المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 37] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٧

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الإسراء

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 22]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 49]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 69]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 77]

- ‌[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 111]

- ‌سورة الكهف

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 59]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 78]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82]

- ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 110]

- ‌سورة مريم

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 33]

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]

- ‌[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 98]

- ‌سورة طه

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 41]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 64]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 89]

- ‌[سورة طه (20) : الآيات 90 الى 135]

- ‌سورة الأنبياء

- ‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 50]

- ‌[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 112]

- ‌سورة الحج

- ‌[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 37]

- ‌[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 78]

- ‌سورة المؤمنون

- ‌[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 77]

- ‌[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 118]

الفصل: ‌[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 37]

‌سورة الحج

[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 37]

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9)

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)

مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (18) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَاّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)

الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

ص: 475

ذَهَلَ عَنِ الشَّيْءِ ذُهُولًا: اشْتَغَلَ عَنْهُ قَالَهُ قُطْرُبٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: غَفَلَ لِطَرَيَانِ شاغل من أهم أَوْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: مَعَ دَهْشَةٍ. الْمُضْغَةُ: اللَّحْمَةُ الصَّغِيرَةُ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ.

الْمُخَلَّقَةُ: الْمُسَوَّاةُ الْمَلْسَاءُ لَا نَقْصَ وَلَا عَيْبَ فِيهَا، يُقَالُ: خَلَقَ السِّوَاكَ وَالْعُودَ سَوَّاهُ

ص: 477

وَمَلَّسَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: صَخْرَةٌ خَلْقَاءُ أَي مَلْسَاءَ. الطِّفْلُ: يُقَالُ مِنْ وَقْتِ انْفِصَالِ الْوَلَدِ إِلَى الْبُلُوغِ، وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَحْشِيَّةِ طِفْلٌ، وَيُوصَفُ بِهِ الْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَيُقَالُ أَيْضًا طِفْلٌ وَطِفْلَانِ وَأَطْفَالٌ وَأَطْفَلَتِ الْمَرْأَةُ صَارَتْ ذَا طِفْلٍ، وَالطَّفْلُ بِفَتْحِ الطَّاءِ النَّاعِمُ، وَجَارِيَةٌ طَفْلَةٌ نَاعِمَةٌ، وَبَنَانٌ طَفْلٌ، وَقَدْ طَفَّلَ اللَّيْلُ أَقْبَلَ ظَلَامُهُ، وَالطَفَلُ بِالتَّحْرِيكِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِذَا طَفَّلَتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ، وَالطَّفَلُ أَيْضًا مَطَرٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ اسْمٌ يُسْتَعْمَلُ مَصْدَرًا كَالرِّضَا وَالْعَدْلِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. هَمَدَتِ الْأَرْضُ: يَبَسَتْ وَدَرَسَتْ، وَالثَّوْبُ بَلِيَ انْتَهَى. وَقَالَ الْأَعْشَى:

قَالَتْ قَتِيلَةُ مَا لِجِسْمِكَ شَاحِبًا

وَأَرَى ثِيَابَكَ بَالِيَاتٍ هَمَدَا

الْبَهِيجُ: الْحَسَنُ السَّارُّ لِلنَّاظِرِ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو بَهْجَةٍ أَيْ حُسْنٍ، وَقَدْ بَهُجَ بِالضَّمِّ بَهَاجَةً وَبَهْجَةً فَهُوَ بَهِيجٌ، وَأَبْهَجَنِي: أَعْجَبَنِي بِحُسْنِهِ. الْعَطْفُ: الْجَانِبُ، وَعِطْفَا الرَّجُلِ يَمِينُهُ وَشِمَالُهُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْعَطْفِ وَهُوَ اللِّينُ، وَيُسَمَّى الرِّدَاءُ الْعِطَافَ. الْمَجُوسُ: قَوْمٌ يَعْبُدُونَ النَّارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. وَقِيلَ: يَعْبُدُونَ النَّارَ. وَقِيلَ: قَوْمٌ اعْتَزَلُوا النَّصَارَى وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ. وَقِيلَ: قَوْمٌ أَخَذُوا مِنْ دِينِ النَّصَارَى شَيْئًا وَمِنْ دِينِ الْيَهُودِ شَيْئًا وَهُمُ الْقَائِلُونَ الْعَالَمُ أَصْلَانِ نُورٌ وَظُلْمَةٌ. وَقِيلَ: الْمِيمُ فِي الْمَجُوسِ بَدَلٌ مِنَ النُّونِ لِاسْتِعْمَالِهِمُ النَّجَاسَاتِ. صَهَرْتُ الشَّحْمَ بِالنَّارِ أَذَبْتُهُ، وَالصُّهَارَةُ الْإِلْيَةُ الْمُذَابَةُ. وَقِيلَ: يَنْضَجُ قَالَ الشَّاعِرُ:

تَصْهَرُهُ الشَّمْسُ وَلَا يَنْصَهُرُ الْمِقْمَعَةُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ الْمِقْرَعَةُ يُقْمَعُ بِهَا الْمَضْرُوبُ. اللُّؤْلُؤُ: الْجَوْهَرُ. وَقِيلَ: صِغَارُهُ وَكِبَارُهُ. الضَّامِرُ: الْمَهْزُولُ. الْعَمِيقُ: الْبَعِيدُ، وَأَصْلُهُ الْبُعْدُ سُفْلًا يُقَالُ: بِئْرٌ عَمِيقٌ أَيْ بَعِيدَةُ الْغَوْرِ، وَالْفِعْلُ عَمُقَ وَعَمَّقَ. قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا الْخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ

يُمَدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شاحب

ويقال: عميق بَالْغَيْنَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ عَمِيقٌ وَمُعِيقٌ لِتَمِيمٍ، وَأَعْمَقْتُ الْبِئْرَ وَأَمْعَقْتُهَا وَقَدْ عَمُقَتْ وَمَعُقَتْ عَمَاقَةً وَمُعَاقَةً وَهِيَ بَعِيدَةُ الْعُمْقِ وَالْمَعْقُ وَالْأَمْعَاقُ وَالْأَعْمَاقُ أَطْرَافُ الْمَفَازَةِ قَالَ:

وَقَائِمُ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرِقِ التَّفَثُ: أَصْلُهُ الْوَسَخُ وَالْقَذَرُ، يُقَالُ لِمَنْ يُسْتَقْذَرُ: مَا تَفَثُكَ. وَعَنْ قُطْرُبٍ: تَفِثَ الرَّجُلُ كَثُرَ

ص: 478

وَسَخُهُ فِي سَفَرِهِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ: التَّفَثُ مَنِ الْتُفَّ وَهُوَ وَسَخُ الْأَظْفَارِ، وَقُلِبَتِ الْفَاءُ ثَاءً كَمَغْثُورٍ. السَّحِيقُ: الْبَعِيدُ. وَجَبَ الشَّيْءُ سَقَطَ، وَوَجَبَتِ الشَّمْسُ جِبَةً قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ:

أَلَمْ يَكْسِفِ الشَّمْسَ شَمْسُ النَّهَا

رِ وَالْبَدْرُ لِلْجَبَلِ الْوَاجِبِ

الْقَانِعُ: السَّائِلُ، قَنِعَ قَنُوعًا سَأَلَ وَقَنِعَ قَنَاعَةً تَعَفَّفَ وَاسْتَغْنَى بِبَلْغَتِهِ. قال الشماخ:

مفاقرة أَعَفُّ مِنَ الْقَنُوعِ

لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي

الْوَثَنُ: قَالَ شِمْرٌ كُلُّ تِمْثَالٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حِجَارَةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ وَنَحْوِهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَنْصِبُهَا وَتَعْبُدُهَا وَيُطْلَقُ عَلَى الصَّلِيبِ. قَالَ الْأَعْشَى:

يَطُوفُ الْعُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ

كَطَوْفِ النَّصَارَى بِبَابِ الْوَثَنِ

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَدِيٍّ بْنِ حَاتِمٍ وَقَدْ رَأَى فِي عُنُقِهِ صَلِيبًا: «أَلْقِ الْوَثَنَ عَنْكَ» .

وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ وَثَنَ الشَّيْءَ أَقَامَهُ فِي مَكَانِهِ وَثَبَتَ، وَالْوَاثِنُ الْمُقِيمُ الرَّاكِزُ فِي مَكَانِهِ. وَقَالَ رُؤْبَةُ:

عَلَى أَخِلَّاءِ الصَّفَاءِ الْوَثَنُ يَعْنِي الدَّوْمَ عَلَى الْعَهْدِ. الْبُدْنُ: جَمَعُ بَدَنَةٍ كَثُمْرِ جَمْعُ ثَمَرَةٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَبْدُنُ أَيْ تَسْمَنُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْبَدَنَةُ بِالْهَاءِ تَقَعُ عَلَى النَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ وَالْبَعِيرِ مِمَّا يَجُوزُ فِي الْهَدْيِ وَالْأَضَاحِيِّ، وَلَا يَقَعُ عَلَى الشَّاةِ وَسُمِّيَتْ بَدَنَةً لِعِظَمِهَا. وَقِيلَ: تَخْتَصُّ بِالْإِبِلِ.

وَقِيلَ: مَا أَشْعَرَ مِنْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ قَالَهُ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الْبَدَنُ مُفْرَدٌ اسْمُ جِنْسٍ يُرَادُ بِهِ الْعَظِيمُ السَّمِينُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَيُقَالُ لِلسَّمِينِ مِنَ الرِّجَالِ. الْمُعْتَرُّ: الْمُتَعَرِّضُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: عرّه واعترّه وَعَرَّاهُ وَاعْتَرَاهُ أَتَاهُ طَالِبًا لِمَعْرُوفِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

سَلِي الطَّارِقَ الْمُعْتَرَّ يَا أُمَّ مَالِكٍ

إِذَا مَا اعْتَرَانِي بَيْنَ قَدَرِي وَمَجْزَرِي

وَقَالَ الْآخَرُ:

لَعَمْرُكَ مَا الْمُعْتَرُّ يَغْشَى بِلَادَنَا

لِنَمْنَعَهُ بِالضَّائِعِ المتهضم

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ

ص: 479

فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.

هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ إِلَّا هذانِ خَصْمانِ «1» إِلَى تَمَامِ ثَلَاثِ آيَاتٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا إِنَّهُنَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ إِلَى قَوْلِهِ عَذابَ الْحَرِيقِ «2» وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ- إِلَى- عَذابٌ مُهِينٌ «3» . وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مِنْهَا مَكِّيٌّ وَمِنْهَا مَدَنِيٌّ.

وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ وَذَكَرَ الْفَزَعَ الْأَكْبَرَ وَهُوَ مَا يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ مُشْرِكُو مَكَّةَ قَدْ أَنْكَرُوا الْمَعَادَ وَكَذَّبُوهُ بِسَبَبِ تَأَخُّرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ. نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَحْذِيرًا لَهُمْ وَتَخْوِيفًا لِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِ زَلْزَلَةِ السَّاعَةِ وَشِدَّةِ هَوْلِهَا، وَذِكْرِ مَا أُعِدَّ لِمُنْكِرِهَا وَتَنْبِيهِهِمْ عَلَى الْبَعْثِ بِتَطْوِيرِهِمْ فِي خَلْقِهِمْ، وَبِهُمُودِ الْأَرْضِ وَاهْتِزَازِهَا بَعْدُ بِالنَّبَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَامٌّ. وَقِيلَ:

الْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى سَبَبِ اتِّقَائِهِ وَهُوَ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنْ أَهْوَالِ السَّاعَةِ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيِ اتَّقُوا عَذَابَ رَبَّكُمْ، وَالزَّلْزَلَةُ الْحَرَكَةُ الْمُزْعِجَةُ وَهِيَ عِنْدُ النَّفْخَةِ الْأُولَى. وَقِيلَ: عِنْدَ الثَّانِيَةِ. وَقِيلَ: عِنْدَ قَوْلِ اللَّهِ يَا آدَمُ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ:

فِي الدُّنْيَا آخِرُ الزَّمَانِ وَيَتْبَعُهَا طلوع الشمس من مغربها. وَعَنِ الْحَسَنِ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ وَالشَّعْبِيِّ: عِنْدَ طلوح الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأُضِيفَتْ إِلَى السَّاعَةِ لِأَنَّهَا مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ فَالْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ وَهُوَ الْأَرْضُ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها «4» وَالنَّاسُ وَنِسْبَةُ الزَّلْزَلَةِ إِلَى السَّاعَةِ مَجَازٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاتِّسَاعِ فِي الظَّرْفِ، فَتَكُونُ السَّاعَةِ مَفْعُولًا بِهَا وَعَلَى هَذِهِ التَقَادِيرِ يَكُونُ ثَمَّ زَلْزَلَةَ حَقِيقَةً.

وَقَالَ الْحَسَنُ: أَشَدُّ الزِّلْزَالِ مَا يَكُونُ مَعَ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: الزلزلة استعارة، والمراد

(1) سورة الحج: 22/ 19.

(2)

سورة الحج: 22/ 22. [.....]

(3)

سورة الحج: 22/ 52.

(4)

سورة الزلزلة: 99/ 1.

ص: 480

أَشَدُّ السَّاعَةِ وَأَهْوَالُ يَوْمِ القيامة وشَيْءٌ هُنَا يَدُلُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدُومِ لِأَنَّ الزَّلْزَلَةَ لَمْ تَقَعْ بَعْدُ، وَمَنْ مَنَعَ إِيقَاعَهُ عَلَى الْمَعْدُومِ قَالَ: جَعَلَ الزَّلْزَلَةَ شَيْئًا لِتَيَقُّنِ وُقُوعِهَا وَصَيْرُورَتِهَا إِلَى الْوُجُودِ.

وَذَكَرَ تَعَالَى أَهْوَلَ الصِّفَاتِ فِي قَوْلِهِ تَرَوْنَها

الْآيَةَ لِيَنْظُرُوا إِلَى تِلْكَ الصِّفَةِ بِبَصَائِرِهِمْ وَيَتَصَوَّرُوهَا بِعُقُولِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلًا عَلَى تَقْوَاهُ تَعَالَى إِذْ لَا نَجَاةَ مِنْ تِلْكَ الشَّدَائِدِ إِلَّا بِالتَّقْوَى.

وَرُوِيَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا لَيْلًا فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَقَرَأَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُرَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا لَمْ يَحُطُّوا السُّرُوجَ عَنِ الدَّوَابِّ وَلَمْ يَضْرِبُوا الْخِيَامَ وَقْتَ النُّزُولِ وَلَمْ يَطْبُخُوا قِدْرًا، وَكَانُوا مِنْ بَيْنِ حَزِينٍ بَاكٍ وَمُفَكِّرٍ.

