الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ تفسير الاستطاعة في الحج]
مَسْأَلَةٌ: إِذَا اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَهُوَ أَنْ يَجِدَ زَادًا وَرَاحِلَةً بِآلَتِهَا مِمَّا يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ فَاضِلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِقَضَاءِ دُيُونِهِ وَمُؤْنَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ عَلَى الدَّوَامِ.
فِي هَذَا الْكَلَامِ فُصُولٌ: -
(أَحَدُهَا):
أَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وَاسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ: مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَمَنَاطُ الْوُجُوبِ: وُجُودُ الْمَالِ ; فَمَنْ وَجَدَ الْمَالَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَالَ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا بِبَدَنِهِ قَالَ: فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ - إِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَجَبَ الْحَجُّ.
وَسُئِلَ - أَيْضًا - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: عَلَى مَنْ يَجِبُ الْحَجُّ؟ فَقَالَ: إِذَا
وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ الْحَجُّ إِلَّا أَنْ يَجِدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ.
فَإِنْ حَجَّ رَاجِلًا تَجْزِيهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَيَكُونُ قَدْ تَطَوَّعَ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْخُوزِيُّ الْمَكِّيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ: "الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَمَا الْحَاجُّ؟ قَالَ: "الشَّعِثُ التَّفِلُ " وَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الْحَجُّ؟ قَالَ: "الْعَجُّ وَالثَّجُّ " قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي بِالْعَجِّ: الْعَجِيجَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ: نَحْرُ الْبُدْنِ» .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِيهِ أَنَّ عَطَاءً عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» " يَعْنِي قَوْلَهُ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا السَّبِيلُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: "الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا بَأْسَ بِبَعْضِهَا
وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: "الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ صَحِيحٌ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَدْ أَفْتَى بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ثَلَاثَمِائَةَ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْإِمَاءِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَيْضًا قَوْلُهُ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُسْنَدَةً مِنْ طُرُقٍ حِسَانٍ وَمُرْسَلَةً وَمَوْقُوفَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ: وُجُودُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَشْيِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - فِي الْحَجِّ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] إِمَّا أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْقُدْرَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ مُطْلَقُ الْمَكِنَةِ، أَوْ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَوَّلَ، لَمْ يُحْتَجْ إِلَى هَذَا التَّقْيِيدِ، كَمَا لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ فِي آيَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ إِلَّا الْمَالَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى مَسَافَةٍ، فَافْتَقَرَ وُجُوبُهَا إِلَى مِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ كَالْجِهَادِ.
وَدَلِيلُ الْأَصْلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92] الْآيَةَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَشْيَ فِي الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ الْعَظِيمَةِ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ - فِيمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا - حَتَّى يَمْلِكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، أَوْ ثَمَنَهُمَا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِهِ بِصَنْعَةٍ، أَوْ قَبُولِ هِبَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ مَسْأَلَةٍ، أَوْ أَخْذٍ مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ بَيْتِ الْمَالِ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فِي مِصْرِهِ، أَوْ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ:(يُوجِبُ الْحَجَّ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ) يَعْنِي: وُجُودَهُمَا، وَقَوْلُهُ:(مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ) فَعَلَّقَ الْوَعِيدَ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ.
وَلِأَنَّ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَمَا كَانَ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُكَلَّفِ تَحْصِيلُهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُنْتَفٍ عِنْدَ عَدَمِهِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اعْتُبِرَ فِيهَا الْمَالُ: فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ مِلْكُهُ لَا الْقُدْرَةُ عَلَى مِلْكِهِ. أَصْلُهُ الْعِتْقُ، وَالْهَدْيُ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَثَمَنُ الْمَاءِ وَالسُّتْرَةُ فِي الصَّلَاةِ.
(فَصْلٌ)
وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا بَذَلَ لَهُ ابْنُهُ أَوْ غَيْرُهُ مَالًا يَحُجُّ بِهِ، أَوْ بَذَلَ لَهُ ابْنُهُ أَوْ غَيْرُهُ طَاعَتَهُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، وَكَانَ الْمَبْذُولُ لَهُ مَعْضُوبًا، أَوْ غَيْرَ مَعْضُوبٍ لَمْ يَلْزَمْهُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا مِثْلِ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْوُجُوبَ بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ ابْنُ الْقَاضِي أَبِي حَازِمِ بْنِ الْقَاضِي أَبِي
يَعْلَى: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ تَثْبُتُ بِبَذْلِ الِابْنِ الطَّاعَةَ أَوِ الْمَالَ، وَلَا تَثْبُتُ بِبَذْلِ غَيْرِهِ الْمَالَ، وَهَلْ تَثْبُتُ بِبَذْلِ غَيْرِهِ الطَّاعَةَ؟ خَرَّجَهَا عَلَى وَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: تَارَةً بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِنَائِبِهِ، وَالْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ النَّائِبُ لَيْسَ أُجْرَةً عِنْدَنَا فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَفَقَةٌ، فَيَكُونُ قَدْ بَذَلَ عَمَلَهُ لِلْمُسْتَنِيبِ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْخُذَ دَرَاهِمَ فَيَحُجَّ بِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُتَبَرِّعًا بِحَجٍّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أَخِيهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي سَأَلَهُ:«(إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ)» . 50 وَالَّذِي يَأْخُذُ دَرَاهِمَ الْحَجِّ لَا يَمْشِي وَلَا يُقَتِّرُ وَلَا يُسْرِفُ، إِنَّمَا الْحَجُّ عَمَّنْ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ وَلَا يُسْرِفُ، وَلَا يُقَتِّرُ، وَلَا يَمْشِي إِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ صِغَارًا.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: إِذَا كَانَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ يَحُجُّ عَنْهُ وَلِيُّهُ. فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ النَّائِبَ مُتَبَرِّعٌ بِعَمَلِهِ عَنِ الْمَيِّتِ، مَعَ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْمَيِّتِ.
وَأَيْضًا مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ مَالَ الِابْنِ مُبَاحٌ لِلْأَبِ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ، مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، فَإِذَا بَذَلَ لَهُ الِابْنُ فَقَدْ يُؤَكِّدُ الْأَخْذَ.
