المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مسألة مواطن استحباب التلبية] - شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - كتاب الحج - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[مَسْأَلَةٌ وجوب الحج والعمرة مرة في العمر]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تفسير الاستطاعة في الحج]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وجوب المحرم في سفر المرأة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وجوب الحج على من فرط فيه حتى مات]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حَجُّ الكَافِرٍ واَلمَجْنُونٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حج العبد والصبي]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حج غير المستطيع وَالْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ نَذْرِهِ وَنَفْلِهِ]

- ‌[باب الْمَوَاقِيتِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ مواقيت أهل الأمصار]

- ‌[مَسْأَلَةٌ المواقيت لأهلها ولمن مر عليها]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ميقات من دون المواقيت للحج]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ميقات من لم يكن طريقه على ميقات]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حكم مجاوزة الميقات دون إحرام]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حكم الإحرام قبل الميقات]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أشهر الحج]

- ‌[باب الْإِحْرَامِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ ما يستحب للمحرم عند الإحرام]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يستحب الإحرام بعد الصلاة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ من أراد النسك فهو مخير بَيْنَ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صفة التلبية]

- ‌[مَسْأَلَةٌ استحباب الإكثار من التلبية ورفع الصوت بها لغير النساء]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مواطن استحباب التلبية]

الفصل: ‌[مسألة مواطن استحباب التلبية]

[مَسْأَلَةٌ مواطن استحباب التلبية]

مَسْأَلَةٌ: (وَهِيَ آكَدُ فِيمَا إِذَا عَلَا نَشْزًا، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، أَوْ سَمِعَ مُلَبِّيًا، أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا، أَوِ الْتَقَتِ الرِّفَاقُ، وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَبِالْأَسْحَارِ، وَإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).

وَذَلِكَ: لِأَنَّ ذَلِكَ مَأْثُورٌ عَنِ السَّلَفِ: قَالَ خَيْثَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يُلَبُّونَ إِذَا هَبَطُوا وَادِيًا، أَوْ أَشْرَفُوا عَلَى أَكَمَةٍ، أَوْ لَقُوا رُكْبَانًا، وَبِالْأَسْحَارِ وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ " رَوَاهُ سَعِيدٌ.

وَفِي لَفْظٍ: " كُنْتُ أَحُجُّ مَعَ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ، فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُلَبُّوا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَحِينَ يَلْقَى الرَّكْبَ، وَبِالْأَسْحَارِ، وَإِذَا أَشْرَفُوا عَلَى أَكَمَةٍ، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، أَوِ انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ " رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ.

ص: 599

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ حِينَ انْبَعَثَتْ بِهِ نَاقَتُهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ قَائِمَةً، ثُمَّ أَهَّلَ حِينَ عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ.

وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي فِي حَجَّتِهِ إِذَا لَقِيَ رَاكِبًا أَوْ عَلَا أَكَمَةً، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَمِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» ".

وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا عَلَا عَلَى شَرَفٍ أَنْ يُكَبِّرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِذَا هَبَطَ وَادِيًا أَنْ يُسَبِّحَهُ - فَالتَّلْبِيَةُ لِلْمُحْرِمِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الذِّكْرِ.

وَلِأَنَّ الْبِقَاعَ إِذَا اخْتَلَفَتْ. . . . .

وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِشْرَافِ: إِذَا عَلَا عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنِ السَّلَفِ.

ص: 600

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ قَبْلَهَا بِذِكْرِ الرُّكُوبِ، سُئِلَ عَطَاءٌ: أَيَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ يَقُولُ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ؟ قَالَ: يَبْدَأُ بِسُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ، حَمِدَ اللَّهَ - تَعَالَى - وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَلِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ مُخْتَصٌّ بِالرُّكُوبِ، فَيَفُوتُ بِفَوَاتِ سَبَبِهِ، بِخِلَافِ التَّلْبِيَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ سَمِعَ مُؤَذِّنًا كَانَ يَشْتَغِلُ بِإِجَابَتِهِ عَنِ التَّلْبِيَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهِمَا.

وَلِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ أَوْكَدُ مِنَ التَّلْبِيَةِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13].

ص: 601

وَأَمَّا إِذَا سَمِعَ مُلَبِّيًا. . . .

وَأَمَّا إِذَا فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا ; مِثْلَ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ، أَوْ يَلْبَسَ قَمِيصًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّ ذَلِكَ سَيِّئَةٌ تُنْقِصُ الْإِحْرَامَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتْبِعَهَا بِحَسَنَةٍ تَجْبُرُ الْإِحْرَامَ، وَلَا أَحْسَنَ فِيهِ مِنَ التَّلْبِيَةِ، وَلِأَنَّهُ بِذَلِكَ كَالْمُعْرِضِ عَنِ الْإِحْرَامِ وَيَتَذَكَّرُهُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ طَافَ فِي إِحْرَامِهِ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يَحِلُّ: أَكْثِرْ مِنَ التَّلْبِيَةِ؛ فَإِنَّ التَّلْبِيَةَ تَشُدُّ الْإِحْرَامَ.

وَأَمَّا إِذَا الْتَقَتِ الرِّفَاقُ. . . . .

فَأَمَّا الْقَافِلَةُ الْوَاحِدَةُ إِذَا جَاءَ بَعْضُهُمْ إِلَى عِنْدِ بَعْضٍ. . . .، وَهَلْ يَبْدَأُونَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالسَّلَامِ. . . . .

وَأَمَّا أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ، فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ.

وَأَمَّا السَّحَرُ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ، وَلِأَنَّهَا سَاعَةٌ يُسْتَحَبُّ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 602

وَأَمَّا فِي إِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: فَقَدْ ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، وَمَعْنَى إِقْبَالِ النَّهَارِ. . . . وَلَمْ يَذْكُرِ الْخِرَقِيُّ وَابْنُ أَبِي مُوسَى السَّحَرَ وَطَرَفَيِ النَّهَارِ.

ص: 603

(فَصْلٌ)

وَيَكْفِيهِ أَنْ يُلَبِّيَ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً ; بِحَيْثُ يَكُونُ دُعَاؤُهُ عَقِيبَ تِلْكَ الْمَرَّةِ.

قَالَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ -: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ بِهِ الْعَامَّةُ؛ يُلَبُّونَ فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا شَيْءٌ تَفْعَلُهُ الْعَامَّةُ يُلَبُّونَ فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: مَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءُوا بِهِ، قُلْتُ: أَلَيْسَ تُجْزِئُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ قَالَ: بَلَى.

وَكَذَلِكَ - أَيْضًا - إِذَا لَبَّى لِغَيْرِ سَبَبٍ فَإِنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ تَحْصُلُ بِهَا سُنَّةُ التَّلْبِيَةِ ; بِحَيْثُ يَدْعُو بَعْدَهَا إِنْ أَحَبَّ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ أَهَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ لَمَّا عَلَا الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ بِهِنَّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ كَرَّرَهُنَّ فِي حَالَتِهِ تِلْكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَبَيَّنُوهُ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَمْ يَكُونُوا لِيُغْفِلُوهُ وَيُهْمِلُوهُ، بَلْ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ حِينَ قَالَ:" «أَهَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ» " وَقَوْلُهُ: " «فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً قَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ» " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا مَا يَزِيدُ: كَالنَّصِّ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا لَبَّى بِهَذَا وَاحِدَةً. وَقَدْ قَالَ: " «أَرْبَعًا تَلَقَّنْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» -.

ص: 604

أَفَتَرَاهُ يَعُدُّ كَلِمَاتِ التَّلْبِيَةِ، وَلَا يَعُدُّ مَرَّاتِهَا؟ وَذِكْرُ عَدَدِهَا أَهَمُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ [إِلَّا بِذِكْرِهِ بِخِلَافِ كَلِمَاتِ التَّلْبِيَةِ] فَإِنَّ ذِكْرَهَا يُغْنِي عَنْ عَدِّهَا، وَكَذَلِكَ الْمَأْثُورُ عَنِ السَّلَفِ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بِتَكْرِيرٍ؛ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ أَحْمَدُ هَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ عَنِ السَّلَفِ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءُوا بِهِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ كَلِمَاتِ التَّلْبِيَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَكْرَارِهَا، فَإِنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ.

فَإِنْ كَرَّرَهَا ثَلَاثًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ: لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارَهَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُهَا ثَلَاثًا.

وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُهَا ثَلَاثًا عَقِيبَ الصَّلَاةِ، بَلْ يَأْتِي بِهَا عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ كَمَا يَأْتِي بِهَا مُفْرَدَةً عَنِ الصَّلَاةِ.

وَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ اسْتِدَامَتُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَرَّةٍ، وَتَكْرَارُهُ ثَلَاثًا حَسَنٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ.

وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ: يُسَنُّ تَكْرَارُهَا بَعْدَ تَمَامِهَا ; لِأَجْلِ تَلَبُّسِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَإِنْ لَمْ تُسْتَحَبَّ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا.

ص: 605

وَفَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالتَّكْرَارِ: بِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ شِعَارُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، كَالْأَذَانِ وَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَلَمْ تُسْتَحَبَّ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِثْلَهُمَا بِخِلَافِ التَّكْرَارِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَجْلِ تَلَبُّسِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ مَا لَمْ يَحِلَّ، وَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ تَكْرَارِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اخْتُلِفَ فِي اسْتِحْبَابِ الزِّيَادَةِ - وَهُوَ عَقِيبَ التَّلْبِيَةِ سَوَاءٌ.

وَحَقِيقَةُ الْمَذْهَبِ: أَنَّ اسْتِدَامَتَهَا، وَتَكْرَارَهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِعَدَدٍ، كَمَا فِي التَّكْبِيرِ فِي الْعَشْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَكِنَّ التَّقْيِيدَ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِهِ وَإِلْزَامُ الْمَأْمُورِينَ.

ص: 606

(فَصْلٌ)

قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا غَيْرُهَا مِنَ الْكَلَامِ لِيَأْتِيَ بِهَا نَسَقًا، فَإِنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ رَدَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ، وَالتَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ.

فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ التَّلْبِيَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّمُهَا وَإِنْ لَمْ يَفْقَهْهَا.

قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: وَالْأَعْجَمِيُّ وَالْأَعْجَمِيَّةُ إِذَا لَمْ يَفْقَهَا يُعَلَّمَانِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهَا وَبَرَّرَ لماى الْمَنَاسِكِ، وَيَشْهَدَانِ مَعَ النَّاسِ الْمَنَاسِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالنِّيَّةِ، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَ ذَلِكَ عَنْهُمَا.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَبِّيَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى التَّلْبِيَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَوْ عَلَى تَعَلُّمِهَا ; لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ كَالْأَذَانِ وَالتَّكْبِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ، لَا سِيَّمَا وَالتَّلْبِيَةُ ذِكْرٌ مُؤَقَّتٌ، فَهِيَ بِالْأَذَانِ أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْخُطْبَةِ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ الْخُطْبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَالتَّلْبِيَةُ أَوْلَى. فَإِنْ عَجَزَ عَنِ التَّلْبِيَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ: فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَجُوزُ أَنْ يُلَبِّيَ بِلِسَانِهِ، وَيَتَوَجَّهُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مُنِعَ عَنِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنِ التَّلْبِيَةِ بِأَنْ لَا يُحْسِنَهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ يَكُونَ أَخْرَسَ، أَوْ مَرِيضًا لَا يُطِيقُ الْكَلَامَ، أَوْ صَغِيرًا، فَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي

ص: 607

طَالِبٍ -: الْأَخْرَسُ وَالْمَرِيضُ وَالصَّبِيُّ: يُلَبِّي عَنْهُمْ، وَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْجَهْرِ يُلَبَّى عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَابِرًا ذَكَرَ أَنَّهُمْ: كَانُوا يُلَبُّونَ عَنِ الصِّبْيَانِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعَجْزِهِمْ عَنِ التَّلْبِيَةِ. فَفِي مَعْنَى الصِّبْيَانِ كُلٌّ عَاجِزٌ؛ وَلِأَنَّ أُمُورَ الْحَجِّ كُلَّهَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ إِذَا عَجَزَ عَنْهَا، كَالرَّمْيِ وَنَحْوِهِ. فَإِذَا عَجَزَ عَنِ التَّلْبِيَةِ بِنَفْسِهِ لَبَّى عَنْهُ غَيْرُهُ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ لَبَّى عَنْ مَيِّتٍ أَوْ مَعْضُوبٍ إِنْ ذَكَرَهُ فِي التَّلْبِيَةِ فَحَسَنٌ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى النِّيَّةِ جَازَ.

قَالَ أَصْحَابُنَا، الْقَاضِي وَمَنْ بَعْدَهُ: وَالتَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ لَا شَيْءَ فِي تَرْكِهَا ; لِأَنَّهَا ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ فِي الْحَجِّ، فَكَانَ سُنَّةً كَسَائِرِ أَذْكَارِهِ مِنَ الدُّعَاءِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ص: 608

(فَصْلٌ)

وَتُشْرَعُ التَّلْبِيَةُ مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ إِلَى الشُّرُوعِ فِي الْإِحْلَالِ، فَفِي الْحَجِّ يُلَبِّي إِلَى أَنْ يَأْخُذَ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَفِي الْعُمْرَةِ إِلَى أَنْ يَشْرَعَ فِي الطَّوَافِ.

قَالَ أَحْمَدُ: الْحَاجُّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُقْطَعُ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ، وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمُعْتَمِرِ -: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.

وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْبَيْتِ. فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بِرُؤْيَةِ الْبَيْتِ قَبْلَ الطَّوَافِ فَجَعَلَ هَذَا خِلَافًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ بِاسْتِلَامِهِ الْحِجْرِ، وَهَذَا أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ

ص: 609

حَقِيقَةَ الْوُصُولِ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَتَّصِلُ بِهِ إِذَا لَمَسَهُ لَا إِذَا رَآهُ ; وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ:" «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ» " وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ» ".

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ أُسَامَةَ كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ فَكِلَاهُمَا قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا.

وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " أَفَضْتُ مَعَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُهُ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: أَفَضْتُ مَعَ أَبِي مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُهُ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: «أَفَضْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُهُ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ عَنْهُ.

ص: 610

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَعَنْهُ يُرْفَعُ الْحَدِيثُ أَنَّهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يُمْسِكُ عَنِ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: " «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ عُمَرٍ، كُلُّ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، يُلَبِّي حَتَّى يَسْتَلِمَ

ص: 611

الْحَجَرَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ.

فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَفِي حَالِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ.

وَيُكْرَهُ إِظْهَارُ التَّلْبِيَةِ [فِي الْأَمْصَارِ وَالْحَلَلِ، قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: التَّلْبِيَةُ] إِذَا بَرَزَ عَنِ الْبُيُوتِ، وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ - وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُلَبِّيَ فِي مِثْلِ بَغْدَادَ حَتَّى يَبْرُزَ، وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَمْدَانَ بْنِ

ص: 612

عَلِيٍّ -: إِذَا أَحْرَمَ فِي مِصْرِهِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُلَبِّيَ. وَفِي لَفْظٍ: يُلَبِّي الرَّجُلُ إِذَا وَارَى الْجُدْرَانُ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَا يُعْجِبُنِي مِنَ الْمِصْرِ.

