المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحريف دحلان لكلمة صفية - صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان

[محمد بشير السهسواني]

الفصل: ‌تحريف دحلان لكلمة صفية

عنه نصه في كتاب الأحكام (باب الاستخلاف) هكذا قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا، يريد بذلك أن يكون آخرهم.

فقد علم مما ذكرنا أن عمر أيضاً كان يرجو بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في أمته مثل صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها، بل وأكثر الصحابة كأنهم كانوا يرجون ما يرجو عمر رضي الله عنه.

قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث قوة جأش أبي بكر وكثرة علمه، وقد وافقه على ذلك العباس كما ذكرنا، والمغيرة كما رواه ابن سعيد، وابن أم مكتوم كما في المغازي لأبي الأسود عن عروة قال: أنه كان يتلو قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} والناس لا يلتفتون إليه، وكان أكثر الصحابة على خلاف ذلك اهـ. وفي حديث ابن عباس عند البخاري: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتولها. اهـ.

وجملة القول أن المراد في مرثية صفية رضي الله عنها ليس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء في كل أمر في الحياة، بل في الأمر الذي يقدر عليه، وبعد الوفاة في الأمر الذي ثبت بالكتاب العزيز والسنة المطهرة كونه رجاء فيه، ففي هذه المرثية لا دلالة على التوسل الذي يمنعه المانعون أصلاً ومن ادعى إثبات التوسل المذكور منها فعليه البيان.

ص: 287

‌تحريف دحلان لكلمة صفية

وليعلم أن الوارد في المرثية "كنت رجاءنا" كذا في مجمع الزوائد، ولقد حرفه صاحب الرسالة حيث كتب "أنت" بدل "كنت" ليدل هذا اللفظ على أن كونه صلى الله عليه وسلم رجاء غير مقيد بالحياة، بل هو رجاء مطلقاً في الحياة وبعد الممات فصار مصداقاً لقول الله تعالى:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .

ص: 287

وأما استدلال صاحب الرسالة بتلك المرثية على جواز النداء بعد وفاته فجوابه من وجوه:

(الأول) : أن "يا" هنا للندبة لا للنداء كما في قول فاطمة رضي الله عنها: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبرائيل ننعاه، رواه البخاري من حديث ثابت بن أنس، وكما في قول الصديق رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها.

وفي رواية يزيد بن بابنوس عن عائشة عند أحمد أنه أتاه من قبل رأسه فحدر فاه فقبل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته وقال: واخليلاه. كذا في المواهب.

ومنه قول علي رضي الله عنه حين توفي عمر رضي الله عنه وقد وضع على سريره: يرحمك الله، إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك، لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، فأني كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما. رواه البخاري من حديث ابن عباس، وبعين ما ذكرناه كونها واقعة في الرثاء.

و (الثاني) : أنه لو سلم أنه نداء، فالنداء قد يراد به غير المنادى، قال الحافظ في الفتح تحت حديث:"إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون": وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ولده، مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب بوجهين: أحدهما صغره، والثاني نزعه، وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق. اهـ.

ومن هذا القبيل ما روي عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: "يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك". رواه أبو داود.

ص: 288

ومنه ما روي عن قتادة بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد. آمنت بالذي خلقك" ثلاث مرات. رواه أبو داود.

ومنه ما روي عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به" رواه الترمذي والبزار والطبراني في الصغير والأوسط بنحوه وإسناده حسن. كذا في مجمع الزوائد.

ومنه ما روي عن طلحة بن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله". رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب.

وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله". رواه الطبراني، وفيه عثمان بن إبراهيم الحاطبي وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.

وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه إذا كان إذا رأى الهلال قال: "هلال خير ورشد، آمنت بالذي خلقك فعدلك" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أحمد بن عبسى اللخمي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. كذا في مجمع الزوائد.

ومنه ما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك". رواه الترمذي.

ومنه قول عمر رضي الله عنه: إني لأعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، متفق عليه من حديث عابس بن ربيعة.

و (الثالث) : أنه لو سلم أن المراد به المنادى فالنداء مجازي كنداء السماء والجبال

ص: 289

والأرض والأطلال والمنازل والمطايا والقبور، والمانعون إنما يمنعون النداء الحقيقي.

و (الرابع) : أنه لو سلم ثبوت النداء منها فلا يثبت منه مطلوب الخصم، فإن النزاع إنما هو في نداء يتضمن الدعاء والطلب، بأن يقول: يا رسول الله اكشف عني السوء واشف مريضي، أو يقول: يا رسول الله ادع الله أن يشفي مريضي ويكشف عني السوء، فالمانعون يقولون: الأول شرك، والثاني بدعة، والمجوزون يجوزونهما، وليس في المرثية دعاء شيء ولا طلبه.

قوله: قال العلامة ابن حجر في كتاب المسمى (بالخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان) : في الفصل الخامس والعشرين: إن الإمام الشافعي أيام هو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة –إلى قوله- فليتوسل إلى الله تعالى بالإمام الغزالي.

أقول: فيه كلام من وجهين:

(الأول) : أنه لابد من رفع هذه الأمور إلى أصحابها بسند يعتمد عليه، ودونه لا يسمع، قال في (تبعيد الشيطان) : والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر. اهـ.

و (الثاني) : أن أقوال هؤلاء المذكورين وأفعالهم وتقريراتهم ليست من الحجة في شيء.

قوله: وذكر العلامة ابن حجر في كتابه المسمى (بالصواعق المحرقة لإخوان الضلال والزندقة) : إن الإمام الشافعي رحمه الله توسل بأهل البيت النبوي حيث قال:

آل النبي ذريعتي

وهم إليه وسيلتي

أرجو بهم أعطى غداً

بيدي اليمين صحيفتي

أقول: فيه كلام من وجوه:

(الأولان منها) : هما اللذان ذكرا في القول الذي قبله.

