عَلَى مَعْنَى تَعْمَلُ الأعمال أَوِ الْفِعْلَاتِ الْخَبِيثَةِ وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ مُضَافًا إِلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُ، وَقَوْلُهُ إِنَّهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أَيْ فِي أَهْلِ رَحْمَتِنَا أَوْ فِي الْجَنَّةِ، سَمَّاهَا رَحْمَةً إِذْ كَانَتْ أَثَرَ الرَّحْمَةِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ أَبُو الْعَرَبِ وَتَنْجِيَتَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ ذَكَرَ قِصَّةَ أَبِي الْعَالَمِ الْإِنْسِيِّ كُلِّهِمْ وَهُوَ الْأَبُ الثَّانِي لِآدَمَ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ نَسْلِهِ مِنْ سَامَ وَحَامَ وَيَافِثَ، وَانْتَصَبَ نُوحاً عَلَى إِضْمَارِ اذْكُرْ أَيْ وَاذْكُرْ نُوحاً أَيْ قِصَّتَهُ إِذْ نَادَى وَمَعْنَى نَادَى دَعَا مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ أَنِّي مَغْلُوبٌ «1» فَانْتَصِرْ مُفَصَّلًا بِقَوْلِهِ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «2» وَالْكَرْبُ أَقْصَى الْغَمِّ وَالْأَخْذُ بِالنَّفْسِ، وَهُوَ هُنَا الْغَرَقُ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَوَّلِ أَحْوَالِ مَا يَأْخُذُ

(1) سورة القمر: 54/ 10.

(2)

سورة نوح: 71/ 26.

ص: 453

الْغَرِيقَ، وَغَرِقْتُ فِي بَحْرِ النَّيْلِ وَوَصَلْتُ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ وَلَحِقَنِي مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا أَدْرَكْتُ أَنَّ نَفْسِي صَارَتْ أَصْغَرَ مِنَ الْبَعُوضَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ أَحْوَالِ مَجِيءِ الْمَوْتِ.

وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ عَدَّاهُ بِمِنْ لِتَضَمُّنِهِ معنى فَنَجَّيْناهُ بِنَصَرْنَا مِنَ الْقَوْمِ أَوْ عَصَمْنَاهُ وَمَنَعْنَاهُ أَيْ مِنْ مَكْرُوهِ الْقَوْمِ لِقَوْلِهِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا «1» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ نَصْرُ الَّذِي مُطَاوِعُهُ انْتَصَرَ، وَسَمِعْتُ هُذَلِيًّا يَدْعُو عَلَى سَارِقٍ: اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ مِنْهُ أَيِ اجْعَلْهُمْ مُنْتَصِرِينَ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنًى فِي نَصَرَ غَيْرُ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الذِّهْنِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنَ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ وَنَصَرْناهُ عَلَى الْقَوْمِ فَأَغْرَقْناهُمْ أي أهلكناهم بالغرق. وأَجْمَعِينَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ. وَقَدْ كَثُرَ التَّوْكِيدُ بِأَجْمَعِينَ غَيْرَ تَابِعٍ لِكُلِّهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَكَانَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى ابْنِ مَالِكٍ فِي زَعْمِهِ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِأَجْمَعِينَ قَلِيلٌ، وَأَنَّ الْكَثِيرَ اسْتِعْمَالُهُ تَابِعًا لِكُلِّهِمْ.

وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ عَطْفٌ عَلَى وَنُوحاً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإِذْ بَدَلٌ مِنْهُمَا انْتَهَى. وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ داوُدَ وَسُلَيْمانَ أَيْ قِصَّتَهُمَا وَحَالَهُمَا إِذْ يَحْكُمانِ وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ مَعْطُوفَيْنِ عَلَى قوله وَنُوحاً وَنُوحاً مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ وَلُوطاً فَيَكُونُ ذَلِكَ مُشْتَرِكًا فِي الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ آتَيْنا الْمُقَدَّرَةُ النَّاصِبَةُ لِلُوطٍ الْمُفَسَّرَةُ بِآتَيْنَا فَالتَّقْدِيرُ وَآتَيْنَا نُوحًا وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ أَيْ آتَيْنَاهُمْ حُكْماً وَعِلْماً وَلَا يَبْعُدُ ذَلِكَ وَتَقْدِيرُ اذْكُرْ قَالَهُ جَمَاعَةٌ. وَكَانَ دَاوُدُ مَلِكًا نَبِيًّا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فَوَقَعَتْ هَذِهِ النَّازِلَةُ، وَكَانَ ابْنُهُ إِذْ ذَاكَ قَدْ كَبُرَ وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَى الْبَابِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْخُصُومُ وَكَانُوا يَدْخُلُونَ إِلَى دَاوُدَ مِنْ بَابٍ آخَرَ، فَتَخَاصَمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ لَهُ زَرْعٌ وَقِيلَ كَرْمٌ والْحَرْثِ يُقَالُ فِيهِمَا وَهُوَ فِي الزَّرْعِ أَكْثَرُ، وَأَبْعَدُ عَنِ الِاسْتِعَارَةِ دَخَلَتْ حَرْثَهُ غَنَمُ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْ عَلَيْهِ،

فَرَأَى دَاوُدُ دَفْعَهَا إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ فَعَلَى أَنَّهُ كَرْمٌ رَأَى أَنَّ الْغَنَمَ تُقَاوِمُ ما أَفْسَدَتْ مِنَ الْغَلَّةِ وَعَلَى أَنَّهُ زَرْعٌ رَأَى أَنَّهَا تُقَاوِمُ الْحَرْثَ وَالْغَلَّةَ، فَخَرَجَا عَلَى سُلَيْمَانَ فَشَكَى صَاحِبُ الْغَنَمِ فَجَاءَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَرَى مَا هُوَ أَرْفَقُ بِالْجَمِيعِ

، أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الْغَنَمِ الْحَرْثَ يَقُومُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَيَأْخُذَ صَاحِبُ الْحَرْثِ الْغَنَمَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ يَنْتَفِعُ بِمَرَافِقِهَا مِنْ لَبَنٍ وَصُوفٍ وَنَسْلٍ، فَإِذَا عَادَ الْحَرْثُ إِلَى حَالِهِ صُرِفَ كُلُّ مَالِ صَاحِبِهِ إِلَيْهِ فَرَجَعَتِ الْغَنَمُ إِلَى رَبِّهَا وَالْحَرْثُ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ دَاوُدُ: وُفِّقْتَ يَا بُنَيَّ وَقَضَى بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أن كلّا

(1) سورة غافر: 40/ 29.

ص: 454

مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ حَكَمَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ عِنْدَهُ فَحُكْمُهُمَا بِاجْتِهَادٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ.

وَقِيلَ: حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَنُسِخَ حُكْمُ دَاوُدَ بِحُكْمِ سُلَيْمَانَ، وَأَنَّ مَعْنَى فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أَيْ فَهَّمْنَاهُ الْقَضَاءَ الْفَاصِلَ النَّاسِخَ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي النَّازِلَةِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ فَأَفْهَمْنَاهَا عُدِّيَ بِالْهَمْزَةِ كَمَا عُدِّيَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالتَّضْعِيفِ وَالضَّمِيرُ فِي فَفَهَّمْناها لِلْحُكُومَةِ أَوِ الْفَتْوَى. وَالضَّمِيرُ فِي لِحُكْمِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْحَاكِمَيْنِ وَالْمَحْكُومِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ الْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافًا إِلَى فَاعِلٍ وَلَا مَفْعُولٍ، وَلَا هُوَ عَامِلٌ فِي التَّقْدِيرِ فَلَا يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ. وَالْفِعْلِ به هُوَ مَثَّلَ لَهُ ذَكَاءٌ ذَكَاءُ الْحُكَمَاءِ وَذِهْنَ ذِهْنِ الْأَذْكِيَاءِ وَكَانَ الْمَعْنَى وَكُنَّا لِلْحُكْمِ الَّذِي صَدَرَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ شاهِدِينَ فَالْمَصْدَرُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْعِلَاجُ بَلْ يُرَادُ بِهِ وُجُودُ الْحَقِيقَةِ. وَقَرَأَ لِحُكْمِهِمَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَالضَّمِيرُ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ. وَمَعْنَى شاهِدِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحُكُومَتَيْنِ؟ قلت: أمّا وَجْهُ حُكُومَةِ دَاوُدَ فَلِأَنَّ الضَّرَرَ لَمَّا وَقَعَ بِالْغَنَمِ سُلِّمَتْ بِجِنَايَتِهَا إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَبْدِ إِذَا جَنَى عَلَى النَّفْسِ يَدْفَعُهُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبِيعُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ، وَلَعَلَّ قِيمَةَ الْغَنَمِ كَانَتْ عَلَى قَدْرِ النُّقْصَانِ فِي الْحَرْثِ، وَوَجْهُ حُكُومَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ جَعَلَ الِانْتِفَاعَ بِالْغَنَمِ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْحَرْثِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ مُلْكُ الْمَالِكِ عَنِ الْغَنَمِ، وَأَوْجَبَ عَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْحَرْثِ حَتَّى يَزُولَ الضَّرَرُ وَالنُّقْصَانُ.

فَإِنْ قُلْتَ: فَلَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي شَرِيعَتِنَا مَا حُكْمُهَا؟ قُلْتُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَرَوْنَ فِيهِ ضَمَانًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْبَهِيمَةِ سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ، وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الضَّمَانَ انْتَهَى.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا من الحكمين صواب لقولهه وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً. والظهر أَنْ يُسَبِّحْنَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ الْجِبالَ أَيْ مُسَبِّحَاتٍ. وَقِيلَ: اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: كَيْفَ سَخَّرَهُنَّ؟ فَقَالَ: يُسَبِّحْنَ قِيلَ: كَانَ يَمُرُّ بِالْجِبَالِ مُسَبِّحًا وَهِيَ تُجَاوِبُهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ تَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ، وَالظَّاهِرُ وُقُوعُ التَّسْبِيحِ مِنْهَا بِالنُّطْقِ خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا الْكَلَامَ كَمَا سَبَّحَ الْحَصَى فِي كَفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَكَانَ دَاوُدُ وَحْدَهُ يَسْمَعُهُ قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. وَقِيلَ: كُلُّ وَاحِدٍ. قَالَ قَتَادَةُ: يُسَبِّحْنَ يُصَلِّينَ. وَقِيلَ: يَسِرْنَ مِنَ السِّبَاحَةِ. وَقَالَ

ص: 455

الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا خَلَقَهُ يَعْنِي الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ حِينَ كَلَّمَ مُوسَى انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ يَنْفُونَ صِفَةَ الْكَلَامِ حَقِيقَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَيْهِنَّ مَجَازٌ لَمَّا كَانَتْ تَسِيرُ بِتَسْيِيرِ اللَّهِ حَمَلَتْ مَنْ رَآهَا عَلَى التَّسْبِيحِ فَأُسْنِدَ إِلَيْهَا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى تَسْبِيحِهِنَّ هُوَ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ. وَانْتَصَبَ وَالطَّيْرَ عَطْفًا عَلَى الْجِبالَ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَطْفِ دُخُولُهُ فِي قَيْدِ التَّسْبِيحِ. وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ مَعَهُ أَيْ يُسَبِّحْنَ مع الطير. وقرىء وَالطَّيْرَ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ مُسَخَّرٌ لِدَلَالَةِ سَخَّرْنَا عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يُسَبِّحْنَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ توجيه قراءة شادة.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قُدِّمَتْ الْجِبالَ عَلَى الطَّيْرَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ لِأَنَّهَا جَمَادٌ وَالطَّيْرُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: نَاطِقٌ إِنْ عَنَى بِهِ أَنَّهُ ذُو نَفْسٍ نَاطِقَةٍ كَمَا يَقُولُونَ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الطَّيْرُ إِنْسَانًا، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ مُصَوِّتٌ أَي لَهُ صَوْتٌ، وَوَصْفُ الطَّيْرِ بِالنُّطْقِ مَجَازٌ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا نُطْقَ لَهَا.

وَقَوْلُهُ وَكُنَّا فاعِلِينَ أَيْ فَاعِلِينَ هَذِهِ الْأَعَاجِيبَ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحِهِنَّ وَالطَّيْرِ لِمَنْ نَخُصُّهُ بِكَرَامَتِنَا وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اللَّبُوسُ الْمَلْبُوسُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالرَّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ، وَهُوَ الدِّرْعُ هُنَا. وَاللَّبُوسُ مَا يُلْبَسُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

عَلَيْهَا أُسُودٌ ضَارِيَاتٌ لَبُوسُهُمْ

سَوَابِغُ بِيضٌ لَا يَخْرِقُهَا النَّبْلُ

قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ صَفَائِحَ فَأَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وَحَلَقَهَا دَاوُدُ فَجَمَعَتِ الْخِفَّةَ وَالتَّحْصِينَ.

وَقِيلَ: اللَّبُوسُ كُلُّ آلَةِ السِّلَاحِ مِنْ سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَدِرْعٍ وَبَيْضَةٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، وَدَاوُدُ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدُّرُوعَ الَّتِي تُسَمَّى الزَّرَدَ.

قِيلَ: نَزَلَ مَلَكَانِ مِنَ السَّمَاءِ فَمَرَّا بِدَاوُدَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: نِعْمَ الرَّجُلُ إِلَّا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ فَصَنَعَ مِنْهُ الدُّرُوعَ امْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِ بِإِيتَائِهِ حُكْمًا وَعِلْمًا وَتَسْخِيرَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَهُ وَتَعْلِيمَ صَنْعَةِ اللَّبُوسِ،

وَفِي ذَلِكَ فَضْلُ هَذِهِ الصَّنْعَةِ إِذْ أَسْنَدَ تَعْلِيمَهَا إِيَّاهُ إِلَيْهِ تَعَالَى.

ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْنَا بِهَا بِقَوْلِهِ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ أَيْ لِيَكُونَ وِقَايَةً لَكُمْ فِي حَرْبِكُمْ وَسَبَبَ نَجَاةٍ مِنْ عَدُوِّكُمْ. وقرىء لَبُوسٍ بِضَمِّ اللَّامِ وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

لِيُحْصِنَكُمْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ أَيِ اللَّهُ فَيَكُونُ الْتِفَاتًا إِذْ جَاءَ بَعْدَ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ فِي وَعَلَّمْناهُ وَيَدُلُّ

ص: 456

عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالنُّونِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَسْعُودِ بْنِ صَالِحٍ وَرُوَيْسٍ وَالْجُعْفِيِّ وهارون ويونس والمنقري كُلِّهِمْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو لِيُحْصِنَكُمْ دَاوُدُ، وَاللَّبُوسُ قِيلَ أَوِ التَّعْلِيمُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَالْحَسَنُ وَسَلَامٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالتَّاءِ أَيْ لِتُحْصِنَكُمْ الصَّنْعَةُ أَوِ اللَّبُوسُ عَلَى مَعْنَى الدِّرْعِ وَدِرْعُ الْحَدِيدِ مُؤَنَّثَةٌ وَكُلُّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ بِإِسْكَانِ الْحَاءِ وَالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْفُقَيْمِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَابْنِ أَبِي حَمَّادٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ وَالتَّشْدِيدُ وَاللَّامُ فِي لَكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ فَتَتَعَلَّقَ بِعَلَّمْنَاهُ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ وَتَكُونُ لِتُحْصِنَكُمْ فِي مَوْضِعِ بَدَلٍ أُعِيدَ مَعَهُ لَامُ الْجَرِّ إِذِ الْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ فَتَتَقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ أَيْ لَكُمْ لِإِحْصَانِكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ صِفَةً لِلَبُوسٍ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ كَائِنٌ لَكُمْ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لِيُحْصِنَكُمْ تَعْلِيلًا لِلتَّعْلِيمِ فَيَتَعَلَّقَ بِعَلَّمْنَاهُ، وَأَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِلْكَوْنِ الْمَحْذُوفِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ لَكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ اسْتِفْهَامٌ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ أَيِ اشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «1» أَيِ انْتَهَوا عَمَّا حَرَّمَ اللَّهِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا خَصَّ بِهِ نَبِيَّهُ دَاوُدَ عليه السلام ذَكَرَ مَا خَصَّ بِهِ ابْنَهُ سُلَيْمَانَ عليه السلام، فَقَالَ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ وَجَاءَ التَّرْكِيبُ هُنَا حِينَ ذَكَرَ تَسْخِيرَ الرِّيحِ لِسُلَيْمَانَ بِاللَّامِ، وَحِينَ ذَكَرَ تَسْخِيرَ الْجِبَالِ جَاءَ بِلَفْظِ مَعَ فَقَالَ وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ وَكَذَا جَاءَ يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «2» وَقَالَ فَسَخَّرَنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَكَا فِي التَّسْبِيحِ نَاسَبَ ذِكْرُ مَعَ الدَّالَّةِ عَلَى الِاصْطِحَابِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّيحُ مُسْتَخْدَمَةً لِسُلَيْمَانَ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ لِأَنَّهَا فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ أَمْرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرِّيحَ مُفْرَدًا بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةٍ بِالرَّفْعِ مُفْرَدًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ الرِّيَاحَ بِالْجَمْعِ وَالنَّصْبِ. وَقَرَأَ بِالْجَمْعِ وَالرَّفْعِ أَبُو حَيْوَةَ فَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ سَخَّرْنَا، والرفع على الابتداء وعاصِفَةً حَالٌ الْعَامِلُ فِيهَا سَخَّرْنَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ الرِّيحَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ وَيُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ فَهِيَ عَاصِفٌ وَعَاصِفَةٌ، وَلُغَةُ أَسَدٍ أَعَصَفَتْ فَهِيَ مُعْصِفٌ وَمُعْصِفَةٌ، وَوُصِفَتْ هَذِهِ الرِّيحُ بِالْعَصْفِ وَبِالرَّخَاءِ وَالْعَصْفُ الشِّدَّةُ فِي السَّيْرِ وَالرَّخَاءُ اللِّينُ. فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ فِيهِ سُلَيْمَانُ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ فلم

(1) سورة المائدة: 5/ 91.

(2)

سورة سبأ: 34/ 100.

ص: 457

يَتَحِدِّ الزَّمَانُ. وَقِيلَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ كَوْنُهَا رَخَاءً فِي نَفْسِهَا طَيِّبَةً كَالنَّسِيمِ عَاصِفَةً فِي عَمَلِهَا تَبْعُدُ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ «1» . وَقِيلَ: الرَّخَاءُ فِي الْبَدَاءَةِ وَالْعَصْفُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَّقَوُّلِ عَلَى عَادَةِ الْبَشَرِ فِي الْإِسْرَاعِ إِلَى الْوَطَنِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَجَرْيِهَا بِأَمْرِهِ طَاعَتَهَا لَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُ، ويأمر.

والْأَرْضِ أَرْضُ الشَّامِ وَكَانَتْ مَسْكَنَهُ وَمَقَرَّ مُلْكِهِ. وَقِيلَ: أَرْضُ فِلَسْطِينَ. وَقِيلَ:

بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَ يَرْكَبُ عَلَيْهَا مِنَ اصْطَخَرَ إِلَى الشَّامِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضِ الَّتِي يَسِيرُ إِلَيْهَا سُلَيْمَانُ كَائِنَةً مَا كَانَتْ وَوُصِفَتْ بِالْبَرَكَةِ لِأَنَّهُ إذا حَلَّ أَرْضًا أَصْلَحَهَا بِقَتْلِ كُفَّارِهَا وَإِثْبَاتِ الْإِيمَانِ فِيهَا وَبَثِّ الْعَدْلِ، وَلَا بَرَكَةَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. وَالظَّاهِرُ:

أَنَّ الَّتِي بارَكْنا صِفَةٌ لِلْأَرْضِ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: الْكَلَامُ تَامٌّ عِنْدَ قوله إِلى الْأَرْضِ والَّتِي بارَكْنا فِيها صِفَةٌ لِلرِّيحِ فَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ التَّرْكِيبِ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ الَّتِي بارَكْنا فِيها عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ.

