الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
فصل أخبار مستظرفة لجماعة من البخلاء
227 -
أخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قَالَ: أخبرني أبي، أن أبا عبد اللَّه بْن أَحْمَد بْن سعيد حدثه، أن العسكري حدثه، قَالَ: " كنت أكتب لأبي أَحْمَد بْن ماذويه الأهوازي، وهو يومئذ عامل خوي أرذك والأنهار، وكان من أبخل من رأيت على شيء من المأكولات، وكان يحتبسني للأكل، فأجلس معه على الطعام، ولا آكل كثير شيء، فاحتبسني يوما وعنده جماعة، فأكلوا وأكل، وجريت على عادتي في التنقير، وكان الطعام أرزة جدي مشوي ولونين، من أطرافه وسقطه، فلما فرغنا من ذلك أقبل غلامه وعلى يده طيفورية فيها الجدي، فأقبل هو علينا، فقال: أما أنا فقد شبعت، ولم يبق في فضل، فما تقولون أنتم؟ فقلت: أما أنا فقد شبعت.
فقالت الجماعة كقولي.
قَالَ فنجعل الجدي لغد ونأكله مبردا.
فقلت: هذا هو الصواب.
فقال: ما أظنكم إلا وفيكم فضلة للأكل، وإنما قلتم قد شبعتم مساعدة لي.
فقلت لا واللَّه يا سيدي، ما في فضل.
فقال للذي يليني: ما تقول؟ فقال: ما في فضل.
فقال لو كنت شبعان لحلفت كما حلف أبو عبد اللَّه.
فحلف الرجل الرجل أنه شبعان، فقال للآخر الذي إلى جانبه، فحلف، فلم يزل يستقري واحدا واحدا، ويحلف أنه شبعان ومن لم يحلف، قَالَ له: لو كنت شبعان لحلفت.
فيحلف الرجل، فلما استوثق من جماعتنا بالأيمان، وثلج صدره أنه لا حيلة لأحد منا في الأكل، قَالَ: أما أنا فقد تتبعت نفسي أكل شحم كلاه حارا.
فقلنا له: كل هناك اللَّه.
فقال: يا غلام، ضع الطيفورية.
فتركت بين يديه، فأكل أكثر الجدي وحده، وأمر برفع باقيه وحفظه "
228 -
وأخبرنا التنوخي، حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: أخبرني غير واحد: " أن أسد بْن جهور العامل كان بخيلا سواديا، وكان مكاشفا بالبخل على الطعام جدا، فكان ندماؤه يلقون لذلك جهدا، وكان يحضرهم ويطالبهم بالجلوس، ويحضر كل لذيذ شهي من الطعام، فإن ذاقه منهم ذائق استحل دمه وعجل عقوبته، وكانت علامته معهم إذا شيلت المائدة أنّ يمسحوا أيديهم بلحاهم، ليعلم أنهم ما شعثوا شيئا يزهمها، وكان له ابن أخت يتجرى عليه ولا يفكر فيه، ويهتك ستره إذا واكله.
فقدمت يوما إليه دجاجة هندية فائقة سرية، فحين أهوى ابن أخته إليها بيده قبض أسد عليها، وقال: يا غث يا بارد، يا سيئ العشرة، يا قبيح الأدب، أفي الدنيا أحد استحسن إفساد هذه؟ فقال له ابن أخته: يا بخيل، يا لئيم، يا سيئ الاختيار، فلأي تصلح؟ عقدة على وجه الدهر، كنزا للأعقاب، صنما للعبادة، أوسطة للمخانق، سرية يتمتع بالنظر إليها؟ شهد اللَّه أنني ما أدعها.
فتصابرا عليها، إلى أن قَالَ له الفتى: فافتدها مني.
قَالَ: بماذا تحب حتى أفعل؟ قَالَ: ببغلتك الفلانية.
قَالَ: قد فعلت، قَالَ: بسرجها
ولجامها المحلى الفلاني.
قَالَ: قد فعلت.
قَالَ: ما أرفع يدي عنها أو تحضر ذلك.
قَالَ: يا غلمان، أحضروه.
فأحضرت البغلة والمركب، فسلمها الفتى إلى غلامه وأخرجها، ورفع يده عن الدجاجة، وانقضى الطعام، وشيلت المائدة، وقام أسد لينام فخرج ابن أخته، وقال للطباخ: علي بالفائقة الساعة وبجميع ما شلتموه من المائدة.
