المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مسألة من حج عن غيره ولم يحج عن نفسه أو عن نذره ونفله] - شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - كتاب الحج - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[مَسْأَلَةٌ وجوب الحج والعمرة مرة في العمر]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تفسير الاستطاعة في الحج]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وجوب المحرم في سفر المرأة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وجوب الحج على من فرط فيه حتى مات]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حَجُّ الكَافِرٍ واَلمَجْنُونٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حج العبد والصبي]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حج غير المستطيع وَالْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ نَذْرِهِ وَنَفْلِهِ]

- ‌[باب الْمَوَاقِيتِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ مواقيت أهل الأمصار]

- ‌[مَسْأَلَةٌ المواقيت لأهلها ولمن مر عليها]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ميقات من دون المواقيت للحج]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ميقات من لم يكن طريقه على ميقات]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حكم مجاوزة الميقات دون إحرام]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حكم الإحرام قبل الميقات]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أشهر الحج]

- ‌[باب الْإِحْرَامِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ ما يستحب للمحرم عند الإحرام]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يستحب الإحرام بعد الصلاة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ من أراد النسك فهو مخير بَيْنَ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صفة التلبية]

- ‌[مَسْأَلَةٌ استحباب الإكثار من التلبية ورفع الصوت بها لغير النساء]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مواطن استحباب التلبية]

الفصل: ‌[مسألة من حج عن غيره ولم يحج عن نفسه أو عن نذره ونفله]

[مَسْأَلَةٌ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ نَذْرِهِ وَنَفْلِهِ]

مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ عَنْ نَذْرِهِ وَنَفْلِهِ قَبْلَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَقَعَ عَنْ فَرْضِ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ.

فِي هَذَا الْكَلَامِ فَصْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَاجِبَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ نَذْرًا أَوْ قَضَاءً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ حَتَّى يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ حَتَّى يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» " وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ «قَالَتِ الْمَرْأَةُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْ أَبِيكِ» " هُوَ جُمْلَةٌ لَمْ يُبَيِّنْ حَجَّتْ أَوْ لَمْ تَحُجَّ.

ص: 288

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ: الصَّرُورَةُ يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ لَا يُجْزِئُهُ إِنْ فَعَلَ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَنْ لَبَّى عَنْ غَيْرِهِ - وَهُوَ صَرُورَةٌ -: " اجْعَلْهَا عَنْ نَفْسِكَ»

وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: يَجُوزُ، قَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَاهَانَ فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ يَحُجُّ الْحَجَّ عَنْ غَيْرِهِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَدْ جَعَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا هَذِهِ رِوَايَةً بِجَوَازِ الْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا قَبْلَ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ إِنَّمَا هِيَ مَنْصُوصَةٌ فِي غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ.

ص: 289

وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ هَلْ حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا أَوْ لَمْ تَحُجَّ؟ وَكَذَلِكَ الْجُهَنِيَّةُ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْ أُمِّهَا نَذْرَهَا، وَلِلْمَرْأَةِ الْأُخْرَى، وَلِأَبِي رَزِينٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَلَا أَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ.

وَالْخَثْعَمِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ غَدَاةَ النَّحْرِ حِينَ أَفَاضَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى، وَهِيَ مُفِيضَةٌ مَعَهُ، وَهَذِهِ حَالُ مَنْ قَدْ حَجَّ ذَلِكَ الْعَامَ، لَكِنَّ غَيْرَهَا لَيْسَ فِي سُؤَالِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَجَّ، وَلِأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالرَّجُلُ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ غَيْرِهِ قَبْلَ دَيْنِهِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَمَلٌ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فَجَازَ أَنْ يَنُوبَ عَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ.

وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مَفْرُوضًا فِيمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْحَجَّ فَهُوَ أَوْجَهُ وَأَظْهَرُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يُؤْمَرُ بِابْتِدَاءِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَغَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ.

وَلَا يُقَالُ: إِذَا حَضَرَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا حَضَرَ، وَقَدِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ.

وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ: مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " «أَنَّ النَّبِيَّ

ص: 290

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ: "«فَاجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ احْجُجْ عَنْ شُبْرُمَةَ» " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ رَفْعَهُ خَطَأٌ، وَقَالَ: رَوَاهُ عِدَّةٌ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَدْ قَالَ يَحْيَى: عَزْرَةُ لَا شَيْءَ.