ص: 290

و (الثالث) : أن المضاف هنا مقدر، تقدير الكلام إن حب آل النبي وتعظيمهم واتباعهم وشفاعتهم والصلاة عليهم ذريعتي ووسيلتي، وكذلك في قوله أرجو بهم أي أرجو بحبهم وتعظيمهم واتباعهم وشفاعتهم، كما في قول عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون، فإن المراد إنا كان نتوسل إليك بدعاء نبينا.

قوله: وذكر العلامة السيد طاهر بن محمد بن هاشم باعلوي في كتابه المسمى (مجمع الأحباب في ترجمة الإمام أبي عيسى الترمذي صاحب السنن) أنه رأى في المنام –إلى قوله- فكان الإمام الترمذي يقول ذلك دائماً بعد صلاة سنة الصبح، ويأمر أصحابه به ويحثهم على فعله وعلى المواظبة عليه.

أقول: فيه كلام من وجوه:

(الأولان) هما اللذان ذكرا فيما تقدم.

و (الثالث) : أن الرؤيا ليست من الأدلة الشرعية في شيء.

قوله: بل هذا الأمر –أعني التوسل- لم ينكره أحد من السلف والخلف، حتى جاء هؤلاء المنكرون.

أقول: هذا كذب جلي، فهذا الإمام الأعظم يقول: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وقال: أكره أن يقول بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام وهو قول صاحبيه، وعن الحنابلة في أصح القولين أنه مكروه.

قوله: وفي (الأذكار) : للإمام النووي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول العبد بعد ركعتي الفجر ثلاثاً "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد صلى الله عليه وسلم أجرني من النار".

أقول: فيه خلل من وجوه:

(الأول) : أن هذا القسم من التوسل لا ننكره، فإنه داخل في القسم الخامس من التوسل المشروع كما تقدم ذكره، وهذا ثابت من حديث عائشة قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهم رب جبرائل وميكائيل وإسرافيل" الحديث، رواه مسلم في صلاة الليل، والنسائي في كتاب قيام الليل.

ص: 291

والترمذي في أبواب الدعوات، وأبو داود في باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وابن ماجه في باب ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الليل، وهذا حديث صحيح فلا وجه للعدول عنه إلا الذي ذكر فإن فيه كلام سيذكر.

و (الثاني) : أن في ذكر هذه الراوية تحريفاً بيناً يظهر بنقل لفظ الأذكار فأقول: نص الأذكار هكذا: روينا في كتاب ابن السني عن أبي المليح واسمه عامر بن أسامة عن أبيه رضي الله عنه أنه صلى ركعتي الفجر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قريباً منه ركعتين خفيفتين، ثم سمعته يقول وهو جالس:"اللهم رب جبرائيل واسرافيل وميكائيل ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من النار" ثلاث مرات. اهـ. بلفظه فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول العبد بعد ركعتي الفجر ثلاثاً، إنما فيه رواية فعله صلى الله عليه وسلم وليس فيه أجرني من النار، إنما هو أعوذ بك من النار، وفيه تقديم إسرافيل على ميكائيل.

و (الثالث) : أن صاحب الحصن الحصين وصاحب مجمع الزوائد وغيرهم ذكروا هذا الحديث ولم يذكر واحد منهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا لفظ: أجرني من النار، فها أنا أنقل عباراتهم ليظهر أن هذا من اختلاق مؤلف الرسالة:

قال محمد بن محمد الجزري الشافعي في الحصن الحصين: ويقول وهو جالس: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من النار" ثلاث مرات. مس ي.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن أسامة بن عمير أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر فصلى ركعتين خفيفتين، فسمعته يقول: "رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ومحمد أعوذ بك من النار –ثلاث مرات- رواه الطبراني في الكبير، وفيه عباد بن سعيد قال الذهبي: عباد بن سعيد عن مبشر لا شيء، قلت: قد ذكره ابن حبان في الثقات. اهـ.

وقال في (نزل الأبرار) عن أسامة بن عمير أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر وأن رسول الله صلى قريباً منه ركعتين خفيفتين ثم سمعته يقول وهو جالس: "اللهم

ص: 292

رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ومحمد، أعوذ بك من النار" أخرجه ابن السني والحاكم في المستدرك بدون قوله: وهو جالس. وصححه. وأخرجه الطبراني في الكبير أيضاً. اهـ.

و (الرابع) : أن هذا الحديث وإن صححه الحاكم يعلم من كلام الحافظ ابن حجر أنه حسن، قال الحافظ بعد تخريجه: حديث حسن أخرجه الدراقطني في الأفراد وقال: تفرد به مبشر وهو بضم الميم وفتح الموحدة وكسر المعجمة، ذكره ابن حبان في الثقات، واسم أبي المليح عامر وهو من رجال الصحيح، وأما عباد بن سعيد -أي الراوي عن مبشر- فلم أر فيه جرحاً ولا تعديلاً، إلا أن ابن حبان ذكر في الثقات عباد ابن سعيد ولم يذكر ما يتميز به، أخرج هذا الحديث الحكام في (المستدرك) من طريق آخر.

قال الحافظ: ووجدت للحديث شاهداً من حديث عائشة بسند ضعيف في سنده من هو متروك ومن فيه مقال: قال: وأبو المليح إن كان هو ابن أسامة المذكور أولا فقد اختلف عليه في إسناده، وإن كان غيره فهو مجهول. اهـ. كذا نقله ابن علان في شرح الأذكار، لكنه لا يخلو عن كلام، وله وجوه:

(الأول) : أن أبا المليح إن كان هو ابن أسامة فقد اختلف عليه في إسناده كما قال الحافظ، فيكون الحديث مضطرباً، وإن كان غيره فهو مجهول، وعلى كلا التقديرين يكون الحديث ضعيفاً.