وَعَنْ وَهْبٍ: كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَجْلِسِهِ عَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَقَامَ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ حَتَّى يَجْلِسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَكَانَ لَا يَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ فَيَأْمُرُ بِخَشَبٍ فَيُمَدُّ وَالنَّاسُ عَلَيْهِ وَالدَّوَابُّ وَآلَةُ الْحَرْبِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الْعَاصِفَ فَيُقِلُّهُ ثُمَّ يَأْمُرُ الرَّخَاءَ فَتَمُرُّ بِهِ شَهْرًا فِي رَوَاحَهِ وَشَهْرًا فِي غُدُوِّهِ.

وَعَنْ مُقَاتِلٍ: نَسَجَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ بِسَاطًا ذَهَبَا فِي إِبْرِيسَمٍ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ، وَوَضَعَتْ لَهُ فِي وَسَطِهِ مِنْبَرًا مَنْ ذَهَبٍ يَقْعُدُ عَلَيْهِ وَحَوْلَهُ كَرَاسِيُّ مَنْ ذَهَبٍ يَقْعُدُ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ، وَكَرَاسِيُّ مِنْ فِضَّةٍ يَقْعُدُ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ، وَحَوْلَهُمُ النَّاسُ وَحَوْلَ النَّاسِ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ، وَالطَّيْرُ تُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَتَرْفَعُ رِيحُ الصَّبَا الْبِسَاطَ مَسِيرَةَ شَهْرٍ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ وَمِنَ الرَّوَاحِ إِلَى الصَّبَاحِ،

وَقَدْ أَكْثَرَ الْأَخَبَارِيُّونَ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ إِلَّا عَلَى مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الِاخْتِصَاصَاتُ فِي غَايَةِ الْغَرَابَةِ مِنَ الْمَعْهُودِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ يُجْرِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَسْخِيرَ الرِّيحِ لَهُ وَهِيَ جِسْمٌ شَفَّافٌ لَا يُعْقَلُ وَهِيَ لَا تُدْرَكُ بِالْبَصَرِ ذَكَرَ تَسْخِيرَ الشَّيَاطِينِ لَهُ، وَهُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ تَعْقِلُ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا سُرْعَةُ الِانْتِقَالِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ «2» وَمِنَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ وسخرنا مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ

(1) سورة سبأ: 34/ 12.

(2)

سورة النمل: 27/ 39.

ص: 458

يَغُوصُونَ أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنَ مَوْصُولَةٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هِيَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ فِي يَغُوصُونَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مِنَ وَحَسَّنَ ذَلِكَ تَقَدُّمُ جَمْعٍ قَبْلَهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَإِنَّ مِنَ النِّسْوَانِ مَنْ هِيَ رَوْضَةٌ

يَهِيجُ الرِّيَاضُ قَبْلَهَا وَتَصُوحُ

لَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ النِّسْوَانِ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى مِنْ فَأَنَّثَ، وَلَمْ يَقُلْ مَنْ هُوَ رَوْضَةٌ وَالْمَعْنَى يَغُوصُونَ لَهُ فِي الْبِحَارِ لِاسْتِخْرَاجِ اللَّآلِئِ، وَدَلَّ الْغَوْصُ عَلَى الْمُغَاصِ فِيهِ وَعَلَى مَا يُغَاصُ لِاسْتِخْرَاجِهِ وَهُوَ الْجَوْهَرُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ أَوْ قَالَ لَهُ أَيْ لِسُلَيْمَانَ لِأَنَّ الْغَائِصَ قَدْ يَغُوصُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْغَوْصَ لَيْسَ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ سُلَيْمَانَ وَامْتِثَالِهِمْ أَمْرَهُ وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْغَوْصِ أَيْ دُونَ الْغَوْصِ مِنْ بِنَاءِ الْمَدَائِنِ وَالْقُصُورِ كَمَا قَالَ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ: الْحَمَّامُ وَالنَّوْرَةُ وَالطَّاحُونُ وَالْقَوَارِيرُ وَالصَّابُونُ مِنِ اسْتِخْرَاجِهِمْ.

وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أَيْ مِنْ أَنْ يَزِيغُوا عَنْ أَمْرِهِ أَوْ يُبَدِّلُوا أَوْ يُغَيِّرُوا أَوْ يُوجَدَ مِنْهُمْ فَسَادٌ فِيمَا هُمْ مُسَخَّرُونَ فِيهِ. وَقِيلَ: حافِظِينَ أَنْ يُهَيِّجُوا أَحَدًا فِي زَمَانِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ حافِظِينَ حَتَّى لَا يَهْرُبُوا. قيل: سخر الكفار دون المؤمنين، ويدل عليه إطلاق لفظ الشَّياطِينِ وقوله حافِظِينَ والمؤمن إذا سَخَّرَ فِي أَمْرٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حِفْظٍ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ مَا عَمِلَ، وَتَسْخِيرُ أَكْثَفِ الْأَجْسَامِ لِدَاوُدَ وَهُوَ الْحَجَرُ إِذْ أَنْطَقَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَدِيدُ إِذْ جَعَلَ فِي أَصَابِعِهِ قُوَّةَ النَّارِ حَتَّى لَانَ لَهُ الْحَدِيدُ، وَعَمِلَ مِنْهُ الزَّرَدَ، وَتَسْخِيرُ أَلْطَفِ الْأَجْسَامِ لِسُلَيْمَانَ وَهُوَ الرِّيحُ وَالشَّيَاطِينُ وَهُمْ مِنْ نَارٍ. وَكَانُوا يَغُوصُونَ فِي الماء والماء يطفىء النَّارَ فَلَا يَضُرُّهُمْ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى بَاهِرِ قُدْرَتِهِ وَإِظْهَارِ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ وَإِمْكَانِ إِحْيَاءِ الْعَظْمِ الرَّمِيمِ، وَجَعْلِ التُّرَابِ الْيَابِسِ حَيَوَانًا فَإِذَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ وَجَبَ قَبُولُهُ وَاعْتِقَادُ وُجُودِهِ انْتَهَى.

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِ

(1) سورة سبأ: 34/ 13.

ص: 459

لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ.

طَوَّلَ الْأَخْبَارِيُّونَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ،

وَكَانَ أَيُّوبُ رُومِيًّا مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ، اسْتَنْبَأَهُ اللَّهُ وَبَسَطَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَكَثَّرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَكَانَ لَهُ سَبْعُ بَنِينَ وَسَبْعُ بَنَاتٍ، وَلَهُ أَصْنَافُ الْبَهَائِمِ وَخَمْسُمِائَةِ فَدَّانٍ يَتَّبِعُهَا خَمْسُمِائَةِ عَبْدٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ امْرَأَةٌ وَوَلَدٌ وَنَخِيلٌ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ بِذَهَابِ وَلَدِهِ انْهَدَمَ عَلَيْهِمُ الْبَيْتُ فَهَلَكُوا وَبِذَهَابِ مَالِهِ وَبِالْمَرَضِ فِي بَدَنِهِ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً.

وَقِيلَ دُونَ ذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ يَوْمًا لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَقَالَ لَهَا: كَمْ كَانَتْ مُدَّةُ الرَّخَاءِ؟ فَقَالَتْ:

ثَمَانِينَ سَنَةً، فَقَالَ: أَنَا أَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَدْعُوَهُ وَمَا بَلَغَتْ مُدَّةُ بَلَائِي مُدَّةَ رَخَائِي، فَلَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ أَحْيَا وَلَدَهُ وَرَزَقَهُ مِثْلَهُمْ وَنَوَافِلَ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ بَعْدُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ ابْنًا

وَذَكَرُوا كَيْفِيَّةً فِي ذَهَابِ مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَتَسْلِيطِ إِبْلِيسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِهَا إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ قَائِلًا أَنِّي وَإِمَّا عَلَى إِجْرَاءِ نَادَى مَجْرَى قَالَ وَكَسْرِ إِنِّي بَعْدَهَا وَهَذَا الثَّانِي مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ والضُّرُّ بِالْفَتْحِ الضَّرَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبِالضَّمِّ الضَّرَرُ فِي النَّفْسِ مِنْ مَرَضٍ وَهُزَالٍ فَرْقٌ بَيْنَ الْبِنَاءَيْنِ لِافْتِرَاقِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَقَدْ أَلْطَفَ أَيُّوبُ فِي السُّؤَالِ حَيْثُ ذَكَرَ نَفْسَهُ بِمَا يُوجِبُ الرَّحْمَةَ وَذَكَرَ رَبَّهُ بِغَايَةِ الرَّحْمَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَطْلُوبِ وَلَمْ يُعَيِّنِ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ.

وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا أَمْثَلُهَا أَنَّهُ نَهَضَ لِيُصَلِّيَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ، فَقَالَ مَسَّنِيَ الضُّرُّ إِخْبَارًا عَنْ حَالَةٍ لَا شَكْوَى لِبَلَائِهِ رَوَاهُ أَنَسٌ مَرْفُوعًا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الضُّرُّ لِلْجِنْسِ تَعُمُّ الضُّرُّ فِي الْبَدَنِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَإِيتَاءُ أَهْلِهِ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا كَانَ لَهُ مِنْ أَهْلٍ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَأَحْيَاهُمْ لَهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَآتَاهُ مِثْلَ أَهْلِهِ مَعَ أَهْلِهِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَتْبَاعِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ مَثَلَهُمْ عِدَّةً فِي الْآخِرَةِ. وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ لرحمتا إِيَّاهُ وَذِكْرى مِنَّا بِالْإِحْسَانِ لِمَنْ عِنْدَنَا أَوْ رَحْمَةً مِنَّا لِأَيُّوبَ وَذِكْرى أَيْ مَوْعِظَةً لِغَيْرِهِ مِنَ الْعَابِدِينَ، لِيَصْبِرُوا كَمَا صَبَرَ حَتَّى يُثَابُوا كَمَا أُثِيبَ.

وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَمُجَاهِدٌ: كَانَ ذُو الْكِفْلِ عَبْدًا صَالِحًا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. وَقَالَ

ص: 460

الْأَكْثَرُونَ: هُوَ نَبِيٌّ فَقِيلَ: هُوَ إِلْيَاسُ. وَقِيلَ: زَكَرِيَّا. وَقِيلَ: يُوشَعُ، وَالْكِفْلُ النَّصِيبُ وَالْحَظُّ أَيْ ذُو الْحَظِّ مِنَ اللَّهِ الْمَحْدُودِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَقِيلَ: كَانَ لَهُ ضِعْفُ عَمَلِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِهِ وَضِعْفُ ثَوَابِهِمْ. وَقِيلَ: فِي تَسْمِيَتِهِ ذَا الْكِفْلِ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ لَا تَصِحُّ. وَانْتَصَبَ مُغاضِباً عَلَى الْحَالِ. فَقِيلَ: مَعْنَاهُ غَضْبَانُ وَهُوَ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي اشْتِرَاكًا، نَحْوَ: عَاقَبْتُ اللِّصَّ وَسَافَرْتُ. وَقِيلَ مُغاضِباً لِقَوْمِهِ أَغْضَبَهُمْ بِمُفَارَقَتِهِ وَتَخَوُّفِهِمْ حُلُولَ الْعَذَابِ، وَأَغْضَبُوهُ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ مُدَّةً فَلَمْ يُجِيبُوهُ فَأَوْعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ.

وَقِيلَ مُغاضِباً لِلْمَلِكِ حِزْقِيَا حِينَ عَيَّنَهُ لِغَزْوِ مَلِكٍ كَانَ قَدْ عَابَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُ يُونُسُ: آللَّهُ أَمْرَكَ بِإِخْرَاجِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: لا، قال: هاهنا غَيْرِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَخَرَجَ مُغاضِباً لِلْمَلِكِ.

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مُغاضِباً لِرَبِّهِ وَحَكَى فِي الْمُغَاضَبَةِ لِرَبِّهِ كَيْفِيَّاتٍ يَجِبُ اطِّرَاحَهُ إِذْ لَا يُنَاسِبُ شَيْءٌ مِنْهَا مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَوَّلَ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ مُغاضِباً لِرَبِّهِ أَيْ لِأَجْلِ رَبِّهِ وَدِينِهِ، وَاللَّامُ لَامُ الْعِلَّةِ لَا اللَّامُ الْمُوَصِّلَةُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ. وَقَرَأَ أَبُو شَرَفٍ مُغْضِبًا اسْمَ مَفْعُولٍ.

فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أَيْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَدْرِ لَا مِنَ الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الْقُدْرَةِ بِمَعْنَى أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ الِابْتِلَاءَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَقْدِرَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو شَرَفٍ وَالْكَلْبِيُّ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِّ مُخَفَّفًا، وَعِيسَى وَالْحَسَنُ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً وَكَسْرِ الدَّالِ،

وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْيَمَانِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّالِ مُشَدَّدَةً،

وَالزُّهْرِيُّ بِالنُّونِ مَضْمُومَةً وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُشَدَّدَةً.

فَنادى فِي الظُّلُماتِ فِي الْكَلَامِ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ قَدْ أُوضِحَتْ فِي سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ، وَهُنَاكَ نَذْكُرُ قِصَّتَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَمَعَ الظُّلُماتِ لِشِدَّةِ تَكَاثُفِهَا فَكَأَنَّهَا ظُلْمَةٌ مَعَ ظُلْمَةٍ. وَقِيلَ: ظُلُمَاتُ بَطْنِ الْحُوتِ وَالْبَحْرِ وَاللَّيْلِ. وَقِيلَ: ابْتَلَعَ حُوتَهُ حُوتٌ آخَرُ فَصَارَ فِي ظُلْمَتَيْ بَطْنَيْ الْحُوتَيْنِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ.

وَرُوِيَ أَنَّ يُونُسَ سَجَدَ فِي جَوْفِ الْحُوتِ حِينَ سَمِعَ تَسْبِيحَ الْحِيتَانِ فِي قعر البحر،

وأَنْ فِي أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّهُ سَبَقَ فَنادى وَهُوَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ بِأَنَّهُ فَتَكُونُ مُخَفِّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ حَصْرَ الْأُلُوهِيَّةِ فِيهِ تَعَالَى ثُمَّ نَزَّهَهُ عَنْ سِمَاتِ النَّقْصِ ثُمَّ أَقَرَّ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ.

وَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ» .

والْغَمِّ مَا

ص: 461

كَانَ نَالَهُ حِينَ الْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَمُدَّةُ بَقَائِهِ فِي بَطْنِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُنْجِي مُضَارِعُ أَنْجَى، وَالْجَحْدَرِيُّ مُشَدَّدًا مُضَارِعُ نَجَّى. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ نَجَّى بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفِ الْإِمَامِ وَمَصَاحِفِ الْأَمْصَارِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيدٍ لِمُوَافَقَةِ الْمَصَاحِفِ فَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَارِسِيُّ هِيَ لَحْنٌ. وَقِيلَ: هِيَ مُضَارِعٌ أُدْغِمَتِ النُّونُ فِي الْجِيمِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُ النُّونِ فِي الْجِيمِ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ كَمَا حُذِفَتْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَنَزَلَ الْمَلَائِكَةُ يُرِيدُ وَنُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ، وَعَلَى هَذَا أَخْرَجَهَا أَبُو الْفَتْحِ. وَقِيلَ: هِيَ فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَسُكِّنَتِ الْيَاءُ كَمَا سَكَّنَهَا مَنْ قرأ وذر وإما بَقِيَ مِنَ الرِّبَا وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ أَيْ نَجَّى، هُوَ أَيِ النَّجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ كَقِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ لِيَجْزِيَ قَوْماً «1» أَيْ وَلِيَجْزِيَ هُوَ أَيِ الْجَزَاءَ، وَقَدْ أَجَازَ إِقَامَةَ غَيْرِ الْمَفْعُولِ مِنْ مَصْدَرٍ أَوْ ظَرْفِ مَكَانٍ أَوْ ظَرْفِ زَمَانٍ أَوْ مَجْرُورٍ الْأَخْفَشُ وَالْكُوفِيُّونَ وَأَبُو عُبَيدٍ، وَذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ بِهِ وَجَاءَ السَّمَاعُ فِي إِقَامَةِ الْمَجْرُورِ مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ:

أُتِيحَ لِي مِنَ الْعِدَا نَذِيرَا

بِهِ وُقِيتُ الشَّرَّ مُسْتَطِيرَا

وَقَالَ الْأَخْفَشُ: فِي الْمَسَائِلِ ضَرَبَ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ زَيْدًا، وَضَرَبَ الْيَوْمَانِ زَيْدًا، وَضَرَبَ مَكَانُكَ زَيْدًا وَأَعْطَى إِعْطَاءَ حَسَنٍ أَخَاكَ دِرْهَمًا مَضْرُوبًا عَبْدَهُ زَيْدًا. وَقِيلَ: ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ والْمُؤْمِنِينَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ وكذلك نَجَّى هُوَ أَيِ النَّجَاءُ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ الْمَفْعُولُ بِهِ لَمْ يُقِمْ غَيْرُهُ إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ اللُّبَابِ حَكَى الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَجَازَ ذَلِكَ.

لَا تَذَرْنِي فَرْداً أَيْ وَحِيدًا بِلَا وَارِثَ، سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا يَرِثُهُ ثُمَّ رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أَيْ إِنْ لَمْ تَرْزُقْنِي مَنْ يَرِثُنِي فَأَنْتَ خَيْرُ وَارِثٍ، وَإِصْلَاحُ زَوْجِهِ بِحُسْنِ خُلُقِهَا، وَكَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ قَالَهُ عَطَاءٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.

وَقِيلَ: إِصْلَاحُهَا لِلْوِلَادَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَاقِرًا قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: إصلاحها رد شبابها إليها، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقُ ذِكْرُهُمْ أَيْ إِنَّ اسْتِجَابَتِنَا لَهُمْ فِي طَلَبَاتِهِمْ كَانَ لِمُبَادَرَتِهِمُ الْخَيْرَ وَلِدُعَائِهِمْ لَنَا.

رَغَباً وَرَهَباً أَيْ وَقْتَ الرَّغْبَةِ وَوَقْتَ الرَّهْبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا

(1) سورة الجاثية: 45/ 14.

ص: 462

رَحْمَةَ رَبِّهِ «1» وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى زَكَرِيَّا وزَوْجَهُ وَابْنَهُمَا يَحْيَى. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ يَدْعُونَا حُذِفَتْ نُونُ الرَّفْعِ وَطَلْحَةُ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ أَدْغَمَ نُونَ الرَّفْعِ فِي نَا ضَمِيرِ النَّصْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَوَهْبُ بْنُ عَمْرٍو وَالنَّحْوِيُّ وَهَارُونُ وَأَبُو مَعْمَرٍ وَالْأَصْمَعِيُّ وَاللُّؤْلُؤِيُّ وَيُونُسُ وَأَبُو زَيْدٍ سَبْعَتُهُمْ عَنْ أبي عمر ورَغَباً وَرَهَباً بِالْفَتْحِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ، وَالْأَشْهُرُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِضَمَّتَيْنِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ فِرْقَةٌ: بِضَمِّ الراءَيْنِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَالْهَاءِ، وَانْتَصَبَ رَغَباً وَرَهَباً عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ.