ص: 291

قُلْنَا: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَحْمَدَ حَكَمَ بِأَنَّهُ مُسْنَدٌ، وَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى ثِقَةِ مَنْ رَفَعَهُ، وَقَرَّرَ رَفْعَهُ جَمَاعَةٌ.

عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَلَيْسَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مُخَالِفٌ.

فَوَجْهُ الْحُجَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ يَحُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ، وَسَتَأْتِي بَقِيَّةُ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ لَمْ تَجُزْ عَنْ شُبْرُمَةَ، وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَاجُّ مُسْتَطِيعًا وَاجِدًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، أَوْ لَا يَكُونَ، وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ وَالتَّعْرِيفِ فِي حِكَايَةِ الْأَحْوَالِ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ فَإِذَا أَمْكَنَهُ فِعْلُهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فَرْضٌ، وَالثَّانِيَ نَفْلٌ كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ، وَمَعَهُ دَرَاهِمُ بِقَدْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إِلَّا إِلَى دَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا احْتَاجَ إِلَى صَرْفِهِ فِي وَاجِبٍ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ.

ص: 292

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا حَضَرَ الْمَشَاعِرَ تَعَيَّنَ الْحَجُّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ حَضَرَ صَفَّ الْقِتَالِ فَأَرَادَ أَنَّ يُقَاتِلَ عَنْ غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا خَالَفَ وَأَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا.

إِحْدَاهُمَا: يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِحْرَامَ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ حَتَّى قَضَى الْحَجَّ وَقَعَ عَنْهُ وَأَجْزَأَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ، وَلَمْ يَقَعْ عَنِ الْمُلَبَّى عَنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا.

وَالْأُخْرَى: يَقَعُ الْإِحْرَامُ بَاطِلًا فَلَا يُجْزِئُ عَنْهُ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدَّمَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ: يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ عَنِ

ص: 293

الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، ثُمَّ يَقْلِبُهُ الْحَاجُّ عَنْ نَفْسِهِ.

وَوَجْهُ هَذَيْنِ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» " وَقَوْلُهُ: " «اجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» " وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ حَسَنَةٍ " «لَبِّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ لَبِّ عَنْ شُبْرُمَةَ» " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ " «إِنْ كُنْتَ حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ فَلَبِّ عَنْهُ، وَإِلَّا فَاحْجُجْ عَنْ نَفْسِكَ» " فَإِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُلَبِّيَ، وَيَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِحْرَامُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ بَاطِلًا، وَعَنْ نَفْسِهِ لَمْ يُنَوِّهْ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَالْإِحْرَامُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَنْ أَحَدِهِمَا فَيَقَعُ بَاطِلًا.

وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: أَمْرُهُ بِأَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ نَفْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِحْرَامَ فِي نَفْسِهِ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا اشْتَمَلَ عَلَى صِفَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ فِي ثِيَابٍ وَعِمَامَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ عَنْ نَفْسِهِ الْبَتَّةَ فَقِيَاسُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْهُ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ.

وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ: " «فَاجْعَلْ هَذِهِ عَنْكَ» " أَيِ اجْعَلْ هَذِهِ التَّلْبِيَةَ عَنْكَ كَمَا

ص: 294

قَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا: " «أَيُّهَا الْمُلَبِّي عَنْ فُلَانٍ لَبِّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ عَنْ فُلَانٍ» "، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَجَّةَ عَنْ نَفْسِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ " «هَذِهِ عَنْكَ، وَحُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» " وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْحَجَّةِ فَقَوْلُهُ: " «اجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ» " أَيِ اعْتَقِدْهَا عَنْ نَفْسِكَ، وَقَوْلُهُ:" «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ» " أَيِ اسْتَدِمِ الْحَجَّ عَنْ نَفْسِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ قَدْ وَقَعَ بَاطِلًا لَأَمَرَ بِاسْتِئْنَافِهِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَجَّةٌ، وَلَا تَلْبِيَةٌ صَحِيحَةٌ تُجْعَلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوِ انْعَقَدَ عَنِ الْغَيْرِ لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ الْوَاقِعَ لِشَخْصٍ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا لَوْ لَبَّى عَنْ أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ أَرَادَ نَقْلَهُ إِلَى أَبِيهِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ مَعَ الصِّحَّةِ، وَالْفَسَادِ، وَيَنْعَقِدُ مُطْلَقًا، وَمَجْهُولًا، وَمُعَلَّقًا، فَجَازَ أَنْ يَقَعَ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ إِحْرَامَهُ عَنِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ لِأَجْلِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَبُطْلَانُ صِفَةِ الْإِحْرَامِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا لَازِمًا فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَدْ عَقَدَهُ مُطْلَقًا، وَلَوْ عَقَدَهُ مُطْلَقًا أَجْزَأَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِلَا تَرَدُّدٍ.

ص: 295

الْفَصْلُ الثَّانِي

إِذَا كَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ وَنَفْلٌ - لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْرِمَ إِلَّا بِالْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضَانِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْدَأَ إِلَّا بِأَوْكَدِهِمَا، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَنَذْرٌ، بَدَأَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ وَقَضَاءٌ. . . .

وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَقَضَاءُ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ. . .

ص: 296

وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِالنَّفْلِ قَبْلَ الْفَرْضِ، وَبِالنَّذْرِ قَبْلَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ تَخْرِيجًا مِنَ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَمِنْ جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّفْلِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَمِنْ كَوْنِهِ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ.

وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: مَا اعْتَمَدَهُ أَحْمَدُ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَقَدْ سُئِلَ عَمَّنْ حَجَّ فِي نَذْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هَذِهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَوَى النَّذْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.

وَأَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِشُهُودِ الْمَشَاعِرِ، فَإِنَّ مَأْخَذَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَاحِدٌ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَجَّ مَدَّتُهُ طَوِيلَةٌ، وَلَا يُبْلَغُ إِلَّا بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَلَا يُفْعَلُ فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّةً، فَفِي تَقْدِيمِ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ تَغْرِيرٌ بِهِ وَتَفْوِيتٌ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ إِنْ

ص: 297

سَلَّمْنَاهُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا خَالَفَ وَنَوَى النَّفْلَ أَوِ النَّذْرَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قُلْتُ لِأَبِي: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ، وَمَا حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ يَبْدَأُ بِفَرِيضَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يَقْضِي مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهُ، فَقَالَ: هَذِهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، أَوْفِي بِنَذْرِكِ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا، بَلْ تَكُونُ الْأُولَى لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ نَوَى النَّذْرَ؛ لِأَنَّهُ احْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ مَرَّةً: قُلْتُ لِأَبِي: مَنْ حَجَّ عَنْ نَذْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ يُجْزِئُ عَنْهُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: كَانَ ابْنُ

ص: 298

عَبَّاسٍ يَقُولُ: " يُجْزِئُهُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ".

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: " هَذِهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَوْفِ بِنَذْرِكَ " فَقَدْ حَكَى اتِّفَاقَهُمَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَأَفْتَى بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الْإِجْزَاءِ عَنِ النَّذْرِ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يُجْزِئُ عَنِ الْفَرْضِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الرَّجُلِ يَحُجُّ يَنْوِي التَّطَوُّعَ: فَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ سَوَاءٌ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِنْيَةٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» " وَلِأَنَّهَا إِحْدَى الْعِبَادَاتِ، فَلَا تُجْزِئُ عَنِ الْفَرْضِ بِنْيَةِ النَّفْلِ كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ صِحَّةِ النَّفْلِ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهَا الْقَاضِي، وَبَيَّنَ فَسَادَ الْإِحْرَامِ، وَإِذَا قُلْنَا فَاسِدٌ فَهَلْ يَمْضِي فِيهِ؟ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ؟

وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: مَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، فَعَلَى هَذَا إِذَا أَحْرَمَ بِالنَّذْرِ، وَقُلْنَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَهَلْ عَلَيْهِ

ص: 299

قَضَاءُ النَّذْرِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَإِنْ نَوَى عَنِ الْفَرْضِ فَقَطْ أَوْ نَوَى عَنْهُمَا، أَصَحُّهُمَا عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ مَنْصُوصُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ.

وَالثَّانِيَةُ: تَكْفِيهِ عَنْهُمَا اخْتَارَهُ أَبُو حَفْصٍ. . . .

وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي سَنَةٍ قَدْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ فِيهَا فَهَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ الْمَنْذُورَةُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ تَسْقُطُ عَنْهُ، وَنَقْلَ ابْنُ مَنْصُورٍ

ص: 300

لَا تَسْقُطُ، وَهُوَ أَصَحُّ. قَالَ الْقَاضِي: وَأَصْلُهُمَا إِذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ يَقْدَمُ فُلَانٌ، فَقَدِمَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. . . .

ص: 301