و (الثاني) : أن في سنده مبشراً فإن كان هو ابن عبيد الحمصي فهو واه جداً، قال الذهبي في الميزان قال أحمد: كان يضع الحديث، وقال البخاري: روي عنه بقية، منكر الحديث اهـ. وقال الحافظ في التقريب: مبشر بن عبيد الحمصي أبو حفص كوفي الأصل متروك، رماه أحمد بالوضع اهـ. وفي التهذيب قال أحمد: يضع الحديث، وقال الدارقطني متروك اهـ. كذا نقله بعض الثقات وقال في الكاشف: مبشر بن عبيد الحمص عن قتادة وزيد بن أسلم والزهري وعنه أبو المغيرة وأبو اليمان تركوه اهـ. وإن كان غيره فلا بد من تعيينه وتوثيقه.

ص: 293

و (الثالث) : أن فيه عباد بن سعيد، قال الذهبي في الميزان: عباد بن سعيد بصري مقل روى عن مبشر، لا شي. اهـ. قلت: ذكره ابن حبان في الثقات قاله الحافظ ابن حجر والهيثمي، ولكن هذا التوثيق لا يعارض قول الذهبي: لا شيء، فإن ابن حبان معروف بالاحتجاج بمن لا يعرف كما تقدم.

قال ابن عبد الهادي في (الصارم المنكي) : وقد علم أن ابن حبان ذكر في هذا الكتاب الذي جمعه في الثقات عدداً وخلقاً عظيماً من المجهولين الذين لا يعرف هو ولا غيره أحوالهم، وقد صرح ابن حبان بذلك في غير موضع من هذا الكتاب فقال في الطبقة الثالثة: سهل يروى عن شداد بن الهادى، روى عنه أبو يعقوب، ولست أعرفه ولا أدري من أبوه، هكذا ذكر هذا الرجل في كتاب الثقات، ونص على أنه لا يعرفه. وقال أيضاً: حنظلة شيخ يروى المراسيل لا أدري من هو؟ روى ابن المبارك عن إبراهيم بن حنظلة عن أبيه، هكذا ذكره لم نرو1. وقال أيضاً. الحسن أبو عبد الله شيخ يروى المراسيل، روى عنه أيوب النجار لا أدري من هو ولا ابن من هو؟ وقال أيضاً: جميل شيخ يروى عن أبي المليح بن أسامة يروي عنه عبد الله ابن عون لا أدري من هو ولا ابن من هو؟

وقد ذكر ابن حبان في هذا الكتاب خلقاً كثيراً من هذا النمط، وطريقه فيه أن يذكر من لم يعرفه بجرح وإن كان مجهولاً لم يعرف حاله. وينبغي أن يتنبه لهذا ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق. اهـ.

وليعلم أن الحديث روي من طريق أخر عن عائشة أشار إليها الحافظ، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الركعتين قبل الفجر ثم يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب إسرافيل ورب محمد، أعوذ بك من النار". ثم يخرج إلى الصلاة، رواه أبو يعلي، وفيه عبيد الله بن أبي حميد وهو متروك كذا في مجمع الزوائد، قال

1 كذا في الأصل.

ص: 294

الذهبي في الميزان: عبيد الله بن أبي حميد أبو الخطاب عن أبي المليح الهذلي ضعفه محمد ابن المثني، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال أحمد: ترك الناس حديثه، وقال دحيم: ضعيف، وقال البخاري: يروى عن أبي المليح عجائب. انتهى.

وأيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الركعتين قبل صلاة الفجر ثم يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب إسرافيل ورب محمد، أعوذ بك من النار". ثم يخرج إلى الصلاة" قلت رواه النسائي بنحوه من غير تقيد بركعتي الفجر، ورواه أبو يعلي عن شيخه سفيان بن وكيع وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد.

قال الذهبي في الميزان: سفيان بن وكيع بن الجراح أو بمحمد الرؤاسي قال البخاري: يتكلمون فيه لأشياء لقنوه إياه، وقال أبو زرعة: يتهم بالكذب، وقال ابن أبي حاتم: أشار أبي عليه أن يغير وراقه فإنه أفسد حديثه، وقال له: لا تحدث إلا من أصولك، فقال سأفعل، ثم تمادى وحدث بأحاديث أدخلت عليه، وقد ساق له أبو أحمد خمسة أحاديث منكرة السند لا المتن ثم قال: وله حديث كثير، وإنما بلاؤه أنه كان يتلقن، يقال: كان له وراق يلقنه من حديث موقوف فيرفعه، أو مرسل يوصله، أو يبدل رجلاً برجل.

وقال ابن حبان: كان شيخاً فاضلاً صدوقاً، إلا أنه ابتلي بوراق سوء كان يدخل عليه، فكلم في ذلك فلم يرجع، وكان ابن خزيمة يروى عنه، سمعته يقول حدثنا بعض من أمسكنا عن ذكره، وهو من الضرب الذي ذكرته مراراً أن لو خر من السماء فتخطفه الطير أحب إليه من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أفسدوه، وما كان ابن خزيمة يحدث عنه إلا بالحرف بعد الحرف. قلت: روى عن أبيه وجرير وعبد السلام ابن حرب، وعنه أبو عروبة وابن صاعد وخلق، وقد حسن له الترمذي. اهـ. ملخصاً.

