الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ وجوب الحج على من فرط فيه حتى مات]
مَسْأَلَةٌ: (فَمَنْ فَرَّطَ حَتَّى مَاتَ أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ حَجَّةٌ، وَعُمْرَةٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ، أَوْ نَائِبِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَفَرَّطَ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَلَهُ تَرِكَةٌ: وَجَبَ أَنْ تُخْرَجَ مِنْ مَالِهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ إِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُفَرِّطْ؛ وَهُوَ مَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ كَانَ مَحْبُوسًا، أَوْ مَمْنُوعًا، أَوْ كَانَ بِطَرِيقَةٍ عَاقَةٍ، أَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ إِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْحَجِّ فِي ذِمَّتِهِمْ، وَيَكُونُ هَذَا الْحَجُّ دَيْنًا عَلَيْهِ يُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ. هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ، نَصَّ عَلَيْهِ - فِي مَوْضِعٍ - وَأَصْحَابِهِ، كَمَا قُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ دَيْنٌ مِنَ الدُّيُونِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ، وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ أَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاحْجُجْ عَنْهُ» ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ:(«أَنَّهُ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ حَمَلْتُهَا لَمْ تَسْتَمْسِكْ، وَإِنْ رَبَطْتُهَا خَشِيتُ أَنْ أَقْتُلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاحْجُجْ عَنْ أُمِّكَ»). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ مِنَ الْفَضْلِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ:(«أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ أَكَانَ يُجْزِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاحْجُجْ عَنْ أَبِيكَ»). وَهَذَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ الَّذِي
فِي حَدِيثِ الْفَضْلِ إِنَّمَا سَأَلَتْ عَنْ أُمِّهَا، وَبِدَلِيلِ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَإِذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ دَخَلَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - عَمَّ بِقَوْلِهِ: {أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فَإِنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ مَعْنَى النَّفْيِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمِيرَاثُ بَعْدَ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ، وَلَمْ يُخَصِّصْ دَيْنَ الْآدَمِيِّ مِنْ دَيْنِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ -، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ قَدْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ: أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ صُلْبِ الْمَالِ.
وَأَيْضًا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ قَالَ: («بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ: وَجَبَ أَجْرُكِ، وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: صُومِي عَنْهَا، قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهَا»)؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: (إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» ). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: («أَمَرَتِ امْرَأَةٌ سِنَانَ بْنَ سَلَمَةَ الْجُهَنِيَّ أَنْ يَسْأَلَ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَيُجْزِئُ أُمَّهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهَا دَيْنٌ فَقَضَتْهُ عَنْهَا أَلَمْ يَكُنْ يُجْزِئُ عَنْهَا؟ فَلْتَحُجَّ عَنْ أُمِّهَا»). وَعَنْهُ أَيْضًا:(«أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِيهَا مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، قَالَ: حُجِّي عَنْ أَبِيكِ»). وَعَنْهُ قَالَ: («قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ»). رَوَاهُنَّ النَّسَائِيُّ.
فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ وُجُوهٍ: -
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِفِعْلِ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْحِجَّةِ الْمَنْذُورَةِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَأَنَّهَا لَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، وَأَنَّهَا تُؤَدَّى عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَكُلُّ مَا يَبْقَى مِنَ الْحُقُوقِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُؤَدَّى بَعْدَ الْمَوْتِ: فَإِنَّهُ يَجِبُ فِعْلُهُ
بَعْدَ الْمَوْتِ إِذَا كَانَ لَهُ مَا يَفْعَلُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجِبْ فِعْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ يَزْعُمُ أَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ قَدْ سَقَطَتْ بِالْمَوْتِ، وَأَنَّ الَّذِي يُفْعَلُ عَنْهُ حَجُّ تَطَوُّعٍ لَهُ أَجْرُهُ، وَثَوَابُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ - زَعْمٌ - لَا يُفْعَلُ إِلَّا بِإِذْنِهِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِذَلِكَ فَإِنَّ الَّذِي يُوصَى بِهِ لَيْسَ هُوَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أَنَّ نَفْسَ الْوَاجِبِ هُوَ الَّذِي يُقْضَى عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أَنَّ الْحَجَّ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَكُلُّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنَّهُ يُقْضَى عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: («اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»). وَقَوْلُهُ: فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنِ الصَّوْمِ («فَحَقُّ اللَّهِ أَحَقُّ»): إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ اللَّهِ أَوْجَبُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ أَوْكَدُ،
وَأَثْبَتُ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ آكَدُ مِنْ وُجُوبِ قَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ مَبَانِي الْإِسْلَامِ مَعَ ظَاهِرِ قَوْلِهِ:(«فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ») فَعَلَى هَذَا إِذَا وَجَبَ قَضَاءُ دَيْنِ الْآدَمِيِّ مِنْ تَرِكَتِهِ فَأَنْ يَجِبَ قَضَاءُ دَيْنِ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِذَا كَانَ قَضَاءُ دَيْنِ الْآدَمِيِّ يُجْزِئُ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُجْزِئَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَرِيمٌ جَوَادٌ، وَمَنْ يَكُونُ أَحْرَى بِقَبُولِ الْقَضَاءِ: فَحَقُّهُ أَوْلَى أَنْ يُقْضَى؛ لِأَنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يَحْصُلَ بِقَضَائِهِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ جَوَازِ الْقَضَاءِ عَنِ الْمَيِّتِ لَا عَنْ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ، فَعَلَى هَذَا إِذَا وَجَبَ فِعْلُ الدَّيْنِ عَنْهُ لِبَقَائِهِ وَكَوْنِهِ يُجْزِئُ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، [وَجَبَ قَضَاءُ الْحَجِّ وَنَحْوِهِ عَنْهُ لِبَقَائِهِ، وَكَوْنُهُ يُجْزِئُ بَعْدَ الْمَوْتِ] لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَقْتَضِي جَوَازَ فِعْلِ الْحَجِّ الْمَفْرُوضِ عَنِ الْمَيِّتِ، سَوَاءٌ وَصَّى بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُوصِ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْأَلْهُمْ عَنْ تَرِكَةٍ خَلَّفُوهَا، وَتَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ، وَيُؤَدِّي عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ بِعَيْنِهَا أَحْكَامُ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.
الْخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْوَلِيَّ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ شَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي يَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ الدَّيْنُ يَجِبُ قَضَاؤُهُ إِنْ كَانَتْ لَهُ تَرِكَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ
وَأَيْضًا: فَقَدْ تَقَدَّمَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مِنْ رَمَضَانَ أَطْعَمَ عَنْهُ، كَمَا يُطْعِمُ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَإِذَا وَجَبَ الْإِطْعَامُ فِي تَرِكَتِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْحَجُّ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا فَرْقَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحَجَّ حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ فِي حَيَاتِهِ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدُيُونِ الْآدَمِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ فَقَدْ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9]- إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]، وَقَوْلِهِ:
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ - لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99 - 100]؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَاتَ عَاصِيًا عَلَى كَبِيرَةٍ مِنَ الْكَبَائِرِ، بَلْ تُخُوِّفَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، كَمَا يُذْكَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْفَوْرِ، فَلَوْ كَانَ الْحَجُّ يَجِبُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ - بَعْدَ مَوْتِهِ - وَيُجْزِؤُهُ كَمَا يُجْزِؤُهُ لَوْ فَعَلَهُ فِي حَيَاتِهِ لَكَانَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَجَّ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَهُ. وَالَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ وَغَيْرَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ ابْتِلَاءٌ لِلْعَبْدِ وَامْتِحَانٌ لَهُ، وَأَمْرٌ لَهُ بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَنْ يَقْصِدَ الْعِبَادَةَ وَيَفْعَلَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يَأْمُرَ مَنْ يَفْعَلُهَا. وَبِالْمَوْتِ قَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ حَجَّ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ دَيْنِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، وَيَصِحُّ بِدُونِ إِذْنِهِ، لَوْ أَدَّاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَازَ وَلَوِ اقْتَضَاهُ الْغَرِيمُ مِنْ مَالِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ الْأَحَادِيثُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَحُجُّوا، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الْحَجُّ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَمْلِكُوا زَادًا وَرَاحِلَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ لَكِنْ لَهُمْ ثَوَابُ وَأَجْرُ مَا يُفْعَلُ عَنْهُمْ لَا أَنَّ الْوَاجِبَ نَفْسَهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا لَمْ يَسْقُطِ الْوَاجِبُ: لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ شَيْءٌ.
قُلْنَا: لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَمُوتُ عَاصِيًا مُعَرَّضًا لِلْوَعِيدِ، لَكِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنْهُ، وَعَدَمَ صِحَّتِهِ، وَوُجُوبَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ كَمَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَامِدًا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا،
أَوْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا. فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَأَجْزَأَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَطَلَ الْغُرَمَاءَ بِدُيُونِهِمْ مَعَ الْيَسَارِ حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِهَذَا الْمَطْلِ وَالتَّأْخِيرِ، وَيُؤَدَّى عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيُجْزِؤُهُ، بَلْ عِنْدَنَا لَوْ أَخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، ثُمَّ فَعَلَهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ أَجْزَأَ عَنْهُ، وَأَثِمَ بِالتَّأْخِيرِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ وَيَسْتَغْفِرَ. وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ، وَيَصُومَ، وَأَنْ يَفْعَلَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ فِي وَقْتِهِمَا، فَمَتَى تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَاجِبَيْنِ: لَمْ يَسْقُطِ الْوَاجِبُ الْآخَرُ وَهُوَ مُطْلَقُ الْحَجِّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ، وَإِذَا تَعَذَّرَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا لَمْ يَسْقُطْ نَفْسُ الْفِعْلِ، بَلْ يُفْعَلُ بَعْدَ الْوَقْتِ.
