المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 41] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٧

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الإسراء

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 22]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 49]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 69]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 77]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 111]

- ‌سورة الكهف

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 59]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 78]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 110]

- ‌سورة مريم

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 33]

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 98]

- ‌سورة طه

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 41]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 64]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 89]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 90 الى 135]

- ‌سورة الأنبياء

- ‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 50]

- ‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 112]

- ‌سورة الحج

- ‌[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 37]

- ‌[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 78]

- ‌سورة المؤمنون

- ‌[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 77]

- ‌[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 118]

الفصل: ‌[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 41]

‌سورة طه

[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 41]

بسم الله الرحمن الرحيم

طه (1) مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلَاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9)

إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)

إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يَا مُوسى (19)

فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24)

قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29)

هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34)

إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)

ص: 306

الثَّرَى: التُّرَابُ النَّدِيُّ وَيُثَنَّى ثَرَيَانِ، وَيُقَالُ ثَرَّيْتُ التُّرْبَةَ بَلَلْتُهَا، وَثَرِيَتِ الْأَرْضُ تَثْرَى ثري فهي تربة ابْتَلَّ تُرَابُهَا بَعْدَ الْجُدُوبَةِ، وَأَثْرَتْ فَهِيَ مُثْرِيَةٌ كَثُرَ تُرَابُهَا، وَأَرْضٌ ثَرًى ذَاتُ ثَرًى. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ فُلَانٌ قَرِيبُ الثَّرَى بَعِيدُ النَّبْطِ لِلَّذِي يَعِدُ وَلَا يَفِي، وَيُقَالُ:

إِنِّي لَأَرَى ثَرَى الْغَضَبِ فِي وَجْهِ فُلَانٍ أَيْ أَثَرَهُ، وَيُقَالُ الثَّرَى بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ إِذَا انْقَطَعَ مَا بَيْنَكُمَا. وَقَالَ جَرِيرٌ:

فَلَا تَنْبِشُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الثَّرَى

فَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ مُثْرِي

آنَسَ: وَجَدَ، تَقُولُ العرب: هل آنست فلان أَيْ وَجَدْتَهُ. وَقِيلَ: أَحَسَّ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ وَجَدَ.

قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:

آنَسْتُ نَبْأَةً وَرَوَّعَهَا الْقَنَّاصُ

عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ

الْقَبَسُ جَذْوَةٌ مِنَ النَّارِ تَكُونُ عَلَى رَأْسِ عُودٍ أَوْ قَصَبَةٍ أَوْ نَحْوِهِ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَبْضِ وَالنَّفْضِ، وَيُقَالُ: قَبَسْتُ مِنْهُ نَارًا أَقْبِسُ فَأَقْبَسَنِي أَعْطَانِي مِنْهُ قَبَسًا، وَمِنْهُ الْمُقْبَسَةُ لِمَا يُقْتَبَسُ فِيهِ مِنْ شَقْفَةِ وَغَيْرِهَا، وَاقْتَبَسْتُ مِنْهُ نَارًا. وَعِلْمًا أَيِ اسْتَفَدْتُهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَقَبَسْتُ الرَّجُلَ علم وَقَبَسْتُهُ نَارًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَقَبَسْتُهُ نَارًا وَعِلْمًا وَقَبَسْتُهُ أَيْضًا فِيهِمَا. الْخَلْعُ وَالنَّعْلُ مَعْرُوفَانِ وَهُوَ إِزَالَتُهَا مِنَ الرِّجْلِ. وَقِيلَ: النَّعْلُ مَا هُوَ وِقَايَةٌ لِلرِّجْلِ مِنَ الْأَرْضِ كَانَ مِنْ جِلْدٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِهِ. طُوًى: اسْمُ مَوْضِعٍ. السَّعْيُ الْمَشْيُ بِسُرْعَةٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ. رَدِيَ يَرْدَى رَدًى هَلَكَ، وَأَرْدَاهُ أَهْلَكَهُ. قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ:

ص: 307

تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الْخَيْلُ فَارِسًا

فَقُلْتُ أَعِيذُ اللَّهَ ذَلِكُمُ الرَّدَى

تَوَكَّأَ عَلَى الشَّيْءِ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَشْيِ وَالْوُقُوفِ، وَمِنْهُ الِاتِّكَاءُ. تَوَكَّأْتُ وَاتَّكَأْتُ بِمَعْنًى.

وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ مُتَّكَأً «1» وَشُرِحَتْ هُنَا لِاخْتِلَافِ الْوَزْنَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ وَاحِدًا. هَشَّ عَلَى الْغَنَمِ يَهُشُّ بِضَمِّ الْهَاءِ خَبَطَ أَوْرَاقَ الشَّجَرِ لِتَسْقُطَ، وَهَشَّ إِلَى الرَّجُلِ يَهِشُّ بِالْكَسْرِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ إِذَا بَشَّ وَأَظْهَرَ الْفَرَحَ بِهِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ الرَّخَاوَةُ يُقَالُ: رَجُلٌ هَشٌّ. الْغَنَمُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ مُؤَنَّثٌ. الْمَأْرُبَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا الْحَاجَةُ وَتُجْمَعُ عَلَى مَآرِبَ، وَالْإِرْبَةُ أَيْضًا الْحَاجَةُ. الحية الحنش يَنْطَلِقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَتَقَدَّمَتْ مَادَّتُهُ وَكُرِّرَتْ هُنَا لِخُصُوصِيَّةِ الْمَدْلُولِ. وَقَوْلُهُمْ حَوَّاءُ لِلَّذِي يَصِيدُ الْحَيَّاتِ من باب قوة فَالْمَادَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ كَسِبْطٍ وَسِبَطْرٍ. الْأَزْرُ: الظَّهْرُ قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَآزَرَهُ قَوَّاهُ، وَالْأَزْرُ أَيْضًا الْقُوَّةُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

بِمَحْنِيَّةٍ قَدْ آزَرَ الضَّالَّ نَبْتُهَا

مَجَرِّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيَّبِ

الْقَذْفُ الرَّمْيُ والإلقاء. الساحل شاطىء الْبَحْرِ وَهُوَ جَانِبُهُ الْخَالِي مِنَ الْمَاءِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْحَلُهُ أَيْ يُقَشِّرُهُ فَهُوَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ:

هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ

فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ وَالْجُودُ سَاحِلُهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ،

كَانَ عليه السلام يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ يَقُومُ عَلَى رِجْلٍ فَنَزَلَتْ قَالَهُ عَلِيٌّ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: صَلَّى عليه السلام هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَأَطَالَ الْقِيَامَ لَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ إِلَّا لِيَشْقَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ وَالْمُطْعِمُ: إِنَّكَ لَتَشْقَى بِتَرْكِ دِينِنَا فَنَزَلَتْ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ تَيْسِيرَ الْقُرْآنِ بِلِسَانِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَيْ بِلُغَتِهِ وَكَانَ فِيمَا عُلِّلَ بِهِ قَوْلُهُ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «2» أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ

(1) سورة يوسف: 12/ 31.

(2)

سورة مريم: 19/ 97.

ص: 308

يَخْشى وَالتَّذْكِرَةُ هِيَ الْبِشَارَةُ وَالنَّذَارَةُ، وَإِنَّ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ إِنْزَالِهِ لِلشَّقَاءِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إِنَّمَا نَزَلَ تَذْكِرَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ طه مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ نَحْوُ: يس وَالر وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ: مَعْنَى طه يَا رَجُلُ. فَقِيلَ بِالنَّبَطِيَّةِ. وَقِيلَ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَقِيلَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ. وَقِيلَ لُغَةٌ يَمَنِيَّةٌ فِي عَكٍّ. وَقِيلَ فِي عُكْلٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَوْ قُلْتَ فِي عَكٍّ يَا رَجُلُ لَمْ يُجِبْ حَتَّى تَقُولَ طه. وَقَالَ السُّدِّيُّ مَعْنَى طه يَا فُلَانُ. وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ فِي مَعْنَى يَا رَجُلُ فِي لُغَةِ عَكٍّ قَوْلَ شَاعِرِهِمْ:

دَعَوْتُ بِطَهَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ

فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلًا

وَقَوْلَ الْآخَرِ:

إِنَّ السَّفَاهَةَ طَهَ مِنْ خَلَائِقِكُمْ

لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ الْمَلَاعِينِ

وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَعَلَّ عَكًّا تَصَرَّفُوا فِي يَا هَذَا كَأَنَّهُمْ فِي لُغَتِهِمْ قَالِبُونَ الْيَاءَ طَاءً فَقَالُوا فِي يَا طَأْ وَاخْتَصَرُوا هَذَا فَاقْتَصَرُوا عَلَى هَا، وَأَثَرُ الصَّنْعَةِ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى فِي الْبَيْتِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ:

إِنَّ السَّفَاهَةَ طَهَ فِي خَلَائِقِكُمْ

لَا قَدَّسَ اللَّهُ أَخْلَاقَ الْمَلَاعِينِ

انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّ طَاهًا فِي لُغَةِ عَكٍّ فِي مَعْنَى يَا رَجُلُ، ثُمَّ تَخَرَّصَ وَحَزَّرَ عَلَى عَكٍّ بِمَا لَا يَقُولُهُ نَحْوِيٌّ هُوَ أَنَّهُمْ قَلَبُوا الْيَاءَ طَاءً وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَلْبُ يَا الَّتِي لِلنِّدَاءِ طَاءً، وَكَذَلِكَ حَذْفُ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي النِّدَاءِ وَإِقْرَارُهَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ. وَقِيلَ:

طَا فِعْلُ أَمْرٍ وَأَصْلُهُ طَأْ، فَخُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا وَهَا مَفْعُولٌ وَهُوَ ضَمِيرُ الْأَرْضِ، أَيْ طَأِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ وَلَا تُرَاوِحْ إِذْ كَانَ يُرَاوِحُ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَوَرْشٌ فِي اخْتِيَارِهِ طه. قِيلَ: وَأَصْلُهُ طَأْ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ بِنَاءً عَلَى قَلْبِهَا فِي يَطَأُ عَلَى حَدِّ لَا هُنَاكَ الْمَرْتَعُ بُنِيَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَأُدْخِلَتْ هَاءُ السَّكْتِ وَأُجْرِي الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، أَوْ أَصْلُهُ طَأْ وَأُبْدِلَتْ هَمْزَتُهُ هَاءً فَقِيلَ طه. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: طَاوِي.

وَقَرَأَ طَلْحَةُ مَا نُزِّلَ عَلَيْكَ بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَزَايٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْقُرْآنَ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ وَمَعْنَى لِتَشْقى لِتَتْعَبَ بِفَرْطِ

ص: 309

تَأَسُّفِكَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُفْرِهِمْ وَتَحَسُّرِكَ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا كقوله فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «1» وَالشَّقَاءُ يَجِيءُ فِي مَعْنَى التَّعَبِ وَمِنْهُ الْمَثَلُ: أَتْعَبُ مِنْ رَائِضِ مُهْرٍ. وَأَشْقَى مِنْ رَائِضِ مُهْرٍ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُبَلِّغَ وَتُذَكِّرَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَا مَحَالَةَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تُفَرِّطْ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ انْتَهَى. وَقِيلَ: أُرِيدَ رَدُّ مَا قَالَهُ أَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَبَبِ النزول. ولِتَشْقى وتَذْكِرَةً عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ مَا أَنْزَلْنا وَتَعَدَّى فِي لِتَشْقى بِاللَّامِ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ إِذْ ضَمِيرُ مَا أَنْزَلْنا هُوَ لِلَّهِ، وَضَمِيرُ لِتَشْقى لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمَّا اتَّحَدَ الْفَاعِلُ فِي أَنْزَلْنا وتَذْكِرَةً إِذْ هُوَ مَصْدَرُ ذَكَّرَ، وَالْمُذَكِّرُ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ الْمُنَزِّلُ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ فَنُصِبَ عَلَى أَنَّ فِي اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْفَاعِلِ خِلَافًا وَالْجُمْهُورُ يَشْتَرِطُونَهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَمَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أَنْ تَشْقَى كَقَوْلِهِ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ «2» قُلْتُ: بَلَى وَلَكِنَّهَا نَصْبَةٌ طَارِئَةٌ كَالنَّصْبَةِ فِي وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «3» وَأَمَّا النَّصْبَةُ فِي تَذْكِرَةً فَهِيَ كَالَّتِي في ضربت زيد لِأَنَّهُ أَحَدُ الْمَفَاعِيلِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ أُصُولٌ وَقَوَانِينُ لِغَيْرِهَا انْتَهَى. وَلَيْسَ كَوْنُ أَنْ تَشْقَى إِذَا حُذِفَ الْجَارُّ مَنْصُوبًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَلْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. أَهْوَ مَنْصُوبٌ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بَعْدَ إِسْقَاطِ الْحَرْفِ أَوْ مَجْرُورٌ بِإِسْقَاطِ الْجَارِّ وَإِبْقَاءِ عَمَلِهِ؟

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِلَّا تَذْكِرَةً يَصِحُّ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ لِتَشْقى وَيَصِحُّ أَنْ يُنْصَبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ لَكِنْ أَنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً انْتَهَى. وَقَدْ رَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ تَخْرِيجَ ابْنِ عَطِيَّةَ الْأَوَّلِ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً بَدَلًا مِنْ مَحَلِّ لِتَشْقى؟

قُلْتُ: لَا لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ وَلَكِنَّهَا نَصْبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ الَّذِي إِلَّا فِيهِ بِمَعْنَى لَكِنْ انْتَهَى. وَيَعْنِي بِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ أَنَّ نَصْبَ تَذْكِرَةً نَصْبَةٌ صَحِيحَةٌ لَيْسَتْ بِعَارِضَةٍ وَالنَّصْبَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي لِتَشْقى بَعْدَ نَزْعِ الْخَافِضِ نَصِبَةٌ عَارِضَةٌ وَالَّذِي نَقُولُ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَحَلٌّ أَلْبَتَّةَ فَيُتَوَهَّمَ الْبَدَلُ مِنْهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَحَمُّلِ مَتَاعِبِ التَّبْلِيغِ وَمُقَاوَلَةِ الْعُتَاةِ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَمُقَاتَلَتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ المشاق وتكاليف النبوة وما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ هَذَا الْمُتْعِبَ الشَّاقَّ إِلَّا لِيَكُونَ تَذْكِرَةً وعلى هذا

(1) سورة الكهف: 18/ 6.

(2)

سورة الحجرات: 49/ 2.

(3)

سورة الأعراف: 7/ 155.

ص: 310

الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً حَالًا وَمَفْعُولًا لَهُ لِمَنْ يَخْشى لمن يؤول أَمْرُهُ إِلَى الْخَشْيَةِ انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنًى مُتَكَلَّفٌ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ وَكَوْنُ إِلَّا تَذْكِرَةً بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّ لِتَشْقى هُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا وَجْهٌ بَعِيدٌ وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ التَّذْكِرَةَ لَيْسَتْ بِشَقَاءٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً بَدَلًا مِنَ الْقُرْآنَ وَيَكُونَ الْقُرْآنَ هُوَ التَّذْكِرَةِ وَأَجَازَ هُوَ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَيْ لَكِنْ ذَكَّرْنَا بِهِ تَذْكِرَةً. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ لِأَنْزَلْنَا الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَهُوَ لِتَشْقى وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ انْتَهَى. وَالْخَشْيَةُ بَاعِثَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

وَانْتَصَبَ تَنْزِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ نُزِّلَ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي نَصْبِ تَنْزِيلًا وُجُوهٌ أن يكون بدلا من تَذْكِرَةً إِذَا جُعِلَ حَالًا لَا إِذَا كَانَ مَفْعُولًا لَهُ، لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعَلَّلُ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُنْصَبَ بِنَزَلَ مُضْمَرًا، وَأَنْ يُنْصَبَ بِأَنْزَلْنَا لِأَنَّ مَعْنَى مَا أَنْزَلْنَا إِلَّا تَذْكِرَةً أَنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً، وَأَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْمَدْحِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَأَنْ يُنْصَبَ بِيَخْشَى مَفْعُولًا بِهِ أَيْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى تَنْزِيلَ اللَّهِ وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ وَإِعْرَابٌ بَيِّنٌ انْتَهَى. وَالْأَحْسَنُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزَلَ مُضْمَرَةً. وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ نَصْبِهِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مُتَكَلَّفٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ جَعْلُ تَذْكِرَةً وتَنْزِيلًا حَالَيْنِ وَهُمَا مَصْدَرَانِ، وَجَعْلُ الْمَصْدَرِ حَالًا لَا يَنْقَاسُ، وَأَيْضًا فَمَدْلُولُ تَذْكِرَةً لَيْسَ مَدْلُولَ تَنْزِيلًا وَلَا تَنْزِيلًا بَعْضُ تَذْكِرَةً فَإِنْ كَانَ بَدَلًا فَيَكُونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الثَّانِي مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّنْزِيلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّذْكِرَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَعْنَى مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً أَنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَصْرِ يُفَوَّتُ فِي قَوْلِهِ أَنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً، وَأَمَّا نَصْبُهُ عَلَى الْمَدْحِ فَبَعِيدٌ، وَأَمَّا نَصْبُهُ بِمَنْ يَخْشَى فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ يَخْشَى رَأْسُ آيَةٍ وَفَاصِلٌ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلٌ مَفْعُولًا بِيَخْشَى وَقَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ وَإِعْرَابٌ بَيِّنٌ عُجْمَةٌ وَبُعْدٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْفَصَاحَةِ.

وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ تَنْزِيلٌ رَفْعًا عَلَى إِضْمَارِ هُوَ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَدُلُّ عَلَى عدم تعلق يخشى بتنزيل وَأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ مِمَّا قَبْلَهُ فَنَصْبُهُ عَلَى إِضْمَارٍ نُزِّلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِتَنْزِيلٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَفِي قَوْلِهِ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْخِيمٌ وَتَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الْقُرْآنِ إِذْ هُوَ مَنْسُوبٌ تَنْزِيلُهُ إِلَى مَنْ هَذِهِ أَفْعَالُهُ وَصِفَاتُهُ، وَتَحْقِيرٌ لِمَعْبُودَاتِهِمْ وَتَعْرِيضٌ لِلنُّفُوسِ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَكَانَ فِي قَوْلِهِ مِمَّنْ خَلَقَ الْتِفَاتٌ إِذْ فِيهَا الْخُرُوجُ مِنْ ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ وَهُوَ فِي مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَى الْغَيْبَةِ وَفِيهِ عَادَةُ التَّفَنُّنِ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ مِمَّا

ص: 311

يحسن إذا لَا يَبْقَى عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ وَجَرَيَانُ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ وَالتَّفْخِيمُ بِإِسْنَادِ الْإِنْزَالِ إِلَى ضَمِيرِ الْوَاحِدِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، ثُمَّ إِسْنَادُهُ إِلَى مَنِ اخْتُصَّ بِصِفَاتِ الْعَظَمَةِ الَّتِي لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ فَحَصَلَ التَّعْظِيمُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْزَلْنا حِكَايَةً لِكَلَامِ جِبْرِيلَ عليه السلام وَالْمَلَائِكَةِ النَّازِلِينَ مَعَهُ انْتَهَى. وَهَذَا تَجْوِيزٌ بَعِيدٌ بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عن نفسه. والْعُلى جَمْعُ الْعُلْيَا وَوَصْفُ السَّماواتِ بِالْعُلَى دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ مَنِ اخْتَرَعَهَا إِذْ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ مِثْلِهَا فِي عُلُوِّهَا مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى، وَالظَّاهِرُ رَفْعُ الرَّحْمنُ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ الرَّحْمنُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي خَلَقَ انْتَهَى. وَأَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، والرَّحْمنُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُلَّ مَحَلَّ الضَّمِيرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ الْمَوْصُولَةِ وخَلَقَ صِلَةٌ، وَالرَّابِطُ هُوَ الضَّمِيرُ فَلَا يَحُلُّ مَحَلَّهُ الظَّاهِرُ لِعَدَمِ الرَّابِطِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ رَفْعُ الرَّحْمنُ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَالَ يَكُونُ مُبْتَدَأً مُشَارًا بِلَامِهِ إِلَى مَنْ خَلَقَ. وَرَوَى جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَ الرَّحْمَنِ بِالْكَسْرِ. قال الزمخشري: صفة لمن خَلَقَ يَعْنِي لِمَنِ الْمَوْصُولَةِ وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ النَّوَاقِصَ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِصِلَاتِهَا نَحْوَ مَنْ وَمَا لَا يَجُوزُ نَعْتُهَا إِلَّا الَّذِي وَالَّتِي فَيَجُوزُ نَعْتُهُمَا، فَعَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّحْمنُ صِفَةً لِمَنْ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الرَّحْمنُ بَدَلًا مِنْ مَنْ، وَقَدْ جَرَى الرَّحْمنُ فِي الْقُرْآنِ مَجْرَى الْعَلَمِ فِي وِلَايَتِهِ الْعَوَامِلَ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ يَكُونُ التَّقْدِيرُ هُوَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ إِنْ كَانَ بَدَلًا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ فَكَذَلِكَ أَوْ مُبْتَدَأً كَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَفِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونُ الرَّحْمنُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرَيْنِ عَنْ هُوَ الْمُضْمَرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْأَعْرَافِ.

وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الْوَقْفِ عَلَى قَوْلِهِ عَلَى الْعَرْشِ ثُمَّ يَقْرَأُ اسْتَوى لَهُ مَا فِي السَّماواتِ عَلَى أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِاسْتَوَى لَا يَصِحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أنه اخترع السموات وَالْأَرْضَ وَأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى لَهُ مُلْكُ جَمِيعِ مَا حوت السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى أَيْ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: هُوَ الصَّخْرَةُ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقِيلَ: ما تَحْتَ الثَّرى مَا هُوَ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَوْكِيدًا لِقَوْلِهِ

ص: 312

وَما فِي الْأَرْضِ إِلَّا أَنَّ كَانَ الْمُرَادُ بِفِي الْأَرْضِ مَا هُوَ عَلَيْهَا فَلَا يَكُونُ تَوْكِيدًا. وَقِيلَ:

الْمَعْنَى أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُنْشِئُهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ لَهُ عِلْمُ مَا فِي السَّماواتِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تعالى أولا إنشاء السموات وَالْأَرْضِ وَذَكَرَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ وَمَا فِيهِمَا مُلْكُهُ ذَكَرَ تَعَالَى صِفَةَ الْعِلْمِ وَأَنَّ عِلْمَهُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ لِلرَّسُولِ ظَاهِرٌ أَوِ الْمُرَادُ أُمَّتُهُ، وَلَمَّا كَانَ خِطَابُ النَّاسِ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِالْجَهْرِ بِالْكَلَامِ جَاءَ الشَّرْطُ بِالْجَهْرِ وَعَلَّقَ عَلَى الْجَهْرِ عِلْمَهُ بِالسِّرِّ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِالسِّرِّ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ بِالْجَهْرِ، أَيْ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ السِّرَّ فَأَحْرَى أَنْ يَعْلَمَ الْجَهْرَ وَالسِّرُّ مُقَابِلٌ لِلْجَهْرِ كَمَا قَالَ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَخْفى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَيْ وَأَخْفى مِنَ السِّرِّ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السِّرَّ مَا تُسِرُّهُ إِلَى غَيْرِكَ، وَالْأَخْفَى مَا تُخْفِيهِ فِي نَفْسِكَ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا السِّرَّ مَا أَسَرَّهُ فِي نَفْسِهِ، وَالْأَخْفَى مَا خَفِيَ عَنْهُ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ. وَعَنْ قتادة: قريب من؟؟؟ مُجَاهِدٌ: السِّرَّ مَا تُخْفِيهِ مِنَ النَّاسِ وَأَخْفى مِنْهُ الْوَسْوَسَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ السِّرَّ؟؟؟ لخلائق وَأَخْفى مِنْهُ سِرُّهُ تَعَالَى وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: السِّرَّ الْعَزِيمَةُ وَأَخْفى مِنْهُ مَا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقَلْبِ، وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَأَخْفى هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ لَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَيْ يَعْلَمُ أَسْرَارَ الْعِبَادِ وَأَخْفى عَنْهُمْ مَا يَعْلَمُهُ هُوَ كَقَوْلِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ «2» وَقَوْلِهِ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً «3» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِذَلِكَ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ الْجَزَاءُ الشَّرْطَ؟ قُلْتُ:

مَعْنَاهُ إِنْ تَجْهَرْ بِذِكْرِ اللَّهِ مِنْ دُعَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ جَهْرِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ الْجَهْرِ كَقَوْلِهِ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ «4» وَإِمَّا تَعْلِيمًا لِلْعِبَادِ أَنَّ الْجَهْرَ لَيْسَ لِإِسْمَاعِ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِغَرَضٍ آخَرَ انتهى.

والجلالة مبتدأ وَلَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْخَبَرُ ولَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى خَبَرٌ ثَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ مِنْ ذَا الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى؟ فَقِيلَ: هُوَ

(1) سورة الأنعام: 6/ 3.

(2)

سورة البقرة: 2/ 255.

(3)

سورة طه: 20/ 110.

(4)

سورة الأعراف: 7/ 205.

ص: 313

اللَّهُ والْحُسْنى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ وَصِفَةُ الْمُؤَنَّثَةِ الْمُفْرَدَةِ تَجْرِي عَلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُهَا وَقَعَتْ فَاصِلَةً وَالْأَحْسَنِيَّةُ كَوْنُهَا تَضَمَّنَتِ الْمَعَانِيَ الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ مِنْ التَّقْدِيسِ وَالتَّعْظِيمِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَالْأَفْعَالَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ صُدُورُهَا إِلَّا مِنْهُ، وَذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الْأَسْماءُ هِيَ الَّتِي

قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَذَكَرَهَا التِّرْمِذِيُّ مُسْنَدَةً.

وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى قالَ أَلْقِها يَا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى.

وَلِمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَعْظِيمَ كِتَابِهِ وَتَضَمَّنَ تَعْظِيمَ رَسُولِهِ أَتْبَعَهُ بِقِصَّةِ مُوسَى لِيُتَأَسَّى بِهِ فِي تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَتَكَالِيفِ الرِّسَالَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُقَاسَاةِ الشَّدَائِدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «1» فَقَالَ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى. هذا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ يَحُثُّ عَلَى الْإِصْغَاءِ لِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ وَعَلَى التَّأَسِّي. وَقِيلَ:

هَلْ بِمَعْنَى قَدْ أَيْ قَدْ أَتاكَ، وَالظَّاهِرُ خِلَافُ هَذَا لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَطْلَعَهُ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى قَبْلَ هَذَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ مَا أَخْبَرْنَاكَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ بِقِصَّةِ مُوسَى، وَنَحْنُ الْآنَ قَاصُّونَ قِصَّتَهُ لِتَتَسَلَّى وَتَتَأَسَّى

وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّهُ عليه السلام لَمَّا قَضَى أَكْمَلَ الْأَجَلَيْنِ اسْتَأْذَنَ شُعَيْبًا فِي الرُّجُوعِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ لِزِيَارَةِ وَالِدَتِهِ وَأُخْتِهِ فَأَذِنَ لَهُ، وَقَدْ طَالَتْ مُدَّةُ جِنَايَتِهِ بِمِصْرَ وَرَجَا خَفَاءَ أَمْرِهِ، فَخَرَجَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ وَكَانَ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ وَأَخَذَ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ مَخَافَةَ مُلُوكِ الشَّامِ، وَامْرَأَتُهُ حَامِلٌ فَلَا يَدْرِي أَلَيْلًا تَضَعُ أَمْ نَهَارًا، فَسَارَ فِي الْبَرِّيَّةِ لَا يَعْرِفُ طُرُقَهَا، فَأَلْجَأَهُ الْمَسِيرُ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْغَرْبِيِّ الْأَيْمَنِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مُثَلَّجَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ الطَّلْقُ فَقَدَحَ زَنْدَهُ فَلَمْ يُورِ.

قِيلَ: كَانَ رَجُلًا غَيُورًا يَصْحَبُ الرُّفْقَةَ لَيْلًا وَيُفَارِقُهُمْ نَهَارًا لِئَلَّا تُرَى امْرَأَتُهُ، فَأَضَلَّ الطريق.

(1) سورة هود: 11/ 120. [.....]

ص: 314

قَالَ وَهْبٌ: وُلِدَ لَهُ ابْنٌ فِي الطَّرِيقِ وَلَمًّا صَلَدَ زَنْدُهُ رَأى نَارًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِذْ ظَرْفٌ لِلْحَدِيثِ لِأَنَّهُ حَدَّثَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِمُضْمَرٍ أَيْ نَارًا كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَنْ تَكُونَ مَفْعُولًا لِأَذْكُرَ امْكُثُوا أَيْ أَقِيمُوا فِي مَكَانِكُمْ، وَخَاطَبَ امْرَأَتَهُ وَوَلَدَيْهِ وَالْخَادِمَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَحَمْزَةُ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا بِضَمِّ الْهَاءِ وَكَذَا فِي الْقَصَصِ وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا إِنِّي آنَسْتُ أَيْ أَحْسَسْتُ، وَالنَّارُ عَلَى بُعْدٍ لَا تُحَسُّ إِلَّا بِالْبَصَرِ فَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِرَأَيْتُ، وَالْإِينَاسُ أَعَمُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّكَ تَقُولُ آنَسْتُ مِنْ فُلَانٍ خَيْرًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِينَاسُ الْإِبْصَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَمِنْهُ إِنْسَانُ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ الشَّيْءُ وَالْإِنْسُ لِظُهُورِهِمْ كَمَا قِيلَ الْجِنُّ لِاسْتِتَارِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ إِبْصَارُ مَا يُؤْنَسُ بِهِ لِمَا وُجِدَ مِنْهُ الْإِينَاسُ فَكَانَ مَقْطُوعًا مُتَيَقَّنًا حَقَّقَهُ لَهُمْ بِكَلِمَةِ إِنَّ لِيُوَطِّنَ أَنْفُسَهُمْ. وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ بِالْقَبَسِ وَوُجُودُ الْهُدَى مُتَرَقَّبَيْنِ مُتَوَقَّعَيْنِ بَنَى الْأَمْرَ فِيهِمَا عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ، وَقَالَ:

لَعَلَّ وَلَمْ يَقْطَعْ فَيَقُولَ إِنِّي آتِيكُمْ لِئَلَّا يَعِدَ مَا لَيْسَ يَسْتَيْقِنُ الْوَفَاءَ بِهِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رَأَى نُورًا حَقِيقَةً.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَانَتْ عِنْدَ مُوسَى نَارًا وَكَانَتْ عِنْدَ اللَّهِ نُورًا. قِيلَ: وَخُيِّلَ لَهُ أَنَّهُ نَارٌ. قِيلَ: وَلَا يَجُوزُ هَذَا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِغَيْرِ الْمُطَابِقِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَفْظَةُ عَلَى هَاهُنَا عَلَى بَابِهَا مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَسْتَعْلُونَ الْمَكَانَ الْقَرِيبَ مِنْهَا، أَوْ لِأَنَّ الْمُصْطَلِينَ بِهَا وَالْمُسْتَمْتِعِينَ إِذَا تَكَنَّفُوهَا قِيَامًا وَقُعُودًا كَانُوا مُشْرِفِينَ عَلَيْهَا ومنه قول الأعشى:

ويأت عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلِّقُ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: عَلَى بِمَعْنَى عِنْدَ وَبِمَعْنَى مَعَ وَبِمَعْنَى الْبَاءِ، وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّهُ ضَلَّ عَنِ الْمَاءِ فَتَرَجَّى أَنْ يَلْقَى مَنْ يَهْدِيهِ الطَّرِيقَ أَوْ يَدُلُّهُ عَلَى الْمَاءِ، وَانْتَصَبَ هُدىً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ ذَا هُدىً أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ لِأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الْهَادِي فَقَدْ وُجِدَ الْهُدَى هُدَى الطَّرِيقِ. وَقِيلَ: هُدىً فِي الدِّينِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ طَلَبَ مَنْ يَهْدِيهِ الطَّرِيقَ فَقَدْ وَجَدَ الْهُدَى عَلَى الْإِطْلَاقِ.

وَالضَّمِيرُ فِي أَتاها عَائِدٌ عَلَى النَّارِ أَتَاهَا فَإِذَا هِيَ مُضْطَرِمَةٌ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ يَانِعَةٍ عُنَّابٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: سَمُرَةٌ قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَوْسَجٌ قَالَهُ وَهْبٌ. وَقِيلَ: عُلَّيْقَةٌ عَنْ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَكَانَ كُلَّمَا قَرُبَ مِنْهَا تَبَاعَدَتْ فَإِذَا أَدْبَرَ اتَّبَعَتْهُ، فَأَيْقَنَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ

ص: 315

مِنْ أُمُورِ اللَّهِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، وَوَقَفَ مُتَحَيِّرًا وَسَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ وألقيت عليه السكينة ونُودِيَ وَهُوَ تَكْلِيمُ اللَّهِ إِيَّاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنِّي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَعَلَى مُعَامَلَةِ النِّدَاءِ مُعَامَلَةَ الْقَوْلِ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْهُ عَلَى مَذْهَبِ الكوفيين. وأَنَا مُبْتَدَأٌ أَوْ فَصْلٌ أَوْ تَوْكِيدٌ لِضَمِيرِ النَّصْبِ، وَفِي هَذِهِ الْأَعَارِيبِ حَصَلَ التَّرْكِيبُ لِتَحْقِيقِ الْمَعْرِفَةِ وَإِمَاطَةِ الشُّبْهَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر: وأني بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِأَنِّي أَنَا رَبُّكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى مَعْنَى لِأَجْلِ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ونُودِيَ قَدْ تُوصَلُ بِحَرْفِ الْجَرِّ وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيٍّ:

نَادَيْتُ بِاسْمِ رَبِيعَةَ بْنِ مُكَدَّمٍ

إِنَّ الْمُنَوَّهَ بِاسْمِهِ الْمَوْثُوقُ

انْتَهَى. وَعِلْمُهُ بِأَنَّ الَّذِي نَادَاهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ بِالضَّرُورَةِ خَلْقًا مِنْهُ تَعَالَى فِيهِ أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْمُعْجِزَةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُعْجِزِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَيَّنَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَعْرِفَ مَا ذَلِكَ الْمُعْجِزَ قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لِأَنَّهُ يُنَافِي التَّكْلِيفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَمْرَهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ لِعِظَمِ الْحَالِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا كَمَا يُخْلَعُ عِنْدَ الْمُلُوكِ غَايَةً فِي التَّوَاضُعِ.

وَقِيلَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَأُمِرَ بِطَرْحِهِمَا لِنَجَاسَتِهِمَا.

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ عَلَى مُوسَى يَوْمَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ كِسَاءٌ صُوفٌ وَجُبَّةٌ صُوفٌ وَكُمَّةٌ صُوفٌ وَسَرَاوِيلُ صُوفٌ، وَكَانَتْ نَعْلَاهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ» .

قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَالَكُمَّةُ الْقَلَنْسُوَّةُ الصَّغِيرَةُ وَكَوْنُهُمَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ غَيْرِ مَدْبُوغٍ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ.

وَقِيلَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ بَقَرَةٍ ذَكِيٍّ لَكِنْ أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا لِبَيَانِ بَرَكَةِ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ، وَتَمَسُّ قَدَمَاهُ تُرْبَتَهُ

وَرُوِيَ أنه خلق نَعْلَيْهِ وَأَلْقَاهُمَا مِنْ وَرَاءِ الوادي.

والْمُقَدَّسِ المطهر وطُوىً اسْمُ عَلَمٍ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو السَّمَّالِ وَابْنُ محيصن بِكَسْرِ الطَّاءِ مُنَوَّنًا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّهَا مُنَوَّنًا. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّهَا غَيْرَ مُنَوَّنٍ. وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِكَسْرِهَا غَيْرَ مُنَوَّنٍ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالضَّحَّاكُ طَاوِي اذْهَبْ فَمَنْ نَوَّنَ فَعَلَى تَأْوِيلِ الْمَكَانِ، وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْ وَضَمَّ الطَّاءَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْدُولًا عَنْ فِعْلٍ نَحْوِ زُفَرَ وَقُثَمَ، أَوْ أَعْجَمِيًّا أَوْ عَلَى مَعْنَى الْبُقْعَةِ، وَمَنْ كَسَرَ وَلَمْ يُنَوِّنْ فَمَنَعَ الصَّرْفَ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: طُوىً بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالتَّنْوِينِ مَصْدَرٌ ثُنِّيَتْ فِيهِ الْبَرَكَةُ وَالتَّقْدِيسُ مَرَّتَيْنِ فَهُوَ بِوَزْنِ الثَّنَاءِ وَبِمَعْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الثِّنَا بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ الشَّيْءُ الَّذِي تُكَرِّرُهُ، فَكَذَلِكَ الطُّوَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ طُوىً مِنَ اللَّيْلِ أَيْ سَاعَةً أَيْ قُدِّسَ لَكَ

ص: 316

فِي سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ نُودِيَ بِاللَّيْلِ، فَلَحِقَ الْوَادِي تَقْدِيسٌ مُحَدَّدٌ أَيْ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ لَيْلًا. قَرَأَ طَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ وَأَمَّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَشَدِّ النُّونِ اخْتَرْنَاكَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ.

وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَابْنُ هُرْمُزَ وَالْأَعْمَشُ فِي رواية وَأَنَا بكسر الهمزة والألف بغير النون بلفظ الجمع دون معناه لأنه من خطاب الملوك اخترناك بالنون وَالْأَلِفُ عَطْفًا عَلَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ لِأَنَّهُمْ كَسَرُوا ذَلِكَ أَيْضًا، وَالْجُمْهُورُ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُفْرَدِ غَيْرِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَأَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ اخْتَرْتُكَ بِتَاءٍ عَطْفًا عَلَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ وَمَفْعُولُ اخْتَرْتُكَ الثَّانِي الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِ بِمِنْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِنْ قَوْمِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِما يُوحى مِنْ صِلَةِ اسْتَمِعْ وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: لِما يُوحى لِلَّذِي يُوحَى أَوْ لِلْوَحْيِ، فَعَلَّقَ اللَّامَ بِاسْتَمِعْ أَوْ بِاخْتَرْتُكَ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيقُ بِاخْتَرْتُكَ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَعْمَالِ فَيَجِبُ أَوْ يُخْتَارُ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ مَعَ الثَّانِي، فَكَانَ يَكُونُ فَاسْتَمِعْ لَهُ لِمَا يُوحَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِعْمَالُ الثَّانِي.

وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيُّ: لَمَّا قِيلَ لِمُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ اسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى وَقَفَ عَلَى حَجَرٍ وَاسْتَنَدَ إِلَى حَجَرٍ وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ وَأَلْقَى ذَقْنَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَوَقَفَ لِيَسْتَمِعَ وَكَانَ كُلُّ لِبَاسِهِ صُوفًا.

وَقَالَ وَهْبٌ: أَدَبُ الِاسْتِمَاعِ سُكُونُ الْجَوَارِحِ وَغَضُّ الْبَصَرِ وَالْإِصْغَاءُ بِالسَّمْعِ وَحُضُورُ الْعَقْلِ وَالْعَزْمُ عَلَى الْعَمَلِ، وَذَلِكَ هُوَ الِاسْتِمَاعُ لِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ فِي يُوحى لِلْعِلْمِ بِهِ وَيُحَسِّنُهُ كَوْنُهُ فَاصِلَةً، فَلَوْ كَانَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ لَمْ يَكُنْ فَاصِلَةً وَالْمُوحَى قَوْلُهُ إِنِّي أَنَا اللَّهُ إِلَى آخِرِهِ مَعْنَاهُ وَحِّدْنِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» إِلَى آخِرِ الْجُمَلِ جَاءَ ذَلِكَ تَبْيِينًا وَتَفْسِيرًا لِلْإِبْهَامِ فِي قَوْلِهِ لِما يُوحى. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فَاعْبُدْنِي هُنَا وَحِّدْنِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَعْنَاهُ لِيُوَحِّدُونِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فَاعْبُدْنِي لَفْظٌ يَتَنَاوَلُ مَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ مَا هُوَ قَدْ يَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ فَبَدَأَ بالصلاة إِذْ هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَأَنْفَعُهَا فِي الْآخِرَةِ، وَالذِّكْرُ مصدر يحتمل أن يضاف إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ لِيَذْكُرَنِي فَإِنَّ ذِكْرِي أَنْ أُعْبَدَ وَيُصَلَّى لِي أَوْ لِيَذْكُرَنِي فِيهَا لِاشْتِمَالِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَذْكَارِ أَوْ لِأَنِّي ذَكَرْتُهَا فِي الْكُتُبِ وَأَمَرْتُ بِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُضَافَ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ لِأَنْ أَذْكُرَكَ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَأَجْعَلَ لَكَ لِسَانَ صِدْقٍ، أَوْ لِأَنْ تَذْكُرَنِي خَاصَّةً لَا تَشُوبُهُ بِذِكْرِ غَيْرِي أَوْ خَلَاصُ ذكري وطلب

(1) سورة الذاريات: 51/ 56.

