الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعدل عن مناهجهم، كالجهمية والمعتزلة وغلاة عباد القبور، بل قوله مما اجتمعت عليه الرسل واتفقت عليه الكتب كما يعلم ذلك بالضرورة من عرف ما جاءوا به وتصوره، ولا يكفر إلا على هذا الأصل بعد قيام الحجة المعتبرة، فهو في ذلك على صراط مستقيم متبع لا مبتدع، وهذا كتاب الله وسنة رسوله وكلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل العلم والفتوى معروف مشهور مقرر في محله في حكم من عدل بالله وأشرك به وتقسيمهم الشرك إلى أكبر وأصغر، والحكم على المشرك الشرك الأكبر بالكفر مشهور عند الأمة لا يكابر فيه إلا جاهل لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم وما جاءت به الرسل.
وقد أفرد هذه المسألة بالتصنيف غير واحد من أهل العلم، وحكى الإجماع عليها وأنها من ضروريات الإسلام كما ذكره تقي الدين بن تيمية وابن القيم الجوزية وابن عقيل وصاحب الفتاوى البزازية وصنع الله الحلبي والمقريزي الشافعي ومحمد بن حسين النعمي الزبيدي ومحمد بن إسماعيل الصنعاني ومحمد بن علي الشوكاني وغيرهم من أهل العلم1.
1 يعني أن هؤلاء وأمثالهم صرحوا بأن ما عليه كثير من المسلمين الجاهلين من عبادة القبور ودعاء الموتى شرك جلي، وأما أصل المسألة فقد أجمع عليها الفقهاء قبلهم.
افتراؤه عليه جعل بلاد المسلمين دار كفر
وأما قوله وجعل بلاد المسلمين كفاراً أصليين، فهذا كذب وبهت ما صدر ولا قيل ولا أعرفه عن أحد من المسلمين، فضلاً عن أهل العلم والدين، بل كلهم مجمعون على أن بلاد المسلمين لها حكم الإسلام في كل مكان وزمان، وإنما تكلم الناس في بلاد المشركين الذين يعبدون الأنبياء والملائكة والصالحين، ويجعلونهم أنداداً لله رب العالمين، ويسندون إليهم التصرف والتدبير كغلاة القبوريين، فهؤلاء تكلم الناس في كفرهم وشركهم وضلالهم، والمعروف المتفق عليه عند أهل العلم أن من فعل ذلك ممن يأتي بالشهادتين يحكم عليه بعد بلوغ الحجة بالكفر والردة، ولم يجعلوه كافراً أصلياً، وما رأيت ذلك لأحد سوى محمد بن إسماعيل في رسالته تجريد التوحيد
المسمى بتطهير الاعتقاد، وعلل هذا القول بأنهم لم يعرفوا ما دلت عليه كلمة الإخلاص فلم يدخلوا بها في الإسلام مع عدم العلم بمدلولها وشيخنا لا يوافقه على ذلك، ولكن هذا المعترض لا يتحاشى من الكذب ولو كان من الميتة والموقوذة والمتردية، وما رأيت شيخ الإسلام أطلق على بلد من بلاد المنتسبين إلى الإسلام أنها بلد كفر، ولكنه قرر أن دعاء الصالحين وعبادتهم بالاستعانة بالاستغاثة والذبح والنذر والتوكل على أنهم وسائط بين العباد وبين الله في الحاجات والمهمات هو دين المشركين، وفعل الجاهلية الضالين، من الأميين والكتابيين، فظن هذا أن لازم قوله أنه يحكم على هذه البلاد أنها بلاد كفر وهذا ليس بلازم، ولو لزم فلازم المذهب ليس بمذهب، ونحن نطالب الناقل بتصحيح نقله. انتهى.
وأيضا قال: وأما قول المعترض: "لما رأى في هذه الأمة من الأحداث التي لا تزال موجودة فيها تقل وتكثر، ولا تزال علماؤها تحدد لها دينها من الباب الواسع هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتحاشى عن الدخول عليها من الباب الضيق وهو تكفيرها الذي حذر عنه نبيها" إلى آخر عبارته.
فالجواب: أن يقال: قضية هذا الكلام أن الشيخ إنما كفر وقاتل وأخذ الأموال بأحداث لا تزال موجودة في الأمة تقل وتكثر، وأنها لا يكفر بها أحدا، وأن تكفير الصحابة1 لمن كفروه من أهل الردة على اختلافهم وتكفير علي للغلاة، وتكفيرهم للسحرة، وقتلهم، وتكفير من بعدهم للقدرية ونحوهم، وتكفير من بعد أولئك للجهمية وقتلهم لجعد بن درهم وجهم بن صفوان ومن على رأيهم وقتلهم للزنادقة -وهكذا في كل قرن وعصر من أهل العلم والفقه والحديث طائفة قائمة تكفر
1 قوله وأن تكفير الصحابة وما عطف عليه لم يأت فيما بعده خبر له تتم به الفائدة، فلعله سقط من الكلام أو وقع فيه تحريف، والمعنى أن مقتضى تخطئة هذا المعترض للشيخ في تكفير الناس بما ذكر وزعمه أن المسلم لا يكفر بشيء صدر عنه مهما يكن يقتضي أن الصحابة كانوا مخطئين في تكفير أهل الردة وكذا علي في تكفير من عبدوه من الغلاة، وكذا سائر الأئمة والخلفاء فيمن كفروهم، وكتبه محمد رشيد رضا.
من كفره الله ورسوله وقام الدليل على كفره، لا يتحاشون عن ذلك بل يرونه من واجبات الدين وقواعد الإسلام، وفي الحديث:"من بدل دينه فاقتلوه"1 وبعض العلماء يرى أن هذا والجهاد عليه ركن لا يتم الإسلام بدونه، وقد سلك سبيلهم الأئمة الأربعة المقلدون وأتباعهم في كل عصر ومصر، وكفروا طوائف من أهل الأحداث كالقرامطة والباطنية، وكفروا العبيديين ملوك مصر وقاتلوهم وهم يبنون المساجد ويصلون ويؤذنون ويدعون نصرة أهل البيت، وصنف ابن الجوزي كتاباً سماه "النصر على مصر" ذكر فيه وجوب قتالهم وردتهم، وقد عقد الفقهاء في كل كتاب من كتب الفقه المصنفة على مذاهبهم باباً مستقلاً في حكم أهل الأحداث التي توجب الردة وسماه باب الردة أكثرهم، وعرفوا المرتد بأنه الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا أشياء دون ما نحن فيه من المكفرات حكموا بكفر فاعلها وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم. انتهى.
وأيضاً قال فيه وأما قوله: "إن تكفيرها حذر منه نبيها محمد صلى الله عليه وسلم غاية التحذير".
فيقال: إن زعمت أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر عن تكفير من أتى ما يوجب الكفر ويقتضيه ممن بدل دينه، فهذا مكابرة وجحد للضروريات والحسيات، وقائله إلى أن يعالج أحوج منه إلى تلاوة الآيات والأحاديث وحكاية الإجماع وفعل الأمة طبقة طبقة وقرناً قرناً، وإن أراد النهي عن تكفير عموم الأمة وجميعها، فهذا لم يقله أحد ولم نسمع عنه من مارق ولا مبتدع، وهل يقول هذا من له عقل يدرك به ويعرف ما في الأمة من العلم والإيمان والدين؟ وأما بعض الأمة فلا مانع من تكفير من قام الدليل على كفره كبني حنيفة وسائر أهل الردة في زمن أبي بكر وغلاة القدرية والمارقين الذين مرقوا في زمن علي رضي الله عنه وغلوا فيه، وهكذا الحال في كل وقت وزمان، ولولا ذلك لبطل الجهاد وترك الكلام في أهل الردة وأحاكمهم. اهـ.
وأيضاً قال فيه: قال الشيخ رحمه الله في رسالة إلى السويدي البغدادي: وما ذكرت
1 رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
أني أكفر جميع الناس إلا من ابتعني وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، فيا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون؟ إلى أن قال: وأما التكفير، فأنا أكفر من عرف دين الرسل، ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليس كذلك.
وقال رحمه الله في رسالته للشريف: وأما الكذب والبهتان مثل قولهم إنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهم لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
فإذا كان هذا كلام الشيخ رحمه الله فيمن عبد الصنم الذي على القبور إذا لم يتيسر له من يعلمه ويبلغه الحجة، فكيف يطلق على الحرمين أنها بلاد كفر؟ اهـ.
وإذا ما عرفت ما ذكرنا لك من العبارات، فاعلم أن الكلام على ما نقل المؤلف عن الشيخ محمد بن سليمان الكردي المدني بوجوه:
(الأول) : أنه يطالب بتصحيح النقل فالاعتماد مرتفع عن نقله.
و (الثاني) : أن دعوى كون محمد بن عبد الوهاب من تلامذة الشيخ المذكور مفتقرة إلى التبيين.
و (الثالث) : أنه لا يعلم من حال الشيخ المذكور ما يدل على أنه من أهل العلم والديانة حتى يعول على قوله.
و (الرابع) : أنه بعد ثبوت صحة ما نقل وكون الشيخ محمد بن عبد الوهاب من تلامذة المذكور، وكون الشيخ المذكور من العلماء الراسخين المتدينين، يحتمل أن يكون نصحه المذكور مبينا على ما اشتهر على ألسنة أعداء الشيخ محمد بن عبد الوهاب
من تكفيره السواد الأعظم من المسلمين لا على التحقيق.
و (الخامس) : لو سلمنا هذا النقل فأي حجة فيه على أن الحق مع أستاذه في ذلك؟ ومتابعة الأساتذة لا تحمد مطلقاً.
و (السادس) : أنك قد عرفت فيما تقدم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يكفر السواد الأعظم من المسلمين، ومن كفره فلم يكفره بارتكاب ذنب من الكبائر كما هو مذهب الخوارج، إنما كفره بدعوة غير الله بحيث يطلب فيها منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا لا يستريب أحد من أهل العلم والديانة أنها عبادة لغير الله، وعبادة غير الله لا شك في كونها كفراً، مع أنه لم يكفره أيضاً حتى عرفه الصواب ونبهه.
وأيضاً قد عرفت فيما مر أن الشيخ ليس بمنفرد في هذا التكفير، بل جميع أهل العلم من أهل السنة والجماعة يشاركونه فيه لا أعلم أحداً مخالفاً له، منهم تقي الدين بن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن عقيل، وصاحب الفتاوى البزازية، وصنع الله الحلبي، والمقريزي الشافعي، ومحمد بن حسين النعمي الزبيدي، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، ومحمد علي الشوكاني، وصاحب الإقناع، وابن حجر المكي، وصاحب النهر الفائق، والإمام البكري الشافعي، والحافظ عماد الدين بن كثير، وصاحب الصارم المنكي، والشيخ حمد ناصر، والعلامة الإمام الحسن بن خالد، والشيخ العلامة محمد بن الحفظي وغيرهم.
(السابع) : قول الشيخ محمد بن سليمان المذكور، فإن سمعت من شخص أنه يعتقد تأثير ذلك المستغاث به من دون الله تعالى فعرفه الصواب. اهـ. فيه أن الكفر لا يتوقف على اعتقاد تأثير المستغاث به من دون الله تعالى، بل مجرد دعاء غير الله بحيث يشتمل على طلب ما لا يقدر عليه إلا الله كفر، كما تقدم غير مرة.
(الثامن) : قول ذلك الشيخ: ولا سبيل لك إلى تكفير السواد الأعظم من المسلمين وأنت شاذ عن السواد الأعظم، فنسبة الكفر إلى من شذ عن السواد الأعظم أقرب. اهـ. فيه أنه لم يعرف معنى السواد الأعظم، فإنه ليس معناه جمهور من يدعي الإسلام، بل هو أهل الحق وإن قلوا، كما مر تحقيقه بما لا مزيد
عليه فتذكر.
وقال العلامة الإمام الحسن بن خالد في كتاب (منفعة قوت القلوب، وفي إخلاص توحيد علام الغيوب) : وليس السواد الأعظم إلا أهل الحق وإن قلوا. اهـ.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في الكلام على قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا} . الآية: الغرباء في هذا العالم هم أهل الصفة المذكورة في هذه الآية، وهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء". قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون إذا أفسد الناس" وفي حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: "طوبى للغرباء" قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" فأهل الإسلام بين أكثر الناس غرباء، وأهل الإيمان بين أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين تميزوا بها عن الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على الأذى فهيا أشد غربة، ولكن هؤلاء المخالفين لهم هم أهل الله حقا، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين، قال الله تعالى فيهم:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فأولئك هم الغرباء إلى الله ورسوله، وغربتهم هي الرغبة الموحشة الوحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم، فالغربة على ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق وبين الغربة التي مدح رسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريباً وأنه سيعود غريباً وأن أهله يصيرون غرباء، وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ولا يناقش في عزها، للناس حال وله حال، ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا طريق
ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء ينتسبون إلى الله تعالى بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء القابضون على الجمر حقاً، فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل الشذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنهم النزاع من القبائل" اهـ. هكذا نقله بعض المحققين في الرد على جلاء الغمة.
قوله: والحاصل أن المانعين للزيارة والتوسل قد تجاوزوا الحد فكفروا أكثر الأمة واستحلوا دماءهم وأموالهم وجعلوهم مثل المشركين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن الناس مشركون في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، وفي زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم، وندائهم له بقولهم: يا رسول الله نسألك الشفاعة.
أقول: المانعون للزيارة والتوسل لم يتجاوزوا الحد قط، وإنما كفروا من كفروا لأجل عبادتهم لغير الله كدعائهم الأموات بحيث يطلب فيه منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وكالذبح لهم والنذر لهم والتوكل عليهم بعد تعريف الصواب والتنبيه عليه، ولم يقولوا إن الناس هم مشركون في مجرد توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، وفي مجرد زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم، هذا افتراء بحت وبهت محض، إنما أشركوا بالتوسل والزيارة اللذين يشتملان على عبادة غير الله من الدعاء والذبح والنظر.
وأما التوسل كأن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بتصديقه على الرسالة والإيمان بما جاء به وطاعته في أمره ونهيه، وكأن يتوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم في حياته، وكأن يدعو الرب سبحانه بإضافته إلى عباده الصالحين، وكأن يتوسل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك الزيارة الشرعية فلا يمنعها أحد، نعم التوسل بأن يقول: اللهم أني أسألك بحق فلان عبدك، وشد الرحال لمجرد الزيارة، فيه اختلاف لأهل العلم، والمحققون يمنعونهما ويقولون إنهما ليسا بثابتين، وإنهما من البدع، ولكن لا يكفرون من ارتكبه، وأما النداء وطلب الشفاعة فلا يكفرون بهما مطلقاً، بل إذا كانا متضمنين لعبادة
غير الله، وقد مر تفصيله فتذكر.
قوله: وحملوا الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على خواص المؤمنين وعوامهم كقوله تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} . إلى قوله: كلها، حملوا الدعاء فيها على النداء ثم حملوها على المؤمنين الموحدين.
أقول: الكلام عليه بوجوه:
(الأول) : أن نزول جميع الآيات المتلوة هنا في المشركين غير مسلم، ألا ترى أن الآية الأولى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . المخاطب فيها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، قال الحافظ ابن كثير: يقول الله تعالى آمراً عباده أن يوحدوه في محال عبادته ولا يدعى معه أحد ولا يشرك به كما قال قتادة في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . قال: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه وحده. اهـ.
وفي فتح البيان: قال مجاهد كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها، يقول: فلا تشركوا فيها صنماً أو غيره مما يعبد. اهـ.
وأما كون اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فنزول الآية فيه لا يقتضي أن لا يكون الدعاء المذكور منهياً عنه في حق المؤمنين.
وكذلك المأمور والمخاطب في قوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} هو النبي صلى الله عليه وسلم. قال في فتح البيان: ثم لما قرر الله سبحانه حقية القرآن وأنه منزل من عنده، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الله وحده فقال:{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} إن فعلت ذلك الذي دعوك إليه، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا -مع كونه منزها عنه، معصوماً منه- لحث العباد على التوحيد، ونهيهم عن شوائب الشرك، وكأنه قال أنت أكرم الخلق وأعزهم عندي، ولو اتخذت معي إلهاً
لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد؟
وقد أخطأ المؤلف في نقل هذه الآية فكتب الواو بدل الفاء، وكذلك ورد الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذه الآية مما لم يذكره المؤلف، منه قوله تعالى في سورة يونس:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} . ومنه قوله تعالى في سورة القصص: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . ومنه قوله تعالى في سورة النساء: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} .
وبالجملة كفى بتلك الآيات حجة على منع دعاء غير الله، سواء قيل أنها أنزلت في المشركين أو غيرهم، إذا المأمور فيها هو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.
و (الثاني) : أنا ما حملنا الآيات على خواص المؤمنين وعوامهم، إنما حملناها على من يدعون غير الله رغبة ورهبة، ويطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وينحر له، وينذر له، وهم مشركون قطعاً كما مر تقريره.
و (الثالث) : أنه لو سلم أن بعض الآيات نزلت في المشركين فألفاظها عامة كلفظ من يدعو من دون الله، والذين يدعون من دونه، وقد تقرر في محله أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولو خصصت الآيات بما نزلت فيه لبطل معظم أحكام الإسلام.
قوله: وكلامهم كلمة باطل لأن الدعاء الذي في الآيات بمعنى العبادة، وهم لبسوا على الخلق، وجعلوه بمعنى النداء، وقد علمت بطلانه من النصوص السابقة.
أقول: الدعاء كونه في الأصل بمعنى النداء والطلب مما لا مرية فيه، وأما كونه بمعنى العبادة فلم يثبت بعد حقيقة لا لغة ولا شرعاً، فإن ثبت إطلاقه عليها فإنما يكون مجازاً، ويرشدك إلى هذا أنه ليس في كتاب من كتب اللغة فيما أظن أن الدعاء معناه
العبادة ولا في كلام أحد من فصحاء الجاهلية لا في نظم ولا نثر ما يقتضي ذلك فضلاً عن كونه نصاً عليه، ولنذكر هنا عبارات كتب اللغة لتتضح لديك معانيه الحقيقية فنقول:
قال الجوهري: في الصحاح: ودعوت فلاناً أي صحت به واستدعيته، ودعوت الله له وعليه دعاء، والدعوة المرة الواحدة، والدعاء واحد الأدعية. اهـ. وقال في القاموس: الدعاء الرغبة إلى الله تعالى، دعاه دعاء ودعوى، والدعاءة السبابة، وهو منى دعوة الرجل أي قدر ما بيني وبينه ذاك، ولهم الدعوة على غيرهم أي يبدأ بهم في الدعاء، وتداعوا عليهم تجمعوا. ودعاه ساقه. والنبي صلى الله عليه وسلم داعي الله، ويطلق على المؤذن، والداعية صريخ الخيل في الحروب، وداعية اللبن بقيته التي تدعو سائره، ودعاها في الرضع أبقاها فيه، ودعاه الله بمكروه أنزله به، ودعوته زيداً وبزيد سمتيه به. اهـ.
وقال الفيومي في المصباح المنير: دعوت الله أدعوه دعاء ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيداً ناديته وطلبت إقباله، ودعا المؤذن الناس إلى الصلاة فهو داعي الله والجمع دعاة وداعون مثل قاضي وقضاة وقاضون، والنبي داعي الخلق إلى التوحيد، ودعوت الولد زيداً وبزيد إذا سميته بهذا الاسم. اهـ.
وبالجملة ليس في شيء من كتب اللغة الدعاء بمعنى العبادة، نعم قال الحافظ ابن حجر: ويطلق الدعاء أيضاً على العبادة، ونصه في دعوات الفتح هكذا: بفتح المهملتين جمع دعوة بفتح أوله وهي المسألة الواحدة، والدعاء الطلب إلى الشيء الحث على فعله، دعوت فلاناً سألته، ودعوته استغثته، ويطلق أيضاً على رفعة القدر كقوله تعالى:{لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ} كذا قال الراغب، ويمكن رده إلى الذي قبله، ويطلق الدعاء أيضاً على العبادة، والدعوى بالقصر الدعاء كقوله تعالى:{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} والإدعا كقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} وقال الراغب: الدعاء والنداء واحد، قد يتجرد النداء عن الاسم والدعاء لا يكاد يتجرد. وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في شرح الأسماء الحسنى ما ملخصه: جاء الدعاء في
القرآن على وجوه: (منها) العبادة: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} ، ومنها الاستغاثة:{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} ، ومنها السؤال:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، ومنه القول:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} ، والنداء:{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} ، والثناء:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} . اهـ1.
وقال2 تحت قوله: وقول الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية: وهذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على التفويض، وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة لقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} . الآية، أخرجه الأربعة وصححه الترمذي والحاكم، وشذت طائفة فقالوا المراد بالدعاء في الآية ترك الذنوب، وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر "الحج عرفة" أي معظم الحج وركنه الأكبر، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أنس رفعه:"الدعاء مخ العبادة" اهـ.
وقال القسطلاني في (إرشاد الساري) : كتاب الدعوات بفتح الدال والعين المهملتين جمع دعوة بفتح أوله مصدر يراد به الدعاء، يقال: دعوت الله أي سألته. اهـ.
وقال تحت قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} : لما كان من أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع أمر الله تعالى به فضلاً وكرماً، وتكفل لهم بالإجابة، وقيل: المراد بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الأمر بالعبادة بدليل قوله بعد: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} صاغرين ذليلين. والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} وأجاب الأولون بأن هذا ترك الظاهر، فلا يصار إليه إلا بدليل.
وقال العلامة تقي الدين السبكي: الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهرة، وأما قوله بعد ذلك:{عَنْ عِبَادَتِي} فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن
1 أي كلام العسقلاني في الفتح.
2 قال أي العسقلاني أيضاً فيه.
استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما هو حق، من ترك الدعاء استكباراً ومنفعل ذلك كفر. اهـ.
وقال في مجمع البحار: والدعاء الغوث، ومنه:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي استغيثوا إذا نزل بكم ضر، {دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} أي جعلوا، {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ} لن نعبد، يقال دعوته إذا ناديته وإذا سميته، وفيه: أن نساء يدعون أي يطلبن بالمصابيح من جوف الليل، وفيه:"أن ندعو لله ندا" الدعاء النداء ويستعمل استعمال التسمية والسؤال والاستغاثة، وهو هنا متضمن معنى الجعل، وفيه الدعاء وهو العبادة، أي يستأهل أن يسمى عبادة لدلالته على الإقبال عليه والإعراض عما سواه، ويمكن إرادة لغته أي الدعاء ليس إلا إظهار التذلل:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} اعبدوني أثبكم لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} . اهـ. ملتقطاً.
إذا دريت تلك العبارات فقد عرفت أن الدعاء قد يطلق أيضاً على العبادة، ولكن هناك مباحث:(الأول) : أن هذا ادعاء بلا دليل، وأما ما يذكر له من الشواهد والأمثلة من القرآن المجيد كقوله تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} وقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} وقوله تعالى: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ} وغيرها من الآيات فلا يصلح شاهداً له، إذ يحتمل أن يراد بالدعاء في هذه الآيات كلها السؤال بجلب النفع ودفع الضرر الذي هو معناه الحقيقي، بل هو المتعين، لأنه ليس هناك صارف يصرف عن إرادة المعنى الحقيقي، وقد صرح غير واحد من أهل العلم بأن المراد بالدعاء في قوله تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} هو السؤال بجلب النفع ودفع الضرر لا العبادة وإن اختلف الناس فيه.
وذكر الإمام الرازي تحت قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} . ما يقتضي أن المراد بالدعاء في هذه الآية طلب المنفعة والمضرة، ونصه هكذا: يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الظالمين، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه، فإذا كان
ما سوى الحق معزولاً عن التصرف كانت إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعاً للشيء في غير موضعه فيكون ظلماً. اهـ.
فإن قلت: الصارف هناك ما قد ذكر صاحب الرسالة فيما تقدم من أنه لو كان كل نداء دعاء وكل دعاء عبادة شمل ذلك نداء الأحياء والأموات، فيكون كل نداء ممنوعاً مطلقاً سواء كان للأحياء والأموات أم للحيوانات والجمادات، وليس الأمر كذلك.
قلنا: هذا لا يصلح صارفاً، فإن المراد بالدعاء عندنا ليس مطلق النداء بل النداء الذي فيه طلب ما لا يقدر عليه إلا الله كما تقدم، لا يقال فعلى هذا ليس هذا المعنى حقيقياً، فإنه فرد من أفراد مطلق النداء، وإذا أطلق المطلق وأريد به الخاص فهو مجاز، لأنا نقول: كما أن لفظ الدعاء وضع في الأصل لمطلق النداء كذلك وضع النداء الذي ذكرناه، يرشدك، إلى هذا عبارات الجوهري وصاحب القاموس والفيومي التي ذكرت فيما تقدم فتذكر، فيكون النداء المذكور حقيقة شرعية.
وعلى تقدير تسليم أن لفظ الدعاء ليس بحسب اللغة موضوعاً للنداء المذكور يقال: لا شك في أن لفظ الدعاء بحسب الشرع موضوع للنداء المذكور، فإن الله تعالى ورسوله جعل الدعاء من أفراد العبادة، قال الله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وقال رسول صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"، وأيضاً:"الدعاء مخ العبادة".
وقد أمر الله تعالى ورسوله بالدعاء في غير ما موضع، وهذا دال على أن الدعاء الشرعي عبادة، ولا مرية في أن مطلق النداء ليس بعبادة، فإذا المراد به هو النداء المذكور، فيكون النداء المذكور حقيقة شرعية للفظ الدعاء، ويمكن أن يراد بالدعاء في الآيات المذكورة مطلق النداء ويخصص بمخصصات أخر، فيكون من قبيل العام الذي خص منه البعض فيكون فيما بقى من الأفراد حجة ظنية، وليس هناك مخصص يخرج دعاء الأموات من الأنبياء والصالحين الذي يتضمن طلب ما لا يقدر عليه إلا الله من هذا العموم.
و (الثاني) : أنه لو سلم إطلاق الدعاء على العبادة، فهذا مجاز، ومن ثم قال القسطلاني
وأجاب الأولون بأن هذا ترك الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل، وهكذا قال الإمام الرازي.
وقال في فتح البيان: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال أكثر المفسرين: المعنى وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم وأجبكم وأثبكم، وقيل: هذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة، أي أستجب لكم إن شئت كقوله:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} ، وقيل: المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضرر، قيل: الأول أولى، لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة، قلت: بل الثاني أولى، لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعاً هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق، وما يبدل القول لديه، ولا يخلف الميعاد. اهـ.
وقال في (نزل الأبرار) : وقد حقق العلامة الشوكاني في مؤلفاته أنها بمعنى الدعاء في القرآن وفي الحديث، وعليه الفحول من العلماء في القديم والحديث، وحيث تقرر أن الدعاء عبادة أفتى الراسخون في العلم بأن دعاء من سوى الله كائناً من كان شرك وعبادة لذلك الغير، والبحث في هذا يطول جداً، انظره في كتاب (الدين الخالص) فإن مؤلفه قضى الوطر بذلك. اهـ.
وقال الإمام الرازي: وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية، واستمداده إياه المعونة، وقال أيضاً: الدعاء مغاير للعبادة في المعنى. اهـ.
وإذا ثبت أن العبادة معنى مجازي للدعاء فلا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة وفيما نحن فيه تعذر الحقيقة ممنوع.
و (الثالث) : أن الدعاء إذا كانت العبادة معنى مجازياً له فما العلاقة بينهما؟ فنقول: العلاقة بينهما إما العموم والخصوص فإن العبادة عام والدعاء خاص، قال العلامة تقي الدين السبكي: الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك: {عَنْ
عِبَادَتِي} فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، كذا ذكره القسطلاني في (إرشاد الساري) .
وأيضاَ: قال القسطلاني: لما كان من أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع أمر الله تعالى به فضلاً وكرماً وتكفل لهم بالإجابة.
وقال الإمام الرازي: وقال الجمهور الأعظم من العقلاء إن الدعاء أهم مقامات العبودية، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل.
وأيضاً قال: ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع، لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . اهـ.
وأيضاً قال: واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة، وقال: بل نقول الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية، ويفيد عزة الربوبية، وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات، وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجاً إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزاً عن تحصيله، وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة، وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة، وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفاً بالحاجة، وبالعجز، وعرف كون الإله سبحانه موصوفا بكمال العلم والقدرة والرحمة، فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية، فإذا كان الدعاء مستجمعاً لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات. اهـ. أو العلاقة بينهما السببية والمسببية، فإن العبادة سبب للدعاء، قال الإمام الرازي تحت قوله تعالى:{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} : ويدعون بمعنى يعبدون، لأن من عبد شيئاً فإنه يدعوه عند احتياجه إليه.
وقال أيضاً: إن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجئ إليه في المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة. اهـ.
و (الرابع) : أن الله تعالى قال بعد الأمر بالدعاء: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} فلولا أن الدعاء بمعنى العبادة لما بقى لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} معنى.
فنقول: الربط لا يتوقف على ذلك، بل هناك ثلاثة احتمالات:
(الأول) : ما ذكر، أي يراد بالدعاء العبادة.
و (الثاني) : أن يراد بالعبادة الدعاء، فكما أن العبادة معنى مجازي للدعاء، كذلك الدعاء معنى مجازي للعبادة.
و (الثالث) : أن يراد بكليهما معناهما الحقيقي، وإنما يشكل الربط على هذا التقدير فقط، فوجه الربط على هذا ما ذكره السبكي، وقد ذكرت عبارته فيما تقدم، وقريب منه أن يقال: إن العبادة أعم من الدعاء، فمن استكبر عن الدعاء استكبر عن العبادة فتفطن.
وجملة القول في الباب أن الدعاء معناه الحقيقي طلب جلب النفع ودفع الضر، وأما كونه بمعنى العبادة فممنوع، ولو سلم فهو معنى مجازي ولا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة1.
1 أكثر ما أورده من النقول مباحث اصطلاحية لا حاجة إليها، والتحقيق أن الدعاء في أصل اللغة النداء الطلب، وهو قسمان: عادي، وعبادي. فما وجهه الداعي إلى مثله من طلب يقدر المدعو على إجابته بمقتضى الأسباب العادية فهو دعاء عادي، وما وجهه إلى من يعتقد أن له قدرة أو سلطاناً غيبياً فوق الأسباب العادية فهو العبادة، سواء أكان المدعو يستجيب له بقدرته الذاتية أم بتأثيره وشفاعته، ووساطته عند ذي القدرة الذاتية. والأول دعاء الموحدين لا يتوجهون فيه إلا إلى ربهم وحده، والثاني دعاء المشركين الذين يتوجهون إلى اثنين فأكثر واحد قادر بذاته وغيره قادر بشفاعته ووساطته عند القادر بذاته وبهذا كان يصرح مشركو العرب كما حكى الله عنهم ومن العجيب أن يخفى هذا الشرك في أعلى أنواع العبادة والفرد الكامل منها على أدعياء العلم وهو الدعاء الديني منذ قرون مع دلالة الآيات الكثيرة عليه دلالة قطعية ومثل الدعاء غيره من الأقوال والأفعال التي يختلف حكمها وتسميتها باختلاف من توجه إليه كالاستعانة والاستغاثة والسجود والطواف، فإن توجهت إلى صاحب القدرة والسلطان الغيبي بالذات أو الوساطة كانت عبادة، وإلا كانت عادة، وكبته رشيد رضا.
قوله: وأما جعلهم التوحيد نوعين: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فباطل أيضاً. فإن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية، ألا ترى قوله تعالى:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . ولم يقل ألست بإلهكم، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية ومن المعلوم أن من أقر بالربوبية فقد أقر له بالألوهية، إذ ليس الرب غير الإله بل هو الإله بعينه.
أقول: لا مرية في أننا مأمورون باعتقاد أن الله وحده هو ربنا ليس لنا رب غيره، وباعتقاد أن الله وحده هو معبودنا ليس لنا معبود غيره وأن لا نعبد إلا إياه، والأمر الأول هو الذي يقال له توحيد الربوبية، والأمر الثاني هو الذي يقال له توحيد الألوهية، والإشراك في الأول يسمى الإشراك في الربوبية والإشراك في الثاني يسمى الإشراك في الألوهية، والآيات الدالة على الأمر الأول كثيرة:
منها قوله تعالى في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} . ومنها قوله تعالى في آل عمران: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} . ومنها قوله تعالى فيه: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} ، ومنها قوله تعالى فيه:{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} ، ومنها قوله تعالى في سورة النساء:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية، ومنها قوله تعالى في المائدة:{وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ، ومنها قوله تعالى في الأنعام:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، ومنها قوله تعالى فيها: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ –إلى قوله تعالى- إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا
مِنَ المُشْرِكِينَ} ، ومنها قوله تعالى فيها:{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} ، ومنها قوله تعالى فيها:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَباًّ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} ، ومنها قوله تعالى في الأعراف:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ -إلى قوله تعالى- تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} ، ومنها قوله تعالى فيها:{ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، ومنها قوله تعالى في التوبة:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ، ومنها قوله تعالى في سورة يونس:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ -إلى قوله- ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} ، ومنها قوله تعالى فيها:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَاّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ، ومنها قوله تعالى في سورة يوسف:{أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ} ، ومنها قوله تعالى في سورة الرعد: (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ، ومنها قوله تعالى فيها:{قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} ، ومنها قوله تعالى في الكهف:{لَكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} ومنها قوله تعالى فيها: {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} ومنها قوله تعالى في مريم: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً. رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ومنها قوله تعالى في سورة طه: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ومنها قوله في سورة الأنبياء: {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} ومنها قوله تعالى في الحج: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} ومنها قوله تعالى في الصافات: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المَشَارِقِ} ومنها قوله تعالى في ص: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ} ومنها قوله تعالى في الزمر غب بيان شيء من صفات الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ومنها قوله تعالى في المؤمن: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} ومنها قوله تعالى في المؤمن بعد ذكر بعض صفات الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ومنا قوله تعالى فيها: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ. هُوَ الحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ البَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ} ومنها قول تعالى في حم السجدة: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ} ومنها قوله تعالى في الشورى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
وأما الآيات الدالة على الأمر الثاني فأكثر من أن تحصى، منها بعض ما ذكر لإثبات الأمر الأول من الآيات، ومنها ما أتلو عليك الآن، فنقول:
منها قوله تعالى: في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقوله تعالى في البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله تعالى فيها: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ} وقوله تعالى فيها: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقوله تعالى فيها: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} . وقوله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . وقوله تعالى فيها: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وقوله تعالى في آل عمران: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} . وقوله تعالى في النساء: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . وقوله تعالى في المائدة: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ
مِنْ أَنْصَارٍ} . وقوله تعالى فيها: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} . وقوله تعالى فيها: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} . وقوله تعالى في الأنعام: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . وقوله تعالى في الأعراف: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ –إلى قوله– فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . وقوله تعالى فيه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . وقوله تعالى فيه: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} . وقوله تعالى فيه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . وقوله تعالى فيه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . وقوله تعالى في التوبة: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
ولا أظنك شاكاً في أن مفهوم الرب ومفهوم الإله متغايران، وإن كان مصداقهما في نفس الأمر وفي اعتقاد المسلمين المخلصين واحداً، وذلك يقتضي تغاير مفهومي التوحيدين، فيمكن أن يعتقد أحد من الضالين توحيد الرب ولا يعتقد توحيد الإله، وأن يشرك واحداً من المبطلين في الألوهية ولا يشرك في الربوبية، وإن كان هذا باطلاً في نفس الأمر، ألا ترى أن مصداق الرازق ومالك السمع والأبصار، والمحيي والمميت، ومدبر الأمر، ورب السموات السبع ورب العرش الكريم، ومن بيده ملكوت كل شيء، والخالق ومسخر الشمس والقمر ومنزل الماء من السماء – ومصداق الإله واحد؟ ومع ذلك كان مشركو العرب يقرون بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار وغيرهما، ويشركون في الألوهية والعبادة، والدليل عليه ما قال تعالى في سورة يونس:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} وقوله تعالى في سورة المؤمنين: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . وقوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} . وقوله تعالى فيها أيضاً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} . وقوله تعالى في سورة لقمان: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . وقوله تعالى في سورة الزمر: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . وقوله تعالى في سورة الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . وقوله تعالى فيها أيضاً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
فكذلك عباد القبور الذين لم يبق فيهم من الإسلام إلا اسمه يقرون بتوحيد الرازق والمحيي والمميت والخالق والمؤثر والمدبر والرب1، ومع ذلك يدعون غير الله من الأموات خوفاً وطمعاً، ويذبحون لهم وينذرون لم ويطوفون بهم ويحلقون لهم، ويخرجون من أموالهم جزءاً لهم، وكون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر وعند المسلمين المخلصين لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين من الأمم الماضية وهذه الأمة.
أما نعقل أن لفظ توحيد الربوبية، ولفظ توحيد الألوهية كلاهما مركبان إضافيان والمضاف في كليهما كلي؟ وهذا غني عن البيان، وكذلك المضاف إليه كليهما، فإن الربوبية والألوهية معنيان مصدريان منتزعان من الرب والإله وهما كليان.
1 الأمر الواقع أنهم يقرون بهذه الألفاظ كلفظ الإله، ولكنهم يعتقدون أن للأولياء تأثيراً غيبياً في معانيها، إما بالذات وإما بالشفاعة أو الكرامة عند الله، ولذلك يدعونهم وحدهم أو مع الله في طلب الرزق وتدبير الأمور، فدعاؤهم شرك في الألوهية، وعقيدتهم شرك بالربوبية، بل منهم من يسند إليهم التصرف في الكون كله، ففي بعض كتب الرفاعية: إن أحمد الرفاعي كان يفقر ويغني، ويسعد ويشقي، ويميت ويحيى. وفيها: إن السموات السبع في رجله كالخلخال. وكتبه محمد رشيد رضا.
أما الرب فلأن معناه المالك والسيد والمتصرف للإصلاح والمصلح والمدبر والمربي والجابر والقائم والمعبود، وكل واحد مما ذكر معنى كلي.
وأما الإله فلأن معناه المعبود بحق أو باطل، وهو معىي كلي فالمنتزع منهما أيضاً يكون معناً كلياً، فتوحيد الربوبية اعتقاد أن الرب واحد سواء كان ذلك الرب عين الإله أو غيره، وتوحيد الألوهية اعتقاد أن الإله واحد سواء كان ذلك الإله عين الرب أو غيره.
وإذا تقرر هذا فنقول: يمكن أن يوجد في مادة توحيد الربوبية ولا يوجد في توحيد الألوهية، كمن يعتقد أن الرب واحد ولا يعتقد أن الإله واحد بل يعبد آلهة كثيرة، ويمكن أن يوجد في مادة توحيد الألوهية ولا يوجد توحيد الربوبية، كمن يعتقد أن المستحق للعبادة واحد، ولا يعتقد وحدانية الرب، بل يقول إن الأرباب كثيرة متفرقة، ويمكن أن يجتمعا في مادة واحدة كمن يعتقد أن الرب والإله واحد، فثبت أن مفهوم توحيد الربوبية مغاير لمفهوم توحيد الألوهية.
نعم توحيد الربوبية من حيث أن الرب مصداقه إنما هو الله تعالى لا غير يستلزم توحيد الألوهية من حيث أن الإله مصداقه إنما هو الله تعالى لا غير، لكن هاتين الحيثيتين زائدتان على نفس مفهومي التوحيدين ثابتتان بالبرهان العقلي والنقلي.
على أنا لو قطعنا النظر عن بحث تغاير مفهومي التوحيدين فمطلوبنا حاصل أيضاً، فإن توحيد الألوهية لا يتأتى إنكاره من أحد من المسلمين، وهو كاف لإثبات إشراك عباد القبور، فإنهم إذا دعوا غير الله رغبة ورهبة وخوفاً وطمعاً، وطلبوا منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ونحروا لهم ونذروا لهم وطافوا لهم وحلقوا لهم، وأخرجوا من أموالهم جزءاً لهم، وصنعوا غير ذلك من العبادات، فقد عبدوا غير الله واتخذوهم آلهة من دون الله.
فإن قلت: إن عباد القبور لا يعتقدون أن الأموات من الأنبياء والصالحين أرباب وآلهة أصلاً، ولا يطلقون لفظ الأرباب والآلهة أبداً، فكيف يكونون مشركين؟ قلت: في هذا ذهول عن معنى الإشراك في الألوهية والعبادة، فإن الإشراك في العبادة
–عبادة غير الله– من الدعاء والذبح والنذر والطواف وغيرها سواء يعتقده رباً أو إلهاً أم لا؟ وسواء يطلق لفظ الرب والإله عليه أم لا؟ تدل عليه الآيات الكثيرة منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ –إلى قوله– فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} . وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . وقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} وقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . وقوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} . وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} .
وأما استدلال المؤلف1 على اتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية بقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . ولم يقل ألست بإلهكم بأنه تعالى اكتفى منهم بتوحيد الربوبية فليس بشيء، فإن غاية ما يثبت من الآية أن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية توحيد الألوهية، وهذا لا دلالة له بشيء من الدلالات على اتحادهما، فرب حكم يذكر في آية دون أخرى، وتوحيد الألوهية وإن لم يذكر في هذه الآية فهو مذكور في الآيات التي تلونا آنفاً، وتوجيه الاكتفاء بتوحيد الربوبية ليس منحصراً في أنهما لما كانا متحدين اكتفى بذكر أحدهما، بل هناك احتمالات أخر:
1 أي دحلان.
(الأول) أن الإقرار بتوحيد الربوبية مع لحاظ قضية بديهية وهي أن غير الرب لا يستحق للعبادة يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية عند من له عقل سليم وفهم مستقيم، فيكون الإقرار المذكور حجة عليهم كما احتج الله تعالى على المشركين بتوحيد الرازق، ومالك السمع والأبصار، والمحي والمميت، ومدبر الأمر، ومن له الأرض ومن فيها، ورب السموات السبع ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء، ومن خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، ومن نزل من السماء ماء، ومن خلقهم –في الآيات التي تليت فيما تقدم- على وحدانية الألوهية.
قال الحافظ ابن كثير تحت قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} الآية: يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانية ربوبيته على وحدانية ألوهيته، وقال:{فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم؟ وقوله: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} الآية، أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، فماذا بعد الحق إلا الضلال، أي فكل معبود سواه باطل لا إله إلا هو واحد لا شريك له:{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ؟ أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء والمتصرف في كل شيء؟ اهـ.
وقال تحت قوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} . الآية، يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره المعترفين له بالربوبية: أنه لا شريك له فيها، ومع هذا فقد أشركوا معه في الألوهية فعبدوا غيره معه، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئاً ولا يملكون شيئاً ولا يستبدون بشيء، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فقال: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا} أي من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وسائر صنوف المخلوقات: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له، فإذا كان ذلك:{قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أنه لا تنبغي
العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ} ؟ أي من هو خالق العالم العلوي بما فيه من الكواكب النيرات، والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار والجهات، ومن هو رب العرش العظيم؟ يعني الذي هو سقف المخلوقات. قال وقوله:{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} أي إذا كنتم تعترفون بأنه رب السموات ورب العرش العظيم أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟
قال: وقوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله تعالى وحده لا شريك له قل: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك. اهـ.
وقال تحت قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى، ثم شرع يبين أنه المتفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره، أي لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها، وإنما يقدر على ذلك الخالق والرازق المستقل بذلك، المنفرد به دون ما سواه من الأصنام والأنداد كما يعترف به هؤلاء المشركين، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق، وإنما يستحق أن يفرد بالعبادة من هو المنفرد بالخلق والرزق، ولهذا قال تعالى:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يعبد؟ وقد تبين لكم ولك ذي لب مما يعترفون به أيضاً أنه الخالق الرازق. اهـ.
وقال تحت قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ؟ الآية: يقول تعالى مقرراً أنه لا إله إلا هو، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السموات
والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم واختلاف أرزاقهم، ففاوت بينهم فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كلا منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء، المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلم يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته. وكثيراً ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية، وقد كان المشركون يعترفون بذلك كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. اهـ.
وقال تحت قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} الآية: يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء المشركين به أنهم يعرفون أن الله خالق السموات والأرض وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خلق له وملك له، ولهذا قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي إذ قامت عليكم الحجة باعترافكم: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} اهـ.
وقال تحت قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} : ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له، كما أنه المستقل بالخلق والرزق فكذلك فليفرد بالعبادة، ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ولهذا قال تعالى:{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تؤفكون بعد هذا البيان، ووضوح هذا البرهان؟ وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان. اهـ.
وقال تحت قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} : أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلقكم وخلق آباءكم، وهو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك:{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ؟ أي فكيف تعبدون معه غيره؟ أين يذهب بعقولكم؟ اهـ.
وقال تحت قوله تعالى في الزمر: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} : يعني المشركين، كانوا يعترفون بأن الله عز وجل هو الخالق للأشياء كلها ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. اهـ.
وقال تحت قوله تعالى في الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} يقول تعالى: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره: من خلق السموات والأرض؟ {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أي ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد. اهـ.
وقال تحت قوله تعالى فيه أيضاً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} : أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره: من خلقهم؟ {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لا شريك له في ذلك، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء، فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل، ولهذا قال تعالى:{فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ؟ اهـ.
و (الاحتمال الثاني) : أن في الآية اختصاراً، والمقصود: ألست بربكم وإلهكم؟ يدل عليه أثر ابن عباس: إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وتكفل لهم بالأرزاق الحديث، وأثر أبي بن كعب في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال: فجمعهم له يومئذ جميعاً ما هو كائن منه إلى يوم القيامة فجعلهم في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} الآية، قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئاً، وإني لأرسل إليكم رسلي لينذروكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، قالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك، فأقروا يومئذ بالطاعة، ذكر هذين الأثرين الحافظ بن كثير في تفسيره.
وقال أيضاً فيه: يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه. اهـ.
و (الاحتمال الثالث) : أن المراد بالرب المعبود، قال القرطبي: والرب المعبود، وعن عكرمة في تفسير قوله تعالى:{وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} قال: يسجد بعضنا لبعض، كذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره، وقال الله تعالى في سورة التوبة:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فالمراد بالأرباب في تلك الآية هم المعبودون، بدليل قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وكذلك فهم عدي بن حاتم رضي الله عنه وقرره النبي صلى الله عليه وسلم عليه، روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدي المدينة وكان رئيساً في قومه طيء: وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم" الحديث.
وقوله1: ومن المعلوم أن من أقر لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية إذ ليس الرب غير الإله، بل هو الإله بعينه.
فيه أنه إن أراد أن مفهوم الرب عين مفهوم الإله فقد تبين بطلانه آنفاً فيما سلف، وإن أراد أن مصداقه عين مصداق الإله فهذا حق بحسب نفس الأمر واعتقاد
1 أي دحلان.
المسلمين المخلصين، ولكن المشركين من الأمم الماضية وهذه الأمة لا يسلمون عينية مصداقهما، وإذا كان الأمر كذلك فأمكن منهم أن يقروا لله بتوحيد الربوبية ولا يقروا له بتوحيد الألوهية1 وقد وقع كذلك، دل عليه قوله تعالى في المؤمنون:{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} ففي هذه الآية أن المشركين كانوا معترفين بأن الله هو رب السموات السبع ورب العرش العظيم ومع ذلك كانوا يعبدون الأصنام والأوثان. وهاهنا بحثان:
(الأول) : أن الآية لا يثبت منها إلا ثبوت الربوبية لله تعالى، لا أن غيره تعالى ليس رباً، إذ ليس هناك أداة حصر.
و (الثاني) : أن الثابت منها إنما هو ربوبيته تعالى للسموات السبع والعرش العظيم فحسب لا ربوبيته لجميع المخلوقات، فيحتمل أن يكون رب غير السموات السبع والعرش العظيم عندهم غير الله تعالى.
والجواب عن الأول: أن عدم ذكر المشركين غير الله تعالى في جواب السؤال برهان واضح على انحصار الربوبية، فإن السكوت في معرض البيان بيان، سيما فيما يتم به عليهم الحجة، فلو كان غير الله عندهم رباً لذكروه في الجواب البتة. 2
والجواب عن الثاني: أن المقصود أن رب جميع المخلوقات هو الله تعالى، وإنما خصوا السموات السبع والعرش العظيم بالذكر لأنها من أكبر الأجرام وأعظمها وأشدها خلقاً، يدل عليه أن معنى الرب هو المالك المتصرف، وكون الله تعالى وحده مالكاً متصرفاً لجميع المخلوقات ثابت بإقرار المشركين، قال الله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم
1 الصواب الواقع أنهم يقرون له تعالى وحده باسم الرب واسم الإله، ويشركون أولياءه معه في معناهما جهلاً منهم بمدلول اللغة لأنها ليست لغتهم بالسليقة، بخلاف عرب الجاهلية، فالرب هو المدبر لكل أمر والمتصرف فيه بكل شيء غير مقيد بالأسباب، وهؤلاء يشركون معه غيره في هذا التصرف الخاص بالربوبية ولكنهم يسمون أولياءهم متصرفين ومدبرين ولا يسمونهم أرباباً كما تقدم قريباً. وكتبه محمد رشيد رضا.
2 أي حتماً، والبتة أظنها تستعمل في النفي فقط.
مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ} وقال الله تعالى:{قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} .
فإن قلت: هناك آيات دالة على أن المشركين لم يكونوا مقرين بتوحيد الربوبية منها قوله تعالى: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} فهذا دال على أن المشركين من أهل الكتاب كانوا هم يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، ومنها قوله تعالى:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} إلى قوله تعالى: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} فإن الخليل عليه السلام قال هذا في الثلاث الآيات مستفهماً لهم مبكتاً متكلماً على خطئهم حيث يسمون الكواكب أرباباً، ومنها قوله تعالى:{أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَباًّ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} ؟ وهذا نص على أن المشركين كانوا يبغون غير الله من الأصنام والأوثان رباً، ومنها قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ومنها قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ} فإن يوسف عليه السلام سماهم أرباباً لأنهم كانوا يسمونهم كذلك، ومنها قوله تعالى:{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} فهذا يدل على أن فرعون كان يثبت الربوبية لنفسه ولغيره من الأوثان.
قلت جوابه بوجوه:
(الأول) : أنه ليس في شيء من الآيات المذكورة أن مشركاً قال في حق غير الله تعالى أنه رب1 غير أن فرعون قال أنا ربكم الأعلى، وهو لم يكن مشركاً بالله
1 هذا النفي العام غير مسلم، فإن بعض البشر اتخذوا أرباباً من دون الله ومن اتخذ رباً سماه رباً إن كانت هذه التسمية لغة قومه، وقريش ما كانت تتخذ آلهتها أرباباً، والنصارى يسمون المسيح ربهم ولا يطلقون اسم الرب على من عبدوهم من دونه وإن اتخذوهم أرباباً وآلهة، وكذلك من اتبع سننهم من مبتدعة المسلمين كما تقدم، وراجع تفسير:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} الآية في الجزء العاشر من تفسير المنار، وقوم إبراهيم اتخذوا الكواكب أرباباً والأصنام آلهة، فراجع قصته في سورة الأنعام وتفسيرها في الجزء السابع من تفسير المنار، والمصنف ومن نقل عنهم ما كانوا يعرفون تاريخ الكلدانين وأمثالهم من القدماء. وكتبه محمد رشيد رضا.
بل دهرياً منكراً لله تعالى حيث قال: وما رب العالمين؟ إنما هو في بعضها اتخاذ الأرباب، وهذا ليس نصاً على أنهم مقرون بربوبيتهم، بل يحتمل أن يكون اتخذهم الأرباب بمعنى صرف شيء من العبادة إليهم، أو بمعنى اتباع ما شرعوا لهم من تحريم الحلال وتحليل الحرام، لا أنهم كانوا يطلقون لفظ الرب عليهم.
قال العلامة الإمام حسن بن خالد رحمه الله في (منفعة قوت القلوب في إخلاص توحيد علام الغيوب) : ومن هنا تعلم أن من صرف شيئاً من العبادة إلى غير الله فقد اتخذه إلهاً رباً، أما كونه اتخذه إلهاً فقد صار له مألوهاً والمألوه المعبود، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وقد سأله بعض حديثي الإسلام منهم أن يجعل لهم ذات أنواط فقال:"الله أكبر، هذا كما قال بنو إسرائيل اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة لتركبن سنن من كان قبلكم" أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه النسائي عن أبي واقد الليثي، مع أنهم لا يعبدون الشجرة ولا يسألونها، بل ينوطون بها أسلحتهم ومتاعهم، فجعل اتخاذهم لها لذلك اتخاذ آلهة، فما الظن بقصد مخلوق معظم لدعائه والهتف به عند الشدائد، فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بمن توحي إليهم الشياطين؟ وأما كونه قد اتخذه رباً فلتشبيهه لله في الربوبية، وقد قال الله تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} .
وسبب نزول هذه الآية ما ذكروا أن اليهود والنصارى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن يعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني" فأنزل الله تعالى في
ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} فالرسول نفى أن يعبد غير الله أو يأمر بعبادة غير الله في جوابه عليهم، والقرآن نزل بنفي أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، لأن الربوبية من لوازم الإلهية، فنفي أحدهما نفي للآخر، وإثبات أحدهما إثبات للآخر، لأن المعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر، ومن يملك النفع والضر فهو المعبود، فمن أثبت العبادة لأحد فقد أثبت له الربوبية، ومن أثبت الربوبية لأحد فقد أوجب له العبادة. اهـ.
وقال أيضاً فيه: إذا علمت أن معنى الرب المتصرف المالك، وأن معنى الإله المعبود، وأن معنى الآلاهة والألوهية العبادة والمعبودية، وأن العبادة هي أقصى مراتب الخضوع حباً وذلاً، علمت أن من قصد غير الله بشيء من العبادة أو أثبت له بعض خواص الرب سبحانه وتعالى فقد اتخذه رباً وإلهاً، سواء أطلق عليه اسم الإله أم لم يطلقه، فإن الإله المعبود، وغلب على المعبود بحق وهو الله تعالى. اهـ.
وفي بعضا قول الخليل عليه السلام هذا ربي، وهذا ليس نصاً على أن قومه عليه السلام يسمون الكواكب أرباباً، إذ في الآية أقوال:
منها: أنه كان هذا منه عليه السلام عند قصور النظر، لأنه في زمن الطفولية، وقيل كان بعد بلوغ إبراهيم عليه السلام، ثم اختلف في تأويل هذه الآية: فقيل أراد قيام الحجة على قومه كالحاكي لما هو عندهم وما يعتقدونه لأجل إلزامهم، وقيل معناه أهذا ربي؟ أنكر أن يكون مثل هذا رباً، وقيل المعنى وأنتم تقولون هذا ربي فأضمر القول، وقيل المعنى على حذف مضاف أي هذا دليل ربي.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: وقد اختلف المفسرون في هذا المقام هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلاً عليه بقوله:{لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} الآية، وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه حين
تخوفت عليه من نمرود بن كنعان لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه فأمر بقتل الغلمان عامئذ، فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم وتركته هناك، وذكر أشياء من خوارق العادات كما ذكره غيره من المفسرين من السلف والخلف، والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ليشفعوا لهم إلى الخالق عنده في الرزق وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة. اهـ.
قلت: لا يخفى عليك أن عبارة الحافظ دالة على أن مقصود إبراهيم عليه السلام بهذا القول بيان بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل، وهذا لا يتوقف على كون قومه قائلين بربوبية الهياكل، بل يستقيم هذا البيان على تقدير كون قومه جاحدين لربوبيتها أيضاً بأن يقال: إن هذه الهياكل إذ لا تصلح للربوبية فكيف تصلح للإلهية؟ وفي بعضها أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} ففيه بغى غير الله رباً وهو مثل اتخاذ الرب.
وقد عرفت فيما تقدم أن اتخاذ شيء رباً ليس نصاً على إقرار ربوبيته لاحتمال أن يكون اتخاذ الرب بمعنى صرف شيء من العبادة إليه، أو بمعنى اتباع ما شرعوا لهم، يدل عليه ما في التفاسير من أنه جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غيره سبحانه، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة والتوكل عليه: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} أي أطلب رباً سواه وهو رب كل شيء يربيني ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري، أي لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه لأنه رب كل شيء ومليكه، وله الخلق والأمر، ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل، كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له لا شريك له. اهـ.
وفي بعضها أن يوسف عليه السلام قال لصاحبي السجن: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ؟ وهذا ليس فيه تصريح أنهما كانا يطلقان لفظ الأرباب على الأصنام حتى يلزم إنكار توحيد الربوبية، بل يحتمل أن يكون المقصود بيان بطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام بأن القول بالأرباب المتفرقة باطل قطعاً لا يتأتى إنكاره من أحد من أهل العقل، وما لا يصلح للربوبية لا يصلح للعبادة، دل عليه قوله تعالى:{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: ثم إن يوسف عليه السلام أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما فقال: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ؟ الذي ذل كل شيء لعز جلاله وعظمة سلطانه. اهـ.
وجملة القول أنه ليس في آية من الآيات أن واحداً من المشركين قال إن غير الله رب حتى يلزم إنكار توحيد الربوبية.
و (الوجه الثاني) : أنه يحتمل أن يكون المراد بالرب في الآيات المذكورة المعبود، وقد عرفت فيما تقدم أن الرب ربما يجيء بمعنى المعبود.
و (الثالث) : أن الكلام في مشركي العرب، والآيات المذكورة أكثرها في حق غيرهم من مشركي أهل الكتاب وقوم إبراهيم وقوم يوسف عليهما السلام1 فلا يصح بتلك الآيات الاستدلال على أن مشركي العرب لم يكونوا مقرين بتوحيد الربوبية، ولعلك قد تفطنت من هاهنا فساد قول العلامة محمد بن إسماعيل الأمير حيث قال: "فإن قلت: أهل الجاهلية تقول في أصنامهما أنهم يقربونهم إلى الله زلفى كما تقوله القبورويون: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} كما تقوله القبوريون قلت: لا سواء. فإن القبوريين مثبتون التوحيد لله قائلون إنه لا إله إلا هو، ولو ضربت
1 هذا أوجه الوجوه الثلاثة وأصحها في المسألة. وكبته محمد رشيد رضا.
عنقه على أن يقول إن الولي إله مع الله لما قالها، بل عنده اعتقاد جهل أن الولي لما أطاع الله كان له بطاعته عنده تعالى جاه به تقبل شفاعته ويرجى نفعه، لا أنه إله مع الله، بخلاف الوثني فإنه امتنع عن قول لا إله إلا الله حتى ضربت عنقه زاعماً أن وثنه إله مع الله ويسميه رباً وإلهاً، قال يوسف عليه السلام:{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} سماهم أرباباً لأنهم كانوا يسمونهم بذلك كما قال الخليل: {هَذَا رَبِّي} في الثلاث الآيات، مستفهماً لهم مبكتاً متكلماً على خطئهم حيث يسمون الملائكة أرباباً وقالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} وقال قوم إبراهيم: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} ، {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبرَاهِيمْ} ؟ وقال إبراهيم:{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} ؟ ومن هنا يعلم أن الكفار غير مقرين بتوحيد الألوهية والربوبية كما توهمه من توهم من قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ -إلى قوله- فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} فهذا إقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما، لا إنه إقرار بتوحيد الربوبية، لأنهم يجعلون أوثانهم أرباباً كما عرفت. اهـ.
وجه الفساد أن الإقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما إقرار بتوحيد الربوبية، لما عرفت فيما تقدم من أن معنى الرب هو المالك المتصرف، وكون الله تعالى وحده خالقاً ورازقاً ونحوهما يستلزم كونه تعالى وحده مالكاً متصرفاً في جميع المخلوقات، على أن قوله تعالى في المؤمنون:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} نص على الإقرار بتوحيد الربوبية واضح، وقد علمت الجواب عما فيه من البحثين فتذكر، وأما قوله:"يجعلون أوثانهم أرباباً" فقد عرفت الجواب عنه فيما سلف بما لا يزيد عليه1.
1 وقد علمت مما سلف أيضاً أن الفرق بين المسلم والجاهلي في إطلاق اسم العبادة والإله أن التسمية عند الأول اصطلاحية وعند الثاني لغوية، فكل تعظيم ودعاء فيما هو فوق الأسباب يسمى عنده عبادة، ويسمى المعظم المطلوب منه ذلك معبوداً وإلهاً، لأن هذا مقتضى لغته، والمسلم ليس كذلك، فهو لا يعرف لهذه الأسماء إلا المعنى الشرعي وإن جهل أصله اللغوي، وكتبه محمد رشيد رضا.
قوله: ومما يعتقده هؤلاء الملحدة المكفرة للمسلمين أن قصد الصالحين والاعتقاد فيهم والتبرك بهم شرك أكبر.
أقول: جوابه قراءة قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، لم يقل أحد من الموحدين المتبعين للكتاب والسنة قط إن قصد الصالحين والاعتقاد فيهم والتبرك بهم شرك، سينال إن شاء الله تعالى هذا المفتري غضب من ربه وذلة في الحياة الدنيا، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ} إنما منعوا الناس أن يشدوا الرحال لزيارة قبور الصالحين وأين هذا من ذاك؟ ولم يقولوا فيه أيضاً إنه شرك أكبر، إنما قالوا إنه بدعة محرمة.
قوله: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صاحبيه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يقصدا أويس القرني ويسألاه الدعاء والاستغفار كما في صحيح مسلم.
أقول: ليس في صحيح مسلم في فضل أويس رضي الله عنه إلا حديث عمر رضي الله عنه وألفاظه مختلفة، وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال:"إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع باليمين غير أم له، قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم"، وفي لفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة، وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم"، وفي لفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل" فاستغفر لي، فاستغفر له. اهـ.
وليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صاحبيه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أن يقصداً أويساً، ولو كان هذا اللفظ واقعاً في حديث لما كان فيه حجة للخصم أيضاً، فإن هذا اللفظ لا يقتضي جواز شد الرحال لزيارة الأحياء فضلاً عن جوازه لزيارة الأموات الذي كلامنا فيه، وما ورد في صحيح مسلم ليس فيه إلا أنه إن جاءنا
أحد من أهل الخير والصلاح فمن لقيه منا فطلب الدعاء له منه جائز، وهذا لا ينكره أحد.
قوله: وأما التبرك بآثار الصالحين –إلى قوله- ليس فيه شيء من الإشراك ولا الحرمة، وإنما هؤلاء القوم يلبسون على المسلمين توصلاً إلى أغراضهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أقول: هذه إطالة لا طائل تحتها، فإنه ليس أحد منا معاشر أهل التوحيد والسنة منكراً للتبرك بآثار الصالحين، إنما نمنع شد الرحال لزيارة قبور الصالحين ودعاء الأموات وطلب الدعاء منهم، والروايات المذكورة ليس فيها أثر من جواز هذه الأمور.
قوله: كان محمد بن عبد الوهاب الذي ابتدع هذه البدعة يخطب للجمعة في مسجد الدرعية ويقول في كل خطبة: ومن توسل بالنبي فقد كفر.
أقول: هذه المسألة من المسائل التي أجاب الشيخ نفسه عنها في الرسالة التي كتباه إلى عبد الله بن سحيم بما نصه:
فهذه اثنا عشر1 مسألة جوابي فيها أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، ولكن قبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم ويسب الصالحين:{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيز في النار فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآية.
قال الشيخ حسن بن غنام الاحسائي في روضة الأفكار والأفهام: (العاشرة) قولهم في الاستسقاء لا بأس بالتوسل بالصالحين، وقول أحمد يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع قولهم إنه لا يستغاث بمخلوق، فالفرق ظاهر جداً، وليس الكلام مما نحن فيه، فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالحين، وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه، هذه المسألة من مسائل الفقه، ولو كان الصواب
1 الصواب اثنتا عشرة
عندنا قول الجمهور أنه مكروه فلا ننكر على من فعله ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، لكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى ويقصد القبر يتضرع عند الشيخ عبد القادر أو غيره يطلب منه تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإعطاء الرغبات، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصاً له الدين؟ لا يدعو مع الله أحداً، ولكن يقول في دعائه أسألك بنبيك أو بالمرسلين أو بعبادك الصالحين أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده لكن لا يدعو إلا الله يخلص له الدين، فأين هذا مما نحن فيه؟ اهـ.
وقال بعض المحققين في الرد على كتاب (جلاء الغمة) : إذا ظهر هذا وعرفت أن كلام الشيخ متجه لا غبار عليه فاعلم أن قول هذا الملحد "فجعل بكلامه هذا كما ترى التوسل بذوات الصالحين والرسل عليهم الصلاة والسلام وطلبه جل وعلا بأوليائه من دين المشركين الشرك الأكبر المخرج عن الملة وكفر به كما ترى صريحاً من قوله" تمويه وتلبيس أدخل فيه قوله وطلبه جل وعلا بأوليائه ليوهم الجهال ومن لا علم عندهم بحقيقة الحال.
وموضوع الكلام أن مراد الشيخ مسألة التوسل في دعاء الله بجاه الصالحين وهذه المسألة، ودعاء الصالح وقصده فيما لا يقدر عليه إلا الله مسألة أخرى، فخلطهما ليروج باطله فقبحا قبحاً، وسحقا سحقاً، لمن ورث اليهود وحرف الكلم عن مواضعه، وكلام الشيخ صريح فيمن دعا مع الله إلهاً آخر في حاجاته وملماته، وقصده بعباداته فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، كحال من عبد عبد القادر، أو أحمد البدوي، أو العيدروس، أو علياً، أو الحسين، ومع هذا الصنيع الفظيع والشرك الجلي يقول أنا لا أشرك بالله شيئاً، وأشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله، ظناً منهم أن ذلك هو الإسلام فقط، وأنه ينجو به من الشرك وما رتب عليه، فكشف الشيخ شبهته، وأدحض حجته، بما تقدم من الآيات:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
وأما مسألة الله بحق أنبيائه وأوليائه أو بجاههم بأن يقول السائل: اللهم إني أسألك بحق أنبيائك وأوليائك أو نحو هذا فليس الكلام فيه، ولم يقل الشيخ أنه شرك ولا
له ذكر في كلامه، وحكمه عند أهل العلم معروف، وقد نص على المنع منه جمهور أهل العلم بل ذكر الشيخ1 في رده على ابن البكري أنه لا يعلم قائلاً بجوازه إلا ابن عبد السلام في حق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجزم بذلك بل علق القول به على ثبوت حديث الأعمى وصحته، وفيه من لا يحتج به عند أهل الحديث، وعلى تسليم صحته فليس الكلام فيه، وفي المثل: أريها السهى وتريني القمر2. اهـ.
وأيضاً قال فيها: والتوسل صار مشتركاً في عرف كثير، فبعض الناس يطلقه على قصد الصالحين ودعائهم وعبادتهم مع الله، وهذا هو المراد بالتوسل في عرف عباد القبور وأنصارهم وهو –عند الله ورسوله وعند أولي العلم من خلقه- الشرك الأكبر والكفر البواح، والأسماء لا تغير الحقائق، ويطلق أيضاً –في عرف السنة والقرآن وأهل العلم بالله ودينه- على التوسل والتقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الإيمان به وتوحيده وتصديق رسله وفعل ما شرعه من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها كما توسل أهل (الغار) الثلاثة بالبر والعفة والأمانة، فإذا أطلق التوسل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله وكلام أهل العلم من خلقه فهذا هو المراد، لا ما اصطلح عليه المشركون الجاهلون بحدود ما أنزل الله على رسوله، فلبس هذا المعترض بكلمة مشتركة ترويجاً لباطله. اهـ.
قلت: وقد علمت تحقيق التوسل وحكمه، وما يجوز من أفراده وما لا يجوز، وما كان منها شركاً وما ليس بشرك فيما تقدم بما لا مزيد عليه فتذكر.
قوله: وكان أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب من أهل العلم، فكان ينكر عليه إنكاراً شديداً في كل ما يفعله أو يأمر به، ولم يتبعه في شيء مما ابتدعه، وقال له أخوه سليمان يوما: كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب؟ فقال: خمسة. فقال: أنت جعلتا ستة، السادس من لم يتبعكم فليس بمسلم، هذا عندك ركن سادس للإسلام.
1 يعني شيخ الإسلام تفي الدين بن تيمية.
2 السهى نجم صغير بقرب صورة الدب الأكبر يمتحن به حدة البصر لشدة صغرة.
أقول: لعل هذا وأمثاله مأخوذ من كتاب (جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة) ، فلأنقل أولاً لفظ هذا الكتاب، ثم نذكر ما قال بعض المحققين في الرد عليه، قال المعترض في كتاب جلاء الغمة: ولكن هذا الرجل جعل طاعته ركناً سادساً للأركان الخمسة كما قال ذلك أخوه لأمه وأبيه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب حين خطأه فلم يقبل، ونهاه عن سفك الدماء ونهب الأموال فلم يفعل.
وقال بعض المحققين في الرد عليه ما نصه: والجواب أن يقال: قد علم أهل العلم والإيمان براءة الشيخ من هذا، وأن دعوته إلى طاعة الله ورسوله، يأمر بتوحيده وينهى عن الشرك به وعن معصيته ومعصية رسوله، ويصرح بأن من عرف الإسلام ودان به فهو مسلم في أي زمان وأي مكان، ويشهد الله كثيراً في رسائله ويشهد أولي العلم من خلقه أن أعداءه إن جاءوه عن الله أو عن رسوله بدليل يرد شيئاً من قوله ويحكم بخطئه ليقبلنه على الرأس والعين، ويترك ما خالفه أو عارضه، وهذا معروف بحمد الله، وإنما يرميه بمثل هذا البهت وينسبه إليه من جعل زوره وقدحه في أهل العلم والإيمان جسراً يتوصل منه ويعبر إلى ما انطوى عليه وزينه له الشيطان من عبادة الصالحين والتوسل بهم، وعدم الدخول تحت أمر أولي العلم وترك القبول منهم، والاستغناء بما نشأ عليه أهل الضلال واعتادوه من العقائد الضالة والمذاهب الجائرة، قال تعالى حاكياً عن فرعون وقومه فيما رموا به كليمه موسى ونبيه هارون عليهما السلام من قصد العلو والدعوة إلى أنفسهما:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} وقال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ. فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ. فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} .
فانظر إلى ما أفادته اللام، إن كنت من ذوي الألباب والأفهام، وقال تعالى عن قوم نوح إنهم قالوا لنبيهم:{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} .
فانظر يا من نور الله عليه قلبه ما زعم هذا المعترض ونزله على هذه الآيات
الكريمات تعرف أن آل فرعون وقوم نوح لهم ورثة وأتباع، وعصابة وأشياع، يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، ويستكبرون على الرسل وأعلام الهدى تعاظماً وحرجاً، ولا بد من الحساب يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وقد رأيت رسالة لشيخنا رحمة الله تعالى تشهد لما قررناه ونصها:
من محمد بن عبد الوهاب إلى الأخ حمد التويجري، ألهمه الله رشده. وبعد: وصل الخط1 أوصلك الله إلى ما يرضيه، وأشرفنا على الرسالة المذكورة، وصاحبها ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد رحمه الله وما تضمنته الرسالة من الكلام في الصفات مخالف لعقيدة الإمام أحمد رحمه الله، وما تضمنته من الشبه الباطلة في تهوين أمر الشرك بل في إباحته فمن أبين الأمور بطلاناً لمن سلم من الهوى والتعصب، وكذلك تمويهه على الطغام بأن ابن عبد الوهاب يقول: الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله، فهو المسلم في أي زمان وأي مكان، وإنما نكفر من أشرك بالله في الإلهية بعد ما تبين له الحجة على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها وسعى في إزالتها، والله المستعان. اهـ. المقصود منه.
وأما نسبة ذلك إلى أخيه سليمان فلا مانع من ذلك لولا وجوب رد خبر هذا الفاسق وعدم قبوله إلا بعد التبين، ثم لو فرضت صحته فمن سليمان، وما سليمان؟
هذه دلائل السنة والقرآن تدفع في صدره، وتدرأ في نحره، وقد اشتهر ضلاله ومخالفته لأخيه مع جهله وعدم إدراكه لشيء من فنون العلم.
وقد رأيت له رسالة يعترض فيها على الشيخ وتأملتها فإذا هي رسالة جاهل بالعلم
1 أي الكتاب والخطاب والرسالة.
والصناعة، مزجى التحصيل والبضاعة، لا يدري ما طحاها، ولا يحسن الاستدلال بذلك على من فطرها وسواها.
هذا وقد من الله -وقت تسويد هذا- بالوقوف على رسالة سليمان فيها البشارة برجوعه عن مذهبه الأول، وأنه قد استبان له التوحيد والإيمان، وندم على ما فرط من الضلال والطغيان، وهذا نصها.
بسم الله الرحمن الرحيم
من سليمان بن عبد الوهاب، إلى الأخوان أحمد بن محمد التويجري وأحمد ومحمد ابني عثمان بن شبانة.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليكم الله تعالى الذي لا إله إلا هو، وأذكركم ما من الله به علينا وعليكم من معرفة دينه، ومعرفة ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من عنده، وبصرنا من العمى، وأنقذنا من الضلالة، وأذكركم بعد أن جئتمونا في الدرعية من معرفتكم الحق على وجهه، وابتهاجكم به، وثنائكم على الله الذي أنقدكم، وهذه آدابكم في سائر مجالسكم عندنا، وكل ما جاءنا من حمد الله1 يثني عليكم والحمد لله على ذلك، وكتبت لكم بعد ذلك كتابين غير هذا أذكركم وأحضكم، ولكن يا إخواني معلومكم ما جرى منا من مخالفة الحق واتباعنا سبل الشيطان ومجاهدتنا في الصد عن اتباع سبل الهدى، والآن معلومكم لم يبق من أعمارنا إلا اليسير، والأيام معدودة، والأنفاس محسوبة، والمأمول منا أن نقوم لله، ونفعل الهدى أكثر ما فعلنا مع الضلال، وأن يكون ذلك لله وحده لا شريك له، لا لما سواه، لعل الله سبحانه يمحو عنا سيئات ما مضى وسيئات ما بقي، ومعلومكم عظم الجهاد في سبيل الله وما يكفر من
1 في نسخة تصحيح خطي: جاءنا من المجمعة.
الذنوب، وأن الجهاد باليد والقلب واللسان والمال، وتفهمون أجر من هدى الله به رجلاً واحداً والمطلوب منكم أكثر مما تفعلون الآن، وأن تقوموا لله قيام صدق، وأن تبينوا للناس الحق على وجهه، وأن تصرحوا لهم تصريحاً بيناً بما أنتم عليه من الغي والضلال، فيا إخواني الله الله، فالأمر أعظم من ذلك، فلو خرجنا نجأر إلى الله في الفلوات وعدّنا الناس من السفهاء والمجانين في ذلك لما كان بكثير منا، وأنتم رؤساء الدين، ومكانكم أعز من الشيوخ، والعوام كلهم تبع لكم، فاحمدوا الله على ذلك، ولا تعلثوا1 بشيء من الموانع، وتفهمون أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يرى ما يكره، ولكن أرشدكم في ذلك إلى الصبر كما حكى عن العبد الصالح في وصيته لابنه، فلا أحق من أن تحبوا لله، وتبغضوا لله، وتوالوا لله، وتعادوا لله، وترى يعرض في هذا أمور شيطانية وهي أن من الناس من ينتسب لهذا الدين، وربما يلقي الشيطان لكم أن هذا ما هو بصادق وأن له ملحظاً دنيوياً، وهذا أمر ما يطلع عليه إلا الله، فإذا أظهر أحد الخير فاقبلوا منه ووالوه، فإذا ظهر من أحد شر وإدبار عن الدين فعادوه واكرهوه، ولو أحب حبيب، وجامع الأمر في هذا أن الله خلقنا لعبادته وحده لا شريك له، ومن رحمته بعث لنا رسولاً يأمرنا بما خلقنا له ويبين لنا طريقه، وأعظم ما نهانا عنه الشرك بالله وعداوة أهله2، وبغضهم - وتبيين الحق وتبيين الباطل، فمن التزم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أخوك، ولو أبغض بغيض، ومن نكب عن الصراط المستقيم فهو عدوك، ولو ولدك أو أخوك، وهذا شيء أذكركموه، مع أنى بحمد الله أعلم أنكم تعلمون ما ذكرت لكم، ومع هذا فلا عذر لكم عن التبيين الكامل الذي لم يبق معه لبس، وأن تذاكروا دائماً في مجالسكم
1 هكذا في الأصل بالثاء المثلثة يقال علث البر بالشعير إذا خلطه به، ويجوز أن تكون الكلمة محرفة أو مصحفة. وكتبه وما قبله محمد رشيد رضا.
2 هكذا في الأم ولا يستقيم معناه، فلعله سقط منه شيء. اهـ. من حاشية الطبع وزاد فيه بعضهم بالخط. وأمرنا بعداوة أهله.
ما جرى منا ومنكم أولاً، وأن تقوموا مع الحق أكثر من قيامكم مع الباطل، فلا أحق من ذلك ولا لكم عذر، لأن اليوم الدين والدنيا ولله الحمد مجتمعة في ذلك، فتذكروا ما أنتم فيه أولاً في أمور الدنيا من الخوف والأذى والاعتداء، واعتلاء الظلمة والفسقة عليكم، ثم رفع الله ذلك كله بالدين، وجعلكم السادة والقادة، ثم أيضاً ما من الله به عليكم من الدين.
انظروا إلى مسألة واحدة، فمما نحن فيه من الجهالة كون البدو نجري عليهم أحكام الإسلام مع معرفتنا أن الصحابة قاتلوا أهل الردة وأكثرهم متكلمون بالإسلام، ومنهم من أتى بأركانه، ومع معرفتنا أن من كذب بحرف من القرآن كفر ولو كان عابداً، وأن من استهزأ بالدين أو بشيء منه فهو كافر، وأن من جحد حكماً مجمعاً عليه فهو كافر – إلى غير ذلك من الأحكام المكفرات – وهذا كله مجتمع في البدوي وأزيد، وتجري عليهم أحكام الإسلام اتباعاً لتقليد من قبلنا بلا برهان.
فيا إخواني تأملوا وتذاكروا في هذا الأصل يدلكم على ما هو أكثر من ذلك، وأنا أكثرت عليكم الكلام لوثوقي بكم أنكم ما تشكون في شيء فيما تحاذرون، ونصيحتي لكم ولنفسي، والعمدة في هذا أن يصير دأبكم في الليل والنهار أن تجأروا إلى الله أن يعيذكم من أنفسكم وسيئات أعمالكم، وأن يهديكم إلى الصراط المستقيم، الذي عليه رسله وأنبياؤه وعباده الصالحون، وأن يعيذكم من مضلات الفتن، فالحق واضح وأبلولج {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} .
فالله الله تروا الناس اللي1 في جهاتكم تبع لكم في الخير والشر، فإن فعلتوا ما ذكرت لكم ما قدر أحد من الناس يرميكم بشر، وصرتوا كالأعلام هداة للحيران، فإن الله سبحانه وتعالى هو المسئول أن يهدينا وإياكم سبل السلام، والشيخ وعياله وعيالنا طيبين ولله الحمد ويسلمون عليكم، وسلموا لنا على من يعز عليكم، والسلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، اللهم اغفر لكاتبه ولوالديه ولذريته، ولمن نظر فيه فدعا له بالمغفرة والمسلمين والمسلمات أجمعين.
فأجابوه برسالة ينبغي أن تذكر ونصها:
1 اللي كلمة عامية بمعنى: الذي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا سيد المرسلين، من كاتبه الفقير أحمد التويجري وأحمد بن عثمان وأخيه محمد، إلى منْ منّ الله علينا وعليه باتباع دينه، واقتفاء هدى محمد صلى الله عليه وسلم نبيه وأمينه، الأخ سليمان بن عبد الوهاب، زادنا الله وإياه من التقوى والإيمان، وأعاذنا وإياه ممن نزغات الشيطان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعد إبلاغ الشيخ وعياله وعبد الله وإخوانه السلام.
وبعد فوصل إلينا نصيحتكم جعلكم الله من الأئمة الذين يهدون بأمره الداعين إليه وإلى دين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فنحمد الله الذي فتح علينا وهدانا لدينه، وعدلنا عن الشرك والضلال، وأنقذنا من الباطل والبدع المضلة، وبصرنا بالإسلام الصرف الخالي عن شوائب الشرك، فلقد من الله علينا وعليكم، فله الفضل والمنة بما نور لنا من اتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدلنا عن سبيل من ضل وأضل بلا برهان، ونسأله أن يتوب علينا وعليكم ويزيدنا من الإيمان، فلقد خصنا فيما مضى بالعدول عن الحق ودحضناه، وارتكبنا الباطل ونصرناه، جهلاً منا وتقليداً لمن قبلنا، فحق علينا أن نقوم مع الحق قيام صدق أكثر مما قمنا مع الباطل على جهلنا وضلالنا.
فالمأمول والمبغي منا ومنكم وجميع إخواننا التبيين الكامل الواضح، لئلا يغتر بأفعالنا الماضية من يقتدي بجهلنا، وأن نتمسك بما اتضح وابلولج من نور الإسلام وما بين الشيخ محمد رحمه الله تعالى من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. فلقد حاربنا الله ورسوله واتبعنا سبيل الغي والضلال، ودعونا إلى سبيل الشيطان، ونكبنا كتاب الله وراء ظهورنا جهلاً منا وعداوة، وجاهدنا في الصد عن دين الله ورسوله، واتبعنا كل شيطان تقليداً وجهلاً بالله، فلا حول ولا قوة إلا بالله {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} .
فالواجب منا لما رزقنا الله معرفة الحق أن نقوم معه أكثر وأكثر من قيامنا
مع الباطل، ونصرح بالتبيين للناس بأنا على باطل فيما فات، ونقوم له مثنى وفرادى، ونتوكل على الله عسى أن يتوب علينا، ويعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يهدينا سبل السلام، ويجعلنا من الداعين إلى الهدى، لا من الدعاة إلى النار، فنحمد الله الذي لا إله إلا هو حيث من علينا بهذا الشيخ في آخر هذا الزمان، وجعله بإذنه وفضله هادياً للتائه الحيران، نسأل الله العظيم أن يمتع المسلمين به ويعيذه من شر كل حاسد وباغ، ويبارك في أيامه، وأن يجعل جنة الفردوس مأواه وإيانا، وأن ينفعنا بما بينه، فلقد بين دين نبيه صلى الله عليه وسلم على رغم أنف كل جاحد، وصار علماً للحق حين طمس، ومصباحاً للهدى حيث درست أعلامه ونكس، وأطفأ الله به الشرك بعد ظهوره حين عبدت الأوثان صرفاً بلا رمس، ولم يزل –من الله عليه برضاه– ينادي: أيها الناس هلموا إلى دين نبيكم الذي بعث به إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ثم لم ينقم منه وعليه ألا أن يقول: أيها الناس اعبدوا ربكم وأعطوه حقه الذي خلقكم لأجله، وخلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، إن الله تعالى يقول:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . وقال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} . وفسر إسلام الوجه بالقصد في العبادة، فإذا دعا غير الله أو نذر لغير الله أو استغاث بغير الله أو توكل على غير الله أو التجأ إلى غير الله، فهذه عبادة لمن قصد بذلك، هذا والله الشرك الأكبر، وإنا نشهد بذلك، وقمنا مع أهله ثلاثين سنة، وعادينا من أمر بتجريد التوحيد العداوة البينة، التي ما بعدها عداوة.
فالواجب علينا اليوم نصر الله ودينه وكتابه ورسوله، والتبري من الشرك وأهله، وعداوتهم وجهادهم اليد واللسان، لعل الله أن يتوب علينا ويرحمنا، ويستر مخازينا، وأكبر من هذا البدو الذين لا يدينون دين الحق، لا يصلون ولا يزكون ولا يورثون، ولا لهم نكاح صحيح، ولا حكم عن الله ورسوله يدينون به صريح، ونقول هم إخواننا في الإسلام {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . ومكابرة لما جاء به رسول رب العالمين،
فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل من هذا شيء لم يكن الرجل مسلماً، فإذا عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس، وإن عمل بالتوحيد ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق شر من الكافر، أعاذنا الله وإياكم من الخزي يوم تبلى السرائر.
فالواجب علينا وعلى من نصح نفسه أن يعمل العمل الذي يحصل به فكاك نفسه، وأن يعبد الله ولا يعبد غيره، فالعبادة حق الله على العبيد، ليس لأحد فيها شرك، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن السفلة والشياطين، وحق الله علينا أن نجأر إليه بالليل والنهار والسر والعلانية في الخلوات والفلوات، عسى أن يتوب علينا ويعفو عنا ما فات، ويعيذنا من مضلات الفتن، فالحق بحمد الله وضح وابلولج {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَاّ الضَّلالُ} . ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. انتهى ما قاله بعض المحققين في الرد على (جلاء الغمة) .
قوله: وقال رجل آخر يوماً لمحمد بن عبد الوهاب: كم يعتق الله كل ليلة في رمضان؟ فقال له يعتق كل ليلة مائة ألف، وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله، فقال له: لم يبلغ من اتبعك عشر عشر ما ذكرت، فمن هؤلاء المسلمون الذين يعتقهم الله تعالى وقد حصرت المسلمين فيك وفيمن اتبعك؟ فبهت الذي كفر. اهـ.
أقول: جوابه على وجوه:
(الأول) عدم الاعتماد على خبر الفاسق الكاذب المفتري إلا بعد التبين.
و (الثاني) أن نفس هذا الخبر والحكاية ما يقتضي كذبه من أن محمد بن عبد الوهاب قال له: "يعتق في كل ليلة مائة ألف، وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله". فإن هذا العدد لم يقع في حديث صحيح ولا حسن، إنما وقع في رواية
ضعيفة شديدة الضعف أو موضوعة1، ومحمد بن عبد الوهاب بحمد الله تعالى كان من نقاد أهل الحديث، فكيف يتصور أن يجيب بهذا الجواب السخيف الساقط؟ نعم جاء في حديث "ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة". وفي حديث "إنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان". وعلى هذا فليس فيه إشكال، على أن هذين الحديثين أيضاً فيهما مقال، أما الأول فلأن الترمذي قال في جامعه بعد ذكر هذا الحديث: وحديث أبي هريرة الذي رواه أبو بكر بن عياش حديث غريب لا نعرفه من رواية أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة إلا من حديث أبي بكر، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال أخبرنا الحسن بن الربيع أخبرنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مجاهد قوله قال:"إذا كان أول ليلة من شهر رمضان" فذكر الحديث. قال محمد: وهذا أصح عندي من حديث أبي بكر بن عياش، وأما الثاني فلأن في سنده هشام بن زياد أبا المقدام ضعفه أحمد وغيره، قال النسائي: متروك، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات، وقال أبو داود: كان غير ثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه. كذا في الميزان.
و (الثالث) أن عدد المعتقين الواقع في الرواية المذكورة في هذه الحكاية إن كان في كل زمان، فهذا في غاية السقوط فإنه لا يصدق في زمان بداية الإسلام حين كان المسلمون قليلين لم يبلغوا هذا العدد، وإن كان في بعض الزمان فقد بلغ أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض الزمان أضعاف أضعاف العدد المذكور، على أنه لو فرض عدم بلوغ أتباع الشيخ هذا العدد فأي محذور على هذا التقدير؟ إذ وجود المسلمين قبل زمان الشيخ أو بعده موافقاً لهذا العدد كاف في صدق هذه الرواية.
و (الرابع) أن صدقه في كل زمان من أوضح الأباطيل، إذ يجيء في قرب الساعة زمان يقبض فيه روح كل مؤمن، فكيف يصدق هذا الحديث؟ فهو إما باطل
1 الرواية موضوعة قطعاً، ولو عقل هذا المفتري لعلم أن ما أورده على الشيخ يرد على أتباع النبي صلى الله عليه وسلم في عصره، إذ لم يكونوا يبلغون عشر هذا العدد في الحديث الموضوع. وكتبه محمد رشيد رضا.
أو مؤول بأن يحمل على زمان يبلغ فيه عدد المسلمون هذا المبلغ أو يزيد، وهذا التأويل كما يمكن من جانب من ليس من أتباع الشيخ كذلك يمكن من جانب أتباعه غير فرق.
و (الخامس) أن بناء هذا التشنيع على أن يكون الشيخ قائلاً بحصر المسلمين في نفسه وأتباعه، وقد علم فيما تقدم أن هذا افتراء على الشيخ صريح.
وأما قول المؤلف في حق الشيخ "فبهت الذي كفر" فجرأة عظيمة على النار والكفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" والشيخ رحمه الله بحمد الله تعالى بريء من الكفر فقد باء بها هذا المؤلف.
قوله: ولما طال النزاع بينه وبين أخيه خاف أخوه أن يأمر بقتله فارتحل إلى المدينة المنورة وألف رسالة في الرد عليه وأرسلها له فلم ينته.
أقول: هذا كان حين تبين غيه وضلاله، ومخالفته للشيخ، وأما بعده فقد رجع أخوه عن مذهبه الأول، وقد استبان له التوحيد والإيمان، وندم على ما فرط من الضلال والطغيان، وقد علمته فيما تقدم.
قوله: وألف كثير من علماء الحنابلة وغيرهم رسائل في الرد عليه، وأرسلوها له فلم ينته.
أقول: جوابه من وجوه:
(الأول) أن كثيراً من العلماء المحققين أجابوا عن تلك الرسائل وانتصروا للشيخ.
و (الثاني) أن رد كثير من العلماء على الشيخ لا يقتضي بطلان ما عليه الشيخ وحقية ما عليه خصومه، إنما معيار الحقيقة شهادة الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وإذا كان قوله وعمله موافقاً للثقلين1، فلا مبالاة بمخالفة أحد كائناً من كان.
و (الثالث) أن غير واحد من علماء الصحابة والتابعين وتبع التابعين قد خالفه
1 أي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كثير من العلماء فهذا مما يشارك الشيخ فيه غيره فلا وجه للطعن.
قوله: وقال له رجل آخر مرة وكان رئيساً على قبيلة بحيث أنه لا يقدر أن يسطو عليه: ما تقول إذا أخبرك رجل صادق ذو دين وأمانة وأنت تعرف صدقه بأن قوماً كثيرين قصدوك وهم وراء الجبل الفلاني فأرسلت ألف خيال ينظرون القوم الذين وراء الجبل فلم يجدوا أثراً ولا أحد منهم، بل ما جاء تلك الأرض أحد، أتصدق الألف أم الواحد الصادق عندك؟ فقال: أصدق الألف، فقال له: إن جميع المسلمين من العلماء الأحياء والأموات في كتبهم يكذبونك فيما أتيت به، ويزيفونه فنصدقهم ونكذبك؟ فلم يعرف جواباً لذلك.
أقول: الجواب عليه من وجوه:
(الأول) عدم الاعتماد على هذا النقل.
(الثاني) أن ما حكاه عن الشيخ في جواب الصورة المفروضة من أنه قال "أصدق الألف" لا يتصور أن يكون جواباً صحيحاً عموماً، بل إذا كان الألف ذوي صدق ودين وأمانة ممن لا يخافون في الحق لومة لائم، وأما من ليس بذي صدق أو دين أو أمانة أو يخاف الناس كخشية الله فليكن الجواب على عكس ما حكى الشيخ وحين حكى الجواب عموماً، فهذا أدل دليل على كذب هذه الحكاية.
(الثالث) أن هذا المثل ليس في محله، فإن ما عليه الشيخ ليس خبر رجل صادق ذي دين وأمانة، بل هو قول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، فلا اعتداد بقول من خالفه وإن كانوا ألوفاً، إذ الشيخ لم يدع إلى رأيه أو إلى رأي أحد من الصحابة أو التابعين، أو تبع التابعين، أو رأي غيرهم من العلماء، إنما دعا إلى إخلاص التوحيد الذي هو منطوق صريح لغير واحدة من الآيات1.
(الرابع) أن قول السائل "إن جميع المسلمين من العلماء الأحياء والأموات في كتبهم يكذبونك فيما أتيت به ويزيفونه" كذب صريح، هذا شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم وابن كثير وابن عبد الهادي وغيرهم من أهل التوحيد ممن قبل الشيخ يصدقون الشيخ فيما أتى به، بل لو ادعى أن جميع المسلمين من العلماء الأحياء والأموات
1 بل آيات التوحيد بأنواعها تعد بالمئات.
موافقون للشيخ لكان له وجه1 فإن كلهم يقولون: إن الدعاء عبادة، وعبادة غير الله شرك.
قوله: وقال له رجل آخر مرة: هذا الدين الذي جئت به متصل أم منفصل؟ فقال له مشايخي ومشايخهم إلى ستمائة سنة كلهم مشركون، فقال له الرجل: إذاً دينك منفصل لا متصل، فعمن أخذته؟ فقال: وحي إلهام كالخضر، فقال له: إذاً ليس ذلك محصوراً فيك، كل أحد يمكنه أن يدعي وحي الإلهام الذي تدعيه.
أقول: هذا افتراء على الشيخ واضح، لم يقل الشيخ قط إن مشايخي ومشايخهم إلى ستمائة سنة كلهم مشركون، وإن ديني وحي إلهام، وراويه أحد الكاذبين، ومن يدعي صحته فعليه البيان.
قوله: ثم قال له: إن التوسل مجمع عليه –إلى قوله– فلا وجه لك في التفكير أصلاً.
أقول: لعل هذه الحكاية مجعولة، فإن الشيخ قد قال في الرسالة التي كتبها إلى عبد الله بن سحيم في جواب هذا الطعن {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} .
قوله: هذا حجة عليك، فإن استسقاء عمر بالعباس إنما كان لإعلام الناس بصحة الاستسقاء والتوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول: هذا ادعاء بلا دليل، بل يرده لفظ الحديث، فإن فيه أن عمر رضي الله
1 الحق الواقع أن ما دعا إليه الشيخ من التوحيد هو ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه وجميع المسلمين في خير القرون، ثم نجمت قرون الشرك وسمي بغير اسمه، فلما فشا في العوام كان شيخ الإسلام ابن تيميه أول من قاومه وأطال الحجج في دحض شبهاته وتفنيد خرافاته، ولم يخالفه في هذا أحد من علماء عصره، بل قال بعضهم: إنه نبهنا لأمر كنا غافلين عنه، اللهم إلا ابن البكري ألف رسالة في الرد عليه وعرضها على علماء الأزهر وغيرهم ليجيزوها فلم يوافقه عليها أحد، وكان من فروعها بدع الزيارة وشد الرحال خالفه فيها تقي الدين السبكي، ولكنه لم يبح دعاء غير الله تعالى لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وإنما كثر المضلون في هذه المسألة بعد ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأن الجهل بالتوحيد صار أعم، ولأن الله تعالى سخر له آل سعود، فأسسوا للإسلام دولة عربية أفزعت الدولة التركية فقاتلت الدولة العربية وجعلت دعوى الدين حجة لها. وكتبه محمد رشيد رضا.
عنه قال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. هذا لفظ البخاري، وهو عند الإسماعيلي من رواية محمد بن المثنى عن الأنصاري بإسناد البخاري إلى أنس قال: كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استقوا به فيستسقي لهم فيسقون، فلما كان في إمارة عمر.. فذكر الحديث، هكذا في الفتح.
قوله: وكيف نحتج باستسقاء عمر بالعباس وعمر هو الذي روى حديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخلق؟
أقول: قد عرفت فيما تقدم أن هذا الحديث واه جداً لا يصلح لأن يحتج به.
قوله: فبهت وتحير وبقي على عماوته ومقابحه الشنيعة.
أقول: هذا كذب فيما أظنه بيّن، كيف وقد يعلم ضعف حديث التوسل من له أدنى إلمام بفن الجرح والتعديل، فلا وجه للبهت والتحير.
قوله: ومن مقابحه أنه لما منع الناس من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم خرج ناس من الأحساء وزاروا النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول: هذا كذب وافتراء، فإن الشيخ قال في جواب اثنتي عشر مسألة، منها إنكار زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه: فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . هكذا قال الشيخ في الرسالة التي كتبها إلى عبد الله ابن سحيم.
قوله: وبلغه مرة أن جماعة من الذين لم يتابعوه من الآفاق البعيدة قصدوا الزيارة والحج.
أقول: هذا افتراء بحت، ألم تر أن الشيخ نفسه قد قصد مدينته عليه الصلاة والسلام وأقام فيها شهرين ثم رجع بعد ذلك فائزاً بأجر الزيارة والمناسك، كذا في (روضة الأفكار) وقد نقلت فيما تقدم عبارتها الطويلة.
قوله: وكان ينهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم –إلى قوله– وأحرق دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول: قد أجاب الشيخ في بعض رسائله عن هذا بقوله: وأما دلائل الخيرات فلذلك سبب، وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجلّ من كتاب الله، ويظن أن القراءة فيه أنفع من قراءة القرآن1.
وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان، كذا في (روضة الأفكار) . وأيضاً فيها: وأما قوله وأحرق أيضاً "روض الرياحين" وسماه روض الشياطين فهذا من الكذب والزور المبين. اهـ.
وأما قوله وأبطل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة وليلتها، فهذا الكلام مع بشاعة لفظه فيه إيهام وإبهام، وتشنيع بظاهره عند العوام، وتنفير لهم من توحيد الملك العلام، فإن الشيخ رحمه الله لم ينه عن ذلك ولم يبطله، إلا الفعل الذي يفعل في كثير من البلدان، وقد أبطله جماعة قبله من الأعيان، وأنكره جماعة من نقاد هذا الشأن، وقالوا لا يتقرب إلى الله تعالى [به] ولا يدان، لأنه بدعة محضة أظهرها في مقام العبادة الشيطان. اهـ.
وقال أيضاً فيه وليعلم القارئ لهذا الكتاب، والواقف على هذا الخطاب، أن البيان عن ذلك في الجواب، أن الذي أنكره من غير شك ولا ارتياب، هو ما يفعل في غالب الأمصار، ويعمل في كثير من الأقطار، لا سيما الحرمين كما صح بالمشاهدة والأخبار، وذلك أنه يصعد ثلاثة أو أكثر على رؤوس المنار، ويقرءون آيات من القرآن، ويصلون على النبي بأرفع صوت وإعلان، ويأتون بقبيح الألحان وأصوات تحاكي غناء القيان، ويمططون آيات الله الكريمة، ويغيرون حرمة أسمائه
1 إن أصحاب الطرائق وضعوا للناس أوراداً وأحزاباً مدونة من أذكار وأدعية وصلوات يتعبدون بها في أوقات معينة كالصلوات الخمس، فهذا العمل منتقد شرعاً من عدة وجوه:(1) أن فيها أوصافاً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم مخالفة للثابت في الكتاب والسنة. (2) أن فيها ما لا يقبل مثله إلا بنص منهما، لأنه توقيفي على الراجح المختار عند أئمة الأمة كما قاله صاحب الجوهرة:
واختير أن اسماه توقيفية
…
كذا الصفات فاحفظ السمعيه
(3)
أن التزامها وتقييدها في الأوقات المعينة، والاجتماع لبعضها ورفع الصوت بها، وجعلها من قبيل الشعائر، يدخلها في عموم البدعة الإضافية ويخرجها من عموم العبادات المطلقة على فرض ورودها فيها كما حققه الإمام الشاطبي في الاعتصام. (4) أنهم آثروها على التعبد بتلاوة القرآن التي هي أعلى العبادات المطلقة وأذكار السنة، كما حققناه في تفسير المنار. (راجع صفحة 374 جزء 10) .