وَحَمَلَ أَصْحَابُنَا قَوْلَهُ: عَلَى إِظْهَارِ التَّلْبِيَةِ وَإِعْلَانِهَا. وَعِبَارَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ: لَا يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهَا، وَرُبَّمَا قَالُوا: لَا يُشْرَعُ ذَلِكَ، كَمَا قَالُوا: لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُهَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ; إِمَّا فِي الْكَرَاهَةِ، أَوْ فِي أَنَّ الْأَوْلَى تَرَكُهُ، وَذَلِكَ لِمَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَمَجْنُونٌ، لَيْسَتِ التَّلْبِيَةُ فِي الْبُيُوتِ، وَإِنَّمَا التَّلْبِيَةُ إِذَا بَرَزْتَ ". وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي: بِأَنَّ التَّلْبِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَإِخْفَاءُ التَّطَوُّعِ أَوْلَى مِنْ إِظْهَارِهِ لِمَنْ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ فِي الصَّحْرَاءِ وَفِي أَمْصَارِ الْحَرَمِ؛ لِوُجُودِ الشُّرَكَاءِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُقِيمَ فِي مِصْرٍ لَيْسَ بِمُسَافِرٍ وَلَا مُتَوَجِّهٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّلْبِيَةُ إِجَابَةُ الدَّاعِي، وَإِنَّمَا يُجِيبُهُ إِذَا شَرَعَ فِي السَّفَرِ. فَإِذَا فَارَقَ الْبُيُوتَ شَرَعَ فِي السَّفَرِ

ص: 613

فَيُجِيبُهُ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ يَحْتَمِلُ هَذَا. فَعَلَى هَذَا لَوْ مَرَّ بِمِصْرٍ آخَرَ فِي طَرِيقِهِ، لَبَّى مِنْهُ.

وَعَلَى هَذَا فَلَا يُسْتَحَبُّ إِخْفَاؤُهَا وَلَا إِظْهَارُهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ عَبَّاسٍ.

فَأَمَّا الْمَسَاجِدُ: فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهَا فِي الْأَمْصَارِ وَمَسَاجِدِ الْأَمْصَارِ، وَمَسَاجِدُ الْأَمْصَارِ: هِيَ الْمَبْنِيَّةُ فِي الْمِصْرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَهَا كَحُكْمِ الْمِصْرِ، وَأَوْلَى مِنْ حَيْثُ كُرِهَ رَفْعُ الصَّوْتِ فِيهَا، لَا مِنْ إِظْهَارِهَا فِي مَسَاجِدِ الْحِلِّ وَأَمْصَارِهِ. فَعَلَى هَذَا: لِلْمَسَاجِدِ الْمَبْنِيَّةِ فِي الْبَرِّيَّةِ مِثْلَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَنَحْوِهِ لَا يُظْهَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ رَفْعِ

ص: 614

الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ. وَإِنَّمَا خُصَّ مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامُ خَاصَّةً وَالْمَأْمُومُ إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَبْلِيغِ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ.

فَيَبْقَى رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ عَلَى عُمُومِهِ. وَهَذَا قَوِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى. . . .

وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ بِذَلِكَ يُخَالِفُ هَذَا الْقَوْلَ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَسَاجِدِ الْحَرَمِ ; مِثْلَ مَسْجِدِ مِنًى، وَفِي مَسْجِدِ عَرَفَاتٍ، وَإِظْهَارُهَا فِي مَكَّةَ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ الْمَنَاسِكِ.

ص: 615

(فَصْلٌ)

وَلَا بَأْسَ بِتَلْبِيَةِ الْحَلَالِ، وَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْإِحْرَامَ. قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ -: قَدْ يُلَبِّي الرَّجُلُ وَلَا يُحْرِمُ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:" أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ ضَيْعَتِهِ الَّتِي دُونَ الْقَادِسِيَّةِ، فَلَقِيَ قَوْمًا يُلَبُّونَ عِنْدَ النَّجَفِ فَكَأَنَّهُمْ هَيَّجُوا أَشْوَاقَهُ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ " رَوَاهُ سَعِيدٌ.

عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ: " أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا لِلْحَلَالِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالتَّلْبِيَةِ يَعْلَمُهَا الرَّجُلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ - فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ -: "«لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا مِنْكَ وَإِلَيْكَ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ص: 616

(فَصْلٌ)

وَأَمَّا تَسْمِيَةُ مَا أَحْرَمُ بِهِ فِي تَلْبِيَتِهِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ:" لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْطِقَ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي تَلْبِيَةٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ: " لَا يَضُرُّ الرَّجُلَ أَنْ لَا يُسَمِّيَ بِحَجٍّ وَلَا بِعُمْرَةٍ، يَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ نِيَّتُهُ إِنْ نَوَى حَجًّا فَهُوَ حَجٌّ، وَإِنْ نَوَى عُمْرَةً فَهُوَ عُمْرَةٌ ".

وَعَنْهُ " أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِهِ يُسَمِّي بِحَجٍّ يَقُولُ: " لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ " صَكَّ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: أَتُعْلِمُ اللَّهَ بِمَا فِي نَفْسِكَ ".

وَعَنْهُ: " أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُتَكَلَّمُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ فَقَالَ: أَتُنَبُّونَ اللَّهَ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ " وَذَلِكَ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: " «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُلَبِّي لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالَّذِينَ وَصَفُوا تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اسْتَوَى عَلَى دَابَّتِهِ مِثْلَ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، ذَكَرُوا أَنَّهُ لَبَّى، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي تَلْبِيَتِهِ ذِكْرَ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ.

ص: 617

وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: قَالَ: إِنْ أَرَدْتَ الْمُتْعَةَ فَقُلْ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَيَسِّرْهَا لِي وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي، وَأَعِنِّي عَلَيْهَا " تُسِرُّ ذَلِكَ فِي نَفْسِكَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَتَشْتَرِطُ عِنْدَ إِحْرَامِكَ، فَتَقُولُ: إِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي، وَإِنْ شِئْتَ أَهْلَلْتَ عَلَى رَاحِلَتِكَ، وَذَكَرَ فِي الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ نَحْوَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ فَيَسِّرْهُمَا وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ عُمْرَةً وَحَجًّا، فَقُلْ كَذَلِكَ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُتْعَةِ وَالْإِفْرَادِ لَفْظَهُ فِي التَّلْبِيَةِ. فَقَدِ اسْتَحَبَّ أَنْ يُسَمِّيَ فِي تَلْبِيَتِهِ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ أَوَّلَ مَرَّةٍ ; لِمَا رَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:" «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، قَالَ بَكْرٌ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ. فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعَوَّدْنَا إِلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: " «قُلْ: عُمْرَةً وَحَجَّةً» "، وَفِي لَفْظٍ:" «عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ» ". وَلَكِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ النُّطْقَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ، وَبَعْدُ، وَفِيهَا.

وَعَنْ عَلِيٍّ: " «أَنَّهُ أَهَلَّ بِهِمَا: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَفِي حَدِيثِ الصُّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ، وَسَمِعَهُ سَلْمَانُ وَزَيْدٌ وَهُوَ يُلَبِّي بِهِمَا، فَقَالَ عُمَرُ:" هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ ".

وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إِنْ أَرَادَ الْإِفْرَادَ بِالْحَجِّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَأَتْمِمْهُ، وَيُلَبِّي فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ تَمَامُهَا عَلَيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ إِلَى آخِرِهَا، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الِاشْتِرَاطُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ - بَعْدَ التَّلْبِيَةِ -: إِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي.

ص: 618

وَقَالَ - فِي الْقَارِنِ -: هُوَ كَالْمُفْرِدِ غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ - فِي تَلْبِيَتِهِ -: " لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ تَمَامُهَا عَلَيْكَ " بَعْدَ أَنْ يَنْوِيَ الْقِرَانَ.

وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ» ".

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَأَهَلَّ أَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ» ".

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " «لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ» " إِلَّا أَنَّ هَذَا يُقَالُ لِمَنْ نَوَى ذَلِكَ وَلِمَنْ يَعْلَمُ بِهِ فِي تَلْبِيَتِهِ كَمَا يُقَالُ. . . .، بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرْوِي ذَلِكَ، وَكَانَ يُنْكِرُ اللَّفْظَ بِهِ فِي التَّلْبِيَةِ.

ص: 619