فَهَذَا الَّذِي أَخَّرَ الْحَجَّ حَتَّى مَاتَ: إِنْ لَمْ يُفْعَلْ عَنْهُ لَحِقَهُ وَعِيدُ تَرْكِ الْحَجِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ فُعِلَ عَنْهُ أَجْزَأَ عَنْهُ نَفْسُ الْحَجِّ، وَبَقِيَ إِثْمُ تَأْخِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ فِيهِ، وَتَرْكِ فِعْلِهِ، كَمَا يَبْقَى عَلَى مَنْ يَقْضِي الدَّيْنَ إِثْمُ الْمَطْلِ وَأَشَدُّ. وَسُؤَالُهُ الرُّجْعَةَ، [وَكَوْنُهُ يُخَافُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ: حَقٌّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ تَرْكِهِ] الْحَجَّ بِنَفْسِهِ وَتَفْرِيطِهِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ مُتَعَمِّدًا حَبِطَ عَمَلُهُ وَإِنْ قَضَاهَا، وَكَمَا يَلْحَقُ الْوَعِيدُ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، وَإِنْ صَلَّوْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ. وَهُنَا قَدْ قَضَوْهَا بِأَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَقْضِي عَنْهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَلِأَنَّ هَذَا النَّكَالَ وَهَذَا الْخَطَرَ وَالْعَذَابَ الشَّدِيدَ يَكُونُ [حِينَ الْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ
يُحَجَّ عَنْهُ]، فَإِذَا حُجَّ عَنْهُ خَفَّفَ عَنْهُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ
…
.
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ مَاتَ يُحَجُّ عَنْهُ، إِمَّا لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُخْلِفُ مَالًا، أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَهَاوَنُ الْوَرَثَةُ فِي الْإِخْرَاجِ عَنْهُ، فَمَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ يَكُونُ أَمْرُهُ أَخَفَّ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْفَرَائِضِ لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا إِلَّا بِنِيَّةِ الْمُكَلَّفِ وَأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ بِدُونِ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَذَلِكَ فِيمَا وَجَبَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَوْ حَجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فِي حَيَاتِهِ بِدُونِ أَمْرِهِ لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا مَاتَ صَارَ الْمُخَاطَبُ بِالْوُجُوبِ غَيْرَهُ، وَهُمُ الْوَرَثَةُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ أَقَامَ فِعْلَهُمْ عَنْهُ مَقَامَ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي التَّأْخِيرِ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا، وَإِنْ كَانَ فَرَّطَ قَامَ مَقَامَهُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ، وَبَقِيَ إِثْمُ التَّرْكِ عَلَيْهِ هُوَ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَا وَجَبَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْوِيَهُ غَيْرُهُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى غَيْرِهِ مِثْلُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا هُوَ الْوَلِيُّ.
يَبْقَى الْحَجُّ عَنِ الْمَعْضُوبِ هَلْ يُجْزِئُ عَنْهُ بِدُونِ إِذْنِهِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا:
لَا يُجْزِئُ عَنْهُ بِدُونِ إِذْنِهِ وَيَتَوَجَّهُ
…
.
وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ مَا دَامَ إِذْنُهُ مُمْكِنًا فَعِنْدَ تَعَذُّرِ إِذْنِهِ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فِعْلَ غَيْرِهِ قَائِمًا مَقَامَ فِعْلِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ كَمَا قَدْ يَقُومُ فِعْلُ غَيْرِهِ مَقَامَ فِعْلِهِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ، وَحُصُولِ الثَّوَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ إِهْدَاءِ الثَّوَابِ لِلْمَوْتَى، وَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَأَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَنْفَعُ غَيْرَ عَامِلِهِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.
(فَصْلٌ)
يَجِبُ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ وَالْعَاجِزِ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ، قَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَحُجُّوا عَنْهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي مَلَكَ فِيهِ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ وَطَنَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ مَاتَ فِيهِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ إِنْ مَاتَ فِي بَلَدِ الْوُجُوبِ حَجَّ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَإِنْ مَاتَ فِي بَلَدٍ أَبْعَدَ عَنْ مَكَّةَ مِنْهُ، أَوْ هُوَ فِي جِهَةٍ غَيْرِ جِهَةِ بَلَدِ الْوُجُوبِ: حَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِ الْوُجُوبِ وَلَمْ يَجِبْ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِ الْمَوْتِ، وَإِنْ مَاتَ بِبَلَدٍ أَقْرَبَ إِلَى مَكَّةَ مِنْ بَلَدِ الْوُجُوبِ: وَجَبَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِ الْوُجُوبِ أَيْضًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ قَاصِدًا الْحَجَّ.
قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ أَيْسَرُ، قِيلَ لَهُ: فَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ خَرَجَ إِلَى خُرَاسَانَ فَأَيْسَرَ، ثُمَّ تَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ أَيْسَرَ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَحُجُّ عَنْهُ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَأَنْكَرَهُ.
قِيلَ لَهُ: فَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ خَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَمَاتَ بِهَا، قَالَ: يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ -: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِبَغْدَادَ، وَمَاتَ بِنَيْسَابُورَ نَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَغْدَادَ
…
.
وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْحَجَّ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنًا، وَأَمَرَ الْوَارِثَ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْهُ كَمَا يُفْعَلُ الدَّيْنُ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ فَكَذَلِكَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ.
وَلِأَنَّ الْحَجَّةَ الَّتِي يُنْشِئُهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَفْضَلُ، وَأَتَمُّ مِنَ الَّتِي يُنْشِئُهَا مِنْ دُونِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ -:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: (إِتْمَامُهَا أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ)، يَعْنِي أَنْ تُنْشِئَ لَهَا سَفَرًا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى صِفَةٍ تَامَّةٍ فَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَفْعَلَهَا بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ؛ وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ وَجَبَ قَطْعُهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَوَجَبَ قَطْعُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، كَالْمَسَافَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ الْحَجِّ كَافِيًا لَأَجْزَأَ الْحَجُّ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ تَامَّةٌ.
وَلِأَنَّ قَطْعَ الْمَسَافَةِ فِي الْحَجِّ أَمْرٌ مَقْصُودٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ ذَلِكَ جِهَادًا، فَقَالَ:(«الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ»). وَقَالَ لِلنِّسَاءِ: («عَلَيْكُنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ؛ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ»). وَلِهَذَا كَانَ رُكْنُ الْوُجُوبِ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ: هُوَ الْمَالُ فَيَجِبُ الْحَجُّ بِوُجُودِهِ، وَيَنْتَفِي الْوُجُوبُ بِعَدَمِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَالَ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَوَاقِيتِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يُعْتَبَرُ لَهُ رَاحِلَةٌ، وَلَا مِلْكُ زَادٍ أَيْضًا، وَلِهَذَا
ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: («الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»)، وَلَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُصَلِّي وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَالُ مِنْ خَصَائِصِهِ.
فَلَوْ جَازَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ لَسَقَطَ مَا يُعْتَبَرُ لَهُ الْمَالُ مِنْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّائِبَ يَجِبُ أَنْ يَحُجَّ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَى الْمَنُوبِ عَنْهُ كَالْمَعْضُوبِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَالْمَيِّتُ مِثْلُهُ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْمَيِّتُ وَالْمَعْضُوبُ لَوْ قَطَعَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَرَادَ إِنْشَاءَ الْحَجِّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُرِيدٍ لِمَكَّةَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ قَصْدُهَا جَازَ
أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ابْتِدَاءً أَنْ يُجَاوِزَ إِلَّا مُحْرِمًا.
وَلِأَنَّ مَنْ حَجَّ بِنَفْسِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِنَفْسِ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ بِخِلَافِ مَنْ حَجَّ مِنْ غَيْرِهِ.
(فَصْلٌ)
وَمَتَى مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَصَى بِذَلِكَ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا؛ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ حَامِدٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَنِ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ وَكَانَ مُوسِرًا، وَلَمْ يَحْبِسْهُ عِلَّةٌ وَلَا سَبَبٌ - لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ.
وَقَالَ: إِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ كَانَ مُوسِرًا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلَمْ يَحُجَّ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ زَمَانَةٌ أَوْ أَمْرٌ يَحْبِسُهُ.
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَازِمًا عَلَى فِعْلِهِ، أَوْ غَيْرَ عَازِمٍ وَلَمْ يَأْمُرِ الْحَاكِمُ بِالِاسْتِفْصَالِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَجِّ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ
عَلَى التَّرَاخِي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَنْ وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه.
وَلِأَنَّ أَحْمَدَ أَوْجَبَ أَنْ نَخْرُجَ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ أَبْعَدَ مِنْهُ أَوْ أَقْرَبَ وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، ذَكَرَهَا ابْنُ حَامِدٍ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ كَانَ مُوسِرًا قَدْ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحُجَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ زَمَانَةٌ، أَوْ أَمْرٌ يَحْبِسُهُ، وَهُوَ قِيَاسٌ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَاخْتَارَ ذَلِكَ لِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَقَدْ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ خَمْسٍ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَأَمَرَ بِإِتْمَامِهِمَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلِهِمَا تَامَّيْنِ وَوُجُوبَ إِتْمَامِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِتْمَامِ فِعْلُ الشَّيْءِ تَامًّا، وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَبْدَأَ، ثُمَّ يُتِمَّ، أَوْ أَنْ يَعْمَلَ بَعْدَ الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِمَا إِلَّا لِلدَّاخِلِ فِيهِمَا: فَإِنَّمَا يَجِبُ الْإِتْمَامُ لِمَا كَانَ وَاجِبًا بِأَصْلِ الشَّرْعِ.
أَمَّا أَنْ يَكُونَ إِتْمَامُ الْعِبَادَةِ وَاجِبًا أَوْ جِنْسُهَا لَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ - بَلِ الْعِبَادَاتُ اللَّوَاتِي يَجِبُ جِنْسُهُنَّ فِي الشَّرْعِ لَا يَجِبُ إِتْمَامُهُنَّ - فَهَذَا بَعِيدٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْحَجَّ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا لَا سِيَّمَا شَرْعُ إِبْرَاهِيمَ.
فَإِنَّا مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، وَبِقَوْلِهِ:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] إِلَى قَوْلِهِ: {لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة: 135]، [وَقَدْ فَسَّرَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ الْحَنِيفَ: بِالْحَاجِّ، وَقَوْلِهِ:{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95]] وَبِقَوْلِهِ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ وَالْمَنَاسِكِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ - بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68] خُصُوصًا حُرْمَةَ الْكَعْبَةِ وَحَجَّهَا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبْعَثْ بِتَغْيِيرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا بُعِثَ بِتَقْرِيرِهِ وَتَثْبِيتِهِ وَإِحْيَاءِ مَشَاعِرِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَقَدِ اقْتَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا أَمْرَ الْكَعْبَةِ، وَذَكَرَ بِنَائَهَا وَحَجَّهَا وَاسْتِقْبَالَهَا، وَمِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَذَكَرَ أَيْضًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَالْبَيْتَ وَأَمْرَهُ، وَثَلَّثَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَذَكَرَ الْحَجَّ وَأَمْرَهُ، وَسُنَنَهُ وَمِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَنَاسِكَ وَالْحَضَّ عَلَيْهَا وَتَثْبِيتَ أَمْرِهَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَسُورَةُ الْحَجِّ بَعْضُهَا مَكِّيٌّ بِلَا شَكٍّ، وَأَكْثَرُهَا أَوْ بَاقِيهَا مَدَنِيٌّ مُتَقَدِّمٌ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ إِيجَابَ الْحَجِّ وَفَرْضَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحْكَمَةِ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَيَكُونُ وُجُوبُهُ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ. وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهُ مُتَقَدِّمًا وَهُوَ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَأَقَامَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ تِلْكَ السَّنَةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ أَمِيرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه فِي سَنَةِ تِسْعٍ فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْمَوْسِمَ، وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِسُورَةِ (بَرَاءَةٌ)، وَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ كَانَ الْحَجُّ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ لَبَادَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى فِعْلِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَوْجَبَهُ إِيجَابًا مُطْلَقًا، وَأَمَرَ بِهِ وَلَمْ يَخُصَّ بِهِ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ فِعْلُهُ فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ.
وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، لَا سِيَّمَا وَالْحَجُّ هُوَ عِبَادَةُ الْعُمُرِ: فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتًا لَهُ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةَ وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَقَضَاءَ رَمَضَانَ لَمَّا كَانَ عِبَادَةَ سَنَةٍ مَخْصُوصَةٍ: كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَقْتًا لَهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى الْفَوْرِ لَكَانَ فِعْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَضَاءً، كَمَا لَوْ فَعَلَ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا أَخَّرَهُ وَفَعَلَهُ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ إِثْمِ التَّأْخِيرِ فَمَنِ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجِبُ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ لِجَوَازِ تَأْخِيرِهِ؟ .. .، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ أَمَارَاتُ الْعَجْزِ، وَدَلَائِلُ الْمَوْتِ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ فَاتَهُ، فَإِنْ أَخَّرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَثِمَ وَمَاتَ عَاصِيًا، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ آثِمًا؟ ذَكَرَ أَبُو يَعْلَى فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَاخْتَارَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ آثِمًا، كَمَا لَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَقَضَاءُ رَمَضَانَ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِهِمَا.
وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ لِمَسْلَكَيْنِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ.
أَمَّا الْعَامُّ: فَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ عِنْدَ
أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا وَاجِبٌ مُؤَقَّتٌ، أَوْ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ.
أَمَّا وَاجِبٌ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ مُطْلَقًا فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ جَازَ التَّأْخِيرُ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِحَيْثُ لَوْ مَاتَ مَاتَ غَيْرَ عَاصٍ بَطَلَ مَعْنَى الْوُجُوبِ، وَإِنْ جَازَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوْتُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَجُزْ لِوَجْهَيْنِ: -
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مَظْنُونٍ فَإِنَّ الْمَوْتَ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِأَسْبَابِهِ، وَإِذَا نَزَلَتْ أَسْبَابُ الْمَوْتِ مِنَ الْمَرَضِ الشَّدِيدِ وَنَحْوِهِ تَعَذَّرَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَبْلَ حُصُولِ أَسْبَابِهِ فَإِنَّهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ أَحَدٍ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي هَذَا الْعَامِ وَلَوْ بَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ مَاتَ قَبْلَ هَذَا الظَّنِّ غَيْرَ عَاصٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَجِبَ الْفِعْلُ عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَمُوتُونَ قَبْلَ هَذَا الظَّنِّ، وَإِنْ عَصَى بِذَلِكَ فَبِأَيِّ ذَنْبٍ يُعَاقَبُ، وَإِنَّمَا فَعَلَ مَا جَازَ لَهُ، وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34].
وَأَمَّا الْمَسْلَكُ الْخَاصُّ فَمِنْ وُجُوهٍ: -
أَحَدُهَا: مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: («تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ - يَعْنِي الْفَرِيضَةَ - فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ»). رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَأَمَرَ بِالتَّعْجِيلِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ لَا سِيَّمَا وَاسْتِحْبَابُ التَّعْجِيلِ مَعْلُومُ الضَّرُورَةِ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ. فَلَمْ يَبْقَ لِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي فَائِدَةٌ إِلَّا الْإِيْجَابُ، وَتَوْكِيدُ مَضْمُونِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَعَنْ مِهْرَانَ أَبِي صَفْوَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: («مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ»). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْفَضْلِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: («مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الرَّاحِلَةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ»). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِيهِ أَبُو إِسْرَائِيلَ الْمُلَائِيُّ.
فَأَمَرَ بِالتَّعْجِيلِ كَمَا أَمَرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَأَمْرُهُ بِالتَّعْجِيلِ مَنْ أَرَادَهُ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، فَإِنَّ إِرَادَةَ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيدَهُ، وَيَعْزِمَ عَلَيْهِ حِينَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَبِالْإِرَادَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ فِي الْحِينِ الَّذِي يَعْزِمُ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يُؤَخِّرَهُ وَلَا يَتَأَخَّرَ فِعْلُهُ عَنْ حِينِ إِرَادَتِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ هِيَ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا مِنْ حَيِّزِ
السَّاهِي وَالْغَافِلِ، لَا إِرَادَةُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؛ لِقَوْلِهِ:(«مَنْ أَرَادَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ»).
وَأَيْضًا فَإِنَّ فِعْلَ الْقَضَاءِ - مِنَ الْحَجِّ - يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ فَإِنَّهُ لَوْ أَفْسَدَ الْحَجَّ، أَوْ فَاتَهُ لَزِمَهُ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عليه السلام:(«مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ») وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ الْقَضَاءُ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ: فَأَنْ تَجِبَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ الْأَدَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
وَأَيْضًا فَإِنَّ تَأْخِيرَهُ إِلَى الْعَامِ الثَّانِي تَفْوِيتٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ يُفْعَلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِيَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، فَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ جَازَ أَنْ يُدْرِكَ الْعَامَ الثَّانِيَ، وَجَازَ أَنْ لَا يُدْرِكَهُ، وَأَنْ يَمُوتَ أَوْ يَفْتَقِرَ، أَوْ يَمْرَضَ، أَوْ يَعْجَزَ، أَوْ يُحْبَسَ، أَوْ يُقْطَعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَائِقِ وَالْمَوَانِعِ: فَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ إِلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:(«فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ») وَقَوْلِهِ: فِي حَدِيثٍ آخَرَ: («يَنْتَظِرُ
أَحَدُكُمْ إِلَّا غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ فَقْرًا مُنْسِيًا»).
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ فَقَدْ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ، وَهُوَ مَا رَوَى هِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: («مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا»).
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ، وَزَادَ فِيهِ: {«وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» [آل عمران: 97]. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَهِلَالٌ مَجْهُولٌ، وَالْحَارِثُ مُضَعَّفٌ، عَضَّدَهُ مَا رَوَى شَرِيكٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: («مَنْ
لَمْ يَحْبِسْهُ مَرَضٌ، أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا»). رَوَاهُ ابْنُ الْمُقْرِئِ أَبُو عَرُوبَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، ثَنَا
وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ لَيْثٍ عَنِ ابْنِ سَابِطٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم: («مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ سُلْطَانٌ ظَالِمٌ، أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا»). وَرَوَاهُ سَعِيدٌ هَكَذَا مُرْسَلًا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ لَيْثٍ.
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: («مَنْ كَانَ ذَا مَيْسَرَةٍ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا»).
وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَرْزَمٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه:
(«مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُوسِرٌ لَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا»).
وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: («مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا، وَلَوْلَا مَا أَرَى مِنْ سُرْعَةِ النَّاسِ فِي الْحَجِّ لَجَبَرْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِذَا وَضَعْتُمُ الرِّحَالَ فَشُدُّوا السُّرُوجَ، وَإِذَا وَضَعْتُمُ السُّرُوجَ فَشُدُّوا الرِّحَالَ»).
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: («مَنْ وَجَدَ إِلَى الْحَجِّ سَبِيلًا سَنَةً
ثُمَّ سَنَةً ثُمَّ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، لَا نَدْرِي مَاتَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا»).
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: (كَانَ لِلْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَارٌ مُوسِرٌ لَمْ يَحُجَّ، فَقَالَ لَهُ: لَوْ مِتَّ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْكَ). رَوَاهُنَّ سَعِيدٌ.
وَالْمُرْسَلُ إِذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ صَارَ حُجَّةً بِالِاتِّفَاقِ.