قلت: رواه النسائي بنحوه من غير تقيد بركعتي الفجر كما قال الهيثمي، ولفظ

ص: 295

النسائي في كتاب الاستعاذة هكذا: أخبرنا أحمد بن حفص قال: حدثني أبي قال: حدثني إبراهيم عن سفيان بن سعيد عن أبي حسان عن جسرة عن عائشة رضي الله عنها أنا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب إسرافيل، أعوذ بك من حر النار وعذاب القبر".اه. فليس فيه التقيد بركعتي الفجر ولا لفظ محمد، وفيه زيادة لفظ حر وعذاب القبر، وهذه الرواية رجال سندها كلهم ثقات غير جسرة بنت دجاجة، قال البيهقي: فيها نظر، وقال ابن حبان فيما نقله أبو العباس البناني: عندها عجائب، وقال البخاري في تاريخه: عندها عجائب، وأما أحمد فقال في صاحبها فليت العامري: لا أرى به بأساً، وقال أحمد العجلي: جسرة تابعية ثقة، فقوله عندها عجائب ليس بصريح في الجرح، كذا في الميزان، وقال الحافظ في التقريب: مقبولة من الثالثة، وقال في الخلاصة: وثقها العجلي، وقال الذهبي في الكاشف: ثقة، فالراجح أنها ثقة، لكن فيها سفيان الثوري وهو مدلس وقد عنعن هذا الحديث فلا يقبل.

وجملة الكلام أن هذا الحديث لا يخلو طريق من طرقه من مقال، فالأولى الاستدلال في ذلك الباب بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته فقال: "اللهم رب جبرائيل" الحديث فإنه في صحيح مسلم وصحيح ابن حبان وسنن النسائي الصغرى التي يقال لها (المجتبى) وهي التي قال النسائي في حقها: صحيح كلها، وأطلق اسم الصحة عليها أبو علي النيسابوري وأبو أحمد بن عدي وأبو الحسن الدارقطني وأبو عبد الله الحاكم وابن منده وعبد الغني بن سعيد وأبو يعلي الخليلي وأبو علي بن السكن وأبو بكر الخطيب وغيرهم.

وقال سعد بن علي الريحاني: إن لأبي عبد الرحمن شرطاً في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وسكت عليه أبو داود، ورجال سنده كلهم ثقات من رجال الصحيحين، غير عكرمة بن عمار فإنه من رجال مسلم

ص: 296

فقط، وهو ممن اختلف فيه، قال الحافظ في التقريب: عكرمة بن عمار العجلي اليمامي أصله من البصرة، صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب. انتهى.

وقال الذهبي في الميزان: عكرمة بن عمار الحنفي اليمامي عن هرماس وطاوس وطائفة، وعنه شعبة ويحيى القطان وعبد الرازق وخلق، وهو ثقة إلا في يحيى بن أبي كثير فمضطرب، وكان مجاب الدعوة. اهـ.

وقال في الخلاصة: عكرمة بن عمار الحنفي العجلي أبو عمار اليمامي أحد الأئمة، عن الهرماس بن زياد ثم عن عطاء وطاوس وعن شعبة والسفيانين ويحيى القطان وابن المبارك وابن مهدي وخلق، وثقة ابن معين والعجلي، وتكلم البخاري وأحمد والنسائي في روايته عن يحيى بن أبي كثير، وأحمد في إياس بن سلمة. اهـ.

وقال الذهبي في الميزان: عكرمة بن عمار أبو عمار العجلي اليمامي عن الهرماس بن زياد، وله رواية عن طاوس وسالم وعطاء ويحيى بن أبي كثير، وعنه يحيى القطان وابن مهدي وأبو الوليد وخلق، روى أبو حاتم عن ابن معين: كان أمياً حافظاً، وقال أبو حاتم: صدوق ربما يهم، وقال يعقوب بن أبي شيبة: حدثنا غير واحد سمعوا يحيى بن معين يقول: ثقة، وقال عاصم بن علي: كان مستجاب الدعوة، وقال يحيى القطان: أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة، وقال أحمد بن حنبل: ضعيف الحديث، وكان حديثه عن إياس بن سلمة صالحاً، قال الحاكم: أكثر مسلم الاستشهاد به، قال البخاري: لم يكن له كتاب فاضطرب حديثه عن يحيى، وقال أحمد: أحاديثه عن يحيى ضعاف ليست بصحاح، وقال محمد بن عثمان سمعت علياً يقول: عكرمة بن عمار كان عند أصحابنا ثقة ثبتاً اهـ، وقال الترمذي في جامعه: وعكرمة ربنا يهم في حديث يحيى. اهـ.

فقد علم من العبارات المذكورة أن الناس في عكرمة بن عمار مفترقون على فرقتين: منهم من يوثقه على الإطلاق كمسلم وابن حبان والترمذي وأبي داود وابن معين والعجلي وأبي حاتم وعلي بن عبد الله بن المديني، ومنهم من يوثقه في غير روايته

ص: 297

عن يحيى بن أبي كثير كالحافظ ابن حجر والذهبي والبخاري ويحيى القطان وأحمد، وإيراد النسائي في المجتبى حديثه يدل على أنه عنده ثقة على الإطلاق، وعبارة الخلاصة تدل على خلافه، فليفهم.

وفي الباب عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، واذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا" قلت: عند الترمذي بعضه، رواه أحمد وإسناده حسن، كذا في مجمع الزوائد.

قوله: قال العلامة ابن علان في شرح الأذكار: خص هؤلاء بالذكر للتوسل بهم في قبول الدعاء، وإلا فهو سبحانه وتعالى رب جميع المخلوقات.

