الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مناقشة الأدلة:
إعترض الحنفية والمالكية على أدلة الشافعية والحنابلة
بإعتراضات كثيرة وردود عديدة أذكر أهمها ثم أتبع ذلك بالإجابة عليها:
أولاً: قالوا إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وذلك لعدة أوجه:
الأول: إن الأرض دحيت (1) له صلى الله عليه وسلم جنوباً وشمالاً حتى رأى نعش النجاشي كما دحيت له جنوباً وشمالاً حين رأى المسجد الأقصى صباح ليلة الإسراء والمعراج حين وصفه لكفار قريش (2).
قال ابن عابدين (لأنه رفع سريره - أي النجاشي- حتى رآه عليه الصلاة والسلام بحضرته فتكون صلاة من خلفه على ميت يراه الإمام وبحضرته دون المأمومين وغير مانع من الإقتداء)(3).
وأيدوا قولهم بما ورد من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا فصلوا عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوا خلفه فكبر أربعاً وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه)(4).
(1) دحيت له أي بسطت جاء في لسان العرب: الدحو: البسط. دحا الأرض يدحوها دحواً بسطها انظر لسان العرب مادة دحا 4/ 303، الصحاح مادة دحا 6/ 2334.
(2)
شرح الخرشي 2/ 142 - 143 - بلغة السالك 1/ 189 - 190، بدائع الصنائع 1/ 312، نصب الراية 2/ 283 تفسير القرطبي 2/ 81 - 82.
(3)
حاشية إبن عابدين 2/ 209 وانظر البحر الرائق 2/ 179.
(4)
نصب الراية 2/ 283 والحديث سبق تخرجه.
الثاني: إن النجاشي لم يكن في بلاده ولي من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه (1).
الثالث: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه وإستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الإهتمام به حياً وميتاً (2).
وقد أجاب الشافعية والحنابلة ومن وافقهم عن هذه الإعتراضات بما يلي:
1 -
إن إدعائهم أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي من خصوصياته عليه الصلاة والسلام غير مسلم لأن الأصل عدم الخصوصية (3).
قال الإمام الخطابي (وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً بهذا الفعل إذ كان في حكم المشاهدين للنجاشي لما روي في بعض الأخبار أنه قد سويت له أعلام الأرض حتى كان يبصر مكانه. وهذا تأويل فاسد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئاً من افعاله الشريفة كان علينا متابعته والإيتساء به والتخصيص لا يعلم الا بدليل.
ومما يبين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج بالناس إلى المصلى فصف بهم فصلوا معه فعلمت ان هذا التأويل فاسد) (4).
(1) تفسير القرطبي 2/ 81 - 82، نصب الراية 2/ 283.
(2)
تفسير القرطبي 2/ 82.
(3)
سبل السلام 2/ 209.
(4)
معالم السنن 1/ 270 - 271.
وقال الإمام البغوي (وزعموا ان النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً به.
وهذا ضعيف لأن الإقتداء به في أفعاله واجب على الكافة ما لم يقم دليل التخصيص ولا تجوز دعوى التخصيص هاهنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه وحده إنما صلى مع الناس) (1).
وقال صاحب عون المعبود:
(قلت دعوى الخصوصية ليس عليها د ليل ولا برهان بل قوله صلى الله عليه وسلم "فهلموا فصلوا عليه" وقوله "فقوموا فصلوا عليه" وقول جابر "فصففنا خلفه فصلى عليه ونحن صفوف" وقول أبي هريرة "ثم قال إستغفروا له ثم خرج بأصحابه فصلى بهم كما يصلى على الجنازة" وقول عمران "فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلى على الميت" وتقدم هذه الروايات يبطل دعوى الخصوصية لأن صلاة الغائب إن كان خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا معنى لأمره صلى الله عليه وسلم بتلك الصلاة بل نهى عنها لأن ما كان خاصاً به صلى الله عليه وسلم لا يجوز فعله لأمته. ألا ترى صوم الوصال لم يرخص لهم به مع شدة حرصهم لأدائه والأصل في كل أمر من الأمور الشرعية عدم الخصوصية حتى يقوم الدليل عليها وليس هنا دليل على الخصوصية بل قام الدليل على عدمها)(2).
(1) شرح السنة 5/ 341 - 342.
(2)
عون المعبود 9/ 9.
وقال إبن العربي المالكي (قال المالكية وغيرهم ليس ذلك إلا لمحمد قلنا: وما عمل به محمد تعمل به أمته)(1).
2 -
وأما قولهم إن الأرض دحيت للنبي صلى الله عليه وسلم فرأى نعش النجاشي أو أحضر النعش بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فكلام ينقصه الدليل وقد ردّ ذلك كثير من أهل العلم: قال الإمام النووي (إنه لو فتح هذا الباب لم يبق وثوق بشيء من ظواهر الشرع لإحتمال انحراف العادة في تلك القضية مع أنه لو كان شيء من ذلك لتوفرت الدواعي بنقله)(2).
وقال الإمام إبن العربي المالكي جواباً على زعمهم بأن الأرض طويت وأحضرت الجنازة بين يديه صلى الله عليه وسلم (قلنا إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل تلاف إلى ما ليس له تلاف (3).
وقال شمس الحق العظيم آبادي (وأما قولهم رفع له سريره أو أحضر روحه بين يديه فجوابه: أن الله تبارك وتعالى لقادر عليه وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لأهل لذلك لكن لم يثبت ذلك في حديث النجاشي بسند صحيح أو حسن وإنما ذكره الواحدي عن إبن عباس بلا سند فلا يحتج به.
ولهذا قال ابن العربي: ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف.
(1) عارضة الأهوذي 4/ 259.
(2)
المجموع 5/ 253 وانظر المغني 2/ 382.
(3)
عارضة الأهوذي 4/ 260وانظر فتح الباري 3/ 432.
وأما ما رواه أبو عوانه وإبن حبان من حديث عمران بن حصين، فلا يدل على ذلك فإن لفظه "وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه" وفي لفظ "ونحن لا نرى إلا الجنازة قدامنا" ومعنى هذا القول أنا صلينا عليه خلف النبي صلى الله عليه وسلم كما يصلي على الميت والحال أنا لم نر الميت لكن صففنا عليه كما يصف على الميت كأن الميت قدامنا ونظن أن جنازته بين يديه صلى الله عليه وسلم لصلاته صلى الله عليه وسلم كعلى الحاضر المشاهد فحينئذ يؤول معنى لفظ هذا الحديث إلى معنى لفظ أحمد ويؤيد هذا المعنى حديث مجمع عند الطبراني "فصففنا خلفه صفين وما نرى شيئا".
ومن ها هنا إندفع قول العلامة الزرقاني حيث شنع على ابن العربي وقال قد جاء ما يؤيد رفع الحجاب بإسنادين صحيحين من حديث عمران فما حدثنا إلا بالثابتات إنتهى، فإن هذا الحديث لا يدل على رفع الحجاب.
ولئن سلمنا فكان الميت غائباً عن أصحابه صلى الله عليه وسلم الذين صلوا عليه مع النبي صلى الله عليه وسلم (1).
3 -
وأما قولهم بأن النجاشي مات بأرض لم يكن فيها أحد من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه.
فجوابه: إن هذا بعيد لأن النجاشي ملك الحبشة وقد أسلم وأظهر إسلامه فيبعد أن يكون لم يوافقه أحمد يصلي عليه فالعادة
(1) عون المعبود 9/ 9 - 10.
تحيل ذلك أي أن يكون ملك على دين ولا يكون له أتباع ثم إنه لم يأت في شيء من الأخبار أنه لم يصل عليه في بلده آحد (1).
فإن قيل: إنه لم يرد في شيء من الأخبار أنه صلى عليه أحد في بلده.
فالجواب: (نعم ما ورد فيه شيء نفياً ولا إثباتاً لكن من المعلوم أن النجاشي أسلم وشاع إسلامه ووصل إليه جماعة من المسلمين مرة بعد مرة وكرة بعد كرة فيبعد كل البعد أنه ما صلى عليه أحد من بلده)(2).
4 -
وأما قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص بتلك الصلاة النجاشي لإدخال الرحمة عليه وإستئلاف بقية الملوك بعده لما يرونه من الإهتمام به حياً وميتاً.
فالجواب: لو فتح باب هذا الخصوص لانسد كثير من ظواهر الشرع.
ثم إن بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن صلى معه من الصحابة على النجاشي تلحق بكل ميت وليس الأمر خاصاً بالنجاشي (3).
(1) فتح الباري 3/ 432، المغني 2/ 383، تفسير القرطبي 2/ 82.
(2)
عون المعبود 9/ 6.
(3)
فتح الباري 3/ 432، تفسير القرطبي 2/ 82.
ثانياً:
وإعترض الحنفية والمالكية على الإستدلال بقصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي بأنها ليست تشريعاً للأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على غائب سواه بعد تسليمهم بأن تلك الصلاة كانت صلاة غائب.
قال الزيلعي (ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على غائب غيره وقد مات من الصحابة خلق كثير وهم غائبون وسمع بهم فلم يصل عليهم إلا غائباً واحداً ورد أنه طويت له الأرض حتى حضره وهو معاوية بن معاوية المزني .. وغائبان آخران هما زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب)(1).
والجواب على هذا الإعتراض من وجوه:
الوجه الأول: أنه لإثبات السنية أو لإستحباب فعل من الأفعال يكفي فيه ورود حديث واحد بالسند الصحيح سواء كان قولياً أو فعلياً أو سكوتياً. ولا يلزم لإثبات السنية كون الحديث مروياً عن جماعة من الصحابة في الواقعات المختلفة وإلا لا يثبت كثير من الأحكام الشرعية التي معمول بها عند جماعة من الآئمة.
الوجه الثاني: إن صلاة الجنازة إستغفار للميت ودعاء له وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طريق أدائها بثلاثة أنواع:
(1) نصب الراية 3/ 283 - 284.
النوع الأول: أن يكون الميت مشهودا حاضراً قدام المصلين فيصلون عليه وهذا النوع هو الأصل في هذا الباب والعمدة فيه، ولا يجوز غير هذا النوع لمن قدر عليه لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قط أنه صلى على الميت الحاضر الشاهد ثم صلى بعده على قبره أو صلى صلاة الغائب عليه.
والنوع الثاني: الصلاة على قبر الميت لمن كان حاضراً في تلك البلدة أو القرية لكن ما أمكن من الصلاة على ذلك الميت حتى دفن أو كان غائباً عن ذلك الموضع فلما دخل أخبر بموته فصلى على قبره كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته على المسكينة وأم سعد وأم أبي أمامة وطلحة بن البراء رضي الله عنهم.
النوع الثالث: أن يكون الميت في بلد آخر وجاء نعيه في بلد آخر فيصلون صلاة الغائب على ذلك الميت من المسافة البعيدة أو القصيرة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجاشي ومعاوية بن معاوية المزني.
ولا شك ان العمدة في هذا هو النوع الأول والفرض قد يسقط لصلاة المسلمين عليه.
وأما النوع الثاني والثالث فدعاء محض واستغفار للميت على سبيل الأستحباب لا الفرضية.
الوجه الثالث: أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الميت الغائب فقد روي أنه صلى على أربعة من الصحابة: