المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 29] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٧

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الإسراء

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 22]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 49]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 69]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 77]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 111]

- ‌سورة الكهف

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 59]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 78]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 110]

- ‌سورة مريم

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 33]

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 98]

- ‌سورة طه

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 41]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 64]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 89]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 90 الى 135]

- ‌سورة الأنبياء

- ‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 50]

- ‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 112]

- ‌سورة الحج

- ‌[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 37]

- ‌[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 78]

- ‌سورة المؤمنون

- ‌[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 77]

- ‌[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 118]

الفصل: ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 29]

‌سورة الكهف

ترتيبها 18 سورة الكهف 0 يأتها 110

[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 29]

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)

مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14)

هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19)

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَاّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24)

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)

ص: 130

بَخَعَ يَبْخَعُ بَخْعًا وَبُخُوعًا أَهْلَكَ مِنْ شَدَّةِ الْوَجْدِ وَأَصْلُهُ الْجَهْدُ قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ عُمَرَ فَقَالَتْ: بَخَعَ الْأَرْضَ أَيْ جَهَدَهَا حَتَّى أَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: بَخَعَ الْأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ جَعَلَهَا ضَعِيفَةً بِسَبَبِ مُتَابَعَةِ الْحِرَاثَةِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: بَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ قَتَلَهَا مِنْ شَدَّةِ وَجْدِهِ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ:

أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدَ نَفْسَهُ

لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِيرُ

أَيْ نَحَّتْهُ بِشَدِّ الْحَاءِ فَخُفِّفَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ ذُو الرُّمَّةِ يَنْشُدُ الْوَجْدُ بِالرَّفْعِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: إِنَّمَا هُوَ الْوَجْدَ بِالْفَتْحِ انْتَهَى. فَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. جَرَزَتِ الْأَرْضُ بِقَحْطٍ أَوْ جَرَادٍ أَوْ نَحْوِهِ: ذَهَبَ نَبَاتُهَا وَبَقِيَتْ لَا شَيْءَ فِيهَا وَأَرْضُونَ أَجْرَازٌ، وَيُقَالُ:

سَنَةٌ جُرْزٌ وَسُنُونَ أَجْرَازٌ لَا مَطَرَ فِيهَا، وَجُرُزُ الْأَرْضِ الْجَرَادُ أَكَلَ مَا فِيهَا، وَامْرَأَةٌ جَرُوزٌ أَيْ أَكُولٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:

إِنَّ الْعَجُوزَ خَبَّةٌ جُرُوزَا

تَأْكُلُ كُلَّ لَيْلَةٍ قَفِيزَا

الْكَهْفُ النَّقْبُ الْمُتَّسِعُ فِي الْجَبَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُ وَاسِعًا فَهُوَ غَارٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. حَكَى اللُّغَوِيُّونَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَارِ فِي الْجَبَلِ. الرَّقِيمُ: فَعِيلُ مِنْ رَقَمَ إِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَإِمَّا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُرَادِ بِهِ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. فَأَمَّا قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:

وَلَيْسَ بِهَا إِلَّا الرَّقِيمُ مُجَاوِرًا

وَصَيْدَهُمْ وَالْقَوْمُ فِي الْكَهْفِ هُمَّدُ

فَعُنِيَ بِهِ كَلْبُهُمْ. أَحْصَى الشَّيْءَ حَفِظَهُ وَضَبَطَهُ. الشَّطَطُ: الْجَوْرُ وَتَعَدِّي الْحَدَّ وَالْغُلُوَّ. وَقَالَ

ص: 132

الْفَرَّاءُ: اشْتَطَّ فِي الشُّؤْمِ جَاوَزَ الْقَدْرَ، وَشَطَّ الْمَنْزِلَ بَعُدَ شُطُوطًا، وَشَطَّ الرَّجُلُ وَأَشَطَّ جَارَ، وَشَطَّتِ الْجَارِيَةُ شَطَاطًا وَشَطَاطَةً طَالَتْ. تَزْوَرُّ: تَرُوعُ وَتَمِيلُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَزْوَرُّ تَنْقَبِضُ انْتَهَى. وَالزَّوْرُ الْمَيْلُ وَالْأَزْوَرُ الْمَائِلُ بِعَيْنِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ، وَيَكُونُ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:

وَجَبَنِي خِيفَةَ الْقَوْمِ أَزُورُهُ وَقَالَ عَنْتَرَةُ:

فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ الْقَنَا بِلَبَانِهِ

وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ

وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ:

تَؤُمُّ بِهَا الْحُدَاةُ مِيَاهَ نَخْلٍ

وَفِيهَا عَنْ أَبَانِينَ ازْوِرَارُ

وَمِنْهُ زَارَهُ إِذَا مَالَ إِلَيْهِ، وَالزُّورُ الْمَيْلُ عَنِ الصِّدْقِ. قَرَضَ الشَّيْءَ قَطَعَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ:

قَرَضَتْ مَوْضِعَ. كَذَا أَيْ قَطَعَتْهُ. وَقَالَ ذُو الرمّة:

إلى ظعن يقوضن أَجْوَازَ مُشْرِفٍ

شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ

وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: قَرَضَتْ مَوْضِعَ كَذَا جَاذَبَتْهُ، وَحَكَوْا عَنِ الْعَرَبِ قَرَضَتْهُ قُبُلًا وَدُبُرًا. الْفَجْوَةُ:

الْمُتَّسَعُ مِنَ الْفِجَاءِ وَهُوَ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ، رَجُلٌ أَفْجَأُ وَامْرَأَةٌ فَجْوَاءُ وَجَمْعُ الْفَجْوَةِ فِجَاءٌ. الْيَقِظُ الْمُتَنَبِّهُ وَجَمْعُهُ أَيْقَاظٌ كَعَضُدٍ وَأَعْضَادٍ، وَيِقَاظٌ كَرَجُلٍ وَرِجَالٍ وَرَجُلٌ يَقْظَانُ وَامْرَأَةٌ يَقْظَى. الرُّقَادُ مَعْرُوفٌ وَسُمِّيَ بِهِ عَلَمًا. الْوَصِيدُ الْفَنَاءُ. وَقِيلَ: الْعَتَبَةُ. وَقِيلَ: الْبَابُ.

قَالَ الشَّاعِرُ:

بِأَرْضٍ فَضَاءٍ لَا يُسَدُّ وَصِيدُهَا

عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرٍ

الْوَرِقُ الْفِضَّةُ مَضْرُوبَةٌ وَغَيْرُ مَضْرُوبَةٍ. السُّرَادِقُ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ: هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَأَصْلُهُ سَرَادِارُ وَهُوَ الدِّهْلِيزُ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

تَمَنَّيْتُهُمْ حَتَّى إِذَا مَا لَقِيتُهُمْ

تَرَكْتُ لَهُمْ قَبْلَ الضِّرَابِ السُّرَادِقَا

وَبَيْتٌ مُسَرْدَقٌ أَيْ ذُو سُرَادِقَ. الْمُهْلُ: مَا أُذِيبَ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ.

شَوَى اللَّحْمَ: أَنْضَجَهُ مِنْ غَيْرِ مَرَقٍ. السُّوَارُ: مَا جُعِلَ فِي الذِّرَاعِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ وَيُجْمَعُ عَلَى أَسْوِرَةٍ فِي الْقِلَّةِ كَخِمَارٍ وَأَخْمِرَةٍ، وَعَلَى خُمُرٍ وَفِي الْكَثْرَةِ كَخِمَارٍ وَخُمُرٍ إِلَّا أَنَّهُ تُسَكَّنُ عَيْنُهُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ فَتُحَرَّكُ، وَأَسَاوِرُ جَمْعُ أَسْوِرَةٍ. وَقَالَ أَبُو

ص: 133

عُبَيْدَةَ: جَمْعُ أَسْوَارٍ وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا فِي الذِّرَاعِ مِنَ الْحُلِيِّ وَعَنْهُ وَعَنْ قُطْرُبٍ: هُوَ عَلَى حَذْفِ الزِّيَادَةِ وَأَصْلُهُ أَسَاوِيرُ. وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:

وَاللَّهِ لَوْلَا صِبْيَةٌ صِغَارُ

كَأَنَّمَا وُجُوهُهُمْ أَقْمَارُ

تَضُمُّهُمْ مِنَ الْفَنِيكِ دَارُ

أَخَافَ أَنْ يُصِيبَهُمْ إِقْتَارُ

أَوْ لَاطِمٌ لَيْسَ لَهُ أَسْوَارُ

لَمَا رَآنِي مَلِكٌ جَبَّارُ

بِبَابِهِ مَا وَضَحَ النَّهَارُ السُّنْدُسُ رَقِيقُ الدِّيبَاجِ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مَا غَلُظَ مِنْهُ، وَالْإِسْتَبْرَقُ رُومِيٌّ عُرِّبَ وَأَصْلُهُ اسْتَبَرَهُ أَبْدَلُوا الْهَاءَ قَافًا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ: مُسَمًّى بِالْفِعْلِ وَهُوَ إِسْتَبْرَقُ مِنَ الْبَرِيقِ فَقُطِعَتْ بِهَمْزَةِ وَصْلِهِ.

وَقِيلَ: الْإِسْتَبْرَقُ اسْمُ الْحَرِيرِ. وَقَالَ الْمُرَقَّشُ:

تَرَاهُنَّ يَلْبَسْنَ الْمَشَاعِرَ مَرَّةً

وإستبرق الديباج طور إلباسها

وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْإِسْتَبْرَقُ الْمَنْسُوجُ بِالذَّهَبِ. الْأَرِيكَةُ السَّرِيرُ فِي حَجَلَةٍ، فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَلَا يُسَمَّى أَرِيكَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَرَائِكُ الْفُرُشُ فِي الْحِجَالِ.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً.

هِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إلا في قوله. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ إِلَّا قَوْلَهُ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ «1» الْآيَةَ فَمَدَنِيَّةٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى جُرُزاً وَمِنْ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «2» الْآيَتَيْنِ فَمَدَنِيٌّ.

وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثَتِ النَّضْرَ بن الحارث وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمَا: سَلَاهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَدِينَةَ فَسَأَلَاهُمْ فَقَالَتْ: سَلُوهُ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، فَرُوا فِيهِ رَأْيَكُمْ سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ لهم حديث

(1) سورة الكهف: 18/ 28. [.....]

(2)

سورة الكهف: 18/ 30.

ص: 134

عَجِيبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ بِنَاؤُهُ، وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَأَقْبَلَ النضر وعقبة إِلَى مَكَّةَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ:«غدا أخبركم» وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاسْتَمْسَكَ الْوَحْيُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَرْجَفَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ تَرَكَهُ رَئِيُّهُ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِ مِنَ الْجِنِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ عَجَزَ عَنْ أَكَاذِيبِهِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْقَضَى الْأَمَدُ جَاءَهُ الْوَحْيُ بِجَوَابِ الْأَسْئِلَةِ وَغَيْرِهَا.

وَرُوِيَ فِي هَذَا السَّبَبِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: إِنْ أَجَابَكُمْ عَنِ الثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَإِنْ أَجَابَ عَنِ اثْنَتَيْنِ وَأَمْسَكَ عَنِ الْأُخْرَى فَهُوَ نَبِيٌّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ أَهْلِ الْكَهْفِ وَأَنْزَلَ بَعْدَ ذلك وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «1» .

وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ «2» وَذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ خُشُوعًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْحَمْدِ لَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، أَمَرَهُ تَعَالَى بِحَمْدِهِ عَلَى إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ السَّالِمِ مِنَ الْعِوَجِ الْقَيِّمِ عَلَى كُلِّ الْكُتُبِ الْمُنْذِرِ مَنِ اتَّخَذَ وَلَدًا، الْمُبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَجْرِ الْحَسَنِ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى حَدِيثِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْتَفَتَ مِنَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً «3» إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ عَلى عَبْدِهِ لِمَا فِي عَبْدِهِ مِنَ الْإِضَافَةِ الْمُقْتَضِيَةِ تشريفه، ولم يجيء التركيب أنزل عليك.

والْكِتابَ الْقُرْآنُ، وَالْعِوَجُ فِي الْمَعَانِي كَالْعِوَجِ فِي الْأَشْخَاصِ وَنُكِّرَ عِوَجاً لِيَعُمَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ لَا تَنَاقُضَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي مَعَانِيهِ، لَا حُوشِيَّةَ وَلَا عِيَّ في تراكيبه ومبانيه. وقَيِّماً تَأْكِيدٌ لِإِثْبَاتِ الِاسْتِقَامَةِ إِنْ كَانَ مَدْلُولُهُ مُسْتَقِيمًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: قَيِّماً بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَشَرَائِعِ دِينِهِمْ وَأُمُورِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. وَقِيلَ: قَيِّماً عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ بِتَصْدِيقِهَا.

وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ، فَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى أَنْزَلَ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ، وَرَتَّبَ عَلَى هَذَا أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي انْتِصَابِ قَيِّماً أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَلَا يُجْعَلَ حَالًا مِنَ الْكِتابَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وَقَدَّرَهُ جَعَلَهُ قَيِّماً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَيِّماً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْكِتابَ فَهُوَ بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ مُؤَخَّرٌ فِي اللَّفْظِ، أَيْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ قَيِّماً وَاعْتَرَضَ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ قَوْلُهُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا

(1) سورة الإسراء: 17/ 85.

(2)

سورة الإسراء: 17/ 105.

(3)

سورة الإسراء: 17/ 111.

ص: 135

بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ أَنْزَلَهُ أَوْ جَعَلَهُ قَيِّماً. أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَنْفِيَّةَ اعْتِرَاضٌ فَهُوَ جَائِزٌ، وَيُفْصَلُ بِجُمَلٍ لِلِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا.

وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ قَالَ: احْمِدُوا اللَّهَ عَلَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ قَيِّماً لَا عِوَجَ فِيهِ، وَمِنْ عَادَةِ الْبُلَغَاءِ أَنْ يُقَدِّمُوا الْأَهَمَّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمَّلًا فِي ذَاتِهِ. وَقَوْلُهُ قَيِّمًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمَّلًا بِغَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ التَّرْتِيبَ الصَّحِيحَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ، وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَاسِدٌ يَمْتَنِعُ الْعَقْلُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إِذَا جَعَلْتَهُ حَالًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا حَالَانِ مِنَ الْكِتابَ الْأُولَى جُمْلَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُفْرَدٌ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ وُقُوعَ حَالَيْنِ مِنْ ذِي حَالٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ عَطْفٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَاخْتَارَهُ الْأَصْبَهَانِيُّ وَقَالَ: هُمَا حَالَانِ مُتَوَالِيَانِ وَالتَّقْدِيرُ غَيْرُ جَاعِلٍ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً وَقَالَ صَاحِبُ حَلِّ الْعَقْدِ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قَيِّمًا بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أَيْ جَعَلَهُ مُسْتَقِيمًا قَيِّماً انْتَهَى. وَيَكُونُ بَدَلَ مُفْرَدٍ مِنْ جُمْلَةٍ كَمَا قَالُوا فِي عَرَفْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ أَنَّهُ بَدَلُ جُمْلَةٍ مِنْ مُفْرَدٍ وَفِيهِ خِلَافٌ. وَقِيلَ: قَيِّماً حَالٌ مِنَ الْهَاءِ الْمَجْرُورَةِ فِي وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مُؤَكِّدَةٌ. وَقِيلَ: مُنْتَقِلَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْكِتابَ وَعَلَيْهِ التَّخَارِيجُ الْإِعْرَابِيَّةُ السَّابِقَةُ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى عَبْدِهِ وَالتَّقْدِيرُ عَلى عَبْدِهِ وَجَعَلَهُ قَيِّماً. وَحَفْصٌ يَسْكُتُ عَلَى قَوْلِهِ عِوَجاً سَكْتَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَقُولُ قَيِّماً. وَفِي بَعْضِ مَصَاحِفِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً لَكِنْ جَعَلَهُ قَيِّمًا وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَعْنَى لَا أَنَّهَا قِرَاءَةٌ.

وَأَنْذَرَ يتعدى لمفعولين قال نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً

«1» وَحُذِفَ هُنَا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَصُرِّحَ بِالْمُنْذَرِ بِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ إِلَيْهِ فَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ صُرِّحَ بِالْمُنْذِرِ فِي قَوْلِهِ حِينَ كَرَّرَ الْإِنْذَارَ فَقَالَ: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً فَحُذِفَ الْمُنْذِرُ أَوَّلًا لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَحُذِفَ الْمُنْذَرُ بِهِ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْحَذْفِ وَجَلِيلِ الْفَصَاحَةِ، وَلَمَّا لَمْ يُكَرِّرِ الْبِشَارَةَ أَتَى بِالْمُبَشِّرِ وَالْمُبَشَّرِ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِيُنْذِرَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَنْزَلَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: تَتَعَلَّقُ بِقَيِّمًا، وَمَفْعُولُ لِيُنْذِرَ الْمَحْذُوفُ قَدَّرَهُ ابْنُ عطية لِيُنْذِرَ العالم، وأبو الْبَقَاءِ لِيُنْذِرَ الْعِبَادَ أَوْ لِيُنْذِرَكُمْ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ قَدَّرَهُ خَاصًّا قَالَ: وَأَصْلُهُ لِيُنْذِرَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَأْساً شَدِيداً، وَالْبَأْسُ مِنْ قَوْلِهِ بِعَذابٍ بَئِيسٍ «2» وَقَدْ بَؤُسَ الْعَذَابُ وَبَؤُسَ

(1) سورة النبأ: 78/ 40.

(2)

سورة الأعراف: 7/ 165.

ص: 136

الرَّجُلُ بَأْسًا وَبَأْسَةً انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ رَاعَى فِي تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ مُقَابَلَةً وَهُوَ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَالْبَأْسُ الشَّدِيدُ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْدَرِجَ فِيهِ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا.