وَهَذَا التَّغْلِيظُ يَعُمُّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوَاتُ، وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَفِي تَأْخِيرِهِ تَعَرُّضٌ لِمِثْلِ هَذَا الْوَعِيدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا
لَحِقَهُ هَذَا؛ لِأَنَّ سَائِرَ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَحُجُّونَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُصَلُّونَ، وَإِنَّمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِجْمَاعُ السَّلَفِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَسَعِيدٌ عَنْ هُشَيْمٍ، ثَنَا مَنْصُورٌ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رَجُلًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَّ رَجُلٍ ذَا جِدَّةٍ لَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ؛ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ)، وَهَذَا قَالَهُ عُمَرُ وَلَمْ يُخَالِفْهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ تَارِكُ الْحَجِّ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا لَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ الْكُفْرُ إِلَّا مَنْ أَسْلَمَ فَمَنْ لَمْ يَحُجَّ أَبْقَاهُ عَلَى الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ. وَلَوْلَا
أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يَجْعَلْ تَرْكَهُ شِعَارًا لِلْكُفْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: (أَبْصَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَوْمًا بِعَرَفَهَ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ عَلَيْهِمُ الْقُمُصُ وَالْعَمَائِمُ، فَأَمَرَ أَنْ تُعَادَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ). رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَعَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: (حُجُّوا الْعَامَ فَإِنْ تَسْتَطِيعُوا فَقَابِلٌ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَابِلٌ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَآذِنُونِي أَضْرِبْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ). رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْهُ. وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ وَقَدْ خَاطَبَ بِهِ عُمَرُ النَّاسَ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ مُخَالِفٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَجَّ تَمَامُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؛ وَلِهَذَا لَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
…
.
وَكَانَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ تَنْزِلُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَصَارَ الْحَجُّ كَمَالَ الدِّينِ وَتَمَامَ
النِّعْمَةِ فَإِذَا لَمْ يَحُجَّ الرَّجُلُ لَمْ يَكُنْ إِسْلَامُهُ وَدِينُهُ كَامِلًا بَلْ يَكُونُ نَاقِصًا، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتْرُكَ دِينَهُ نَاقِصًا، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخِلَّ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْحَجَّ فَرْضٌ مُتَقَدِّمًا، وَأَخَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ: -
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْحَجَّ، وَكَتَبَهُ وَمَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ مُؤَخِّرِينَ لَهُ مِنْ غَيْرِ عَائِقٍ أَصْلًا خَمْسَ سِنِينَ، وَلَا سَنَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ الْقَوْمَ - رِضْوَانُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ - كَانُوا مُسَارِعِينَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، يُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ طَلَبَ الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ لِعِلْمِهِمْ بِمَا فِي الْمُسَابَقَةِ مِنَ الْأَجْرِ، فَكَيْفَ يُؤَخِّرُونَ الْحَجَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَصْلًا.
وَتَأْخِيرُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، أَوْ هُوَ خِلَافُ الْأَحْسَنِ وَالْأَفْضَلِ، وَتَأَخُّرٌ عَنْ مَقَامَاتِ السَّبْقِ وَدَرَجَاتِ الْمُقَرَّبِينَ فَكَيْفَ تُطْبِقُ الْأُمَّةُ مَعَ نَبِيِّهَا عَلَى تَرْكِ الْأَحْسَنِ وَالْأَفْضَلِ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَصْلًا.
وَأَيْضًا فَقَدْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَوَاتِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَمْ يَحُجُّوا، أَفَتَرَى أُولَئِكَ لَقُوا اللَّهَ عَاصِينَ بِتَرْكِ أَحَدِ مَبَانِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُنَبِّهْهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَلَا قَالَ لَهُمُ: احْذَرُوا تَفْوِيتَهُ، مَعَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَحُجَّ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا؟ وَقَدْ عُلِمَ بِغَيْرِ رَيْبٍ أَنَّ قَبْلَ الْفَتْحِ لَمْ يَحُجَّ مُسْلِمٌ، وَبَعْدَ الْفَتْحِ إِنَّمَا
حَجَّ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ عَلَى عَادَةِ الْكُفَّارِ وَهَدْيِهِمْ، وَإِنَّمَا حَجَّ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ «أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَفْيِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْبَيْتِ وَبِأَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عَارٍ» ، وَإِنَّمَا حَجَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَفَرٌ قَلِيلٌ.
ثُمَّ إِنَّ حَجَّ الْبَيْتِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:(لَوْ أَنَّ النَّاسَ تَرَكُوا الْحَجَّ عَامًا وَاحِدًا لَا يَحُجُّ أَحَدٌ مَا نَظَرُوهُ بَعْدَهُ). رَوَاهُ سَعِيدٌ. فَكَيْفَ يَتْرُكُونَ الْمُسْلِمُونَ الْحَجَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ سَنَةً فِي سَنَةٍ فَإِنَّ حَجَّ الْكُفَّارِ غَيْرُ مُسْقِطٌ لِهَذَا الْإِيجَابِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ فُرِضَ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ: فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا مَشْهُورًا، فَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ عَشْرٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ مَتَى فُرِضَ غَيْرَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ إِمَّا أَنَّهُ فُرِضَ مُتَأَخِّرٌ، أَوْ فُرِضَ مُتَقَدِّمٌ، وَكَانَ هُنَاكَ مَانِعٌ عَامٌّ يَمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ، وَإِلَّا لَمَا أَطْبَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْكِهِ وَتَأْخِيرِهِ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَشْبَهَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ إِنَّمَا فُرِضَ مُتَأَخِّرٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ: -
أَحَدُهَا: أَنَّ آيَةَ وُجُوبِ الْحَجِّ الَّتِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَلَالَتِهَا عَلَى وُجُوبِهِ قَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ مُتَأَخِّرَةً سَنَةَ تِسْعٍ، أَوْ عَشْرٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا فِي سِيَاقِ مُخَاطَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَقْرِيرِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَتَنْزِيهِهِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَصَدْرُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِنَّمَا نَزَلَتْ لَمَّا جَاءَ وَفْدُ نَجْرَانَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَاظَرُوهُ فِي أَمْرِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عليه السلام وَوَفْدُ نَجْرَانَ إِنَّمَا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِآخِرِهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَإِنَّهُ نَزَلَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ لَمَّا صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إِتْمَامِ عُمْرَتِهِ الَّتِي قَدْ كَانَ أَهَلَّ بِهَا، وَفِيهَا بَايَعَ الْمُسْلِمِينَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَفِيهَا قَاضَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ مِنْ قَابِلٍ: فَإِنَّمَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُقْتَضٍ لِلْأَمْرِ بِالِابْتِدَاءِ، فَإِنَّ كُلَّ شَارِعٍ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَأْمُورٌ بِإِتْمَامِهَا، وَلَيْسَ مَأْمُورًا بِابْتِدَائِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ إِتْمَامِ الْعِبَادَةِ وُجُوبُ ابْتِدَائِهَا، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِ الْإِتْمَامِ تَأْكِيدُ اسْتِحْبَابِ الشُّرُوعِ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ قُرْبَةً وَطَاعَةً مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَجَمِيعُ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى حُسْنِ ذَلِكَ وَاسْتِحْبَابِهِ، وَأَمَّا وُجُوبُهُ، فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يَكُنْ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام شَرِيعَةٌ يَجِبُ فِيهَا عَلَى النَّاسِ .. .
وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ الْحَجَّ كَانَ وَاجِبًا مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَجِّ مِثْلَ حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ فَصْلٍ يَعْمَلُونَ بِهِ، وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَيَدْخُلُونَ بِهِ الْجَنَّةَ، أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَفَسَّرَهُ لَهُمْ: أَنَّهُ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ يُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَجُّ وَاجِبًا لَمْ يَضْمَنْ لَهُمُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِهِ.
وَكَذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ، الَّذِي قَالَ: لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أُنْقِصُ مِنْهُ، إِنَّمَا ذَكَرَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالصَّوْمَ.
وَكَذَلِكَ الَّذِي أَوْصَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَمَلٍ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ: أَمَرَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي أَوَّلِ الصِّيَامِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنَّ قُدُومَ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَظُنُّهُ وَهْمًا، وَلَعَلَّهُ سَنَةَ سَبْعٍ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ؛ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَأَمَّا ذِكْرُ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي وُفُودِ ضِمَامٍ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ إِنَّمَا وَفَدَ سَنَةَ تِسْعٍ فَيَكُونُ الْحَجُّ إِنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَهَذَا يُطَابِقُ نُزُولَ الْآيَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ. وَهَذَا شَبِيهٌ بِالْحَقِّ فَإِنَّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمَا قَبْلَهَا كَانَتْ مَكَّةُ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَقَدْ غَيَّرُوا شَرَائِعَ الْحَجِّ، وَبَدَّلُوا دِينَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَلَا يُمْكِنُ مُسْلِمًا أَنْ يَفْعَلَ الْحَجَّ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ، فَكَيْفَ يَفْرِضُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ فِعْلُهُ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الشَّرَائِعُ تَنْزِلُ شَيْئًا فَشَيْئًا، كُلَّمَا قَدَرُوا، وَتَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ أُمِرُوا بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ وُجُوبِهِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا وَالَّذِينَ ذَكَرُوا وُجُوبَهُ إِنَّمَا تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ أَكْثَرُ النَّاسِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي تَأْوِيلِهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ نَقْلٌ صَحِيحٌ عَنْ مَنْ يُوثَقُ بِهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ سَنَةَ خَمْسٍ، أَوْ سَنَةَ سِتٍّ
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فُرِضَ مُتَقَدِّمًا لَكِنْ كَانَتْ هُنَاكَ عَوَائِقُ تَمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ، بَلْ مِنْ صِحَّتِهِ بِالْكُلِّيِّةِ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا، أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ، أَظْهَرُهَا مَنْعًا: أَنَّ الْحَجَّ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ يَقَعُ فِي غَيْرِ حِينِهِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَنْسَئُونَ النَّسِيءَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ يَقُولُ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37]. فَكَانَ حَجُّهُمْ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي تِلْكَ السِّنِينَ يَقَعُ فِي غَيْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
رَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] قَالَ: حَجُّوا فِي ذِي الْحِجَّةِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي الْمُحَرَّمِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي صَفَرٍ عَامَيْنِ، فَكَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ حَتَّى وَافَقَتْ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ، الْآخِرَ مِنَ الْعَامَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَنَةٍ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَابِلٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَلِذَلِكَ حِينَ يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(«إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ»).
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الْحَجَّ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُسَمُّونَ الْأَشْهُرَ ذَا الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمَ، وَصَفَرًا وَرَبِيعًا، وَرَبِيعًا، وَجُمَادَى، وَجُمَادَى، وَرَجَبًا، وَشَعْبَانَ، وَرَمَضَانَ، وَشَوَّالًا، وَذَا الْقَعْدَةِ، وَذَا الْحِجَّةِ، ثُمَّ يَحُجُّونَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ يَسْكُتُونَ عَنِ الْمُحَرَّمِ فَلَا يَذْكُرُونَهُ، فَيُسَمُّونَ - أَحْسَبُهُ
قَالَ: الْمُحَرَّمُ صَفَرٌ، ثُمَّ يُسَمُّونَ رَجَبَ جُمَادَى الْآخِرَةَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ شَعْبَانَ رَمَضَانَ، وَرَمَضَانَ شَوَّالًا، ثُمَّ يُسَمُّونَ ذَا الْقَعْدَةِ شَوَّالًا، ثُمَّ يُسَمُّونَ ذَا الْحِجَّةِ ذَا الْقَعْدَةِ، ثُمَّ يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ ذَا الْحِجَّةِ، ثُمَّ عَادُوا لِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، قَالَ: فَكَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ حَتَّى وَافَقَ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ الْآخِرَ مِنَ الْعَامَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَجَّتَهُ الَّتِي حَجَّ، فَوَافَقَ ذَلِكَ ذَا الْحِجَّةِ فَلِذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ:" «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» ".
وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هَذَا فِي شَأْنِ النَّسِيءِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْقُصُ مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: " الشَّهْرُ الَّذِي نَزَعَ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الْمُحَرَّمُ ".
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] قَالَ: النَّسِيءُ الْمُحَرَّمُ، وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ فِي قَوْلِهِ عز وجل:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَنْسَأُ النَّسِيءَ مِنْ كِنَانَةَ، وَكَانَ يَجْعَلُ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا يَسْتَحِلُّ فِيهِ الْغَنَائِمَ، فَنَزَلَتْ:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37].
وَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ، وَفِي ذَلِكَ
نَزَلَ قَوْلُهُ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] الْآيَةَ، وَالَّتِي بَعْدَهَا.
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: " «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ الْحَجُّ قَبْلَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ فِي تِلْكَ السِّنِينَ بَاطِلًا وَاقِعًا فِي غَيْرِ مِيقَاتِهِ امْتَنَعَ أَنْ يُؤَدِّيَ فَرْضَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قَبْلَ تِلْكَ السَّنَةِ، وَعُلِمَ أَنَّ حَجَّةَ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، وَحَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ إِنَّمَا كَانَتَا إِقَامَةً لِلْمَوْسِمِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ وُفُودُ الْعَرَبِ وَالنَّاسِ؛ لِيُنْبَذَ الْعُهُودُ، وَيُنْفَى الْمُشْرِكُونَ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الطَّوَافِ عُرَاةً؛ تَأْسِيسًا وَتَوْطِئَةً لِلْحَجَّةِ الَّتِي أَكْمَلَ اللَّهُ بِهَا الدِّينَ، وَأَتَمَّ بِهَا النِّعْمَةَ، وَأَدَّى بِهَا فَرَضَ اللَّهُ، وَأُقِيمَتْ فِيهَا مَنَاسِكُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَحُجَّ فِي غَيْرِ وَقْتِ حَجِّ الْمُشْرِكِينَ، أَمَّا قَبْلَ الْفَتْحِ فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ لِأُرِيقَ دَمُهُ، وَلَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَصُدَّ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَفِي اسْتِعْطَافِهِمْ تَأْلِيفُ قُلُوبِهِمْ، وَتَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ فِي الْمَوْسِمِ مَا+ فِيهِ.
وَالَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، ثُمَّ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ مِنَ الْعَامِ الَّذِي يَلِيهِ، وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحُجَّ بَدَلَ الْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ أَنْ يَجْعَلَ بَدَلَ هَذِهِ الْعُمْرَةِ حَجَّةً أَوْ يَأْمُرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّهَا حَجَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا أَنَّ الْعُمْرَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ عُلِمَ تَعَذُّرُ الْحَجِّ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ لِاخْتِصَاصِهِ بِوَقْتٍ دُونَ الْعُمْرَةِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ أَعْذَارِهِ اخْتِلَاطَ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَطَوَافَهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، وَاسْتِلَامَهُمُ الْأَوْثَانَ فِي حَجِّهِمْ، وَإِهْلَالَهُمْ بِالشِّرْكِ حَيْثُ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَإِفَاضَتَهُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَمِنْ جَمْعٍ بَعْدَ طُلُوعِهَا، وَوُقُوفَ الْحُمْسِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِمُزْدَلِفَةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْحَجُّ مَعَهَا، وَلَمْ يُمْكِنْ تَغْيِيرُهَا بَعْدَ الْفَتْحِ إِلَّا فِي سَنَةِ أَبِي بَكْرٍ - حَجَّ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ لَمَّا زَالَتْ. وَمِنَ الْأَعْذَارِ أَيْضًا اشْتِغَالُهُ بِأَمْرِ الْجِهَادِ، وَغَلَبَةُ الْكُفَّارِ عَلَى أَكْثَرِ الْأَرْضِ،
وَالْحَاجَةُ، وَالْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحُجَّ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ نَظَرٌ، وَإِنْ صَحَّتْ فَهِيَ عُذْرٌ فِي خُصُوصِهِ، لَيْسَتْ عُذْرًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وُجُوبُ الْحَجِّ مُطْلَقًا، قُلْنَا: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَنَا يُوجِبُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهَا مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى فِعْلِ الْحَجِّ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِهِ مُقَيَّدًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْحَجِّ تَفْوِيتٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِهِ إِلَّا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيَصِيرُ كَالْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَضَاءً؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا حَدًّا يَعُمُّ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْحَجُّ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَكَوْنُهُ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً لَا يُغَيِّرُ وُجُوبَ التَّقْدِيمِ، وَلَا جَوَازَ التَّأْخِيرِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّائِمَ، وَالنَّاسِيَ، وَالْحَائِضَ، وَالْمُسَافِرَ يَأْتُونَ بِالْعِبَادَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْعَامِّ الْمَحْدُودِ، فَيَكُونُ قَضَاءً مَعَ جَوَازِ التَّأْخِيرِ أَوْ وُجُوبِهِ، وَالْمُزَكِّي يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ عَقِيبَ الْحَوْلِ، وَلَوْ أَخَّرَهَا لَمْ يَكُنْ قَضَاءً، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي شَهْرَ رَمَضَانَ لَوْ أَخَّرَهُ إِلَى عَامٍ ثَانٍ أَوْ أَخَّرَ قَضَاءَ الْحَجِّ إِلَى عَامٍ ثَانٍ لَمْ يُقَلْ لَهُ: قَضَاءَ الْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ تَضَايُقُ الصَّلَاةِ أَوِ الْحَجِّ فِي وَقْتِهِ فَأَخَّرَهُ وَأَخْلَفَ ظَنَّهُ - أَثِمَ بِذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ مَا يَفْعَلُهُ قَضَاءً، وَكَذَلِكَ لَوْ صَرَّحَ بِوُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ دَلِيلًا وَأَخَّرَهُ إِلَى الْوَقْتِ الثَّانِي - لَمْ يَكُنْ قَضَاءً، فَالْحَجِّ مِنْ هَذَا الْبَابِ.
فَصْلٌ
الْمَيِّتُ يَحُجُّ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَكَذَلِكَ الْمَعْضُوبُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، فَإِنْ حَجَّ غَيْرُ الْوَلِيِّ. . . .
فَإِنْ حَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ أَجْنَبِيٌّ بِدُونِ إِذْنِ الْوَارِثِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ، اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ، قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلَافِهِ.
فَأَمَّا الْحَيُّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ الْفَرْضَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَحُجُّ عَنْهُ النَّفْلَ بِدُونِ إِذْنِهِ، لَكِنْ إِنْ حَجَّ وَأَهْدَى لَهُ ثَوَابَهُ. . .
فَأَمَّا الْمَيِّتُ فَيَفْعَلُ عَنْهُ الْفَرْضَ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَأَمَّا النَّفْلُ إِذَا فَعَلَهُ عَنْهُ وَارِثٌ أَوْ أَجْنَبِيٌّ فَهَلْ يَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ بِحَيْثُ يَكُونُ الْإِحْرَامُ عَنْهُ أَوْ يَكُونُ الْحَجُّ عَنِ الْحَاجِّ، وَيَكُونُ الثَّوَابُ لِلْمَيِّتِ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَنْعَقِدُ عَنِ الْمَيِّتِ حَجٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ.
وَالثَّانِي: يَقَعُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَابْنُ عَقِيلٍ، فَعَلَى هَذَا إِذَا خَالَفَ النَّائِبُ مَا أُمِرَ بِهِ، وَكَانَ عَنْ حَيٍّ لَمْ يَقَعْ عَنْهُ، بَلْ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ مَيِّتٍ. . .
فَصْلٌ
وَإِذَا مَاتَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِآدَمِيٍّ وَدَيْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى، مِثْلَ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ - تَحَاصَّا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَزَكَاةٌ تَحَاصَّ الْغُرَمَاءُ مِنَ الزَّكَاةِ نِصْفَيْنِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَالثَّانِيَةُ: يُقَدَّمُ دَيْنُ الْآدَمِيِّ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الْمَنَاسِكِ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ مَاتَ، وَتَرَكَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَحُجَّ، وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ فَرَّطَ فِيهَا، قَالَ: يُبْدَأُ بِالدَّيْنِ فَيُقْضَى، وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ فِيهِمَا اخْتِلَافٌ، مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنْ لَمْ يُوصِ فَهُوَ مِيرَاثٌ، وَإِنْ أَوْصَى فَهُوَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: يُحَجُّ عَنْهُ، وَيُزَكَّى مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ مِيرَاثٌ.
وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرَهُ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْجَرْجَرَائِيُّ فَقَالَ:
سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُحَجُّ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ حَجَّ فَمِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ، وَالزَّكَاةُ أَشَدُّ، قَالَ الْقَاضِي: لَمْ يُرِدْ أَنْ تُقَدَّمَ عَلَى الْحَجِّ أَوْ تُقْضَى دُونَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا أَوْكَدُ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا وَحَقِّ الْفَقِيرِ، وَالْحَجُّ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ فَقَطْ.
فَصْلٌ
وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ مُتَبَرِّعًا أَوْ يَحُجَّ بِمَالٍ، فَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا يَحُجُّ بِمَالِ نَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ جَاءَ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ وَالْخَثْعَمِيِّ، وَأَبِي رَزِينٍ، وَحَدِيثُ الْجُهَنِيَّةِ، وَالْمَرْأَةِ الْأُخْرَى، وَغَيْرِهِمْ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ عَنْ أَقَارِبِهِ، وَيَبْدَأَ مِنْهُمْ بِأَبَوَيْهِ، وَيَبْدَأَ بِالْأُمِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ قَدْ وَجَبَ عَلَى الْأَبِ فَيَبْدَأُ بِهِ، قَالَ: فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، وَيُوسُفَ بْنِ مُوسَى: إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ الْحَجَّ عَنْ أَبَوَيْهِ يَبْدَأُ بِالْأُمِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ بِمَالِ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْخُذَ دَرَاهِمَ فَيَحُجَّ بِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا بِحَجٍّ عَنْ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ أَخِيهِ.
وَسُئِلَ فِي رِوَايَةِ الْجَرْجَرَائِيِّ عَنِ الرَّجُلِ يُعْطَى لِلْحَجِّ عَنْ مَيِّتٍ قَالَ: لَا لَا يَأْخُذُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْتُ أَبِي: رَجُلٌ حَجَّ وَيَأْخُذُ كُلَّ سَنَةٍ حَجَّةً، قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي هَذَا.
وَقَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ يُحِبُّ الْحَجَّ تَرَى لَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنِ النَّاسِ؟
فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَحُجَّ عَنِ النَّاسِ إِلَّا أَنْ يَبْتَدِيَ، فَقِيلَ لَهُ: حُجَّ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
فَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ لِمَنِ ابْتَدَأَ إِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ الْحَجَّ.
وَإِنْ حَجَّ عَنْ مَيِّتٍ وَارِثٌ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، وَقَدْ سُئِلَ: يَحُجُّ الرَّجُلُ عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ أُمِّهِ؟ فَقَالَ: إِنْ حَجَّ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ مُتَبَرِّعًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَلَا يَحُجُّ وَارِثٌ عَنْ +وَارِثٍ كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ.
فَصْلٌ
وَتَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ الْمَعْضُوبِ وَالْقَادِرِ+ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهَا فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الصَّحِيحِ: هَلْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ يَتَطَوَّعُ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا جَاءَ الْحَدِيثُ فِي الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ، وَلَكِنْ إِنْ أَحَجَّ الصَّحِيحَ عَنْهُ فَأَرْجُو أَنْ لَا يَضُرَّهُ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: يُتَصَدَّقُ عَنِ الْمَيِّتِ، وَيُحَجُّ عَنْهُ، وَيُسْقَى عَنْهُ، وَيُعْتَقُ عَنْهُ، وَيُصَامُ النَّذْرُ إِلَّا الصَّلَاةَ.
وَالْأُخْرَى: لَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ إِلَّا فِي الْفَرْضِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ الْجُرْجَانِيِّ، وَقَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ مَنْ قَدْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ يُعْطِي دَرَاهِمَ يُحَجُّ عَنْهُ؟ فَقَالَ: لَيْسَ يَكُونُ لَهُ، لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي فِعْلِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُجَّ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، وَجَعَلَ الْعِلَّةَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا أَوْ عَاجِزًا، وَسَوَاءٌ فِيهِ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ.
وَجَعَلَ أَبُو الْخَطَّابِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا هَذَا فِيمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا الْعَاجِزُ فَتَجُوزُ اسْتِنَابَتُهُ بِلَا تَرَدُّدٍ. وَلَوْ كَانَ عَجْزُهُ مَرْجُوَّ الزَّوَالِ كَالْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ فَهُوَ كَالْمَعْضُوبِ فِي النَّفْلِ؛ لِأَنَّ النَّفْلَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ عَامٍ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ فِي هَذَا الْعَامِ فَهُوَ كَالْمَعْضُوبِ الَّذِي عَجَزَ عَنِ الْفَرْضِ فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ، وَهَذَا فِيمَنْ أَحْرَمَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَبَّى عَنْهُ.
فَأَمَّا إِنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ أَهْدَى ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ فَهَذَا يَجُوزُ عِنْدَنَا قَوْلًا وَاحِدًا لِمَا تَقَدَّمَ.
فَصْلٌ
وَإِذَا اسْتَنَابَ رَجُلًا فِي الْحَجِّ أَوْ نَابَ عَنْهُ فِي فَرْضِهِ فَإِنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَنُوبِ مَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَبَّهَ الْحَجَّ بِالدَّيْنِ، وَجَعَلَ فِعْلَهُ عَنِ الْعَاجِزِ وَالْمَيِّتِ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ، وَقَالَ لِأَبِي رَزِينٍ:" «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ، وَاعْتَمِرْ» " وَقَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ: " «حُجِّي عَنْهُ» " وَكَذَلِكَ قَالَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ: " «حُجَّ عَنْهُ» ".
وَالشَّيْءُ إِذَا فُعِلَ عَنِ الْغَيْرِ كَانَ الْفَاعِلُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ، وَيَكُونُ الْعَمَلُ مُسْتَحَقًّا لِلْمَعْمُولِ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَوْ وَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ عَمَلٌ فِي عَقْدِ إِجَارَةٍ فَعَمِلَهُ عَنْهُ عَامِلٌ كَانَ الْعَمَلُ لِلْأَجِيرِ لَا لِلْعَامِلِ؛ وَلِأَنَّهُ يَنْوِي الْإِحْرَامَ عَنْهُ، وَيُلَبِّي عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ إِلَّا ثَوَابُ النَّفَقَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ مَالًا يَحُجُّ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَبِّيَ عَنْهُ.
فَصْلٌ
وَيَجُوزُ حَجُّ الرَّجُلِ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ حَجُّ الْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ:" يَحُجُّ الرَّجُلُ عَنِ الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةُ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ عَنِ الرَّجُلِ " وَعَلَيْهِ أَصْحَابُنَا لِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ سُئِلَ: يَحُجُّ عَنْ أُمِّهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ، يَقْضِي عَنْهَا دَيْنًا عَلَيْهَا، قِيلَ لَهُ: فَيُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ، وَيَنْوِي عَنْهَا، قَالَ: جَائِزٌ، قِيلَ لَهُ: فَالْمَرْأَةُ تَحُجُّ عَنِ الرَّجُلِ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَانَتْ مُحْتَاجَةً ".
فَصْلٌ
وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِيجَارُ عَلَى الْحَجِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُفْعَلَ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ، مِثْلَ: الْأَذَانِ، وَالْإِمَامَةِ، وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثِ، وَالْفِقْهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
فَأَمَّا أَنْ يَأْخُذَ نَفَقَةً يَحُجُّ بِهَا فَيَجُوزُ، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ رِوَايَتَانِ، كَرِهُ أَحْمَدُ رضي الله عنه فِي إِحْدَاهُمَا أَنْ يَأْخُذَ دَرَاهِمَ فَيَحُجَّ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا بِالْحَجِّ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ أَخِيهِ أَوْ عَنْ أُمِّهِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ الْأَخْذُ نَفَقَةً وَأُجْرَةً مَعَ الْجَوَازِ، وَتَجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الرِّوَايَتَانِ فِي الْكَرَاهَةِ فَقَطْ.
وَأَجَازَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقْلَا الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْحَجِّ، وَمَا يَخْتَصُّ نَفْعُهُ مِمَّا
لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْكِفَايَةِ دُونَ مَا يَعُمُّ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى الْخَيْرِ أَجْرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ أَجْرٌ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْخَيْرِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مَا كَانَ فَرْضًا عَلَى الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلَ الْأَذَانِ، وَالصَّلَاةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْهِ أَجْرٌ، وَمَا انْفَرَدَ بِهِ مَنْ حُجَّ عَنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ، مِثْلَ فِعْلِ الْبَنَّاءِ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الَّذِي يَبْنِي بِنَاءَ الْمَسْجِدِ.
فَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: وَالَّذِي يَحُجُّ عَنِ النَّاسِ بِالْأَجْرِ لَيْسَ عِنْدَنَا فِيهِ شَيْءٌ، وَمَا سَمِعْنَا أَنَّ أَحَدًا اسْتَأْجَرَ مَنْ حَجَّ عَنْ مَيِّتٍ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ سُفْيَانَ: أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ عَنْ وَالِدَيْهِ يَحُجُّ عَنْهُمَا، فَقَالَ أَحْمَدُ: نَحْنُ نَكْرَهُ هَذَا إِلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ فَقَدْ
نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ الْأُجْرَةِ، وَلَمْ يَكْرَهِ النَّفَقَةَ، وَقَدْ نَصَّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُ مَالًا يَحُجُّ بِهِ عَنْ مَيِّتٍ، وَهَلْ يَكُونُ لَهُ الْفَاضِلُ أَوْ لَا يَكُونُ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي أَخَذَ الْقَاضِي مِنْهَا جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَمَّنْ يُكْرِي نَفْسَهُ لِلْحَجِّ، وَيَحُجُّ، قَالَ: لَا بَأْسَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْكَوْسَجِ: يُكْرِي نَفْسَهُ، وَيَحُجُّ إِلَّا أَنَّ هَذَا إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ يُكْرِيَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ، وَلِهَذَا قَالَ: يُكْرِي نَفْسَهُ، وَيَحُجُّ، وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَتِ السُّنَّةُ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْخُذَ دَرَاهِمَ فَيَحُجَّ بِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُتَبَرِّعًا بِحَجٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُخْتِهِ «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي
سَأَلَهُ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ»، وَالَّذِي يَأْخُذُ دَرَاهِمَ الْحَجِّ لَا يَمْشِي، وَلَا يَقْتُرُ، وَلَا يُسْرِفُ إِنَّمَا الْحَجُّ عَمَّنْ كَانَ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ، وَيُنْفِقُ، وَلَا يُسْرِفُ، وَلَا يَقْتُرُ إِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ صِغَارًا.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْجَرْجَرَائِيِّ. . . وَقَالَ فِي الْمَعْضُوبِ: يَحُجُّ عَنْهُ وَلِيُّهُ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَذِنَ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَعْضُوبِ وَالْمَيِّتِ مَنْ يَتَبَرَّعُ بِالْحَجِّ عَنْهُمْ، أَوْجَبَ قَضَاءَ دَيْنِهِمْ، وَبَرَاءَةَ ذِمَّتِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ أَخْذَهُ الدَّرَاهِمَ يَحُجُّ بِهَا.
وَإِنَّمَا كُرِهَتِ الْإِجَارَةُ لِمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الْحَجِّ عَنْهُ، وَلَمْ يَسْتَأْجِرْ أَحَدٌ أَحَدًا يَحُجُّ عَنِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا حَسَنًا لَمَا أَغْفَلُوهُ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] وَالْأَجِيرُ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ حَرْثَ الدُّنْيَا، وَقَالَ تَعَالَى:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15] وَقَالَ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18] وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَكْلٌ لِلدُّنْيَا بِالدِّينِ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ عَمَلَهُ الصَّالِحَ الَّذِي قَدْ قِيلَ فِيهِ: " «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» " وَيَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَنِ اسْتُؤْجِرَ بِدَرَاهِمَ يَغْزُو بِهَا:" لَيْسَ لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ إِلَّا هَذَا» " وَهَذَا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مُعَاوَضَةٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ يَمْلِكُ بِهَا الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ كَمَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْأَعْيَانَ الْمَبِيعَةَ،
فَالْأَجِيرُ لِلْحَجِّ يَبِيعُ إِحْرَامَهُ، وَطَوَافَهُ، وَسَعْيَهُ، وَوُقُوفَهُ، وَرَمْيَهُ لِمَنِ اسْتَأْجَرَهُ بِالْأَجْرِ الَّذِي أَخَذَهُ؛ وَلِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ يُبْطِلُ الْقُرْبَةَ الْمَقْصُودَةَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ؛ وَلِأَنَّ الْحَجَّ عَمَلٌ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً لِفَاعِلِهِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْقُرَبِ، وَهَذَا لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مُسْتَحِقًّا لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَقَعَ قُرْبَةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْمَلَ مَنَاسِكَهُ كُلَّهَا لِلَّهِ، وَيَعْبُدَهُ بِذَلِكَ، فَلَوْ أَنَّهُ عَمِلَهَا بِعِوَضٍ مِنَ النَّاسِ لَمْ تُجْزِهِ إِجْمَاعًا كَمَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى بِالْكِرَا، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَلَ غَيْرِهِ قَائِمًا مَقَامَ عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، وَسَادًّا مَسَدَّهُ رَحْمَةً وَلُطْفًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ لِيَحْصُلَ بِهِ مَقْصُودُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَدِينِ إِذَا قُضِيَ عَنْهُ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ مَا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَامِلُ عَنْهُ إِنَّمَا يَعْمَلُ لِلدُّنْيَا، وَلِأَجْلِ الْعِوَضِ الَّذِي أَخَذَهُ لَمْ يَكُنْ حَجُّهُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ النِّيَابَةُ الْمَحْضَةُ مِمَّنْ غَرَضُهُ نَفْعُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لِرَحِمٍ بَيْنَهُمَا أَوْ صَدَاقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ قَصْدٌ فِي أَنْ يَحُجَّ بَيْتَ اللَّهِ فَيَكُونَ حَجُّهُ لِلَّهِ فَيُقَامَ مَقَامَ حَجِّ الْمُسْتَنِيبِ.
وَالْجَعَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ حَتَّى يَعْمَلَ.
وَأَمَّا الْحَجُّ بِالنَّفَقَةِ فَإِنَّمَا كَرِهَهُ أَحْمَدُ مَرَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ الْإِنْفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مُدَّةَ الْحَجِّ فَلَا يَكُونُ حَجُّهُ لِلَّهِ كَمَا أَنَّ الْأَجِيرَ قَصْدُهُ مِلْكُ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ شَيْئًا مُقَدَّرًا مِثْلَ وَصِيَّةٍ وَنَحْوِهَا فَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ اسْتِفْضَالَ شَيْءٍ لِنَفْسِهِ فَيَبْقَى عَامِلًا لِأَجْلِ الدُّنْيَا، وَوَجْهُ جَوَازِ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ بِمَالِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُخْرِجَ هَذَا الْمَالَ فِي الْحَجِّ.
فَصْلٌ
وَإِنْ قُلْنَا: يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ، فَاسْتُؤْجِرَ رَجُلٌ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ الْإِجَارَةِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأُجْرَةِ، وَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَتَمَلُّكِ الْأُجْرَةِ بِالْعَقْدِ فَيَتَصَرَّفُ بِمَا شَاءَ، وَيَجِبُ الْعَمَلُ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَوْ أُحْصِرَ أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ أَوْ ضَاعَتِ النَّفَقَةُ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَإِنْ مَاتَ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، وَاسْتَحَقَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا قَطَعَ مِنَ الطَّرِيقِ، وَيُتَمِّمُ الْحَجَّ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَمَا لَزِمَهُ مِنَ الدِّمَاءِ فَهُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَهَا جَعَالَةً بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: إِنْ حَجَجْتَ فَلَكَ هَذَا الْجُعْلُ فَهَذَا عَقْدٌ جَائِزٌ لَا يَمْلِكُ بِهِ الْعِوَضَ إِلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ، وَلَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ عَاقَهُ عَائِقٌ عَنْ تَمَامِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، وَلَا عَلَيْهِ شَيْءٌ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى: إِذَا أَخَذَ حَجَّةً عِشْرِينَ دِينَارًا فَلَمَّا بَلَغَ الْكُوفَةَ مَرِضَ فَرَجَعَ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا أَخَذَ، وَلَا يَحْتَسِبُ مِنْهُ مَا أَنْفَقَ فَإِنْ تَلِفَ مِنْهُ أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ فَهَذَا يَضْمَنُ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتْ جَعَالَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ إِتْمَامَ الْحَجِّ، وَلَا احْتَسَبَ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ، وَجَعَلَ التَّالِفَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْأَجْعَالِ، وَإِنْ أَخَذَهَا نَفَقَةً، سَوَاءٌ قُلْنَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ أَوْ لَا تَصِحُّ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ.
وَالنَّائِبُ الْمَحْضُ كَالنَّائِبِ فِي الْقَضَاءِ وَالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، وَيَكُونُ مَا يَأْخُذُهُ
بِمَنْزِلَةِ الرِّزْقِ الَّذِي يُرْزَقُهُ الْأَئِمَّةُ، وَالْقُضَاةُ، وَالْمُؤَذِّنُونَ، فَلَوْ تَلِفَ أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ أَوْ مَاتَ أَوْ مَرِضَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَنْفَقَ، وَلَوْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِتْمَامُ بَقِيَّةِ الْعَمَلِ، وَيُحْسَبُ لِلْمُسْتَنِيبِ بِمَا عَمِلَهُ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ نُصُوصِهِ.
قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي رَجُلٍ أُعْطِيَ دَرَاهِمَ يَحُجُّ بِهَا عَنْ إِنْسَانٍ فَمَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا أَنْفَقَ، وَيَحُجُّوا بِالْبَاقِي مِنْ حَيْثُ بَلَغَ هَذَا الْمَيِّتُ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ: إِذَا دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا يَحُجُّ بِهِ عَنْ رَجُلٍ فَضَاعَ مِنْهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، قِيلَ لَهُ: فَيَجْزِي عَنِ
الْمُوصِي حَجَّتَهُ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي أُخْبِرُكَ، أَرْجُو إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ.
وَإِذَا لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ النَّفَقَةَ، فَإِنَّهُ يُنْفِقُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَرُدُّ مَا فَضَلَ، قَالَ أَحْمَدُ: الَّذِي يَأْخُذُ دَرَاهِمَ يَحُجُّ لَا يَمْشِي، وَلَا يَقْتُرُ، وَلَا يُسْرِفُ إِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ صِغَارًا.
وَقَالَ فِي رَجُلٍ أَخَذَ حَجَّةً عَنْ مَيِّتٍ فَفَضَلَ مَعَهُ فَضْلَةٌ: يَرُدُّهَا، وَلَا يُنَاهِدُ أَحَدًا إِلَّا بِقَدْرِ مَا لَا يَكُونُ مُسْرِفًا، وَلَا يَدْعُو إِلَى طَعَامِهِ، وَلَا يَتَفَضَّلُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا إِذَا أُعْطِيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ كَذَا وَكَذَا، فَقِيلَ لَهُ: حُجَّ بِهَذَا - فَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِيهَا، وَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ.