أقول: هذه العبارة ليس لها أثر في شرح الأذكار، فهي من اختلاق صاحب الرسالة، فلننقل هنا لفظ ابن علان في شرح الأذكار بعينه:

قال ابن علان في شرح الأذكار: إنما خصهم بالذكر –وإن كان تعالى رب كل شيء- بما تكرر في القرآن والسنة من نظائره من الإضافة إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن دون ما يستحقر ويستصغر، فيقال له سبحانه: رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم، ورب الملائكة ورب المشرقين ورب المغربين، ونحوه مما هو وصف له بدلائل العظمة، وعظمة القدرة والملك، ولم يستعمل فيما يستحقر ويستصغر، فلا يقال: رب الحشرات وخالق القردة والخنازير وشبهها على سبيل الإفراد، وإنما يقال خالق المخلوقات، وحينئذ تدخل هذه في العموم.

"وقال القرطبي: خص هؤلاء الملائكة بالذكر تشريفاً لهم إذ بهم ينتظم هذا الوجود إذ أقامهم الله تعالى في ذلك، قال في الحرز: والظاهر أن مراتب فضلهم على ترتيب ذكرهم. اهـ. وقال ابن الجزري في مفتاح الحصن: خصهم بالذكر وكذا رب العرش العظيم ونحوه من دلائل العظمة لعظمة شأنه فإنه رب كل شيء. اهـ.

"وقد يقال أن حياة القلب بالهداية، وهؤلاء الثلاثة موكلون بالحياة: فجبريل بالوحي وهو سبب حياة القلب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان،

ص: 298

وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الروح إلى الأجساد، فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول الحاجات ووصول المهمات.

هذا آخر ما في شرح الأذكار، فليس فيها ذكر التوسل بهم، إنما في الجملة الأخيرة ذكر التوسل بربوبية هذه الأرواح العظيمة، والربوبية صفة من صفات الله تعالى، والتوسل بصفة من صفات الله تعالى جائز بلا خلاف.

على أن التخصيص بالذكر لا يدل على التوسل، ألا ترى إلى الآيات الكريمة التي فيها التخصيص بالذكر وأين هي من التوسل، منها ما قال الله تعالى في سورة التوبة:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة المؤمنون: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} . ومنها ما قال في سورة النمل: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة الزخرف: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} . ومنها ما قال تعالى في سورة بني إسرائيل: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} . ومنها ما قال تعالى في سورة الكهف: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . ومنها ما قال في سورة مريم: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة طه: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} . ومنها ما قال تعالى في سورة ص: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} . ومنها ما قال تعالى في سورة الزمر: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة النجم: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} . ومنها ما قال تعالى في سورة الرحمن: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} ، ومنها ما قال تعالى في سورة المعارج:{فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة المزمل: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} . ومنها ما قال تعالى في سورة الذاريات: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} .

ص: 299

ومنها ما قال تعالى في سورة النبأ: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} . ومنها ما قال تعالى في سورة قريش: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة الفلق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة الناس: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .

وكذلك قد تكرر هذا التخصيص في السنة المطهرة: منها ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم" رواه البخاري ومسلم. ومنها ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض، ولك الحمد وأنت رب السموات والأرض ومن فيهن". الحديث رواه مسلم.

ومنها ما روي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول: "اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان" الحديث رواه مسلم والترمذي وقال حديث صحيح، ومنها ما روي عن أبي هريرة قال: قال أبو بكر قلت: يا رسول الله مرني بشيء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال:"قل اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض، رب كل شيء ومليكه" الحديث رواه الترمذي وأبو دواد والدارمي وقال الترمذي هذ حديث حسن صحيح، ومنها ما روي عن بريدة قال: شكا خالد بن الوليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما أنام الليل من الأرق، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين وما أقلت، ورب الشياطين وما أضلت" الحديث رواه الترمذي وقال هذا حديث ليس إسناده بالقوي، ومنها ما روي عن أبي لبابة بن عبد المنذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد دخول قرية لم يدخلها حتى يقول: "اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت، ورب الرياح وما أذرت، ورب

ص: 300

الشياطين وما أضلت، أني أسألك خيرها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر من فيها" رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.

وعن أبي مغيث بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه وأنا فيهم: "قفوا" ثم قال "اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله" وكان يقولها لكل قرية يريد يدخلها، رواه الطبراني وفيه راو لم يسم وبقية رجاله ثقات، كذا في مجمع الزوائد.

وعن قتادة قال: كان ابن مسعود إذا أراد أن يدخل قرية قال: اللهم رب السموات وما أظلت، ورب الشياطين وما أضلت، ورب الرياح وما أذرت، أسألك خيرها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، إلا أن قتادة لم يدرك ابن مسعود، كذا في مجمع الزوائد.

فبعض ما ذكرنا من الآيات والأحاديث ليس فيه الدعاء حتى يتوسل في إجابته، والبعض الآخر وإن كان فيه دعاء لكن ما أضيف إليه الرب لا يصلح لأن يتوسل به عند أحد من عقلاء المسلمين –كالفلق والشياطين والرياح- فالتخصيص بالذكر فيما هنالك ليس للتوسل، بل بوصفه تعالى بدلائل العظمة، وعظيم القدرة والملك.

قال النووي: قال العلماء خصهم بالذكر وإن كان تعالى رب كل المخلوقات كما تقرر في القرآن والسنة من نظائره من الإضافة إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن، دون ما يستحقر ويستصغر، فيقال له سبحانه وتعالى: رب السموات ورب العرش الكريم ورب الملائكة والروح، رب المشرقين ورب المغربين، رب الناس ملك الناس إله الناس، رب العالمين رب كل شيء رب النبيين، خالق السموات والأرض، فاطر السموات والأرض، جاعل الملائكة رسلاً –فكل ذلك وشبهه وصف له سبحانه بدلائل العظمة وعظيم القدرة والملك، ولم يستعمل ذلك فيما يحتقر ويستصغر فلا يقال رب الحشرات وخالق القردة والخنازير وشبه ذلك على الإفراد وإنما يقال

ص: 301

خالق المخلوقات، وخالق كل شيء، وحينئذ تدخل هذه في العموم. اهـ.

وقد ذكر هذا الوجه ابن علان أيضاً في شرح الأذكار، فما بال صاحب الرسالة يعزو إلى ابن علان ما لم يذكره ولا ينقل ما ذكره في توجيه التخصيص؟ وهل هذه إلا خيانة في الدين؟ وليعلم أن قول النووي: لم يستعمل ذلك فيما يحتقر ويستصغر، ليس على عمومه، فإنه قد ورد في الحديث:"رب الشياطين وما أضلت" فافهم1.

قوله: وفي شرح حزب البحر للإمام زروق قال بعد ذكر كثير من الأخيار: اللهم إنا نتوسل إليك بهم فإنهم أحبوك.

أقول: قول أحد من الناس غير النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحجة.

قوله: ولبعض العارفين دعاء مشتمل على قوله: اللهم رب الكعبة وما بناها، وفاطمه وأبيها، وبعلها وبنيها، نور بصري.

أقول: فيه ما ذكر من أن قول غير النبي صلى الله عليه وسلم ليس دليلاً شرعياً، من أن أمثال هذا الدعاء لا يمنعها أحد، وأن كان كون هذا التركيب دالا على التوسل محل بحث كما قد بيناه آنفاً من أن الإضافة إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن إنما هي لإظهار عظمة شأنه تعالى لا للتوسل بما أضيف إليه الرب.

قوله: فكما أن الله تعالى جعل الطعام والشراب سببين للشبع والري لا تأثير لهما، والمؤثر هو الله تعالى وحده، وجعل الطاعة سبباً للسعادة ونيل الدرجات، وجعل أيضاً التوسل بالأخيار الذين عظمهم الله تعالى وأمر بتعظيمهم سبباً لقضاء الحاجات.

أقول: فيه كلام من وجهين:

(الأول) : أن هذا قياس مع الفارق، فإن كون الطعام الشراب سببين للشبع

1 إن خبث الشياطين واحتقار إضلالها لا يقتضي استصغار خلقها واحتقار أفعالها بمعنى أنه لا يؤبه لشرها، بل هي أكبر شرور العالم بحيث لا يقدر الإنسان على اتقائها إلا بالاستعاذة منها بخالقها، فإضافة اسم الرب إليها من دلائل عظمته وقدرته عز وجل. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 302

والري معلوم بالعقل والنقل، وكذلك كون الطاعة سبباً للسعادة ونيل الدرجات، وأما كون التوسل بالأخيار سبباً لقضاء الحاجات فلا يدل عليه دليل عقلي أو نقلي.

و (الثاني) : أن الكلام في مشروعية التوسل لا في كونه سبباً لقضاء الحاجات، ولا ملازمة بين الأمرين، فرب سبب في الدنيا وبال ونكال في الآخرة.

قوله: فعليك باتباع الجمهور والسواد الأعظم.

أقول: فيه نظر من وجوه1:

1 إن في كل وجه من الوجوه الثلاثة التي رد بها المصنف على هذه الجملة نظراً ظاهراً، والجملة في نفسها بمعنى الأحاديث الصحيحة الواردة في الأمر باتباع الجماعة وهي معروفة مشهورة، ولكن المراد بالجماعة فيها جماعة الصحابة والسواد الأعظم منهم فيما كانوا عليه من أمر الدين الذي تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم دون من شذ من أفرادهم باجتهاده الخاص، وأما الجمهور والسواد الأعظم الآن وهم الذين يعنيهم دحلان، فقد فشت فيهم البدع والمنكرات، فلا عبرة بكثرتهم ولا بجمهورهم، بل بمتبعي جماعة السلف منهم.

أما الوجه الأول: مما أورد المصنف فلا يرد على الأحاديث الصحيحة في اتباع الجماعة، ولا ينافي ما تدل عليه من كون جمهور الصحابة على حق في أمر الدين، فإن ما عرض لهم من الذهول والاضطراب عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم من العوارض البشرية لا من العقائد ولا السنن العملية المتبعة، وقد انتهى هذا العارض البشري باتباع الصديق فيما ذكرهم به من قول الله عز وجل، وإنما العبرة في الأعمال، والأحوال بخواتيمها لا بمباديها، وبهذا ثبت أنهم رضي الله عنهم كانوا على هدى فيما جروا عليه من العمل في هذه المصيبة الكبرى.

وأما الوجه الثاني: فقد أخطأ المنصف في استدلاله بالآيات التي ذكرها على قلة رشد المؤمنين، فالآيات ليست فيهم، وأما الوجه الثالث فموضوعه مخالفة بعض المجتهدين للجمهور في بعض المسائل الاجتهادية، فمن كان من أهل النظر والاجتهاد في أمثال هذه المسائل فعليه أن يعمل بما أداه إليه اجتهاده فيها، ومن لم يكن عنده من العلم إلا أن جمهور علماء المسلمين رأوا في هذه المسألة كذا وأن فردا منهم خالفهم فرأى فيها غير رأيهم، ولم يكن عنده قدرة على الترجيح، فالأولى له أن يتبع الجمهور فيها، وكبته محمد رشيد رضا (ثم رأيت له فيما سيأتي ما يقرب منه) .

ص: 303

(الأول) : أن الأكثر قد يخطئ، قال الحافظ في الفتح تحت حديث ابن عباس إن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس فقال اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى قوله {الشَّاكِرِينَ} وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها، الحديث: وكان أكثر الصحابة على خلاف ذلك، فيؤخذ منه أن الأقل عدداً في الاجتهاد قد يصيب ويخطئ الأكثر فلا يتعين الترجيح بالكثرة، ولا سيما إن ظهر أن بعضهم قلد بعضاً اهـ. فلا وجه للقول بوجوب اتباع الجمهور عموماً.

و (الثاني) : أن الخير والرشد في الناس قليل والشر والضلالة كثير، يدل عليه الآيات التي نتولها عليك:

منها قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} وقوله تعالى في سورة بني إسرائيل: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَاّ قَلِيلاً} .

ففي هاتين الآيتين قد نقل الله تعالى قول الشيطان، وهذا قاله إبليس على الظن فأصاب كما قال تعالى في سورة سبأ:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَاّ فَرِيقًا مِّنَ المُؤْمِنِينَ} . ومنها قوله في سورة الأنعام: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} . وقوله تعالى في سورة (ص) : {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} . وقوله تعالى في سورة سبأ: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} . وقوله تعالى في سورة المائدة: {قُل لَاّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ

ص: 304

كَثْرَةُ الخَبِيثِ} . ففيه إشارة إلى قلة الخير وكثرة الشر، وقوله تعالى في سورة يونس:{وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} . وقوله في سورة يوسف: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} . وقوله تعالى أيضاً فيها: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} . وقوله تعالى أيضاً فيها: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} وقوله تعالى في سورة المائدة: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} . وقوله تعالى في سورة الأعراف: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} . وقوله تعالى أيضاً فيها: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} . وقوله تعالى في سورة الرعد: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} . وقوله تعالى في سورة الفرقان: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} . وقوله تعالى في سورة الشعراء بعد ذكر بناء إبراهيم عليه السلام: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} . وقد تكرر هذا القول في هذه السورة في قصة نوح عليه السلام وقصة هود وقصة صالح وقصة لوط وقصة شعيب عليهم الصلاة والسلام، فقد دل قوله تعالى هذا على أن الراشد في الأمم الماضية أيضاً كان قليلاً والضلالة كثيراً، وقوله تعالى في سورة الزخرف:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} . وقوله تعالى في سورة الحديد: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} .

إذا وعيت تيك الآيات فقد علمت أن الرشد في بني آدم عموماً وفي المؤمنين خصوصاً قليل، أما قلة رشد بين آدم عموماً فظاهر من الآيات المذكورة، وأما قلة رشد المؤمنين خصوصاً فيدل عليه قوله تعالى:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . فكيف يصح القول باتباع الجمهور عموماً؟

و (الثالث) : أن كثيراً من الأئمة قد خالفوا الجمهور في مسائل كثيرة: كابن

ص: 305

أبي ليلى والأصم، فإنهما جوزا الطهارة بسائر أنواع المياه حتى المعتصرة من الأشجار ونحوها، وخالفا الجمهور في أنه لا تصح الطهارة إلا بالماء المطلق، وكأبي حنيفة فإنه خالف الجمهور في أن النجاسة لا تزال إلا بالماء وقال: تزال بكل مائع غير الأدهان، وكالشافعي فإنه خالف الجمهور وقال بكراهة استعمال الماء المشمس في الطهارة، وكأحمد فإنه قال بكراهية الماء المسخن بالنجاسة، وخالف الجمهور، وكمالك فإنه قال: الماء المستعمل مطهر وخالف في ذلك الجمهور، وغير ذلك من الأمثلة التي لا تكاد تحصر، فيلزم أن تكون تلك الأئمة تاركين لهذا الواجب.

وقوله: وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} .

أقول: قد استدل القائلون بحجية الإجماع بهذه الآية، فإن تم الثابت منه وجوب اتباع ما أجمع عليه الأمة لا وجوب اتباع الجمهور، فلا يتم التقريب، مع أن في تمامه كلاماً صعباً.

قوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".

أقول: هذا الحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه، نعم في سنن ابن ماجه من حديث أنس بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم" وفي سنده معان بن رفاعة وهو لين الحديث كثير الإرسال، وأيضاً في سنده أبو خلف الأعمى وهو متروك كذبه يحيى بن معين كما تقدم.

فهذا الحديث ضعيف جداً ليس مما يحتج به على شيء من الأحكام الشرعية، وعلى تقدير ثبوت الحديث فالسواد الأعظم فيه قولان:

(أحدهما) : جملة الناس ومعظمهم الذين يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك

ص: 306

النهج المستقيم، كذا في النهاية ومجمع البحار، وعبر عنه بالجماعة في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات مات ميتة الجاهلية". رواه البخاري ومسلم، وفي حديث حذيفة بن اليمان وهو حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها". رواه البخاري ومسلم، وفي الباب أحاديث كثيرة ثابتة في الصحاح غيرها، فاتباع السواد الأعظم هو اتباع الإمام والجماعة الذين يجتمعون على طاعة السلطان.

ويؤيده ما روى عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد وعلى هذا المنبر: "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل، والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب". فقال أبو أمامة الباهلي: عليكم بالسواد الأعظم، فقال رجل: ما السواد الأعظم؟ فقرأ أبو أمامة هذه الآية التي في سور النور: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} . رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني ورجاله ثقات، كذا في مجمع الزوائد" وعن سعيد بن جمهان قال: لقيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه فقال: من أنت؟ قلت: أنا سعيد بن جمهان. قال: ما فعل والدك؟ قلت قتلته الأزارقة، وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال بل الخوارج كلها1، قال قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم ويفعل بكم ذاك، فتناول يدي فغمزها غمزة شديدة بيده ثم قال: يا بن جمهان عليك بالسواد الأعظم (مرتين) إن كان السلطان يسمع منك فإنه في بيته فانصره بما تعلم، فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست أعلم منه.