ص: 317

وَجْهِي لَا تُرَائِي بِهَا وَلَا تَقْصِدُ بِهَا غَرَضًا آخَرَ، أَوْ لِتَكُونَ لِي ذَاكِرًا غَيْرَ نَاسٍ فِعْلَ الْمُخْلِصِينَ فِي جَعْلِهِمْ ذِكْرَ رَبِّهِمْ عَلَى بَالٍ مِنْهُمْ وَتَوْكِيلِ هِمَمِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ بِهِ كَمَا قَالَ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ «1» أَوْ لِأَوْقَاتِ ذِكْرِي وَهِيَ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «2» وَاللَّامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ «3» وَقَدْ حُمِلَ عَلَى ذِكْرِ الصَّلَاةِ بَعْدَ نِسْيَانِهَا مِنْ

قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «من نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» .

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانَ حَقُّ الْعِبَادَةِ أَنْ يُقَالَ لِذِكْرِهَا كَمَا

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ذكرها» .

ومن يتحمل لَهُ يَقُولُ: إِذَا ذَكَرَ الصَّلَاةَ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ، أَوْ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ لِذِكْرِ صَلَاتِي أَوْ لِأَنَّ الذِّكْرَ وَالنِّسْيَانَ مِنَ اللَّهِ عز وجل فِي الْحَقِيقَةِ انْتَهَى.

وَفِي الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ: «فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» قَوْلُهُ «إِذْ لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» ثُمَّ قَرَأَ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي.

وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ: لِلذِّكْرَى بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَأَلِفِ التَّأْنِيثِ، فَالذِّكْرَى بِمَعْنَى التَّذْكِرَةِ أَيْ لِتَذْكِيرِي إِيَّاكَ إِذَا ذَكَّرْتُكَ بَعْدَ نِسْيَانِكَ فَأَقِمْهَا. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ لِذِكْرَى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ بِغَيْرِ لَامِ التَّعْرِيفِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: لِلذِّكْرِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ ذَكَرَ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْمَعَادُ لِلْجَزَاءِ فَقَالَ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وَهِيَ الَّتِي يَظْهَرُ عِنْدَهَا مَا عَمِلَهُ الْإِنْسَانُ وَجَزَاءُ ذَلِكَ إِمَّا ثَوَابًا وَإِمَّا عِقَابًا. وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ أَخْفِيهَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَاصِمٍ بِمَعْنَى أُظْهِرُهَا أَيْ إِنَّهَا مِنْ صِحَّةِ وُقُوعِهَا وَتَيَقُّنِ كَوْنِهَا تَكَادُ تَظْهَرُ، وَلَكِنْ تَأَخَّرَتْ إِلَى الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: خَفَيْتُ الشَّيْءَ أَيْ أَظْهَرْتُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

خَفَاهُنَّ مِنْ إِيقَانِهِنَّ كَأَنَّمَا

خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلَّبِ

وَقَالَ آخَرُ:

فَإِنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لَا نُخْفِهِ

وَإِنْ تُوقِدُوا الْحَرْبَ لَا نَقْعُدِ

وَلَامُ لِتُجْزى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِأُخْفِيهَا أَيْ أُظْهِرُهَا لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُخْفِيها بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهُوَ مُضَارِعُ أَخْفَى بِمَعْنَى سَتَرَ، وَالْهَمْزَةُ هُنَا لِلْإِزَالَةِ أَيْ أَزَلْتُ الْخَفَاءَ وَهُوَ الظُّهُورُ، وَإِذَا أَزَلْتَ الظُّهُورَ صَارَ لِلسِّتْرِ كَقَوْلِكَ: أَعْجَمْتُ الْكِتَابَ أزلت

(1) سورة النور: 24/ 37.

(2)

سورة النساء: 4/ 103.

(3)

سورة الإسراء: 17/ 78.

ص: 318

عَنْهُ الْعُجْمَةَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا مِنْ بَابِ السَّلْبِ وَمَعْنَاهُ، أُزِيلُ عَنْهَا خَفَاءَهَا وَهُوَ سِتْرُهَا، وَاللَّامُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ مُتَعَلِّقَةٌ بِآتِيَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لنجزي انْتَهَى، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا قَدَّرْنَا أَكادُ أُخْفِيها جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً، فَإِنْ جَعَلْتَهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لآتية فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَعْمَلُ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِ مَعْمُولِهِ. وَقِيلَ: أُخْفِيها بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى أُظْهِرُهَا فَتَتَّحِدُ الْقِرَاءَتَانِ، وَأَخْفَى مِنَ الْأَضْدَادِ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ وَبِمَعْنَى السِّتْرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: خَفِيَتْ وَأُخْفِيَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ اللُّغَةِ لَا شك في صدقه وأَكادُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ لَكِنَّهَا مَجَازٌ هُنَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ عِبَارَةً عَنْ شِدَّةِ إِخْفَاءِ أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَوَقْتِهَا وَكَانَ الْقَطْعُ بِإِتْيَانِهَا مَعَ جَهْلِ الْوَقْتِ أَهْيَبَ عَلَى النُّفُوسِ بَالَغَ فِي إِبْهَامِ وَقْتِهَا فَقَالَ أَكادُ أُخْفِيها حَتَّى لَا تَظْهَرَ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أَكادُ بِمَعْنَى أُرِيدُ، فَالْمَعْنَى أُرِيدُ إِخْفَاءَهَا وَقَالَهُ الْأَخْفَشُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَأَبُو مُسْلِمٍ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ: وَلَا أَكَادُ أَيْ لَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: خَبَرُ كَادَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَكادُ أَتَى بِهَا لِقُرْبِهَا وَصِحَّةِ وُقُوعِهَا كَمَا حُذِفَ في قول صابىء الْبُرْجُمِيِّ:

هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي

تَرَكْتُ عَلَى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلَائِلُهُ

أَيْ وَكِدْتُ أَفْعَلُ. وَتَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُ يُخْفِيهَا وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ غُمُوضِهَا عَنِ الْمَخْلُوقِينَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَلَمَّا رَأَى بَعْضُهُمْ قَلَقَ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ مَعْنًى مِنْ نَفْسِي: مِنْ تِلْقَائِي وَمِنْ عِنْدِي.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أَكادُ زَائِدَةٌ لَا دُخُولَ لَهَا فِي الْمَعْنَى بَلِ الْإِخْبَارُ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُخْفِي وَقْتَ إِتْيَانِهَا، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى زِيَادَةِ كَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَمْ يَكَدْ يَراها «1» وَبِقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ زَيْدُ الْخَيْلِ:

سَرِيعٌ إِلَى الْهَيْجَاءِ شَاكِ سِلَاحِهِ

فَمَا أَنْ يَكَادُ قَرْنُهُ يَتَنَفَّسُ

وَبِقَوْلِ الْآخَرِ:

وَأَنْ لَا أَلُومَ النَّفْسَ مِمَّا أَصَابَنِي

وَأَنْ لَا أَكَادَ بِالَّذِي نِلْتُ أَنْجَحُ

وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَكادُ أُخْفِيها فَلَا أَقُولُ هِيَ آتِيَةٌ لفرط

(1) سورة النور: 24/ 40.

ص: 319

إِرَادَتِي إِخْفَاءَهَا، وَلَوْلَا مَا فِي الْإِخْبَارِ بِإِتْيَانِهَا مَعَ تَعْمِيَةِ وَقْتِهَا مِنَ اللُّطْفِ لَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ.

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي وَلَا دَلِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ، وَمَحْذُوفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مطرح. والذي غزهم مِنْهُ أَنَّ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ أُظْهِرُكُمْ عَلَيْهَا انْتَهَى. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا عَنْ أُبَيٍّ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ يَعْلَمُهَا مَخْلُوقٌ. وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَكَيْفَ أُظْهِرُهَا لَكُمْ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا بَالَغَ فِي كِتْمَانِ الشَّيْءِ قَالَ: كِدْتُ أُخْفِيهِ مِنْ نَفْسِي، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ قَالَ مَعْنَاهُ قُطْرُبٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أَيَّامَ تَصْحَبُنِي هِنْدٌ وَأُخْبِرُهَا

مَا كِدْتُ أَكْتُمُهُ عَنِّي مِنَ الْخَبَرِ

وَكَيْفَ يَكْتُمُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ نَحْوِ هَذَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالَهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي أُخْفِيها عَائِدٌ عَلَى السَّاعَةَ والسَّاعَةَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَالسَّعْيُ هُنَا الْعَمَلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَنْها وبِها عَائِدٌ عَلَى السَّاعَةِ. وَقِيلَ: عَلَى الصَّلَاةِ. وَقِيلَ عَنْها عن الصلاة وبِها أَيْ بِالسَّاعَةِ، وَأَبْعَدَ جِدًّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَنْها يَعُودُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كلمة لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي فَلا يَصُدَّنَّكَ لِمُوسَى عليه السلام، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ إِمْكَانُ وُقُوعِهِ مِمَّنْ سَبَقَتْ لَهُ الْعِصْمَةُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَلِلسَّامِعِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُمْكِنُ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَفْظًا وَلِأُمَّتِهِ مَعْنًى.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْعِبَارَةُ أَنْهَى مَنْ لَا يُؤْمِنُ عَنْ صَدِّ مُوسَى، وَالْمَقْصُودُ نَهْيُ مُوسَى عَنِ التَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ أَوْ أَمْرِهِ بِالتَّصْدِيقِ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَدَّ الْكَافِرِ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهَا سَبَبٌ لِلتَّكْذِيبِ، فَذَكَرَ السَّبَبَ لِيَدُلَّ عَلَى الْمُسَبَّبِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ صَدَّ الْكَافِرِ مُسَبَّبٌ عَنْ رَخَاوَةِ الرَّجُلِ فِي الدِّينِ وَلِينِ شَكِيمَتِهِ، فَذَكَرَ الْمُسَبَّبَ لِيَدُلَّ عَلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِمْ لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا. الْمُرَادُ نَهْيُهُ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ وَالْكَوْنُ بِحَضْرَتِهِ وَذَلِكَ سَبَبُ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ، فَكَانَ ذِكْرُ الْمُسَبَّبِ دَلِيلًا عَلَى السَّبَبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَكُنْ شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ صَلْبَ الْمُعْجَمِ حَتَّى لَا يَتَلَوَّحَ مِنْكَ لِمَنْ يَكْفُرُ بِالْبَعْثِ أَنَّهُ يَطْمَعُ فِي صَدِّكَ عَمَّا أَنْتَ

ص: 320

عَلَيْهِ فَتَرْدى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى جَوَازِ النَّهْيِ وَأَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَيْ فَأَنْتَ تَرَدَّى.

وَقَرَأَ يَحْيَى فَتِرْدَى بِكَسْرِ التَّاءِ.

وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى هُوَ تَقْرِيرٌ مُضَمَّنُهُ التَّنْبِيهُ، وَجَمَعَ النَّفْسَ لِمَا يُورَدُ عَلَيْهَا وَقَدْ عَلِمَ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ مَا هِيَ وَإِنَّمَا سَأَلَهُ لِيُرِيَهُ عِظَمَ مَا يَخْتَرِعُهُ عز وجل فِي الْخَشَبَةِ الْيَابِسَةِ مِنْ قَلْبِهَا حَيَّةً نَضْنَاضَةً، وَيَتَقَرَّرُ فِي نَفْسِهِ الْمُبَايَنَةُ الْبَعِيدَةُ بَيْنَ الْمَقْلُوبِ عَنْهُ وَالْمَقْلُوبِ إِلَيْهِ، وَيُنَبِّهُهُ عَلَى قدرته الباهرة وما استفهام مبتدأ وتِلْكَ خبره وبِيَمِينِكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً «1» وَالْعَامِلُ اسْمُ الْإِشَارَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ اسْمًا مَوْصُولًا صِلَتُهُ بِيَمِينِكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِلْبَصْرِيِّينَ وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ، قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مَوْصُولًا حَيْثُ يَتَقَدَّرُ بِالْمَوْصُولِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا الَّتِي بِيَمِينِكَ؟ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي الْمَجْرُورِ مَحْذُوفًا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا الَّتِي اسْتَقَرَّتْ بِيَمِينِكَ؟ وَفِي هَذَا السُّؤَالِ وَمَا قَبْلَهُ مِنْ خِطَابِهِ تَعَالَى لِمُوسَى عليه السلام اسْتِئْنَاسٌ عَظِيمٌ وَتَشْرِيفٌ كَرِيمٌ.

قالَ هِيَ عَصايَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْجَحْدَرِيُّ عَصَيَّ بِقَلْبِ الْأَلِفِ يَاءً وَإِدْغَامِهَا فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ عَصَايِ بِكَسْرِ الياء وهي مروية عن ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا وَأَبِي عَمْرٍو مَعًا، وَهَذِهِ الْكَسْرَةُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْجَحْدَرِيِّ عَصَايْ بسكون الياء. أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أَيْ أَتَحَامَلُ عَلَيْهَا فِي الْمَشْيِ وَالْوُقُوفِ، وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي الْجَوَابِ كَمَا

جَاءَ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» .