وَقَوْلُ أَحْمَدَ: إِذَا وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَوْجُودِ الْمَمْلُوكُ وَالْمُبَاحُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] وَلَعَلَّ كَلَامَهُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ تَحْصُلُ بِالْمَالِ الْمُبَاحِ، كَمَا تَحْصُلُ بِالْمَالِ الْمَمْلُوكِ، قَالَ: وَلَوْ بَذَلَ لَهُ الرَّقَبَةَ فِي الْكَفَّارَةِ: لَمْ يَجُزْ لَهُ الصِّيَامُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَ كَنْزًا عَادِيًّا وَنَحْوَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا
يَحُجُّ بِهِ، وَلَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ حَقَّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ
وَلَوْ لَمْ يَبْذُلْ لَهُ الِابْنُ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَحُجُّ؟ فَإِنَّ الْجَوَازَ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ:(يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، عَلَيْهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَحُجِّي عَنْهُ») رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، إِلَّا أَبَا دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيَّ وَهُوَ
…
.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: «وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَقَالَتْ: (إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ أَفْنَدَ، وَقَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، فَهَلْ يُجْزِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَدِّي عَنْ أَبِيكِ)، قَالَ: وَلَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَكَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَخِفْتُ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا، وَفِي لَفْظٍ: (فَهَلْ يُجْزِي عَنْهُ أَنْ أُؤَدِّيَ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَدِّي عَنْ أَبِيكِ» ) وَفِي لَفْظٍ: («إِنَّ أَبِي كَبِيرٌ وَقَدْ أَفْنَدَ، وَأَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَدَاءَهَا فَيُجْزِي عَنْهُ أَنْ أُؤَدِّيَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ».) رَوَاهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَحْمَدُ،
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَى بَعْضَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:(«إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ، فَقَالَ: حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ»). رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ، وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ، أَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِي عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَحُجَّ عَنْهُ» ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ.
فَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَؤُلَاءِ السُّؤَّالَ عَلَى أَنَّ الْمَعْضُوبَ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفِعْلِهَا عَنْهُ، وَشَبَّهَهَا بِالدَّيْنِ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ هَلْ لَهُ مَالٌ يَحُجُّ بِهِ أَوْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ، وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ الْجَوَابِ لَا سِيَّمَا وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَالِ، بَلْ أَوْجَبَ الْحَجَّ بِمُجَرَّدِ بَذْلِ الْوَلَدِ أَنْ يَحُجَّ، فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ بَذْلَ الِابْنِ مُوجِبٌ، وَإِنَّمَا أَقَرَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِخْبَارِ بِفَرْضِ الْحَجِّ عَلَى الْمَعْضُوبِ لَمَّا رَأَى الْوَلَدَ قَدْ بَذَلَ الْحَجَّ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ تَحْصُلُ بِالْمُبَاحِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْمَمْلُوكِ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْوُجُوبُ، كَمَا يَحْصُلُ بِالْمَمْلُوكِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِالْمَاءِ الْمَبْذُولِ وَالْمُبَاحِ، وَالصَّلَاةَ تَجِبُ فِي السُّتْرَةِ الْمُعَارَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ الْحَجُّ أَيْضًا - بِالِاسْتِطَاعَةِ الْمَبْذُولَةِ مِنْ مَالٍ أَوْ عَمَلٍ. نَعَمْ مَا عَلَيْهِ فِيهِ مِنَّةٌ لَا يَبْذُلُ بَذْلًا مُطْلَقًا، لَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ بَاذِلُهُ نَوْعَ عِوَضٍ، وَلَوْ بِالثَّنَاءِ أَوِ الدُّعَاءِ، وَيَحْصُلُ عَلَيْهِ بِهِ مِنَّةٌ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُهُ، كَمَا لَوْ بُذِلَتِ السُّتْرَةُ مِلْكًا، أَوْ بَذَلَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ مَالًا يَحُجُّ بِهِ، أَوْ يُكَفِّرُ بِهِ.
وَبَذْلُ الِابْنِ لَيْسَ فِيهِ مِنَّةٌ، وَلَا عِوَضٌ بَلْ هُوَ مِنْ كَسْبِهِ وَعَمَلِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(«إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ»).
وَقَالَ: («أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»)، وَكَذَلِكَ دُعَاءُ الِابْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ جُمْلَةِ عَمَلِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(«إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»). فَكَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ مَعَ بَذْلِ الِابْنِ لَهُ ذَلِكَ؟ وَلَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِ فِيهِ أَصْلًا. وَطَرْدُ هَذَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ مَا يُؤَدِّي بِهِ دَيْنَهُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مُسَلَّمًا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ، فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَاذِلِ
…
.
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السَّبِيلَ: بِأَنَّهُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَفِي لَفْظٍ:«سُئِلَ: مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ: (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» )، وَفِي لَفْظٍ:(«مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا)». فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يُوجِبُهُ إِلَّا مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: (مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟) يَعْنِي: حَجَّ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِحَجِّ غَيْرِهِ عَنْهُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً أَوْ مُبَاحَةً، وَإِنَّمَا قَالَ:(الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ) أَيْ: وُجُودُ ذَلِكَ يَعُمُّ مَا وُجِدَ مُبَاحًا وَمَمْلُوكًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6].
وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ صِفَةُ الْمُسْتَطِيعِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ، وَهُوَ لَا يَصِيرُ قَادِرًا بِبَذْلِ غَيْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ الْبَاذِلُ، وَذَلِكَ أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَمِرَّ إِلَى حِينِ انْقِضَائِهَا، فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَى الْبَاذِلِ الْتِزَامَ مَا بَذَلَ: صَارَ الْوَعْدُ فَرْضًا، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فَكَيْفَ يَجِبُ فَرْعٌ لَمْ يَجِبْ أَصْلُهُ؟
وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي إِيجَابِ قَبُولِ بَذْلِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ ضَرَرًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي إِلَى الْمِنَّةِ عَلَيْهِ، وَطَلَبِ الْعِوَضِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ وَلَدًا فَإِنَّهُ قَدْ يَقُولُ الْوَلَدُ: أَنَا لَا يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ عَنْكَ، وَلَا أَنْ أُعْطِيَكَ مَا تَحُجُّ بِهِ، وَمَنْ فَعَلَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي مَظِنَّةِ أَنْ يَمُنَّ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا
…
.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَأَبِي رَزِينٍ وَنَحْوِهِمَا: فَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ قَدْ ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ قَبْلَ اسْتِفْتَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتِفْتَاؤُهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى بَذْلِ الْوَلَدِ الطَّاعَةَ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَجَّ يُجْزِئُ عَنِ الْعَاجِزِ حَتَّى اسْتَفْتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يَبْذُلُونَ الْحَجَّ عَنِ الْغَيْرِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ جَوَازَ ذَلِكَ؟ فَإِذَا كَانُوا إِنَّمَا بَذَلُوا الْحَجَّ عَنِ الْوَالِدِ بَعْدَ الْفَتْوَى، وَالْوُجُوبُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْفَتْوَى: عُلِمَ أَنَّ هَذَا الْبَذْلَ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحَجِّ، وَلَا شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ
الشَّرْطَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ حُكْمِهِ، وَصَارَ هَذَا كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِي الَّتِي قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: («إِنَّ أُمِّي كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: صُومِي عَنْهَا، قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهَا»). رَوَاهُ مُسْلِمٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَشَبَّهَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -
بِالدَّيْنِ، وَلَمْ يَكُنِ الْبَذْلُ هُوَ الْمُقَرِّرَ لِلْوُجُوبِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنِ الْمَعْضُوبِ، وَعَنْهُ وَقَعَ الْجَوَابُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْوُجُوبِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ. وَبِاتِّفَاقٍ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَاذِلِ أَنْ يَحُجَّ.
وَنَحْنُ إِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا بِحَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَى أَبِيهِ؛ لِتَبْرَأَ ذِمَّةُ الْأَبِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرَ، فَعُلِمَ أَنَّ كِلَاهُمَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَبِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَأْمُرَهُ [بِهِ كَمَا لَمْ يَأْمُرْهُ] بِتَكْرَارِ الْحَجِّ وَالطَّوَافِ، فَعِنْدَ هَذَا يَكُونُ قَوْلُ السَّائِلِ: عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ إِذَا أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَانَ لِمِلْكِهِ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَقَدْ بَلَغَ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَنْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ فَعَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حُكْمَ الْعَاجِزِ عَنِ الرُّكُوبِ أَيَسْقُطُ عَنْهُ أَمْ يَتَجَشَّمُ الْمَشَاقَّ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ وَهَلَكَ فِي الطَّرِيقِ، أَمْ يَسْتَخْلِفُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ؟ وَلِهَذَا جَزَمَتِ السَّائِلَةُ فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ، وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، وَلَنْ يَقُولَ هَذَا إِلَّا مَنْ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ وَوَاجِبٌ. فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ عَنِ الْآبَاءِ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُمْ هَلْ مَلَكُوا مَالًا أَمْ لَا لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ جَوَازِ النِّيَابَةِ وَإِسْقَاطِهَا فَرْضَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الْوَاجِدِ وَالْمُعْدِمِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِفْصَالِ وَجْهٌ. وَكُلُّ مَعْضُوبٍ إِذَا حَجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ أَسْقَطَ عَنْهُ الْفَرْضَ، حَتَّى لَوْ مَلَكَ بَعْدَ هَذَا مَالًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حِجَّةٌ أُخْرَى، وَشَبَّهَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالدَّيْنِ فِي جَوَازِ الْأَدَاءِ عَنِ الْغَيْرِ. فَإِنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
وَفَائِهِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ عَاجِزٌ عَنْهُ إِذَا أَدَّاهُ غَيْرُهُ عَنْهُ بِإِذْنِهِ جَازَ، كَذَلِكَ الْحَجُّ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحَجَّ وَجَبَ عَلَى الْآبَاءِ بِمِلْكِ الْمَالِ، إِمَّا بِعِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ أَمَاكِنَ أُولَئِكَ السُّوَّالِ قَرِيبَةٌ، وَأَنَّ غَالِبَ الْعَرَبِ لَا يَعْدَمُ أَحَدُهُمْ بَعِيرًا يَرْكَبُهُ، وَزَادًا يُبْلِغُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ رَأَى جَزْمَ السَّائِلِينَ بِالْوُجُوبِ، مُخَصِّصِينَ لِهَؤُلَاءِ مِنْ دُونِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا جَزَمُوا لِوُجُودِ الْمَالِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّهُ هُوَ السَّبِيلُ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّوَّالُ عَنُوا بِقَوْلِهِ: - أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَعَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ -: الْوُجُوبَ الْعَامَّ، وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَوْجَبَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حُرٍّ عَاقِلٍ بَالِغٍ، وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا أَوْ عَاجِزًا، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ، أَوْ فُعِلَ عَنْهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ السَّيْرُ لِلْعُذْرِ، لَا لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْمَجْنُونِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ؛ وَلِهَذَا يُفَرَّقُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَعْذَارِ فِي كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُمُ السَّعْيُ إِلَيْهَا لِلْمَشَقَّةِ وَالْعُذْرِ؛ وَلِهَذَا إِذَا حَضَرُوا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، وَانْعَقَدَتْ بِهِمْ، وَبَيْنَ الْعَبْدِ
وَالْمُسَافِرِ وَالْمَرْأَةِ وَنَحْوِهِمْ فِي كَوْنِهِمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ؛ وَلِهَذَا إِذَا حَضَرُوا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ.
وَسَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ: أَنَّ الْوُجُوبَ يَعْتَمِدُ كَمَالَ الْفَاعِلِ الَّذِي بِهِ يَسْتَعِدُّ لِحَمْلِ الْأَمَانَةِ، وَيَعْتَمِدُ إِمْكَانُ الْفِعْلِ الَّذِي بِهِ يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ لِنَقْصِ عَقْلِهِ أَوْ سِنِّهِ أَوْ حُرِّيَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُخَاطَبْ بِذَلِكَ الْوُجُوبِ أَصْلًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ يَفْعَلُ أَوْ لَا يَفْعَلُ، وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَإِذَا كَانَ كَامِلًا تَأَهَّلَ لِلْخِطَابِ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى الْأَدَاءِ إِذَا قَدَرَ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِهِ هَلْ هُوَ قَادِرٌ أَوْ عَاجِزٌ، وَلَوْ تَجَشَّمَ وَفَعَلَ لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ، فَالْمَعْضُوبُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ.
