الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَرَى قِسَمَ الْأَرْزَاقِ أَعْجَبَ قِسْمَةٍ
…
لِذِي دَعَةٍ ومكدية لذي كد
وَأَحْمَقُ ذُو مَالٍ وَأَحْمَقُ مُعْدِمٌ
…
وَعَقْلٌ بِلَا حظ وعقل له حد
يَعُمُّ الْغِنَى وَالْفَقْرُ ذَا الْجَهْلِ وَالْحِجَا
…
وللَّه مِنْ قَبْلُ الْأُمُورُ وَمِنْ بَعْدُ
أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن القاسم
ابن الفرج بن درع بن الخضر الشافعيّ شيخ تَاجُ الدِّينِ التِّكْرِيتِيُّ قَاضِيهَا، ثُمَّ دَرَسَ بِنِظَامِيَّةِ بَغْدَادَ، وَكَانَ مُتْقِنًا لِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا التَّفْسِيرُ وَالْفِقْهُ وَالْأَدَبُ وَالنَّحْوُ وَاللُّغَةُ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَجَمَعَ لِنَفْسِهِ تَارِيخًا حَسَنًا. وَمِنْ شعره قوله:
لا بد لِلْمَرْءِ مِنْ ضِيقٍ وَمِنْ سَعَةٍ
…
وَمِنْ سُرُورٍ يُوَافِيهِ وَمِنْ حَزَنِ
وَاللَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ شُكْرَ نِعْمَتِهِ
…
مَا دَامَ فِيهَا وَيَبْغِي الصَّبْرَ فِي الْمِحَنِ
فَكُنْ مَعَ اللَّهِ فِي الْحَالَيْنِ مُعْتَنِقًا
…
فَرْضَيْكَ هَذِينِ فِي سِرٍّ وَفِي عَلَنِ
فَمَا على شدة يبقى الزمان يكن
…
ولا على نعمة تبقى على الزمن
وله أيضا:
إن كَانَ قَاضِي الْهَوَى عَلَيَّ وَلِي
…
مَا جَارَ فِي الْحُكْمِ مَنْ عَلَيَّ وَلِي
يَا يُوسُفِيَّ الجمال عندك لم
…
تبق لي حِيلَةٌ مِنَ الْحِيَلِ
إِنْ كَانَ قُدَّ الْقَمِيصُ مِنْ دُبُرٍ
…
فَفِيكَ قُدَّ الْفُؤَادُ مِنْ قُبُلِ
صاحب الجواهر
الشيخ الامام جَمَالُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَجْمِ بن ساس بْنِ نِزَارِ بْنِ عَشَائِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن محمد بن سلس الجذامي المالكي الفقيه، مُصَنِّفُ كِتَابِ الْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ فِي مَذْهَبِ عَالِمِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ الْكُتُبِ فَوَائِدَ فِي الْفُرُوعِ، رَتَّبَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَجِيزِ لِلْغَزَّالِيِّ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى غَزَارَةِ عِلْمِهِ وَفَضْلِهِ وَالطَّائِفَةُ الْمَالِكِيَّةُ بِمِصْرَ عَاكِفَةٌ عَلَيْهِ لِحُسْنِهِ وكثرة فوائده، وكان مدرسا بمصر ومات بدمياط رحمه الله، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ عشرة وستمائة
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمَّ الْبَلَاءُ وَعَظُمَ الْعَزَاءُ بجنكزخان المسمى بتموجين لعنه الله تعالى، ومن مَعَهُ مِنَ التَّتَارِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، وَاسْتَفْحَلَ أمرهم واشتد إِفْسَادُهُمْ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ إِلَى أَنْ وَصَلُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ وَمَا حَوْلَهَا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى إِرْبِلَ وَأَعْمَالِهَا، فَمَلَكُوا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ هَذِهِ السَّنَةُ سَائِرَ الْمَمَالِكِ إِلَّا الْعِرَاقَ وَالْجَزِيرَةَ وَالشَّامَ وَمِصْرَ، وَقَهَرُوا جَمِيعَ الطَّوَائِفِ الَّتِي بِتِلْكَ النَّوَاحِي الْخُوَارَزْمِيَّةِ وَالْقَفْجَاقِ وَالْكُرْجِ وَاللَّانِ وَالْخَزَرِ وغيرهم، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة كبار مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَدْخُلُوا بَلَدًا إِلَّا قَتَلُوا جَمِيعَ مَنْ فِيهِ من المقاتلة