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها هِيَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ أُمِّ عِيسَى عليه السلام، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَرْجَ هُنَا حَيَاءُ الْمَرْأَةِ أَحْصَنَتْهُ أَي مَنَعَتْهُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا قَالَتْ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا

«2» . وَقِيلَ: الْفَرْجُ هُنَا جَيْبُ قَمِيصِهَا مَنَعَتْهُ مِنْ جِبْرِيلَ لَمَّا قَرُبَ مِنْهَا لِيَنْفُخَ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا كِنَايَةٌ عَنْ إِيجَادِ عِيسَى حَيًّا فِي بَطْنِهَا، وَلَا نَفْخَ هُنَاكَ حَقِيقَةً، وَأَضَافَ الرُّوحَ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ التَّشْرِيفِ. وَقِيلَ: هُنَاكَ نَفْخٌ حَقِيقَةً وَهُوَ أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا وَأَسْنَدَ النَّفْخَ إِلَيْهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ جِبْرِيلَ بِأَمْرِهِ تَعَالَى تَشْرِيفًا. وَقِيلَ: الرُّوحُ هُنَا جِبْرِيلُ كَمَا قَالَ فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها

«3» وَالْمَعْنَى فَنَفَخْنا فِيها مِنْ جِهَةِ جِبْرِيلَ وَكَانَ جِبْرِيلُ قَدْ نَفَخَ مِنْ جَيْبِ دِرْعِهَا فَوَصَلَ النَّفْخُ إِلَى جَوْفِهَا.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: نَفْخُ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ عِبَارَةٌ عَنْ إِحْيَائِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «4» أَيْ أَحْيَيْتُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ وفَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا ظَاهِرُ الْإِشْكَالِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِحْيَاءِ مَرْيَمَ. قُلْتُ: مَعْنَاهُ نَفَخْنَا الرُّوحَ فِي عِيسَى فِيهَا أَيْ أَحْيَيْنَاهُ فِي جَوْفِهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الزَّمَّارُ نَفَخْتُ فِي بَيْتِ فُلَانٍ أَيْ نَفَخْتُ فِي الْمِزْمَارِ فِي بَيْتِهِ انْتَهَى. وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فَنَفَخْنَا فِي ابْنِهَا مِنْ رُوحِنا وَقَوْلُهُ قُلْتُ مَعْنَاهُ نَفَخْنَا الرُّوحَ فِي عِيسَى فِيهَا اسْتَعْمَلَ نَفَخَ مُتَعَدِّيًا، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى فَيَحْتَاجُ فِي تعديه إلى سماع وَغَيْرِ مُتَعَدٍّ اسْتَعْمَلَهُ هُوَ فِي قَوْلِهِ أَيْ نَفَخْتُ فِي الْمِزْمَارِ فِي بَيْتِهِ انْتَهَى. وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ. وَأَفْرَدَ آيَةً لِأَنَّ حَالَهُمَا لِمَجْمُوعِهِمَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ وِلَادَتُهَا إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، وَإِنْ كَانَ فِي مَرْيَمَ آيَاتٌ وَفِي عِيسَى آيَاتٌ لَكِنَّهُ هُنَا لَحَظَ أَمْرَ الْوِلَادَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَذَلِكَ هُوَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَوْلُهُ لِلْعالَمِينَ أي

(1) سورة الزمر: 39/ 9. [.....]

(2)

سورة مريم: 19/ 20.

(3)

سورة مريم: 19/ 17.

(4)

سورة الحجر: 15/ 29.

ص: 463

لِمَنِ اعْتَبَرَ بِهَا مِنْ عَالِمِي زَمَانِهَا فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَدَلَّ ذِكْرُ مَرْيَمَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيَّةً إِذْ قُرِنَتْ مَعَهُمْ فِي الذِّكْرِ، وَمَنْ مَنَعَ تَنَبُّؤَ النِّسَاءِ قَالَ: ذُكِرَتْ لِأَجْلِ عِيسَى وَنَاسَبَ ذِكْرُهُمَا هُنَا قِصَّةَ زَكَرِيَّا وَزَوْجِهِ وَيَحْيَى لِلْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ.

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أُمَّتُكُمْ خِطَابٌ لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وهذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَيْ إِنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ هِيَ مِلَّتُكُمُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا عَلَيْهَا لَا تَنْحَرِفُونَ عَنْهَا مِلَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هذِهِ إِشَارَةً إِلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ الْمَذْكُورُونَ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ طَرِيقَتُكُمْ وَمِلَّتُكُمْ طَرِيقَةً وَاحِدَةً لَا اخْتِلَافَ فِيهَا فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ، بَلْ مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: مَعْنَى أُمَّةً واحِدَةً مَخْلُوقَةً لَهُ تَعَالَى مَمْلُوكَةً لَهُ، فَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ النَّاسُ كُلُّهُمْ. وَقِيلَ: الْكَلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقِصَّةِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا أَيْ وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «1» بِأَنْ بُعِثَ لَهُمْ بِمِلَّةٍ وَكِتَابٍ، وَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أَيْ دَعَا الْجَمِيعَ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَعِبَادَتِهِ.

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُمَّتُكُمْ بِالرَّفْعِ خَبَرُ إِنَّ أُمَّةً واحِدَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ بَدَلٌ مِنْ هذِهِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ أُمَّتُكُمْ بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ هذِهِ. وَقَرَأَ أَيْضًا هُوَ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْجُعْفِيُّ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالزَّعْفَرَانِيِّ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أن أُمَّتُكُمْ وأُمَّةً واحِدَةً خَبَرُ إِنَّ أَوْ أُمَّةً واحِدَةً بَدَلٌ مِنْ أُمَّتُكُمْ بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ أُمَّةً واحِدَةً وَالضَّمِيرُ فِي وَتَقَطَّعُوا عَائِدٌ عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ أَيْ وَتَقَطَّعْتُمْ.

وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مَنْ أَقْبَحِ الْمُرْتَكَبَاتِ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ كَأَنَّ هَذَا

(1) سورة الأنبياء: 21/ 91.

ص: 464

الْفِعْلَ مَا صَدَرَ مِنَ الْمُخَاطَبِ لِأَنَّ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ نَعْيًا عَلَيْهِمْ مَا أَفْسَدُوهُ، وَكَأَنَّهُ يُخْبِرُ غَيْرَهُمْ مَا صَدَرَ مِنْ قَبِيحِ فِعْلِهِمْ وَيَقُولُ أَلَا تَرَى إِلَى مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ جَعَلُوا أَمْرَ دِينِهِمْ قِطَعًا كَمَا يَتَوَزَّعُ الْجَمَاعَةُ الشَّيْءَ لِهَذَا نَصِيبٌ وَلِهَذَا نَصِيبٌ، تَمْثِيلًا لِاخْتِلَافِهِمْ ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِرُجُوعِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ إِلَى جَزَائِهِ. وَقِيلَ: كُلٌّ مِنَ الثَّابِتِ عَلَى دِينِهِ الْحَقِّ وَالزَّائِغِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ زُبُرًا بِفَتْحِ الْبَاءِ جَمْعُ زُبْرَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْمُحْسِنِ وَأَنَّهُ لَا يُكْفَرُ سَعْيُهُ وَالْكُفْرَانُ مَثَلٌ فِي حِرْمَانِ الثَّوَابِ كَمَا أَنَّ الشُّكْرَ مَثَلٌ فِي إِعْطَائِهِ إِذَا قِيلَ لِلَّهِ شَكُورٌ وَلَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا يُكْفَرُ سَعْيُهُ، وَالْكِتَابَةُ عِبَارَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ عَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي صَحِيفَةِ الْأَعْمَالِ لِيُثَابَ عَلَيْهِ، وَلَا يَضِيعُ، وَالْكُفْرَانُ مَصْدَرٌ كَالْكُفْرِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

رَأَيْتُ أُنَاسًا لَا تَنَامُ جُدُودُهُمْ

وَجَدِّي وَلَا كُفْرَانَ لِلَّهِ نَائِمُ

وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ لا كفر ولِسَعْيِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ نَكْفُرُ لِسَعْيِهِ وَلَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِكُفْرَانٍ إِذْ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا به لكان اسم لَا مُطَوَّلًا فَيَلْزَمُ تَنْوِينُهُ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَحَرامٌ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَحِرْمٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَحَرِمٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ أَيْضًا بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ عَلَى الْمُضِيِّ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ عَلَى الْمُضِيِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ وَالْمِيمِ عَلَى الْمُضِيِّ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَحُرِّمَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً وَفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَهْلَكْناها بِنُونِ الْعَظَمَةِ.

وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَقَتَادَةُ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَاسْتُعِيرَ الحرام للمتنع وُجُودُهُ وَمِنْهُ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ «1» وَمَعْنَى أَهْلَكْناها قَدَّرْنَا إِهْلَاكَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنِ الْكُفْرِ، فَالْإِهْلَاكُ هُنَا إِهْلَاكٌ عن كفر ولا فِي لَا يَرْجِعُونَ صِلَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيدٍ كَقَوْلِكَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ، أَيْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْنَى وَمُمْتَنِعٌ على أهل قرية قدرنا عَلَيْهِمْ إِهْلَاكَهُمْ لِكُفْرِهِمْ رُجُوعَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْإِيمَانِ إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ، فحينئذ يرجعون ويقولون يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا وَغَيًّا بِمَا قَرُبَ مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ وَهُوَ فَتْحُ

(1) سورة الأعراف: 7/ 50.

ص: 465

يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وقرى إِنَّهُمْ بِالْكَسْرِ فَيَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ أَهْلَكْناها وَيُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ تَصِيرُ بِهِ وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها جُمْلَةُ أَيْ ذَاكَ، وَتَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْمَذْكُورِ فِي قَسِيمِ هَؤُلَاءِ الْمُهْلَكِينَ، وَالْمَعْنَى وَحَرامٌ عَلى أهل قَرْيَةٍ قدرنا إهلاكهم لكفرهم عمل صالح يَنْجُونَ بِهِ مِنَ الْإِهْلَاكِ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فَالْمَحْذُوفُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ وَحَرامٌ وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ مُتَقَدِّمًا كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْإِقَالَةُ وَالتَّوْبَةُ حَرَامٌ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْفَتْحِ تَصِحُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَتَكُونُ لَا نَافِيَةً عَلَى بَابِهَا وَالتَّقْدِيرُ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ. وَقِيلَ أَهْلَكْناها أَيْ وَقَعَ إِهْلَاكُنَا إِيَّاهُمْ وَيَكُونُ رُجُوعُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا فَيَتُوبُونَ بَلْ هُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْعَذَابِ. وَقِيلَ:

الْإِهْلَاكُ بِالطَّبْعِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالرُّجُوعُ هُوَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها حَكَمْنَا بِإِهْلَاكِهَا أَنْ نَتَقَبَّلَ أَعْمَالَهُمْ لِأَنَّهَا لَا يَرْجِعُونَ أَيْ لَا يَتُوبُونَ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ قَبْلُ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أَيْ يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا عَقِيبَهُ وَبَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ.

وَقَالَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ حَرامٌ ممتنع وأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ انْتِقَامُ الرُّجُوعِ إِلَى الْآخِرَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الِانْتِفَاءُ وَجَبَ الرُّجُوعُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ رُجُوعُهُمْ إِلَى الْحَيَاةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَيَكُونُ الْغَرَضُ إِنْكَارَ قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، وَتَحْقِيقَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا كُفْرَانَ لِسَعْيِ أَحَدٍ وَأَنَّهُ يُجْزَى عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْحَرَامُ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا «1» وَتَرْكُ الشِّرْكِ وَاجِبٌ. وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ:

حَرَامٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا

عَلَى شَجْوِهِ إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى صَخْرِ

وَأَيْضًا فَمِنَ الِاسْتِعْمَالِ إِطْلَاقُ الضَّمِيرِ عَلَى ضِدِّهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَنُ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: إِلَى الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ فِي الْآيَةِ مَعْنَى ضِمْنُهُ وَعِيدٌ بَيِّنٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ثُمَّ عَادَ إِلَى ذِكْرِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ مِنْ كَفْرِهِمْ وَمُعْتَقَدِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُحْشَرُونَ إِلَى رَبٍّ وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى مَعَادٍ فَهُمْ يَظُنُّونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا عِقَابَ يَنَالُهُمْ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ مُكَذِّبَةً لِظَنِّ هَؤُلَاءِ أَيْ وَمُمْتَنِعٌ عَلَى الْكَفَرَةِ الْمُهْلِكِينَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ بَلْ هُمْ رَاجِعُونَ إِلَى عِقَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، فَيَكُونُ لَا عَلَى بَابِهَا وَالْحَرَامُ عَلَى بَابِهِ. وَكَذَلِكَ الْحُرُمُ فَتَأَمَّلْهُ انْتَهَى.

(1) سورة الأنعام: 6/ 151.

ص: 466

وحَتَّى قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ مُتَعَلِّقَةٌ فِي الْمَعْنَى بِحَرَامٍ أَيْ يَسْتَمِرُّ الِامْتِنَاعُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ وَلَا عَمَلَ لَهَا فِي إِذا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ حَتَّى غَايَةٌ، وَالْعَمَلُ فِيهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ تَأَسُّفِهِمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنَ الطَّاعَةِ حِينَ فَاتَهُمُ الِاسْتِدْرَاكُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ:

بِمَ تَعَلَّقَتْ حَتَّى وَاقِعَةً غَايَةً لَهُ وَأَيَّةُ الثَّلَاثِ هِيَ؟ قُلْتُ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَرَامٍ، وَهِيَ غَايَةٌ لَهُ لِأَنَّ امْتِنَاعَ رُجُوعِهِمْ لَا يَزُولُ حَتَّى تَقُومَ الْقِيَامَةُ، وَهِيَ حَتَّى الَّتِي تَحْكِي الْكَلَامَ، وَالْكَلَامُ الْمَحْكِيُّ الْجُمْلَةُ مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَعْنِي إِذَا وَمَا فِي حَيِّزِهَا انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ وَتَقَطَّعُوا وَيُحْتَمَلُ عَلَى بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ تُعَلَّقَ بِيَرْجِعُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ وهو الأظهر بسبب إِذا لِأَنَّهَا تَقْتَضِي جَوَابًا هُوَ الْمَقْصُودُ ذِكْرُهُ انْتَهَى. وَكَوْنُ حَتَّى مُتَعَلِّقَةً فِيهِ بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ ذِكْرُ الْفَصْلِ لَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى جَيِّدٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ غَيْرَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى دِينِ الْحَقِّ إِلَى قُرْبِ مَجِيءِ السَّاعَةِ، فَإِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ انْقَطَعَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ وَعَلِمَ الْجَمِيعُ أَنَّ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ وَأَنَّ الدِّينَ الْمُنَجِّيَ هُوَ كَانَ دِينَ التَّوْحِيدِ. وَجَوَابُ إِذا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ قالوا يا ويلنا قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ أَوْ تَقْدِيرُهُ، فَحِينَئِذٍ يُبْعَثُونَ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ.

أَوْ مَذْكُورٌ وَهُوَ وَاقْتَرَبَ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَهُمْ يُجِيزُونَ زِيَادَةَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ فِي فَإِذَا هِيَ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا هِيَ الْمُفَاجَأَةُ وَهِيَ تَقَعُ فِي المفاجئات سَادَةً مَسَدَّ الْفَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ «1» فَإِذَا جَاءَتِ الْفَاءُ مَعَهَا تَعَاوَنَتَا عَلَى وَصْلِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، فَيَتَأَكَّدُ وَلَوْ قِيلَ إذا هِيَ شَاخِصَةٌ كَانَ سَدِيدًا.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي أَقُولُ أَنَّ الْجَوَابَ فِي قَوْلِهِ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي قُصِدَ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ رُجُوعُهُمُ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ امْتِنَاعَهُ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي فُتِحَتْ فِي الْأَنْعَامِ وَوَافَقَ ابْنَ عَامِرٍ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَكَذَا الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ وَالْقَمَرِ فِي تَشْدِيدِ التَّاءِ، وَالْجُمْهُورُ على التخفيف فيهن وفُتِحَتْ يَأْجُوجُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ سَدُّ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أَيْ يَطْلُعُونَ مِنْ كُلِّ ثَنِيَّةٍ وَمُرْتَفَعٍ وَيَعُمُّونَ الْأَرْضَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْعَالَمِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ الله وابن عباس مِنْ كُلِّ جَدَثٍ بِالثَّاءِ المثلثة وهو القبر. وقرىء بِالْفَاءِ الثَّاءِ لِلْحِجَازِ وَالْفَاءِ لِتَمِيمٍ وَهِيَ بَدَلٌ مِنَ الثَّاءِ كَمَا أَبْدَلُوا الثَّاءَ مِنْهَا قَالُوا وَأَصْلُهُ مَغْفُورٌ.

(1) سورة الروم: 30/ 36.

ص: 467

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنْسِلُونَ بِكَسْرِ السِّينِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو السَّمَّالِ بِضَمِّهَا وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أَيِ الْوَعْدُ بِالْبَعْثِ الْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَاقْتَرَبَ قِيلَ: أَبْلَغُ فِي الْقُرْبِ مِنْ قَرُبَ وَضَمِيرُ هِيَ لِلْقِصَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِذَا الْقِصَّةُ وَالْحَادِثَةُ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شاخِصَةٌ وَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ شاخِصَةٌ الْخَبَرَ وأَبْصارُ مُبْتَدَأً، وَلَا يَجُوزُ ارْتِفَاعُ أَبْصَارٌ شَاخِصَةٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَوِ الْقِصَّةِ جُمْلَةٌ تُفَسِّرُ الضَّمِيرَ مُصَرَّحٌ بِجُزْأَيْهَا، وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ تُوَضِّحُهُ الْأَبْصَارُ وَتُفَسِّرُهُ كَمَا فَسَّرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَسَرُّوا انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْفَرَّاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ ضَمِيرُ الْأَبْصَارِ تَقَدَّمَتْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ وَمَجِيءِ مَا يُفَسِّرُهَا وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَلَا وَأَبِيهَا لَا تَقُولُ خَلِيلَتِي

إِلَّا قَرَّ عَنِّي مَالِكُ بْنُ أَبِي كَعْبِ

وَذَكَرَ أَيْضًا الْفَرَّاءُ أَنَّ هِيَ عِمَادٌ يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا هُوَ وَأَنْشَدَ:

بِثَوْبٍ وَدِينَارٍ وَشَاةٍ وَدِرْهَمٍ

فَهَلْ هُوَ مرفوع بما هاهنا رَأَسُ

وَهَذَا لَا يَتَمَشَّى إِلَّا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الْكِسَائِيِّ فِي إِجَازَتِهِ تَقْدِيمَ الْفَصْلِ مَعَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ أَجَازَ هُوَ الْقَائِمُ زيد على أن زيد هُوَ الْمُبْتَدَأُ وَالْقَائِمُ خَبَرُهُ، وَهُوَ عِمَادٌ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ زَيْدٌ هُوَ الْقَائِمُ، وَيَقُولُ: أَصْلُهُ هَذِهِ فَإِذَا أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ شاخِصَةٌ فَشَاخِصَةٌ خَبَرٌ عَنْ أَبْصارُ وَتَقَدَّمَ مَعَ الْعِمَادِ، وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ الْعِمَادُ قَبْلَ خَبَرِهِ نَكِرَةً، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ الْكَلَامَ ثَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَإِذا هِيَ أَيْ بَارِزَةٌ وَاقِعَةٌ يَعْنِي السَّاعَةَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهَذَا وَجْهٌ مُتَكَلَّفٌ مُتَنَافِرُ التَّرْكِيبِ. وَرَوَى حُذَيْفَةُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا اقْتَنَى فَلَوْ أَبْعَدَ خُرُوجَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَمْ يَرْكَبْهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ يَعْنِي فِي مَجِيءِ الساعة إثر خروجهم.

يا وَيْلَنا مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جواب فَإِذا وَالشُّخُوصُ إِحْدَادُ النَّظَرِ دُونَ أَنْ يَطْرِفَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا انْتَهَى. أَيْ مِمَّا وَجَدْنَا الْآنَ وَتَبَيَّنَّا مِنَ الْحَقَائِقِ ثُمَّ أَضْرَبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ وَأَخْبَرُوا بِمَا قَدْ كَانُوا تَعَمَّدُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالُوا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ مَكَّةَ وَمَعْبُودَاتُهُمْ هِيَ الْأَصْنَامُ.