فأحضر إليه، ورد الندماء وقعدوا، فأكلوا ذلك، وانصرفوا وقد أكل الدجاجة والطعام أجمع، وحصلت له البغلة والمركب.
قَالَ: وإنما كان أسد لا يطيق أن يرى ذلك يؤكل، فأما إذا نحي من بين يديه لم يسأل عنه ولم يطالب برده "
229 -
سمعت القاضي أبا الطيب طاهر بْن عبد اللَّه الطبري أو حدثت عنه: " أن بعض الأكابر كان يشتهي أن يحضر الناس مائدته ويأكلوا طعامه، غير أنه كان لا يستطيع أن يرى فما يمضغ شيئا، فشكا ذلك إلى صديق له يأنس به، فقال له صديقه: لو اتخذت لهم طعاما يتناولونه من غير أن يمضغوه.
فقال: وهل يمكن ذلك؟ قَالَ: نعم، أصنع لهم سرطراطة، وهي فالوذجة لم تنضجها النار، فتنعقد، فإنهم يبلعونها ولا يحتاجون إلى أن يمضغوها.
فقال الرجل لصديقه: فرجت عني، وهذا أسهل الأشياء عندي، وليس يصعب علي إلا دوية المضغ حسب.
فأمر بالفالوذجة فصنعت، وجعلت في صحن واسع، وأحضر من يريد أن يدعوه، فجلس الناس في صحن الدار، وجلس الرجل في
غرفة مشرفة عليهم لينظر كيف يأكلون، فلما كان بعد زمان صعد صديقه الذي كان يأنس به إليه، فوجده مغشيا عليه، فانتظره حتى أفاق، ثم قَالَ له: أيش حالك يا سيدي؟ وما الذي أصابك؟ فقال: يا حبيبي، البلع، واللَّه، أشد علي من المضغ "
230 -
أخبرني الحسين بْن مُحَمَّد بْن عثمان النصيبي، أنبأنا إسماعيل بْن سعيد المعدل، أنبأنا أبو بكر مُحَمَّد بْن الحسين بْن دريد، حَدَّثَنَا عبد الرحمن، عن عمه، قَالَ: " مر أعرابي برجل قد وضع بين يديه غداءه وهو يأكل، فقال: لو تعرضت له لعله يدعوني إلى الغداء.
فقال: السلام عليكم.
فقال: كلمة مقولة.
ثم طأطأ رأسه يأكل، فقال له الأعرابي: أما أني مررت بأهلك.
قَالَ: عليهم كان طريقك؟ قَالَ: وهم صالحون.
قَالَ: كذلك خلفتهم.
قَالَ: إن امرأتك حبلى.
قَالَ: كذلك عهدتها.
قَالَ: إنها ولدت غلامين.
قَالَ: كذلك كانت أمها.
قَالَ: مات أحدهما.
قَالَ: ما كانت لتقوى على رضاع اثنين.
قَالَ: ثم مات الآخر.
قَالَ: ما كان ليبقى بعد أخيه.
قَالَ: ثم ماتت الأم.
قَالَ: ما كانت لتبقى بعد ولديها.
قَالَ: ما أطيب طعامك.
قَالَ: نفعه لغيرك.
قَالَ: أف لك.
قَالَ: اللئيم سباب "
231 -
أخبرنا أبو الفتح منصور بْن ربيعة الخطيب بالدينور، حَدَّثَنَا عبد الواحد بْن سليمان، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مهران، حَدَّثَنَا الحسن بْن علي بْن الحسين السامري، إملاء، قَالَ: أخبرني عمر بْن مُحَمَّد بْن عبد الحكم النسائي، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن المغيرة، عن الأصمعي، قَالَ: " قدم أعرابي على غير حيه، فقدم على رجل من حيه، فنزل عليه، فقال: كيف تركت كلبي بليقا؟ قَالَ: قد ملأ الحي نباحا.
قَالَ: طاب
خبرك، فكيف تركت بعيري الأحمر؟ قَالَ: قد ملأ الحي ماء.
قَالَ: طاب خبرك.
قَالَ: فكيف تركت ابني عمرا؟ قَالَ: صالحا، قد ملأ الحي أنسا.