وَالرِّجَالِ، وَكَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَأَتْلَفُوا مَا فِيهِ بِالنَّهْبِ إِنِ احْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَبِالْحَرِيقِ إِنْ لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ الْحَرِيرَ الْكَثِيرَ الَّذِي يَعْجِزُونَ عَنْ حَمْلِهِ فَيُطْلِقُونَ فِيهِ النَّارَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَيُخَرِّبُونَ الْمَنَازِلَ وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ الْأُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَاتِلُونَ بِهِمْ وَيُحَاصِرُونَ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَنْصَحُوا فِي الْقِتَالِ قَتَلُوهُمْ. وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ خَبَرَهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَسْطًا حَسَنًا مُفَصَّلًا، وَقَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ كَلَامًا هَائِلًا فِي تَعْظِيمِ هَذَا الْخَطْبِ الْعَجِيبِ، قَالَ فَنَقُولُ: هَذَا فَصْلٌ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْحَادِثَةِ الْعُظْمَى وَالْمُصِيبَةِ الْكُبْرَى الَّتِي عقمت الليالي والأيام عَنْ مِثْلِهَا، عَمَّتِ الْخَلَائِقَ وَخَصَّتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّ الْعَالَمَ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَإِلَى الْآنَ لَمْ يُبْتَلَوْا بِمِثْلِهَا لَكَانَ صَادِقًا، فَإِنَّ التَّوَارِيخَ لَمْ تَتَضَمَّنْ مَا يُقَارِبُهَا ولا يُدَانِيهَا، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَذْكُرُونَ مِنَ الْحَوَادِثِ ما فعل نصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب بيت الْمُقَدَّسِ، وَمَا الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خَرَّبَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينُ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي كَلُّ مَدِينَةٍ مِنْهَا أَضْعَافُ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَا بَنُو إسرائيل بالنسبة لما قُتِلُوا، فَإِنَّ أَهْلَ مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّنْ قُتِلُوا أَكْثَرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَعَلَّ الْخَلَائِقَ لَا يَرَوْنَ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ الْعَالَمُ وَتَفْنَى الدُّنْيَا إِلَّا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَأَمَّا الدَّجَّالُ فَإِنَّهُ يُبْقِي عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ وَيُهْلِكُ مَنْ خَالَفَهُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُبْقُوا عَلَى أَحَدٍ، بَلْ قَتَلُوا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَشَقُّوا بُطُونَ الحوامل وقتلوا الأجنة. ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ الَّتِي اسْتَطَارَ شَرَرُهَا وَعَمَّ ضَرَرُهَا، وَسَارَتْ فِي الْبِلَادِ كَالسَّحَابِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّ قَوْمًا خَرَجُوا مِنْ أَطْرَافِ الصِّينِ فَقَصَدُوا بِلَادَ تُرْكِسْتَانَ مِثْلَ كَاشْغَرَ وَبَلَاسَاغُونَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ مَا وراء النهر مثل سمرقند وبخارا وَغَيْرِهِمَا، فَيَمْلِكُونَهَا وَيَفْعَلُونَ بِأَهْلِهَا مَا نَذْكُرُهُ، ثُمَّ تَعْبُرُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى خُرَاسَانَ فَيَفْرَغُونَ مِنْهَا مُلْكًا وَتَخْرِيبًا وَقَتْلًا وَنَهْبًا، ثُمَّ يُجَاوِزُونَهَا إِلَى الرَّيِّ وَهَمَذَانَ وَبَلَدِ الْجَبَلِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبِلَادِ إِلَى حَدِّ الْعِرَاقِ، ثُمَّ يَقْصِدُونَ بِلَادَ أذربيجان وأرانية ويخربونه وَيَقْتُلُونَ أَكْثَرَ أَهْلِهَا وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ النَّادِرُ فِي أَقَلِّ مِنْ سَنَةٍ، هَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى دَرْبَنْدَ شَرْوَانَ فَمَلَكُوا مُدُنَهُ وَلَمْ يَسْلَمْ غَيْرُ قَلْعَتِهِ الَّتِي بِهَا مَلِكُهُمْ، وَعَبَرُوا عِنْدَهَا إِلَى بلد اللان اللكز وَمَنْ فِي ذَلِكَ الصَّقْعِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَأَوْسَعُوهُمْ قَتْلًا وَنَهْبًا وَتَخْرِيبًا، ثُمَّ قَصَدُوا بِلَادَ قَفْجَاقَ وَهُمْ مِنْ أَكْثَرِ التُّرْكِ عَدَدًا فَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ وَقَفَ لَهُمْ وَهَرَبَ الْبَاقُونَ إِلَى الْغِيَاضِ وَمَلَكُوا عَلَيْهِمْ بِلَادَهُمْ، وَسَارَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى إِلَى غَزْنَةَ وَأَعْمَالِهَا وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ فَفَعَلُوا فِيهَا مِثْلَ أَفْعَالِ هَؤُلَاءِ وَأَشَدَّ، هَذَا مَا لَمْ يُطْرِقِ الْأَسْمَاعَ مِثْلُهُ، فَإِنَّ الْإِسْكَنْدَرَ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُؤَرِّخُونَ عَلَى أَنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا لَمْ يَمْلِكْهَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، إِنَّمَا مَلَكَهَا فِي نَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا بَلْ رَضِيَ مِنَ النَّاسِ بِالطَّاعَةِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ
مَلَكُوا أَكْثَرَ الْمَعْمُورِ مِنَ الْأَرْضِ وَأَطْيَبَهُ وَأَحْسَنَهُ عِمَارَةً وَأَكْثَرَهُ أَهْلًا وَأَعْدَلَهُمْ أَخْلَاقًا وَسِيرَةً فِي نَحْوِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ الَّتِي لَمْ يَطْرُقُوهَا بَقَاءٌ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ مُتَرَقِّبٌ وُصُولَهُمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ إِذَا طَلَعَتْ، وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا، وَيَأْكُلُونَ مَا وَجَدُوهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْمَيْتَاتِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: وَإِنَّمَا اسْتَقَامَ لَهُمْ هَذَا الْأَمْرُ لِعَدَمِ الْمَانِعِ لِأَنَّ السُّلْطَانَ خُوَارَزْمَ شَاهْ مُحَمَّدًا كَانَ قَدْ قَتَلَ الْمُلُوكَ مِنْ سَائِرِ الْمَمَالِكِ واستقر في الأمور، فَلَمَّا انْهَزَمَ مِنْهُمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَضَعُفَ عَنْهُمْ وَسَاقُوا وَرَاءَهُ فَهَرَبَ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، وَهَلَكَ فِي بَعْضِ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، خَلَتِ الْبِلَادُ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَنْ يَحْمِيهَا لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كانَ مَفْعُولًا 8: 42، وَإِلَى الله تُرْجَعُ الْأُمُورُ. 2: 210 ثُمَّ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ مَا ذَكَرَهُ مُجْمَلًا، فَذَكَرَ أَوَّلًا مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي مِنْ بَعْثِ جِنْكِزْخَانَ أُولَئِكَ التُّجَّارَ بِمَالٍ له ليأتونه بِثَمَنِهِ كُسْوَةً وَلِبَاسًا، وَأَخَذَ خُوَارَزْمُ شَاهْ تِلْكَ الأموال فحنق عليه جنكزخان وأرسل يهدده فَسَارَ إِلَيْهِ خُوَارَزْمُ شَاهْ بِنَفْسِهِ وَجُنُودِهِ فَوَجَدَ التَّتَارَ مَشْغُولِينَ بِقِتَالِ كَشْلِي خَانَ، فَنَهَبَ أَثْقَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ فَرَجَعُوا وَقَدِ انْتَصَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وازدادوا حنقا وغيظا، فتواقعوا هم وإياه وابن جِنْكِزْخَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ تَحَاجَزُوا وَرَجَعَ خُوَارَزْمُ شَاهْ إِلَى أَطْرَافِ بِلَادِهِ فَحَصَّنَهَا ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى مقره ومملكته بمدينة خوارزم شاه، فأقبل جنكزخان فحصر بخارا كَمَا ذَكَرْنَا فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا وَغَدَرَ بِأَهْلِهَا حَتَّى افْتَتَحَ قَلْعَتَهَا قَهْرًا وَقَتَلَ الْجَمِيعَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ وَسَبَى النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ وَخَرَّبَ الدُّورَ وَالْمَحَالَّ، وَقَدْ كَانَ بِهَا عِشْرُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فَلَمْ يُغْنِ عنهم شيئا، ثم سار إلى سمرقند فحاصرها في أول المحرم من هَذِهِ السَّنَةِ وَبِهَا خَمْسُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ مِنَ الْجُنْدِ فَنَكَلُوا وَبَرَزَ إِلَيْهِمْ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْعَامَّةِ فَقُتِلَ الْجَمِيعُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَلْقَى إليه الخمسون ألف السَّلَمَ فَسَلَبَهُمْ سِلَاحَهُمْ وَمَا يَمْتَنِعُونَ بِهِ، وَقَتَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاسْتَبَاحَ الْبَلَدَ فَقَتَلَ الْجَمِيعَ وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَحَرَقَهُ وَتَرَكَهُ بِلَاقِعَ، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، وَأَقَامَ لَعَنَهُ اللَّهُ هُنَالِكَ وَأَرْسَلَ السَّرَايَا إِلَى الْبُلْدَانِ فَأَرْسَلَ سَرِيَّةً إِلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ وَتُسَمِّيهَا التَّتَارُ الْمُغَرِّبَةَ، وَأَرْسَلَ أُخْرَى وَرَاءَ خُوَارَزْمَ شَاهْ، وَكَانُوا عِشْرِينَ أَلْفًا قال اطلبوه فأدركوه ولو تعلق بالسماء فساروا وراءه فَأَدْرَكُوهُ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ نَهْرُ جَيْحُونَ وَهُوَ آمِنٌ بِسَبَبِهِ، فَلَمْ يَجِدُوا سُفُنًا فَعَمِلُوا لَهُمْ أَحْوَاضًا يَحْمِلُونَ عَلَيْهَا الْأَسْلِحَةَ وَيُرْسِلُ أَحَدُهُمْ فَرَسَهُ وَيَأْخُذُ بذنبها فتجره الفرس بالماء وهو بحر الْحَوْضَ الَّذِي فِيهِ سِلَاحُهُ، حَتَّى صَارُوا كُلُّهُمْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ خُوَارَزْمُ شَاهْ إِلَّا وَقَدْ خَالَطُوهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إِلَى نَيْسَابُورَ ثُمَّ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا وَهُمْ فِي أثره لا يمهلونه يَجْمَعَ لَهُمْ فَصَارَ كُلَّمَا أَتَى بَلَدًا لِيَجْتَمِعَ فيه عساكره له يُدْرِكُونَهُ فَيَهْرُبُ مِنْهُمْ، حَتَّى رَكِبَ فِي بَحْرِ طَبَرِسْتَانَ وَسَارَ إِلَى قَلْعَةٍ فِي جَزِيرَةٍ فِيهِ فَكَانَتْ فِيهَا وَفَاتُهُ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ بَعْدَ رُكُوبِهِ فِي الْبَحْرِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ بَلْ ذَهَبَ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، وَلَا إِلَى أَيِّ مَفَرٍّ هَرَبَ، وَمَلَكَتِ التَّتَارُ حَوَاصِلَهُ فَوَجَدُوا فِي خِزَانَتِهِ عَشَرَةَ آلَافِ
ألف دينار، وألف حمل من الأطلس وغيره وعشرون أَلْفَ فَرَسٍ وَبَغْلٍ، وَمِنَ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي وَالْخِيَامِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ لَهُ عَشَرَةُ آلَافِ مَمْلُوكٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِثْلُ مَلِكٍ، فَتَمَزَّقَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَقَدْ كَانَ خُوَارَزْمُ شَاهْ فَقِيهًا حَنَفِيًّا فَاضِلًا لَهُ مُشَارَكَاتٌ فِي فُنُونٍ مِنَ الْعِلْمِ، يَفْهَمُ جَيِّدًا، وَمَلَكَ بِلَادًا مُتَّسِعَةً وَمَمَالِكَ مُتَعَدِّدَةً إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ مُلُوكِ بنى سلجوق أكثر حرمة منه وَلَا أَعْظَمُ مُلْكًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَتْ هِمَّتُهُ فِي الْمُلْكِ لَا فِي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَلِذَلِكَ قَهَرَ الْمُلُوكَ بِتِلْكَ الْأَرَاضِي وَأَحَلَّ بِالْخِطَا بَأْسًا شَدِيدًا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ وما وراء النهر وعراق الْعَجَمِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَمَالِكِ سُلْطَانٌ سِوَاهُ، وَجَمِيعُ البلاد تحت أيدي نُوَّابِهِ. ثُمَّ سَارُوا إِلَى مَازَنْدَرَانَ وَقِلَاعُهَا مِنْ أمنع القلاع، بحيث إن المسلمين لم يفتحوها إلا في سنة تسعين من أَيَّامِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَفَتَحَهَا هَؤُلَاءِ فِي أَيْسَرِ مُدَّةٍ وَنَهَبُوا مَا فِيهَا وَقَتَلُوا أهاليها كلهم وَسَبَوْا وَأَحْرَقُوا، ثُمَّ تَرَحَّلُوا عَنْهَا نَحْوَ الرَّيِّ فَوَجَدُوا فِي الطَّرِيقِ أُمَّ خُوَارَزْمَ شَاهْ وَمَعَهَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، فَأَخَذُوهَا وَفِيهَا كُلُّ غَرِيبٍ وَنَفِيسٍ مِمَّا لَمْ يُشَاهَدْ مِثْلُهُ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ قَصَدُوا الرَّيَّ فَدَخَلُوهَا عَلَى حِينِ غفلة من أهلها فقتلوهم وسبوا وأسروا، ثُمَّ سَارُوا إِلَى هَمَذَانَ فَمَلَكُوهَا ثُمَّ إِلَى زَنْجَانَ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا، ثُمَّ قَصَدُوا قَزْوِينَ فَنَهَبُوهَا وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، ثم تيمموا بلاد أذربيجان فصالحهم ملكها أزبك بْنُ الْبَهْلَوَانِ عَلَى مَالٍ حَمَلَهُ إِلَيْهِمْ لِشُغْلِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ السُّكْرِ وَارْتِكَابِ السَّيِّئَاتِ وَالِانْهِمَاكِ عَلَى الشَّهَوَاتِ، فَتَرَكُوهُ وَسَارُوا إِلَى مُوقَانَ فَقَاتَلَهُمُ الْكُرْجُ فِي عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ فَلَمْ يَقِفُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى انْهَزَمَتِ الْكُرْجُ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِمْ بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، فَكَسَرَتْهُمُ التَّتَارُ وقعة ثانية أقبح هزيمة وَأَشْنَعَهَا. وَهَاهُنَا قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَلَقَدْ جَرَى لِهَؤُلَاءِ التَّتَرِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ: طَائِفَةٌ تَخْرُجُ مِنْ حُدُودِ الصِّينِ لَا تَنْقَضِي عَلَيْهِمْ سَنَةٌ حَتَّى يَصِلَ بَعْضُهُمْ إِلَى حُدُودِ بِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ وَيُجَاوِزُونَ الْعِرَاقَ مِنْ نَاحِيَةِ هَمَذَانَ وتاللَّه لَا أَشُكُّ أَنَّ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَنَا إِذَا بَعُدَ الْعَهْدُ وَيَرَى هَذِهِ الْحَادِثَةَ مَسْطُورَةً يُنْكِرُهَا وَيَسْتَبْعِدُهَا، وَالْحَقُّ بِيَدِهِ، فَمَتَى اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ أَنَّنَا سَطَرْنَا نَحْنُ وَكُلُّ مَنْ جَمَعَ التَّارِيخَ فِي أَزَمَانِنَا هَذِهِ فِي وَقْتٍ كُلُّ مَنْ فِيهِ يَعْلَمُ هَذِهِ الْحَادِثَةَ، قَدِ اسْتَوَى فِي مَعْرِفَتِهَا الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ لِشُهْرَتِهَا، يَسَّرَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ مَنْ يَحْفَظُهُمْ وَيَحُوطُهُمْ، فَلَقَدْ دُفِعُوا مِنَ العدو إلى أمر عَظِيمٍ، وَمِنَ الْمُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَنْ لَا تَتَعَدَّى هِمَّتُهُ بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ، وَقَدْ عُدِمَ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ خُوَارَزْمُ شَاهْ. قَالَ: وَانْقَضَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُمْ فِي بِلَادِ الْكُرْجِ، فَلَمَّا رَأَوْا مِنْهُمْ مُمَانَعَةً وَمُقَاتَلَةً يَطُولُ عَلَيْهِمْ بِهَا الْمَطَالُ عَدَلُوا إِلَى غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَادَتُهُمْ فَسَارُوا إِلَى تِبْرِيزَ فَصَالَحَهُمْ أَهْلُهَا بِمَالٍ. ثُمَّ سَارُوا إِلَى مَرَاغَةَ فَحَصَرُوهَا وَنَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ وَتَتَرَّسُوا بِالْأُسَارَى من المسلمين، وعلى البلد امرأة- ولن يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً- فَفَتَحُوا الْبَلَدَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهِ خَلْقًا لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عز وجل، وَغَنِمُوا مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَسَبَوْا وَأَسَرُوا عَلَى
عَادَتِهِمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ لَعْنَةً تُدْخِلُهُمْ نَارَ جَهَنَّمَ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَخَافُونَ مِنْهُمْ خَوْفًا عَظِيمًا جِدًّا حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَى دَرْبٍ مِنْ هَذِهِ الْبَلَدِ وَبِهِ مِائَةُ رَجُلٍ لَمْ يَسْتَطِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ، وَمَا زَالَ يَقْتُلُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى قُتِلَ الْجَمِيعُ وَلَمْ يَرْفَعْ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَدَهُ إِلَيْهِ، وَنَهَبَ ذَلِكَ الدَّرْبَ وَحْدَهُ. وَدَخَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ فِي زِيِّ رَجُلٍ [بَيْتًا] فَقَتَلَتْ كُلَّ مَنْ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ وَحْدَهَا ثُمَّ اسْتَشْعَرَ أَسِيرٌ مَعَهَا أَنَّهَا امْرَأَةٌ فَقَتَلَهَا لَعَنَهَا اللَّهُ، ثُمَّ قَصَدُوا مَدِينَةَ إِرْبِلَ فَضَاقَ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ ذَرْعًا وَقَالَ أَهْلُ تِلْكَ النَّوَاحِي هَذَا أَمْرٌ عَصِيبٌ، وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَهْلِ الْمَوْصِلِ وَالْمَلِكِ الْأَشْرَفِ صَاحِبِ الْجَزِيرَةِ يَقُولُ إِنِّي قَدْ جَهَّزْتُ عسكرا فكونوا معه لقتال هؤلاء التتار، فَأَرْسَلَ الْأَشْرَفُ يَعْتَذِرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ أَخِيهِ الْكَامِلِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِسَبَبِ ما قددهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخذهم دمياط الّذي قَدْ أَشْرَفُوا بِأَخْذِهِمْ لَهَا عَلَى أَخْذِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَاطِبَةً، وَكَانَ أَخُوهُ الْمُعَظَّمُ قَدْ قَدِمَ على والى حَرَّانَ يَسْتَنْجِدُهُ لِأَخِيهِمَا الْكَامِلِ لِيَتَحَاجَزُوا الْفِرِنْجَ بِدِمْيَاطَ وَهُوَ عَلَى أُهْبَةِ الْمَسِيرِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى مُظَفَّرِ الدِّينِ صَاحِبِ إِرْبِلَ لِيَكُونَ هُوَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي يَبْعَثُهَا الْخَلِيفَةُ وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَلَمْ يَقْدِمْ عليه منهم ثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ ثُمَّ تَفَرَّقُوا قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعُوا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ بِأَنْ صَرَفَ هِمَّةَ التَّتَارِ إِلَى نَاحِيَةِ هَمَذَانَ فصالحهم أهلها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتل شِحْنَتِهِمْ فَرَجَعُوا إِلَيْهِمْ فَحَاصَرُوهُمْ حَتَّى فَتَحُوهَا قَسْرًا وَقَتَلُوا أَهْلَهَا عَنْ آخِرِهِمْ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ فَفَتَحُوا أَرْدَبِيلَ ثُمَّ تِبْرِيزَ ثُمَّ إِلَى بَيْلَقَانَ فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، وَحَرَّقُوهَا وَكَانُوا يَفْجُرُونَ بِالنِّسَاءِ ثُمَّ يَقْتُلُونَهُنَّ وَيَشُقُّونَ بُطُونَهُنَّ عَنِ الْأَجِنَّةِ ثُمَّ عَادُوا إِلَى بِلَادِ الْكُرْجِ وَقَدِ اسْتَعَدَّتْ لَهُمُ الْكُرْجُ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ فَكَسَرُوهُمْ أَيْضًا كَسْرَةً فَظِيعَةً، ثُمَّ فَتَحُوا بُلْدَانًا كَثِيرَةً يَقْتُلُونَ أَهْلَهَا وَيَسْبُونَ نِسَاءَهَا وَيَأْسِرُونَ مِنَ الرِّجَالِ مَا يُقَاتِلُونَ بِهِمُ الْحُصُونَ، يَجْعَلُونَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ تُرْسًا يَتَّقُونَ بِهِمُ الرَّمْيَ وَغَيْرَهُ، وَمَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، ثم ساروا إلى بلاد اللان والقبجاق فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا فَكَسَرُوهُمْ وَقَصَدُوا أَكْبَرَ مدائن القبجاق وَهِيَ مَدِينَةُ سُودَاقَ وَفِيهَا مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالثِّيَابِ والتجائر من البرطاسي والقندر والسنجاب شيء كثير جدا، ولجأت القبجاق إِلَى بِلَادِ الرُّوسِ وَكَانُوا نَصَارَى فَاتَّفَقُوا مَعَهُمْ عَلَى قِتَالِ التَّتَارِ فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ فَكَسَرَتْهُمُ التَّتَارُ كسرة فظيعة جدا، ثم ساروا نحو بلقار فِي حُدُودِ الْعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ فَفَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ كله ورجعوا نَحْوِ مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ. هَذَا ما فعلته هذه السرية المغرّية، وَكَانَ جِنْكِزْخَانُ قَدْ أَرْسَلَ سَرَيَّةً فِي هَذِهِ السنة إلى كلانة وَأُخْرَى إِلَى فَرْغَانَةَ فَمَلَكُوهَا، وَجَهَّزَ جَيْشًا آخَرَ نَحْوَ خُرَاسَانَ فَحَاصَرُوا بَلْخَ فَصَالَحَهُمْ أَهْلُهَا، وَكَذَلِكَ صَالَحُوا مُدُنًا كَثِيرَةً أُخْرَى، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الطَّالَقَانِ فَأَعْجَزَتْهُمْ قَلْعَتُهَا وَكَانَتْ حَصِينَةً فَحَاصَرُوهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ حَتَّى عَجَزُوا فَكَتَبُوا إِلَى جِنْكِزْخَانَ فَقَدِمَ بِنَفْسِهِ فَحَاصَرَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
أُخْرَى حَتَّى فَتَحَهَا قَهْرًا، ثُمَّ قَتَلَ كُلَّ مَنْ فِيهَا وَكُلَّ مَنْ فِي الْبَلَدِ بِكَمَالِهِ خاصة وعامة، ثم قصدوا مدينة مرو مع جنكزخان فقد عَسْكَرَ بِظَاهِرِهَا نَحْوٌ مَنْ مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ قِتَالًا عَظِيمًا حتى انكسر المسلمون ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، ثُمَّ حَصَرُوا الْبَلَدَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَاسْتَنْزَلُوا نَائِبَهَا خَدِيعَةً ثُمَّ غَدَرُوا به وبأهل البلد فقتلوهم وغنموهم وسلبوهم وَعَاقَبُوهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، حَتَّى إِنَّهُمْ قَتَلُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ سَارُوا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فَعَلُوا بِأَهْلِ مَرْوَ، ثُمَّ إِلَى طُوسَ فَقَتَلُوا وخربوا مشهد على بن موسى الرضى سلام الله عليه وعلى آبائه، وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خرابا، ثُمَّ سَارُوا إِلَى غَزْنَةَ فَقَاتَلَهُمْ جَلَالُ الدِّينِ بن خوارزم شاه فكسرهم ثُمَّ عَادُوا إِلَى مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ، وَأَرْسَلَ جِنْكِزْخَانُ طَائِفَةً أُخْرَى إِلَى مَدِينَةِ خُوَارَزْمَ فَحَاصَرُوهَا حَتَّى فَتَحُوا الْبَلَدَ قَهْرًا فَقَتَلُوا مَنْ فِيهَا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَنَهَبُوهَا وَسَبَوْا أَهْلَهَا وأرسلوا الجسر الّذي يمنع ماء جيحون منها فَغَرِقَتْ دُورُهَا وَهَلَكَ جَمِيعُ أَهْلِهَا ثُمَّ عَادُوا إلى جِنْكِزْخَانَ وَهُوَ مُخَيِّمٌ عَلَى الطَّالَقَانِ فَجَهَّزَ مِنْهُمْ طَائِفَةً إِلَى غَزْنَةَ فَاقْتَتَلَ مَعَهُمْ جَلَالُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْمِ شَاهْ فَكَسَرَهُمْ جَلَالُ الدِّينِ كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَاسْتَنْقَذَ مِنْهُمْ خَلْقًا مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى جِنْكِزْخَانَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَبْرُزَ بِنَفْسِهِ لِقِتَالِهِ، فَقَصَدَهُ جِنْكِزْخَانُ فَتَوَاجَهَا وَقَدْ تَفَرَّقَ عَلَى جَلَالِ الدِّينِ بَعْضُ جَيْشِهِ وَلَمْ يَبْقَ بُدٌّ مِنَ الْقِتَالِ، فَاقْتَتَلُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لم يعهد قبلها مثلها من قتالهم، ثم ضعفت أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بَحْرِ الْهِنْدِ فَسَارَتِ التَّتَارُ إِلَى غَزْنَةَ فَأَخَذُوهَا بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا مُمَانَعَةٍ، كُلُّ هَذَا أَوْ أكثره وقع في هذه السنة.
وفيها أَيْضًا تَرَكَ الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ لِأَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ غَازِيٍّ مُلْكَ خِلَاطَ وَمَيَّافَارِقِينَ وَبِلَادَ أرمينية واعتاض عن ذلك بِالرُّهَا وَسَرُوجَ، وَذَلِكَ لِاشْتِغَالِهِ عَنْ حِفْظِ تِلْكَ النَّوَاحِي بِمُسَاعَدَةِ أَخِيهِ الْكَامِلِ وَنُصْرَتِهِ عَلَى الْفِرِنْجِ لعنهم الله تعالى. وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا هَبَّتْ رِيَاحٌ بِبَغْدَادَ وَجَاءَتْ بُرُوقٌ وَسُمِعَتْ رُعُودٌ شَدِيدَةٌ وَسَقَطَتْ صَاعِقَةٌ بِالْجَانِبِ الغربي على المنارة المجاورة لعون ومعين فَثَلَمَتْهَا، ثُمَّ أُصْلِحَتْ، وَغَارَتِ الصَّاعِقَةُ فِي الْأَرْضِ. وفي هذه السنة نصب محراب الحنابلة في الرواق الثَّالِثِ الْغَرْبِيِّ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ بَعْدَ مُمَانَعَةٍ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لَهُمْ، وَلَكِنْ سَاعَدَهُمْ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ فِي نَصْبِهِ لَهُمْ، وَهُوَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ الْمُعَظَّمِيُّ، وَصَلَّى فِيهِ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ. قُلْتُ: ثُمَّ رُفِعَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَعُوِّضُوا عَنْهُ بِالْمِحْرَابِ الْغَرْبِيِّ عِنْدَ بَابِ الزِّيَارَةِ، كَمَا عُوِّضَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ مِحْرَابِهِمُ الَّذِي كَانَ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْجَامِعِ بِالْمِحْرَابِ الْمُجَدَّدِ لَهُمْ شَرْقِيَّ بَابِ الزِّيَارَةِ، حِينَ جُدِّدَ الْحَائِطُ الَّذِي هُوَ فِيهِ فِي الْأَيَّامِ التُّنْكُزِيَّةِ، عَلَى يَدَيْ نَاظِرِ الْجَامِعِ تَقِيِّ الدين ابن مَرَاجِلَ أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهَا قَتَلَ صَاحِبُ سِنْجَارَ أَخَاهُ فَمَلَكَهَا مُسْتَقِلًّا بِهَا