فِي جَوَابِ من سأل أيتوضأ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟

وَكَمَا

جَاءَ فِي جَوَابِ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَلَكَ أَجْرٌ» .

وَحِكْمَةُ زِيَادَةِ مُوسَى عليه السلام رَغْبَتُهُ فِي مُطَاوَلَةِ مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ تَعَالَى، وَازْدِيَادُ لَذَاذَتِهِ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَأَمْلَى عِتَابًا يُسْتَطَابُ فَلَيْتَنِي

أَطَلْتُ ذُنُوبًا كَيْ يَطُولَ عِتَابُهُ

وَتَعْدَادُهُ نِعَمَهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِمَا جَعَلَ لَهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وتضمنت هذه الزيادة تفضيلا في قوله أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَإِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى.

وقيل: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها جَوَابٌ لِسُؤَالٍ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هِيَ عَصايَ قَالَ لَهُ تَعَالَى فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قال: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها الْآيَةَ. وَقِيلَ: سَأَلَهُ تَعَالَى عَنْ شَيْئَيْنِ عَنِ الْعَصَا بِقَوْلِهِ وَما تِلْكَ وَبِقَوْلِهِ بِيَمِينِكَ عَمَّا يَمْلِكُهُ، فَأَجَابَهُ عَنْ وَما تِلْكَ؟ بِقَوْلِهِ هِيَ عَصايَ وَعَنْ

(1) سورة هود: 11/ 72.

ص: 321

قوله بِيَمِينِكَ بقوله أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ إِلَى آخِرِهِ انْتَهَى. وَفِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ قَوْلُهُ بِيَمِينِكَ بِسُؤَالٍ وَقَدَّمَ فِي الْجَوَابِ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ في قوله أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ثُمَّ ثَنَّى بِمَصْلَحَةِ رَعِيَّتِهِ فِي قَوْلِهِ وَأَهُشُّ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَهُشُّ بِضَمِّ الْهَاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالنَّخَعِيُّ بِكَسْرِهَا كَذَا ذَكَرَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَهِيَ بِمَعْنَى الْمَضْمُومَةِ الْهَاءِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْوَرِقُ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ: وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَشَّ يَهُشُّ هَشَاشَةً إِذَا مَالَ، أَيْ أَمِيلُ بِهَا عَلَى غَنَمِي بِمَا أُصْلِحُهَا مِنَ السَّوْقِ وَتَكْسِيرِ الْعَلَفِ وَنَحْوِهِمَا، يُقَالُ مِنْهُ: هَشَّ الْوَرَقُ وَالْكَلَأُ وَالنَّبَاتُ إِذَا جَفَّ وَلَانَ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: وَأَهُسُّ بِضَمِّ الْهَاءِ وَالسِّينِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ، وَالْهَسُّ السَّوْقُ وَمِنْ ذَلِكَ الْهَسُّ وَالْهَسَّاسُ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ فِي الصِّفَاتِ. وَنَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ وَأَهُسُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مِنْ أَهَسَّ رُبَاعِيًّا وَذَكَرَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَأَهُشُّ بِضَمِّ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعَامَّةِ لَكِنْ فَرَّ مِنْ قِرَاءَتِهِ مِنَ التَّضْعِيفِ لِأَنَّ الشِّينَ فِيهِ تَفَشٍّ فَاسْتَثْقَلَ الْجَمْعَ بَيْنَ التَّضْعِيفِ وَالتَّفَشِّي. فَيَكُونُ كَتَخْفِيفِ ظَلْتَ وَنَحْوِهِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ وَأَهُشُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ أَهَشَّ رُبَاعِيًّا قَالَ: وَكِلَاهُمَا مِنْ هَشَّ الْخُبْزُ يَهِشُّ إِذَا كَانَ يَتَكَسَّرُ لِهَشَاشَتِهِ. ذَكَرَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ الْمَنَافِعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْعَصَا كَأَنَّهُ أَحَسَّ بِمَا يَعْقُبُ هَذَا السُّؤَالَ مِنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ مَا هِيَ إِلَّا عَصًا لَا تَنْفَعُ إِلَّا مَنَافِعَ بَنَاتِ جِنْسِهَا كَمَا يَنْفَعُ الْعِيدَانُ لِيَكُونَ جَوَابُهُ مُطَابِقًا لِلْغَرَضِ الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ فَحْوَى كَلَامِ رَبِّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ عز وجل أَنْ يُعَدِّدَ الْمَرَافِقَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي عَلَّقَهَا بِالْعَصَا وَيَسْتَكْثِرُهَا وَيَسْتَعْظِمُهَا ثُمَّ يُرِيَهُ عَلَى عَقِبِ ذَلِكَ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ أَيْنَ أَنْتَ عَنْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ الْعُظْمَى وَالْمَأْرَبَةِ الْكُبْرَى الْمَنْسِيَّةُ عِنْدَهَا كُلُّ مَنْفَعَةٍ وَمَأْرَبَةٍ. كُنْتَ تَعْتَدُّ بِهَا وَتَحْتَفِلُ بِشَأْنِهَا وَقَالُوا اسْمُ الْعَصَا نَبْعَةٌ انْتَهَى.

وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ غَنَمِي بِسُكُونِ النُّونِ وَفِرْقَةٌ عَلَى غَنَمِي بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ عَلَى الْغَنَمِ.

وَالْمَآرِبُ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ وَمِحْجَنٍ فَإِذَا طَالَ الْغُصْنُ حَنَاهُ بِالْمِحْجَنِ، وَإِذَا طَلَبَ كَسْرَهُ لَوَاهُ بِالشُّعْبَتَيْنِ، وَإِذَا سَارَ أَلْقَاهَا عَلَى عَاتِقِهِ فَعَلَّقَ بِهَا أَدَوَاتِهِ مِنَ الْقَوْسِ وَالْكِنَانَةِ وَالْحِلَابِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ رَكَّزَهَا وَعَرَّضَ الزَّنْدَيْنِ عَلَى شُعْبَتَيْهَا وَأَلْقَى عَلَيْهَا الْكِسَاءَ وَاسْتَظَلَّ، وَإِذَا قَصُرَ رِشَاؤُهُ وَصَلَ بِهَا وَكَانَ يُقَاتِلُ بِهَا السِّبَاعَ عَنْ غَنَمِهِ.

ص: 322

وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقِي بِهَا فَتَطُولُ بِطُولِ الْبِئْرِ وَتَصِيرُ شُعْبَتَاهَا دَلْوًا وَتَكُونَانِ شَمْعَتَيْنِ بِاللَّيْلِ، وَإِذَا ظَهَرَ عَدُوٌّ حَارَبَتْ عَنْهُ، وَإِذَا اشْتَهَى ثَمَرَةً رَكَّزَهَا فَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ، وَكَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا زَادَهُ وَسِقَاءَهُ فَجَعَلَتْ تُمَاشِيهِ وَيُرَكِّزُهَا فَيَنْبُعُ الْمَاءُ فَإِذَا رَفَعَهَا نَضَبَ. وَكَانَتْ تَقِيهِ الْهَوَامَّ وَيَرُدُّ بِهَا غَنَمَهُ وَإِنْ بَعَدُوا وَهَذِهِ الْعَصَا أَخَذَهَا مِنْ بَيْتِ عِصِيِّ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ شُعَيْبٍ حِينَ اتَّفَقَا عَلَى الرَّعِيَّةِ هَبَطَ بِهَا آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَطُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، وَقِيلَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ بِذِرَاعِ مُوسَى عليه السلام وَعَامَلَ الْمَآرِبَ

وَإِنْ كَانَ جَمْعًا مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ فَأَتْبَعَهَا صِفَتَهَا فِي قَوْلِهِ أُخْرَى وَلَمْ يَقُلْ آخَرُ رَعْيًا لِلْفَوَاصِلِ وَهِيَ جَائِزٌ فِي غَيْرِ الْفَوَاصِلِ. وَكَانَ أَجْوَدَ وَأَحْسَنَ فِي الْفَوَاصِلِ.

وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَشَيْبَةُ: مَارِبُ بِغَيْرِ هَمْزٍ كَذَا قَالَ الْأَهْوَازِيُّ فِي كِتَابِ الْإِقْنَاعِ فِي الْقِرَاءَاتِ وَيَعْنِي وَاللَّهُ أعلم بغير هم مُحَقَّقٍ، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُمَا سَهَّلَاهَا بَيْنَ بَيْنَ.

قالَ أَلْقِها الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ الْمَلَكَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَعْنَى أَلْقِها اطراحها عَلَى الْأَرْضِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى وَإِذَا هِيَ الَّتِي لِلْمُفَاجَأَةِ، وَالْحَيَّةُ تَنْطَلِقُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْجَانِّ الرَّقِيقِ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالثُّعْبَانِ الْعَظِيمِ مِنْهَا، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ تَشْبِيهِهَا بِالْجَانِّ فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ «1» وَبَيْنَ كَوْنِهَا ثُعْبَانًا لِأَنَّ تَشْبِيهَهَا بِالْجَانِّ هُوَ فِي أَوَّلِ حَالِهَا ثُمَّ تَزَيَّدَتْ حَتَّى صَارَتْ ثُعْبَانًا أَوْ شُبِّهَتْ بِالْجَانِّ وَهِيَ ثُعْبَانٌ فِي سُرْعَةِ حَرَكَتِهَا وَاهْتِزَازِهَا مَعَ عِظَمِ خَلْقِهَا.

قِيلَ: كَانَ لَهَا عُرْفٌ كَعُرْفِ الْفَرَسِ وَصَارَتْ شُعْبَتَا الْعَصَا لَهَا فَمًا وَبَيْنَ لِحْيَيْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: انْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا تَبْتَلِعُ الصَّخْرَ وَالشَّجَرَ وَالْمِحْجَنُ عُنُقًا وَعَيْنَاهَا تَتَّقِدَانِ، فَلَمَّا رَأَى هَذَا الْأَمْرَ الْعَجِيبَ الْهَائِلَ لَحِقَهُ مَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْأَهْوَالِ وَالْمَخَاوِفِ لَا سِيَّمَا هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي يُذْهِلُ الْعُقُولَ. وَمَعْنَى تَسْعى تَنْتَقِلُ وَتَمْشِي بِسُرْعَةٍ، وَحِكْمَةُ انْقِلَابِهَا وَقْتَ مُنَاجَاتِهِ تَأْنِيسُهُ بِهَذَا الْمُعْجِزِ الْهَائِلِ حَتَّى يُلْقِيَهَا لِفِرْعَوْنَ فَلَا يَلْحَقُهُ ذُعْرٌ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِذْ قَدْ جَرَتْ لَهُ بِذَلِكَ عَادَةٌ وَتَدْرِيبُهُ فِي تَلَقِّي تَكَالِيفِ النُّبُوَّةِ وَمَشَاقِّ الرِّسَالَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْإِقْدَامِ عَلَى أَخْذِهَا وَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَخَافَ مِنْهَا وَذَلِكَ حِينَ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ.

وَقِيلَ: إِنَّمَا خَافَهَا لِأَنَّهُ عَرَفَ مَا لَقِيَ آدَمُ مِنْهَا.

وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ لَهُ اللَّهُ لَا تَخَفْ بلغ من

(1) سورة النمل: 27/ 10 وسورة القصص: 28/ 31.

ص: 323

ذَهَابِ خَوْفِهِ وَطَمَأْنِينَةِ نَفْسِهِ أَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فَمِهَا وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهَا

وَيَبْعُدُ مَا ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ خُذْ مَرَّةً وَثَانِيَةً حَتَّى قِيلَ لَهُ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى فَأَخَذَهَا فِي الثَّالِثَةِ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ لَا يَلِيقُ أَنْ يَأْمُرَهُ رَبُّهُ مَرَّةً وَثَانِيَةً فَلَا يَمْتَثِلُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَحِينَ أَخَذَهَا بِيَدِهِ صَارَتْ عَصًا وَالسِّيرَةُ مِنَ السَّيْرِ كَالرِّكْبَةِ وَالْجِلْسَةِ، يُقَالُ: سَارَ فُلَانٌ سِيرَةً حَسَنَةً ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهَا فَنُقِلَتْ إِلَى مَعْنَى الْمَذْهَبِ وَالطَّرِيقَةِ. وَقِيلَ: سَيْرُ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَا تَغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا

فَأَوَّلُ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا

وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ سِيرَتَهَا فَقَالَ الْحَوْفِيُّ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِسَنُعِيدُهَا عَلَى حَذْفِ الْجَارِّ مِثْلُ وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «1» يَعْنِي إِلَى سِيرَتَهَا قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَفْعُولِ سَنُعِيدُها. وَقَالَ هَذَا الثَّانِي أَبُو الْبَقَاءِ قَالَ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَيْ صِفَتُهَا وَطَرِيقَتُهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ سَنُعِيدُها فِي طَرِيقَتِهَا الْأُولَى أَيْ فِي حَالِ مَا كَانَتْ عَصًا انْتَهَى. وسِيرَتَهَا وَطَرِيقَتُهَا ظَرْفٌ مُخْتَصٌّ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ عَلَى طَرِيقَةِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ، فِي وَلَا يَجُوزُ الْحَذْفُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ أَوْ فِيمَا شَذَّتْ فِيهِ الْعَرَبُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ عَادَهُ بِمَعْنَى عَادَ إِلَيْهِ. وَمِنْهُ بَيْتُ زُهَيْرٍ:

وَعَادَكَ أَنْ تَلَاقِيَهَا عَدَاءٌ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَوْفِيُّ. قَالَ: وَوَجْهٌ ثَالِثٌ حَسَنٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَنُعِيدُها مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِسِيرَتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهَا أُنْشِئَتْ أَوَّلَ مَا أُنْشِئَتْ عَصًا ثُمَّ ذَهَبَتْ وَبَطَلَتْ بِالْقَلْبِ حَيَّةً، فَسَنُعِيدُهَا بَعْدَ الذَّهَابِ كَمَا أَنْشَأْنَاهَا أَوَّلًا وَنَصْبُ سِيرَتَهَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ تَسِيرُ سِيرَتَهَا الْأُولى يَعْنِي سَنُعِيدُها سَائِرَةً سِيرَتَهَا الْأُولى حَيْثُ كُنْتَ تَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، وَلَكَ فِيهَا الْمَآرِبُ الَّتِي عَرَفْتَهَا انْتَهَى.