قَالَ: طاب خبرك.
قَالَ: فما فعلت الدار؟ قَالَ: عامرة بأهلها.
قَالَ: طاب خبرك.
ثم قَالَ: يا جارية، هات العشاء.
فجعل الأعرابي يأكل أكل الهيم، قَالَ: فغاظ الرجل ذلك، فأراد أن يشغله بالحديث عن الأكل، فقال له: عد في حديثك.
قَالَ: سل عما بدا لك.
قَالَ: ما فعل كلبي بليق؟ قَالَ: صالح لو كان حيا.
قَالَ: وقد مات؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: من أي شيء؟ قَالَ: أكل من لحم الجمل الأحمر.
قَالَ: ومات الجمل الأحمر؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: من أي شيء؟ قَالَ: مات من نفلة الماء إلى قبر أم عمرو.
قَالَ: وماتت أم عمرو؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: وما أماته؟ قَالَ: سقطت الدار عليه.
قَالَ: وسقطت الدار؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: ومن أي شيئ كان موتها؟ قَالَ: من جزعها على عمرو.
قَالَ: ومات عمرو؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: يا جارية، ارفعي العشاء وهات العصا.
قَالَ: فرفع الأعرابي رجليه ولم يلحقه "
232 -
أخبرني علي بْن أبي علي البصري، أخبرني أبي، قَالَ: سمعت أبا عبد اللَّه ابن أبي موسى الهاشمي، يقول: " كنت بحضرة ناصر الدول، فاستدعى شيئا يأكله، فجاؤوه بدجاجة مشوية ورغيف واحد وسكرجتين وخل وملح وقليل بقل، فجعل يأكل وأنا أحادثه، إذ دخل الحاجب، فأخبره بحضور قوم لا بد من، فرفعت بسرعة ومسح يده، ودخل القوم، فخاطبهم بما أراد وانصرفوا، فقال: ردوا الطبق.
فأحضر فتأمل الدجاجة ساعة، ثم جرد وقال: فأين تلك الدجاجة؟ فقالوا: هي هذه.
فقال: لا وحق أبي، علي بالطباخ.
فحضر، فقال: هذه هي تلك الدجاجة؟ فسكت، فقال: اصدقني، ويلك! قَالَ: فما فعلت بتلك؟ قَالَ: لما شيلت لم نعلم أنك تردها، فأخذها بعض الغلمان الصغار، فأكلها، فلما طلبتها أخذنا هذه فكسرنا منها وشعثنا مثل ما كنت كسرت من تلك وشعثت، طمعا في أنك لا تعلم بذلك، وقدمناها.
قَالَ: يا حمار، تلك كنت كسرت منها الفخذ اليمنى، وأكلت جانب الصدر الأيسر، وهذه مأكولة جانب الصدر الأيمن مكسورة الفخذ اليسرى، لا تعاود بعد هذا لمثل هذا.
فقال: السمع والطاعة.
وانصرف الطباخ، فجعلت أعجب من تفقده، وهو ملك لمثل هذا ونظره فيه "
233 -
أخبرنا التنوخي، قَالَ: أخبرني أبي، أن أبا منصور بْن سورين الكاتب النصراني حدثه، قَالَ: حدثني من سمع جحظة، يقول: " حضرت يوما عند بعض الرؤساء البخلاء، وكنت عقيب تشك، وقد أحضرت مائدته مضيرة حسنة، فأمعنت فيها إمعانا استنفد صبره، وهتك تجمله وستره، فقال لي: يا أبا الحسن، أعزك اللَّه، أنت عليل وجسمك نحيل، واللبن يستحيل.
فقلت له: والعظيم الجليل، لا تركت فيها من كثير ولا قليل، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل.
قَالَ: فصبر إلى أن أخذ النبيذ منه، ثم عربد علي، فانصرفت من عنده، وقلت، وصنعت فيه لحنا، من الطويل:
ولي صاحب لا قدس اللَّه روحه
…
بطيء عن الخيرات غير قريب
أكلت عصيبا عنده في مضيرة
…
فيا لك من يوم علي عصيب
"
234 -
حَدَّثَنَا أبو طاهر مُحَمَّد بْن علي بْن مُحَمَّد السماك، أنبأنا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن موسى القرشي، أنبأنا علي بْن الحسين أبو الفرج الأصبهاني، أخبرني أبو بكر الربيعي الشاعر، وكان كالمنقطع إلي، قَالَ: " دعانا أبو مُحَمَّد بْن الشار يوما، وكان فيه بخل على الطعام، ودعا جحظة، فطال حبسه للطعام جدا، فأخذ دواة ورقعة، وكتب إلي:
ما لي وللشار وأولاده
…
لا قدس الوالد والوالده
قد حفظوا القرآن واستعملوا
…
ما فيه إلا سورة المائده
ورمى بها إلي، فقراتها، وكان ابن الشار يقرأ، فأومأت بها إليه، فقرأها، ووثب خجلا، فقدم الطعام، وكان بعد ذلك يجهد جهده في أن يجيئه جحظة، فلا يفعل، ويقول لي: حتى يحفظ تلك السورة، ثم أجيئه "
235 -
قَالَ أبو الفرج: وحدثني جحظة، قَالَ: " دخلت على أبي مُحَمَّد بْن الشار أهنئه بدخول شهر رمضان، فسألني عن حالي ومن ألقى من إخواني، فأنشأت أقول، من المتقارب:
ركبت أطوف في الجانبين
…
وأقطع عمر زمان الصيام
فلم ألق إلا صديقا يجود
…
بطيب الكلام وحسن السلام
ولو أنني كنت في بيته
…
سقاني بكفيه كأس الحمام
فكيف أكون إذا ما قصدت
…
لأكل الطعام وشرب المدام
"
236 -
قلت: وممن شهر بالبخل من المتقدمين أبو الأسود الدؤلي، فأخبرني أبو الحسن أَحْمَد بْن عبد الواحد بْن مُحَمَّد الدمشقي بها، أخبرني جدي أبو بكر مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عثمان السلمي، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جعفر السامري، حَدَّثَنَا يموت بْن المزرع، حَدَّثَنَا عيسى، حَدَّثَنَا أبو زيد الأنصاري، قَالَ: " وقف أعرابي بأبي الأسود الدؤلي، وهو على دكان له على باب داره يأكل تمرا، فقال له: أصلحك اللَّه، شيخ هم، غابر ماضين، ووافد محتاجين، أكله الدهر، وأذله الفقر.
فناوله أبو الأسود تمرة، فرمى بها الأعرابي في وجهه، ثم قَالَ له: جعلها اللَّه حظك من حظك عنده، وألجأك إلى كما ألجأني إليك، ليبلوك بي كما بلاني بك "
237 -
أخبرنا علي بْن مُحَمَّد بْن عبد اللَّه المعدل، أنبأنا أبو بكر مُحَمَّد بْن جعفر بْن مُحَمَّد الآدمي القارئ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عبيد بْن ناصح، حَدَّثَنَا الأصمعي، حَدَّثَنَا ابن أبي طرفة، قَالَ: " بينما أبو الأسود الدؤلي يأكل رطبا، إذ مر بي أعرابي فدعاه، فأقبل يأكل أكلا حيره، وكان أبو الأسود يشفق على طعامه، إلى أن سقطت من يده رطبة، فأخذها الأعرابي، ونفخها، ثم ألقاها في فيه، وقال: لا أدعك للشيطان.
فقال أبو الأسود: لا واللَّه، ولا لجبريل ولا لميكائيل ولو نزلا "
238 -
أخبرنا أبو مُحَمَّد الجوهري، أنبأنا مُحَمَّد بْن عمران المرزباني، حدثنا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عيسى المكي، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القاسم بْن جلاد أبو العيناء، قَالَ: " سلم أعرابي على أبي الأسود، قَالَ: كلمة مقولة، قَالَ: أتأذن في الدخول؟ قَالَ: وراءك أوسع عليك.
قَالَ: هل عندك شيء يؤكل؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: أطعمني.
قَالَ: عيالي أحق به.
قَالَ: ما رأيت ألأم منك.
قَالَ: نسيت نفسك؟ "
239 -
قَالَ: وقال أبو الأسود لرجل معه ثوب: بكم هو؟ قَالَ: خذه حتى أقاربك.
قَالَ: إن لم تقاربني ما عدتك، فبكم هو؟ قَالَ: أعطيت به كذا.
قَالَ: أنت تخبر عما فاتك "
240 -
وقال: باع أبو الأسود بعيرا من رجل، فقال له: أتقضيني حتى أكافئك؟ قَالَ: أهنأ الخير أعجله "
241 -
أنبأنا علي بْن أبي علي البصري، أنبأنا أبي، قَالَ: حدثني أبو الحسين بْن عياش، قَالَ: حدثني جحظة، وقال: " ربحت بأكلة افتديتها مع الحسن بْن مخلد خمس مئة دينار وخمس مئة درهم، وخمسة أثواب فاخرة وعتيدة طيب سرية، فقلت: كيف كان ذلك؟ فقال: كان الحسن بخيلا على الطعام، سمحا بالمال، وكان يأخذ ندماءه بغتة، فيسقيهم النبيذ ويؤاكلهم، فمن أكل قتله مثلا، ومن شرب معه على الخسف حظي به.
قَالَ: فكنت عنده يوما، فقال لي: يا أبا الحسن، قد عملت غداء على صبوح الجاشري.
قَالَ علي بْن أبي علي: يعني: الشرب قبل طلوع الفجر فبت عندي.
فقلت: لا يمكنني، ولكن أباكرك قبل الوقت، فعلى أي شيء عملت
أن نصطبح؟ فقال: قد أعد لنا كذا وكذا.
ووصف ما تقدم إلى الطباخ بعمله، فعقدنا الرأي على أن أباكره، وقمت، فجئت إلى بيتي ودعوت طباخي، فتقدمت إليه أن يصلح لي مثل ذلك بعينه، ويفرغ منه وقت العتمة، ففعل ونمت، وقمت وقد مضى نصف من الليل، فأكلت ما أصلح لي، وغسلت يدي، وأسرج لي، وأنا عامل على المضي إليه، إذ طرقتني رسله فجئته، فقال: بحياتي أكلت قلت: أعيذك باللَّه، انصرفت من عندك قبيل المغرب، وهذا نصف الليل، فأي وقت أصلح لي شيء، أو أي وقت أكلت؟ سل غلمانك على أي حال وجدوني؟ قالوا: وجدناه واللَّه يا سيدي، قد لبس ثيابه، وهو ذا ينتظر أن يفرغ من إسراج بغلة ليركبها.
فسر بذلك سرورا شديدا، وقدم الطعام، فما كان في فضل لشمه، فأمسكت عن تشعيثه ضرورة وهو يستدعي أكلي، ولو أكلت أحل دمي.
قَالَ: وكذا كانت عادته، فأقول له: هو ذا أكل يا سيدي، وفي الدنيا أحد يأكل أكثر من هذا؟ قَالَ: وانقضى الأكل، وجلسنا على الشرب، فجعلت أشرب بالأرطال وهو يفرح، وعنده أني أشرب على الريق أو ذلك الأكل الذي أكلت معه، ثم أمرني بالغناء، فغنيت، فاستطاب ذلك وطرب، وشرب أرطالا، فلما رأيت النبيذ قد عمل فيه، قلت: يا سيدي، تطرب أنت على غنائي، فأنا على أي شيء أطرب؟ فقال: يا غلام، هات دواة.
فأحضرت، فكتب لي رقعة، ورمى بها إلي، فإذا هي إلى صيرفي يعامله بخمس مئة دينار، فأخذتها وشكرته، ثم غنيت فطرب، وقد زاد سكره، فطلبت منه ثيابا، فخلع على خمسة أثواب من أنواع
الثياب، ثم أمر أن يبخر من كان بين يديه، فأحضرت عتيدة حسنة سرية فيها طيب كثير، وأخذ الغلمان يبخرون بها الناس، فلما انتهوا إلي، قلت: يا سيدي، وأنا أرضى بأن أتبخر حسب؟ فقال: ما تريد؟ قلت: أريد نصيبي من العتيدة.
قَالَ: قد وهبتها لك.
فأخذتها وشرب بعد ذلك رطلا آخر، واتكأ على مسورته، وكذا كانت عادته إذا سكر.
فقام الناس من مجلسه، وقمت وقد طلع الفجر وأضاء، وهو وقت يبكر الناس في حوائجهم، فخرجت كأني لص قد خرج من بيت قوم، على قفا غلامي الثياب والعتيدة كارة، فصرت إلى منزلي، ونمت نومة، ثم ركبت إلى درب عون أريد الصيرفي حتى لقيته في دكانه، فأوصلت الرقعة إليه، فقال: يا سيدي، أنت الرجل المسمى في التوقيع قلت: نعم.
قَالَ: أنت تعلم أن أمثالنا يعاملون للفائدة.
قلت: أجل.
قَالَ: ورسمنا أن نعطى في مثل هذا ما يخسر فيه، في كل دينار درهم، فقلت له: لست أضايقك في هذا.
فقال: ما قلت هذا لأربح عليك، ولكن أيما أحب إليك، تأخذ مثلما يأخذ الناس وهو ما عرفتك، أو تجلس مكانك إلى الظهر حتى أفرغ من شغلي، ثم تركب معي إلى داري، فتقيم عندي اليوم والليلة نشرب؟ فقد واللَّه سمعت بك، وكنت أتمنى أن أسمعك، ووقعت الآن إلي رخيصا، فإذا فعلت هذا دفعت إليك الدنانير بما تساوي من غير خسران؟
فقلت: بل أقيم عندك.
فجعل الرقعة في كمه، وأقبل على شغله وقوضه، فلما أذنت الظهر، جاء غلامه ببغل فاره، فركبه وركبت معه، فصرنا إلى دار سرية حسنة بفاخر الفرش والآلات، ليس فيها إلا جوار روم للخدمة من غير فحل، فتركني في مجلسي، ودخل، ثم خرج إلي بثياب أولاد الخلفاء من حمام داره، وتبخر، وبخرني بند عتيق حدة، وأكلنا أطيب طعام وأنظفه، ونمنا وقمنا إلى مجلس سري للشرب، فيه فواكه وآلات بمال، فشربنا ليلتنا، فكانت ليلتي عنده أطيب من أختها عند الحسن بْن مخلد، فلما أصبحنا أخرج كيسين، فإذا أحدهما دنانير، فوزن لي من أجودها خمس مئة، ثم فتح الآخر، فإذا هو دراهم طرية، فوزن لي منها خمسة مئة، فقال: يا سيدي، تلك ما أمرت به، وهذه يعني: الدراهم هدية مني، فأخذتها وانصرفت، وصار الصيرفي لي صديقا، وداره لي معقلا "
242 -
أخبرنا القاضي أبو مُحَمَّد الحسن بْن الحسن بْن رامين الأستراباذي، حَدَّثَنَا عبد الرحمن بْن مُحَمَّد بْن جعفر الجرجاني، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الفضل بْن عبد اللَّه العدني، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن فارس بهراة، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن شعيب، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد البغدادي، قَالَ: " كنا في بيت أبي إسحاق نلعب بالشطرنج، إذ تعالى النهار وجعنا.
قَالَ: فتركنا اللعب، وجعلنا ننظر إلى جدار البيت، فإذا في ناحية الجدار مكتوب، من البسيط:
نعم الصديق صديق لا يكلفنا
…
ذبح الفراخ ولا ذبح الفراريج
يرضى بلونين من كشك ومن عدس
…
وإن تشهى فباقلى بطسوج
قال: فقلنا: ما كان ولو باقلى، فإنا قد رضينا، فإنا يكلفنا ذبح الفراخ قَالَ: فعدنا في اللعب حتى ضجرنا.
قَالَ: فرفعنا رؤوسنا، وتركنا اللعب، فإذا في ناجية أخرى مكتوب، من السريع:
اشرب على الخيري والريق
…
فنحن في بعد من السوق
لا ترجون الخبز في بيتنا
…
ما لك إلا النفخ في البوق
قال: فقمنا وتركناه "
243 -
أخبرنا أبو يعلى أَحْمَد بْن عبد الواحد الوكيل، أخبرنا إسماعيل بْن سعيد، أخبرنا الحسن بْن القاسم الكوكبي، أخبرنا المبرد، قَالَ: " وجه صالح بْن شيخ إلى سعد بْن سلم بجوذابة وأوزة، ولم يوجه بالأوزة، فكتب إليه سعيد، من المتقارب:
بعثت إلينا بجوذابة
…
فأين التي جاء جوذابها
فقال صالح لابنه موسى: أجبه.
فقال موسى، من المتقارب:
بعثنا إليك بجوذابة
…
وحاز الأوزة أربابها
وذلك حظ الفتى الباهلي
…
فلا يتعبنك تطلابها
"