ص: 468

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ حَصَبُ بِالْحَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ مَا يُحْصَبُ بِهِ أَيْ يُرْمَى بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وقبل أن يرمي به لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ حَصَبٌ إِلَّا مَجَازًا. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَمَحْبُوبٌ وَأَبُو حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِإِسْكَانِ الصَّادِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَصْدَرٌ يُرَادَ بِهِ الْمَفْعُولُ أَيِ الْمَحْصُوبُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَعَنْهُ إِسْكَانُهَا، وَبِذَلِكَ قَرَأَ كُثَيِّرُ عِزَّةَ: وَالْحَضْبُ مَا يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ، وَالْمِحْضَبِ الْعُودُ أَوِ الْحَدِيدَةُ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا تَحَرَّكَ بِهِ النَّارُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَا تَكُ فِي حَرْبِنَا مُحْضِبًا

فَتَجْعَلَ قَوْمَكَ شَتَّى شُعُوبَا

وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَلِيٌّ وَعَائِشَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ حَطَبُ بِالطَّاءِ،

وَجَمْعُ الْكُفَّارِ مَعَ مَعْبُودَاتِهِمْ فِي النَّارِ لِزِيَادَةِ غَمِّهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ بِرُؤْيَتِهِمْ مَعَهُمْ فِيهَا إِذْ عُذِّبُوا بِسَبَبِهِمْ، وَكَانُوا يَرْجُونَ الْخَيْرَ بِعِبَادَتِهِمْ فَحَصَلَ لَهُمُ الشَّرُّ مِنْ قِبَلِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ صَارُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَرُؤْيَةُ الْعَدُوِّ مِمَّا يَزِيدُ فِي الْعَذَابِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَاحْتِمَالُ الْأَذَى ورؤية جابيه

غِذَاءٌ تُضْنَى بِهِ الْأَجْسَامُ

أَنْتُمْ لَها أَيْ لِلنَّارِ وارِدُونَ الْوُرُودُ هُنَا وُرُودُ دُخُولٍ لَوْ كانَ هؤُلاءِ أي الأصنام التي تبعدونها آلِهَةً مَا وَرَدُوها أَيْ مَا دَخَلُوهَا وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وُرُودُ دُخُولٍ قَوْلِهِ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آلِهَةً بِالنَّصْبِ عَلَى خَبَرِ كانَ.

وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِالرَّفْعِ عَلِيٍّ إِنَّ فِي كانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَكُلٌّ فِيها أَيْ كُلٌّ مِنَ الْعَابِدِينَ وَمَعْبُودَاتِهِمْ.

لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُوَ صَوْتُ نَفَسِ الْمَغْمُومِ يَخْرُجُ مِنَ الْقَلْبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّفِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ وَهُمُ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ مِمَّنْ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ كَفِرْعَوْنَ وَكَغُلَاةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ مِصْرَ مَنْ بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ أَوَّلِ مُلُوكِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي عُبِدَتْ حَيَاةً فَيَكُونُ لَهَا زَفِيرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا كَانُوا هُمْ وَأَصْنَامُهُمْ فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ فِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّافِرِينَ إِلَّا وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ يُجْعَلُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ فَلَا يَسْمَعُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «1» وَفِي سَمَاعِ الْأَشْيَاءِ رَوْحٌ فَمَنَعَ اللَّهُ الْكُفَّارَ ذَلِكَ فِي النَّارِ. وَقِيلَ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَسُرُّهُمْ مِنْ كَلَامِ الزَّبَانِيَةِ.

(1) سورة الإسراء: 17/ 97.

ص: 469

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ.

سَبَبُ نُزُولِ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى حِينَ سَمِعَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ خَصِمْتُكَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أَلَيْسَ الْيَهُودُ عَبَدُوا عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ، وَبَنُو مَلِيحٍ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«هُمْ عَبَدُوا الشَّيَاطِينَ الَّتِي أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى

الآية. وَقِيلَ: لَمَّا اعْتَرَضَ ابْنُ الزِّبَعْرَى قِيلَ لَهُمْ: أَلَسْتُمْ قوما عربا أو ما تَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ ابْنُ الزِّبَعْرَى قَدْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ وَما تَعْبُدُونَ الْعُمُومَ فَلِذَلِكَ نَزَلَ قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ الْآيَةَ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ ابْنُ الزِّبَعْرَى رَامَ مُغَالَطَةً، فَأُجِيبُ بِأَنَّ مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ فَبَطَلَ اعْتِرَاضُهُ.

والْحُسْنى الْخَصْلَةُ الْمُفَضَّلَةُ فِي الْحُسْنِ تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، إِمَّا السَّعَادَةُ وَإِمَّا الْبُشْرَى بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا التَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ مُبْعَدُونَ فَمَا بَعْدَهُ أَنَّ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الْحُسْنَى لَا يَدْخُلُ النَّارَ.

وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: أَنَا مِنْهُمْ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها

وَالْحَسِيسُ الصَّوْتُ الَّذِي يُحَسُّ مِنْ حَرَكَةِ الْأَجْرَامِ، وَهَذَا الْإِبْعَادُ وَانْتِفَاءُ سَمَاعِ صَوْتِهَا قِيلَ هُوَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: بَعْدَ دُخُولِهِمْ وَاسْتِقْرَارِهِمْ فِيهَا، وَالشَّهْوَةُ طَلَبُ النَّفْسِ اللَّذَّةَ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ صِفَةٌ لَهُمْ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي أَنَّهُ في

(1) سورة الأنبياء: 21/ 98.

ص: 470

الْمَوْقِفِ تَزْفَرُ جَهَنَّمُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى نَبِيٌّ وَلَا مَلِكٌ إِلَّا جَثَا عَلَى ركبتيه والْفَزَعُ الْأَكْبَرُ عَامٌّ فِي كُلِّ هَوْلٍ يَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَكَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِجُمْلَتِهِ هُوَ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَإِنْ خُصِّصَ بِشَيْءٍ فَيَجِبُ أن يقصد لا عظم هُوَ لَهُ انْتَهَى. وَقِيلَ: الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وُقُوعُ طَبَقِ جَهَنَّمَ عَلَيْهَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِأَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْحَسَنِ. وَقِيلَ: ذَبْحُ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: إذا نودي اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «1» وَقِيلَ يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ.

وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّحْمَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ قَائِلِينَ لَهُمْ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بِالْكَرَامَةِ وَالثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ لَا يَحْزُنُهُمُ مُضَارِعُ أَحْزَنَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَحَزِنَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالْعَامِلُ فِي يوم لا يَحْزُنُهُمُ وتَتَلَقَّاهُمُ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ فِي تُوعَدُونَ فَالْعَامِلُ فِيهِ تُوعَدُونَ أَيْ أَيُوعَدُونَهُ أَوْ مَفْعُولًا بِاذْكُرْ أَوْ مَنْصُوبًا بِأَعْنِي. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ الْفَزَعُ وَلَيْسَ بِجَائِزٍ لِأَنَّ الْفَزَعُ مَصْدَرٌ وَقَدْ وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِ مَعْمُولِهِ فَلَا يَجُوزُ مَا ذُكِرَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَطْوِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَفِرْقَةٌ مِنْهُمْ شَيْبَةُ بْنُ نَصَّاحٍ يَطْوِي بِيَاءٍ أَيِ اللَّهُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَفِرْقَةٌ بِالتَّاءِ مَضْمُومَةً وَفَتْحِ الْوَاوِ والسَّماءَ رَفْعًا وَالْجُمْهُورُ السِّجِلِّ عَلَى وَزْنِ الطِّمِرِّ. وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَصَاحِبُهُ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ بِضَمَّتَيْنِ وَشَدِّ اللَّامِ، وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَأَبُو السِّمَاكِ السِّجِلِّ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى بِكَسْرِهِمَا، وَالْجِيمُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ سَاكِنَةٌ وَاللَّامِ مُخَفَّفَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ مِثْلُ قِرَاءَةِ الْحَسَنِ. وَقَالَ مُجَاهِد السِّجِلِّ الصَّحِيفَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ مِنَ الصُّحُفِ بِصَحِيفَةِ الْعَهْدِ، وَالْمَعْنَى طَيًّا مِثْلَ طَيِّ السِّجِلِّ، وَطَيٌّ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ لِيُكْتَبَ فِيهِ أَوْ لِمَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، وَالْأَصْلُ كَطَيِّ الطَّاوِي السِّجِلِّ فَحَذَفَ الْفَاعِلَ وَحَذْفُهُ يَجُوزُ مَعَ الْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، وَالْفِعْلِ، وَقَدَرَّهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ كَمَا يُطْوَى السِّجِلُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ السِّجِلِّ مَلَكٌ يَطْوِي كُتُبَ بَنِي آدَمَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ كَاتِبٌ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا لِلْفَاعِلِ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ انْتَهَى. وقيل:

(1) سورة المؤمنون: 23/ 108.

ص: 471

أَصْلُهُ مِنَ الْمُسَاجَلَةِ وَهِيَ مِنْ السِّجِلِّ وَهُوَ الدَّلْوُ مَلْأَى مَاءً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ رَجُلٌ بِلِسَانِ الْحَبَشِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِلْكِتَابِ مُفْرَدًا وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ لِلْكُتُبِ جَمْعًا وَسَكَّنَ التَّاءَ الْأَعْمَشُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَّلَ خَلْقٍ مَفْعُولُ نُعِيدُ الَّذِي يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ وَالْكَافُ مَكْفُوفَةٌ بِمَا، وَالْمَعْنَى نُعِيدُ أَوَّلَ الْخَلْقِ كَمَا بَدَأْنَاهُ تَشْبِيهًا لِلْإِعَادَةِ بِالْإِبْدَاءِ فِي تَنَاوُلِ الْقُدْرَةِ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَإِنْ قُلْتَ: وَمَا أَوَّلُ الْخَلْقِ حَتَّى يُعِيدَهُ كَمَا بَدَأَهُ قُلْتُ: أَوَّلُهُ إِيجَادُهُ مِنَ الْعَدَمِ، فَكَمَا أَوْجَدَهُ أَوَّلًا عَنْ عَدَمٍ يُعِيدُهُ ثَانِيًا عَنْ عَدَمٍ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا بَالُ خَلْقٍ مُنْكِرًا؟

