الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ حكم الإحرام قبل الميقات]
مَسْأَلَةٌ: (وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُحْرِمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مُحْرِمٌ.
مَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَلَا بِالْعُمْرَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْمِيقَاتَ، قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَقَدْ سُئِلَ أَيُّمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ: يُحْرِمُ مِنَ الْمِيقَاتِ أَمْ قَبْلُ؟ فَقَالَ: مِنَ الْمِيقَاتِ أَعْجَبُ إِلَيَّ.
قِيلَ لَهُ وَسُئِلَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يَحُجُّ مِنْ بَيْتِهِ، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، فَقَالَ: وَجْهُ الْعَمَلِ الْمَوَاقِيتُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي: كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يَحُجُّ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، فَقَالَ: وَجْهُ الْعَمَلِ الْمَوَاقِيتُ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ: إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ أَحْرَمَ مِنْ مِيقَاتٍ أَعْجَبُ إِلَيَّ، وَلَا يُحْرِمُ مِنْ قَبْلِ الْمِيقَاتِ فَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ الْإِحْرَامُ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يُكْرَهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ، قَالَ حَرْبٌ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يُحْرِمُ قَبْلَ الْمِيقَاتِ؟ قَالَ: قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمٌ، وَكَأَنَّهُ سَهَّلَ فِيهِ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: إِنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ بَأْسٌ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ هُوَ وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ،
وَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ هُوَ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُحْرِمُ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَلَمْ يَنْدُبْ أَحَدًا إِلَى الْإِحْرَامِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا رَغَّبَ فِيهِ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِهِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ لَكَانَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِالْفَضَائِلِ أَفْضَلَ الْخَلَائِقِ وَخَيْرَ الْقُرُونِ وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ وَكَانُوا بِهِ أَوْلَى، وَبِفَضْلٍ - لَوْ كَانَ فِيهِ - أَحْرَى، وَلَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ كَمَا نَدَبَ إِلَى جَمِيعِ الْفَضَائِلِ؛ إِذْ هُوَ الْقَائِلُ:" «وَمَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ يُبَعِّدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ» ".
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ فَتَقْتَدِي الْأُمَّةُ بِهِ وَقَدْ يَخْتَارُ غَيْرَ الْأَفْضَلِ لِلتَّعْلِيمِ.
قِيلَ: قَدْ أَحْرَمَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ مَعَ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا مَرَّةً فَقَدْ كَانَ الْجَوَازُ وَالْبَيَانُ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا أَحْرَمَ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ عُلِمَ أَنَّهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ.
وَلِأَنَّهُ قَدْ كَرَّرَ الْعُمَرَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا عُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ، فَزِيَادَةُ مَوْضِعِ الْإِحْرَامِ لَوْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ.
وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَتَكَرَّرُ، فَيَفْعَلُ الْمَفْضُولَ مَرَّاتٍ لِبَيَانِ الْجَوَازِ كَالصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَأَمَّا مَا لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَخْتَارَ لِرَسُولِهِ أَدْنَى الْأَمْرَيْنِ وَيَدَّخِرَ لِمَنْ بَعْدَهُ أَفْضَلَهُمَا، وَفَاعِلُ هَذَا وَقَائِلُهُ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ.
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ فَقَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ [قِيلَ لَهُ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ] فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هِيَ زِيَادَةُ أَمْيَالٍ؟ فَقَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّكَ خُصِصْتَ بِأَمْرٍ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَوْ كَانَ الْفَضْلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ إِذْ هُوَ أَنْصَحُ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ،
وَأَرْحَمُ الْخَلْقِ بِالْخَلْقِ، كَمَا دَلَّهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَشَقَّةٌ كَالْجِهَادِ وَغَيْرِهِ.
وَكَوْنُهُ أَيْسَرَ قَدْ يَكُونُ مُقْتَضِيًا لِفَضْلِهِ، كَمَا أَنَّ صَوْمَ شَطْرِ الدَّهْرِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِهِ كُلِّهِ وَقِيَامَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِهِ كُلِّهِ، وَالتَّزَوُّجَ وَأَكْلَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ أَفْضَلُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ عز وجل يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ» وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ» أَمْرٌ بِالْإِهْلَالِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ، وَهَذَا التَّوْقِيتُ يَقْتَضِي نَفْيَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُحَرَّمَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا أَفْضَلَ.
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَوْرَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(«لِيَسْتَمْتِعْ أَحَدُكُمْ بِحِلِّهِ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ فِي حُرْمَتِهِ») رَوَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِمِثْلِ إِسْنَادِهِ، لَكِنْ أَبُو سَوْرَةَ ضَعَّفُوهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَكَانَ أَحَدُ الْوَقْتَيْنِ، فَلَمْ يَكُنِ الْإِحْرَامُ قَبْلَهُ مُسْتَحَبًّا كَالزَّمَانِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُقَدَّرَاتِ مِنَ الْمَشْرُوعَاتِ كَإِعْدَادِ الصَّلَاةِ وَرَمْيِ الْجَمَرَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُشْرَعُ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مَكْرُوهَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا فَضْلٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّرَفُّهَ بِالْحِلِّ قَبْلَ الْمِيقَاتِ رُخْصَةٌ، كَالْأَكْلِ بِاللَّيْلِ فِي زَمَانِ الصَّوْمِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي زِيَادَةِ الْإِحْرَامِ عَلَى مَا وَجَبَ تَعْرِيضًا لِأَخْطَارِ الْإِحْرَامِ؛ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورَاتِ وَمَلَالَةِ النَّفْسِ، فَكَانَ الْأَوْلَى السَّلَامَةَ، كَمَا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ قَلِيلِ الطَّاعَةِ قَلِيلِ الْمَعْصِيَةِ، وَرَجُلٍ كَثِيرِ الطَّاعَةِ كَثِيرِ الْمَعْصِيَةِ، فَقَالَ:" لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا "، وَطَرْدُ هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ لِلْمُتَمَتِّعِ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْبَبْنَا لِلْمُعْتَمِرِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَوَاقِيتِ فَيُحْرِمَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ مِيقَاتٌ شَرْعِيٌّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: " تَمَامُهَا أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ ".
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: («مَنْ أَهَلَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ») رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: («مَنْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ») وَأَبُو دَاوُدَ وَلَفْظُهُ: («وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ») شَكَّ الرَّاوِي، وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ:(«مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ»).
وَقَدْ أَحْرَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ فَوْقِ الْمَوَاقِيتِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ أَحْرَمَ عَامَ الْحَكَمَيْنِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " وَعَنْهُ:" أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَوَدِدْتُ أَنِّي لَوْ جِئْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَأَحْرَمْتُ مِنْهُ ".
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنَ الْعَقِيقِ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.
وَقَدْ قِيلَ: أَهَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الشَّامِ، وَأَهَلَّ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَأَهَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يُحِبُّونَ أَوَّلَ مَا يَحُجُّ الرَّجُلُ أَوْ يَعْتَمِرُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَرْضِهِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَادَةٌ، وَتَرْكَهُ عَادَةٌ، وَالْعِبَادَاتُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَادَاتِ.
قِيلَ: أَمَّا أَثَرُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدٌ وَحَرْبٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قَالَ: " إِنَّ إِتْمَامَهَا أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ " قَالَ حَرْبٌ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ: " أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ " قَالَ: هُوَ أَنْ يُنْشِئَ سَفَرَهَا مِنْ أَهْلِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْحَدِيثِ " أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ " قَالَ: يُنْشِئُ لَهَا سَفَرًا مِنْ أَهْلِهِ؛ كَأَنَّهُ يَخْرُجُ لِلْعُمْرَةِ عَامِدًا، كَمَا يَخْرُجُ لِلْحَجِّ عَامِدًا، وَهَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ أَمْرَ الْعُمْرَةِ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُذَيْنَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَسَأَلْتُهُ عَنْ تَمَامِ الْعُمْرَةِ فَقَالَ: ائْتِ عَلِيًّا فَسَلْهُ فَعُدْتُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: ائْتِ عَلِيًّا عليه السلام فَسَلْهُ، فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَكِبْتُ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَالسُّفُنَ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ تَمَامِ الْعُمْرَةِ فَقَالَ: تَمَامُهَا أَنْ تُنْشِئَهَا مِنْ بِلَادِكَ، فَعُدْتُ إِلَى عُمَرَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: ائْتِ عَلِيًّا فَسَلْهُ، فَقُلْتُ: قَدْ سَأَلْتُهُ فَقَالَ: تَمَامُهَا أَنْ تُنْشِئَهَا مِنْ بِلَادِكَ، قَالَ: هُوَ كَمَا قَالَ " رَوَاهُ سَعِيدٌ وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: " أَحْرِمْ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ " فَقَدْ تَوَافَقَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهما عَلَى أَنَّ تَمَامَهَا أَنْ يُنْشِئَهَا مِنْ بَلَدِهِ، فَيُسَافِرَ لَهَا سَفَرًا مُفْرَدًا كَسَفَرِ الْحَجِّ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنْشَأَ لِعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْقَضِيَّةِ سَفَرًا مِنْ بَلَدِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا فَإِنَّ الْعُمْرَةَ الَّتِي يُنْشِئُ
لَهَا سَفَرًا مِنْ مِصْرِهِ أَفْضَلُ مِنْ عُمْرَةِ الْمُتَمَتِّعِ وَعُمْرَةِ الْمُحْرِمِ وَالْعُمْرَةِ مِنَ الْمَوَاقِيتِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَقْصِدُهُ عُمَرُ بِنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُتْعَةِ أَنْ يُنْشِئُوا لِلْعُمْرَةِ سَفَرًا آخَرَ.
فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الدُّخُولُ فِي الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِصْرِ فَكَلَّا؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ زَجَرَ عَنْ ذَلِكَ، وَعَلِيٌّ لَمْ يَفْعَلْهُ قَطُّ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، بَلْ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يَكُونُ التَّمَامُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَلَا جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِ.
وَقَوْلُهُ: " أَنْ تُحْرِمَ مِنْ أَهْلِكَ " كَمَا يُقَالُ: تَحُجُّ مِنْ أَهْلِكَ وَتَعْتَمِرُ مِنْ أَهْلِكَ لِمَنْ سَافَرَ سَفَرَ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِيرُ حَاجًّا وَلَا مُعْتَمِرًا حَتَّى يُهِلَّ بِهِمَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(«لَا يَرْكَبِ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»).
وَلِهَذَا كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ:" مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ هَذَا الْوَجْهَ فَلَا يَقُولَنَّ: إِنِّي حَاجٌّ وَلَكِنْ لِيَقُلْ: إِنِّي وَافِدٌ، فَإِنَّمَا الْحَاجُّ الْمُحْرِمُ " وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: " لَا يَقُولُ أَحَدُكُمْ إِنِّي حَاجٌّ وَإِنَّمَا الْحَاجُّ الْمُحْرِمُ، وَلَكِنْ يَقُولُ: أُرِيدُ الْحَجَّ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي صَرُورَةٌ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ بِصَرُورَةٍ ".
وَعَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: " سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: لَا تَقُلْ إِنِّي حَاجٌّ حَتَّى تُهِلَّ، وَلَكِنْ لِتَقُلْ إِنِّي مُسَافِرٌ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي الْعَالِيَةِ فَقَالَ: صَدَقَ أَنَسٌ، أَوَلَيْسَ إِنْ شَاءَ رَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.
تَقْدِيرُهُ أَنْ تَقْصِدَ الْإِحْرَامَ وَالْإِهْلَالَ مِنْ أَهْلِكَ وَتُنْشِئَ سَفَرَهُمَا مِنْ أَهْلِكَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَدْ قِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِهِ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ
مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَفْضَلَ خُصُوصًا لِأَنَّهُ يُعَمِّرُ مَا بَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِالْعِبَادَةِ، وَهُمَا أَوْلَى مَسَاجِدِ الْأَرْضِ وَبَيْنَهُمَا كَانَ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمَا الْقِبْلَتَانِ، وَمِنْهُمَا الْمَبْدَأُ وَالْمَعَادُ فَإِنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِ الْكَعْبَةِ وَتُعَادُ مِنْ تَحْتِ الصَّخْرَةِ، وَعَامَّةُ الْأَنْبِيَاءِ الْكِبَارِ بُعِثُوا مِنْ بَيْنِهِمَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِهْلَالُ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إِنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ.
وَتَأَوَّلَهُ الْقَاضِي: عَلَى أَنْ يُنْشِئَ السَّفَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَيَكُونَ الْإِحْرَامُ مِنَ
الْمِيقَاتِ وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَأَمَّا مَنْ أَحْرَمَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَبْلَ الْمَوَاقِيتِ فَأَكْثَرُ مِنْهُمْ عَدَدًا وَأَعْظَمُ مِنْهُمْ قَدْرًا لَمْ يُحْرِمُوا إِلَّا مِنَ الْمَوَاقِيتِ، وَقَدْ أَنْكَرُوهُ بِالْقَوْلِ، فَرَوَى الْحَسَنُ:" أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ أَحْرَمَ مِنَ الْبَصْرَةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رضي الله عنه فَغَضِبَ وَقَالَ: " يَتَسَامَعُ النَّاسُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ مَنْ مِصْرِهِ ".
وَعَنِ الْحَسَنِ: " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ أَحْرَمَ مِنْ خُرَاسَانَ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه لَامَهُ فِيمَا صَنَعَ وَكَرِهَهُ لَهُ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَرِهَ عُثْمَانُ رضي الله عنه أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كِرْمَانَ.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ: " فَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ فَأَغْلَظَ لَهُ وَقَالَ: يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ مِنْ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ ".
وَعَنْ مُسْلِمٍ أَبِي سَلْمَانَ: " أَنَّ رَجُلًا أَحْرَمَ مِنَ الْكُوفَةِ فَرَأَى عُمَرُ سَيِّئَ الْهَيْئَةِ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَجَعَلَ يُدِيرُهُ فِي الْخَلْقِ وَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ ".
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " اسْتَمْتِعُوا بِثِيَابِكُمْ فَإِنَّ رِكَابَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا رَوَاهُنَّ النَّجَّادُ.