فَقَوْلُ السَّائِلِ: أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ: يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ أَنَّهُ حُرٌّ عَاقِلٌ بَالِغٌ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، لَكِنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنِ الْأَدَاءِ، فَإِنِ اسْتَنَابَ فَهَلْ يَقُومُ فِعْلُ النَّائِبِ مَقَامَ فِعْلِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَعَلَ أَمْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ، فَيَبْقَى غَيْرَ فَاعِلٍ؟ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْكَلَامِ.
(فَصْلٌ)
وَمَنْ لَمْ يَجِدِ الزَّادَ أَوِ الرَّاحِلَةَ: إِذَا اكْتَسَبَ حَتَّى حَصَّلَ زَادًا وَرَاحِلَةً فَقَدْ أَحْسَنَ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ يَعْمَلُ صَنْعَتَهُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ يَكْرِي نَفْسَهُ بِطَعَامِهِ وَعُقْبَتِهِ. وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْحَجُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَيُجْزِئُ عَنْهُ، وَإِنِ اسْتَقْرَضَ وَكَانَ لَهُ وَفَاءٌ
…
.
وَإِنْ كَانَ يَسْأَلُ فِي الْمِصْرِ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ لَهُ الْحَجُّ بِالسُّؤَالِ.
وَالنُّصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ السُّؤَالَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ حَرَامٌ.
وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ لَكِنْ بُذِلَ لَهُ مَالٌ يَحُجُّ بِهِ، أَوْ بُذِلَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُطْعَمَ
…
.
وَإِنْ حَجَّ بِغَيْرِ مَالٍ، وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ لَا يَسْأَلَ وَيَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، وَيَقْبَلَ مَا يُعْطَاهُ، فَإِنْ وَثِقَ بِالْيَقِينِ وَالصَّبْرِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَالِاسْتِشْرَافِ إِلَى النَّاسِ، وَلَمْ يُضَيِّقْ عَلَى النَّاسِ
…
.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَتَوَكَّلُ
…
.
وَإِنْ حَجَّ مَاشِيًا، وَلَهُ زَادٌ مَمْلُوكٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مُكْتَسَبٌ أَوْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِ الْحَجِّ.
(فَصْلٌ)
وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الرَّاحِلَةُ فِي حَقِّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، فَأَمَّا الْقَرِيبُ وَالْمَكِّيُّ وَنَحْوُهُمَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ: فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ. فَإِنْ كَانَ زَمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ: لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحُجَّ حَبْوًا.
وَأَمَّا الزَّادُ فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَجِدَ الزَّادَ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا يَأْكُلُهُ، وَلَوْ بِكَسْبِهِ، فَإِنْ كَانَ مَتَى تَشَاغَلَ بِالْحَجِّ انْقَطَعَ كَسْبُهُ وَتَعَذَّرَ الزَّادُ عَلَيْهِ: لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ.
وَإِنْ قَدَرَ عَلَى السُّؤَالِ
…
.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ يَجِدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ بِالْآلَةِ الَّتِي تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ مِنَ الْغَرَائِرِ، وَأَوْعِيَةِ الْمَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ الزَّادُ مِمَّا يَقْتَاتُهُ مِثْلُهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ طَعَامًا وَأُدْمًا، وَأَنْ تَكُونَ آلَاتُ الرَّاحِلَةِ مِمَّا تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الرُّكُوبُ إِلَّا فِي مَحْمِلٍ وَنَحْوِهِ بِحَيْثُ يَخَافُ السُّقُوطَ اعْتُبِرَ وُجُودُ الْمَحْمِلِ، وَإِنْ كَانَ يَكْفِيهِ الرَّحْلُ وَالْقَتَبُ بِحَيْثُ لَا يَخْشَى السُّقُوطَ أَجْزَأَهُ وُجُودُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ عَادَتُهُ السَّفَرَ فِي الْمَحَامِلِ، أَوْ عَلَى الْأَقْتَابِ وَالزَّوَامِلِ وَالرِّحَالِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِي مِنَ الرُّكُوبِ عَلَى الزَّوَامِلِ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنَ الْأَشْرَافِ وَالْأَغْنِيَاءِ
…
.
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحُجَّ عَلَى الرَّحْلِ وَالزَّامِلَةِ دُونَ الْمَحْمِلِ إِذَا أَمْكَنَ، لِمَا رَوَى عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ:(«حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ»). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالزَّامِلَةُ: هِيَ الْبَعِيرُ الَّذِي يَحْمِلُ مَتَاعَ الرَّجُلِ وَطَعَامَهُ، وَازْدَمَلَهُ: احْتَمَلَهُ، وَالزَّمِيلُ: الرَّدِيفُ، وَالْمُزَامَلَةُ: الْمُعَادَلَةُ عَلَى بَعِيرٍ.
وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: («حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ، وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ لَا تُسَاوِي، ثُمَّ قَالَ:
(اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَلَا سُمْعَةَ»). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِيهِمَا كَلَامٌ.
وَهَلْ يُكْرَهُ الْحَجُّ فِي الْمَحْمِلِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: لَا يُكْرَهُ، قَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: وَالْمَحَامِلُ قَدْ رَكِبَهَا الْعُلَمَاءُ وَرُخِّصَ فِيهَا.
وَالثَّانِيَةُ: يُكْرَهُ، قَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: عَطَاءٌ كَانَ يَكْرَهُ الْمَحَامِلَ لِلرَّجُلِ
وَلَا يَرَى بِهَا لِلنِّسَاءِ بَأْسًا، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْقِبَابُ عَلَى الْمَحَامِلِ بِدْعَةٌ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَفْتَى بِذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَخْدِمُهُ فِي رُكُوبِهِ وَطَعَامِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: اعْتُبِرَتِ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ بِكِرَاءٍ، أَوْ شِرَاءٍ، وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَجِدَهُمَا فِي مِلْكِهِ، أَوْ هُمَا بِكِرَاءٍ، أَوْ شِرَاءٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عِوَضَ مِثْلِهِمَا فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَهُوَ وَاجِدٌ لَهُ.
وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ عَلَى عِوَضِ الْمِثْلِ لَزِمَهُ الشِّرَاءُ وَالْكِرَاءُ. وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً تُجْحِفُ بِمَالِهِ: لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
وَإِنْ كَانَ السِّعْرُ غَالِيًا فِي ذَلِكَ الْعَامِ غَلَاءً خَارِجًا عَنِ الْأَمْرِ الْغَالِبِ فَقِيلَ: يُعْتَبَرُ ثَمَنُ مِثْلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا يُمْكِنُهُ اقْتِضَاؤُهُ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى مُوسِرٍ بَاذِلٍ، أَوْ غَائِبٍ يُمْكِنُ إِحْضَارُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ يَجِدُ الزَّادَ فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ، أَوْ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ: لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ مِنْ مِصْرِهِ، بَلْ عَلَيْهِ حَمْلُهُ مِنْ مَوْضِعِ وُجُودِهِ إِلَى مَوْضِعِ وُجُودِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ حَمْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ، أَوْ لَا.
وَأَمَّا الْمَاءُ لَهُ وَلِدَوَابِّهِ وَعَلَفُ الرَّوَاحِلِ، فَمِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ فَعَلَيْهِ حَمْلُهُ مِنْ مَوْضِعِ وُجُودِهِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الطَّرِيقِ مَاءٌ وَلَا عَلَفٌ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ عَلَيْهِ حَمْلُهُ مِنْ بَلَدِهِ، وَلَا مِنْ أَقْرَبِ الْأَمْصَارِ إِلَى مَكَّةَ؛ لِأَنَّ هَذَا يَشُقُّ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ حَمْلِ الْمَاءِ لِبَهَائِمِهِ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ
…
.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: حُكْمُ عَلَفِ الْبَهَائِمِ: حُكْمٌ زَادَهُ فِي وُجُوبِ حَمْلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الطَّرِيقِ.
(الْفَصْلُ الرَّابِعُ)
أَنْ يَجِدَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَمُؤْنَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ عَلَى الدَّوَامِ.
فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلَّهِ، أَوْ لِآدَمِيٍّ، وَقَدْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ بَعْدَ وُجُوبِهِ، أَوْ حِينَ وُجُوبِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ قَضَاءِ دَيْنِهِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ.
فَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، ثُمَّ لَزِمَهُ الدَّيْنُ بَعْدَ ذَلِكَ
…
. [وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، أَوْ مَتْرُوكًا.
]
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
…
.
فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ: قَدَّمَ الْحَجَّ. قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَحُجَّ قَطُّ فَإِنَّهُ يَقْضِي دَيْنَهُ، وَلَا يَحُجُّ، فَإِنْ كَانَ عَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ فَلْيَحُجَّ الْفَرِيضَةَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ يَقْضِي دَيْنَ
أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ لَمْ يَحُجَّ دَفَعَ إِلَى أَبِيهِ حَتَّى يَحُجَّ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: وَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْحَجُّ، إِذْ كَانَ مَعَهُ نَفَقَةٌ تُبَلِّغُهُ إِلَى مَكَّةَ وَيَرْجِعُ، وَيُخَلِّفُ نَفَقَتَهُ لِأَهْلِهِ مَا يَكْفِيهِمْ حَتَّى يَرْجِعَ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: السَّبِيلُ فِي الطَّرِيقِ السَّالِكَةِ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ الْمُبَلِّغَانِ إِلَى مَكَّةَ، وَإِلَى الْعَوْدِ إِلَى مَنْزِلِهِ، مَعَ نَفَقَةِ عِيَالِهِ لِمُدَّةِ سَفَرِهِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ وُجُودُ مَا يُنْفِقُهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ.
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ وَابْنَ أَبِي مُوسَى صَرَّحَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ الْمَنَازِلِ الَّتِي يُؤَجِّرُهَا لِكِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، وَإِنَّمَا يَبِيعُ مَا يَفْضُلُ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَتْرُكَ لِعَائِلَتِهِ - الَّذِينَ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ - مَا يَكْفِيهِمْ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ آكَدُ، وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ بِخِلَافِ الْحَجِّ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: («كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ
يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ - بِعَيْنِهِ - نَفَقَتُهُ لَكِنْ يَخَافُ عَلَيْهِ الضَّيَاعَ كَيَتِيمٍ وَأَرْمَلَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ
…
.
وَلَا بُدَّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى كِفَايَةٍ لَهُ، وَلِعِيَالِهِ عَلَى الدَّوَامِ إِمَّا رِبْحِ تِجَارَةٍ، أَوْ صِنَاعَةٍ، أَوْ أُجُورِ عَقَارٍ، وَدَوَابَّ، أَوْ رَيْعٍ وُقِفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ
…
.
فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَقْفِ الْفُقَرَاءِ، أَوِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ بَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ
…
.
وَالْمُرَادُ بِالْكِفَايَةِ: مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ طَعَامٍ وَكِسْوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ مَسْكَنٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ السُّكْنَى، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ مَسْكَنَهُ، ثُمَّ يَسْكُنَ بِأَجْرٍ، أَوْ فِي وَقْفٍ.
لَكِنْ إِنْ كَانَ وَاسِعًا يُمْكِنُهُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِمَا دُونَهُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ بِالتَّفَاوُتِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ كُتُبُ عِلْمٍ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا لَمْ يَلْزَمْهُ بَيْعُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِلْمُهَا فَرْضًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْعَالِمِ إِلَى عِلْمِهِ
…
.
فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، أَوْ كَانَ لَهُ بِكِتَابٍ نُسْخَتَانِ يَسْتَغْنِي عَنْ إِحْدَاهُمَا: بَاعَ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ كُتُبَ عِلْمٍ، أَوْ يُنْفِقَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ مَلَكَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ رَجُلٌ جَاهِلٌ، أَيَحُجُّ بِهَا أَمْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ؟ فَقَالَ: يَحُجُّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرِيضَةٌ، وَلَيْسَ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ فَرِيضَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هَذَا لَمْ يَتَعَلَّمْ فَالِابْتِدَاءُ بِفَرْضِ الْعَيْنِ قَبْلَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَوِ النَّافِلَةِ: مُتَعَيِّنٌ، وَالْأَوَّلُ قَدْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ، فَفِي بَيْعِ كُتُبِهِ إِخْلَالٌ بِمَا قَدْ عَلِمَهُ مِنْ عِلْمِهِ.