قُلْتُ: هُوَ كَقَوْلِكَ: هُوَ أَوَّلُ رَجُلٍ جَاءَنِي تُرِيدُ أَوَّلَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّكَ وَحَّدْتَهُ وَنَكَّرْتَهُ إِرَادَةَ تَفْصِيلِهِمْ رَجُلًا رَجُلًا فَكَذَلِكَ مَعْنَى أَوَّلَ خَلْقٍ أَوَّلُ الْخَلَائِقِ لِأَنَّ الْخَلْقَ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَصِبَ الْكَافُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ وَمَا مَوْصُولَةٌ، أَيْ نُعِيدُ مِثْلَ الَّذِي بدأناه نُعِيدُهُ وأَوَّلَ خَلْقٍ ظَرْفٌ لِبَدَأْنَاهُ أَيْ أَوَّلَ مَا خَلَقَ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَوْصُولِ السَّاقِطِ مِنَ اللَّفْظِ الثَّابِتِ فِي الْمَعْنَى انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ لَيْسَتْ مَكْفُوفَةً كَمَا ذَكَرَ بَلْ هِيَ جَارَّةٌ وَمَا بَعْدَهَا مَصْدَرِيَّةٌ يَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بالكاف. وأَوَّلَ خَلْقٍ مَفْعُولُ بَدَأْنا وَالْمَعْنَى نُعِيدُ أَوَّلَ خَلْقٍ إِعَادَةً مِثْلَ بَدْأَتِنَا لَهُ، أَيْ كَمَا أَبْرَزْنَاهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ نُعِيدُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. فِي مَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ تَهْيِئَةً بَدَأْنا لِأَنْ يَنْصِبَ أَوَّلَ خَلْقٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَقَطْعُهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ وَارْتِكَابِ إِضْمَارٍ يُعِيدُ مُفَسَّرًا بِنُعِيدُهُ وَهَذِهِ عُجْمَةٌ فِي كِتَابِ الله، وأما قَوْلُهُ: وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَنْتَصِبَ الْكَافُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكَافَ اسْمٌ لَا حَرْفٌ، فَلَيْسَ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَكَوْنُهَا اسْمًا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِالشِّعْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْبَعْثِ أَيْ كَمَا اخْتَرَعْنَا الْخَلْقَ أَوَّلًا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَذَلِكَ نُنْشِئُهُمْ تَارَةً أُخْرَى فَنَبْعَثُهُمْ مِنَ الْقُبُورِ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ أَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا إِلَى الدُّنْيَا وَيُؤَيِّدُهُ

«يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا»

كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَقَوْلُهُ كَما بَدَأْنا الْكَافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ نُعِيدُهُ انْتَهَى.

وَانْتَصَبَ وَعْداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَصْدَرٍ مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ قَبْلَهُ إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ تَأْكِيدٌ لِتَحَتُّمِ الْخَبَرِ أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نفعل والزَّبُورِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ زَبُورُ دَاوُدَ وَقَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَوْجُودٌ فِي زَبُورِ داود وقرأناه فيه والذِّكْرِ التَّوْرَاةِ قَالَهُ

ص: 472

ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ الزَّبُورِ مَا بَعْدَ التَّوْرَاةِ مِنَ الكتب والذِّكْرِ التَّوْرَاةُ وَقِيلَ الزَّبُورِ يَعُمُّ الكتب المنزلة والذِّكْرِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. الْأَرْضَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَرْضُ الْجَنَّةِ.

وَقِيلَ: الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ يَرِثُها أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي هَذَا أَيِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَوَاعِظِ الْبَالِغَةِ لَبَلَاغًا كِفَايَةً يَبْلُغُ بِهَا إِلَى الْخَيْرِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ جُمْلَةً، وَكَوْنُهُ عليه السلام رَحْمَةً لِكَوْنِهِ جَاءَهُمْ بما يسعدهم.

لِلْعالَمِينَ قِيلَ خَاصٌّ بِمَنْ آمَنَ بِهِ. وَقِيلَ: عَامٌّ وَكَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْكَافِرِ حَيْثُ أَخَّرَ عُقُوبَتَهُ، وَلَمْ يَسْتَأْصِلِ الْكُفَّارَ بِالْعَذَابِ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ: عُوفِيَ مِمَّا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ مَسْخٍ وَخَسْفٍ وَغَرَقٍ وَقَذْفٍ وَأَخَّرَ أَمْرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَما أَرْسَلْناكَ لِلْعَالَمِينَ إِلَّا رَحْمَةً أَيْ هُوَ رَحْمَةٌ فِي نَفْسِهِ وَهُدًى بَيِّنٌ أَخَذَ بِهِ مَنْ أَخَذَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ مَنْ أَعْرَضَ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْجَارُّ بَعْدَ إِلَّا بِالْفِعْلِ قَبْلَهَا إِلَّا إِنْ كَانَ الْعَامِلُ مُفَرِّغًا لَهُ نَحْوَ مَا مَرَرْتُ إِلَّا بِزَيْدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

إِنَّمَا تُقْصِرُ الْحُكْمَ عَلَى شَيْءٍ أَوْ لِقَصْرِ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمٍ كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ وَإِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ وَقَدِ اجْتَمَعَ، الْمَثَلَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ مَعَ فَاعِلِهِ بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا يقوم زيد وأَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَفَائِدَةُ اجْتِمَاعِهِمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَقْصُورٌ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ انْتَهَى.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي إِنَّما إِنَّهَا لِقَصْرِ مَا ذَكَرَ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى إِنَّمَا لِلْحَصْرِ وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْحَصْرِ، وَإِنَّمَا مَعَ أَنَّ كَهِيَ مَعَ كَانَ وَمَعَ لَعَلَّ، فَكَمَا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْحَصْرَ فِي التَّشْبِيهِ وَلَا الْحَصْرَ فِي التَّرَجِّي فَكَذَلِكَ لَا تُفِيدُهُ مَعَ أَنَّ وَأَمَّا جَعْلُهُ إِنَّما الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ مِثْلَ مَكْسُوَرِتَهَا يَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ، فَلَا نَعْلَمُ الْخِلَافَ إِلَّا فِي إِنَّما بِالْكَسْرِ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فحرف مصدري ينسبك منع مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ، فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا لَيْسَتْ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً، وَلَوْ كَانَتْ إِنَّمَا دَالَّةٌ عَلَى الْحَصْرِ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ إِلَّا التَّوْحِيدُ. وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْحَصْرُ فِيهِ إِذْ قَدْ أَوْحَى لَهُ أَشْيَاءَ غَيْرَ التَّوْحِيدِ وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَظَافُرِ الْمَنْقُولِ لِلْمَعْقُولِ وَأَنَّ النَّقْلَ أَحَدُ طَرِيقَيِ التَّوْحِيدِ، وَيَجُوزُ فِي مَا مِنْ إِنَّما أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً.

فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ اسْتِفْهَامٌ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ وَالِانْقِيَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى آذَنْتُكُمْ أَعْلَمْتُكُمْ وَتَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّحْذِيرِ وَالنِّذَارَةِ عَلى سَواءٍ لَمْ أَخُصَّ أَحَدًا

ص: 473

دُونَ أَحَدٍ، وَهَذَا الْإِيذَانُ هُوَ إِعْلَامٌ بِمَا يَحِلُّ بِمَنْ تَوَلَّى مِنَ الْعِقَابِ وَغَلَبَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنِّي لَا أَدْرِي مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ وإِنْ نافية وأَدْرِي مُعَلَّقَةٌ وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَدْرِي، وَتَأَخَّرَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ فَاصِلَةً إِذْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ بَعِيدٌ لَمْ تَكُنْ فَاصِلَةً وَكَثِيرًا مَا يُرَجَّحُ الْحُكْمُ فِي الشَّيْءِ لِكَوْنِهِ فَاصِلَةَ آخِرِ آيَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ وَإِنْ أَدْرِي بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي الْآيَتَيْنِ تَشْبِيهًا بِيَاءِ الْإِضَافَةِ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَتْ لَامَ الْفِعْلِ وَلَا تُفْتَحُ إِلَّا بِعَامِلٍ. وَأَنْكَرَ ابْنُ مُجَاهِدٍ فَتْحَ هَذِهِ الْيَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعْلِمْنِي عِلْمَهُ وَلَمْ يُطْلِعْنِي عَلَيْهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ.

وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ أَيْ لَعَلَّ تَأْخِيرَ هَذَا الْمَوْعِدِ امْتِحَانٌ لَكُمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أَوْ يَمْتَنِعُ لَكُمْ إِلَى حِينٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً وَلِيَقَعَ الْمَوْعِدُ فِي وَقْتٍ هُوَ حِكْمَةٌ، وَلَعَلَّ هُنَا مُعَلَّقَةٌ أَيْضًا وَجُمْلَةُ التَّرَجِّي هِيَ مَصَبُّ الْفِعْلِ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجْرُونَ لَعَلَّ مَجْرَى هَلْ، فَكَمَا يَقَعُ التَّعْلِيقُ عَنْ هَلْ كَذَلِكَ عَنْ لَعَلَّ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لَعَلَّ مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِيهَا كَقَوْلِهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «1» وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى «2» وَقِيلَ إِلى حِينٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ بدر.

وقرأ الجمهور قالَ رَبِّ أمرا بِكَسْرِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ قَالَ وَأَبُو جَعْفَرٍ رَبُّ بِالضَّمِّ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى مُفْرَدٌ وَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ فِيمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِأَيِّ بَعِيدٍ بَابُهُ الشِّعْرُ انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ نِدَاءِ النَّكِرَةِ الْمُقْبِلِ عَلَيْهَا بَلْ هَذَا مِنَ اللُّغَاتِ الْجَائِزَةِ فِي يَا غُلَامِي، وَهِيَ أَنْ تَبْنِيَهُ عَلَى الضَّمِّ وَأَنْتَ تَنْوِي الْإِضَافَةَ لَمَّا قَطَعْتَهُ عَنِ الْإِضَافَةِ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا بَنْيَتَهُ، فَمَعْنَى رَبِّ يَا رَبِّي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ احْكُمْ عَلَى الْأَمْرِ مِنْ حَكَمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ رَبِّي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ أَحْكَمُ جَعَلَهُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ فَرَبِّي أَحْكَمُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ أَحْكَمَ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَصِفُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ.

وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَلَى أُبَيٍّ عَلَى مَا يَصِفُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ،

وَرُوِّيتُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وعاصم.

(1) سورة الشورى: 42/ 17.

(2)

سورة عبس: 80/ 3.

ص: 474