وَمَعْنَى مِنْ لَدُنْهُ صَادِرٌ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِسُكُونِ الدَّالِ وَإِشْمَامِهَا الضَّمَّ وَكَسْرِ النُّونِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ هُودٍ. وقرىء وَيُبَشِّرَ بِالرَّفْعِ وَالْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِيُنْذِرَ وَالْأَجْرُ الْحَسَنُ الْجَنَّةُ، وَلَمَّا كَنَّى عَنِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ أَجْراً حَسَناً قَالَ:

ماكِثِينَ فِيهِ أَيْ مُقِيمِينَ فِيهِ، فَجَعَلَهُ ظَرْفًا لِإِقَامَتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْمُكْثُ لَا يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ قَالَ أَبَداً وَهُوَ ظَرْفٌ دَالٌّ عَلَى زَمَنٍ غَيْرِ مُتَنَاهٍ، وَانْتَصَبَ ماكِثِينَ عَلَى الْحَالِ وَذُو الْحَالِ هُوَ الضَّمِيرُ فِي لَهُمْ وَالَّذِينَ نَسَبُوا الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْضُ الْيَهُودِ فِي عزيز، وَبَعْضُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي ادَّعَوْهُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ صِفَةً لِلْوَلَدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُعْتَرَضٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِفُهُ إِلَّا الْقَائِلُ وَهُمْ لَيْسَ قَصْدُهُمْ أَنْ يَصِفُوهُ، وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ نَفْيٌ مُؤْتَنِفٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِجَهْلِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ مِنَ الْإِعْرَابِ ويحتمل أن يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَذُمُّ لَهُمْ وَأَقْضَى فِي الْجَهْلِ التَّامِّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ انْتَهَى.

قِيلَ: وَالْمَعْنَى مَا لَهُمْ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ فَيُنَزِّهُوهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْقَوْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قالُوا أَيْ مَا لَهُمْ.

بِقَوْلِهِمْ هَذَا مِنْ عِلْمٍ فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ قالُوا جَاهِلِينَ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ وَلَا نَظَرٍ فِي مَا يَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الِاتِّخَاذِ الْمَفْهُومِ مِنِ اتَّخَذَهُ أَيْ مَا لَهُمْ بِحِكْمَةِ الِاتِّخَاذِ مِنْ عِلْمٍ إِذْ لَا يَتَّخِذُهُ إِلَّا مَنْ هُوَ عَاجِزٌ مَقْهُورٌ يَحْتَاجُ إِلَى مُعِينٍ يَشُدُّ بِهِ عَضُدَهُ. وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اتِّخَاذُ اللَّهِ وَلَدًا فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ، فَكَيْفَ قِيلَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ؟

قُلْتُ: مَعْنَاهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُعْلَمُ لِاسْتِحَالَتِهِ، وَانْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ إِمَّا لِلْجَهْلِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ لَا يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِ انْتَهَى.

وَلا لِآبائِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى لَهُمْ وَهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ السَّخِيفَةِ، بَلْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ إِنَّمَا قَالَهُ عَنْ جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ. وَذَكَرَ الْآبَاءَ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ قَدْ أَخَذُوهَا عَنْهُمْ وَتَلَقَّفُوهَا مِنْهُمْ.

ص: 137

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَلِمَةً بِالنَّصْبِ وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُهَا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَفَاعِلُ كَبُرَتْ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَقَالَةِ الْمَفْهُومَةِ مَنْ قَوْلِهِ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، وَفِي ذَلِكَ مَعْنَى التَّعَجُّبِ أَيْ مَا أَكْبَرُهَا كَلِمَةً، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا صِفَةٌ لَهَا تُفِيدُ اسْتِعْظَامَ اجْتِرَائِهِمْ عَلَى النُّطْقِ بِهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ فِي الْقُلُوبِ وَيُحَدِّثُ بِهِ النَّفْسَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ بَلْ يَصْرِفُ عَنْهُ الْفِكْرَ، فَكَيْفَ بِمِثْلِ هَذَا الْمُنْكَرِ وَسُمِّيَتْ كَلِمَةً كَمَا يُسَمُّونَ الْقَصِيدَةَ كَلِمَةً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ هِيَ قَائِمَةٌ فِي النَّفْسِ مَعْنًى وَاحِدًا فَيَحْسُنُ أَنْ تُسَمَّى كَلِمَةً وَقَالَ أَيْضًا: وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ الْكَلِمَةِ كَمَا تَقُولُ نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَفَسَّرَ بِالْكَلِمَةِ وَوَصَفَهَا بِالْخُرُوجِ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَصْبُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ عَلَى حَدِّ نَصْبِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَساءَتْ مُرْتَفَقاً «1» . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَصْبُهَا عَلَى الْحَالِ أَيْ كَبُرَتْ فِرْيَتُهُمْ وَنَحْوَ هَذَا انْتَهَى. فَعَلَى قَوْلِهِ كَمَا تَقُولُ نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفًا لِأَنَّهُ جَعَلَ تَخْرُجُ صِفَةً لِكَلِمَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ كَبُرَتْ كَلِمَةً خَارِجَةً مِنْ أَفْواهِهِمْ تِلْكَ الْمَقَالَةُ الَّتِي فَاهُوا بِهَا وَهِيَ مَقَالَتُهُمْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً.

وَالضَّمِيرُ فِي كَبُرَتْ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى مَا قَبْلَهُ بَلْ هُوَ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ التَّمْيِيزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ محذوفا وَتَخْرُجُ صِفَةً لَهُ أَيْ كَبُرَتْ كَلِمَةً كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نُصِبَ عَلَى التَّعَجُّبِ أَيْ أَكْبِرْ بِهَا كَلِمَةً أي من كَلِمَةً. وقرىء كبرت سكون الْبَاءِ وَهِيَ فِي لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمُرَ وابن مُحَيْصِنٍ وَالْقَوَّاسُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَالنَّصْبُ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى وأقوى، وإِنْ نَافِيَةٌ أَيْ مَا يَقُولُونَ وكَذِباً نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَوْلًا كَذِباً.

فَلَعَلَّكَ باخِعٌ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ وَلِلْإِشْفَاقِ فِي الْمَحْذُورِ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: فِيهَا هُنَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ مَوْضِعَ النَّهْيِ يَعْنِي أَنَّ الْمَعْنَى لَا تَبْخَعْ نَفْسَكَ. وَقِيلَ:

وُضِعَتْ مَوْضِعَ الِاسْتِفْهَامِ تَقْدِيرُهُ هَلْ أَنْتَ باخِعٌ نَفْسَكَ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْرِيرٌ وَتَوْقِيفٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَيْ لَا تَكُنْ كَذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَهُ وَإِيَّاهُمْ حِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَمَا تَدَاخَلَهُ مِنَ الْوَجْدِ وَالْأَسَفِ عَلَى تَوَلِّيهِمْ بِرَجُلٍ فَارَقَتْهُ أَحِبَّتُهُ وَأَعِزَّتُهُ، فَهُوَ يَتَسَاقَطُ حَسَرَاتٍ عَلَى آثَارِهِمْ وَيَبْخَعُ نَفْسَهُ وَجْدًا عَلَيْهِمْ وَتَلَهُّفًا عَلَى فِرَاقِهِمُ انْتَهَى. وتكون لعل

(1) سورة الكهف: 18/ 16.

ص: 138

لِلِاسْتِفْهَامِ قَوْلٌ كُوفِيٌّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا لِلْإِشْفَاقِ أَشْفَقَ أَنْ يَبْخَعَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا.

وَقَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ اسْتِعَارَةٌ فَصِيحَةٌ مِنْ حَيْثُ لَهُمْ إِدْبَارٌ وَتَبَاعُدٌ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِعْرَاضٌ عَنِ الشَّرْعِ، فَكَأَنَّهُمْ مِنْ فَرْطِ إِدْبَارِهِمْ قَدْ بَعُدُوا فَهُوَ فِي إِدْبَارِهِمْ يَحْزَنُ عَلَيْهِمْ، وَمَعْنَى عَلى آثارِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ بَعْدَ يَأْسِكَ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ.

وَيُقَالُ: مَاتَ فُلَانٌ عَلَى أَثَرِ فُلَانٍ أَيْ بَعْدَهُ، وقرىء باخِعٌ نَفْسَكَ بِالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: باخِعٌ بِالتَّنْوِينِ نَفْسَكَ بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى الْأَصْلِ يَعْنِي أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَ الْعَلَمِ فَالْأَصْلُ أَنْ يَعْمَلَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعَمَلُ وَالْإِضَافَةُ سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَهَبْنَا إِلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ أَحْسَنُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَا وَضَعْنَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وقرىء: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا فَمَنْ كَسَرَ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ يَعْنِي اسْمَ الْفَاعِلِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَمَنْ فَتَحَ فَلِلْمُضِيِّ يَعْنِي حَالَةَ الْإِضَافَةِ، أَيْ لِأَنَّ لَمْ يُؤْمِنُوا وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِلَى الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً «1» .

وأَسَفاً قَالَ مُجَاهِدٌ: جَزَعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: غَضَبًا وَعَنْهُ أَيْضًا حَزَنًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ:

نَدَمًا وَتَحَسُّرًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَسَفُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ:

الْأَسَفُ هُنَا الْحُزْنُ لِأَنَّهُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ وَلَا هُوَ تَحْتَ يَدِ الْآسِفِ، وَلَوْ كَانَ الْأَسَفُ مِنْ مُقْتَدِرٍ عَلَى مَنْ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ وَمِلْكِهِ كَانَ غَضَبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ «2» أَيْ أَغْضَبُونَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اطَّرَدَ انْتَهَى. وَانْتِصَابُ أَسَفاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَارْتِبَاطُ قَوْلِهِ إِنَّا جَعَلْنا الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الزِّينَةِ لِلِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ أَيُّ النَّاسِ أَحْسَنُ عَمَلًا فَلَيْسُوا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ عَمَلًا وَمَنْ هُوَ أَسْوَأُ عَمَلًا، فَلَا تَغْتَمَّ وَتَحْزَنْ عَلَى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَكُونُ أَسْوَأَ عَمَلًا وَمَعَ كَوْنِهِمْ يَكْفُرُونَ بِي لَا أَقْطَعُ عَنْهُمْ مَوَادَّ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي خَلَقْتُهَا.

وجَعَلْنا هُنَا بِمَعْنَى خَلَقْنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يُرَادُ بِهَا غَيْرُ الْعَاقِلِ وَأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ فِيمَا لَا يعقل. وزِينَةً كُلُّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ فِيهِ إِيذَاءٌ من

(1) سورة الزمر: 39/ 23.

(2)

سورة الزخرف: 43/ 55.

ص: 139

حَيَوَانٍ وَحَجَرٍ وَنَبَاتٍ لِأَنَّهُ لَا زِينَةَ فِيهِ، وَمَنْ قَالَ بِالْعُمُومِ قَالَ فِيهِ زِينَةً مِنْ جِهَةِ خَلْقِهِ وَصَنْعَتِهِ وَإِحْكَامِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَا هُنَا خُصُوصُ مَا لا بعقل. فَقِيلَ: الْأَشْجَارُ وَالْأَنْهَارُ.

وَقِيلَ: النَّبَاتُ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْأَزْهَارِ. وَقِيلَ: الْحَيَوَانُ الْمُخْتَلِفُ الْأَشْكَالِ وَالْمَنَافِعِ وَالْأَفْعَالِ. وَقِيلَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالنُّحَاسُ وَالرَّصَاصُ وَالْيَاقُوتُ وَالزَّبَرْجَدُ وَالْجَوْهَرُ وَالْمَرْجَانُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْأَحْجَارِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا عَلَى الْأَرْضِ يَعْنِي مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ زِينَةً لَها وَلِأَهْلِهَا مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَا يُسْتَحْسَنُ مِنْهَا. وَقَالَتْ: فِرْقَةٌ أَرَادَ النَّعِيمَ وَالْمَلَابِسَ وَالثِّمَارَ وَالْخُضْرَةَ وَالْمِيَاهَ. وَقِيلَ: مَا هُنَا لِمَنْ يَعْقِلُ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ الرِّجَالُ وَقَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّ الزِّينَةَ الْخُلَفَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ. وَانْتَصَبَ زِينَةً عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ إِنْ كَانَ جَعَلْنا بِمَعْنَى خَلَقْنَا، وَأَوْجَدْنَا، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى صَيَّرْنَا فَانْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ.

وَاللَّامُ مِنْ لِنَبْلُوَهُمْ تَتَعَلَّقُ بِجَعَلْنَا، وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ وَهُوَ مُتَأَوَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالضَّمِيرُ فِي لِنَبْلُوَهُمْ إِنْ كَانَتْ مَا لِمَنْ يَعْقِلُ فَهُوَ عَائِدٌ عَلَيْهَا عَلَى الْمَعْنَى، وَأَنْ لَا يَعُودَ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَهُوَ سُكَّانُ الْأَرْضِ الْمُكُلَّفُونَ وأَيُّهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِيهَا إِعْرَابًا فَيَكُونُ أَيُّهُمْ مبتدأ وأَحْسَنُ خبره. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِنَبْلُوَهُمْ وَيَكُونُ قَدْ عَلَّقَ لِنَبْلُوَهُمْ إِجْرَاءً لَهَا مَجْرَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ وَالِاخْتِبَارَ سَبَبٌ لِلْعِلْمِ، كَمَا عَلَّقُوا سَلْ وَانْظُرِ الْبَصَرِيَّةَ لِأَنَّهُمَا سَبَبَانِ لِلْعِلْمِ وَإِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ ذَهَبَ الْحَوْفِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الضَّمَّةُ فِيهَا بناء على مذهب سيبويه لِوُجُودِ شَرْطِ جَوَازِ الْبِنَاءِ فِي أَيْ. وَهُوَ كَوْنُهَا مُضَافَةً قَدْ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهَا، فَأَحْسَنُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فَتَقْدِيرُهُ هُوَ أَحْسَنُ وَيَكُونُ أَيُّهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي لِنَبْلُوَهُمْ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ أَحْسَنُ عَمَلًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ أَحْسَنُهُمْ عَمَلًا أَزْهَدُهُمْ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَتْرَكُ لَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

حُسْنُ الْعَمَلِ الزُّهْدُ فِيهَا وَتَرْكُ الِاغْتِرَارِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ غَالِبُ بْنُ عَطِيَّةَ: أَحْسَنُ الْعَمَلِ أَخْذٌ بِحَقٍّ مَعَ الْإِيمَانِ وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَالْإِكْثَارُ مِنَ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:

أَحْسَنَ طَاعَةً. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ لِيَبْلُوَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَالْمُقَلِّدِينَ لِلْعُلَمَاءِ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ قَبُولًا وَإِجَابَةً. وَقَالَ سَهْلٌ: أَحْسَنُ تَوَكُّلًا عَلَيْنَا فِيهَا. وَقِيلَ:

أَصْفَى قَلْبًا وَأَحْسَنُ سَمْتًا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَيَهُمُّ أَتْبَعُ لِأَمْرِي وَأَعْمَلُ بِطَاعَتِي.

ص: 140

وإِنَّا لَجاعِلُونَ أَيْ مُصَيِّرُونَ مَا عَلَيْها مِمَّا كَانَ زِينَةً لَهَا أَوْ مَا عَلَيْها مِمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الزِّينَةِ وَغَيْرِهِ صَعِيداً تُرَابًا جُرُزاً لَا نَبَاتَ فِيهِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عن مَا تَضَمَّنَتْهُ أَيْدِي الْمُتْرَفِينَ مِنْ زِينَتِهَا، إِذْ مَآلُ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الْفَنَاءِ والحاق. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا عَلَيْها مِنْ هَذِهِ الزِّينَةِ صَعِيداً جُرُزاً يَعْنِي مِثْلَ أَرْضٍ بَيْضَاءَ لَا نَبَاتَ فِيهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَضْرَاءَ مُعْشِبَةً فِي إِزَالَةِ بَهْجَتِهِ وَإِمَاطَةِ حُسْنِهِ وَإِبْطَالِ مَا بِهِ كَانَ زِينَةً مِنْ إِمَاتَةِ الْحَيَوَانِ وَتَجْفِيفِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ انْتَهَى. قِيلَ: وَالصَّعِيدُ مَا تَصَاعَدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ بِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ الْأَمْلَسُ الْمُسْتَوِي. وَقِيلَ: الطَّرِيقُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَالْقُعُودَ عَلَى الصُّعُدَاتِ» .

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً.

أَمْ هُنَا هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ فَتَتَقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ. قِيلَ: لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى آخَرَ لَا بِمَعْنَى الْإِبْطَالِ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ أَمْ هُنَا بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ فَقَطْ، وَالظَّاهِرُ فِي أَمْ حَسِبْتَ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَنْهَهُ عَنِ التَّعَجُّبِ وَإِنَّمَا أَرَادَ كُلُّ آيَاتِنَا كَذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:

لَا يَتَعَجَّبُ مِنْهَا فَالْعَجَائِبُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْثَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلُوكَ عَنْ ذَلِكَ لِيَجْعَلُوا جَوَابَكَ عَلَامَةً لِصِدْقِكَ وَكَذِبِكَ، وَسَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَبْلَغُ وَأَعْجَبُ وَأَدَلُّ عَلَى صِدْقِكَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: تَقْرِيرٌ لَهُ عليه السلام عَلَى حُسْبَانِهِ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ كَانُوا عَجَباً بِمَعْنَى إِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَظِّمَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا عَظَّمَهُ عَلَيْكَ السَّائِلُونَ مِنَ الْكَفَرَةِ، فَإِنَّ سَائِرَ آيَاتِ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ قِصَّتِهِمْ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ومجاهد وقتادة وابن إِسْحَاقَ. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا لَهُ هَلْ عَلِمَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ

كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً بِمَعْنَى إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ عَجَبٌ، وَيَكُونُ فَائِدَةُ تَقْرِيرِهِ جَمْعَ نَفْسِهِ لِلْأَمْرِ لِأَنَّ جَوَابَهُ أَنْ يَقُولَ لَمْ أَحْسَبْ وَلَا عَلِمْتُهُ، فَيُقَالُ لَهُ وَصْفُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَالتَّجَوُّزُ فِي هَذَا

ص: 141

التَّأْوِيلِ هُوَ فِي لَفْظَةِ حَسِبْتَ انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ أَعَلِمْتَ أَيْ لَمْ تَعْلَمْهُ حَتَّى أَعْلَمْتُكَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ مِنَ الْآيَاتِ الْكُلِّيَّةِ تَزْيِينَ الْأَرْضِ بِمَا خَلَقَ فَوْقَهَا مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي لَا حَصْرَ لَهَا، وَإِزَالَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ قَالَ: أَمْ حَسِبْتَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَإِبْقَاءِ حَيَاتِهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً انْتَهَى. وَقِيلَ: أَيْ أَمْ عَلِمْتَ أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كانُوا عَجَباً كَمَا تَقُولُ: أَعَلِمْتَ أَنَّ فُلَانًا فَعَلَ كَذَا أَيْ قَدْ فَعَلَ فَاعْلَمْهُ. وَقِيلَ:

الْخِطَابُ لِلسَّامِعِ، وَالْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ أَيْ قل لهم أَمْ حَسِبْتَ الْآيَةَ. وَالظَّنُّ قَدْ يُقَامُ مَقَامَ الْعِلْمِ، فَكَذَلِكَ حَسِبْتَ بِمَعْنَى عَلِمْتَ وَالْكَهْفُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَعَنْ أَنَسٍ:

الْكَهْفُ الْجَبَلُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا غَيْرُ مَشْهُورٍ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَفْرِيجٌ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ هُمُ الْفِتْيَةُ الْمَذْكُورُونَ هُنَا. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانَ حَالُهُمْ كَأَصْحَابِ الْكَهْفِ. فَقَالَ الضَّحَّاكُ الرَّقِيمِ بَلْدَةٌ بِالرُّومِ فِيهَا غَارٌ فِيهِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ نَفْسًا أَمْوَاتٌ كُلُّهُمْ نِيَامٌ عَلَى هَيْئَةِ أَصْحابَ الْكَهْفِ. وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْغَارِ

فَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الرَّقِيمَ قَالَ:

«إِنْ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ أَصَابَتْهُمُ السَّمَاءُ فَأَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ فَانْحَطَّتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ» .

وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَهُوَ حَدِيثُ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْعَفِيفِ وَبَارِّ وَالِدَيْهِ، وَفِيمَا أَوْرَدَهُ فِيهِ زِيَادَةُ أَلْفَاظٍ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ طَائِفَتَانِ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْ أَصْحَابِ الرَّقِيمِ بِشَيْءٍ، وَمَنْ قَالَ: بِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ اخْتَلَفُوا فِي شَرْحِ الرَّقِيمِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا الرَّقِيمِ أَكِتَابٌ أَمْ بُنْيَانٌ، وَعَنْهُ أَنَّهُ كِتَابٌ كَانَ عِنْدَهُمْ فِيهِ الشَّرْعُ الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ دِينِ الْمَسِيحِ عليه السلام. وَقِيلَ: مِنْ دِينٍ قَبْلَ عِيسَى، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبٍ أَنَّهُ اسْمُ قَرْيَتِهِمْ.

وَقِيلَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ الْجِدَارِ أَقَامَهُ الْخَضِرُ عليه السلام.

وَقِيلَ: كَتَبَ فِيهِ أسماؤهم وَقِصَّتَهُمْ وَسَبَبَ خُرُوجِهِمْ. وَقِيلَ:

لَوْحٌ مِنْ رَصَاصٍ كُتِبَ فِيهِ شَأْنُ الْفِتْيَةِ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ مِنْ نُحَاسٍ فِي فَمِ الْكَهْفِ. وَقِيلَ:

صَخْرَةٌ كُتِبَ فِيهَا أَسْمَاؤُهُمْ وَجُعِلَتْ فِي سُورِ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: اسْمُ كَلْبِهِمْ وَتَقَدَّمَ بَيْتُ أُمَيَّةَ قَالَهُ أَنَسٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْجَبَلُ الَّذِي بِهِ الْكَهْفُ وَعَنْ عِكْرِمَةَ اسْمُ الدَّوَاةِ بِالرُّومِيَّةِ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْوَادِي الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ. وَقِيلَ: رَقَمَ النَّاسُ حَدِيثَهُمْ نقرا في الجبل.

وعَجَباً نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَتَقْدِيرُهُ آيَةً عَجَباً، وُصِفَتْ بِالْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ ذَاتِ عَجَبٍ وَأَمَّا أَسْمَاءُ فِتْيَةِ أَهْلِ الْكَهْفِ فَأَعْجَمِيَّةٌ لَا تَنْضَبِطُ

ص: 142

بِشَكْلٍ وَلَا نَقْطٍ، وَالسَّنَدُ فِي مَعْرِفَتِهَا ضَعِيفٌ وَالرُّواةُ مُخْتَلِفُونَ فِي قِصَصِهِمْ وَكَيْفَ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ وَخُرُوجُهُمْ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ وَلَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَا قَصَّ تَعَالَى عَلَيْنَا مِنْ قَصَصِهِمْ، وَمَنْ أَرَادَ تَطَلَّبَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَرُوِيَ أَنَّ اسْمَ الْمَلِكِ الْكَافِرِ الَّذِي خَرَجُوا فِي أَيَّامِهِ عَنْ مِلَّتِهِ اسْمُهُ دِقْيَانُوسُ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الرُّومِ. وَقِيلَ:

فِي الشَّامِ وَأَنَّ بِالشَّامِ كَهْفًا فِيهِ مَوْتَى، وَيَزْعُمُ مُجَاوَرُوهُ أَنَّهُمْ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَعَلَيْهِمْ مَسْجِدٌ وَبِنَاءٌ يُسَمَّى الرَّقِيمِ وَمَعَهُمْ كَلْبٌ رُمَّةٌ. وَبِالْأَنْدَلُسِ فِي جِهَةِ غَرْنَاطَةَ بِقُرْبِ قَرْيَةٍ تُسَمَّى لُوشَةَ كَهْفٌ فِيهِ مَوْتَى وَمَعَهُمْ كَلْبٌ رُمَّةٌ وَأَكْثَرُهُمْ قَدِ انْجَرَدَ لَحْمُهُ وَبَعْضُهُمْ مُتَمَاسِكٌ، وَقَدْ مَضَتِ الْقُرُونُ السَّالِفَةُ وَلَمْ نَجِدْ مَنْ عَلِمَ شَأْنَهُمْ وَيَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّهُمْ أَصْحابَ الْكَهْفِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَخَلْتُ إِلَيْهِمْ فَرَأَيْتُهُمْ مُنْذُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَهُمْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَعَلَيْهِمْ مَسْجِدٌ وَقَرِيبٌ مِنْهُمْ بِنَاءٌ رُومِيٌّ يُسَمَّى الرَّقِيمِ كَأَنَّهُ قَصْرٌ مُخَلَّقٌ قَدْ بَقِيَ بَعْضُ جُدْرَانِهِ، وَهُوَ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ خَرِبَةٍ وَبِأَعْلَى حَضْرَةِ غَرْنَاطَةَ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ آثَارُ مَدِينَةٍ قَدِيمَةٍ يُقَالُ لَهَا مَدِينَةُ دِقْيُوسَ. وَجَدْنَا فِي آثَارِهَا غَرَائِبَ مِنْ قُبُورٍ وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا اسْتَسْهَلْتُ ذِكْرَ هَذَا مَعَ بُعْدِهِ لِأَنَّهُ عَجَبٌ يَتَخَلَّدُ ذِكْرُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ عز وجل انْتَهَى. وَحِينَ كُنَّا بِالْأَنْدَلُسِ كَانَ النَّاسُ يَزُورُونَ هَذَا الْكَهْفَ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ يَغْلَطُونَ فِي عِدَّتِهِمْ إِذَا عَدُّوهُمْ، وَأَنَّ مَعَهُمْ كَلْبًا وَيَرْحَلُ النَّاسُ إِلَى لُوشَةَ لِزِيَارَتِهِمْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُ مِنْ مَدِينَةِ دِقْيُوسَ الَّتِي بِقَبْلِي غَرْنَاطَةَ فَقَدْ مَرَرْتُ عَلَيْهَا مِرَارًا لَا تُحْصَى، وَشَاهَدْتُ فِيهَا حِجَارَةً كِبَارًا، وَيَتَرَجَّحُ كَوْنُ أَهْلِ الْكَهْفِ بِالْأَنْدَلُسِ لِكَثْرَةِ دِينِ النَّصَارَى بِهَا حَتَّى أَنَّهَا هِيَ بِلَادُ مَمْلَكَتِهِمُ الْعُظْمَى، وَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ بِمَا هُوَ فِي أَقْصَى مَكَانٍ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ أَغْرَبُ وَأَبْعَدُ أَنْ يَعْرِفَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْعَامِلُ فِي إِذْ. قِيلَ: اذْكُرْ مُضْمَرَةً. وَقِيلَ عَجَباً، وَمَعْنَى أَوَى جَعَلُوهُ مَأْوًى لَهُمْ وَمَكَانَ اعْتِصَامٍ، ثُمَّ دَعَوُا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُؤْتِيَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ وَفَسَّرَهَا الْمُفَسِّرُونَ بِالرِّزْقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ الْمَغْفِرَةُ وَالرِّزْقُ وَالْأَمْنُ مِنَ الأعداء. والْفِتْيَةُ جَمْعُ فَتًى جَمْعُ تَكْسِيرٍ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَكَذَلِكَ كَانُوا قَلِيلِينَ. وَعِنْدَ ابْنِ السَّرَّاجِ أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ. وَلَفْظُ الْفِتْيَةُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا شَبَابًا وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا شَبَابًا مِنْ أَبْنَاءِ الْأَشْرَافِ وَالْعُظَمَاءِ مُطَوَّقِينَ مُسَوَّرِيِنَ بِالذَّهَبِ ذَوِي ذَوَائِبَ وَهُمْ مِنَ الرُّومِ، اتَّبَعُوا دِينَ عِيسَى عليه السلام. وَقِيلَ: كَانُوا قَبْلَ عِيسَى وَأَصْحَابُنَا الْأَنْدَلُسِيُّونَ تَكْثُرُ فِي أَلْفَاظِهِمْ تَسْمِيَةُ نَصَارَى الْأَنْدَلُسِ بِالرُّومِ فِي نَثْرِهِمْ وَنَظْمِهِمْ وَمُخَاطَبَةِ عَامَّتِهِمْ، فَيَقُولُونَ: غَزَوْنَا الرُّومَ، جَاءَنَا الرُّومُ.

وَقَلَّ مَنْ يَنْطِقُ بِلَفْظِ النَّصَارَى، وَلَمَّا دَعَوْا بِإِيتَاءِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الرِّزْقَ وَغَيْرَهُ، دَعَوُا اللَّهَ

ص: 143

بأن يهيىء لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمُ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ مُفَارَقَةِ دِينِ أَهْلِيهِمْ وَتَوْحِيدِ اللَّهِ رَشَدًا وَهِيَ الِاهْتِدَاءُ وَالدَّيْمُومَةُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاجْعَلْ أَمْرِنا رَشَداً كُلَّهُ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالزُّهْرِيُّ: وَهَيِّ وَيُهَيِّي بِيَاءَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَمْزِ، يَعْنِي أَنَّهُ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ السَّاكِنَةَ يَاءً. وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ الْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عاصم: وهيء لَنَا وَيُهَيِّ لَكُمْ لَا يُهْمَزُ انْتَهَى. فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ يَاءً، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حَذَفَهَا فَالْأَوَّلُ إِبْدَالٌ قِيَاسِيٌّ، وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ يَنْقَاسُ حَذْفُ الْحَرْفِ الْمُبْدَلِ مِنَ الْهَمْزَةِ فِي الْأَمْرِ أَوِ الْمُضَارِعِ إِذَا كَانَ مَجْزُومًا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: رُشْدٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَشَداً بِفَتْحِهِمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ أَرْجَحُ لِشَبَهِهَا بِفَوَاصِلِ الْآيَاتِ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنْهُمْ كَانَ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ وَأَلْفَاظُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ رشد الآخرة ورحمتها، وَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَجْعَلَ دُعَاءَهُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّهَا كَافِيَةٌ، وَيُحْتَمَلُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ أَنْ يُرَادَ بِهَا أَمْرُ الْآخِرَةِ انْتَهَى.

فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ اسْتِعَارَةٌ بَدِيعَةٌ لِلْإِنَامَةِ الْمُسْتَثْقَلَةِ الَّتِي لَا يَكَادُ يُسْمَعُ مَعَهَا، وَعَبَّرَ بِالضَّرْبِ لِيَدُلَّ عَلَى قُوَّةِ الْمُبَاشَرَةِ وَاللُّصُوقِ وَاللُّزُومِ وَمِنْهُ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ «1» وَضُرِبَ الْجِزْيَةِ وَضَرْبُ الْبَعْثِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقِ:

ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا

وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ

وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ:

وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَا لَكَ إِنَّنِي

ضُرِبَتْ على الأرض بالأشداد

وَقَالَ آخَرُ:

إِنَّ الْمُرُوءَةَ وَالسَّمَاحَةَ وَالنِّدَّى

فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ

اسْتُعِيرَ لِلُزُومِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ لِهَذَا الْمَمْدُوحِ، وَذَكَرَ الْجَارِحَةَ الَّتِي هِيَ الْآذَانُ إِذْ هِيَ يَكُونُ مِنْهَا السَّمْعُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحْكِمُ نَوْمٌ إِلَّا مَعَ تَعَطُّلِ السَّمْعِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «ذَلِكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ»

أَيِ اسْتَثْقَلَ نَوْمَهُ جِدًّا حَتَّى لَا يَقُومَ بِاللَّيْلِ. وَمَفْعُولُ ضَرَبْنَا مَحْذُوفٌ أَيْ حِجَابًا مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَمَا يُقَالُ بَنَى عَلَى امْرَأَتِهِ يُرِيدُونَ بَنَى عَلَيْهَا الْقُبَّةَ. وَانْتَصَبَ سِنِينَ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهِ فَضَرَبْنا، وعَدَداً مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ أَوْ منتصب بفعل مضمر

(1) سورة البقرة: 2/ 61.

ص: 144

أَيْ بَعْدَ عَدَداً وَبِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْقَبْضِ وَالنَّفْضِ، وَوُصِفَ بِهِ سِنِينَ أَيْ سِنِينَ مَعْدُودَةً. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ عَدَداً الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَثْرَةِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُعَدَّ إِلَّا مَا كَثُرَ لَا مَا قَلَّ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْقِلَّةَ لِأَنَّ الْكَثِيرَ قَلِيلٌ عِنْدَهُ كَقَوْلِهِ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ «1» انْتَهَى وَهَذَا تَحْرِيفٌ فِي التَّشْبِيهِ لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهَذَا تَشْبِيهٌ لِسُرْعَةِ انْقِضَاءِ مَا عَاشُوا فِي الدُّنْيَا إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

كَأَنَّ الْفَتَى لَمْ يَعْرَ يَوْمًا إِذَا اكْتَسَى

وَلَمْ يَكُ صُعْلُوكًا إِذَا مَا تَمَوَّلَا

ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أَيْ أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ نَوْمِهِمْ، وَالْبَعْثُ التَّحْرِيكُ عَنْ سُكُونٍ إِمَّا فِي الشَّخْصِ وَإِمَّا عَنِ الْأَمْرِ الْمَبْعُوثِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ فيه متحركا ولِنَعْلَمَ أي لنظر لَهُمْ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذَا فِي قَوْلِهِ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ «2» . وَفِي التَّحْرِيرِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِنَعْلَمَ بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ بِالْيَاءِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ لِيَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ حَكَاهُ الْأَخْفَشُ. وَفِي الْكَشَّافِ وقرىء لِيَعْلَمَ وَهُوَ مُعَلَّقٌ عَنْهُ لِأَنَّ ارْتِفَاعَهُ بِالِابْتِدَاءِ لَا بِإِسْنَادِ يَعْلَمُ إِلَيْهِ، وَفَاعِلُ يَعْلَمُ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ كَمَا أنه مَفْعُولُ يَعْلَمُ انْتَهَى. فَأَمَّا قِرَاءَةُ لِنَعْلَمَ فَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ الْتِفَاتٌ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى لِنَعْلَمَ بِالنُّونِ سَوَاءً، وَأَمَّا لِيَعْلَمَ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ لِيُعْلِمَ اللَّهُ النَّاسَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ. وَالْجُمْلَةُ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ يُعْلِمَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلِيَعْلَمَ مُعَلَّقٌ. وَأَمَّا مَا فِي الْكَشَّافِ فَلَا يَجُوزُ مَا ذَكَرَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ إِذْ ذَاكَ تَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَا يُسَمَّى فَاعِلُهُ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْفَاعِلِ، فَكَمَا أَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْجُمَلِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ فَكَذَلِكَ لَا يَقُومُ مَقَامَ مَا نَابَ عَنْهُ. وَلِلْكُوفِيِّينَ مَذْهَبَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِسْنَادُ إِلَى الْجُمْلَةِ اللَّفْظِيَّةِ مُطْلَقًا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ كَانَ مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحِزْبَيْنِ هُمَا مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ «3» الْآيَةَ. وَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ عَلِمُوا أَنَّ لُبْثَهُمْ تَطَاوَلَ، ويدل على

(1) سورة الأحقاف: 46/ 35.

(2)

سورة البقرة: 2/ 143.

(3)

سورة الكهف: 18/ 19.

ص: 145

ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بقصتهم أولا محنصرة مِنْ قَوْلِهِ أَمْ حَسِبْتَ إِلَى قَوْلِهِ أَمَداً ثُمَّ قَصَّهَا تَعَالَى مُطَوَّلَةً مُسْهَبَةً مِنْ قَوْلِهِ نَحْنُ نَقُصُّ- إِلَى قَوْلِهِ- قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا «1» .

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْحِزْبَ الْوَاحِدَ هُمُ الْفِتْيَةُ أَيْ ظَنُّوا لُبْثَهُمْ قَلِيلًا، وَالْحِزْبُ الثَّانِي هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ بُعِثَ الْفِتْيَةُ عَلَى عَهْدِهِمْ حِينَ كَانَ عِنْدَهُمُ التَّارِيخُ بِأَمْرِ الْفِتْيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ انْتَهَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُمَا حِزْبَانِ كَافِرَانِ اخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ. قَالَ السُّدِّيُّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ عَلَّمُوا قُرَيْشًا السُّؤَالَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَعَنِ الْخَضِرِ وَعَنِ الرُّوحِ وَكَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ إِقَامَةِ أَهْلِ الْكَهْفِ فِي الْكَهْفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْمُ أَهْلِ الْكَهْفِ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ. وَقِيلَ: حِزْبَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ أَصْحابَ الْكَهْفِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُلُوكُ الَّذِينَ تَدَاوَلُوا مُلْكَ الْمَدِينَةِ حِزْبٌ وَأَهْلُ الْكَهْفِ حِزْبٌ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْحِزْبَانِ اللَّهُ وَالْخَلْقُ كَقَوْلِهِ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ «2» وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ قَتَادَةَ: لَمْ يَكُنْ لِلْفَرِيقَيْنِ عِلْمٌ بِلُبْثِهِمْ لَا لِمُؤْمِنٍ وَلَا لِكَافِرٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا «3» . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَمَا بُعِثُوا زَالَ الشَّكُّ وَعُرِفَتْ حَقِيقَةُ اللبث.

وأَحْصى جوز الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَمَا مصدرية وأَمَداً مَفْعُولٌ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ أفعل تفضيل وأَمَداً تَمْيِيزٌ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ وَالتِّبْرِيزِيُّ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ واختار الفارسي والزمخشري وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَرَجَّحُوا هَذَا بِأَنَّ أَحْصى إِذَا كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ كَانَ بِنَاءً مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَا أَعْطَاهُ وَمَا أَوْلَاهُ لِلْمَعْرُوفِ وَأَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ. وَيَقُولُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنَّهُ قَدْ كَثُرَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ فَيَجُوزُ، وَخَلَطَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَأَوْرَدَ فِيمَا بُنِيَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ مَا أَعْطَاهُ لِلْمَالِ وَآتَاهُ لِلْخَيْرِ وَهِيَ أَسْوَدُ مِنَ الْقَارِ وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللبن. وفهو لِمَا سِوَاهَا أَضَيْعُ. قَالَ: وَهَذِهِ كُلُّهَا أَفْعَلُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ انْتَهَى. وَأَسْوَدُ وَأَبْيَضُ لَيْسَ بِنَاؤُهُمَا مِنَ الرُّبَاعِيِّ. وَفِي بِنَاءِ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ وَلِلتَّفْضِيلِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ يُبْنَى مِنْهُ مُطْلَقًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ جَاءَتْ مِنْهُ أَلْفَاظٌ وَلَا يُبْنَى مِنْهُ مُطْلَقًا وَمَا وَرَدَ حمل على الشذوذ وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ. فَلَا يَجُوزُ، أَوْ لِغَيْرِ النَّقْلِ كَأَشْكَلَ الْأَمْرُ وَأَظْلَمَ اللَّيْلُ فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ مَا أَشْكَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَمَا أَظْلَمَ هَذَا اللَّيْلَ.

وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عُصْفُورٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَإِذَا

(1) سورة الكهف: 18/ 25. [.....]

(2)

سورة البقرة: 2/ 140.

(3)

سورة الكهف: 18/ 25.

ص: 146

قُلْنَا بِأَنَّ أَحْصى اسْمٌ لِلتَّفْضِيلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ موصولا مبينا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لِوُجُودِ شَرْطِ جَوَازِ الْبِنَاءِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُ أَيُّ مُضَافَةً حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهَا، وَالتَّقْدِيرُ لِيُعْلَمَ الْفَرِيقُ الَّذِي هُوَ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً مِنَ الَّذِينَ لَمْ يُحْصُوا، وَإِذَا كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا امْتَنَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَمْ يُحْذَفْ صَدْرُ صِلَتِهَا لِوُقُوعِ الْفِعْلِ صِلَةً بِنَفْسِهِ عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِ أَيُّ مَوْصُولَةً فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا لِأَنَّهُ فَاتَ تَمَامُ شَرْطِهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهَا.

وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُوُلُ فِيمَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ؟ قُلْتُ: لَيْسَ بِالْوَجْهِ السَّدِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّ بِنَاءَهُ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَنَحْوَ أَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ، وَأَفْلَسَ مِنَ ابْنِ الْمُذَلَّقِ شَاذٌّ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الشَّاذِّ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مُمْتَنِعٌ فَكَيْفَ بِهِ، وَلِأَنَّ أَمَداً لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِأَفْعَلَ فَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ، وَإِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِلَبِثُوا فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، فَإِنْ زَعَمْتَ أَنِّي أَنْصِبُهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحْصى كَمَا أُضْمِرُ فِي قَوْلِهِ:

وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا عَلَى يَضْرِبُ الْقَوَانِسَ فَقَدْ أَبْعَدْتَ الْمُتَنَاوَلَ وَهُوَ قَرِيبٌ حَيْثُ أَبَيْتَ أَنْ يَكُونَ أَحْصى فِعْلًا ثُمَّ رَجَعْتَ مُضْطَرًّا إِلَى تَقْدِيرِهِ وَإِضْمَارِهِ انْتَهَى. أَمَّا دَعْوَاهُ الشُّذُوذَ فَهُوَ مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ جَوَازُ بِنَائِهِ مِنْ أَفْعَلَ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَنَّ التَّفْصِيلَ اخْتِيَارُ ابْنِ عُصْفُورٍ وَقَوْلُ غَيْرِهِ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَحْصى لَيْسَتْ لِلنَّقْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ في التمييز، وأَمَداً تَمْيِيزٌ وَهَكَذَا أَعْرَبَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْصى أَفْعَلُ لِلتَّفْضِيلِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا أَقْطَعُ النَّاسُ سَيْفًا، وَزَيْدٌ أَقْطَعُ لِلْهَامِ سَيْفًا، وَلَمْ يعر به مَفْعُولًا بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِلَبِثُوا فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَيْ لَا يَكُونُ سَدِيدًا فَقَدْ ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى نَصْبِ أَمَداً بِلَبِثُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَهَذَا غَيْرُ مُتَّجِهٍ انْتَهَى. وَقَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمَدَ هُوَ الْغَايَةُ وَيَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الْمُدَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لِلْمُدَّةِ غَايَةً فِي أَمَدِ الْمُدَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَا بمعنى الذي وأَمَداً مُنْتَصِبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، وَتَقْدِيرُهُ لِمَا لَبِثُوا مِنْ أَمَدٍ أَيْ مُدَّةٍ، وَيَصِيرُ مِنْ أَمَدٍ تَفْسِيرًا لِمَا أنهم في لفظ لِما لَبِثُوا كَقَوْلِهِ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «1» وَلَمَّا سَقَطَ الْحَرْفُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ زَعَمْتَ إِلَى آخِرِهِ فَيَقُولُ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا الزَّعْمِ لِأَنَّهُ لِقَائِلِ

(1) سورة فاطر: 35/ 2.

ص: 147

ذَلِكَ أَنْ يَسْلُكَ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ فِي أَنْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يَنْتَصِبُ الْمَفْعُولَ بِهِ، فَالْقَوَانِسُ عِنْدَهُمْ مَنْصُوبٌ بِأَضْرِبُ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَإِنَّمَا تَأْوِيلُهُ بِضَرْبِ الْقَوَانِسِ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ «1» مَنْ مَنْصُوبَةٌ بِأَعْلَمَ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَلَوْ كَثُرَ وُجُودُ مِثْلِ:

وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا لَكِنَّا نَقِيسُهُ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ صَحِيحًا لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْمَصْدَرِ فَيَعْمَلُ بِذَلِكَ التَّضْمِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى يَزِيدُ ضَرْبَنَا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا عَلَى ضَرْبِ غَيْرِنَا، وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ لِيَعْلَمَ مُشْعِرًا بِاخْتِلَافٍ فِي أَمْرِهِمْ عَقَّبَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقُصُّ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى وَجْهِ الصِّدْقِ، وَجَاءَ لَفْظُ نَحْنُ نَقُصُّ مُوَازِيًا لِقَوْلِهِ لِنَعْلَمَ.

ثُمَّ قَالَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ فَفِيهِ إِضَافَةُ الرَّبِّ وَهُوَ السَّيِّدُ وَالنَّاظِرُ فِي مَصْلَحَةِ عَبِيدِهِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ آمَنُوا بِنَاءً لِلْأَشْعَارِ بِتِلْكَ الرُّتْبَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ لَهُ مَمْلُوكُونَ. ثُمَّ قَالَ:

وَزِدْناهُمْ هُدىً وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ وَزَادَهُمْ لِمَا في لفظة نامن الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، وَزِيَادَتُهُ تَعَالَى لَهُمْ هُدىً هُوَ تَيْسِيرُهُمْ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَمُبَاعَدَةِ النَّاسِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ. وَفِي التَّحْرِيرِ زِدْناهُمْ ثَمَرَاتٍ هُدىً أَوْ يَقِينًا قَوْلَانِ، وَمَا حَصَلَتْ بِهِ الزِّيَادَةُ امْتِثَالُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ، أَوْ إِنْطَاقُ الْكَلْبِ لَهُمْ بِأَنَّهُ هُوَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ، أَوْ إِنْزَالُ مَلَكٍ عَلَيْهِمْ بِالتَّبْشِيرِ وَالتَّثْبِيتِ وَإِخْبَارُهُمْ بِظُهُورِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ يَكُونُ الدِّينُ بِهِ كُلُّهُ لِلَّهِ فَآمَنُوا بِهِ قَبْلَ بَعْثِهِ أَقْوَالٌ مُلَخَّصَةٌ مِنَ التَّحْرِيرِ.

وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ثَبَّتْنَاهَا وَقَوَّيْنَاهَا عَلَى الصَّبْرِ عَلَى هِجْرَةِ الْوَطَنِ وَالنَّعِيمِ وَالْفِرَارِ بِالدِّينِ إِلَى غَارٍ فِي مَكَانٍ قَفْرٍ لَا أَنِيسَ بِهِ وَلَا مَاءَ وَلَا طَعَامَ، وَلَمَّا كَانَ الْفَزَعُ وَخَوْفُ النَّفْسِ يُشْبِهُ بِالتَّنَاسُبِ الِانْحِلَالَ حَسُنَ فِي شِدَّةِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ التَّصْمِيمِ أَنْ تُشْبِهَ الرَّبْطَ، وَمِنْهُ فُلَانٌ رَابِطُ الْجَأْشِ إِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ لَا تَتَفَرَّقُ عِنْدَ الْفَزَعِ وَالْحَرْبِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها «2» وَالْعَامِلُ فِي أَنْ رَبَطْنا أَيْ رَبَطْنَا حِينَ قامُوا، وَيَحْتَمِلُ الْقِيَامُ أَنْ يَكُونَ مَقَامُهُمْ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ الْكَافِرِ دِقْيَانُوسَ، فَإِنَّهُ مَقَامٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الرَّبْطِ عَلَى الْقَلْبِ حَيْثُ صَلَبُوا عَلَيْهِ وَخَلَعُوا دِينَهُ وَرَفَضُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ هَيْبَتَهُ، ويحتمل أن

(1) سورة الأنعام: 6/ 117.

(2)

سورة القصص: 28/ 10.

ص: 148

يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ انْبِعَاثِهِمْ بِالْعَزْمِ إِلَى الْهُرُوبِ إِلَى اللَّهِ وَمُنَابَذَةِ النَّاسِ كَمَا يُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا إِذَا اعْتَزَمَ عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْجِدِّ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ. وَقِيلَ: قامُوا يَدْعُونَ النَّاسَ سِرًّا. وَقَالَ عَطَاءٌ قامُوا عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنَ النَّوْمِ قَالُوا وقبل: قامُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: إِذْ قامُوا بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ فَتَحَرَّكَتْ هِرَّةٌ. وَقِيلَ: فَأْرَةٌ فَفَزِعَ دِقْيَانُوسُ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ قَالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ قَوْمُهُمْ عُبَّادَ أَصْنَامٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا وَحَّدُوا اللَّهَ بِأَنَّ رَبَّهُمْ هو موجد السموات وَالْأَرْضِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا عَلَى مَا يَشَاءُ، ثُمَّ أَكَّدُوا هذا التوجيد بِالْبَرَاءَةِ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِهِ بِلَفْظِ النَّفْيِ الْمُسْتَغْرِقِ تَأْبِيدَ الزَّمَانِ عَلَى قَوْلٍ. وَاللَّامُ فِي لَقَدْ لَامُ تَوْكِيدٍ وإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، أَيْ لَقَدْ قُلْنا لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا قَوْلًا شَطَطاً أَيْ ذَا شَطَطٍ وَهُوَ التَّعَدِّي وَالْجَوْرُ، فَشَطَطًا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ إِمَّا عَلَى الْحَذْفِ كَمَا قَدَّرْنَاهُ، وَإِمَّا عَلَى الْوَصْفِ بِهِ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ:

مَفْعُولٌ بِهِ بِقُلْنَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: شَطَطاً كَذِبًا. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: خَطَأٌ.

هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً.

وَلَمَّا وَحَّدُوا اللَّهَ تَعَالَى وَرَفَضُوا مَا دُونَهُ مِنَ الْآلِهَةِ أَخَذُوا فِي ذَمِّ قَوْمِهِمْ وَسُوءِ فِعْلِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ عَظَّمُوا جُرْمَ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ قَالُوهَا فِي مَقَامِهِمْ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ تَقْبِيحًا لِمَا هُوَ وَقَوْمُهُمْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّبَرِّي مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَفَتُّ فِي عَضُدِ الْمَلِكِ إِذَا اجْتَرَءُوا عَلَيْهِ بِذَمِّ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ قَالُوا ذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ لِلْأَمْرِ الذي عزموا عليه وهؤُلاءِ مبتدأ.

وقَوْمُنَا قال الحوفي: خبر واتَّخَذُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ: قَوْمُنَا عطف بيان واتَّخَذُوا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ دُونِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا تَحْضِيضٌ صَحِبَهُ الْإِنْكَارُ إِذْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ سُلْطَانٍ بَيِّنٍ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّحْضِيضُ الصِّرْفُ، فَحَضُّوهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ لَهُمْ، وَمَعْنَى عَلَيْهِمْ عَلَى اتخاذهم آلهة واتَّخَذُوا هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَمِلُوا لِأَنَّهَا أَصْنَامٌ هُمْ نَحَتُوهَا، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرُوا، وَفِي مَا ذَكَرُوهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدِّينَ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا

ص: 149

بِالْحُجَّةِ وَالدَّعْوَى إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ فَاسِدَةٌ وَهِيَ ظُلْمٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذِبٌ بِنِسْبَةِ شُرَكَاءِ اللَّهِ.

وإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خِطَابٌ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَالِاعْتِزَالُ يَشْمَلُ مُفَارَقَةَ أَوْطَانِ قَوْمِهِمْ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ فَهُوَ اعْتِزَالٌ جُسْمَانِيٌّ وَقَلْبِيٌّ، وَمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ فِي اعْتَزَلْتُمُوهُمْ أَيْ واعتزلتم معبودهم وإِلَّا اللَّهَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ إِنْ كَانَ قَوْمُهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ مَعَ آلِهَتِهِمْ لِانْدِرَاجِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ.

وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً فَاعْتَزَلَتِ الْفِتْيَةُ عِبَادَةَ تِلْكَ الْآلِهَةِ وَلَمْ يَعْتَزِلُوا عِبَادَةَ اللَّهِ. وَقَالَ هَذَا أَيْضًا الْفَرَّاءُ، وَمُنْقَطِعٌ إِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ لِعَدَمِ انْدِرَاجِهِ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِنَا انْتَهَى وَمَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا ذَكَرَ هَارُونُ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ تَفْسِيرُ الْمَعْنَى. وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ اعْتَزَلُوا قَوْمَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ قُرْآنًا لِمُخَالَفَتِهَا لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَفِيضَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بَلْ هُوَ مُتَوَاتِرٌ مَا ثَبَتَ فِي السَّوَادِ وهو وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ. وَقِيلَ: وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ كَلَامٌ مُعْتَرَضٌ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عن الْفِتْيَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى هَذَا ما فيه وإِلَّا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ لَهُ الْعَامِلُ.

فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أَيِ اجْعَلُوهُ مَأْوًى لَكُمْ تُقِيمُونَ فِيهِ وَتَأْوُونَ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ يَنْشُرْ فِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّوَكُّلِ حَيْثُ أَوَوْا إِلَى كَهْفٍ، وَرَتَّبُوا عَلَى مَأْوَاهُمْ إِلَيْهِ نَشْرَ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَتَهْيِئَةَ رِفْقِهِ تَعَالَى بِهِمْ لِأَنَّ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ لَا يُضَيِّعُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيَبْسُطُ عَلَيْنَا رَحْمَتَهُ ويهيىء لَنَا مَا نَرْتَفِقُ بِهِ فِي أَمْرِ عَيْشِنَا.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ يُسَهِّلْ عَلَيْكُمْ مَا تَخَافُونَ مِنَ الْمَلِكِ وَظُلْمِهِ، وَيَأْتِيكُمْ بِالْيُسْرِ وَالرِّفْقِ وَاللُّطْفِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى وَيُهَيِّئْ لَكُمْ بَدَلًا مِنْ أَمْرِكُمُ الصَّعْبِ مِرفَقاً. قَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً

مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ

أَيْ بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِمَّا أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ ثِقَةً بِفَضْلِ اللَّهِ وَقُوَّةً فِي رَجَائِهِمْ لِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ وَنُصُوعِ يَقِينِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِهِ نَبِيٌّ فِي عَصْرِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ نَبِيًّا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ سَعْدَانَ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ في رواية

ص: 150

الأعشى والبرجمي وَالْجُعْفِيِّ عَنْهُ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ هَارُونَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ رِفْقًا لِأَنَّ جَمِيعًا فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَرْتَفِقُ بِهِ وَفِي الْجَارِحَةِ حَكَاهُ الزَّجَّاجُ وَثَعْلَبٌ. وَنَقَلَ مَكِّيٌّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْرِفُ فِي الْأَمْرِ وَفِي الْيَدِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا كَسْرَ الْمِيمِ، وَأَنْكَرَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْفِقُ مِنَ الْجَارِحَةِ إِلَّا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَخَالَفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ: الْمَرْفِقُ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْمَوْضِعُ كَالْمَسْجِدِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: هُوَ مَصْدَرٌ كَالرِّفْقِ جَاءَ عَلَى مَفْعِلٍ. وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ فِيمَا يُرْتَفَقُ بِهِ وَإِمَّا مِنَ الْيَدِ فَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ لَا غَيْرُ، وَعَنِ الْفَرَّاءُ أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ مِرفَقاً بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ فِيمَا ارْتَفَقْتَ بِهِ وَيَكْسِرُونَ مَرْفِقَ الْإِنْسَانِ، وَالْعَرَبُ قَدْ يَكْسِرُونَ الْمِيمَ مِنْهُمَا جَمِيعًا انْتَهَى وَأَجَازَ مُعَاذٌ فَتْحَ الْمِيمِ وَالْفَاءِ.

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً.

هُنَا جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّقْدِيرُ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ «1» فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ وَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ وَأَرْفَقَهُمْ فِي الْكَهْفِ بِأَشْيَاءَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عُمَرَ وتَتَزاوَرُ بِإِدْغَامِ تَتَزَاوَرُ فِي الزَّايِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ مَنَاذِرَ، وَخَلَفٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ سَعْدَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ إِذَا حَذَفُوا التَّاءَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ عامر، وقتادة، وَحُمَيْدٌ، وَيَعْقُوبُ عَنِ الْعُمَرِيِّ: تَزْوَرُّ عَلَى وَزْنِ تَحْمَرُّ. وقرأ الجحدري، وأبو رَجَاءٍ، وَأَيُّوبٌ السِّخْتِيَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَجَابِرٌ، وَوَرَدَ عَنْ أَيُّوبَ تَزْوَارُّ عَلَى وَزْنِ تَحْمَارُّ.

وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ: تَزْوَئِرُّ بِهَمْزَةٍ قَبْلَ الرَّاءِ عَلَى قولهم ادهأمّ واشعألّ بِالْهَمْزِ فِرَارًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، والمعنى تزوغ وتميل.

وذاتَ الْيَمِينِ جِهَةَ يَمِينِ الْكَهْفِ، وَحَقِيقَتُهُ الْجِهَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْيَمِينِ يَعْنِي يَمِينَ الدَّاخِلِ إِلَى الْكَهْفِ أَوْ يَمِينَ الْفِتْيَةِ. وتَقْرِضُهُمْ لَا تَقْرَبُهُمْ مِنْ مَعْنَى الْقَطِيعَةِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ أَيْ مُتَّسَعٌ مِنَ الْكَهْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَقْرِضُهُمْ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِالْيَاءِ أَيْ

(1) سورة الكهف: 18/ 16.

ص: 151

يَقْرِضُهُمُ الْكَهْفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا تُصِيبُهُمُ الشَّمْسُ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّهَا كَانَتِ الشَّمْسُ بِالْعَشِيِّ تَنَالُهُمْ بِمَا فِي مَسِّهَا صَلَاحٌ لِأَجْسَامِهِمْ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَعَ الشَّمْسِ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ حَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ، وَحَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الدَّبُورِ، وَهُمْ فِي زَاوِيَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسلم: كَانَ بَابُ الْكَهْفِ يَنْظُرُ إِلَى بَنَاتِ نَعْشٍ وَعَلَى هَذَا كَانَ أَعْلَى الْكَهْفِ مَسْتُورًا مِنَ الْمَطَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ كَهْفُهُمْ مُسْتَقْبِلَ بَنَاتِ نَعْشٍ لَا تَدْخُلُهُ الشَّمْسُ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ، اخْتَارَ اللَّهُ لَهُمْ مَضْجَعًا مُتَّسَعًا فِي مَقْنَاةٍ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ فَتُؤْذِيَهِمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمْ كُرْبَةَ الْغَارِ وَغُمُومَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي ظِلِّ نَهَارِهِمْ كُلِّهِ لَا تُصِيبُهُمُ الشَّمْسُ فِي طُلُوعِهَا وَلَا غُرُوبِهَا مَعَ أَنَّهُمْ فِي مَكَانٍ وَاسِعٍ مُنْفَتِحٍ مُعَرَّضٍ لِإِصَابَةِ الشَّمْسِ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَحْجُبُهَا عَنْهُمُ انْتَهَى. وَهُوَ بَسْطُ قَوْلِ الزَّجَّاجِ.

قَالَ الزَّجَّاجُ: فِعْلُ الشَّمْسِ آيَةٌ مِنْ آياتِ اللَّهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ بَابُ الْكَهْفِ إِلَى جِهَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَعْنَى تَقْرِضُهُمْ تُعْطِيهِمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا ثُمَّ تَزُولُ سَرِيعًا كَالْقَرْضِ يُسْتَرَدُّ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ أَنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ بِالْغَدْوَةِ وَتُصِيبُهُ بِالْعَشِيِّ إِصَابَةً خَفِيفَةً انْتَهَى. وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقَرْضِ الَّذِي يُعْطَى ثُمَّ يُسْتَرَدُّ لَكَانَ الْفِعْلُ رُبَاعِيًّا فَكَانَ يَكُونُ تُقْرِضُهُمْ بِالتَّاءِ مَضْمُومَةً. لَكِنَّهُ مِنَ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ تُقْرِضُ لَهُمْ أَيْ تَقْطَعُ لَهُمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا.

قِيلَ: وَلَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ لَا تُصِيبُ مَكَانَهُمْ أَصْلًا لَكَانَ يَفْسُدُ هَوَاؤُهُ وَيَتَعَفَّنُ مَا فِيهِ فَيَهْلِكُوا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى دَبَّرَ أَمْرَهُمْ فَأَسْكَنَهُمْ مَسْكَنًا لَا يَكْثُرُ سُقُوطُ الشَّمْسِ فِيهِ فَيَحْمِي، وَلَا تَغِيبُ عَنْهُ غَيْبُوبَةً دَائِمَةً فَيَعْفَنُ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا صَنَعَهُ تَعَالَى بِهِمْ مِنَ ازْوِرَارِ الشَّمْسِ وَقَرْضِهَا طَالِعَةً وَغَارِبَةً آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ يَعْنِي أَنَّ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ السَّمْتِ تُصِيبُهُ الشَّمْسُ وَلَا تُصِيبُهُمُ اخْتِصَاصًا لَهُمْ بِالْكَرَامَةِ، وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقْبِلَ بَنَاتِ نَعْشٍ بِحَيْثُ كَانَ لَهُ حَاجِبٌ مِنَ الشَّمْسِ كَانَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ حَدِيثَهُمْ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَهُوَ هِدَايَتُهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ بَيْنِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَإِيوَاؤُهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْكَهْفِ، وَحِمَايَتُهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإِلْقَاءُ الْهَيْبَةِ عَلَيْهِمْ، وَصَرْفُ الشَّمْسِ عَنْهُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لِئَلَّا تَفْسَدَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنَامَتُهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، وَصَوْنُهُمْ مِنَ الْبِلَى وَثِيَابُهُمْ مِنَ التَّمَزُّقِ.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْهِدَايَةِ قَوْلُهُ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ مَا سَبَقَ نِسْبَتُهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْكَهْفِ، وَمَنْ يُضْلِلْ عَامٌّ أَيْضًا مِثْلَ دِقْيَانُوسَ الْكَافِرِ وَأَصْحَابِهِ، وَالْخِطَابُ فِي وَتَحْسَبُهُمْ وَفِي وَتَرَى الشَّمْسَ لِمَنْ قُدِّرَ لَهُ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: كَانُوا مُفَتَّحَةً أَعْيُنُهُمْ وَهُمْ نِيَامٌ فَيَحْسَبُهُمُ النَّاظِرُ مُنْتَبِهِينَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ

ص: 152

عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْسَبَ الرَّائِي ذَلِكَ لِشِدَّةِ الْحِفْظِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ وَقِلَّةِ التَّغْيِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النُّوَّامِ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اسْتِرْخَاءٌ وَهَيْئَاتٌ تَقْتَضِي النَّوْمَ، فَيَحْسَبُهُ الرَّائِي يَقْظَانَ وَإِنْ كَانَ مَسْدُودَ الْعَيْنَيْنِ، وَلَوْ صَحَّ فَتْحُ أَعْيُنِهِمْ بِسَنَدٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ كَانَ أَبْيَنَ فِي أَنْ يَحْسِبَ عَلَيْهِمُ التَّيَقُّظَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً إِخْبَارٌ مُسْتَأْنَفٌ وَلَيْسَ عَلَى تَقْدِيرٍ.

وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ لَوْ رَأَيْتَهُمْ لَحَسِبْتَهُمْ أَيْقاظاً.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَنُقَلِّبُهُمْ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا وَقَعَ الْحُسْبَانُ مِنْ جِهَةِ تَقَلُّبِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنَ الْيَمِينِ إِلَى الشِّمَالِ وَمِنَ الشِّمَالِ إِلَى الْيَمِينِ وَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَنُقَلِّبُهُمْ بِالنُّونِ مَزِيدُ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِهِمْ حَيْثُ أَسْنَدَ التَّقْلِيبَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ ذَلِكَ. وحكى الزمخشري أنه قرىء وَيُقَلِّبُهُمْ بِالْيَاءِ مُشَدَّدًا أَيْ يُقَلِّبُهُمُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا حَكَى الْأَهْوَازِيُّ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيَقْلِبُهُمْ بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ سَاكِنَةِ الْقَافِ مُخَفَّفَةِ اللَّامِ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا حَكَى ابْنُ جِنِّي: وَتَقَلُّبَهُمْ مَصْدَرُ تَقَلَّبَ مَنْصُوبًا، وَقَالَ: هَذَا نُصِبَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قَالَ: وَتَرَى أَوْ تُشَاهِدُ تَقَلُّبَهُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ ضَمَّ الْيَاءَ فَهُوَ مَصْدَرٌ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنِ الْيَمَانِيِّ. وَذَكَرَ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَرَأَ وَتَقْلِبُهُمْ بِالتَّاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ مُضَارِعُ قَلَبَ مُخَفَّفًا. قِيلَ: وَالْفَائِدَةُ فِي تَقْلِيبِهِمْ فِي الْجِهَتَيْنِ لِئَلَّا تُبْلِيَ الْأَرْضُ ثِيَابَهُمْ وَتَأْكُلَ لُحُومَهُمْ، فَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ مَاتُوا وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، فَإِنَّ اللَّهَ الَّذِي قَدَرَ عَلَى أَنْ يُبْقِيَهُمْ أَحْيَاءً تِلْكَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى حِفْظِ أَجْسَامِهِمْ وَثِيَابِهِمْ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ مَسَّتْهُمُ الشَّمْسُ لَأَحْرَقَتْهُمْ، وَلَوْلَا التَّقْلِيبُ لأكلتهم الأرض انتهى. وذاتَ بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ أَيْ جِهَةً ذاتَ الْيَمِينِ. وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ الْخِلَافَ فِي أَوْقَاتِ تَقْلِيبِهِمْ وَفِي عَدَدِ التَّقْلِيبَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ عِيَاضٍ بِأَقْوَالٍ مُتَعَارِضَةٍ مُتَنَاقِضَةٍ ضَرَبْنَا عَنْ نَقْلِهَا صَفْحًا وَكَذَلِكَ لَمْ نَتَعَرَّضْ لِاسْمِ كَلْبِهِمْ وَلَا لِكَوْنِهِ كَلْبَ زَرْعٍ أَوْ غَيْرَهُ، لِأَنَّ مِثْلَ الْعَدَدِ وَالْوَصْفِ وَالتَّسْمِيَةِ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ، وَالسَّمْعُ لَا يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَسْتَحِيلُ وُرُودُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَكَلْبُهُمْ أُرِيدَ بِهِ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ أَسَدٌ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ رَجُلٌ طَبَّاخٌ لَهُمْ تَبِعَهُمْ، أَوْ أَحَدُهُمْ قَعَدَ عِنْدَ الْبَابِ طَلِيعَةً لَهُمْ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ غُلَامُ ثعلب أنه قرىء وَكَالِئُهُمُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَلَأَ إِذَا حَفِظَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ الْكَلْبُ لِحِفْظِهِ لِلْإِنْسَانِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَالِئِ الرَّجُلُ عَلَى مَا رُوِيَ إِذْ بَسْطُ الذِّرَاعَيْنِ وَاللُّصُوقُ بِالْأَرْضِ مَعَ رَفْعِ الْوَجْهِ للتطلع هي

ص: 153

هيئة الريئة الْمُسْتَخْفِي بِنَفْسِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّادِقُ: وَكَالِبُهُمْ بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ أَيْ صَاحِبُ كَلْبِهِمْ، كَمَا تَقُولُ لَابِنٌ وَتَامِرٌ أَيْ صَاحِبُ لَبَنٍ وَتَمْرٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: باسِطٌ ذِراعَيْهِ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَعْمَلُ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ، وَإِضَافَتُهُ إِذَا أُضِيفَ حَقِيقَةً مُعَرَّفَةً كَغُلَامِ زَيْدٍ إِلَّا إِذَا نَوَيْتَ حِكَايَةَ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَعْمَلُ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ لَيْسَ إِجْمَاعًا، بَلْ ذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مُضَاءٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ، وَحُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

وَالْوَصِيدُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَابُ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ: الْفِنَاءُ. وَعَنْ قَتَادَةَ: الصَّعِيدُ وَالتُّرَابُ. وَقِيلَ: الْعَتَبَةُ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا التُّرَابُ. وَالْخِطَابُ فِي لَوِ اطَّلَعْتَ لمن هوله فِي قَوْلِهِ وَتَرَى الشَّمْسَ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: لَوِ اطَّلَعْتَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَصْلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِهَا، وَقَدْ ذُكِرَ ضَمُّهَا عَنْ شَيْبَةَ وَأَبِي جعفر ونافع وتملية الرُّعْبِ لِمَا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ، فَمَنْ رَامَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِمْ أَدْرَكَتْهُ تِلْكَ الْهَيْبَةُ.

وَمَعْنَى لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ أَعْرَضْتَ بِوَجْهِكَ عَنْهُمْ. وَأَوْلَيْتَهُمْ كَشْحَكَ، وَانْتَصَبَ فِراراً عَلَى الْمَصْدَرِ إِمَّا لَفَرَرْتَ مَحْذُوفَةً، وَإِمَّا لَوَلَّيْتَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى لَفَرَرْتَ، وَإِمَّا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ. وَانْتَصَبَ رُعْباً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ مَنْقُولٌ مِنَ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً «1» عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ نَقْلَ التَّمْيِيزِ مِنَ الْمَفْعُولِ، لِأَنَّكَ لَوْ سَلَّطْتَ عَلَيْهِ الْفِعْلَ مَا تَعَدَّى إِلَيْهِ تَعَدِّي الْمَفْعُولِ بِهِ بِخِلَافِ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وَقِيلَ: سَبَبُ الرُّعْبِ طُولُ شُعُورِهِمْ وَأَظْفَارِهِمْ وَصُفْرَةُ وُجُوهِهِمْ وَتَغْيِيرُ أَطْمَارِهِمْ. وَقِيلَ: لِإِظْلَامِ الْمَكَانِ وَإِيحَاشِهِ، وَلَيْسَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَنْكَرُوا أَحْوَالَهُمْ وَلَمْ يَقُولُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «2» وَلِأَنَّ الَّذِي بُعِثَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يُنْكِرْ إِلَّا الْعَالَمَ وَالْبِنَاءَ لَا حَالَهُ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُمْ بِحَالَةٍ حَسَنَةٍ بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُ الرَّائِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَيْقَاظِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ تَتَخَرَّقُهُ الرِّيَاحُ وَالْمَكَانُ الَّذِي بِهَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَكُونُ مُوحِشًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ.

وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَإِبْدَالِ الْيَاءِ مِنَ

(1) سورة القمر: 54/ 12.

(2)

سورة الكهف: 18/ 19.

ص: 154

الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَالْإِبْدَالِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي رُعْباً فِي آلِ عِمْرَانَ.

وَقَرَأَ هُنَا بِضَمِّ الْعَيْنِ أَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى.

وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً.

الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ. قِيلَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ «1» أَيْ مِثْلُ جَعْلِنَا إِنَامَتَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ آيَةً، جعلنا بعثهم آية. قال الزَّجَّاجُ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَقَالَ: وَكَمَا أَنَمْنَاهُمْ تِلْكَ النَّوْمَةَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ إِذْكَارًا بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِمَاتَةِ وَالْبَعْثِ جَمِيعًا، لِيَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَعَرَّفُوا حَالَهُمْ وَمَا صَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ، فَيَعْتَبِرُوا وَيَسْتَدِلُّوا عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَيَزْدَادُوا يقينا ويشكر وأما أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَكُرِّمُوا بِهِ انْتَهَى.

وَنَاسَبَ هَذَا التَّشْبِيهُ قَوْلَهُ تَعَالَى حِينَ أَوْرَدَ قِصَّتَهُمْ أَوَّلًا مُخْتَصَرَةً فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْأَمْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي جِهَتِهِمْ وَالْعِبْرَةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِيهِمْ، وَاللَّامُ فِي لِيَتَسائَلُوا لَامُ الصَّيْرُورَةِ لِأَنَّ بَعْثَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِنَفْسِ تَسَاؤُلِهِمُ انْتَهَى.

وَالْقَائِلُ. قِيلَ: كَبِيرُهُمْ مُكَسْلِمِينَا. وَقِيلَ: صَاحِبُ نَفَقَتِهِمْ تَمْلِيخَا وَكَمْ سُؤَالٌ عَنِ الْعَدَدِ وَالْمَعْنَى كَمْ يَوْمًا أَقَمْتُمْ نَائِمِينَ، وَالظَّاهِرُ صُدُورُ الشَّكِّ مِنَ الْمَسْئُولِينَ. وَقِيلَ: أَوْ لِلتَّفْصِيلِ. قَالَ بَعْضُهُمْ لَبِثْنا يَوْماً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ يَوْمٍ وَالسَّائِلُ أَحَسَّ فِي خَاطِرِهِ طُولَ نَوْمِهِمْ وَلِذَلِكَ سَأَلَ. قِيلَ: نَامُوا أَوَّلَ النَّهَارِ وَاسْتَيْقَظُوا آخِرَ النَّهَارِ، وَجَوَابُهُمْ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَالْقَوْلُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ لَا يُعَدَّ كَذِبًا، وَلَمَّا عَرَضَ لَهُمُ الشَّكُّ فِي الْإِخْبَارِ رَدُّوا عِلْمَ لُبْثِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمُدَّةٍ لُبْثِهِمْ كَانَ هَؤُلَاءِ قَدْ عَلِمُوا بِالْأَدِلَّةِ أَوْ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ أَنَّ الْمُدَّةَ مُتَطَاوِلَةٌ وَأَنَّ مِقْدَارَهَا مُبْهَمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ انْتَهَى. وَلَمَّا انْتَبَهُوا مِنْ نَوْمِهِمْ أَخَذَهُمْ مَا يَأْخُذُ مَنْ نَامَ طَوِيلًا مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَاتَّصَلَ فَابْعَثُوا بِحَدِيثِ التَّسَاؤُلِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا خُذُوا فِيمَا يهمكم

(1) سورة الكهف: 18/ 11.

ص: 155

وَدَعُوا عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ. وَالْمَبْعُوثُ قِيلَ هُوَ تَمْلِيخَا، وَكَانُوا قَدِ اسْتَصْحَبُوا حِينَ خَرَجُوا فَارِّينَ دَرَاهِمَ لِنَفَقَتِهِمْ وَكَانَتْ حَاضِرَةً عِنْدَهُمْ، فلهذا أشار وإليها بِقَوْلِهِمْ هذِهِ.

وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَالْيَزِيدِيُّ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ، وَخَلَفٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ سَعْدَانَ بِوَرِقِكُمْ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ وَكَذَا إِسْمَاعِيلُ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَعَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ أَيْضًا كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الرَّاءَ لِيَصِحَّ الْإِدْغَامُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِوَرِقِكُمْ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ انْتَهَى. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلَ النَّاسُ عَنْهُ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ قِرَاءَةً بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ دُونَ إِدْغَامٍ.

وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَوَارِقِكُمْ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ

جَعَلَهُ اسْمَ جَمْعٍ كباقر وجائل.

والْمَدِينَةِ هِيَ مَدِينَتُهُمُ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا، وَقِيلَ وَتُسَمَّى الْآنَ طَرْسُوسُ وَكَانَ اسْمُهَا عِنْدَ خُرُوجِهِمْ أَفْسُوسَ. فَلْيَنْظُرْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْقَلْبِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفَلْيَنْظُرْ معلق عنها الفعل. وأَيُّها استفهام مبتدأ وأَزْكى خَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيُّها مَوْصُولًا مَبْنِيًّا مَفْعُولًا لِيَنْظُرَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وأَزْكى خبر مبتدأ محذوف. وأَزْكى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ أَحَلُّ ذَبِيحَةٍ وَأَطْهَرُ لِأَنَّ عَامَّةَ بَلْدَتِهِمْ كَانُوا كُفَّارًا يَذْبَحُونَ لِلطَّوَاغِيتِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَحَلُّ طَعَامًا. قَالَ الضَّحَّاكُ:

وَكَانَ أَكْثَرُ أَمْوَالِهِمْ غُصُوبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا لَهُ لَا تَبْتَعْ طَعَامًا فِيهِ ظُلْمٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:

أَكْثَرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَجْوَدُ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: أَطْيَبُ. وَقَالَ يَمَانُ بْنُ رَيَّانَ: أَرْخَصُ.

وَقِيلَ: أَكْثَرُ بَرَكَةً وَرِيعًا. وَقِيلَ: هُوَ الْأُرْزُ. وَقِيلَ: التَّمْرُ. وَقِيلَ: الزَّبِيبُ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ أَيْ أَهْلُهَا أَزْكى طَعاماً فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ عَائِدًا عَلَى الْمَدِينَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَذْفٌ فَيَكُونُ عَائِدَةً عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ أَيُّ الْمَآكِلِ.

وَفِي قَوْلِهِ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَمْلَ النَّفَقَةِ وَمَا يَصْلُحُ لِلْمُسَافِرِ هُوَ رَأْيُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ دُونَ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى الْإِنْفَاقَاتِ وَعَلَى مَا فِي أَوْعِيَةِ النَّاسِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَا لِهَذَا السَّفَرِ يَعْنِي سَفَرَ الْحَجِّ إِلَّا شَيْئَانِ شَدُّ الْهِمْيَانِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى الرَّحْمَنِ. وَلْيَتَلَطَّفْ فِي اخْتِفَائِهِ وَتَحَيُّلِهِ مَدْخَلًا وَمَخْرَجًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلْيَتَكَلَّفِ اللُّطْفَ وَالنِّيقَةَ فِيمَا يُبَاشِرُهُ مِنْ أَمْرِ الْمُبَايَعَةِ حَتَّى لَا يُغْبَنَ، أَوْ فِي أَمْرِ التَّخَفِّي حَتَّى لَا يُعْرَفَ انْتَهَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَلْيَتَلَطَّفْ بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ، وَعَنْ قُتَيْبَةَ الْمَيَّالِ وَلْيَتَلَطَّفْ بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَلا يُشْعِرَنَّ أَيْ لَا يَفْعَلُ مَا يُؤَدِّي مِنْ غَيْرِ

ص: 156

قَصْدٍ مِنْهُ إِلَى الشُّعُورِ بِنَا، سُمِّيَ ذَلِكَ إِشْعَارًا مِنْهُ بِهِمْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ. وَقَرَأَ أَبُو صَالِحٍ وَيَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَقُتَيْبَةُ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدٌ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ، وَرَفْعِ أَحَدٍ.

وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ كُفَّارِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ:

وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى أَحَداً لِأَنَّ لَفْظَهُ لِلْعُمُومِ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ الضَّمِيرُ كَقَوْلِهِ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «1» فَفِي حَاجِزِينَ ضَمِيرُ جَمْعٍ عَائِدٌ عَلَى أَحَدٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْأَهْلِ الْمُقَدَّرِ فِي أَيُّها وَالظُّهُورُ هُنَا الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِمْ وَالْعِلْمُ بِمَكَانِهِمْ. وَقِيلَ: الْعُلُوُّ وَالْغَلَبَةُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ يُظْهَرُوا بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالظَّاهِرُ الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ وَكَانَ الْمَلِكُ عَازِمًا عَلَى قَتْلِهِمْ لَوْ ظَفَرَ بِهِمْ، وَالرَّجْمُ كَانَ عَادَةً فِيمَا سَلَفَ لِمَنْ خَالَفَ مِنَ النَّاسِ إِذْ هِيَ أَشَفَى وَلَهُمْ فِيهَا مُشَارَكَةٌ.

وَقَالَ حَجَّاجٌ: مَعْنَاهُ بِالْقَوْلِ يُرِيدُ السَّبَّ وَقَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ أَوْ يُعِيدُوكُمْ يُدْخِلُوكُمْ فِيهَا مُكْرَهِينَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الشَّيْءِ التَّلَبُّسُ بِهِ قَبْلَ إِذْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الصَّيْرُورَةُ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِنْ دَخَلْتُمْ في دينهم وإِذاً حَرْفُ جَزَاءٍ وَجَوَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَكَثِيرًا مَا يَتَّضِحُ تَقْدِيرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ.

وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً.

قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ وَنَظَرَ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا وَتَلَطَّفَ، وَلَمْ يُشْعِرْ بِهِمْ أَحَدًا فَأَطْلَعُ اللَّهُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى حَالِهِمْ وَقِصَّةُ ذَهَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ أَهْلِهَا، وَحَمْلِهِ إِلَى الْمَلِكِ وَادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ كُنُوزِ الْأَقْدَمِينَ، وَحَمْلِ الْمَلِكِ وَمَنْ ذَهَبَ مَعَهُ إِلَيْهِمْ مَذْكُورٌ فِي التَّفَاسِيرِ ذَلِكَ بِأَطْوَلِ مِمَّا جَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَيُقَالُ عَثَرْتُ عَلَى الْأَمْرِ إِذَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ وَأَعْثَرَنِي غَيْرِي إِذَا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً «2» وَمَفْعُولُ أَعْثَرْنا

(1) سورة الحاقة: 69/ 47.

(2)

سورة المائدة: 5/ 107.

ص: 157

مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أَهْلَ مَدِينَتِهِمْ، وَالْكَافُ فِي وَكَذلِكَ لِلتَّشْبِيهِ وَالتَّقْدِيرُ وَكَمَا أَنَمْنَاهُمْ بَعَثْنَاهُمْ لِمَا فِي ذلك الْحِكْمَةِ أَطْلَعَنَا عَلَيْهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي لِيَعْلَمُوا عَائِدٌ عَلَى مَفْعُولِ أَعْثَرْنا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطبري.

ووَعْدَ اللَّهِ هُوَ الْبَعْثُ لِأَنَّ حَالَتَهُمْ فِي نَوْمِهِمْ وَانْتِبَاهَتِهِمْ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُتَطَاوِلَةِ كَحَالِ مَنْ يَمُوتُ ثُمَّ يُبْعَثُ ولا رَيْبَ فِيهَا أَيْ لَا شَكَّ وَلَا ارْتِيَابَ فِي قِيَامِهَا وَالْمُجَازَاةِ فِيهَا، وَكَانَ الَّذِينَ أُعْثِرُوا عَلَى أَهْلِ الْكَهْفِ قَدْ دَخَلَتْهُمْ فِتْنَةٌ فِي أَمْرِ الْحَشْرِ وَبَعْثِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْقُبُورِ، فَشَكَّ فِي ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ وَاسْتَبْعَدُوهُ. وَقَالُوا: تُحْشَرُ الْأَرْوَاحُ فَشَقَّ عَلَى مَلِكِهِمْ وَبَقِيَ حَيْرَانُ لَا يَدْرِي كَيْفَ يُبَيِّنُ أَمْرَهُ لَهُمْ حَتَّى لَبِسَ الْمُسُوحَ وَقَعَدَ عَلَى الرَّمَادِ، وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ فِي حُجَّةٍ وَبَيَانٍ، فَأَعْثَرَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكَهْفِ، فَلَمَّا بَعَثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَبَيَّنَ النَّاسُ أَمْرَهُمْ سُرَّ الْمَلِكُ وَرَجَعَ مَنْ كَانَ شَكَّ فِي أَمْرِ بَعْثِ الْأَجْسَادِ إِلَى الْيَقِينِ، وَإِلَى هَذَا وَقَعْتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ وإِذْ مَعْمُولَةٌ لَأَعْثَرْنَا أَوْ لِيَعْلَمُوا. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ في ولِيَعْلَمُوا عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ آيَةً لَهُمْ دَالَّةً عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَوْلُهُ إِذْ يَتَنازَعُونَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ابْتِدَاءُ خَبَرٍ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ بُعِثُوا عَلَى عَهْدِهِمْ، وَالتَّنَازُعُ إِذْ ذَاكَ فِي أَمْرِ الْبِنَاءِ وَالْمَسْجِدِ لَا فِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ.

وَقِيلَ: التَّنَازُعُ إِنَّمَا هُوَ فِي أَنِ اطَّلَعُوا عَلَيْهِمْ. فَقَالَ بَعْضٌ: هُمْ أَمْوَاتٌ. وَقَالَ بَعْضٌ:

هُمْ أَحْيَاءٌ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ انْطَلَقُوا مَعَ تَمْلِيخَا إِلَى الْكَهْفِ وَأَبْصَرُوهُمْ ثُمَّ قَالَتِ الْفِتْيَةُ لِلْمَلِكِ: نَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ وَنُعِيذُكَ بِهِ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَتَوَفَّى اللَّهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَلْقَى الْمَلِكُ عَلَيْهِمْ ثِيَابَهُ، وَأَمَرَ فَجُعِلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ تَابُوتٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَرَآهُمْ فِي الْمَنَامِ كَارِهِينَ لِلذَّهَبِ فَجَعَلَهَا مِنَ السَّاجِ، وَبُنِيَ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ كَلَامِ الْمُتَنَازِعِينَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْقَوْلِ أَيْ أَمَرُوا بِالْبِنَاءِ وَأَخْبَرُوا بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَأَنَّهُمْ تَذَاكَرُوا أَمْرَهُمْ وَتَنَاقَلُوا الْكَلَامَ فِي أَنْسَابِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فَلَمَّا لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ قَالُوا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى رَدُّ الْقَوْلِ الْخَائِضِينَ فِي حَدِيثِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَنَازِعِينَ أَوْ مِنَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا فِيهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالَّذِينَ غُلِبُوا. قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْوُلَاةُ.

رُوِيَ أَنَّ طَائِفَةً ذَهَبَتْ إِلَى أَنْ يَطْمِسَ الْكَهْفَ عَلَيْهِمْ وَيُتْرَكُوا فِيهِ مُغَيَّبِينَ، وَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْغَالِبَةُ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً فَاتَّخَذُوهُ.

وَرُوِيَ أَنَّ الَّتِي دَعَتْ إِلَى الْبُنْيَانِ كَانَتْ كَافِرَةً أَرَادَتْ بِنَاءَ بِيعَةٍ أَوْ مَصْنَعٍ لِكُفْرِهِمْ

ص: 158

فَمَانَعَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَبَنَوْا عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ: غُلِبُوا بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي أَرَادَتِ الْمَسْجِدَ كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ لَا يُبْنَى عَلَيْهِمْ شَيْءٌ وَلَا يَعْرِضُ لِمَوْضِعِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ طَائِفَةً أُخْرَى مُؤْمِنَةً أَرَادَتْ أَنْ لَا يُطْمَسَ الْكَهْفُ، فَلَمَّا غُلِبَتِ الْأُولَى عَلَى أَنْ يَكُونَ بُنْيَانٌ وَلَا بُدَّ قَالَتْ يَكُونُ مَسْجِداً فَكَانَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ اللَّهَ عَمَّى عَلَى النَّاسِ أَمْرَهُمْ وَحَجَبَهُمْ عَنْهُ فَذَلِكَ دُعَاءٌ إِلَى بِنَاءِ الْبُنْيَانِ لِيَكُونَ مَعْلَمًا لَهُمْ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي سَيَقُولُونَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَهُمُ الْمُتَنَازِعُونَ فِي حَدِيثِهِمْ قَبْلَ ظُهُورِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِمَا كَانَ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْمِهِمْ فِي عَدَدِهِمْ وَكَوْنُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى مَا قُلْنَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ تَنَاظَرُوا مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي عَدَدِهِمْ. فَقَالَتِ الْمَلْكَانِيَّةُ: الْجُمْلَةَ الْأُولَى، وَالْيَعْقُوبِيَّةُ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ الْجُمْلَةَ الثَّالِثَةَ، وَهَذَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ السَّيِّدَ قَالَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى وَكَانَ يَعْقُوبِيًّا، وَالْعَاقِبُ قَالَ الثَّانِيَةَ وَكَانَ نَسْطُورِيًّا، وَالْمُسْلِمُونَ قَالُوا الثَّالِثَةَ وَأَصَابُوا وَعَرَفُوا ذَلِكَ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَتَكُونُ الضَّمَائِرُ فِي سَيَقُولُونَ وَيَقُولُونَ عَائِدًا بَعْضُهَا عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ، وَبَعْضُهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.

وَعَنْ عَلِيٍّ هُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ أَسْمَاؤُهُمْ تَمْلِيخَا، وَمَكْشَلْبِينَا وَمَشَلْبِينَا هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ يَمِينِ الْمَلِكِ، وَكَانَ عَنْ يَسَارِهِ مَرْنُوشُ، وَدَبَرْنُوشُ، وَشَاذَنُوشُ وَكَانَ يستشير هَؤُلَاءِ السِّتَّةَ فِي أَمْرِهِ، وَالسَّابِعُ الرَّاعِي الَّذِي وَافَقَهُمْ، هَرَبُوا مِنْ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسُ وَاسْمُ مَدِينَتِهِمْ أَفْسُوسُ وَاسْمُ كَلْبِهِمْ قِطْمِيرُ انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ سَيَقُولُونَ يُرَادُ بِهِ أَهْلُ التَّوْرَاةِ مِنْ مُعَاصِرِي محمد صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ أَهْلِ الْكَهْفِ هَذَا الِاخْتِلَافُ الْمَنْصُوصُ انْتَهَى.

قِيلَ: وَجَاءَ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ فِي الْكَلَامِ طَيٌّ وَإِدْمَاجٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا أَجَبْتَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ وَقَصَصْتَ عَلَيْهِمْ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ فَسَلْهُمْ عَنْ عَدَدِهِمْ فَإِنَّهُمْ إِذَا سَأَلْتَهُمْ سَيَقُولُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ ثَلَاثَّ بِإِدْغَامِ الثَّاءِ فِي التَّاءِ، وَحَسُنَ ذَلِكَ لِقُرْبِ مَخْرِجِهِمَا وَكَوْنِهِمَا مَهْمُوسَيْنِ، لِأَنَّ السَّاكِنَ الَّذِي قَبْلَ الثَّاءِ مِنْ حُرُوفِ اللِّينِ فَحَسُنَ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ لَمْ يَأْتِ بِالسِّينِ فِيهِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَدَخَلَ فِي الِاسْتِقْبَالِ، أَوْ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ الَّذِي هُوَ صَالِحٌ لَهُ. وَقَرَأَ شِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِفَتْحِ مِيمٍ خَمْسَةٌ وَهِيَ لُغَةٌ كَعَشَرَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمِيمِ وَبِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ، وَعَنْهُ أَيْضًا إِدْغَامُ التَّنْوِينِ فِي السِّينِ بِغَيْرِ غُنَّةٍ.

ص: 159

رَجْماً بِالْغَيْبِ رَمْيًا بِالشَّيْءِ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ أَوْ ظَنًّا، اسْتُعِيرَ مِنَ الرَّجْمِ كَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْمِي الْمَوْضِعَ الْمَجْهُولَ عِنْدَهُ بِظَنِّهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ يَرْجُمُ بِهِ عَسَى أَنْ يُصِيبَ، وَمِنْهُ التُّرْجُمَانُ وَتَرْجَمَةُ الْكِتَابِ. وَقَوْلُ زُهَيْرٍ:

وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمْ

وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ

أَيِ الْمَظْنُونِ، وَأَتَتْ هَذِهِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ قَائِلَ تِلْكَ الْمَقَالَتَيْنِ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْمِينِ وَالْحَدْسِ، وَجَاءَتِ الْمَقَالَةُ الثَّالِثَةُ خَالِيَةً عَنْ هَذَا الْقَيْدِ مُشْعِرَةً أَنَّهَا هِيَ الْمَقَالَةُ الصَّادِقَةُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَانْتَصَبَ رَجْماً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ يَرْجُمُونَ بِذَلِكَ، أو لتضمين سَيَقُولُونَ ويَقُولُونَ مَعْنَى يَرْجُمُونَ، أَوْ لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ أَيْ قَالُوا ذَلِكَ لِرَمْيِهِمْ بِالْخَبَرِ الْخَفِيِّ أَوْ لِظَنِّهِمْ ذَلِكَ، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الرَّجْمُ بالغيب.

وثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ صِفَةٌ أَيْ هُمْ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا أَشْخَاصًا لِأَنَّ رابِعُهُمْ اسْمُ فَاعِلٍ أُضِيفَ إِلَى الضَّمِيرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ رَبَّعَهُمْ أَيْ جَعَلَهُمْ أَرْبَعَةً وَصَيَّرَهُمْ إِلَى هَذَا الْعَدَدِ، فَلَوْ قَدَّرَ ثَلاثَةٌ رِجَالٌ اسْتَحَالَ أَنْ يَصِيرَ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ أَرْبَعَةً لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ، وَالْوَاوُ فِي وَثامِنُهُمْ لِلْعَطْفِ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَيْ يَقُولُونَ هُمْ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فَأَخْبَرُوا أَوَّلًا بِسَبْعَةِ رِجَالٍ جَزْمًا، ثُمَّ أَخْبَرُوا إِخْبَارًا ثَانِيًا أَنَّ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ بِخِلَافِ الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَصَفَ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ بِصِفَةٍ، وَلَمْ يَعْطِفِ الْجُمْلَةَ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَابْنِ خَالَوَيْهِ أَنَّهَا وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، وَأَنَّ قُرَيْشًا إِذَا تَحَدَّثْتُ تَقُولُ سِتَّةٌ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ تِسْعَةٌ فَتُدْخِلُ الْوَاوَ فِي الثَّمَانِيَةِ، وَكَوْنُهُمَا جُمْلَتَيْنِ مَعْطُوفٌ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى مُؤْذِنٌ بِالتَّثْبِيتِ فِي الْإِخْبَارِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِشَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِشَيْءٍ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنِ الْإِخْبَارِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِيهِ رَجْماً بِالْغَيْبِ ولم يجىء فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ بِشَيْءٍ يقدح فيهما. وقرىء وَثَامِنُهُمْ كَالِبُهُمْ أَيْ صَاحِبُ كَلْبِهِمْ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةُ رِجَالٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَأَوَّلِ قَوْلِهِ وَكَلْبُهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَصَاحِبُ كَلْبِهِمْ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَثامِنُهُمْ لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِمْ بَلْ لِقَوْلِهِمْ هُوَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ، وَإِذَا كَانَ اسْتِئْنَافًا مِنَ اللَّهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةٌ بِالْكَلْبِ، وَأَمَّا رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وسادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْكِيِّ مِنْ قَوْلِهِمْ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ

ص: 160

الْجُمْلَتَيْنِ صِفَةٌ، وَإِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ ثَمَانِيَةٌ بِالْكَلْبِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا هَذِهِ الْوَاوِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ وَلِمَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا دُونَ الْأُولَتَيْنِ؟ قُلْتُ: هِيَ الْوَاوُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ كَمَا تَدْخُلَ عَلَى الْوَاقِعَةِ حَالًا عَنِ الْمَعْرِفَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: جَاءَنِي رَجُلٌ وَمَعَهُ آخَرُ، وَمَرَّرْتُ بِزَيْدٍ وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَعَلَا وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ «1» وَفَائِدَتُهَا تَوْكِيدُ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى اتِّصَافِهِ أَمْرٌ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهِيَ الْوَاوُ الَّتِي آذَنَتْ بِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قَالُوهُ عَنْ ثَبَاتِ عِلْمٍ وَطُمَأْنِينَةِ نَفْسِ وَلَمْ يَرْجُمُوا بِالظَّنِّ كَمَا غَيْرُهُمُ انْتَهَى.

وَكَوْنُ الْوَاوِ تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً دَالَّةً عَلَى لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ وَعَلَى ثُبُوتِ اتِّصَالِهِ بِهَا شَيْءٌ لَا يَعْرِفُهُ النَّحْوِيُّونَ، بَلْ قَرَّرُوا أَنَّهُ لَا تَعْطِفُ الصِّفَةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِجُمْلَةٍ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى إِلَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَعَانِي حَتَّى يَكُونَ الْعَطْفُ دَالًّا عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ هَذَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ، وَأَمَّا الْجُمَلُ الَّتِي تَقَعُ صِفَةً فَهِيَ أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِيهَا، وَقَدْ رَدُّوا عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ لِمَعْنًى وَلَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ هُوَ عَلَى أَنَّ وَلَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ لِمَعْنًى، وَأَنَّ الْوَاوَ دَخَلَتْ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَيَأْكُلُ عَلَى تَقْدِيرِ الصِّفَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا وَلَها فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَيَكْفِي رَدًّا لِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ النَّحْوِ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مَقَالَتِهِمْ وَاضْطِرَابِهِمْ فِي عَدَدِهِمْ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أَيْ لَا يُخْبِرُ بِعَدَدِهِمْ إِلَّا مَنْ يَعْلَمُهُمْ حَقِيقَةً وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وَالْمُثْبَتُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْأَعْلَمِيَّةُ وَفِي حَقِّ الْقَلِيلِ الْعَالَمِيَّةُ فَلَا تَعَارُضَ. قِيلَ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْعُلَمَاءِ وَعِلْمُ الْقَلِيلِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، ثُمَّ نَهَاهُ تَعَالَى عَنِ الْجِدَالِ فِيهِمْ أَيْ فِي عِدَّتِهِمْ، وَالْمِرَاءِ وَسَمَّى مُرَاجَعَتَهُ لَهُمْ مِراءً عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لِمُمَارَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ ظَاهِرًا أَيْ غَيْرُ مُتَعَمِّقٍ فِيهِ وَهُوَ إن نقص عَلَيْهِمْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ فَحَسْبُ مِنْ غَيْرِ تَجْهِيلٍ وَلَا تَعْنِيفٍ كَمَا قَالَ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «2» . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِراءً

(1) سورة الحجر: 15/ 4.

(2)

سورة النحل: 16/ 125.

ص: 161

ظاهِراً هُوَ قَوْلُكَ لَهُمْ لَيْسَ كَمَا تَعْلَمُونَ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ إِلَّا بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِلَّا جِدَالَ مُتَيَقِّنٍ عَالِمٍ بِحَقِيقَةِ الْخَبَرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَلْقَى إِلَيْكَ مَا لَا يَشُوبُهُ بَاطِلٌ.

وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: ظاهِراً يَشْهَدُهُ النَّاسُ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: ظاهِراً ذَاهِبًا بِحُجَّةِ الْخَصْمِ.

وَأَنْشَدَ:

وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا أَيْ ذَاهِبٌ، ثُمَّ نَهَاهُ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قِصَّتِهِمْ لَا سُؤَالَ مُتَعَنِّتٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا أَمَرْتُ بِهِ مِنَ الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَلَا سُؤَالَ مُسْتَرْشِدٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرْشَدَكَ بِأَنْ أَوْحَى إِلَيْكَ قِصَّتَهُمْ، ثُمَّ نَهَاهُ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ شَيْئًا إِلَّا وَيَقْرِنُ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ

فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُ عليه السلام حِينَ سَأَلَهُ قُرَيْشٌ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَالْخَضِرِ وَالرُّوحِ قَالَ: «غَدًا أخبركم» . وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَتَأَخَّرَ عَنْهُ الْوَحْيُ مُدَّةً. قِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ

وإِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْقَوْلِ، فَيَكُونُ مِنَ الْمَقُولِ وَلَا يَنْهَاهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَا يمكن يَنْهِيَ عَنْهُ، فَاحْتِيجَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَى تَقْدِيرٍ.

فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ وَيُحَسِّنُهُ الْإِيجَازُ تَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ تَقُولَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَوْ إِلَّا أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ تَذْكُرَ مَشِيئَةَ اللَّهِ فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّهْيِ لَا بِقَوْلِهِ إِنِّي فاعِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إِنِّي فاعِلٌ كَذَا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ كَانَ مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ تَعْتَرِضَ مَشِيئَةُ اللَّهِ دُونَ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ مَا لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلنَّهْيِ وَتَعَلُّقُهُ بِالنَّهْيِ عَلَى وَجْهَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: وَلَا تَقُولَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقُولَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيهِ.

وَالثَّانِي: وَلَا تَقُولَنَّهُ إِلَّا بِأَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَيْ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ إِلَّا مُلْتَبِسًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ قَائِلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فِي مَعْنَى كَلِمَةٍ ثَانِيَةٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَقُولَنَّهُ أَبَدًا وَنَحْوَهُ وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا «1» لِأَنَّ عَوْدَهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ مِمَّا لَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَهَذَا نَهْيُ تَأْدِيبٍ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ حِينَ

قَالَ: «ائْتُونِي غَدًا أُخْبِرْكُمْ» .

وَلَمْ يَسْتَثْنِ انْتَهَى.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلا تَقُولَنَّ وحكاه الطبري، ورد

(1) سورة الأعراف: 7/ 89. [.....]

ص: 162

عَلَيْهِ وَهُوَ مِنَ الْفَسَادِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُحْكَى انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ:

ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالنَّهْيِ، وَتَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ، وَلَيْسَتِ الْآيَةُ فِي الْأَيْمَانِ وَالظَّاهِرُ أَمْرُهُ تَعَالَى بِذِكْرِ اللَّهِ إِذَا عَرَضَ لَهُ نِسْيَانٌ، وَمُتَعَلِّقُ النِّسْيَانِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الذِّكْرِ. فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا تَرَكْتَ بَعْضَ مَا أَمَرَكَ بِهِ. وَقِيلَ وَاذْكُرْهُ إِذَا اعْتَرَاكَ النِّسْيَانُ لِيُذَكِّرَكَ الْمَنْسِيَّ، وَقَدْ حَمَلَ قَتَادَةُ ذَلِكَ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِهَا. وَقِيلَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِذا نَسِيتَ كلمة الاستثناء تَشْدِيدًا فِي الْبَعْثِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهَا. وَقِيلَ: وَاذْكُرْ مَشِيئَةَ رَبَّكَ إِذَا فَرَطَ مِنْكَ نِسْيَانٌ لِذَلِكَ أَيْ إِذا نَسِيتَ كلمة الاستثناء ثُمَّ تَنَبَّهْتَ لَهَا، فَتَدَارَكْتَهَا بِالذِّكْرِ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ:

وَلَوْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بَعْدَ تَقَضِّي النِّسْيَانِ كَمَا تَقُولُ: اذْكُرْ لِعَبْدِ اللَّهِ إِذَا صَلَّى صَاحِبُكَ أَيْ إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ.

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا إِلَى الشَّيْءِ الْمَنْسِيِّ أَيِ اذْكُرْ رَبَّكَ عِنْدَ نِسْيَانِهِ بِأَنْ تقول عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِشَيْءٍ آخَرَ بَدَلَ هَذَا الْمَنْسِيِّ أَقْرَبَ مِنْهُ رَشَداً وَأَدْنَى خَيْرًا أَوْ مَنْفَعَةً، وَلَعَلَّ النِّسْيَانَ كَانَ خَيْرَةً كَقَوْلِهِ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى بِنَاءِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَمَعْنَاهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُؤْتِينِي مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجِ عَلَى أَنِّي نَبِيٌّ صَادِقٌ مَا هُوَ أَعْظَمُ فِي الدَّلَالَةِ وَأَقْرَبُ رَشَدًا مِنْ بِنَاءِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ آتَاهُ مِنْ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَدَلُّ انْتَهَى.

وَهَذَا تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ قَالَ الْمَعْنَى: عَسى أَنْ يُيَسِّرَ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى نُبُوَّتِي أَقْرَبَ مِنْ دَلِيلِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: عَسى أَنْ يُعَرِّفَنِي جَوَابَ مَسَائِلِكُمْ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّدْتُهُ لَكُمْ وَيُعَجِّلَ لِي مِنْ جِهَتِهِ الرَّشَادَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْكُوفِيُّ الْمُفَسِّرُ: هِيَ بِأَلْفَاظِهَا مِمَّا أُمِرَ أَنْ يَقُولَهَا كُلُّ مَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ وَإِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِنِسْيَانِ الاستثناء.

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً.

الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَبِثُوا الْآيَةَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ نِيَامًا فِي الْكَهْفِ إِلَى أَنْ أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً «2» وَلَمَّا تَحَرَّرَ هَذَا الْعَدَدُ بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ قُلِ اللَّهُ

(1) سورة البقرة: 2/ 106.

(2)

سورة الكهف: 18/ 11.

ص: 163

أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا فَخَبَرُهُ هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ رَيْبٌ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِما لَبِثُوا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَدَّةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِما لَبِثُوا إِشَارَةٌ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي بَعْدَ الْإِطْلَاعِ عَلَيْهِمْ إِلَى مُدَّةِ الرسول صلى الله عليه وسلم.

وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ وَازْدَادُوا تِسْعاً كَانَتِ التِّسْعَةُ مُنْبَهِمَةً هِيَ السَّاعَاتُ وَالْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ وَالْأَعْوَامُ، وَاخْتَلَفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَأَمَرَهُ تَعَالَى بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ يَعْنِي فِي التِّسْعِ وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّهُ إِذَا سَبَقَ عَدَدٌ مُفَسِّرٌ وَعُطِفَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُفَسَّرْ حُمِلَ تَفْسِيرُهُ عَلَى السَّابِقِ.

وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ شَمْسِيَّةٌ، وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لِلْعَرَبِ زِيدَتِ التِّسْعُ إِذْ حِسَابُ الْعَرَبِ هُوَ بِالْقَمَرِ لِاتِّفَاقِ الْحِسَابَيْنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ: لَبِثُوا إِخْبَارٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالُوا لَبِثُوا وَعَلَى غَيْرِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ سَيَقُولُونَ «1» .

ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ بِما لَبِثُوا رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَفْنِيدًا لِمَقَالَتِهِمْ. قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمُتَنَازِعِينَ فِي أَمْرِهِمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مُقْتَضَى سِيَاقِ الْآيَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا

جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْغُيُوبِ الَّتِي هُوَ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِائَةٌ بِالتَّنْوِينِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى الْبَدَلِ أَوْ عَطْفِ الْبَيَانِ. وَقِيلَ: عَلَى التَّفْسِيرِ وَالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفُ بَيَانٍ لِثَلَاثِمِائَةٍ. وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ قَوْمًا أَجَازُوا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مِائَةٍ لِأَنَّ مِائَةً فِي مَعْنَى مِئَاتٍ، فَأَمَّا عَطْفِ الْبَيَانِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا نَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ فَالْمَحْفُوظُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ الْمَشْهُورُ أَنَّ مِائَةً لَا يُفَسَّرُ إِلَّا بِمُفْرَدٍ مَجْرُورٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ إِذَا عَاشَ الْفَتَى مِائَتَيْنِ عَامًا مِنَ الضَّرُورَاتِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ كَوْنُ سِنِينَ جَمْعًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَطَلْحَةُ وَيَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وخلف وابن سعدان وابن عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ مِائَةً بِغَيْرِ تَنْوِينٍ مُضَافًا إِلَى سِنِينَ أَوْقَعَ الْجَمْعَ مَوْقِعَ الْمُفْرَدِ، وَأَنْحَى أَبُو حَاتِمٍ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ.

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذِهِ تُضَافُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى الْمُفْرَدِ، وَقَدْ تُضَافُ إِلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ سَنَةً وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: سُنُونَ بِالْوَاوِ عَلَى إِضْمَارِ هِيَ سُنُونَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ اللُّؤْلُؤَيِّ عَنْهُ تِسْعاً بِفَتْحِ التَّاءِ كَمَا قَالُوا عَشْرَ.

ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِصَاصَهُ بِمَا غاب في السموات وَالْأَرْضِ وَخَفِيَ فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِهَا، وَجَاءَ بِمَا دَلَّ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ إِدْرَاكِهِ لِلْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ فِي الإدراك

(1) سورة الكهف: 18/ 22.

ص: 164

خَارِجٌ عَنْ حَدِّ مَا عَلَيْهِ إِدْرَاكُ السَّامِعِينَ وَالْمُبْصِرِينَ، لِأَنَّهُ يُدْرِكُ أَلْطَفَ الْأَشْيَاءِ وَأَصْغَرَهَا كَمَا يُدْرِكُ أَكْبَرَهَا حَجْمًا وَأَكْثَفَهَا جِرْمًا، وَيُدْرِكُ الْبَوَاطِنَ كَمَا يُدْرِكُ الظَّوَاهِرَ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَلْ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ وَهَلْ أَسْمِعْ وأَبْصِرْ أَمْرَانِ حَقِيقَةً أَمْ أَمْرَانِ لَفْظًا مَعْنَاهُمَا إِنْشَاءُ التَّعَجُّبِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مُقَرَّرٌ فِي النَّحْوِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يكون الْمَعْنَى أَبْصِرْ بِدِينِ اللَّهِ وَأَسْمِعْ أَيْ بَصِّرْ بِهَدْيِ اللَّهِ وَسَمِّعْ فَتَرْجِعُ الْهَاءُ إِمَّا عَلَى الْهُدَى وَإِمَّا عَلَى اللَّهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَرَأَ عِيسَى: أَسْمِعْ بِهِ وَأَبْصِرْ عَلَى الْخَبَرِ فِعْلًا مَاضِيًا لَا عَلَى التَّعَجُّبِ، أَيْ أَبْصِرْ عِبَادَهُ بِمَعْرِفَتِهِ وَأَسْمِعْهُمْ، وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مَا لَهُمْ قال الزمخشري: لأهل السموات وَالْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ مُتَوَلٍّ لِأُمُورِهِمْ وَلا يُشْرِكُ فِي قَضَائِهِ أَحَداً مِنْهُمْ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ على أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَيْ هَذِهِ قُدْرَتُهُ وَحْدَهُ. وَلَمْ يُوالِهِمْ غَيْرَهُ يَتَلَطَّفُ بِهِمْ وَلَا أَشْرَكَ مَعَهُ أَحَدًا فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُعَاصِرِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْكُفَّارِ وَمُشَاقِّيهِ، وَتَكُونُ الْآيَةُ اعْتِرَاضًا بِتَهْدِيدٍ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُؤْمِنِي أهل السموات وَالْأَرْضِ أَيْ لَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ يَتَوَلَّى تَدْبِيرَهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ أَعْلَمَ مِنْهُ؟ أَوْ كَيْفَ يَعْلَمُونَ مِنْ غَيْرِ إِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ؟

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يُشْرِكُ بِالْيَاءِ عَلَى النَّفْيِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ. قَالَ يَعْقُوبُ: لَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَزَيْدٌ وَحُمَيْدٌ ابْنُ الْوَزِيرِ عَنْ يَعْقُوبَ وَالْجُعْفِيِّ وَاللُّؤْلُؤِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: وَلَا تُشْرِكْ بِالتَّاءِ وَالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ.

وَلَمَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ أَمَرَهُ بِأَنْ يَقُصَّ وَيَتْلُوَ عَلَى مُعَاصِرِيهِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابِهِ فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَفِي غَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ لا مُبَدِّلَ له ولا مُبَدِّلَ عام ولِكَلِماتِهِ عَامٌّ أَيْضًا فَالتَّخْصِيصُ إِمَّا فِي لَا مُبَدِّلَ أَيْ لَا مُبَدِّلَ لَهُ سِوَاهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ «1» وَإِمَّا فِي كَلِمَاتِهِ أَيْ لِكَلِماتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْخَبَرَ لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَ غَيْرَ الْخَبَرِ وَقَعَ النَّسْخُ فِي بَعْضِهِ، وَفِي أَمْرِهِ تَعَالَى أَنْ يَتْلُوَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَبْدِيلِ الْمُتَنَازِعِينَ فِي أَهْلِ الْكَهْفِ، وَتَحْرِيفِ أَخْبَارِهِمْ وَالْمُلْتَحَدُ الْمُلْتَجَأُ الَّذِي تَمِيلُ إِلَيْهِ وتعدل.

(1) سورة النمل: 16/ 101.

ص: 165

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً.

قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لَوْ أَبْعَدْتَ هَؤُلَاءِ عَنْ نَفْسِكَ لَجَالَسْنَاكَ وَصَحَبْنَاكَ، يَعْنُونَ عَمَّارًا وَصُهَيْبًا وَسَلْمَانَ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَبِلَالًا وَنَحْوَهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ ريح جبابهم تُؤْذِينَا، فَنَزَلَتْ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ

الْآيَةَ، وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ عُيَيْنَةُ بْنُ حصين وَالْأَقْرَعُ وَذَوُوهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ فَنَزَلَتْ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مَدَنِيَّةٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَفَعَلَ الْمُؤَلَّفَةُ فِعْلَ قُرَيْشٍ فَرَدَّ بِالْآيَةِ عَلَيْهِمْ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أَيِ احْبِسْهَا وَثَبِّتْهَا. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:

فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً

تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ

وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ صَبْرِ الْحَيَوَانِ أي حبسه للرمي

، ومَعَ تَقْتَضِي الصُّحْبَةَ وَالْمُوافَقَةَ وَالْأَمْرُ بِالصَّبْرِ هُنَا يَظْهَرُ مِنْهُ كَبِيرُ اعْتِنَاءٍ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُمِرَ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ. وَهِيَ أَبْلَغُ مِنَ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ «1» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ:

بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ أَيْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ دَائِمًا، وَيَكُونُ مِثْلَ: ضَرَبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ يُرِيدُ جَمِيعَ بَدَنِهِ لَا خُصُوصَ الْمَدْلُولِ بِالْوَضْعِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا فِي الْأَنْعَامِ.

وَلا تَعْدُ أَيْ لَا تَصْرِفْ عَيْناكَ النَّظَرَ عَنْهُمْ إِلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَعَدَا مُتَعَدٍّ تَقُولُ:

عَدَا فُلَانٌ طَوْرَهُ وَجَاءَ الْقَوْمُ عَدَا زَيْدًا، فَلِذَلِكَ قَدَّرْنَا الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا لِيَبْقَى الْفِعْلُ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ التَّعْدِيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِعْنَ لِتَضْمِينِ عَدَا مَعْنَى نَبَا وَعَلَا فِي قَوْلِكَ: نَبَتْ عَنْهُ عَيْنُهُ، وَعَلَتْ عَنْهُ عَيْنُهُ إِذَا اقْتَحَمْتَهُ وَلَمْ تَعْلَقْ بِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ غَرَضٍ فِي هَذَا التَّضْمِينِ؟ وَهَلَّا قِيلَ وَلَا تَعْدُهُمْ عَيْنَاكَ أَوْ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ. قُلْتُ: الْغَرَضُ فِيهِ إِعْطَاءُ مَجْمُوعِ مَعْنَيَيْنِ. وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ إِعْطَاءِ مَعْنًى فَذٍّ، أَلَا تَرَى كَيْفَ رَجَعَ الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِكَ وَلَا تَقْتَحِمُهُمْ عَيْنَاكَ مُجَاوَزِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ وَنَحْوَ قَوْلِهِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «2» أَيْ وَلَا تَضُمُّوهَا إِلَيْهَا آكِلِينَ لَهَا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّضْمِينِ لَا يَنْقَاسُ عند

(1) سورة الأنعام: 6/ 52.

(2)

سورة النساء: 4/ 2.

ص: 166

الْبَصْرِيِّينَ وَإِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى مَدْلُولِهِ الْوَضْعِيِّ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوْلَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَلا تَعْدُ مِنْ أَعْدَى، وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ عِيسَى وَالْأَعْمَشِ وَلا تَعْدُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَقْلًا بِالْهَمْزَةِ وَبِنَقْلِ الْحَشْوِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

فَعُدْ عَمَّا تَرَى إِذْ لَا ارْتِجَاعَ لَهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَعُدْ هَمَّكَ عَمَّا تَرَى انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا عَدَّيْتُهُ بِالتَّضْعِيفِ كَمَا كَانَ فِي الْأُولَى بِالْهَمْزِ، وَمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلِ الْهَمْزَةُ وَالتَّكْثِيرُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَيْسَا لِلتَّعْدِيَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمُوافَقَةِ أَفْعَلَ وَفُعِلَ لِلْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُجَرَّدًا مُتَعَدٍّ وَقَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُقَالُ عَدَاهُ إِذَا جَاوَزَهُ، ثُمَّ قَالَ:

وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِعْنَ لِلتَّضْمِينِ وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّضْمِينِ هُوَ مَجَازٌ وَلَا يَتَّسِعُونَ فِيهِ إِذَا ضَمَّنُوهُ فَيُعَدُّونَهُ بِالْهَمْزَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ، وَلَوْ عُدِّيَ بِهِمَا وَهُوَ مُتَعَدٍّ لَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ نَاصِبٌ مَفْعُولًا وَاحِدًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُعَدًّى بِهِمَا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْحَالِ: إِنْ قُدِّرَ عَيْناكَ فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ تُرِيدَانِ، وَإِنْ قُدِّرَ الْكَافُ فَمَجِيءُ الْحَالِ مِنَ الْمَجْرُورِ بِالْإِضَافَةِ مِثْلُ هَذَا فِيهَا إِشْكَالٌ لِاخْتِلَافِ الْعَامِلِ فِي الْحَالِ وَذِي الْحَالِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ جُزْءًا أَوْ كَالْجُزْءِ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ هُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ نَهْيُهُ عليه الصلاة والسلام عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَالْمَيْلِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِقَوْلِهِ عَيْناكَ وَالْمَقْصُودُ هُوَ لِأَنَّهُمَا بِهِمَا تَكُونُ الْمُرَاعَاةُ لِلشَّخْصِ وَالتَّلَفُّتُ لَهُ، وَالْمَعْنَى وَلا تَعْدُ أَنْتَ عَنْهُمْ النَّظَرَ إِلَى غَيْرِهِمْ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ مَنْ جَعَلْنَا قَلْبَهُ غَافِلًا عَنِ الذِّكْرِ بِالْخِذْلَانِ أَوْ وَجَدْنَاهُ غَافِلًا عَنْهُ كَقَوْلِكَ: أَجْبَنْتُهُ وَأَفْحَمْتُهُ وَأَبْخَلْتُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ كَذَلِكَ، أَوْ مِنْ أَغْفَلَ إِبِلَهُ إِذَا تَرَكَهَا بِغَيْرِ سِمَةٍ أَيْ لَمْ نَسِمْهُ بِالذِّكْرِ، وَلَمْ نَجْعَلْهُمْ مِنَ الَّذِينَ كَتَبْنَا فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ تَوَهُّمَ الْمُجْبِرَةِ بِقَوْلِهِ وَاتَّبَعَ هَواهُ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالتَّأْوِيلُ الْآخَرُ تَأْوِيلُ الرُّمَّانِيِّ وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا قَالَ: لَمْ نَسِمْهُ بِمَا نَسِمُ بِهِ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُبَيَّنُ بِهِ، فَلَاحُهُمْ كَمَا قَالَ: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِعِيرٌ غُفْلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سِمَةٌ، وَكِتَابٌ غُفْلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِعْجَامٌ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْفَلَهُ حَقِيقَةً وَهُوَ خَالِقُ الضَّلَالِ فِيهِ وَالْغَفْلَةِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَخْلَيْنَاهُ عَنِ الذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:

ص: 167

شَغَلْنَا قَلْبَهُ بِالْكُفْرِ وَغَلَبَةِ الشَّقَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بمن أَغْفَلْنا كُفَّارُ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ:

عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ.

وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ فَائِدٍ وَمُوسَى الْأَسْوَارِيُّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ أَغْفَلْنا بِفَتْحِ اللَّامِ قَلْبَهُ بِضَمِّ الْبَاءِ أَسْنَدَ الْأَفْعَالَ إِلَى الْقَلْبِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي مَنْ ظَنَنَّا غَافِلِينَ عَنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

حَسِبْنَا قَلْبَهُ غَافِلِينَ مِنْ أَغْفَلْتُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ غَافِلًا انْتَهَى. وَاتَّبَعَ هَواهُ فِي طَلَبِ الشَّهَوَاتِ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: ضَيَاعًا. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: سَرَفًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَتْرُوكًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ. قِيلَ: وَهُوَ قَوْلُ عُتْبَةَ إِنْ أَسْلَمْنَا أَسْلَمَ النَّاسُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْفَرَطُ الْعَاجِلُ السَّرِيعُ، كَمَا قَالَ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «1» .

وَقِيلَ: نَدَمًا. وَقِيلَ: بَاطِلًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُخَالِفًا لِلْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْفَرَطُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّفْرِيطِ وَالتَّضْيِيعِ، أَيْ أَمْرُهُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِفْرَاطِ وَالْإِسْرَافِ أَيْ أَمْرُهُ وهَواهُ الَّذِي هُوَ بِسَبِيلِهِ انتهى.

والْحَقُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْحَقُّ أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ أَوْ هَذَا الْإِعْرَاضُ عَنْكُمْ وَتَرْكُ الطَّاعَةِ لَكُمْ وَصَبْرُ النَّفْسِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحَقُّ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالْمَعْنَى جَاءَ الْحَقُّ وَزَاحَتِ الْعِلَلُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اخْتِيَارُكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مَا شِئْتُمْ مِنَ الْأَخْذِ فِي طَرِيقِ النَّجَاةِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْهَلَاكِ، وَجِيءَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَالتَّخْيِيرِ لِأَنَّهُ لَمَّا مُكِّنَ مِنَ اخْتِيَارِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَكَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَتَخَيَّرَ مَا شَاءَ مِنَ النَّجْدَيْنِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرَهُ مِنْ رَبِّكُمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ التَّوْحِيدُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: أَيِ الْهُدَى وَالتَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ مِنْ عِنْدِ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُوَفِّقُهُ فَيُؤْمِنُ، وَيَضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَخْذُلُهُ فَيَكْفُرُ لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَيِ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، وَهَذَا الَّذِي لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ مَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2» وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ بِشَاءَ عَائِدٌ عَلَى مِنْ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ بِالْإِيمَانِ آمَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا انْتَهَى. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ فِرْقَةٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي شاءَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ تَابِعَيْنِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ جَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ حَتَّى كَأَنَّهُ تَحَتَّمَ وُقُوعُهُ مَأْمُورٌ بِهِ مَطْلُوبٌ مِنْهُ. وَقَرَأَ أبو السمال

(1) سورة الإسراء: 17/ 11.

(2)

سورة الإنسان: 76/ 30.

ص: 168

قُعْنُبُ وَقُلَ الْحَقَّ بِفَتْحِ اللَّامِ حَيْثُ وَقَعَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَذَلِكَ رَدِيءٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ انْتَهَى. وَعَنْهُ أَيْضًا ضَمُّ اللَّامِ حَيْثُ وَقَعَ كَأَنَّهُ إِتْبَاعٌ لِحَرَكَةِ الْقَافِ. وَقَرَأَ أَيْضًا الْحَقُّ بِالنَّصْبِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: هُوَ عَلَى صِفَةِ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى مَصْدَرِهِ وَإِنْ لَمْ يُذْكُرْ فَيَنْصِبُهُ مَعْرِفَةً كَنَصْبِهِ إِيَّاهُ نَكِرَةً، وَتَقْدِيرُهُ وَقُلِ الْقَوْلَ الْحَقُّ وَتَعَلُّقُ مِنْ بِمُضْمَرٍ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ هُوَ إِرْجَاءٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ بِكَسْرِ لَامَيِ الْأَمْرِ.

وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ أَعْقَبَ بِمَا أَعَدَّ لَهُمَا فَذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ يَلِي قَوْلَهُ فَلْيَكْفُرْ وَأَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مَعَ الْكُفَّارِ وَفِي سِيَاقِ مَا طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كانت الْبَدَاءَةُ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ أَهَمَّ وَآكَدَ، وَهُمَا طَرِيقَانِ لِلْعَرَبِ هَذِهِ الطَّرِيقُ وَالْأُخْرَى أَنَّهُ يَجْعَلُ الْأَوَّلَ فِي التَّقْسِيمِ لِلْأَوَّلِ فِي الذِّكْرِ، وَالثَّانِي لِلثَّانِي. وَالسُّرَادِقُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَائِطٌ مِنْ نَارٍ مُحِيطٍ بِهِمْ. وَحَكَى أَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ بِالدُّنْيَا. وَحَكَى الْكَلْبِيُّ: أَنَّهُ عُنُقٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ فَيُحِيطُ بِالْكُفَّارِ. وَقِيلَ: دُخَانٌ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يَطْلُبُوا الْغَوْثَ مِمَّا حَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّارِ وَشِدَّةِ إِحْرَاقِهَا وَاشْتِدَادِ عَطَشِهِمْ يُغاثُوا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ وَإِلَّا فَلَيْسَتْ إِغَاثَةً.

وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَكَرُ الزَّيْتِ إِذَا قَرُبَ مِنْهُ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَاءٌ غَلِيظٌ مِثْلُ دَرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الْقَيْحُ وَالدَّمُ الْأَسْوَدُ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: كُلُّ شَيْءٍ ذَائِبٍ قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ الصَّدِيدُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ الرَّمَادُ الَّذِي ينفظ إِذَا خَرَجَ مِنَ التَّنُّورِ. وَقِيلَ: ضَرْبٌ مِنَ الْقَطِرَانِ.

ويَشْوِي فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَاءٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ فَحَسُنَ مَجِيءُ الْحَالِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوهَ لِكَوْنِهَا عِنْدَ شُرْبِهِمْ يَقْرُبُ حَرُّهَا مِنْ وُجُوهِهِمْ.

وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْوُجُوهِ عَنْ جَمِيعِ أَبْدَانِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْضِجُ بِهِ جَمِيعُ جُلُودِهِمْ كَقَوْلِهِ كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ «1» وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بِئْسَ الشَّرابُ هُوَ أَيِ الْمَاءُ الَّذِي يُغَاثُونَ بِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي ساءَتْ عَائِدٌ عَلَى النَّارِ. وَالْمُرْتَفَقُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

الْمَنْزِلُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَقَرُّ. وَقَالَ الْقُتْبِيُّ: الْمَجْلِسُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُجْتَمَعُ، وَأَنْكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يُعْرَفَ لِقَوْلِ مُجَاهِدٍ مَعْنًى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ مجاهدا ذَهَبَ إِلَى مَعْنَى الرَّفَاقَةِ وَمِنْهُ الرُّفْقَةُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُتَّكَأُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُتَّكَأُ عَلَى الْمِرْفَقِ، وَأَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: مُتَّكَأٌ مِنَ الْمِرْفَقِ وَهَذَا لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً «2» وَإِلَّا فَلَا

(1) سورة النساء: 4/ 56.

(2)

سورة الكهف: 18/ 31.

ص: 169