وَإِذَا كَانَ لَهُ خَادِمٌ يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَتِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ بَيْعُهَا. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ وَالشَّيْءُ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ كِفَايَةٌ لِأَهْلِهِ: فَلَا يُبَاعُ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَمُؤْنَةِ عِيَالِهِ: يُبَاعُ.
وَإِذَا كَانَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى النِّكَاحِ فَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ -: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ مَالٌ فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهِ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ فَضْلٌ، وَإِنْ حَجَّ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ صَبْرٌ عَنِ التَّزْوِيجِ: تَزَوَّجَ، وَتَرَكَ الْحَجَّ. وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ إِنْ خَشِيَ الْعَنَتَ قَدَّمَ النِّكَاحَ
؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَا غِنًى بِهِ عَنْهُ فَهُوَ كَالنَّفَقَةِ.
وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْحَجِّ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ عِنْدَهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ، وَلَمْ يَحُجَّ، وَأَبَوَاهُ يَأْمُرَانِهِ بِالتَّزْوِيجِ، قَالَ: يَحُجُّ وَلَا يُطِيعُهُمَا فِي ذَلِكَ، هَكَذَا ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ، ثُمَّ فَصَّلَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ بِوُجُودِ السَّبِيلِ إِلَيْهِ.
وَالْعَنَتُ الْمَخُوفُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَهُوَ نَادِرٌ، وَالْغَالِبُ عَلَى الطِّبَاعِ خِلَافُ ذَلِكَ، فَلَا يُفَرِّطُ فِيمَا تَيَقَّنَ وُجُوبَهُ بِمَا يَشُكُّ فِيهِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ: قَدَّمَ الْحَجَّ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ النِّكَاحَ وَاجِبٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَيْعُهَا، وَاسْتِبْدَالُ مَا هُوَ دُونَهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِيَسْتَفْضِلَ نَفَقَتَهَا.
(فَصْلٌ)
وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَسِيرُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الْمَسِيرِ بِأَنْ يَكُونَ يَتَّسِعُ الْوَقْتُ لِلسَّيْرِ وَالْأَدَاءِ. فَلَوْ وَجَدَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّحْرِ بِأَيَّامٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ شَهْرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَسِيرُ لِلْحَجِّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ إِلَّا السَّيْرَ الْمُعْتَادَ وَمَا يُقَارِبُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَسِيرَ سَيْرًا يُجَاوِزُ الْعَادَةَ، أَوْ يَعْجِزُ مَعَهُ عَنْ تَحْصِيلِ آلَةِ السَّفَرِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا يَجِبُ مَعَهَا مِثْلُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ خَالِيًا مِنَ الْعَوَائِقِ الْمَانِعَةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ يَصُدُّهُ عَنِ الْحَجِّ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ كَالْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْقَوَافِلِ، أَوْ كُفَّارٍ، أَوْ بُغَاةٍ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ السَّعْيُ إِلَى الْحَجِّ. فَإِنْ أَمْكَنَ قِتَالُهُمْ
…
.
وَإِنْ أَمْكَنَ بَذْلُ خُفَارَةٍ لَهُمْ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: لَا يَجِبُ بَذْلُهَا، وَإِنْ
كَانَتْ يَسِيرَةً لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رِشْوَةٌ فَلَا يَلْزَمُ بَذْلُهَا فِي الْعِبَادَةِ كَالْكَثِيرَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمَنُونَ مَعَ أَخْذِهَا، فَإِنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مِنْ وَفْدِ اللَّهِ: لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى اسْتِحْلَالِ قَتْلِهِمْ، أَوْ نَهْبِهِمْ، أَوْ سَرِقَتِهِمْ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ بَذْلُ الْخُفَارَةِ الْيَسِيرَةِ، قَالَهُ ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهَا نَفَقَةٌ يَقِفُ إِمْكَانُ الْحَجِّ عَلَى بَذْلِهَا، فَلَمْ يَمْتَنِعِ الْوُجُوبُ مَعَ إِمْكَانِ بَذْلِهَا كَالْأَثْمَانِ وَالْأَكْرِيَةِ، وَقَدْ بَذَلَ صُهَيْبٌ لِلْكُفَّارِ جَمِيعَ مَالِهِ الَّذِي بِمَكَّةَ حَتَّى خَلَّوْهُ
يُهَاجِرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207].
وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ لَوِ احْتَاجَ أَنْ يَرْشُوَ الْوُلَاةَ لِتَخْلِيَتِهِ، أَوْ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِهِ.
وَلَوِ احْتَاجَ أَنْ يَبْذُلَ مَالًا لِمَنْ يَخْرُجُ مَعَهُ لِيَحْرُسَهُ فَهَذَا لَيْسَ بِرِشْوَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ جُعَالَةٌ أَوْ إِجَارَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ مَعَهُ وَحِفْظُهُ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ: أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ نَفَقَةُ مَحْرَمِهَا؛ لِأَنَّهُ الْحَافِظُ لَهَا، وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مَنْ يَحْفَظُ رَحْلَهُ مِنَ السُّرَّاقِ.
وَسَوَاءٌ كَانَتِ الطَّرِيقُ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً يَبْقَى فِيهَا سِنِينَ
…
.
وَسَوَاءٌ كَانَتِ الطَّرِيقُ بَرًّا أَوْ بَحْرًا إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ السَّلَامَةَ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْبَحْرِ الْهَلَاكَ: لَمْ يَجِبِ السَّعْيُ إِلَى الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ يَسْلَمُ قَوْمٌ
وَيَتْلَفُ قَوْمٌ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ سُلُوكُهُ.
(فَصْلٌ)
وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الرُّكُوبِ، فَمَتَى قَدَرَ عَلَى الرُّكُوبِ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَزِمَهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ لِمَرَضٍ، أَوْ كِبَرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُخْشَى مِنْ رُكُوبِهِ سُقُوطُهُ، أَوْ مَرَضٌ، أَوْ زِيَادَةُ مَرَضٍ، أَوْ تَبَاطُؤُ بُرْءٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ تَوَهُّمًا وَجُبْنًا، أَوْ مَرَّةً يَعْتَرِيهِ أَحْيَانًا، وَيَقْدِرُ أَنْ يَسْتَطِبَّ
…
.
ثُمَّ إِنْ كَانَ مَيْئُوسًا مِنْ بُرْئِهِ فَإِنَّهُ يَحُجُّ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: يَحُجُّ الرَّجُلُ عَنِ الرَّجُلِ وَهُوَ حَيٌّ وَعَنِ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ يَحُجُّ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَإِذَا كَانَتِ امْرَأَةً ثَقِيلَةً لَا يَقْدِرُ مِثْلُهَا يَرْكَبُ، وَالْمَرِيضُ الَّذِي قَدْ أُويِسَ مِنْهُ أَنْ يَبْرَأَ: فَيَحُجُّ عَنْهُمْ وَلِيُّهُمْ، «وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخَثْعَمِيَّةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ وَقَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ:(نَعَمْ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ»).
فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْحَجِّ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْحَجُّ: حَجَّ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا.
وَإِحْجَاجُهُ عَنْ نَفْسِهِ: وَاجِبٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَوَاءٌ بَلَغَ وَهُوَ مَعْضُوبٌ، أَوْ عُضِبَ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الْمَالِ، أَوْ بَعْدَ وُجُودِ الْمَالِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى: أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُوسَى ذَكَرَ أَنَّ شُرُوطَ الْوُجُوبِ: الْحُرِّيَّةُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالصِّحَّةُ، وَالزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَالْمَحْرَمُ لِلْمَرْأَةِ، وَخُلُوُّ الطَّرِيقِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ: بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَالصِّحَّةِ. وَعَلَى الْمَرْأَةِ بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ: الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ، وَالصِّحَّةُ، وَالْمَحْرَمُ.
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ وَغَيْرَهَا أَخْبَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ، وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالدَّيْنِ الْمَقْضِيِّ. وَلَوْلَا أَنَّ الْحَجَّ قَدْ وَجَبَ عَلَى هَذَا الْمَعْضُوبِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْحَجِّ
…
.
وَأَيْضًا: «فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ فَقَالَ: (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» ) وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَادِرِ بِنَفْسِهِ وَالْعَاجِزِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ إِذَا قَدَرَ أَنْ يَفْعَلَهَا بِأَصْلٍ أَوْ بَدَلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا يَجِبُ بَدَلُ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ، وَبَدَلُ الْكَفَّارَاتِ، وَبَدَلُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ الْحَجَّةُ تُجْزِئُ عَنْهُ، وَيَسْقُطُ بِهَا عَنْهُ فَرْضُ الْإِسْلَامِ، بِنَصِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَمْكَنَتْهُ الِاسْتِنَابَةُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فِي دِينِهِ وَلَا دُنْيَاهُ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ إِنْ كَانَ أَجِيرًا فَلَا ضَرَرَ مِنْهُ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ يَقَعُ مُسْتَحَقًّا لِلْمُسْتَأْجِرِ كَالِاسْتِيجَارِ عَلَى الْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْكِتَابَةِ. وَإِنْ كَانَ نَائِبًا مَحْضًا فَإِنَّ النَّفَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي مَالِ الْمُسْتَنِيبِ، فَلَا مِنَّةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، يَبْقَى عَمَلُ النَّائِبِ فَقَطْ وَذَلِكَ لَا مِنَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ لَهُ عِوَضًا صَحِيحًا فِي شُهُودِ الْمَشَاعِرِ، وَعَمَلِ الْمَنَاسِكِ، وَحُضُورِ الْمَوْسِمِ، وَلَهُ بِذَلِكَ عَمَلٌ صَالِحٌ غَيْرُ إِبْرَاءِ ذِمَّةِ الْمُنِيبِ مِنْ حَجِّ الْفَرْضِ، وَإِنَّمَا بَلَغَ ذَلِكَ بِمَالِ الْمُسْتَنِيبِ فَيَصِيرَانِ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى إِقَامَةِ الْحَجِّ، هَذَا بِمَالِهِ، وَهَذَا بِبَدَنِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا مِنَّةٌ عَلَى الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَجَّ عَنْهُ بِمَالِ نَفْسِهِ.
لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْحَاجُّ وَلِيَّهُ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ
صِلَةً لِرَحِمِهِ، وَقَضَاءً لِحَقِّهِ، كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِالْعَقْلِ عَنْهُ، وَوِلَايَتِهِ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَلَا مِنَّةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَإِذَا حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِنْ عُوفِيَ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، وَأَبِي طَالِبٍ -: إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَجِّ فَحُجُّوا عَنْهُ، ثُمَّ صَحَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدَرَ: فَقَدْ قُضِيَ عَنْهُ الْحَجُّ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ أَصْحَابِنَا.
فَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَاقَهُ عَائِقٌ، أَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ هَلْ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الْعَاجِزُ عَنِ الْحَجِّ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ كَالْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ، وَمَنْ قُطِعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ، أَوْ مَنَعَهُ سُلْطَانٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَمْ تَجُزْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِي فَرْضِ الْحَجِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، كَمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَذِنَ فِي النِّيَابَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَنْ فِي مَعْنَاهُ. وَالَّذِي يُرْجَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْحَجِّ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِوُجُوهٍ: -
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَاكَ عَاجِزٌ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ عَاجِزٌ فِي الْحَالِ فَقَطْ، وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَصْلِ بِكُلِّ حَالٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ بِكُلِّ حَالٍ انْتَقَلَ إِلَى الْبَدَلِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ عَجَزَ فِي الْحَالِ فَقَطْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الْبَدَلِ، وَلَزِمَهُ الصَّوْمُ إِذَا قَدَرَ. فَالْحَجُّ مِثْلُهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُحَجَّ عَنِ الْفَقِيرِ، فَتَسْقُطَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ
مِنْ ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ فِي الْحَالِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْوُجُوبِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ دَوَامُ الْعَائِقِ جَازَ أَنْ يُخَاطَبَ فِيمَا بَعْدُ، وَجَازَ أَنْ لَا يُخَاطَبَ، فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِ
…
.
(فَصْلٌ)
إِمْكَانُ الْمَسِيرِ وَالْأَدَاءِ بِسَعَةِ الْوَقْتِ، وَخُلُوِّ الطَّرِيقِ، وَالصِّحَّةِ: هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، أَوْ لِلُزُومِ الْأَدَاءِ فَقَطْ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
فَأَمَّا الْعَائِقُ الْخَاصُّ، مِثْلُ الْحَبْسِ وَالْمَرَضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَمَنْعِ السُّلْطَانِ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَعَاقَةِ الطَّرِيقِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِذَا عَرَضَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِدْيَةٌ، فَإِذَا قُلْنَا: هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ فَمَاتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، أَوْ أَنْفَقَ مَالَهُ، أَوْ هَلَكَ: لَمْ يَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي لُزُومِ السَّعْيِ فَإِنَّ الْحَجَّ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا أَنْفَقَ الْمَالَ فِيمَا بَعْدُ بَقِيَ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ. [وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لَكِنْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ] وَعَلَيْهِ الْإِثْمُ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ مَعَ إِمْكَانِ إِبْقَائِهِ لِلْحَجِّ. وَإِذَا اسْتَقَرَّ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمَكِّنُهُ مِنَ اكْتِسَابٍ مَالٍ، أَوْ مَشْيٍ.
فَإِنْ قُلْنَا: هُمَا شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى؛ فَلِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] بَلْ هُوَ أَعْجَزُ مِنْ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْمَشْيِ وَاكْتِسَابِ الْمَالِ، وَأَعْجَزُ مِنَ الْمَعْضُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَحُجَّ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِنَائِبِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَكَيْفَ يَبْقَى الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ؟! وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعِبَادَةَ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ فَإِنَّمَا ذَاكَ فِيمَا أُطْلِقَ وُجُوبُهُ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ.
فَأَمَّا الْحَجُّ: فَقَدْ خَصَّ وُجُوبَهُ بِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَامْتَنَعَ إِيجَابُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ السَّبِيلَ فِي الْأَصْلِ: هُوَ الطَّرِيقُ وَالسَّبَبُ، وَكُلُّ مَا يُوَصِّلُ إِلَى الشَّيْءِ فَهُوَ طَرِيقٌ إِلَيْهِ وَسَبَبٌ فِيهِ، فَالتَّقْدِيرُ: مَنِ اسْتَطَاعَ التَّسَبُّبَ وَالتَّوَصُّلَ إِلَيْهِ، أَوْ مَنِ اسْتَطَاعَ فِعْلَ سَبِيلٍ، أَوْ سُلُوكَ سَبِيلٍ، وَيَخْتَصُّ الْوُجُوبُ بِمَنْ كَانَ السَّبِيلُ مُسْتَطَاعًا لَهُ أَوْ مَقْدُورًا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ، وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ
- صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْبَيْتِ، وَيُقِيمُونَ الْمَوْسِمَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ فِعْلِهِ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَطَرْدِ الْمُشْرِكِينَ، مَعَ قُدْرَةِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. فَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ لَوَجَبَ أَنْ يُحَجَّ عَمَّنْ مَاتَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ مِنْهُمْ، وَلَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وُجُوبَ ذَلِكَ فِي تَرِكَاتِهِمْ، أَوْ سَأَلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، كَمَا سَأَلُوهُ عَمَّنْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ وَهُوَ مَعْضُوبٌ.
وَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ قَدْ تَأَخَّرَتْ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ، أَوْ عَشْرٍ فَإِنَّمَا سَبَبُ تَأْخِيرِهَا صَدُّ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْبَيْتِ، وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ تَمَكُّنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إِقَامَتِهِ، فَامْتَنَعَ أَصْلُ إِيجَابِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ فَهُوَ بِالْمَنْعِ فِي حَقِّ الْخَاصَّةِ أَوْلَى.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَوْ صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِتْمَامُ الْحَجِّ، وَلَا يَجِبُ
الْقَضَاءُ فِي ذِمَّتِهِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ مَعَ أَنَّ إِتْمَامَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ أَوْكَدُ مِنَ ابْتِدَاءِ الشُّرُوعِ فِيهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ. فَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقَضَاءُ فِي ذِمَّةِ الْمَصْدُودِ عَنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَأَنْ لَا يَجِبَ الْأَدَاءُ فِي ذِمَّةِ الْمَصْدُودِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْلَى.
وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَا بِشَرْطٍ فِي الْوُجُوبِ وَهُوَ قَوْلُ
…
.
فَلِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ فَقَالَ: (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ)» وَفَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يُعْلَمُ أَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحَجِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ إِنَّمَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْحَالِ، أَوْ فِي الْمَآلِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَائِبِهِ كَوُجُوبِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ. وَهَذَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ الْحَجُّ لِيَفْعَلَهُ فِيمَا بَعْدُ بِنَفْسِهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا بِنَائِبِهِ كَالْمَعْضُوبِ. حَتَّى لَوْ فُرِضَ مَنْ لَا يُمْكِنُ الْحَجُّ عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْدَ آخِرِ سَنَةٍ يَحُجُّ النَّاسُ فِيهَا لَمْ يَجِبْ فِي ذِمَّتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَعْضُوبِ، إِلَّا أَنَّ الْمَعْضُوبَ يُمْكِنُهُ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ الْمَصْدُودِ.
وَالتَّمَكُّنُ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ إِذًا لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِوُجُوبِهَا فِي الذِّمَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ، لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِنَا الْمَشْهُورِ فِي الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ. فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَمْكَنَهُ قَضَاءُ الْعِبَادَةِ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ إِذَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهَا.
وَالزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ بِمَنْزِلَةِ شُهُودِ الشَّهْرِ فِي رَمَضَانَ، وَبِمَنْزِلَةِ حُؤُولِ الْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، فَمَنْ مَلَكَ ذَلِكَ وَأَمْكَنَ فِعْلُ الْحَجِّ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً وَجَبَ عَلَيْهِ.