وَالْجَنَاحُ حَقِيقَةً فِي الطَّائِرِ وَالْمَلَكِ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْيَدِ وَعَلَى الْعَضُدِ وَعَلَى جَنْبِ الرَّجُلِ. وَقِيلَ لِمَجْنَبَتَيِ الْعَسْكَرِ جَنَاحَانِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَسُمِّيَ جَنَاحُ الطَّائِرِ لِأَنَّهُ يَجْنَحُ بِهِ عِنْدَ الطيران، ولما كان المرغوب مِنْ ظُلْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِذَا ضَمَّ يَدَهُ إِلَى جناحه فتر رغبة وَرَبَطَ جَأْشُهُ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَضُمَّ يَدَهُ إِلَى جَنَاحِهِ لِيَقْوَى جَأْشُهُ وَلِتَظْهَرَ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْيَدِ. وَالْمُرَادُ إِلَى جَنْبِكَ تَحْتَ الْعَضُدِ. وَلِهَذَا قَالَ تَخْرُجْ فَلَوْ لَمْ يكن

(1) سورة الأعراف: 7/ 155.

ص: 324

دُخُولٌ لَمْ يَكُنْ خُرُوجٌ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ «1» وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ إِذْ لَا يَتَرَتَّبُ الْخُرُوجُ عَلَى الضَّمِّ وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِخْرَاجِ وَالتَّقْدِيرُ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَنْضَمَّ وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ فَحَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَبْقَى مُقَابِلَهُ، وَمِنَ الثَّانِي وَأَبْقَى مُقَابِلَهُ وَهُوَ اضْمُمْ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَدْخِلْ كَمَا يُبَيَّنُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.

تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ قِيلَ خَرَجَتْ بَيْضَاءَ تَشِفُّ وَتُضِيءُ كَأَنَّهَا شَمْسٌ، وَكَانَ آدَمَ اللَّوْنِ وَانْتَصَبَ بَيْضاءَ عَلَى الْحَالِ وَالسُّوءُ الرَّدَاءَةُ وَالْقُبْحُ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَكَنَّى بِهِ عَنِ الْبَرَصِ كَمَا كنى عن العورة بالسوأة، وَكَمَا كَنَّوْا عَنْ جَذِيمَةَ وَكَانَ أَبْرَصَ بِالْأَبْرَصِ وَالْبَرَصُ أَبْغَضُ شَيْءٍ إِلَى الْعَرَبِ وَطِبَاعُهُمْ تَنْفِرُ مِنْهُ وَأَسْمَاعُهُمْ تَمُجُّ ذِكْرَهُ فَكَنَّى عَنْهُ. وَقَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ متعلق بيضاء كَأَنَّهُ قَالَ ابْيَضَّتْ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لِبَيْضَاءَ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الِاسْتِقْرَارُ انْتَهَى. وَيُقَالُ لَهُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْبَيَانِ الِاحْتِرَاسُ لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ بَيْضاءَ لَأَوْهَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَرَصٍ أَوْ بَهَقٍ. وَانْتَصَبَ آيَةً عَلَى الْحَالِ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْحَالِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ خُذْ وَدُونَكَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ كَذَا قَالَ، فَأَمَّا تَقْدِيرُ خُذْ فَسَائِغٌ وَأَمَّا دُونَكَ فَلَا يَسُوغُ لِأَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ مِنْ بَابِ الْإِغْرَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ النَّائِبُ وَالْمَنُوبُ عَنْهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْرِ مَجْرَاهُ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ وَالْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ آيَةً بَدَلًا مِنْ بَيْضاءَ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي بَيْضاءَ أَيْ تَبْيَضُّ آيَةً. وَقِيلَ مَنْصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ جَعَلْنَاهَا آيَةً أَوْ آتَيْنَاكَ آيَةً.

وَاللَّامُ فِي لِنُرِيَكَ قَالَ الْحَوْفِيُّ مُتَعَلِّقَةٌ بِاضْمُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِتَخْرُجْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ يَعْنِي الْمُقَدَّرَ جَعَلْنَاهَا أَوْ آتَيْنَاكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ آيَةً أَيْ دَلَّلْنَا بِهَا لِنُرِيَكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِنُرِيَكَ أَيْ خُذْ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْضًا بَعْدَ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً لِنُرِيَكَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَعْضَ آياتِنَا الْكُبْرى أَوْ لِنُرِيَكَ بِهِمَا الْكُبْرى مِنْ آياتِنَا أَوْ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَنَعْنِي أَنَّهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ لِنُرِيَكَ الثَّانِي الْكُبْرى أَوْ يَكُونَ مِنْ آياتِنَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَتَكُونُ الْكُبْرى صِفَةً لِآيَاتِنَا عَلَى حَدِّ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «2» ومَآرِبُ أُخْرى

(1) سورة النمل: 27/ 12.

(2)

سورة الأعراف: 7/ 180.

ص: 325

بِجَرَيَانِ مِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ مَجْرَى الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَأَجَازَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ آياتِنَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، والْكُبْرى صِفَةً لِآيَاتِنَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ آيَاتُهُ تَعَالَى كُلُّهَا هِيَ الْكُبَرَ لِأَنَّ مَا كَانَ بَعْضَ الْآيَاتِ الْكُبَرِ صَدُقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ الْكُبْرى. وَإِذَا جَعَلْتَ الْكُبْرى مَفْعُولًا لَمْ تَتَّصِفِ الْآيَاتُ بِالْكُبَرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُتَّصِفَةُ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَأَيْضًا إِذَا جَعَلْتَ الْكُبْرى مَفْعُولًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْعَصَا وَالْيَدِ مَعًا لِأَنَّهُمَا كَانَ يَلْزَمُ التَّثْنِيَةُ فِي وَصْفَيْهِمَا فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ الْكُبْرَيَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ. وَيَبْعُدُ مَا قَالَ الْحَسَنُ مِنْ أَنَّ الْيَدَ أَعْظَمُ فِي الْإِعْجَازِ مِنَ الْعَصَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَقِيبَ الْيَدِ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى لِأَنَّهُ جَعَلَ الْكُبْرى مَفْعُولًا ثَانِيًا لِنُرِيَكَ وَجَعَلَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الْآيَةِ الْقَرِيبَةِ وَهِيَ إِخْرَاجُ الْيَدِ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَقَدْ ضَعُفَ قَوْلُهُ هَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْيَدِ إِلَّا تَغْيِيرُ اللَّوْنِ، وَأَمَّا الْعَصَا فَفِيهَا تَغْيِيرُ اللَّوْنِ وَخَلْقُ الزِّيَادَةِ فِي الْجِسْمِ وَخَلْقُ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْأَعْضَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَابْتِلَاعِ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ، ثُمَّ عَادَتْ عَصًا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ التَّغْيِيرُ مِرَارًا فَكَانَتْ أَعْظَمَ مِنَ الْيَدِ.

وَلَمَّا أَرَاهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ الْمُعْجِزَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَا يُلَابِسُهُ وَهُوَ الْعَصَا أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَعَلَّلَ حِكْمَةَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ طَغى وَخَصَّ فِرْعَوْنَ وَإِنْ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمْ كُلِّهِمْ لِأَنَّهُ رَأْسُ الْكُفْرِ وَمُدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ وَقَوْمُهُ تُبَّاعُهُ.

قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى عليه السلام اسْمَعْ كَلَامِي وَاحْفَظْ وَصِيَّتِي وَانْطَلِقْ بِرِسَالَتِي أَرْعَاكَ بِعَيْنِي وَسَمْعِي، وَإِنَّ مَعَكَ يَدِي وَنَصْرِي، وَأُلْبِسُكَ جُنَّةً مِنْ سُلْطَانِي تَسْتَكْمِلُ بِهَا الْعِزَّةَ فِي أَمْرِي أَبْعَثُكَ إِلَى خَلْقٍ ضَعِيفٍ مِنْ خَلْقِي بَطَرَ نِعْمَتِي وَأَمِنَ مَكْرِي وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى جَحَدَ حَقِّي وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتِي، أُقْسِمُ بِعِزَّتِي لَوْلَا الْحُجَّةُ وَالْقَدَرُ الَّذِي وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي لَبَطَشْتُ بِهِ بَطْشَةَ جَبَّارٍ، وَلَكِنْ هَانَ عَلَيَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِي فَبَلِّغْهُ رِسَالَتِي وَادْعُهُ إِلَى عِبَادَتِي وَحَذِّرْهُ نِقْمَتِي. وَقُلْ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا فَإِنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي لَا يَطْرِفُ وَلَا يَتَنَفَّسُ إِلَّا بِعِلْمِي فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ. قَالَ: فَسَكَتَ مُوسَى عليه السلام سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: أَكْثَرَ فَجَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ أَنْفِذْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ.

قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى

ص: 326

إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي.

لَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ عَرَفَ أَنَّهُ كُلِّفَ أَمْرًا عَظِيمًا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى احْتِمَالِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا ذُو جَأْشٍ رَابِطٍ وَصَدْرٍ فَسِيحٍ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَرَغِبَ فِي أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ لِيَحْتَمِلَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّدَائِدِ الَّتِي يَضِيقُ لَهَا الصَّدْرُ، وَأَنْ يُسَهِّلَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ لَلَّذِي هُوَ خِلَافَةِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَمَا يَصْحَبُهَا مِنْ مُزَاوَلَةِ جَلَائِلِ الْخُطُوبِ، وَقَدْ عَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ مِنَ الْجَبَرُوتِ وَالتَّمَرُّدِ وَالتَّسَلُّطِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَاهُ وَسِّعْ لِي صَدْرِي لِأَعِيَ عَنْكَ مَا تُودِعُهُ مِنْ وَحْيِكَ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَسِّعْ قَلْبِي وَلَيِّنْهُ لِفَهْمِ خِطَابِكَ وَأَدَاءِ رِسَالَتِكَ. وَالْقِيَامِ بِمَا كَلَّفْتَنِيهِ مِنْ أَعْبَائِهَا، وَالْعُقْدَةُ اسْتِعَارَةٌ لِثِقَلٍ كَانَ فِي لِسَانِهِ خِلْقَةً.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ مِنَ الْجَمْرَةِ الَّتِي أَدْخَلَهَا فَاهُ وَكَانَتْ آسِيَةُ قَدْ أَلْقَى اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِهَا وَسَأَلَتْ فِرْعَوْنَ أَنْ لَا يَذْبَحَهُ، فَبَيْنَا هِيَ تُرَقِّصُهُ يَوْمًا أَخَذَهُ فِرْعَوْنُ فِي حِجْرِهِ فَأَخَذَ خَصْلَةً مِنْ لِحْيَتِهِ. وَقِيلَ: لَطَمَهُ. وَقِيلَ: ضَرَبَهُ بِقَضِيبٍ كَانَ فِي يَدِهِ فَغَضِبَ فِرْعَوْنُ فَدَعَا بِالسَّيَّافِ فَقَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ صَبِيٌّ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْيَاقُوتِ وَالْجَمْرِ. فاحضرا وأراد أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى الْيَاقُوتِ فَحَوَّلَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَدَهُ إِلَى الْجَمْرَةِ فَأَخَذَهَا وَوَضَعَهَا فِي فِيهِ فَاحْتَرَقَ لِسَانُهُ

انْتَهَى.

وَإِحْرَاقُ النَّارِ وَتَأْثِيرُهَا فِي لِسَانِهِ لَا فِي يَدِهِ دَلِيلٍ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالطَّبِيعَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَتْ فِي لِسَانِهِ رَتَّةٌ. وَقِيلَ: حَدَثَتِ الْعُقْدَةُ بَعْدَ الْمُنَاجَاةِ حَتَّى لَا يُكَلِّمَ أَحَدًا بَعْدَهَا.

وَقَالَ قُطْرُبٌ: كَانَتْ فِيهِ مُسْكَةٌ عَنِ الْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الْعُقْدَةُ كَالتَّمْتَمَةِ وَالْفَأْفَأَةِ.

وَطَلَبُ مُوسَى مِنْ حَلِّ الْعُقْدَةِ قَدْرَ مَا يُفْقَهُ قَوْلُهُ، قِيلَ: وَبَقِيَ بَعْضُهَا لِقَوْلِهِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مني لسان وَقَوْلِهِ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ. وَقِيلَ: زَالَتْ لِقَوْلِهِ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، قِيلَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَاحْلُلِ الْعُقْدَةَ بَلْ قَالَ عُقْدَةً فَإِذَا حَلَّ عُقْدَةً فَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ سُؤْلَهُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَأْتِي بِبَيَانٍ وَحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِرْعَوْنُ تَمْوِيهًا وَقَدْ خَاطَبَهُ وَقَوْمَهُ وَكَانُوا يَفْهَمُونَ عَنْهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ نَفْيُ الْبَيَانِ أَوْ مُقَارَبَتُهُ؟.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِي فِي قَوْلِهِ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي مَا جدواه والكلام بدون مُسْتَتِبٌّ؟ قُلْتُ: قَدْ أَبْهَمَ الْكَلَامَ أَوَّلًا فَقَالَ اشْرَحْ لِي وَيَسِّرْ لِي

ص: 327

فَعَلِمَ أَنَّ ثَمَّ مَشْرُوحًا وَمُيَسَّرًا ثُمَّ بَيَّنَ وَرَفَعَ الْإِبْهَامَ فَذَكَرَهُمَا فَكَانَ آكَدَ لِطَلَبِ الشَّرْحِ وَالتَّيْسِيرِ لِصَدْرِهِ، وَأَمَرَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ اشْرَحْ صَدْرِي وَيَسِّرْ أَمْرِي عَلَى الْإِيضَاحِ الشَّارِحِ لِأَنَّهُ تَكْرِيرٌ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ مِنْ طَرِيقَيِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَفِي تَنْكِيرِ الْعُقْدَةِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ وَاحْلُلْ عُقْدَةً لِسانِي أَنَّهُ طَلَبَ حَلَّ بَعْضِهَا إِرَادَةَ أَنْ يُفْهَمَ عَنْهُ فَهْمًا جَيِّدًا وَلَمْ يَطْلُبِ الْفَصَاحَةَ الْكَامِلَةَ، ومِنْ لِسانِي صِفَةٌ لِلْعُقْدَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ عُقْدَةً مِنْ عُقَدِ لِسانِي انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنَّ مِنْ لِسانِي مُتَعَلِّقٌ بِاحْلُلْ لِأَنَّ مَوْضِعَ الصِّفَةِ لِعُقْدَةٍ وَكَذَا قَالَ الْحَوْفِيُّ.

وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ الْوَجْهَيْنِ وَالْوَزِيرُ الْمُعِينُ الْقَائِمُ بِوِزْرِ الْأُمُورِ أَيْ بِثِقَلِهَا فَوَزِيرُ الْمَلِكِ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ أَوْزَارَهُ وَمُؤَنَهُ. وَقِيلَ: مِنَ الْوَزَرِ وَهُوَ الملجأ يلتجىء إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

مِنَ السِّبَاعِ الضَّوَارِي دُونَهُ وَزَرُ

وَالنَّاسُ شَرُّهُمْ مَا دُونَهُ وَزَرُ

كَمْ مَعْشَرٍ سَلِمُوا لَمْ يُؤْذِهِمْ سَبْعُ

وَمَا نَرَى بَشَرًا لَمْ يُؤْذِهِمْ بَشَرُ

فَالْمَلِكُ يَعْتَصِمُ برأيه ويلتجىء إِلَيْهِ فِي أُمُورِهِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ مِنَ الْمُؤَازَرَةِ وَهِيَ الْمُعَاوَنَةُ وَالْمُسَاعَدَةُ، وَالْقِيَاسُ أَزِيرٌ وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ وكان القياس أزير فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ إِلَى الْوَاوِ وَوَجْهُ قَلْبِهَا أَنَّ فَعِيلًا جَاءَ فِي مَعْنَى مُفَاعِلٍ مجيئا صَالِحًا كَعَشِيرٍ وَجَلِيسٍ وَقَعِيدٍ وَخَلِيلٍ وَصَدِيقٍ وَنَدِيمٍ، فَلَمَّا قُلِبَ فِي أَخِيهِ قُلِبَتْ فِيهِ، وَحَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ. وَنَظَرًا إِلَى يُوَازِرُ وَأَخَوَاتِهِ وَإِلَى الْمُوَازَرَةِ انْتَهَى وَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ قَلْبِ الْهَمْزَةِ وَاوًا لِأَنَّ لَنَا اشْتِقَاقًا وَاضِحًا وَهُوَ الْوِزْرُ، وَأَمَّا قَلْبُهَا فِي يُؤَازِرُ فَلِأَجْلِ ضَمَّةِ مَا قَبْلَ الْوَاوِ وَهُوَ أَيْضًا إِبْدَالٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ لِي وَزِيراً مفعولين لا جعل وهارُونَ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَإِنْ يكون وَزِيراً وهارُونَ مَفْعُولَيْهِ، وَقَدَّمَ الثَّانِيَ اعْتِنَاءً بأمر الوزارة وأَخِي بَدَلٌ مِنْ هارُونَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ جُعِلَ عَطْفَ بَيَانٍ آخَرَ جَازَ وَحَسُنَ انْتَهَى. وَيَبْعُدُ فِيهِ عَطْفُ الْبَيَانِ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي عَطْفِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ دُونَهُ فِي الشُّهْرَةِ، وَالْأَمْرُ هُنَا بِالْعَكْسِ.

وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هما المفعولان ولِي مِثْلُ قَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «1» يَعْنُونَ أَنَّهُ بِهِ يَتِمُّ الْمَعْنَى. وهارُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَنْتَصِبَ هارُونَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيِ اضْمُمْ إِلَيَّ هَارُونَ وَهَذَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ تَامٌّ بدون هذا المحذوف.

(1) سورة الإخلاص: 112/ 4.

ص: 328

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَامِرٍ اشْدُدْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَأَشْرِكْهُ بِضَمِّهَا فِعْلًا مُضَارِعًا مَجْزُومًا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَأَشْرِكْهُ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ أُشْدِدْ بِهِ مُضَارِعُ شَدَّدَ لِلتَّكْثِيرِ، وَالتَّكْرِيرِ أَيْ كُلَّمَا حَزَنَنِي أَمْرٌ شَدَدْتُ بِهِ أَزْرِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ اشْدُدْ وَأَشْرِكْهُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ فِي شَدِّ الْأَزْرِ وَتَشْرِيكِ هَارُونَ فِي النُّبُوَّةِ، وَكَانَ الْأَمْرُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ لَا يُرِيدُ بِهِ النُّبُوَّةَ بَلْ يُرِيدُ تَدْبِيرَهُ وَمُسَاعَدَتَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمُوسَى أَنْ يُشْرِكَ فِي النُّبُوَّةِ أَحَدًا. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ أَخِي وَاشْدُدْ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِيمَنْ قَرَأَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ أَنْ يَجْعَلَ أَخِي مَرْفُوعًا عَلَى الابتداء واشْدُدْ بِهِ خَبَرُهُ وَيُوقَفُ عَلَى هارُونَ انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَكَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى بِأَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ، وَجَعَلَ مُوسَى مَا رَغِبَ فِيهِ وَطَلَبَهُ مِنْ نِعَمٍ سَبَبًا تَلْزَمُ مِنْهُ الْعِبَادَةُ وَالِاجْتِهَادُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَالتَّظَافُرُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّعَاوُنُ فِيهَا مُثِيرٌ لِلرَّغْبَةِ وَالتَّزَيُّدِ مِنَ الْخَيْرِ.

كَيْ نُسَبِّحَكَ نُنَزِّهَكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ وَنَذْكُرَكَ بِالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْكَ وَقُدِّمَ التَّسْبِيحُ لِأَنَّهُ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَبَرَاءَتُهُ عَنِ النَّقَائِصِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ الْقَلْبُ وَالذِّكْرُ وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَمَحَلُّهُ اللِّسَانُ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ مَا مَحَلُّهُ الْقَلْبُ عَلَى مَا مَحَلُّهُ اللسان. وكَثِيراً نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ نُسَبِّحُكَ التَّسْبِيحَ فِي حَالِ كَثْرَتِهِمْ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً عَالِمًا بِأَحْوَالِنَا. وَالسُّؤْلُ فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَسْئُولِ كَالْخُبْزِ وَالْأَكْلِ بِمَعْنَى الْمَخْبُوزِ وَالْمَأْكُولِ، وَالْمَعْنَى أُعْطِيتَ طِلْبَتَكَ وَمَا سَأَلْتَهُ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ وَتَيَسُّرِ الْأَمْرِ وَحَلِّ الْعُقْدَةِ، وَجَعْلِ أَخِيكَ وَزِيرًا وَذَلِكَ مِنَ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ.

ثُمَّ ذَكَّرَهُ تَعَالَى تَقْدِيمَ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيفِ لِيَعْظُمَ اجْتِهَادُهُ وَتَقْوَى بصيرته ومَرَّةً معناه منة وأُخْرى تَأْنِيثُ آخَرَ بِمَعْنَى غَيْرَ أَيْ مِنَّةً غَيْرَ هَذِهِ الْمِنَّةِ، وَلَيْسَتْ أُخْرى هُنَا بِمَعْنَى آخِرَةً فَتَكُونَ مُقَابِلَةً لِلْأُولَى، وَتَخَيَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: سَمَّاهَا أُخْرى وَهِيَ أُولَى لِأَنَّهَا أُخْرى فِي الذَّكَرِ وَالْأُخْرَى لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَكُونُ تَأْنِيثُ الْآخَرِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَأْنِيثُ الْآخَرِ بِمَعْنَى آخِرِهِ، فَهَذِهِ يُلْحَظُ فِيهَا مَعْنَى التَّأَخُّرِ. وَالْمَعْنَى أَنِّي قَدْ حَفِظْتُكَ وَأَنْتَ طِفْلٌ رَضِيعٌ فَكَيْفَ لَا أَحْفَظُكَ وَقَدْ أَهَّلْتُكَ لِلرِّسَالَةِ. وَفِي قَوْلِهِ مَرَّةً أُخْرى إِجْمَالٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ وَحْيُ إِلْهَامٍ كَقَوْلِهِ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ «1» . وَقِيلَ: وَحْيُ إِعْلَامٍ إِمَّا بِإِرَاءَةِ ذَلِكَ فِي مَنَامٍ، وَإِمَّا بِبَعْثِ مَلَكٍ إِلَيْهَا

(1) سورة النحل: 16/ 68.

ص: 329

لَا عَلَى جِهَةِ النُّبُوَّةِ كَمَا بُعِثَ إِلَى مَرْيَمَ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَلِظَاهِرِ آيَةِ الْقَصَصِ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ «1» وَيَبْعُدُ مَا صَدَّرَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: مِنْ يَرُدُّ يَدَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ فِي وَقْتِهَا كَقَوْلِهِ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ «2» لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ فِي زَمَنِ الْحَوَارِيِّينَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى. وَفِي قَوْلِهِ مَا يُوحى إِبْهَامٌ وَإِجْمَالٌ كَقَوْلِهِ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى «3» فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ «4» وَفِيهِ تَهْوِيلٌ وَقَدْ فُسِّرَ هُنَا بِقَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأَنِ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِأَنَّ الْوَحْيَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وأَنِ فِي قَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ بَدَلٌ مِنْ مَا يَعْنِي أَنَّ أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ فَلِذَلِكَ كَانَ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَالْوَجْهَانِ سَائِغَانِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّابُوتِ كَانَ مِنْ خَشَبٍ. وَقِيلَ: مِنْ بَرْدِيِّ شَجَرِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ سَدَّتْ خُرُوقَهُ وَفَرَشَتْ فِيهِ نِطْعًا. وَقِيلَ: قُطْنًا مَحْلُوجًا وَسَدَّتْ فَمَهُ وَجَصَّصَتْهُ وَقَيَّرَتْهُ وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ وَهُوَ اسْمٌ لِلْبَحْرِ الْعَذْبِ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلنِّيلِ خَاصَّةً وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ كَقَوْلِهِ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ «5» وَلَمْ يُغْرَقُوا فِي النِّيلِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى، وَكَذَلِكَ الضَّمِيرَانِ بَعْدَهُ إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ لَا التَّابُوتِ إِنَّمَا ذُكِرَ التَّابُوتِ عَلَى سَبِيلِ الْوِعَاءِ وَالْفَضْلَةِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ فِي اقْذِفِيهِ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَفِي الثَّانِي عَائِدٌ عَلَى التَّابُوتِ وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُوسَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى وَرُجُوعُ بَعْضِهَا إِلَيْهِ وَبَعْضِهَا إِلَى التَّابُوتِ فِيهِ هُجْنَةٌ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ تَنَافُرِ النَّظْمِ فَإِنْ قُلْتَ: الْمَقْذُوفُ فِي الْبَحْرِ هُوَ التَّابُوتُ وَكَذَلِكَ الْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ قلت: ما ضرك لو قُلْتَ الْمَقْذُوفُ وَالْمُلْقَى هُوَ مُوسَى فِي جَوْفِ التَّابُوتِ حَتَّى لَا تَتَفَرَّقَ الضَّمَائِرُ فَيَتَنَافَرَ عَلَيْكَ النَّظْمُ الَّذِي هُوَ أُمُّ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَالْقَانُونُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَدِّي وَمُرَاعَاتُهُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ انْتَهَى.

ولقائل أن يقول إن الضَّمِيرَ إِذَا كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يَعُودَ عَلَى الْأَقْرَبِ وَعَلَى الْأَبْعَدِ كَانَ عُودُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ رَاجِحًا، وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى هَذَا فَعَوْدُهُ عَلَى التَّابُوتِ فِي قَوْلِهِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ رَاجِحٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا هو المحدث عنه

(1) سورة القصص: 28/ 7.

(2)

سورة المائدة: 5/ 111. [.....]

(3)

سورة النجم: 53/ 16.

(4)

سورة طه: 20/ 78.

(5)

سورة الأعراف: 7/ 136.

ص: 330

وَالْآخَرُ فَضْلَةً كَانَ عَوْدُهُ عَلَى الْمُحَدَّثِ عَنْهُ أَرْجَحَ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى الْقُرْبِ وَلِهَذَا رَدَدْنَا عَلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ رِجْسٌ «1» عَائِدٌ عَلَى خِنْزِيرٍ لَا عَلَى لَحْمٍ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ مَذْكُورٍ، فَيَحْرُمُ بِذَلِكَ شَحْمُهُ وَغُضْرُوفُهُ وَعَظْمُهُ وَجِلْدُهُ بِأَنَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ هُوَ لَحْمُ خِنْزِيرٍ لا خنزير.