وَإِذَا قَالَ الْمَيِّتُ: حُجُّوا عَنِّي حَجَّةً بِأَلْفٍ فَدَفَعُوهَا إِلَى رَجُلٍ فَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِيهَا، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لَهُ، وَهَذِهِ النَّفَقَةُ أَمَانَةٌ بِيَدِهِ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا تُقَدَّرُ بِأَمْرِ الْمَيِّتِ أَوِ الْمُسْتَنِيبِ الْحَيِّ أَوْ بِتَقْدِيرِ الْوَرَثَةِ إِذَا كَانُوا كِبَارًا فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ يَتِيمٌ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا مَا فَضَلَ فَهُوَ لَكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ بِإِذْنِهِمْ وَغَيْرِ إِذْنِهِمْ إِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صِغَارٌ؛ إِلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ الْكِبَارُ بِشَيْءٍ مِنْ حِصَّتِهِمْ.
وَلَا يَمْلِكُ الْفَاضِلَ إِلَّا بَعْدَ الْحَجِّ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: إِذَا قَالَ حُجُّوا عَنِّي بِأَلْفٍ فَمَا فَضَلَ مِنَ الْأَلْفِ رَدَّهُ عَلَى الْحَجِّ، وَلَوْ قَالَ: حُجُّوا عَنِّي حَجَّةً بِأَلْفٍ فَمَا فَضَلَ فَهُوَ لِلَّذِي يَحُجُّ، وَإِذَا قَالَ: حُجُّوا عَنِّي حَجَّةً فَمَا فَضَلَ مِمَّا دُفِعَ إِلَيْهِ رُدَّ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَإِذَا دَفَعَ إِلَى الرَّجُلِ حَجَّةً، فَقَالَ: مَا فَضَلَ لَكَ، فَأَخَذَهَا الرَّجُلُ فَاشْتَرَى بِهَا مَتَاعًا يَتَّجِرُ بِهِ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ، قَدْ خَالَفَ، إِنَّمَا قَالَ لَهُ امْضِ فَمَا فَضَلَ فَهُوَ لَكَ، لَمْ يَقُلْ اتَّجِرْ قَبْلُ.
وَهَلْ لِهَذَا الَّذِي قَدَّرَ لَهُ النَّفَقَةَ أَنْ يَقْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَنْ يَمْشِيَ؟
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْأَجِيرُ الَّذِي يُكْرِي نَفْسَهُ لِخِدْمَةِ الْجِمَالِ أَوِ الرِّكَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَحُجُّ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ بَلْ لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مُتَبَرِّعًا، وَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَجَزَأَهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْكَوْسَجِ فِيمَنْ يُكْرِي نَفْسَهُ، وَيَحُجُّ: لَا بَأْسَ، وَقَالَ حَرْبٌ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ، قُلْتُ: رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْرُجَ مَعَهُ فَيَخْدِمَهُ فَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ، قُلْتُ: إِذَا كَانَ أَجِيرًا، قَالَ: نَعَمْ، وَسَأَلْتُهُ قُلْتُ: الرَّجُلُ يَحُجُّ مَعَ الرَّجُلِ فَيَكْفِيهِ نَفَقَتَهُ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَتَرْجُو أَنْ يُجْزِئَ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يُجْزِئُ عَنْهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُكْرِي دَوَابَّهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَوْ يَتَّجِرُ فِيهِ
فَإِنَّهُ حَجَّ وَاعْتَاضَ عَنْ مَنْفَعَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْحَجِّ، بَلْ إِنْ كَانَ إِنَّمَا يُكْرِي نَفْسَهُ لِيَحُجَّ بِذَلِكَ الْعِوَضِ فَهُوَ +الْمُحْسِنِينَ، «عَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّمِيمِيِّ قَالَ: " كُنْتُ رَجُلًا أُكْرَى فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَكَانَ نَاسٌ يَقُولُونَ: لَيْسَ لَكَ حَجٌّ، فَلَقِيتُ ابْنَ عُمَرَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي رَجُلٌ أُكْرَى فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ لَكَ حَجٌّ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَلَيْسَ تُحْرِمُ، وَتُلَبِّي، وَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَتُفِيضُ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَتَرْمِي الْجِمَارَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ لَكَ حَجًّا، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ مِثْلِ مَا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ: لَكَ حَجٌّ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ أَبِي السَّلِيلِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي رَجُلٌ أُكْرَى، وَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا أَنْتَ خَادِمٌ إِنَّمَا أَنْتَ أَجِيرٌ، قَالَ:" بَلَى لَكَ حَجٌّ حَسَنٌ جَمِيلٌ إِذَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ، وَأَدَّيْتَ الْأَمَانَةَ، وَأَحْسَنْتَ الصَّحَابَةَ " رَوَاهُ حَرْبٌ.
فَصْلٌ
مَا لَزِمَ النَّائِبَ مِنَ الدِّمَاءِ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ مِثْلِ الْوَطْءِ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ فِي مَالِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنَايَتِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا، وَكَذَلِكَ مَا وَجَبَ لَتَرْكِ وَاجِبٍ، وَأَمَّا دَمُ التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِمَا - عَلَى الْمُسْتَنِيبِ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ، وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْمُسْتَنِيبِ؛ لِأَنَّهُ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ السَّفَرِ فَهُوَ كَنَفَقَةِ الرُّجُوعِ، هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دَمِ الْإِحْصَارِ هَلْ هُوَ مِنْ مَالِ الْأَجِيرِ أَوْ مِنْ مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ أَفْسَدَ الْحَجَّ أَوْ فَوَّتَهُ بِتَفْرِيطِهِ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْزِ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ بِتَفْرِيطِهِ، وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ.
فَصْلٌ
وَمَا أَنْفَقَ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمُعْتَادِ أَوْ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَهُوَ فِي مَالِهِ، فَإِذَا سَلَكَ طَرِيقًا يُمْكِنُهُ سُلُوكُ أَقْرَبَ مِنْهَا فَنَفَقَةُ تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَعَجَّلَ إِلَى مَكَّةَ عَجَلَةً يُمْكِنُهُ تَرْكُهَا، وَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ الْحَجِّ، وَبَعْدَ إِمْكَانِ الرُّجُوعِ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْقَصْرِ - أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ فَإِنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمُسْتَنِيبِ، وَلَهُ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ، وَإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ سِنِينَ مَا لَمْ يَسْتَوْطِنْهَا، فَإِنِ اسْتَوْطَنَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ، وَإِنْ مَرِضَ فِي الطَّرِيقِ فَلَهُ نَفَقَةُ رُجُوعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ حَصَلَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، وَإِنْ قَالَ: خِفْتُ أَنْ أَمْرَضَ فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَهِّمٌ.
وَلَوْ أُذِنَ لَهُ فِي النَّفَقَةِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ جَازَ إِذَا كَانَ الْمَالُ لِلْمُسْتَنِيبِ، وَإِنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنَّ الدِّمَاءَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ.
فَصْلٌ
إِذَا أُمِرَ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ جَازَ ذَلِكَ، وَوَقَعَ عَنِ الْآمِرِ، وَالدَّمُ عَلَى النَّائِبِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إِذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنِ الرَّجُلِ فَتَمَتَّعَ لِنَفْسِهِ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَقُولُ يَتَمَتَّعُ عَنْ نَفْسِهِ.
وَإِذَا قَالُوا لَهُ: حُجَّ، وَدَخَلَ بِعُمْرَةٍ فَإِنَّ الْعُمْرَةَ لِلَّذِي يَحُجُّ عَنْهُ، وَالدَّمُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ دَخَلَ قَارِنًا فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ جَازَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لِمَنْ حَجَّ عَنْهُ، وَلَوْ دَخَلَ بِعُمْرَةٍ لِنَفْسِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ خَرَجَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ عَنْهُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إِذَا قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ فَالدَّمُ فِي مَالِهِ، وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ وَالْقَارِنَ أَتَيَا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ حَجَّةٍ مُنْفَرِدَةٍ لَيْسَ بَعْدَهَا عُمْرَةٌ بِلَا تَرَدُّدٍ.
وَإِنْ دَخَلَ بِعُمْرَةٍ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مِيقَاتِهِ فَيُحْرِمَ مِنْهُ عَلَى مَا نَصَّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَنِيبَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ، وَسَأَلَهُ عَنِ الرَّجُلِ يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ هَلْ يَعْتَمِرُ قَبْلَ الْحَجِّ؟ فَقَالَ: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى مَا أُمِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أُمِرَ أَنْ يَعْتَمِرَ
اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَإِذَا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ حَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ.
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَحُجُّ مِنْ مَكَّةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ فَإِنْ خَالَفَ، وَفَعَلَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ مِيقَاتِهِ، وَعَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَهُ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِمَا يَجْبُرُهُ دَمٌ فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهُ كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ.
وَالثَّانِي لَا يَقَعُ فِعْلُهُ عَنِ الْأَمْرِ، وَيَرُدُّ جَمِيعَ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ بَعْدَ الْحَجِّ فَتَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ. . . .
وَإِنْ أَمَرَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ وَقَعَ عَنِ الْآمِرِ، وَهَلْ يَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ أَفْرَدَ الْحَجَّ، وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ، وَرَدَّ نِصْفَ النَّفَقَةِ لِتَفْوِيتِ الْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ فَإِنِ اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ. . . . .
وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْقِرَانِ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ أَوْ تَمَتَّعَ وَقَعَ النُّسُكَانِ عَنِ الْآمِرِ، وَيَرُدُّ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْ إِحْرَامِ النُّسُكِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنَ الْمِيقَاتِ.
وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا فَقَطْ، رَدَّ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ، وَوَقَعَ مَا فَعَلَهُ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ.