المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأخبار والآثار في الحكم والقضاء بالشورى - صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان

[محمد بشير السهسواني]

الفصل: ‌الأخبار والآثار في الحكم والقضاء بالشورى

‌الأخبار والآثار في الحكم والقضاء بالشورى

1

ومنها حديث ابن عباس قال: قلت يا رسول الله، أرأيت إن عرض لنا أمر لم ينزل فيه قرآن ولم تمض فيه سنة منك؟ قال، تجعلونه شورى بين العابدين من المؤمنين، ولا تقضونه برأي خاصة" فذكر الحديث بتمامه، رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد الله ابن كيسان قال البخاري: منكر الحديث، كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال النسائي: ليس بالقوي. اهـ.

ومنها حديث علي قال: قلت يا رسول الله، إن نزل بنا أمر ليس فيه أمر ولا نهي فما تأمرني؟ قال تشاوروا الفقهاء والعابدين، ولا تمضوا فيه رأي خاصة" رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله موثقون من أهل الصحيح، كذا في مجمع الزوائد.

ومنها حديث أبي سلمة الحمصي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة فقال: "ينظر فيه العابدون من المؤمنين" رواه الدرامي، وهذا حديث رجال سندهم كلهم رجال الصحيحين، إلا أن فيه انقطاعاً.

وفي الباب آثار: منها أثر عبد الله بن مسعود: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيئ، رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون، كذا في مجمع الزوائد، وقد تقدم ذكره.

ومنها ما روي عن المسيب بن رافع قال: كانوا إذا نزلت بهم قضية التي ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا. رواه الدارمي ورجال سنده كلهم رجال الصحيحين، إلا أن هشيماً كثير التدليس، وقد تابعه يزيد، قال الدارمي أخبرنا عبد الله أخبرنا يزيد عن العوام بهذا.

ومنها ما روي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال:

1 العنوان للمصحح.

ص: 343

أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، رواه الدارمي ورجال سنده كلهم موثقون.

ومنها أثر عبد الله بن مسعود قال: أتى علنيا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك، وإن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون، ولا يقل إني أخاف وإني أرى، فإن الحرام بين والحلال بين، وبين ذلك أمور مشتبهة، فدع ما يريبك إلى ما يريبك، رواه الدارمي، وفي سنده حريث بن ظهير قال الذهبي في الميزان: لا يعرف، وفيه سفيان وهو مدلس وقد عنعنه، وقد تابع حريثاً عبد الرحمن بن يزيد، وتابع سفيان شعبة وأبو عوانة وجرير.

قال الدارمي في مسنده: أخبرنا يحيى بن حماد حدثنا شعبة عن سليمان عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير قال: أحسبه أن عبد الله قال: قد أتى علينا زمان وما نسأل وما نحن هناك، وإن الله قدر أن بلغت ما ترون، فإذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله، فإن لم تجدوه في كتاب الله ففي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم تجدوه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أجمع عليه المسلمون، فإن لم يكن فيما اجتمع عليه المسلمون فاجتهد رأيك ولا تقل إني أخاف وأخشى، فإن الحلال بين والحرم بين، وبين ذلك أمور مشتبهة، فدع ما يريبك إلا ما لا يريبك، حدثنا يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن سليمان عن عمارة ابن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله نحوه، أخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا جرير عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بنحوه. اهـ.

وقال النسائي في المجتبى: أخبرنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة هو ابن عمير وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: أكثروا على عبد الله ذات يوم

ص: 344

فقال عبد الله: إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هنالك، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عيه وسلم ولا قضى به الصالحون، فليجتهد رأيه، ولا يقول إني أخاف وإني أخاف، فإن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور متشبهات، فدع ما يريبك إلى ما يريبك، قال أبو عبد الرحمن1: هذا الحديث حديث جيد اهـ. ورواه النسائي من حديث حريث بن ظهير أيضاً.

ومنها ما روى عن شريح عن عمر بن الخطاب كتب إليه: إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلتفتك عنه2 الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت، إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك، رواه الدارمي ورواته كلهم موثقون. ورواه النسائي ولفظه هكذا: أخبرنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو عامر قال حدثنا أبو عامر قال حدثنا سفيان عن الشيباني عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله، فكتب إليه: أن أقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم

1 كتب في حاشية طبعة الهند هنا: أي الدارمي، وهو غلط، بل هو الحافظ أحمد بن شعيب النسائي صاحب السنن.

2 كذا في النسخة، ولعل صوابه يلفتك من الثلاثي فهو من المتعدي بنفسه، قال تعالى:{لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} .

ص: 345

يقض به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك، والسلام عليكم. اهـ.

ولكن ليس في شيء من تيك الأحاديث الدالة على مقصود الخصم من لزوم اتباع كل جمهور، لاحتمال أن يكون المراد ما أجمع عليه الأمة لا يكون كفراً، كما في حدث أبي هريرة الذي رواه ابن مردوية، أو يكون المراد لزوم جماعة أهل الحل والعقد أو يكون المراد ما أجمع عليه الفقهاء الصالحون وهم فقهاء أهل السنة والجماعة.

قوله: ومما يعتقده هؤلاء المنكرون للزيارة والتوسل منع طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم.

أقول: لابد هناك أولاً من تحقيق لفظ الشفاعة، فاعلم أنه قال ابن الأثير في النهاية: قد تكرر ذكر الشفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، يقال: شفع يشفع شفاعة فهو شافع وشفيع، والمشفع الذي يقبل الشفاعة1 والمشفع الذي يقبل شفاعته. اهـ.

وفي مجمع البحار: والشفاعة تكررت في الحديث، وتتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، شفع فهو شافع وشفيع والمشفع من يقبلها والمشفع من يقبل شفاعته. اهـ.

وقال البيضاوي: والشفاعة من الشفع كأن المشفوع له كان فرداً فجعله الشفيع شفعاً بضم نفسه إليه. اهـ.

وقال في فتح البيان: والشفاعة مأخوذة من الشفع وهو الاثنان، تقول استشفعته أي سألته أن يشفع لي، أي يضم جاهه إلى جاهك عند المشفوع إليه ليصل النفع إلى المشفوع. اهـ.

وقال الحافظ في فتح الباري: الاستشفاع طلب الشفاعة، وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه. اهـ.

1 المشفع هذا بكسر الفاء المشددة، والذي بعده بفتحها.

ص: 346

إذا دريت هذا فاعلم أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ثابتة في الدنيا والآخرة، أما الشفاعة في الدنيا فقد قال الله تعالى في سورة النساء:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} .

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره تحت هذه الآية: يرشد تعالى العصاة والمذنبين –إذا وقع منهم الخطأ والعصيان- أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم. انتهى.

قال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي: وهذه كانت عادة الصحابة معه صلى الله عليه وسلم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إليه فقال: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي. اهـ.

ويدل عليه ما روي عن كعب بن مالك في حديث طويل فيه: فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى. اهـ.

وقال تعالى في سورة آل عمران: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وقال تعالى في سورة محمد: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال تعالى في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ –إلى قوله تعالى- فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى في سورة التوبة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

قال الحافظ ابن كثير: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم واستغفر لهم كما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال:"اللهم صل على آل أبي أوفى ". اهـ.

وفي فتح البيان قال ابن عباس رضي الله عنهما: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا

ص: 347

أصابوها، إن صلاتك رحمة لهم اهـ. وكذا نقل السيوطي في الإكليل.

وقال تعالى فيها أيضاً: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} .

قال السيوطي في الإكليل: فيه تحريم الصلاة على الكافر والوقوف على قبره، وأن دفنه جائز، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه ومشروعية الوقوف على قبره والدعاء له والاستغفار.

وقال تعالى فيها: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} . فإن مفهومه مشروعية الاستغفار للمؤمنين.

ومن هذا القبيل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة حين مات بقوله: "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه" رواه مسلم.

ومنه صلاته صلى الله عليه وسلم على الجنازة كما دعا على جنازة بقوله: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، واكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله في الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار" رواه مسلم. ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم" متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه". رواه مسلم. وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه" رواه مسلم.

ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام،

ص: 348

ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة: "اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك، وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم". رواه أبو داود وابن ماجه.

ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة: "اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها إلى الإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر له". رواه أبو داود.

ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم ثم سلوا له التثبيت فإنه الآن يسئل" رواه أبو داود.

ومنه الأدعية المروية عنه صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور فإنها كلها من باب الشفاعة.

ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه كما دعا لأنس رضي الله عنه فقال: "اللهم أكثر ماله وولده وأطل حياته واغفر له" أخرجه البخاري في الأدب المفرد قاله الحافظ في الفتح.

ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعبيد أبي عامر بقوله: "اللهم اغفر لعبيد أبي عامر" ورأيت بياض إبطيه فقال: "اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس". رواه البخاري.

ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم للعباس وولده بقوله: "اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنباً" رواه الترمذي.

ومنه ما روي عن جابر قال: استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين مرة، رواه الترمذي. ومنه قال لغفار:"غفر الله لها" رواه البخاري.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار" رواه البخاري.

ص: 349

ويدل على هذا القسم من الشفاعة قوله صلى الله عليه وسلم لأبي جرى جابر بن سليم: "أنا رسول الله الذي إن أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك". وهذا القول في حديث طويل رواه أبو داود.

ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم لبسر حين أخذ بلجام دابته وقال: ادع الله لنا، فقال:"اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم" رواه مسلم.

ومنه استسقاؤه صلى الله عليه وسلم لهم كما روى عن أنس بن مالك أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله، فدعا الله فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله تهدمت البيوت وانقطعت السبل وهلكت المواشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم على ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر" فانجبات عن المدينة انجياب الثوب. رواه البخاري.

وعن ابن مسعود قال: إن قريشاً أبطأوا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا فادع الله تعالى، فقرأ:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} الآية رواه البخاري في أبواب الاستسقاء.

قال الحافظ في الفتح: ولم يقع في هذا السياق التصريح بأنه دعا لهم، وسيأتي هذا الحديث في تفسير سورة (ص) بلفظ "فكشف عنهم ثم عادوا" وفي سورة الدخان من وجه آخر بلفظ "فاستسقى لهم فسقوا" ونحوه في رواية أسباط المعلقة. اهـ.

وهذا الضرب من الشفاعة حاصل للأنبياء الآخرين أيضاً، يدل عليه الآيات التي نتلوها عليك.

قال الله تعالى في سورة يوسف: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ. قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . وقال تعالى في سورة إبراهيم:

ص: 350

{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وللملائكة1 أيضاً قال الله تعالى في سورة المؤمنون: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، وقوله تعالى في سورة الشورى:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، بل عامة المؤمنين مأذونون في هذه الشفاعة قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .

وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة" رواه الطبراني وإسناده جيد، كذا في مجمع الزوائد، وفي الباب عن أبي هريرة وأم سلمة وأبي الدرداء، ولكن في رواياتهم ضعف. وهي تكفي للتأييد.

وهذا النوع من الشفاعة يجوز طلبه منه صلى الله عليه وسلم بلا مرية، بأن يأتي أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ويستشفع به، لا أن يدعوه غائباً عنه، دل عليه قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} الآية، وقوله تعالى:{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} ، وقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} ، وقول الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ادع الله لنا، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر:"إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة وكان به بياض، فمره فليستغفر لكم" رواه مسلم.

1 معطوف على قوله: حاصل للأنبياء.

ص: 351