وَالنَّاصِبُ لِيَوْمَ تَذْهَلُ

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ فِي تَرَوْنَها

عائدا عَلَى الزَّلْزَلَةِ لِأَنَّهَا الْمُحَدَّثُ عَنْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُودُ ذُهُولِ الْمُرْضِعَةِ وَوَضْعِ الْحَمْلِ هَذَا إِذَا أُرِيدَ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ الْأَصْلُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَعَنِ الْحَسَنِ تَذْهَلُ

الْمُرْضِعَةُ عَنْ وَلَدِهَا لِغَيْرِ فِطَامٍ وَتَضَعُ

الْحَامِلُ مَا فِي بَطْنِهَا لِغَيْرِ تَمَامٍ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى السَّاعَةِ فَيَكُونُ الذُّهُولُ وَالْوَضْعُ عِبَارَةً عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا ذُهُولَ وَلَا وَضْعَ هُنَاكَ كَقَوْلِهِمْ: يَوْمَ يَشِيبُ فِيهِ الْوَلِيدُ. وَجَاءَ لَفْظُ مُرْضِعَةٍ

دُونَ مُرْضِعٍ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْفِعْلُ لَا النَّسَبُ، بِمَعْنَى ذَاتِ رَضَاعٍ. وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلَالُ عَنِ الْقَصْدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ عَمَّا أَرْضَعَتْ

بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَرْضَعَتْهُ، وَيُقَوِّيهُ تَعَدِّي وَضَعَ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فِي قَوْلِهِ حَمْلَها

لَا إِلَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ عَنْ إِرْضَاعِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

الْمُرْضِعَةُ هِيَ الَّتِي فِي حَالِ الْإِرْضَاعِ تُلْقِمُ ثَدْيَهَا الصَّبِيَّ، وَالْمُرْضِعُ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُرْضِعَ وَإِنْ لَمْ تُبَاشِرِ الْإِرْضَاعَ فِي حَالِ وَصْفِهَا بِهِ. فَقِيلَ مُرْضِعَةٍ

لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْهَوْلَ إِذَا فُوجِئَتْ بِهِ هَذِهِ وَقَدْ أَلْقَمَتِ الرَّضِيعَ ثَدْيَهَا نَزَعَتْهُ عَنْ فِيهِ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الدَّهْشَةِ، وَخَصَّ بَعْضُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ أُمَّ الصَّبِيِّ بِمُرْضِعَةٍ وَالْمُسْتَأْجِرَةِ بِمُرْضِعٍ وَهَذَا بَاطِلٌ بِقَوْلِ الشَّاعِرُ:

كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ الْبَيْتَ فَهَذِهِ مُرْضِعَةٍ

بِالتَّاءِ وَلَيْسَتْ أُمًّا لِلَّذِي تُرْضِعُ. وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ إِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْمُؤَنَّثِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّاءِ لِأَنَّهَا إِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِلْفَرْقِ مَرْدُودٌ بِقَوْلِ الْعَرَبِ مُرْضِعَةٌ وَحَائِضَةٌ وَطَالِقَةٌ.

ص: 481

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذْهَلُ كُلُ

بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْهَاءِ وَرَفْعِ كُلُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْيَمَانِيُّ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ تَذْهَلُ

الزَّلْزَلَةُ أَوِ السَّاعَةُ كُلَّ بِالنَّصْبِ، وَالْحَمْلَ بِالْفَتْحِ مَا كَانَ فِي بَطْنٍ أَوْ عَلَى رَأْسِ شَجَرَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَتَرَى

بِالتَّاءِ مَفْتُوحَةً خِطَابُ الْمُفْرَدِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ وَتَرَى الزَّلْزَلَةَ أَوِ السَّاعَةَ. وَقَرَأَ الزَّعْفَرَانِيُّ وَعَبَّاسٌ فِي اخْتِيَارِهِ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَرَفَعَ النَّاسُ وَأَنَّثَ عَلَى تَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ وَأَبُو نَهِيكٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ نَصَبُوا النَّاسَ

عَدَّى تَرَى

إِلَى مَفَاعِيلَ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي تَرَى

وَهُوَ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ النَّاسَ سُكارى

أَثْبَتَ أَنَّهُمْ سُكارى

عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ ثُمَّ نَفَى عَنْهُمُ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ السُّكْرُ مِنَ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَيْرَةِ وَتَخْلِيطِ الْعَقْلِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُكارى

فِيهِمَا عَلَى وَزْنِ فُعَالَى وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي فُعَالَى بِضَمِّ الْفَاءِ أَهُوَ جَمْعٌ أَوِ اسْمُ جَمْعٍ.

وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو نَهِيكٍ وَعِيسَى بِفَتْحِ السِّينِ فِيهِمَا وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ وَاحِدُهُ سَكْرَانُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ سَعْدَانَ وَمَسْعُودُ بْنُ صَالِحٍ سَكْرَى فِيهِمَا، وَرُوِيَتْ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم رَوَاهَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ

وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ وَحُذَيْفَةَ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَوْمٌ يَقُولُونَ سَكْرَى جَعَلُوهُ مِثْلَ مَرْضَى لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ يَدْخُلَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ، ثُمَّ جَعَلُوا رُوبَى مِثْلَ سَكْرَى وَهُمُ الْمُسْتَثْقَلُونَ نَوْمًا مِنْ شُرْبِ الرَّائِبِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ سَكِرٍ كَزَمْنَى وَزَمِنٍ، وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ: رَجُلٌ سَكِرٌ بِمَعْنَى سَكْرَانَ فَيَجِيءُ سَكْرَى حِينَئِذٍ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو زُرْعَةَ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْأَعْمَشُ سُكْرَى بِضَمِّ السِّينِ فِيهِمَا.

قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ كَالْبُشْرَى وَبِهَذَا أَفْتَانِي أَبُو عَلِيٍّ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ غَرِيبٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: فُعْلَى بِضَمِّ الْفَاءِ مِنْ صِفَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْإِنَاثِ لَكِنَّهَا لَمَّا جُعِلَتْ مِنْ صِفَاتِ النَّاسِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ أُجْرِيَتِ الْجَمَاعَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَنَّثِ الْمُوَحَّدِ انْتَهَى. وَعَنْ أَبِي زُرْعَةَ أَيْضًا سَكْرَى بِفَتْحِ السِّينِ بِسُكْرَى بِضَمِّهَا. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا سَكْرَى بِالْفَتْحِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بِسُكارى

بِالضَّمِّ وَالْأَلِفِ. وَعَنِ الحسن أيضا سُكارى

بسكرى. وَقَالَ أَوْ لَا تَرَوْنَهَا عَلَى خِطَابِ الْجَمْعِ جُعِلُوا جَمِيعًا رَائِيِينَ لَهَا. ثُمَّ قَالَ وَتَرَى

عَلَى خِطَابِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ مُعَلَّقَةٌ بِكَوْنِ النَّاسِ عَلَى حَالِ السُّكْرِ، فَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ رَائِيًا لِسَائِرِهِمْ غَشِيَهُمْ مِنْ خَوْفِ عَذَابِ اللَّهِ مَا أَذْهَبَ عُقُولَهُمْ وَرَدَّهُمْ فِي حَالِ مَنْ يُذْهِبُ السُّكْرُ عَقْلَهُ وَتَمْيِيزَهُ، وَجَاءَ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ عَذابَ اللَّهِ

أَنَّهُ شَدِيدٌ

لِمَا تَقَدَّمَ مَا هُوَ

ص: 482

بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَذَابِ كَالْحَالَةِ اللَّيِّنَةِ وَهُوَ الذُّهُولُ وَالْوَضْعُ وَرُؤْيَةُ النَّاسِ أَشْبَاهَ السُّكَارَى، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَذِهِ أَحْوَالٌ هَيِّنَةٌ وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ

وَلَيْسَ بِهَيِّنٍ وَلَا لَيِّنٍ لِأَنَّ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ بَيْنَ متنافيين بوجه وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أَيْ فِي قُدْرَتِهِ وَصِفَاتِهِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ.

وَقِيلَ: فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَقِيلَ: فِي النَّضْرِ وَكَانَ جَدِلًا يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَالْقُرْآنُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلَا يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَى إِحْيَاءِ مَنْ بَلِيَ وَصَارَ تُرَابًا وَالْآيَةُ فِي كُلِّ مَنْ تَعَاطَى الْجِدَالِ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَا يَرْفَعُ إِلَى عِلْمٍ وَلَا بُرْهَانٍ وَلَا نَصَفَةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ هُوَ مِنَ الْجِنِّ كَقَوْلِهِ وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً «1» . وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِنْسِ كَقَوْلِهِ شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ «2» .

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْوَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَكَرَ مَنْ غَفَلَ عَنِ الْجَزَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَذَّبَ بِهِ.

وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَيَتَّبِعُ خَفِيفًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَنْ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَفِي أَنَّهُ وتَوَلَّاهُ وَفِي فَأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَالْفَاعِلُ يَتَوَلَّى ضَمِيرُ مَنْ وَكَذَلِكَ الْهَاءُ فِي يُضِلُّهُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْمُجَادِلَ لِكَثْرَةِ جِدَالِهِ بِالْبَاطِلِ وَاتِّبَاعِهِ الشَّيْطَانَ صَارَ إِمَامًا فِي الضَّلَالِ لِمَنْ يَتَوَلَّاهُ، فَشَأْنُهُ أَنْ يُضِلَّ مَنْ يَتَوَلَّاهُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ قَالَهُ قَتَادَةُ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ، وَأَوْرَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ احْتِمَالًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَنَّهُ الْأُولَى لِلشَّيْطَانِ وَالثَّانِيَةِ لِمَنِ الَّذِي هُوَ لِلْمُتَوَلِّي.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَتَبَةُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَيْ إِنَّمَا كُتِبَ إِضْلَالَ مَنْ يَتَوَلَّاهُ عَلَيْهِ وَرَقَمَ بِهِ لِظُهُورِ ذَلِكَ فِي حَالِهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كُتِبَ مَبْنِيًّا للمفعول. وقرىء كُتِبَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَي كَتَبَ اللَّهُ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَأَنَّهُ بِفَتْحِهَا أَيْضًا، وَالْفَاءُ جَوَابٌ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ أَوِ الدَّاخِلَةُ فِي خَبَرِ مَنْ إِنْ كَانَتْ موصولة.

وفَأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرٍ فَشَأْنُهُ أَنَّهُ يُضِلُّهُ أَيْ إِضْلَالَهُ أَوْ فَلَهُ أَنْ يُضِلَّهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَنْ فَتَحَ فَلِأَنَّ الأول فاعل كُتِبَ بعني بِهِ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ

(1) سورة النساء: 4/ 117.

(2)

سورة الأنعام: 6/ 112.

ص: 483

فَاعِلُهُ، قَالَ: وَالثَّانِي عُطِفَ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ فَأَنَّهُ عَطْفًا عَلَى أَنَّهُ بَقِيَتْ بِلَا اسْتِيفَاءِ خَبَرٍ لِأَنَّ مَنْ تَوَلَّاهُ مَنْ فيه مبتدأة، فَإِنْ قَدَّرْتَهَا مَوْصُولَةً فَلَا خَبَرَ لَهَا حَتَّى يَسْتَقِلَّ خَبَرًا لِأَنَّهُ وَإِنْ جَعَلْتَهَا شَرْطِيَّةً فَلَا جَوَابَ لَهَا إِذْ جَعَلْتَ فَأَنَّهُ عَطْفًا عَلَى أَنَّهُ وَمِثْلَ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ وأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأَنَّهُ الثَّانِيَةُ عِطْفٌ عَلَى الْأُولَى مؤكدة مثلها، وخطا خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ فَإِنَّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا انْتَهَى. وَلَيْسَ مَشْهُورًا عَنِ أَبِي عَمْرٍو.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ إِسْنَادِ كُتِبَ إِلَى الْجُمْلَةِ إِسْنَادًا لَفْظِيًّا أَيْ كُتِبَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ كَمَا تَقُولُ: كَتَبَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أو عن تقدير قيل أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ الْكُتُبَ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لَقِيلَ الْمُقَدَّرَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ الْفَاعِلَ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ جُمْلَةً فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّهُ لَا تُكْسَرُ إِنَّ بَعْدَ مَا هُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ، بَلْ بَعْدَ الْقَوْلِ صَرِيحَةً، وَمَعْنَى وَيَهْدِيهِ وَيَسُوقُهُ وَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْهِدَايَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ يُجَادِلُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَكَانَ جِدَالُهُمْ فِي الْحَشْرِ وَالْمَعَادِ ذَكَرَ دَلِيلَيْنِ وَاضِحَيْنِ عَلَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَابْتِدَاءِ خَلْقِهِ، وَتَطَوُّرِهِ فِي مَرَاتِبَ سَبْعٍ وَهِيَ التُّرَابُ، وَالنُّطْفَةُ، وَالْعَلَقَةُ، وَالْمُضْغَةُ، وَالْإِخْرَاجُ طِفْلًا، وَبُلُوغُ الْأَشُدِّ، وَالتَّوَفِّي أَوِ الرَّدُّ إِلَى الْهَرَمِ. وَالثَّانِي فِي الْأَرْضِ الَّتِي تُشَاهِدُونَ تَنَقُّلَهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَإِذَا اعْتَبَرَ الْعَاقِلُ ذَلِكَ ثَبَتَ عِنْدَهُ جَوَازُهُ عَقْلًا فَإِذَا وَرَدَ خَبَرُ الشَّرْعِ بِوُقُوعِهِ وَجَبَ التَّصْدِيقُ بِهِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ مِنَ الْبَعْثِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ فِيهِ كَالْحَلْبِ وَالطَّرْدِ فِي الْحَلْبِ وَالطَّرْدِ، وَالْكُوفِيُّونَ إِسْكَانُ الْعَيْنِ عِنْدَهُمْ تَخْفِيفٌ يَقِيسُونَهُ فِيمَا وَسَطُهُ حَرْفُ حَلْقٍ كَالنَّهْرِ وَالنَّهَرِ وَالشَّعْرِ وَالشَّعَرِ، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يَقِيسُونَهُ وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ عِنْدَهُمْ مِمَّا جَاءَ فِيهِ لُغَتَانِ. وَالْمَعْنَى إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي الْبَعْثِ فَمُزِيلُ رَيْبِكُمْ أَنْ تَنْظُرُوا فِي بَدْءِ خَلْقِكُمْ مِنْ تُرابٍ أَيْ أَصْلِكُمْ آدَمَ وَسَلَّطَ الْفِعْلَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ وَسَائِطِ التَّوَلُّدِ لِأَنَّ الْمَنِيَّ وَدَمَ الطَّمْثِ يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَغْذِيَةُ حَيَوَانٌ وَنَبَاتٌ، وَالْحَيَوَانُ يَعُودُ إِلَى النَّبَاتِ، وَالنَّبَاتُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالنُّطْفَةُ الْمَنِيُّ. وَقِيلَ نُطْفَةٍ آدَمُ قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَالْعَلَقَةُ قِطْعَةُ

ص: 484

الدَّمِ الْجَامِدَةِ وَمَعْنَى وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أَيْ لَيْسَتْ كَامِلَةً وَلَا مَلْسَاءَ فَالْمُضَغُ مُتَفَاوِتَةٌ لِذَلِكَ تَفَاوَتُوا طُولًا وَقِصَرًا وَتَمَامًا وَنُقْصَانًا. وَقَالَ مُجَاهِد غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ هِيَ الَّتِي تَسْتَسْقِطُ وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ فِيهِ أَعْضَاءٌ مُتَبَايِنَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخْتَصٌّ بِخَلْقٍ حَسُنَ تَضْعِيفُ الْفِعْلِ لِأَنَّ فِيهِ خَلْقًا كَثِيرَةً.

وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ مُخَلَّقَةٍ بِالنَّصْبِ وَغَيْرَ بِالنَّصْبِ أَيْضًا نَصْبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ قَلِيلٌ وَقَاسَهُ سِيبَوَيْهِ. قَالَ الزمخشري: ولِنُبَيِّنَ لَكُمْ بِهَذَا التَّدْرِيجِ قُدْرَتُنَا وَإِنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ مِنْ تُرابٍ أَوَّلًا ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثَانِيًا وَلَا تَنَاسُبَ بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ، وَقَدَرَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ النُّطْفَةَ عَلَقَةٍ وَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ ظَاهِرٌ ثُمَّ يَجْعَلَ الْعَلَقَةَ مُضْغَةٍ وَالْمُضْغَةَ عِظَامًا قَدَرَ عَلَى إِعَادَةِ مَا أَبْدَاهُ، بَلْ هَذَا أَدْخَلُ فِي الْقُدْرَةِ وَأَهْوَنُ فِي الْقِيَاسِ وَوُرُودُ الْفِعْلِ غَيْرَ مُعَدًّى إِلَى الْمُبَيَّنِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ أَفْعَالَهُ هَذِهِ يَتَبَيَّنُ بِهَا مِنْ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ مَا لَا يَكْتَنِهُهُ الْفِكْرُ وَلَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ انتهى.

ولِنُبَيِّنَ مُتَعَلِّقٌ بِخَلَقْنَاكُمْ. وَقِيلَ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أَمْرَ الْبَعْثُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَعْنِي رُشْدَكُمْ وَضَلَالَكُمْ. وَقِيلَ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أَنَّ التَّخْلِيقَ هُوَ اخْتِيَارٌ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَلَوْلَاهُ مَا صَارَ بَعْضُهُ غَيْرَ مُخَلَّقٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيُقِرَّ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ وَنُقِرُّ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِنُبَيِّنَ.

وَعَنْ عَاصِمٍ أَيْضًا ثُمَّ يُخْرِجَكُمْ بِنَصْبِ الْجِيمِ عَطْفًا عَلَى وَنُقِرُّ إِذَا نُصِبَ. وَعَنْ يَعْقُوبَ وَنُقِرُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْقَافِ وَالرَّاءِ مَنْ قَرَّ الْمَاءَ صَبَّهُ. وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ النَّحْوِيُّ وَيَقِرَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَفِي الْكَلَامِ لِابْنِ حَبَّارٍ لِنُبَيِّنَ وَنُقِرُّ ونُخْرِجُكُمْ بِالنَّصْبِ فِيهِنَّ. الْمُفَضَّلُ وَبِالْيَاءِ فِيهِمَا مَعَ النَّصْبِ، أَبُو حَاتِمٍ وَبِالْيَاءِ وَالرَّفْعِ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ انْتَهَى.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى يُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا يَشَاءُ أَنْ يُقِرَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ وَقْتُ الْوَضْعِ وَمَا لَمْ يَشَأْ إِقْرَارَهُ مَجَّتْهُ الْأَرْحَامُ أَوْ أَسْقَطَتْهُ.

وَالْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ تَعْلِيلُ مَعْطُوفٍ عَلَى تَعْلِيلٍ وَالْمَعْنَى خَلَقْناكُمْ مُدَرِّجِينَ هَذَا التَّدْرِيجِ لِغَرَضَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ نُبَيِّنَ قُدْرَتَنَا وَالثَّانِي أَنْ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَنْ نُقِرُّ حَتَّى يُولَدُوا

ص: 485

وَيُنْشَؤُوا وَيَبْلُغُوا حَدَّ التَّكْلِيفِ فَأُكَلِّفَهُمْ. وَيُعَضِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُهُ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ انْتَهَى.

وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ مَا نَشاءُ بِكَسْرِ النُّونِ وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى مُخْتَلَفٌ فِيهِ بِحَسَبِ جَنِينٍ جَنِينٍ فَسَاقِطٌ وَكَامِلٌ أَمْرُهُ خَارِجٌ حَيًّا وَوَحَّدَ طِفْلًا لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَالطَّبَرِيُّ، أَوْ لِأَنَّ الْغَرَضَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْجِنْسِ، أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى يُخْرِجُكُمْ كُلَّ وَاحِدٍ كَقَوْلِكَ:

الرِّجَالُ يُشْبِعُهُمْ رَغِيفٌ أَيْ يُشْبِعُ كُلَّ وَاحِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَشَدُّ كَمَالُ الْقُوَّةِ وَالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ، وَهُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ الَّتِي لَمْ يُسْتَعْمَلُ لَهَا وَاحِدٌ كَالْأَشُدَّةِ وَالْقُيُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَأَنَّهَا مُشَدَّةٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَبُنِيَتْ لِذَلِكَ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ انْتَهَى.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْأَشُدِّ وَمِقْدَارِهِ مِنَ الزَّمَانِ. وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ جَمْعُ شِدَّةٍ كَأَنْعُمٍ جَمْعُ نِعْمَةٍ وَأَمَّا الْقُيُودُ: فَعَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّ وَاحِدَهُ قَيْدٌ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وقرىء يُتَوَفَّى بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ يَسْتَوْفِي أَجْلَهُ، وَالْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ أَيْ بَعْدِ الْأَشُدِّ وَقَبْلَ الْهَرَمِ، وَهُوَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَالْخَرَفِ، فَيَصِيرُ إِلَى حَالَةِ الطُّفُولِيَّةِ ضَعِيفَ الْبِنْيَةِ سَخِيفَ الْعَقْلِ، وَلَا زَمَانَ لِذَلِكَ مَحْدُودٌ بَلْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ فِي النَّاسِ وَقَدْ نَرَى مَنْ عَلَتْ سِنُّهُ وَقَارَبَ الْمِائَةَ أَوْ بَلَغَهَا فِي غَايَةِ جَوْدَةِ الذِّهْنِ وَالْإِدْرَاكِ مَعَ قُوَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَنَرَى مَنْ هُوَ فِي سِنِّ الِاكْتِهَالِ وَقَدْ ضَعُفَتْ بِنْيَتُهُ أَوْضَحَ تَعَالَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْهَائِهِ إِلَى حَالَةِ الْخَرَفِ كَمَا أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَدْرِيجِهِ إِلَى حَالَةِ التَّمَامِ، فَكَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ الَّتِي دَرَجَهَا فِي هَذِهِ الْمَنَاقِلِ وَإِنْشَائِهَا النشأة الثانية.

ولِكَيْلا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يُرَدُّ قَالَ الْكَلْبِيُّ لِكَيْلا يَعْقِلَ مِنْ بَعْدِ عَقْلِهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا.

وَقِيلَ لِكَيْلا يَسْتَفِيدَ عِلْمًا وَيَنْسَى مَا عَلِمَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ لِيَصِيرَ نَسَّاءً بِحَيْثُ إِذَا كَسَبَ عِلْمًا فِي شَيْءٍ لَمْ يَنْشَبْ أن ينساه ويزل عَنْهُ عِلْمُهُ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْهُ مِنْ سَاعَتِهِ، يَقُولُ لَكَ مَنْ هَذَا؟ فَتَقُولُ: فُلَانٌ فَمَا يَلْبَثُ لَحْظَةً إِلَّا سَأَلَكَ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ تَسْكِينُ مِيمِ الْعُمُرِ.

وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الثَّانِي الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ، وَالدَّلِيلُ الْأَوَّلُ الْآيَةُ، وَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ بَعْضَ مَرَاتِبِ الْخِلْقَةِ فِيهِ غَيْرَ مُرَتَّبَيْنِ قَالَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ فَلَمْ يُحَلْ فِي جَمِيعِ رُتَبِهِ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الدَّلِيلُ الثَّانِي مُشَاهَدًا لِلْأَبْصَارِ أَحَالَ ذَلِكَ عَلَى الرُّؤْيَةِ فَقَالَ وَتَرَى أَيُّهَا السَّامِعُ أَوِ الْمُجَادِلُ الْأَرْضَ هامِدَةً

ص: 486

وَلِظُهُورِهِ تَكَرَّرَ هَذَا الدَّلِيلُ في القرآن والْماءَ مَاءُ الْمَطَرِ وَالْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ وَالسَّوَانِي وَاهْتِزَازُهَا تَخَلْخُلُهَا وَاضْطِرَابُ بَعْضِ أَجْسَامِهَا لِأَجْلِ خُرُوجِ النَّبَاتِ وَرَبَتْ أَيْ زَادَتْ وَانْتَفَخَتْ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَرَبَأَتْ بِالْهَمْزِ هُنَا وَفِي فُصِّلَتْ أَيِ ارْتَفَعَتْ وَأَشْرَفَتْ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَرْبَأُ بِنَفْسِهِ عَنْ كَذَا: أَيْ يَرْتَفِعُ بِهَا عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَجْهُهُا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَبَأْتُ الْقَوْمَ إِذَا عَلَوْتُ شَرَفًا مِنَ الْأَرْضِ طَلِيعَةً فَكَانَ الْأَرْضُ بِالْمَاءِ تَتَطَاوَلُ وَتَعْلُو انْتَهَى. وَيُقَالُ رَبِيءٌ وَرَبِيئَةٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

بَعَثْنَا ربيئا قبل ذلك مخملا

كَذِئْبِ الْغَضَا يَمْشِي الضَّرَاءَ وَيَتَّقِي

ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ خُلُقِ بَنِي آدَمَ وَتَطَوُّرِهِمْ فِي تِلْكَ الْمَرَاتِبِ، وَمِنْ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ حَاصِلٌ بِهَذَا وَهُوَ حَقِيقَتُهُ تَعَالَى فه الثَّابِتُ الْمَوْجُودُ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَعَلَى كُلِّ مَقْدُورٍ وَقَدْ وَعَدَ بِالْبَعْثِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ كِيَانِهِ. وَقَوْلُهُ وَأَنَّ السَّاعَةَ إِلَى آخِرِهِ توكيد لقوله وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَيْسَ دَاخِلًا فِي سَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنَّهُ الَّذِي يَلِيهِ، فَيَكُونُ عَلَى تَقْدِيرٍ. وَالْأَمْرُ أَنَّ السَّاعَةَ وَذَلِكَ مُبْتَدَأٌ وَبِأَنَّ الْخَبَرَ. وَقِيلَ ذَلِكَ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ.

الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُجَادِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ الْمُجَادِلِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيقٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: الْأُولَى فِي الْمُقَلِّدِينَ وَهَذِهِ فِي الْمُقَلِّدِينَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي النَّضْرِ كُرِّرَتْ مُبَالَغَةً فِي الذَّمِّ، وَلِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى زِيَادَةٍ لَيْسَتْ فِي الْأُخْرَى. وَقَدْ قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِ

ص: 487

بِضْعَ عَشْرَةَ آيَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَرَّرَ هَذِهِ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ الْأَمْثَالُ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَالْبَيَانِ وَمِنَ النَّاسِ مَعَ ذَلِكَ مَنْ يُجادِلُ فَكَانَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ، وَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْوَاوُ فِيهَا وَاوُ الْعَطْفِ عَطَفَتْ جُمْلَةَ الْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْآيَةُ عَلَى مَعْنَى الإخبار وهي هاهنا مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْبِيخِ انْتَهَى. وَلَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ الْوَاوَ فِي وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ وَاوُ حَالٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا قَبْلَهُ لَوْ كَانَ مُصَرَّحًا بِهَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِإِذْ فَلَا تَكُونُ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْعَطْفِ قَسَّمَ الْمَخْذُولِينَ إِلَى مُجَادِلٍ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مُتَّبِعٍ لِشَيْطَانٍ مُرِيدٍ، وَمُجَادِلٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ إِلَى آخِرِهِ، وَعَابِدٍ رَبَّهُ عَلَى حَرْفٍ وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ، وَبِالْهُدَى الِاسْتِدْلَالُ وَالنَّظَرُ لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ الْوَحْيُ أَيْ يُجادِلُ بِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.

وَانْتَصَبَ ثانِيَ عِطْفِهِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن في يُجادِلُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُتَكَبِّرًا، وَمُجَاهِدٌ: لَاوِيًا عُنُقَهُ بِقُبْحٍ، وَالضَّحَّاكُ: شَامِخًا بِأَنْفِهِ وابن جريج: مُجَاهِدٌ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ لِيُضِلَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ أَي لِيُضِلَّ فِي نَفْسِهِ وَالْجُمْهُورُ بِضَمِّهَا أَيْ لِيُضِلَّ غَيْرَهُ، وَهُوَ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِضْلَالِهِ كَثْرَةُ الْعَذَابِ، إِذْ عَلَيْهِ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ مَآلُ جِدَالِهِ إِلَى الْإِضْلَالِ كَانَ كَأَنَّهُ عِلَّةٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الْهُدَى مُقْبِلًا عَلَى الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ كَانَ كَالْخَارِجِ مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ.

وَالْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا مَا لَحِقَهُ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ وَالْهَزِيمَةِ، وَقَدْ أُسِرَ النَّضْرُ.

وَقِيلَ: يوم بدر بالصفراء. والْحَرِيقِ قِيلَ طَبَقَةٌ مِنْ طِبَاقِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صفته أَيِ الْعَذَابُ الْحَرِيقُ أَيِ الْمُحْرِقُ كَالسَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ.

وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ فَأُذِيقُهُ بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْخِزْيِ وَالْإِذَاقَةِ، وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ ذَلِكَ هَذَا مَا جَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ. وَتَقَدَّمَ الْمُرَادُ فِي بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أَيْ بِاجْتَرَامِكَ وَبِعَدْلِ اللَّهِ فِيكَ إِذْ عَصَيْتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ اللَّهَ مقتطعا لَيْسَ ذَلِكَ فِي السَّبَبِ والتقدير والأمر أن اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْعَبِيدُ هُنَا ذُكِرُوا فِي مَعْنَى مَسْكَنَتِهِمْ وَقِلَّةِ قُدْرَتِهِمْ، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ انْتَهَى. وَهُوَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْعِبَادِ وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ تَفْرِقَتَهُ فِي أَوَاخِرِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1» وشرحنا هناك قوله بِظَلَّامٍ.

(1) سورة آل عمران: 3/ 183.

ص: 488

مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ نَزَلَتْ فِي أَعْرَابٍ مِنْ أَسْلَمَ وَغَطَفَانَ تَبَاطَؤُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَقَالُوا:

نَخَافُ أَنْ لَا يُنْصَرَ مُحَمَّدٌ فَيَنْقَطِعَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ حُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ فَلَا يُقِرُّونَا وَلَا يُؤْوُنَا. وَقِيلَ:

فِي أَعْرَابٍ لَا يَقِينَ لَهُمْ يُسْلِمُ أَحَدُهُمْ فَيَتَّفِقُ تَثْمِيرَ مَالِهِ وَوِلَادَةَ ذَكَرٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ، فَيَقُولُ: هَذَا دِينٌ جَيِّدٌ أَوْ يَنْعَكِسُ حَالُهُ فَيَتَشَاءَمُ وَيَرْتَدُّ كَمَا جَرَى لِلْعُرَنِيِّينَ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَسْلَمَ قَبْلَ ظُهُورُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ ارْتَدَّ.

وَقِيلَ: فِي يَهُودِيٍّ أَسْلَمَ فَأُصِيبَ فَتَشَاءَمَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَأَلَ الرسول إلا قاله فَقَالَ:«إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُقَالُ» فَنَزَلَتْ.

وَعَنِ الْحَسَنِ: هُوَ الْمُنَافِقُ يَعْبُدُهُ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: عَلَى ضَعْفِ يَقِينٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَلى حَرْفٍ عَلَى شَكٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ حَرْفٍ عَلَى انْحِرَافِ مِنْهُ عَنِ الْعَقِيدَةِ الْبَيْضَاءِ، أَوْ عَلَى شَفَا مِنْهَا مُعَدًّا لِلزَّهُوقِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلى حَرْفٍ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الدِّينِ لَا فِي وَسَطِهِ وَقَلْبِهِ، وَهَذَا مَثَلٌ لِكَوْنِهِمْ عَلَى قَلَقٍ وَاضْطِرَابٍ فِي دِينِهِمْ لَا عَلَى سُكُونٍ وَطُمَأْنِينَةٍ كَالَّذِي يَكُونُ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَإِنْ أَحَسَّ بِظَفَرٍ وَغَنِيمَةٍ قَرَّ وَاطْمَأَنَّ وَإِلَّا فَرَّ وَطَارَ عَلَى وَجْهِهِ انْتَهَى. وَخُسْرَانُهُ الدُّنْيَا إِصَابَتُهُ فِيهَا بِمَا يَسُوؤُهُ مِنْ ذَهَابِ مَالِهِ وَفَقْدِ أَحِبَّائِهِ فَلَمْ يُسَلِّمْ لِلْقَضَاءِ. وَخُسْرَانُ الْآخِرَةِ حَيْثُ حُرِمَ ثَوَابَ مَنْ صَبَرَ فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ.

وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيدٌ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مِنْ طَرِيقِ الزَّعْفَرَانِيِّ وَقَعْنَبٍ وَالْجَحْدَرِيِّ وَابْنِ مِقْسَمٍ خَاسِرَ الدُّنْيَا اسْمُ فَاعِلٍ نَصْبًا عَلَى الحال. وقرىء خَاسِرٌ اسْمُ فَاعِلٍ مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ وَهُوَ خَاسِرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالرَّفْعُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَوَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَسِرَ فِعْلًا مَاضِيًا وَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ قَدْ لِأَنَّهُ كَثُرَ وُقُوعُ الْمَاضِي حَالًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِغَيْرٍ قَدْ فَسَاغَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَأَجَازَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ كَمَا كَانَ يُضَاعَفْ بَدَلًا مِنْ يَلْقَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الضَّلالُ الْبَعِيدُ فِي قَوْلِهِ ضَلالًا بَعِيداً «1» وَنَفَى هُنَا الضُّرَّ وَالنَّفْعَ وَأَثْبَتَهُمَا فِي قَوْلِهِ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ مَا لَا يَنْفَعُهُ هُوَ الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ، وَلِذَلِكَ أَتَى التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِمَا الَّتِي لَا تَكُونُ لِآحَادِ من يعقل. وقوله يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ هُوَ مَنْ عَبَدَ بِاقْتِضَاءٍ، وَطَلَبَ مِنْ عَابِدِيهِ مِنَ الْمُدَّعِينَ الْإِلْهِيَّةَ كَفِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ مِنْ مُلُوكِ بني عبيد الذين

(1) سورة النساء: 4/ 60 وغيرها.

ص: 489

كَانُوا بِالْمَغْرِبِ ثُمَّ مَلَكُوا مِصْرَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْإِلْهِيَّةَ وَيُطَافُ بِقَصْرِهِمْ فِي مِصْرَ وَيُنَادَوْنَ بِمَا يُنَادَى بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ نَفْعٌ مَا لِعَابِدِيهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فَضَرَرُهُمْ أَعْظَمُ وَأَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمْ، إِذْ هُمْ فِي الدُّنْيَا مَمْلُوكُونَ لِلْكُفَّارِ وَعَابِدُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَفِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ وَلِهَذَا كَانَ التَّعْبِيرُ هُنَا بِمَنِ الَّتِي هِيَ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّنْ يَدْعُو إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الضُّرُّ وَالنَّفْعُ مَنْفَيَّانِ عَنِ الْأَصْنَامِ مُثْبَتَانِ لَهَا فِي الْآيَتَيْنِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ قُلْتُ: إِذَا حَصَلَ الْمَعْنَى ذَهَبَ هَذَا الْوَهْمُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَفَّهَ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ فِيهِ بِجَهْلِهِ وَضَلَالَتِهِ أَنَّهُ سَيَنْتَفِعُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ بِدُعَاءٍ وَصُرَاخٍ حِينَ يَرَى اسْتِضْرَارَهُ بِالْأَصْنَامِ وَدُخُولَهُ النَّارَ بِعِبَادَتِهَا، وَلَا يَرَى أَثَرَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَهَا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ وَكَرَّرَ يَدْعُو كَأَنَّهُ قال يَدْعُوا يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ ثُمَّ قَالَ لَمَنْ ضَرُّهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِكَوْنِهِ شَفِيعًا لَبِئْسَ الْمَوْلى انْتَهَى. فَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمَدْعُوَّ فِي الْآيَتَيْنِ الْأَصْنَامَ وَأَزَالَ التَّعَارُضَ بِاخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ حَالِ الْأَصْنَامِ. وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ كَلَامِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا ضُرًّا بِكَوْنِهِمْ عَبَدُوهُ، وَأَثْبَتُوا نَفْعًا بِكَوْنِهِمُ اعْتَقَدُوهُ شَفِيعًا. فَالنَّافِي هُنَاكَ غَيْرُ الْمُثْبِتِ هُنَا، فَزَالَ التَّعَارُضُ عَلَى زَعْمِهِ وَالَّذِي أَقُولُ إِنَّ الصَّنَمَ لَيْسَ لَهُ نَفْعٌ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يُقَالَ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ.

وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ زَعْمِ مَنْ زَعَمَ أن ظاهر الْآيَتَيْنِ يَقْتَضِي التَّعَارُضَ بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ بِأَنْفُسِهَا وَلَكِنَّ عِبَادَتَهَا نَسَبُ الضَّرَرِ إِلَيْهَا كَقَوْلِهِ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1» أَضَافَ الْإِضْلَالَ إِلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا سَبَبَ الضَّلَالِ، فَكَذَا هُنَا نَفْيُ الضَّرَرِ عَنْهُمْ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ فَاعِلَةً ثُمَّ أَضَافَهُ إِلَيْهَا لِكَوْنِهَا سَبَبَ الضَّرَرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ثُمَّ أَثْبَتَ لَهَا الضُّرَّ وَالنَّفْعَ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّسْلِيمِ، أَيْ وَلَوْ سَلَّمْنَا كَوْنَهَا ضَارَّةً نَافِعَةً لَكَانَ ضُرُّهَا أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهَا، وَتَكَلَّفَ الْمُعْرِبُونَ وُجُوهًا فقالوا يَدْعُوا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ لَمَنْ ضَرُّهُ أَوَّلًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَعَلُّقٌ فَوُجُوهٌ.

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِيَدْعُو الْأُولَى، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَعْمُولٌ.

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَامِلَةً فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ وَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ الَّذِي

(1) سورة إبراهيم: 14/ 36.

ص: 490

هُوَ ذلِكَ وَجَعَلَ مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ أَبُو عَلِيُّ الْفَارِسِيُّ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ إِذْ يُجِيزُونَ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ إِلَّا فِي ذَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا الِاسْتِفْهَامُ بِمَا أَوْ مَنْ.

الثَّالِثُ: أن يكون يَدْعُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وذلِكَ مُبْتَدَأٌ وَهُوَ فَصْلٌ أَوْ مُبْتَدَأٌ وَحَذَفَ الضَّمِيرَ مِنْ يَدْعُوا أَيْ يَدْعُوهُ وَقَدَّرَهُ مَدْعُوًّا وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ يَدْعُوهُ لَا يُقَدَّرُ مَدْعُوًّا إِنَّمَا يُقَدَّرُ دَاعِيًا، فَلَوْ كَانَ يُدْعَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لَكَانَ تَقْدِيرُهُ مَدْعُوًّا جَارِيًا عَلَى الْقِيَاسِ. وَقَالَ نَحْوَهُ الزَّجَّاجُ وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ لَمَنْ ضَرُّهُ فَوُجُوهٌ.

أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ الْأَخْفَشُ وهو أن يَدْعُوا بمعنى يقول ولَمَنْ مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ صِلَتُهُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ. وَهِيَ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ إِلَهٌ وَإِلَهِيٌّ.

وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مَحْكِيَّةٌ بِيَدْعُو الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى يَقُولُ، قِيلَ: هُوَ فَاسِدُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَعْتَقِدْ قَطُّ أَنَّ الْأَوْثَانَ ضَرُّهَا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهَا. وَقِيلَ: فِي هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ لَبِئْسَ مُسْتَأْنَفًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي الْحِكَايَةِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَقُولُونَ عَنْ أَصْنَامِهِمْ لَبِئْسَ الْمَوْلى.

الثَّانِي: أَنْ يَدْعُوا بِمَعْنَى يُسَمِّي، وَالْمَحْذُوفُ آخِرًا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِيُسَمَّى تَقْدِيرُهُ إِلَهًا وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ زِيَادَةِ اللَّامِ أَيْ يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ.

الثَّالِثُ: أَنَّ يَدْعُوَ شُبِّهَ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُضَمَّنَ مَعْنَى يَزْعُمُ وَيُقَدَّرَ لِمَنْ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِيَدْعُوَ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ الْفَارِسِيُّ.

الرابع: مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَهُوَ أَنَّ اللَّامَ دَخَلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا والتقدير يدعوا مَنْ لَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ مَا كَانَ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْصُولِ.

الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ اللام زائدة للتوكيد، ومن مَفْعُولٌ بِيَدْعُو وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَةِ اللَّامِ، لَكِنْ يُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ بِإِسْقَاطِ اللَّامِ، وَأَقْرَبُ التَّوْجِيهَاتِ أَنْ يَكُونَ يَدْعُوا تَوْكِيدًا لِيَدْعُو الْأَوَّلِ وَاللَّامُ فِي لَمَنْ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ قَسَمٌ مَحْذُوفٌ، وَجَوَابُهُ لَبِئْسَ الْمَوْلى والظاهر أن يَدْعُوا يُرَادُ بِهِ النِّدَاءَ وَالِاسْتِغَاثَةَ. وقيل: معناه بعيد، والْمَوْلى هُنَا النَّاصِرُ وَالْعَشِيرُ الصَّاحِبُ الْمُخَالِطُ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَةَ مَنْ يَعْبُدُهُ عَلَى حَرْفٍ وَسَفَّهَ رَأْيَهُ وَتَوَعَّدَهُ بِخُسْرَانِهِ فِي الْآخِرَةِ عَقَّبَهُ

ص: 491

بِذِكْرِ حَالِ مُخَالِفِيهِمْ مَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا وَعَدَهُمْ به من الوعد الحسن، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَوْبِيخِ أُولَئِكَ الْأَوَّلِينَ كَأَنَّهُ يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْعَابِدُونَ عَلَى حَرْفٍ صَحِبَهُمُ الْقَلَقُ وَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَنْ يَنْصُرَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأَتْبَاعَهُ، وَنَحْنُ إِنَّمَا أَمَرْنَاهُمْ بِالصَّبْرِ وَانْتِظَارِ وَعْدِنَا، فَمَنْ ظَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ وَيَخْتَلِقْ وَيَنْظُرْ هَلْ يَذْهَبُ بِذَلِكَ غَيْظُهُ، قَالَ هَذَا الْمَعْنَى قَتَادَةُ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمَثَلِ السَّائِرِ قولهم: دونك الحبل فَاخْتَنِقْ، يُقَالُ ذَلِكَ لِلَّذِي يُرِيدُ مِنَ الْأَمْرِ مَا لَا يُمْكِنُهُ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْهَاءُ فِي يَنْصُرَهُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ فَالْمَعْنَى أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فِي الدُّنْيَا بِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِعْلَاءِ دَرَجَتِهِ وَالِانْتِقَامِ مِمَّنْ كَذَّبَهُ، وَالرَّسُولُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ فَفِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ ذِكْرُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَظَانَّ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِشِدَّةِ غَيْظِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، يَسْتَبْطِئُونَ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنَ النَّصْرِ أَوْ أَعْرَابٌ اسْتَبْطَؤُوا ظُهُورُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَتَبَاطَؤُوا عَنِ الْإِسْلَامِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَنْصُرَهُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ، وَحَقُّ الضَّمِيرِ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَحَمَلَ بَعْضُ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلَ النَّصْرَ هُنَا عَلَى الرِّزْقِ كَمَا قَالُوا: أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ أَيْ مَمْطُورَةٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَإِنَّكَ لَا تُعْطِي امْرَأً فَوْقَ حَقِّهِ

وَلَا تَمْلِكُ الشِّقَّ الَّذِي أَنْتَ نَاصِرُهُ

أَيْ مُعْطِيهِ. وَقَالَ: وَقَفَ عَلَيْنَا سَائِلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ فَقَالَ: مَنْ يَنْصُرُنِي نَصَرَهُ اللَّهُ، فَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ فَيَعْدِلُ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ لِهَذَا الظَّنِّ كَمَا وَصَفَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ فَلْيَبْلُغْ غَايَةَ الْجَزَعِ وَهُوَ الِاخْتِنَاقُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَبْلُغُهُ إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ وَلَا يَجْعَلُهُ مَرْزُوقًا أَكْثَرَ مِمَّا قُسِمَ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ النَّصْرُ عَلَى بَابِهِ أَيْ من كان يظن أن لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيَغْتَاظُ لِانْتِفَاءِ نَصْرِهِ فَلْيَمْدُدْ، وَيَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ فَيَغْتَاظُ قَوْلُهُ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَتَحَيَّلْ بِأَعْظَمِ الْحِيَلِ فِي نُصْرَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ ثُمَّ لْيَقْطَعِ الْحَبْلَ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وَتَحَيُّلُهُ فِي إِيصَالِ النَّصْرِ إِلَيْهِ الشَّيْءَ الَّذِي يَغِيظُهُ مِنِ انْتِفَاءِ نَصْرِهِ بِتَسَلُّطِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا كَلَامٌ دَخَلَهُ اخْتِصَارٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ نَاصِرُ رَسُولِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمَنْ كَانَ يَظُنُّ مِنْ حَاسِدِيهِ وَأَعَادِيهِ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ خِلَافَ ذَلِكَ وَيَطْمَعُ فِيهِ وَيَغِيظُهُ أَنَّهُ لَا يَظْفَرُ بِمَطْلُوبِهِ فَلْيَسْتَقْصِ وُسْعَهُ وَلِيَسْتَفْرِغْ مَجْهُودَهُ فِي إِزَالَةِ مَا يَغِيظُهُ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ

ص: 492

مَنْ بَلَغَ مِنْهُ الْغَيْظُ كُلَّ مَبْلَغٍ حَتَّى مَدَّ حَبْلًا إِلَى سَمَاءِ بَيْتِهِ فَاخْتَنَقَ، فَلْيَنْظُرْ وَلِيُصَوِّرْ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ يُذْهِبُ نَصْرَ اللَّهِ الَّذِي يَغِيظُهُ، وَسُمِيَّ الِاخْتِنَاقُ قَطْعًا لِأَنَّ الْمُخْتَنِقَ يَقْطَعُ نَفْسَهُ بِحَبْسِ مَجَارِيهِ، وَمِنْهُ قِيلٌ لِلْبَهْرِ الْقَطْعُ وَسُمِّيَ فِعْلُهُ كَيْدًا لِأَنَّهُ وَضَعَهُ مَوْضِعَ الْكَيْدِ حَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكِدْ بِهِ مَحْسُودَهُ، إِنَّمَا كَادَ بِهِ نَفْسَهُ، وَالْمُرَادُ لَيْسَ فِي يَدِهِ إِلَّا مَا لَيْسَ بِمُذْهَبٍ لِمَا يَغِيظُهُ.

وَقِيلَ فَلْيَمْدُدْ بِحَبْلٍ إِلَى السَّماءِ الْمُظِلَّةِ وَلِيَصْعَدْ عَلَيْهِ فَلْيَقْطَعِ الْوَحْيَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي يَنْصُرَهُ عَائِدٌ عَلَى الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَبَيْنُ وُجُوهِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ مَثَلًا وَيَكُونُ النَّصْرُ الْمَعْرُوفَ وَالْقَطْعُ الِاخْتِنَاقَ وَالسَّمَاءُ الِارْتِفَاعَ فِي الْهَوَاءِ سَقْفٌ أَوْ شَجَرَةٌ أَوْ نَحْوُهُ فَتَأَمَّلْهُ، وَمَا فِي مَا يَغِيظُ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وَكَذَلِكَ أي ومثل ذلك الإنزال أَنْزَلْناهُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ آياتٍ بَيِّناتٍ أَيْ لَا تَفَاوُتَ فِي إِنْزَالِ بَعْضِهِ وَلَا إِنْزَالِ كُلِّهِ وَالْهَاءُ فِي أَنْزَلْناهُ لِلْقُرْآنِ أُضْمِرَ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «1» والتقدير والأمر أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أَيْ يَخْلُقُ الْهِدَايَةَ فِي قَلْبِكَ يُرِيدُ هِدَايَتَهُ لَا خَالِقَ لِلْهِدَايَةِ إِلَّا هُوَ.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ.

لَمَّا ذَكَرَ قَبْلُ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ «2» عقب بِبَيَانِ مَنْ يَهْدِيهِ وَمَنْ لَا يَهْدِيهِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَا يُرِيدُ هِدَايَتَهُ لَا يَهْدِيهِ يَدُلُّ إِثْبَاتُ الْهِدَايَةِ لِمَنْ يُرِيدُ عَلَى نَفْيِهَا عَمَّنْ لَا يُرِيدُ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا هُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَدَخَلَتْ إِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، ونحوه قول جرير:

(1) سورة ص: 38/ 32.

(2)

سورة الحج: 22/ 16.

ص: 493

إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ

سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ

وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ شَبَّهَ الْبَيْتَ بِالْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَرَنَهُ الزَّجَّاجُ بِالْآيَةِ وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ كَالْآيَةِ لِأَنَّ الْبَيْتِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَوْلُهُ: بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ، وَيَكُونُ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ سِرْبَالَ مُلْكٍ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا بِخِلَافِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ وَحَسَّنَ دُخُولَ إِنَّ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا طُولُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْمَعَاطِيفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ بِصَيْرُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْكَافِرِينَ إِلَى النَّارِ، وَنَاسَبَ الختم بقوله شَهِيدٌ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفَرْقِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَصْلُ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَمَاكِنِ جَمِيعًا فَلَا يُجَازِيهِمْ جَزَاءً وَاحِدًا بِغَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَقْضِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّجُودَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ طَوَاعِيَةِ مَا ذَكَرَ تَعَالَى وَالِانْقِيَادِ لِمَا يُرِيدُهُ تَعَالَى، وَهَذَا مَعْنَى شَمِلَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ، وَمَنْ يَسْجُدُ سُجُودَ التَّكْلِيفِ وَمَنْ لَا يَسْجُدُهُ، وَعَطَفَ عَلَى مَا مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَفِي السَّماواتِ الْمَلَائِكَةُ كانت تعبدها «1» والشَّمْسُ عَبَدَتْهَا حِمْيَرُ. وَعَبَدَ الْقَمَرُ كِنَانَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالدَّبَرَانَ تَمِيمٌ. وَالشِّعْرَى لَخْمٌ وقريش. والثريا طيىء وَعُطَارِدًا أَسَدٌ. وَالْمُرْزِمُ رَبِيعَةُ. وفِي الْأَرْضِ مَنْ عُبِدَ مِنَ الْبَشَرِ وَالْأَصْنَامِ الْمَنْحُوتَةِ مِنَ الْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالْبَقَرُ وَمَا عُبِدَ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالدَّوَابُّ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِرَارًا مِنَ التَّضْعِيفِ مِثْلُ ظَلَّتْ وَقَرَنَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ لِعُمُومِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِخُصُوصِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَطْفُ وَكَثِيرٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ الْمَعْطُوفَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ يَسْجُدُ إِذْ يَجُوزُ إِضْمَارُ يَسْجُدُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ سُجُودَ عِبَادَةٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى لَا أَنَّهُ يُفَسِّرُهُ يَسْجُدُ الْأَوَّلُ لِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ، وَمَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ يُجِيزُ عَطْفَ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ قَبْلَهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ السُّجُودُ عِنْدَهُ بِنِسْبَتِهِ لِمَا لَا يَعْقِلُ وَلِمَنْ يَعْقِلُ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَى مُقَابَلَةِ الَّذِينَ فِي الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ أَيْ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مُثَابٌ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّاسِ خَبَرًا لَهُ أَيْ مِنَ النَّاسِ الذين

(1) بياض بجميع الأصول.

ص: 494

هُمُ النَّاسُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهُمُ الصَّالِحُونَ وَالْمُتَّقُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبَالِغَ فِي تَكْثِيرِ الْمَحْقُوقِينَ بِالْعَذَابِ فَعُطِفَتْ كَثِيرٌ عَلَى كَثِيرٍ ثُمَّ، عَبَّرَ عَنْهُمْ بِحَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ كأنه قال وكثير من الناس حق عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ انْتَهَى. وَهَذَانِ التَّخْرِيجَانِ ضَعِيفَانِ.

وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ وَكَبِيرٌ حَقَّ بِالْبَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ يَسْجُدُ أَيْ كَرَاهِيَةً وَعَلَى رُغْمِهِ إِمَّا بِظِلِّهِ وَإِمَّا بِخُضُوعِهِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَالَ سجوده بظله. وقرىء وَكَثِيرٌ حَقًّا أَيْ حَقَّ عليهم العذاب حقا. وقرىء حُقَّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَمِنْ مَفْعُولٍ مُقَدَّمٍ بِيُهِنْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ مُكْرِمٍ اسْمُ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ مِنْ إِكْرَامٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ كُفْرِهِ أَوْ فِسْقِهِ، فَقَدْ بَقِيَ مُهَانًا لِمَنْ يَجِدُ لَهُ مُكْرِمًا أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ، وَلَا يَشَاءُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا يَقْتَضِيهِ عَمَلُ الْعَامِلِينَ وَاعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِينَ انْتَهَى.

وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْلَ السَّعَادَةِ وَأَهْلَ الشَّقَاوَةِ ذَكَرَ مَا دَارَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْخُصُومَةِ فِي دِينِهِ، فَقَالَ هذانِ

قَالَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ وَهِلَالُ بْنُ يَسَافٍ، نَزَلَتْ فِي الْمُتَبَارِزِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بَرَزَ وَالْعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ.

وَعَنْ عَلِيٍّ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْخُصُومَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَقْسَمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى هَذَا

وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْآيَةَ فِيهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَخَاصُمٌ، قَالَتِ الْيَهُودُ: نَحْنُ أَقْدَمُ دِينًا مِنْكُمْ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُجَاهِد وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنُ وَعَاصِمٌ وَالْكَلْبِيُّ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ عَلَى الْعُمُومِ، وَخَصْمُ مَصْدَرٌ وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْفَرِيقُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ اخْتَصَمُوا مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى إِذْ تَحْتَ كُلِّ خَصْمٍ أَفْرَادٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ خَصْمانِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَمَعْنَى فِي رَبِّهِمْ فِي دِينِ رَبِّهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ اخْتَصَمَا، رَاعَى لَفْظَ التَّثْنِيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّ لِلْكُفَّارِ.

وَقَرَأَ الزَّعْفَرَانِيُّ فِي اخْتِيَارِهِ: قُطِّعَتْ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يُقَدِّرُ لَهُمْ نِيرَانًا عَلَى مَقَادِيرَ جُثَثِهِمْ تَشْتَمِلُ عَلَيْهِمْ كَمَا تُقَطَّعُ الثِّيَابُ الْمَلْبُوسَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمُقَطَّعَ لَهُمْ يَكُونُ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ثِيابٌ مِنْ نُحَاسٍ مُذَابٍ وَلَيْسَ شَيْءٌ إِذَا حَمِيَ أَشَدَّ حَرَارَةً مِنْهُ، فَالتَّقْدِيرُ مِنْ نُحَاسٍ مَحْمِيٍّ بِالنَّارِ. وَقِيلَ: الثِّيَابُ مِنَ النَّارِ اسْتِعَارَةٌ عَنْ إِحَاطَةِ النَّارِ بِهِمْ

ص: 495

كَمَا يُحِيطُ الثَّوْبُ بِلَابِسِهِ. وَقَالَ وَهْبٌ: يُكْسَى أَهْلُ النَّارِ وَالْعُرْيُ خَيْرٌ لَهُمْ، وَيَحْيَوْنَ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُمْ.

وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يُصَبُّ عَلَى رُؤُوسِهِمْ إِذْ يَظْهَرُ فِي الْمَعْرُوفِ أَنَّ الثَّوْبَ إِنَّمَا يُغَطَّى بِهِ الْجَسَدُ دُونَ الرَّأْسِ فَذَكَرَ مَا يُصِيبُ الرَّأْسَ مِنَ الْعَذَابِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ سَقَطَتْ مِنَ الْحَمِيمِ نُقْطَةٌ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَأَذَابَتْهَا وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يُعَذِّبُ بِهِ الْجَسَدَ ظَاهِرَهُ وَمَا يُصَبُّ عَلَى الرَّأْسِ ذَكَرَ مَا يَصِلُ إِلَى بَاطِنِ الْمُعَذَّبِ وَهُوَ الْحَمِيمُ الَّذِي يُذِيبُ مَا فِي الْبَطْنِ مِنَ الْحَشَا وَيَصِلُ ذَلِكَ الذَّوْبُ إِلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ الْجِلْدُ فَيُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ تَأْثِيرَهُ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «1» وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَفِرْقَةٌ يُصْهَرُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رُؤُوسِهِمْ فَيَنْفُذُ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ فَيَسْلِبَ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ وَهُوَ الصَّهْرُ ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ» .

وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَالْجُلُودُ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَأَنَّ الْجُلُودُ تُذَابُ كَمَا تُذَابُ الْأَحْشَاءُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَتَخْرُقُ الْجُلُودُ لِأَنَّ الْجُلُودَ لَا تُذَابُ إِنَّمَا تَجْتَمِعُ عَلَى النَّارِ وَتَنْكَمِشُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ:

عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَيْ وَسَقَيْتُهَا مَاءً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَلَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، وَاللَّامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ.

وَقِيلَ: بِمَعْنَى عَلَى أَيٍّ وَعَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ «2» أَيْ وَعَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَا يُفَسِّرُهُ الْمَعْنَى وَهُوَ الزَّبَانِيَةُ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ: الْمَقَامِعُ الْمَطَارِقُ. وَقِيلَ:

سِيَاطٌ مِنْ نَارٍ

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ وُضِعَ مَقَمَعٌ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الثَّقَلَانِ مَا أَقَلُّوهُ من الأرض»

مِنْ غَمٍّ بَدَلٌ مِنْ مِنْهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ، أُعِيدَ مَعَهُ الْجَارُّ وَحُذِفَ الضَّمِيرُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى أَيْ مِنْ غَمِّهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلسَّبَبِ أَيْ لِأَجْلِ الْغَمِّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ، وَالظَّاهِرُ تَعْلِيقُ الْإِعَادَةِ عَلَى الْإِرَادَةِ لِلْخُرُوجِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، أَيْ مِنْ أَمَاكِنِهِمُ الْمُعَدَّةِ لِتَعْذِيبِهِمْ أُعِيدُوا فِيها أَيْ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ. وَقِيلَ أُعِيدُوا فِيها بِضَرْبِ الزَّبَانِيَةِ إِيَّاهُمْ بِالْمَقَامِعِ وَذُوقُوا أَيْ وَيُقَالُ لَهُمْ ذُوقُوا.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ذكر ما أعد من الثَّوَابِ لِلْخَصْمِ الْآخَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُحَلَّوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْلَامِ. وقرىء بضم الياء

(1) سورة محمد: 47/ 15.

(2)

سورة الرعد: 13/ 25.

ص: 496

وَالتَّخْفِيفِ. وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُشَدَّدِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَلَّوْنَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْحَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَلِيَ الرَّجُلُ وَحَلِيَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا صَارَتْ ذَاتَ حُلِيٍّ وَالْمَرْأَةُ ذَاتُ حُلِيٍّ وَالْمَرْأَةُ حَالٌّ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَلِيَ بِعَيْنِي يَحْلَى إِذَا اسْتَحْسَنْتَهُ، قَالَ فَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةً فَيَكُونُ الْمَعْنَى يَسْتَحْسِنُونَ فِيهَا الْأَسَاوِرَةَ الْمَلْبُوسَةَ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ جَعَلَ حَلِيَ فِعْلًا مُتَعَدِّيًا وَلِذَلِكَ حَكَمَ بِزِيَادَةِ مِنْ فِي الْوَاجِبِ وَلَيْسَ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ لَازِمًا فَإِنْ كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى كَانَتْ مِنْ لِلسَّبَبِ أَيْ بِلِبَاسِ أَسَاوِرِ الذَّهَبِ يَحْلَوْنَ بِعَيْنِ مَنْ يَرَاهُمْ أَيْ يَحْلَى بَعْضُهُمْ بِعَيْنِ بَعْضٍ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حَلَيْتُ بِهِ إِذَا ظَفِرْتُ بِهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى يُحَلَّوْنَ فِيها بِأَسَاوِرَ فَتَكُونُ مِنْ بَدَلًا مِنَ الْبَاءِ، وَالْحِلْيَةُ مِنْ ذَلِكَ فَإِمَّا إِذَا أَخَذْتَهُ مِنْ حَلَيْتُ بِهِ فإنه من الْحِلْيَةُ، وَهُوَ مِنَ الْيَاءِ وَإِنْ أَخَذْتَهُ مِنْ حَلِيَ بِعَيْنِي فَإِنَّهُ مِنَ الْحَلَاوَةِ مِنَ الْوَاوِ انْتَهَى. وَمِنْ مَعْنَى الظَّفَرِ قَوْلُهُمْ: لَمْ يَحْلُ فُلَانٌ بِطَائِلٍ، أَيْ لَمْ يَظْفَرْ. وَالظَّاهِرُ إِنَّ مِنْ فِي مِنْ أَساوِرَ لِلتَّبْعِيضِ وَفِي مِنْ ذَهَبٍ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ أُنْشِئَتْ مِنْ ذَهَبٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ فِي مِنْ أَساوِرَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْكَهْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَسْوَرَ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ وَلَا هَاءٍ، وَكَانَ قِيَاسَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ لِأَنَّهُ نَقَصَ بِنَاؤُهُ فَصَارَ كَجَنْدَلٍ لَكِنَّهُ قَدَّرَ الْمَحْذُوفَ مَوْجُودًا فَمَنَعَهُ الصَّرْفَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَنَافِعٌ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَسَلَامٌ وَيَعْقُوبُ وَلُؤْلُؤاً هُنَا وَفِي فَاطِرٍ بِالنَّصْبِ وَحَمَلَهُ أَبُو الْفَتْحِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيُؤْتَوْنَ لُؤْلُؤاً وَمَنْ جَعَلَ مِنْ فِي مِنْ أَساوِرَ زَائِدَةً جَازَ أَنْ يَعْطِفَ وَلُؤْلُؤاً عَلَى مَوْضِعِ أَساوِرَ وَقِيلَ يُعْطَفُ عَلَى مَوْضِعِ مِنْ أَساوِرَ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ ويُحَلَّوْنَ حُلِيًّا مِنْ أَساوِرَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ. وَأَهْلُ مَكَّةَ وَلُؤْلُؤٌ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى أَساوِرَ أَوْ عَلَى ذَهَبٍ لِأَنَّ السِّوَارَ يَكُونُ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ، يُجْمَعُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ.

قَالَ الْجَحْدَرِيُّ: الْأَلِفُ ثَابِتَةٌ بَعْدَ الْوَاوِ فِي الْإِمَامِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَيْسَ فِيهَا أَلِفٌ، وَرَوَى يَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ هَمْزَ الْأَخِيرِ وَإِبْدَالَ الْأُولَى. وَرَوَى الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ ضِدَّ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْفَيَّاضُ: وَلُولِيًّا قَلَبَ الْهَمْزَتَيْنِ وَاوًا صَارَتِ الثَّانِيَةُ وَاوًا قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، عَمِلَ فِيهَا مَا عَمِلَ فِي أَدَلَّ مِنْ قَلْبِ الْوَاوِ يَاءً وَالضَّمَّةُ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَيْلِيًّا أَبْدَلَ الْهَمْزَتَيْنِ

ص: 497

وَاوَيْنِ ثُمَّ قَلَبَهُمَا يَاءَيْنِ أتْبَعَ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَلُولٍ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْهِ المهموز.

والطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ إِنْ كَانَتِ الْهِدَايَةُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْأَقْوَالُ الطَّيِّبَةُ مِنَ الْأَذْكَارِ وَغَيْرِهَا، وَيَكُونُ الصِّرَاطُ طَرِيقَ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ إِخْبَارًا عَمَّا يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ قَوْلُهُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ مُحَاوَرَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَكُونُ الصِّرَاطُ الطَّرِيقَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ زَادَ ابْنُ زَيْدٍ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَعَنِ السُّدِّيِّ الْقُرْآنُ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَمِيدِ وَصْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْحَمِيدِ نَفْسَ الطَّرِيقِ، فَأَضَافَ إِلَيْهِ عَلَى حَدِّ إِضَافَتِهِ فِي قَوْلِهِ: دَارَ الْآخِرَةِ.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ:

الْمُضَارِعُ قَدْ لَا يُلْحَظُ فِيهِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ مِنْ حَالٍ أَوِ اسْتِقْبَالٍ فَيَدُلُّ إِذْ ذَاكَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَمِنْهُ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ «1» وَقِيلَ: هُوَ مُضَارِعٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي عَطْفًا عَلَى كَفَرُوا وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ وَهُمْ يَصُدُّونَ وَخَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ وَالْبادِ خَسِرُوا أَوْ هَلَكُوا وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ الْحَرامِ نُذِيقُهُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ بَعْدَهُ لِأَنَّ الَّذِي صِفَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَوْضِعُ التَّقْدِيرِ هُوَ بَعْدَ وَالْبادِ لَكِنَّ مُقَدَّرَ الزمخشري

(1) سورة الرعد: 13/ 28.

ص: 498

أَحْسَنُ مِنْ مُقَدَّرِ ابْنِ عَطِيَّةَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بَعْدُ مِنْ جهة اللفظ، وابن عَطِيَّةَ لِحَظَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ مَنْ أُذِيقَ الْعَذَابَ خَسِرَ وَهَلَكَ. وَقِيلَ: الْوَاوُ فِي وَيَصُدُّونَ زَائِدَةٌ وَهُوَ خَبَرُ إِنَّ تَقْدِيرُهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُفْسِدٌ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ انْتَهَى. وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ زِيَادَةَ الْوَاوِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ كُوفِيٌّ مَرْغُوبٌ عَنْهُ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ حِينَ صُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ صَدٌّ قَبْلَ ذَلِكَ بِجَمْعٍ إِلَّا أَنْ يُرَادَ صَدُّهُمْ لِأَفْرَادٍ مِنَ النَّاسِ فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْمَبْعَثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَفْسُ الْمَسْجِدِ وَمَنْ صُدَّ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فَقَدْ صُدَّ عَنْهُ. وَقِيلَ:

الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّهُمْ صَدُّوهُ وَأَهْلَهُ عليه السلام فَنَزَلُوا خَارِجًا عَنْهُ لَكِنَّهُ قَصَدَ بِالذِّكْرِ الْمُهِمِّ المقصود مِنَ الْحَرَمِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَوَاءٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الْعاكِفُ والْبادِ هو المبتدأ وسَواءً الْخَبَرُ، وَقَدْ أُجِيزَ الْعَكْسُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَعْنَى الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ قِبْلَةً أَوْ مُتَعَبِّدًا انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا إِنْ كَانَ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى لَا الْإِعْرَابَ فَيَسُوغُ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالْأَعْمَشُ سَواءً بِالنَّصْبِ وَارْتَفَعَ بِهِ الْعاكِفُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى مُسْتَوِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَمِنْ كَلَامِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٍ هُوَ وَالْعَدَمُ، فَإِنْ كَانَتْ جَعَلَ تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ فَسَوَاءً الثَّانِي أَوْ إِلَى وَاحِدٍ فَسَوَاءً حَالٌ مِنَ الْهَاءِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةِ الْقَطْعِيِّ سَوَاءً بِالنَّصْبِ الْعَاكِفُ فِيهِ بِالْجَرِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفًا عَلَى النَّاسِ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ عَطْفَ الْبَيَانِ والأولى أَنْ يَكُونَ بَدَلَ تَفْصِيلٍ.

وقرىء وَالْبَادِي وَصْلًا وَوَقْفًا وَبِتَرْكِهَا فِيهِمَا، وَبِإِثْبَاتِهَا وَصْلًا وَحَذْفِهَا وَقْفًا الْعاكِفُ الْمُقِيمُ فِيهِ وَالْبَادِي الطَّارِئُ عَلَيْهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى الِاسْتِوَاءِ فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاخْتَلَفُوا فِي مَكَّةَ، فَذَهَبَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي دَوْسِ مَكَّةَ، وَأَنَّ الْقَادِمَ لَهُ النُّزُولُ حَيْثُ وُجِدَ وَعَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ أَنْ يُؤْوِيَهُ شَاءَ أَوْ أَبَى، وَقَالَ بِهِ الثَّوْرِيُّ وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ سَابِطٍ: وَكَانَتْ دُورُهُمْ بِغَيْرِ أَبْوَابٍ حَتَّى كَثُرَتِ السَّرِقَةُ، فَاتَّخَذَ رَجُلٌ بَابًا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: أَتُغْلِقُ بَابًا فِي وَجْهِ حَاجِّ بَيْتِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ حِفْظَ مَتَاعِهِمْ مِنَ السَّرِقَةِ فَتَرَكَهُ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ الْأَبْوَابَ

ص: 499

وَهَذَا الْخِلَافُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي فَتْحِ مَكَّةَ أَكَانَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا؟ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي الْفِقْهِ.

وَالْإِلْحَادُ الْمَيْلُ عن القصد. ومفعول بَرَدٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ بِإِلْحادٍ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ. قَالَ الْأَعْشَى:

ضُمِنَتْ بِرِزْقِ عِيَالِنَا أَرْمَاحُنَا أَيْ رِزْقٌ وَكَذَا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ مَنْصُوبًا قَرَأَ وَمَنْ يُرِدْ إِلْحَادَهُ بِظُلْمٍ أَيْ إِلْحَادًا فِيهِ فَتَوَسَّعَ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ النَّاسُ بِإِلْحادٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ حَالَانِ مُتَرَادِفَتَانِ وَمَفْعُولُ يُرِدْ مَتْرُوكٌ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مُتَنَاوَلٍ، كَأَنَّهُ قَالَ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ مُرَادٌ إمّا عادلا عن الْقَصْدِ ظَالِمًا نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَقِيلَ:

الْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ مَنْعُ النَّاسِ عَنْ عِمَارَتِهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الِاحْتِكَارُ. وَعَنْ عَطَاءٍ:

قَوْلُ الرَّجُلِ فِي الْمُبَايَعَةِ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنَّ تُضَمَّنَ يُرِدْ مَعْنَى يَتَلَبَّسُ فَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ. وَعَلَّقَ الْجَزَاءَ وَهُوَ نُذِقْهُ عَلَى الْإِرَادَةِ، فَلَوْ نَوَى سَيِّئَةً وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ يُحَاسَبْ بِهَا إِلَّا فِي مَكَّةَ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِلْحَادُ هُنَا الشِّرْكُ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ اسْتِحْلَالُ الْحَرَامِ. وَقَالَ مجاهد: هو العمل السيّء فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ مِنَ الْإِلْحَادِ. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: الْحِكْرُ بِمَكَّةَ مِنَ الْإِلْحَادِ بِالظُّلْمِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْحَصْرِ إِذِ الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ.

وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ وَمَنْ يُرِدْ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنَ الْوُرُودِ وَحَكَاهَا الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، وَمَعْنَاهُ وَمَنْ أَتَى بِهِ بِإِلْحادٍ ظَالِمًا.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ وَصَدَّهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَوَعَّدَ فِيهِ مَنْ أَرَادَ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ذَكَرَ حَالِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى سُلُوكِهِمْ غَيْرَ طَرِيقِهِ مِنْ كُفْرِهِمْ بِاتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ وَامْتِنَانِهِ عَلَيْهِمْ بِإِنْفَادِ الْعَالَمِ إِلَيْهِمْ وَإِذْ بَوَّأْنا أَيْ وَاذْكُرْ إِذْ بَوَّأْنا أَي جَعَلْنَا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ مَبَاءَةً أَيْ مَرْجِعًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ لِلْعِمَارَةِ وَالْعِبَادَةِ. قِيلَ: وَاللَّامُ زَائِدَةٌ أَيْ بَوَّأْنَا إِبْرَاهِيمَ مكان البيت أي جعلنا يَبُوءُ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «1» وَقَالَ الشَّاعِرُ:

كَمْ صَاحِبٍ لِي صَالِحٌ

بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا

وَقِيلَ: مَفْعُولُ بَوَّأْنا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بَوَّأْنَا النَّاسَ، وَاللَّامُ فِي لِإِبْراهِيمَ لَامُ الْعِلَّةِ أي

(1) سورة العنكبوت: 29/ 58. [.....]

ص: 500

لِأَجْلِ إِبْرَاهِيمَ كَرَامَةً لَهُ وَعَلَى يَدَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً خِطَابٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَلِيَهَا فِعْلُ تَحْقِيقٍ أَوْ تَرْجِيحٍ كَحَالِهَا إِذَا كَانَتْ مُشَدَّدَةً أَوْ حَرْفُ تَفْسِيرٍ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَشَرْطُهَا أَنْ يَتَقَدَّمَهَا جُمْلَةٌ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ وبَوَّأْنا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ تَكُونَ أَنْ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ إِذْ يَلِيهَا الْفِعْلُ الْمُتَصَرِّفُ مِنْ ماض ومضارع وأمر النهي كَالْأَمْرِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ وَالْأَمْرُ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ تَفْسِيرًا لِلتَّبْوِئَةِ؟ قُلْتُ: كَانَتِ التَّبْوِئَةُ مَقْصُودَةً مِنْ أَجْلِ الْعِبَادَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ تَعَبُّدُنَا إِبْرَاهِيمَ قُلْنَا لَهُ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَالْأَقْذَارِ أَنْ تُطْرَحَ حَوْلَهُ.

وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو نَهِيكٍ: أن لا يُشْرِكَ بِالْيَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنْ يَقُولَ مَعْنَى الْقَوْلِ الَّذِي قِيلَ لَهُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ الْكَافِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى أَنْ لَا تُشْرِكْ.

وَالْقَائِمُونَ هُمُ الْمُصَلُّونَ ذَكَرَ مِنْ أَرْكَانِهَا أَعْظَمَهَا وَهُوَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَذِّنْ بِالتَّشْدِيدِ أَي نَادِ. رُوِيَ أَنَّهُ صَعَدَ أَبَا قُبَيْسٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ حُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَهُ الْحَسَنُ قَالَ: أُمِرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَآذَنَ بِمَدَّةٍ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَصَحَّفَ هَذَا عَلَى ابْنِ جِنِّي فَإِنَّهُ حَكَى عَنْهُمَا وَأَذِّنْ عَلَى فِعْلٍ مَاضٍ، وَأُعْرِبَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَهُ عَطْفًا عَلَى بَوَّأْنا انْتَهَى. وَلَيْسَ بِتَصْحِيفٍ بَلْ قَدْ حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ خَالَوَيْهِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ مِنْ جَمْعِهِ. وَصَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى وَإِذْ بَوَّأْنا فَيَصِيرُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَيَصِيرُ يَأْتُوكَ جَزْمًا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ وَطَهِّرْ انْتَهَى.

وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِالْحَجِّ بِكَسْرِ الْحَاءِ حَيْثُ وَقَعَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رِجالًا وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالتَّخْفِيفِ، وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ كَظُؤُارٍ وَرُوِيَ عَنْهُمْ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ

وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ.

وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا رُجَالَى عَلَى وَزْنِ النُّعَامَى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ، وَكَذَلِكَ مَعَ تَشْدِيدِ الْجِيمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَابْنِ حُدَيْرٍ، وَرِجَالٌ جَمْعُ رَاجِلٍ كَتَاجِرٍ وَتُجَّارٍ.

ص: 501

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَأْتِينَ فَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى كُلِّ ضامِرٍ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْبِلَادَ الشَّاسِعَةَ لَا يُتَوَصَّلُ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ بِالرُّكُوبِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضمير يشمل رِجالًا وكُلِّ ضامِرٍ عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ وَالرِّفَاقِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ يَأْتُونَ غَلَّبَ الْعُقَلَاءَ الذُّكُورَ فِي الْبَدَاءَةِ بِرِجَالٍ تَفْضِيلًا لِلْمُشَاةِ إِلَى الْحَجِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا آسَى عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي أَنْ لَا أَكُونَ حَجَجْتُ مَاشِيًا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ عَلَى سُقُوطِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ يَرْكَبُ الْبَحْرَ وَلَا طَرِيقَ لَهُ سِوَاهُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ عَلَى بَحْرٍ، وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا عَلَى إِحْدَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مَشْيٍ أَوْ رُكُوبٍ، فَذَكَرَ تَعَالَى مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَيْهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَجٍّ مَعِيقٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَنَافِعِ التِّجَارَةُ.

وَقَالَ الْبَاقِرُ: الْأَجْرُ.

وَقَالَ مُجَاهِد وَعَطَاءٌ كِلَاهُمَا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَكَّرَ الْمَنَافِعَ لِأَنَّهُ أَرَادَ مَنَافِعَ مُخْتَصَّةً بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ دِينِيَّةً وَدُنْيَاوِيَّةً لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ يُفَاضِلُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ، فَلَمَّا حَجَّ فَضَّلَ الْحَجَّ عَلَى الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا لِمَا شَاهَدَ مِنْ تِلْكَ الْخَصَائِصِ، وَكَنَّى عَنِ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ ذِكْرِ اسْمِهِ إِذَا نَحَرُوا أَوْ ذَبَحُوا، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ فِيمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ إن يذكر اسمه وَقَدْ حَسَّنَ الْكَلَامَ تَحْسِينًا بَيَّنَّا أَنْ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلِهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ ولو قال لِيَنْحَرُوا فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ لَمْ تَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْحُسْنِ وَالرَّوْعَةِ انْتَهَى.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ هُوَ عَلَى الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ لَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ لِقَوْلِهِ فِي أَيَّامٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقِيلَ:

الذِّكْرُ هُنَا حَمْدُهُ وَتَقْدِيسُهُ شُكْرًا عَلَى نِعْمَتِهِ فِي الرِّزْقِ وَيُؤَيِّدُهُ

قَوْلُهُ عليه السلام: «أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»

وَذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ:

الْمَعْلُومَاتُ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ، فَيَوْمُ النَّحْرِ مَعْلُومٌ لَا مَعْدُودٌ وَالْيَوْمَانِ بَعْدَهُ مَعْلُومَانِ مَعْدُودَانِ،

وَالرَّابِعُ مَعْدُودٌ لَا مَعْلُومٌ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ هِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ عِنْدَ عَلِيٍّ

وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عمر وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ، وَعِنْدَ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعِنْدَ النَّخَعِيِّ النَّحْرِ يَوْمَانِ، وَعِنْدَ ابْنِ سِيرِينَ النَّحْرُ يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ

ص: 502

يَسَارٍ الْأَضْحَى إِلَى هِلَالِ الْمُحَرَّمِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْمَعْلُومَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ الْفَاضِلَةُ كُلُّهَا، وَيَبْقَى أَمْرُ الذَّبْحِ وَأَمْرُ الِاسْتِعْجَالِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْدُودٍ وَلَا مَعْلُومٍ، وَيَكُونُ فَائِدَةُ قَوْلِهِ مَعْلُوماتٍ وَمَعْدُودَاتِ التَّحْرِيضِ عَلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ وَعَلَى اغْتِنَامِ فَضْلِهَا أَيْ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ هِيَ مَخْصُوصَاتٌ فَلْتَغْتَنِمْ انْتَهَى.

وَالْبَهِيمَةُ مُبْهَمَةٌ فِي كُلُّ ذَاتِ أَرْبَعٍ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَبُيِّنَتْ بِالْأَنْعَامِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعَزُ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي مَدْلُولِ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فِي أَوَّلِ الْمَائِدَةِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ. وَقِيلَ: بِاسْتِحْبَابِهِمَا. وَقِيلَ: بِاسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ ووجوب الإطعام.

والْبائِسَ الَّذِي أَصَابَهُ بُؤْسٌ أَيْ شِدَّةٌ. وَالتَّفَثُ: مَا يَصْنَعُهُ الْمُحْرِمُ عِنْدَ حِلِّهِ مِنْ تَقْصِيرِ شَعْرٍ وَحَلْقِهِ وَإِزَالَةِ شَعَثِهِ وَنَحْوِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْخَمْسِ مِنَ الْفِطْرَةِ حَسَبِ الْحَدِيثِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ قَضَاءُ جَمِيعِ مَنَاسِكِهِ إِذْ لَا يَقْضِي التَّفَثَ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: التَّفَثُ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَجِّ وَعَنْهُ الْمَنَاسِكُ كُلُّهَا، وَالنُّذُورُ هُنَا مَا يُنْذِرُونَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فِي حِجِّهِمْ. وَقِيلَ:

الْمُرَادُ الْخُرُوجُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ نَذَرُوا أَوْ لَمْ يَنْذُرُوا. وَقَرَأَ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَلْيُوفُوا مُشَدَّدًا وَالْجُمْهُورُ مُخَفَّفًا وَلْيَطَّوَّفُوا هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَبِهِ تَمَامُ التَّحَلُّلِ. وَقِيلَ: هُوَ طَوَافُ الصَّدْرِ وَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنَّهُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْتَمِلُ بِحَسَبِ التَّرْتِيبِ أَنْ يَكُونَ طَوَافَ الوداع انتهى.

والْعَتِيقِ الْقَدِيمُ قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ، أَوِ الْمُعْتَقُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ قَالَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَقَتَادَةُ، كَمْ جَبَّارٍ سَارَ إِلَيْهِ فَأَهْلَكَهُ اللَّهُ قَصَدَهُ تُبَّعٌ لِيَهْدِمَهُ فَأَصَابَهُ الْفَالِجُ، فَأَشَارَ الْأَخْيَارُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ وَقَالُوا لَهُ: رَبٌّ يَمْنَعُهُ فَتَرَكَهُ وَكَسَاهُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَسَاهُ، وَقَصَدَهُ أَبَرْهَةُ فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ وَأَمَّا الْحَجَّاجُ فَلَمْ يَقْصِدِ التَّسْلِيطَ عَلَى الْبَيْتِ لَكِنْ تَحَصَّنَ بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَاحْتَالَ لِإِخْرَاجِهِ ثُمَّ بَنَاهُ أَوِ الْمُحَرَّرُ لَمْ يُمْلَكْ مَوْضِعُهُ قَطُّ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ الْمُعْتَقُ مِنَ الطُّوفَانِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَابْنُ جُبَيْرٍ، أَوِ الْجَيِّدُ مِنْ قَوْلِهِمْ: عِتَاقُ الْخَيْلِ وَعِتَاقُ الطَّيْرِ أَوِ الَّذِي يُعْتَقُ فِيهِ رِقَابُ الْمُذْنِبِينَ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَرُدُّهُ التَّصْرِيفُ انْتَهَى. وَلَا يَرُدُّهُ التَّصْرِيفُ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ تَفْسِيرَ مَعْنًى، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ فَلِأَنَّ الْعَتِيقِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ أَيْ مُعْتِقٌ رِقَابَ الْمُذْنِبِينَ، وَنَسَبَ الْإِعْتَاقَ إِلَيْهِ مَجَازًا إِذْ بِزِيَارَتِهِ وَالطَّوَافِ بِهِ يَحْصُلُ الْإِعْتَاقُ، وَيَنْشَأُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْتِقًا أَنْ يُقَالَ فِيهِ: يُعْتِقُ فِيهِ رِقَابَ الْمُذْنِبِينَ.

ذلِكَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فَرْضُكُمْ ذلِكَ أَوِ الْوَاجِبُ ذلِكَ

ص: 503

وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ الْأَمْرُ أَوِ الشَّأْنُ ذلِكَ قَالَ كَمَا يُقَدِّمُ الْكَاتِبُ جُمْلَةً مِنْ كِتَابِهِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ الْخَوْضَ فِي مَعْنًى آخَرَ قَالَ: هَذَا وَقَدْ كَانَ كَذَا انْتَهَى. وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَيْ ذلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي ذَكَرْتَهُ. وَقِيلَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ تَقْدِيرُهُ امْتَثِلُوا ذلِكَ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْإِشَارَةِ الْبَلِيغَةِ قَوْلُ زُهَيْرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ جُمَلٌ فِي وَصْفِ هَرَمٍ:

هَذَا وَلَيْسَ كَمَنْ يَعِيَا بِخُطْبَتِهِ

وَسَطَ النَّدَى إِذَا مَا نَاطِقٌ نَطْقًا

وَكَانَ وَصَفَهُ قَبْلَ هَذَا بِالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ، ثُمَّ وَصَفَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ بِالْبَلَاغَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا خُلُقُهُ وَلَيْسَ كَمَنْ يَعِيَا بِخُطْبَتِهِ، وَالْحُرُمَاتُ مَا لَا يَحِلُّ هَتْكُهُ وَجَمِيعُ التَّكْلِيفَاتِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا حُرُمُهُ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُهُ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ، وَيُحْتَمَلُ الْخُصُوصُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ قَالَ: مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ جَمِيعُ الْمَنَاهِي فِي الْحَجِّ: فُسُوقٌ وَجِدَالٌ وَجِمَاعٌ وَصَيْدٌ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ هِيَ خَمْسٌ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، وَالْمُحَرَّمُ حَتَّى يَحِلَّ. وَضَمِيرُ فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ وَمَنْ يُعَظِّمْ أَيْ فَالتَّعْظِيمُ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أَيْ قُرْبَةٌ مِنْهُ وَزِيَادَةٌ فِي طَاعَتِهِ يُثِيبُهُ عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَيْرًا هُنَا لَيْسَ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ.

وأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ دَفْعًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ بِرَأْيِهَا كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ مَا نَصَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَالْمَعْنَى مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ آيَةَ تَحْرِيمِهِ.

وَلَمَّا حَثَّ عَلَى تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَذَكَرَ أَنَّ تَعْظِيمَهَا خَيْرٌ لِمُعَظِّمِهَا عِنْدَ اللَّهِ أَتْبَعَهُ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ الْأَوْثَانِ وَقَوْلِ الزُّورِ لِأَنَّ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ وَصِدْقَ الْقَوْلِ أَعْظَمُ الْحُرُمَاتِ، وَجُمِعَا فِي قِرَانٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الشِّرْكَ مِنْ بَابِ الزُّورِ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوَثَنَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ فَاجْتَنِبُوا عِبَادَةَ الْأَوْثانِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ الزُّورِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ كله. ومَنْ فِي مِنَ الْأَوْثانِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَيُقَدَّرُ بِالْمَوْصُولِ عِنْدَهُمْ أَيِ الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ مَنْ لِبَيَانِ الجنس جَعَلَ مَنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَكَأَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ الرِّجْسِ عَامًا ثُمَّ عَيَّنَ لَهُمْ مَبْدَأَهُ الَّذِي مِنْهُ يَلْحَقُهُمْ إِذْ عِبَادَةُ الْوَثَنِ جَامِعَةٌ لِكُلِّ فَسَادٍ وَرِجْسٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ سَائِرِ الْأَرْجَاسِ مِنْ مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ قَالَ أَنَّ مَنْ لِلتَّبْعِيضِ قَلَبَ مَعْنَى الْآيَةِ فَأَفْسَدَهُ انْتَهَى. وَقَدْ

ص: 504

يُمْكِنُ التَّبْعِيضُ فِيهَا بِأَنْ يَعْنِيَ بِالرِّجْسِ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَاجْتَنِبُوا مِنَ الْأَوْثَانِ الرِّجْسَ وَهُوَ الْعِبَادَةُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الْأَوْثَانِ إِنَّمَا هُوَ الْعِبَادَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُتَصَوَّرُ اسْتِعْمَالُ الْوَثَنِ فِي بِنَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمُهُ الشَّرْعُ؟

فَكَأَنَّ لِلْوَثَنِ جِهَاتٍ مِنْهَا عِبَادَتُهَا، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِاجْتِنَابِهِ وَعِبَادَتُهَا بَعْضُ جِهَاتِهَا، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الزُّورِ مُعَادِلًا لِلْكُفْرِ لَمْ يُعْطَفْ عَلَى الرِّجْسِ بَلْ أُفْرِدَ بِأَنْ كَرَّرَ لَهُ الْعَامِلَ اعْتِنَاءً بِاجْتِنَابِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالشِّرْكِ» .

وَلَمَّا أَمَرَ بِاجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَقَوْلِ الزُّورِ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِ فَقَالَ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الْآيَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُرَكَّبِ وَالْمُفَرَّقِ، فَإِنْ كَانَ تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ إِهْلَاكًا لَيْسَ بَعْدَهُ بِأَنْ صَوَّرَ حَالَهُ بِصُورَةِ حَالِ مَنْ خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فتفرق مرعا فِي حَوَاصِلِهَا، وَعَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ حَتَّى هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَطَارِحِ الْبَعِيدَةِ، وَإِنْ كَانَ مُفَرَّقًا فَقَدْ شَبَّهَ الْإِيمَانَ فِي عُلُوِّهِ بِالسَّمَاءِ وَالَّذِي تَرَكَ الْإِيمَانَ وَأَشْرَكَ بِاللَّهِ بِالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْإِهْوَاءُ الَّتِي تُنَازِعُ أَوْكَارَهُ بِالطَّيْرِ الْمُخْتَطِفَةِ، وَالشَّيْطَانُ الَّذِي يُطَوِّحُ بِهِ فِي وَادِي الضَّلَالَةِ بِالرِّيحِ الَّتِي تَهْوِي مِمَّا عَصَفَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَهَاوِي الْمُتْلِفَةِ انْتَهَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ فَتَخْطَفُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مُشَدَّدَةً وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِسُكُونِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْمَشُ بِكَسْرِ التَّاءِ وَالْخَاءِ وَالطَّاءِ مُشَدَّدَةً، وَعَنِ الْحَسَنِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الطَّاءَ مُشَدَّدَةً.

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا تَخُطُّهُ بِغَيْرِ فَاءٍ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ مُخَفَّفَةً. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ: الرَّيَّاحُ.

ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ.

إِعْرَابُ ذلِكَ كَإِعْرَابِ ذلِكَ الْمُتَقَدِّمِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ شَعائِرَ اللَّهِ فِي أَوَّلِ

ص: 505

الْمَائِدَةِ، وَأَمَّا هُنَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: هِيَ الْبُدْنُ الْهَدَايَا، وَتَعْظِيمُهَا تَسْمِينُهَا وَالِاهْتِبَالُ بِهَا وَالْمُغَالَاةُ فِيهَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الشَّعَائِرُ سِتٌّ: الصَّفَا، وَالْمَرْوَةُ، وَالْبُدْنُ، وَالْجِمَارُ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَعَرَفَةُ، وَالرُّكْنُ. وَتَعْظِيمُهَا إِتْمَامُ مَا يُفْعَلُ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَابْنُ زَيْدٍ: مَوَاضِعُ الْحَجِّ كُلُّهَا وَمَعَالِمُهُ بِمِنًى وَعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْبَيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا نَحْوٌ مَنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.

وَقِيلَ: شَرَائِعُ دِينِهِ وَتَعْظِيمُهَا الْتِزَامُهَا وَالْمَنَافِعُ الْأَجْرُ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي فِيها مِنْ قَوْلِهِ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ عَائِدًا عَلَى الشَّعَائِرِ الَّتِي هِيَ الشَّرَائِعُ أَيْ لَكُمْ فِي التَّمَسُّكُ بِهَا مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُنْقَطِعُ التَّكْلِيفِ ثُمَّ مَحِلُّها بِشَكْلٍ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. فَقِيلَ:

الْإِيمَانُ وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ بِالصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ الْقَصْدُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَيْ مَحَلِّ مَا يَخْتَصُّ مِنْهَا بِالْإِحْرَامِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ ثُمَّ أَجْرُهَا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ قِيلَ: وَلَوْ قِيلَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ الْجَنَّةُ لَمْ يُبْعِدُوا الضَّمِيرَ فِي إِنَّهَا عَائِدٌ عَلَى الشَّعَائِرِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا أَوْ عَلَى التَّعْظِمَةِ، وَأَضَافَ التَّقْوَى إِلَى الْقُلُوبِ كَمَا

قَالَ عليه الصلاة والسلام: «التَّقْوَى هاهنا» .

وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ.

وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَهْدَى نَجِيبَةً طُلِبَتْ مِنْهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا بُدْنًا فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: «بَلِ اهْدِهَا» وَأَهْدَى هُوَ عليه السلام مِائَةَ بَدَنَةٍ فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ،

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسُوقُ الْبُدْنَ مُجَلَّلَةً بِالْقَبَاطِيِّ فَيَتَصَدَّقُ بِلُحُومِهَا وَبِجِلَالِهَا، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ فِي التَّقَرُّبِ بِهَا وَإِهْدَائِهَا إِلَى بَيْتِهِ الْمُعَظَّمِ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا بُدَّ أَنْ يُقَامَ بِهِ وَيُسَارَعَ فِيهِ، وَذَكَرَ الْقُلُوبِ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ يُظْهِرُ التَّقْوَى وَقَلْبُهُ خَالٍ عَنْهَا، فَلَا يَكُونُ مُجِدًّا فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، وَالْمُخْلِصُ التَّقْوَى بِاللَّهِ فِي قَلْبِهِ فَيُبَالِغُ فِي أَدَائِهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مَنْ أَفْعَالِ ذَوِي تَقْوَى الْقُلُوبِ فَحُذِفَتْ هَذِهِ الْمُضَافَاتُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى إِلَّا بِتَقْدِيرِهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَاجِعٍ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَى مَنْ لِيَرْتَبِطَ بِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا مَرَاكِزُ التَّقْوَى الَّتِي إِذَا ثَبَتَتْ فِيهَا وَتَمَكَّنَتْ ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ انْتَهَى.

وَمَا قَدَّرَهُ عَارٍ مِنْ رَاجِعٍ إِلَى الْجَزَاءِ إِلَى مَنْ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مَنْ يَرْبُطُ جُمْلَةَ الْجَزَاءِ بِجُمْلَةِ الشرط الذي أدانه مَنْ وَإِصْلَاحُ مَا قَالَهُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَأَيُّ تَعْظِيمِهَا مِنْهُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدًا عَلَى مَنْ فَيَرْتَبِطُ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ.

ص: 506

وقرىء الْقُلُوبُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ تَقْوَى وَالضَّمِيرُ فِي فِيها عَائِدٌ عَلَى الْبُدْنَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالْمَنَافِعُ دَرُّهَا وَنَسْلُهَا وَصُوفُهَا وَرُكُوبُ ظَهْرِهَا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ أَنْ يُسَمِّيَهَا وَيُوجِبَهَا هَدْيًا فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ مِقْسَمٍ، وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنَافِعُ الْهَدَايَا بَعْدَ إِيجَابِهَا وَتَسْمِيَتِهَا هَدْيًا بِأَنْ تُرْكَبُ وَيُشْرَبَ لَبَنُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ إِلَى أَنْ تُنْحَرَ.

وَقِيلَ: إِلَى أَنْ تُشْعَرَ فَلَا تُرْكَبُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَرَوَى أَبُو رَزِينٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ إِلَى الْخُرُوجِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ هَذِهِ الشَّعَائِرِ إِلَى غَيْرِهَا. وَقِيلَ: الْأَجَلُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَى أَنْ تُنْحَرَ وَيُتَصَدَّقَ بِلُحُومِهَا ويؤكل منها.

وثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الْوَقْتِ فَاسْتُعِيرَتْ لِلتَّرَاخِي فِي الْأَفْعَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ لَكُمْ فِي الْهَدَايَا مَنَافِعَ كَثِيرَةً فِي دُنْيَاكُمْ وَدِينِكُمْ وَإِنَّمَا يُعْبَدُ اللَّهُ بِالْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ «1» وَأَعْظَمُ هَذِهِ الْمَنَافِعِ وَأَبْعَدُهَا شَوْطًا فِي النَّفْعِ مَحَلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ أَيْ وُجُوبُ نَحْرِهَا، أَوْ وَقْتَ وُجُوبِ نَحْرِهَا مُنْتَهِيَةً إِلَى الْبَيْتِ كَقَوْلِهِ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «2» وَالْمُرَادُ نَحْرُهَا فِي الْحَرَمِ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْبَيْتِ لِأَنَّ الْحَرَمَ هُوَ حَرِيمُ الْبَيْتِ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الِاتِّسَاعِ قَوْلُكَ: بَلَغْنَا الْبَلَدَ وَإِنَّمَا شَارَفْتُمُوهُ وَاتَّصَلَ مَسِيرُكُمْ بِحُدُودِهِ. وَقِيلَ:

الْمُرَادُ بِالشَّعَائِرِ الْمَنَاسِكُ كلها ومَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ يَأْبَاهُ انْتَهَى.

وَقَالَ الْقَفَّالُ: الْهَدْيُ الْمُتَطَوِّعُ بِهِ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ بُلُوغِ مَكَّةَ فَإِنَّ مَحِلَّهُ مَوْضِعُهُ، فَإِذَا بَلَغَ مِنًى فَهِيَ مَحِلُّهُ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَكَرَّرَ ثُمَّ لِتَرْتِيبِ الْجُمَلِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَ هَاتَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ يَعْنِي مَنْ قَالَ مُجَاهِد وَمَنْ وَافَقَهُ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ عَطَاءٍ ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى مَوْضِعِ النَّحْرِ فَذَكَرَ الْبَيْتَ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْحَرَمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْهَدْيِ وَغَيْرِهِ، وَالْأَجْلُ الرُّجُوعُ إِلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَقَوْلُهُ ثُمَّ مَحِلُّها مَأْخُوذٌ مِنْ إِحْلَالِ الْمُحْرِمِ مَعْنَاهُ، ثُمَّ أَخَّرَ هَذَا كُلَّهُ إِلَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَالْبَيْتُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مُرَادٌ بِنَفْسِهِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ انْتَهَى.

وَالْمَنْسَكُ مَفْعَلٌ مِنْ نَسَكَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا لِلنُّسُكِ، أَيْ مَكَانَ نُسُكٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَكَانُ الْعِبَادَةِ مُطْلَقًا أَوِ الْعِبَادَةُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ

(1) سورة الأنفال: 8/ 67.

(2)

سورة المائدة: 5/ 95.

ص: 507

نُسُكٌ خَاصٌّ أَوْ نُسُكًا خَاصًّا وَهُوَ مَوْضِعُ ذَبْحٍ أَوْ ذَبْحٍ، وَحَمَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الذَّبْحِ، يُقَالُ: شَرَعَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَنْ يَنَسَكُوا لَهُ أَيْ يَذْبَحُوا لِوَجْهِهِ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ، وَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ عَلَى الْمَنَاسِكِ انْتَهَى. وَقِيَاسُ بِنَاءِ مَفْعَلٍ مِمَّا مضارعه يفعل يضم الْعَيْنِ مَفْعَلٌ بِفَتْحِهَا فِي الْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَبِالْفَتْحِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ بِكَسْرِهَا الْأَخَوَانِ وَابْنُ سَعْدَانَ وَأَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَيُونُسَ وَمَحْبُوبٍ وَعَبْدِ الْوَارِثِ إِلَّا الْقَصَبِيَّ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْكَسْرُ فِي هَذَا مِنَ الشَّاذِّ وَلَا يُسَوَّغُ فِيهِ الْقِيَاسُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْكِسَائِيُّ سَمِعَهُ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: منسك وَمَنْسَكٌ لُغَتَانِ. وَقَالَ مُجَاهِد:

الْمَنْسَكُ الذَّبْحُ، وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ يُقَالُ: نَسَكَ إِذَا ذَبَحَ، وَالذَّبِيحَةُ نَسِيكَةٌ وَجَمْعُهَا نُسُكٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَنْسَكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُعْتَادُ فِي خَيْرٍ وَبِرٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ مَنْسَكاً أَيْ مَذْهَبًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، يُقَالُ: نَسَكَ نُسُكَ قَوْمِهِ إِذَا سَلَكَ مَذْهَبُهُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ مَنْسَكاً عِيدًا وَقَالَ قَتَادَةُ: حَجًّا.

لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَمَرْنَاهُمْ عِنْدَ ذَبَائِحِهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ لَهُ لِأَنَّهُ رَازِقُ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْحَاضِرِينَ فَقَالَ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا أَيِ انْقَادُوا، وَكَمَا أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ يَجِبُ أَنْ يُخْلَصَ لَهُ فِي الذَّبِيحَةِ وَلَا يُشْرَكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْإِخْبَاتِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: الْمُخْبِتُونَ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ وَإِذَا ظُلِمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ بِالْخَفْضِ عَلَى الْإِضَافَةِ وَحُذِفَتِ النُّونُ لِأَجْلِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ الصَّلاةِ بِالنَّصْبِ وَحُذِفَتِ النُّونُ لِأَجْلِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْمُقِيمِينَ بِالنُّونِ الصَّلاةِ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: وَالْمُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَنَاسَبَ تَبْشِيرُ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِخْبَاتِ هُنَا لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ مِنْ نَزْعِ الثِّيَابِ وَالتَّجَرُّدِ مِنَ الْمَخِيطِ وَكَشْفِ الرَّأْسِ وَالتَّرَدُّدِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْغَبَرَةِ الْمُحَجَّرَةِ، وَالتَّلَبُّسُ بِأَفْعَالٍ شَاقَّةٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى مُؤْذِنٌ بِالِاسْتِسْلَامِ الْمَحْضِ وَالتَّوَاضُعِ الْمُفْرِطِ حَيْثُ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ مَأْلُوفِهِ إِلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالْإِخْبَاتِ وَالْوَجِلِ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى وَالصَّبْرُ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَشَاقِّ وَإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاضِعَ لَا يُقِيمُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُصْطَفَوْنَ وَالْإِنْفَاقُ مِمَّا رَزَقَهُمْ وَمِنْهَا الْهَدَايَا الَّتِي يُغَالُونَ فِيهَا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْبُدْنَ بِإِسْكَانِ الدَّالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَشَيْبَةُ وَعِيسَى بِضَمِّهَا وَهِيَ الْأَصْلُ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَنَافِعٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا بِضَمِّ الْيَاءِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا بُنِيَ عَلَى فُعُلٍّ كَعُتُلٍّ،

ص: 508

وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ التَّشْدِيدُ مِنَ التَّضْعِيفِ الْجَائِزِ فِي الْوَقْفِ، وَأَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى نَصْبِ وَالْبُدْنَ عَلَى الِاشْتِغَالِ أَيْ وجعلنا الْبُدْنَ وقرىء بالرفع على الابتداء ولَكُمْ أي لأجلكم ومِنْ شَعائِرِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَمَعْنَى مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ مِنْ أَعْلَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ وَأَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا لَهَا لَكُمْ فِيها خَيْرٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَفْعٌ فِي الدُّنْيَا، وَأَجْرٌ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَجْرٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مَنِ احْتَاجَ إِلَى ظَهْرِهَا رَكِبَ وَإِلَى لَبَنِهَا شَرِبَ عَلَيْها صَوافَّ أَيْ عَلَى نَحْرِهَا.

قَالَ مُجَاهِد: مَعْقُولَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَائِمَةٌ قَدْ صَفَّتْ أَيْدِيهَا بِالْقُيُودِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى:

مُصْطَفَّةٌ وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ النَّحْرِ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ. وَقَرَأَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَشَقِيقٌ وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَالْأَعْرَجُ: صَوَافِيُّ جَمْعُ صَافِيَةٍ وَنَوَّنَ الْيَاءَ عَمْرُو بْنُ عُبَيدٍ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّنْوِينُ عِوَضٌ مِنْ حَرْفٍ عِنْدَ الْوَقْفِ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى لُغَةِ مَنْ صَرَفَ مَا لَا يَنْصَرِفُ، وَلَا سِيَّمَا الْجَمْعُ الْمُتَنَاهِي، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ وَالصَّرْفُ فِي الْجَمْعِ أَيْ كَثِيرًا حَتَّى ادَّعَى قَوْمٌ بِهِ التَّخْيِيرَ أَيْ خَوَالِصُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُشْرِكُ فِيهَا بِشَيْءٍ، كَمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تُشْرِكُ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا صَوافَّ مِثْلَ عَوَارَّ وَهُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ فكسرت عار لَحْمِهِ يُرِيدُ عَارِيًا وَقَوْلُهُمْ: اعْطِ الْقَوْسَ بَارِيَهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَاقِرُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُ صَوَافِنْ بِالنُّونِ، وَالصَّافِنَةُ مِنَ الْبُدْنِ مَا اعْتَمَدَتْ عَلَى طَرَفِ رِجْلٍ بَعْدَ تَمَكُّنِهَا بِثَلَاثِ قَوَائِمَ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْلِ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها عِبَارَةٌ عَنْ سُقُوطِهَا إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ نَحْرِهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ الْقانِعَ السَّائِلُ وَالْمُعْتَرَّ الْمُعْتَرِضُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، وَعَكَسَتْ فِرْقَةٌ هَذَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقانِعَ الْمُسْتَغْنِيَ بِمَا أُعْطِيَهُ وَالْمُعْتَرَّ الْمُعْتَرِضُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ. وَحَكَى عَنْهُ الْقانِعَ الْمُتَعَفِّفُ وَالْمُعْتَرَّ السَّائِلُ.

وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْقانِعَ الْجَارُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَقَالَ قَتَادَةُ الْقانِعَ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالْمُعْتَرَّ الْمُعْتَرِضُ لِلسُّؤَالِ. وَقِيلَ الْمُعْتَرَّ الصَّدِيقُ الزَّائِرُ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: الْقَنْعُ بِغَيْرِ أَلِفٍ أَيِ الْقانِعَ فَحَذَفَ الْأَلِفَ كَالْحَذِرِ وَالْحَاذِرِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْمُعْتَرِي اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اعْتَرَى.

وَقَرَأَ عَمْرٌو وَإِسْمَاعِيلُ وَالْمُعْتَرَّ بِكَسْرِ الرَّاءِ دُونَ يَاءٍ، هَذَا نَقْلُ ابْنُ خَالَوَيْهِ.

ص: 509