وفَلْيُلْقِهِ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مُبَالَغَةً إِذِ الْأَمْرُ أَقْطَعُ الْأَفْعَالِ وَأَوْجَبُهَا، وَمِنْهُ

قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا فَلْأُصَلِّ لَكُمْ» .

أَخْرَجَ الْخَبَرِ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ لِنَفْسِهِ مُبَالَغَةً، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجَ الْفِعْلُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ حَسُنَ جَوَابُهُ كَذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ يَأْخُذْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا كَانَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ وَإِرَادَتُهُ أن لا يخطىء جَرْيَةُ مَاءِ الْيَمِّ الْوُصُولَ بِهِ إِلَى السَّاحِلِ وَإِلْقَاءَهُ إِلَيْهِ سَلَكَ فِي ذَلِكَ سُبُلَ الْمَجَازِ، وَجَعَلَ الْيَمَّ كَأَنَّهُ ذُو تَمْيِيزٍ أَمَرَ بِذَلِكَ لِيُطِيعَ الْأَمْرَ وَيَمْتَثِلَ رَسْمَهُ فَقِيلَ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ انْتَهَى. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ لِسَابِقِ عِلْمِهِ بِوُقُوعِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، فَكَأَنَّ الْبَحْرَ مَأْمُورٌ مُمْتَثِلٌ لِلْأَمْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ أَمْرٌ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ أَيِ اقْذِفِيهِ يُلْقِهِ الْيَمُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَاهُ بِالسَّاحِلِ فَالْتَقَطَهُ مِنْهُ.

وَرُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَشْرَبُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ النِّيلِ إِذْ رَأَى التَّابُوتَ فَأَمَرَ بِهِ فَسِيقَ إِلَيْهِ وَامْرَأَتُهُ مَعَهُ فَفَتَحَ فَرَأَوْهُ فَرَحِمَتْهُ امْرَأَتُهُ وَطَلَبَتْهُ لِتَتَّخِذَهُ ابْنًا فَأَبَاحَ لَهَا ذَلِكَ.

وَرُوِيَ أَنَّ التَّابُوتَ جَاءَ فِي الْمَاءِ إِلَى الْمَشْرَعَةِ الَّتِي كَانَتْ جَوَارِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يَسْتَقِينَ مِنْهَا الْمَاءَ. فَأَخَذَتِ التَّابُوتَ وَجَلَبَتْهُ إِلَيْهَا فَأَخْرَجَتْهُ وَأَعْلَمَتْهُ فِرْعَوْنَ وَالْعَدُوُّ الَّذِي لِلَّهِ وَلِمُوسَى هُوَ فِرْعَوْنُ، وَأُخْبِرَتْ بِهِ أُمُّ مُوسَى عَلَى طَرِيقِ الْإِلْهَامِ وَلِذَلِكَ قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ «2» وَهِيَ لَا تَدْرِي أَيْنَ اسْتَقَرَّ.

وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. قِيلَ: مَحَبَّةَ آسِيَةَ وَفِرْعَوْنَ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ أَحَبَّهُ حُبًّا شَدِيدًا حَتَّى لَا يَتَمَالَكَ أَنْ يَصْبِرَ عَنْهُ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَبَّهُ اللَّهُ وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ.

وَقَالَ عَطِيَّةُ: جُعِلَتْ عَلَيْهِ مَسْحَةٌ مِنْ جَمَالٍ لَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ فِي عَيْنَيْهِ مَلَاحَةٌ مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ أَنَّهُ الْقَبُولُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

مِنِّي لا يخلو أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَلْقَيْتُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَحْبَبْتُكَ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ أَحَبَّتْهُ الْقُلُوبُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِمَحَبَّةٍ أَيْ مَحَبَّةً خَالِصَةً أَوْ وَاقِعَةً مِنِّي قَدْ رَكَّزْتُهَا أَنَا فِيهَا فِي الْقُلُوبِ وَزَرَعْتُهَا فِيهَا، فَلِذَلِكَ أَحَبَّكَ فِرْعَوْنُ وكل من أبصرك.

(1) سورة الأنعام: 6/ 145.

(2)

سورة القصص: 28/ 11.

ص: 331

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلِتُصْنَعَ بِكَسْرِ لَامِ كَيْ وَضَمِّ التَّاءِ وَنَصْبِ الْفِعْلِ أَيْ وَلِتُرَبَّى وَيُحْسَنَ إِلَيْكَ. وَأَنَا مُرَاعِيكَ وَرَاقِبُكَ كَمَا يُرَاعِي الرَّجُلُ الشَّيْءَ بِعَيْنَيْهِ إِذَا اعْتَنَى بِهِ. قَالَ قَرِيبًا مِنْهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ صَنَعْتُ الْفَرَسَ إِذَا أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةِ مَحْذُوفٍ أَيْ لِيَتَلَطَّفَ بِكَ وَلِتُصْنَعَ أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُتَأَخِّرٍ تَقْدِيرُهُ فَعَلْتُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو نَهِيكٍ بِفَتْحِ التَّاءِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ لِتَكُونَ حَرَكَتُكَ وَتَصَرُّفُكَ عَلَى عَيْنٍ مِنِّي.

وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةِ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْعَيْنِ وَضَمِّ التَّاءِ فِعْلُ أَمْرٍ، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ اللَّامَ.

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ

قِيلَ اسْمُهَا مَرْيَمُ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ آسِيَةَ عَرَّضَتْهُ لِلرَّضَاعِ فَلَمْ يَقْبَلِ امْرَأَةً، فَجَعَلَتْ تُنَادِي عَلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ وَيُطَافُ بِهِ وَيُعْرَضُ لِلْمَرَاضِعِ فَيَأْبَى، وَبَقِيَتْ أُمُّهُ بَعْدَ قَذْفِهِ فِي الْيَمِّ مَغْمُومَةً فَأَمَرَتْ أُخْتَهُ بِالتَّفْتِيشِ فِي الْمَدِينَةِ لَعَلَّهَا تَقَعُ عَلَى خَبَرِهِ، فَبَصُرَتْ بِهِ في طوافها فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ «1» فَتَعَلَّقُوا بِهَا وَقَالُوا: أَنْتِ تَعْرِفِينَ هَذَا الصَّبِيَّ؟ فَقَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَعْلَمُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الْحِرْصَ عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَى الْمَلِكَةِ وَالْجَدِّ فِي خِدْمَتِهَا وَرِضَاهَا، فَتَرَكُوهَا وَسَأَلُوهَا الدَّلَّالَةَ فَجَاءَتْ بِأُمِّ مُوسَى فَلَمَّا قَرَّبَتْهُ شَرِبَ ثَدْيَهَا فَسُرَّتْ آسِيَةُ وقالت لها: كوني معي فِي الْقَصْرِ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ بَيْتِي وَوَلَدِي وَلَكِنَّهُ يَكُونُ عِنْدِي قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَحْسَنَتْ إِلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ وَاعْتَزَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِهَذَا الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ مِنَ الْمَلِكَةِ، وَلَمَّا كَمُلَ رِضَاعُهُ أَرْسَلَتْ آسِيَةُ إِلَيْهَا أَنْ جِيئِينِي بِوَلَدِي لِيَوْمِ كَذَا، وَأَمَرَتْ خَدَمَهَا وَمَنْ لَهَا أَنْ يَلْقَيْنَهُ بِالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا وَاللِّبَاسِ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ بِخَيْرِ حَالٍ وَأَجْمَلِ شَبَابٍ، فَسُرَّتْ بِهِ وَدَخَلَتْ بِهِ عَلَى فِرْعَوْنَ لِيَرَاهُ وَلِيَهِبَهُ فَأَعْجَبَهُ وَقَرَّبَهُ، فَأَخَذَ مُوسَى بِلِحْيَةِ فِرْعَوْنَ وَتَقَدَّمَ مَا جَرَى لَهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْعُقْدَةِ.

وَالْعَامِلُ فِي إِذْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ وَمَنَنَّا إِذْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْعَامِلُ فِي إِذْ تَمْشِي أَلْقَيْتُ أَوْ تُصْنَعَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ إِذْ أَوْحَيْنا فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ الْبَدَلُ وَالْوَقْتَانِ مُخْتَلِفَانِ مُتَبَاعِدَانِ؟ قُلْتُ: كَمَا يَصِحُّ وَإِنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ وَتَبَاعَدَ طَرَفَاهُ أَنْ يَقُولَ لَكَ الرَّجُلُ لَقِيتُ فُلَانًا سَنَةَ كَذَا، فَتَقُولُ: وَأَنَا لَقِيتُهُ إِذْ ذَاكَ. وَرُبَّمَا لَقِيَهُ هُوَ فِي أَوَّلِهَا وَأَنْتَ فِي آخِرِهَا انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ لِأَنَّ السَّنَةَ تَقْبَلُ الِاتِّسَاعَ فَإِذَا وَقَعَ لُقِيُّهُمَا فِيهَا بِخِلَافِ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَيِّقٌ لَيْسَ بِمُتَّسِعٍ لِتَخْصِيصِهِمَا بِمَا أُضِيفَا إِلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الثَّانِي فِي الطَّرَفِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَوَّلُ، إِذِ الْأَوَّلُ لَيْسَ مُتَّسِعًا لِوُقُوعِ

(1) سورة طه: 20/ 40.

ص: 332

الْوَحْيِ فِيهِ وَوُقُوعِ مَشْيِ الْأُخْتِ فَلَيْسَ وَقْتُ وُقُوعِ الْوَحْيِ مُشْتَمِلًا عَلَى أَجْزَاءٍ وَقَعَ فِي بَعْضِهَا الْمَشْيُ بِخِلَافِ السَّنَةِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: إِذْ متعلقة بتصنع، وَلَكَ أَنْ تَنْصِبَ إِذْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرْ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَيْ تَقَرَّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ فِي قَوْلِهِ وَقَرِّي عَيْناً «1» . وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَتَلْتَ نَفْساً هُوَ الْقِبْطِيُّ الَّذِي اسْتَغَاثَهُ عَلَيْهِ الْإِسْرَائِيلِيُّ قَتَلَهُ وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَاغْتَمَّ بِسَبَبِ الْقَتْلِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَمِنِ اقْتِصَاصِ فِرْعَوْنَ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ بِاسْتِغْفَارِهِ حِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي «2» وَنَجَّاهُ مِنْ فِرْعَوْنَ حِينَ هَاجَرَ بِهِ إِلَى مَدْيَنَ وَالْغَمُّ مَا يَغُمُّ عَلَى الْقَلْبِ بِسَبَبِ خَوْفٍ أَوْ فَوَاتِ مَقْصُودٍ، وَالْغَمُّ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ الْقَتْلُ، وَقِيلَ: مِنْ غَمَّ التَّابُوتُ. وَقِيلَ: مِنْ غَمَّ الْبَحْرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ غَمَّ الْقَتْلُ حِينَ ذَهَبْنَا بِكَ مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ. وَالْفُتُونُ مَصْدَرٌ جَمْعُ فِتَنٍ أَوْ فِتْنَةٍ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِدَادِ بِالتَّاءِ كَحُجُوزٍ وَبُدُورٍ فِي حُجْزَةٍ وَبُدْرَةٍ أَيْ فَتَنَّاكَ ضُرُوبًا مِنَ الْفِتَنِ، وَالْفِتْنَةُ الْمِحْنَةُ وَمَا يَشُقُّ عَلَى الْإِنْسَانِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَلَّصْنَاكَ مِنْ مِحْنَةٍ بَعْدَ مِحْنَةٍ. وُلِدَ فِي عَامٍ كَانَ يُقْتَلُ فِيهِ الْوِلْدَانُ، وَأَلْقَتْهُ أُمُّهُ فِي الْبَحْرِ وَهَمَّ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِهِ، وَقَتَلَ قِبْطِيًّا وَآجَرَ نَفْسَهُ عَشْرَ سِنِينَ وَضَلَّ الطَّرِيقَ وَتَفَرَّقَتْ غَنَمُهُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْفُتُونُ اخْتَبَرَهُ بِهَا وَخَلَّصَهُ حَتَّى صَلُحَ لِلنُّبُوَّةِ وَسَلِمَ لَهَا وَالسُّنُونُ الَّتِي لَبِثَهَا فِي مَدْيَنَ عَشْرُ سِنِينَ. وَقَالَ وَهْبٌ: ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْهَا مَهْرُ ابْنَتِهِ وَبَيْنَ مِصْرَ وَمَدْيَنَ ثَمَانِ مَرَاحِلَ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَخَرَجْتَ خَائِفًا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ فَلَبِثْتَ سِنِينَ وَكَانَ عُمْرُهُ حِينَ ذَهَبَ إِلَى مَدْيَنَ اثْنَيْ عَشَرَ عَامًا وَأَقَامَ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ فِي رَعْيِ غَنَمِ شُعَيْبٍ، ثُمَّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا بَعْدَ بِنَائِهِ بِامْرَأَتِهِ بِنْتِ شُعَيْبٍ، وَوُلِدَ لَهُ فِيهَا فَكَمُلَ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي عَادَةُ اللَّهِ إِرْسَالُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى رَأْسِهَا.

ثُمَّ جِئْتَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي نَاجَيْتُكَ فِيهِ وَكَلَّمْتُكَ وَاسْتَنْبَأْتُكَ. عَلى قَدَرٍ أَيْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ قَدَّرْتُهُ لَمْ تَتَقَدَّمْهُ وَلَمْ تَتَأَخَّرْ عَنْهُ. وَقِيلَ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَانِ يُوحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فِيهِ وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ جَاءَتْ عَلَى قَدَرٍ

كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ

(1) سورة مريم: 19/ 26.

(2)

سورة القصص: 28/ 16.

ص: 333