قلت: روى ابن ماجة منه طرفاً رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات، كذا في مجمع الزوائد، وهو واجب على المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، وليس السواد الأعظم بهذا المعنى مما تثبت به مسألة شرعية.

1 كذا في الأصل وهو كما ترى فيراجع في مظانة ويحرر.

ص: 307

و (ثانيهما) : السواد الأعظم هم جماعة الصحابة، يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل" وفيه قالوا من هي يا رسو ل الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي". رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب مفسر، وفي رواية عوف بن مالك قيل: يا رسول الله من هم؟ قال "الجماعة"، وفي رواية أنس بن مالك:"كلها في النار، إلا واحدة وهي الجماعة"، رواهما ابن ماجه، والأحاديث بعضها يفسر بعضاً.

فعلم أن السواد الأعظم هو الجماعة، وهي جماعة الصحابة، ولعله بهذا المعنى قال إسحاق بن راهوية حين سئل عن معنى حديث:"عليكم بالسواد الأعظم": هو محمد بن أسلم وأتباعه، فأطلق على محمد بن أسلم وأتباعه لفظ السواد الأعظم تشبيهاً لهم بالصحابة في شدة ملازمة السنة والتمسك بها، ومن ثم قال الإمام الشافعي: إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كذا في (تلبيس إبليس)، ولذا كان سفيان الثوري يقول: المراد بالسواد الأعظم هم من كان من أهل السنة والجماعة ولو واحداً، كذا في الميزان للشعراني.

قال ملا سعد الرومي في (مجالس الأبرار) : فلا بد لك أن تكون شديد التوقي من محدثات الأمور، وإن اتفق عليه الجمهور فلا يغرنك اتفاقهم على ما أحدث بعد الصحابة، بل ينبغي أن تكون حريصاً على التفتيش عن أحوالهم وأعمالهم، فإن أعلم الناس وأقربهم إلى الله تعالى أشبههم بهم، وأعرفهم بطريقهم، إذ منهم أخذ الدين، وهم أصول في نقل الشريعة عن صاحب الشرع، وقد جاء في الحديث:"إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم" والمراد به لزوم الحق واتباعه وإن كان المتمسك به قليلاً، والمخالف كثيراً، لأن الحق ما كان عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة ولا عبرة بكثرة الباطل بعدهم.

وقد قال فضيل بن عياض ما معناه: الزم طلق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين، وقال بعض السلف: إذا وافقت الشريعة ولاحظت الحقيقة، فلا تبال وإن خالف رأيك جميع الخليقة. وقال ابن

ص: 308

مسعود: أنتم في زمان خيركم المسارع في الأمور، وسيأتي زمان بعدكم خيرهم فيه المتثبت المتوقف لكثرة الشبهات.

قال الإمام الغزالي: ولقد صدق، لأن من لم يتثبت في هذا الزمان ووافق الجماهير فيما هم فيه وخاض فيما خاضوا فيه، يهلك كما هلكوا، فإن أصل الدين وعمدته وقوامه ليس بكثرة العبادة والتلاوة والمجاهدة بالجوع وغيره، وإنما هو بإحرازه من الآفات، والعاهات التي تأتي عليه من البدع والمحدثات، فإنها لكثرتها وشيوعها صارت كأنها من شعار الدين أو من المفروضة علينا. اهـ

وقال الحافظ ابن القيم: فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، فتفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق طلبه، ولقد سئل إسحاق بن راهويه عن مسألة فأجاب عنها، فقيل له: إن أخاك أحمد بن حنبل يقول فيها بمثل قولك، فقال: ما ظننت أن أحداً يوافقني عليها، ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافق، فإن الحق إذا لاح وتبين لم يحتج إلى شاهد يشهد به، والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس، فكيف يحتاج إلى شاهد يشهد بطلوعها ويوافقه عليه؟

وما أحسن ما قال أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل في كتاب (الحوادث والبدع) : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.

قال عمرو بن ميمون الأودي: صحبت معاذاً باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة. قال: قلت: يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا. قال: وما ذاك؟ قلت: تأمري بالجماعة

ص: 309

وتحضني عليها، ثم تقول: صلِ الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي النافلة. قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الناس الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك. قال نعيم بن حماد: يعني إذا فسدت الجماعة فعليك ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ، وعن الحسن قال: السنة – والذي لا إله إلا هو –بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقى، الذين لم يذهبوا مع أهل الأتراف في أرتافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله تعالى فكونوا.

وكان محمد بن أسلم الطوسي –الإمام المتفق على إمامته– من أتبع الناس للسنة في زمانه، حتى قال: ما بلغتني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها، ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكباً فما مكنت من ذلك.

وسئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: "إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم": من السواد الأعظم؟ قال: محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم. اهـ

وقال ابن حجر المكي مستند الخصم في الفتاوى: فإن قلت هذا القول الثالث ينسب إلى الأكثر، وقد قالوا إن الخطأ إلى القليل أقرب منه إلى الكثير، قلت: وإنه يتعين الإفتاء بما عليه الأكثر، محل ذلك ما لم يتضح أن الأكثر استروحوا كما هنا، فإنهم تمسكوا بالظواهر مع عدم الالتفات للدلائل الواضحة التي تدل على القول الأول والثاني، فوجب المصير إلى ما عليه الأقل، لأنهم أئمة محققون اتضحت أدلتهم وظهرت محجتهم، على أنه ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه رفعه:"ليس الجماعة بكثرة الناس، من كان معه الحق فهو الجماعة وإن واحداً". اهـ

ويؤيد هذا المعنى ما روي عن أبي الدرداء وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك قالوا: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين،

ص: 310

فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله، ثم انتهرنا فقال:"مهلاً يا أمة محمد، إنما هلك من كان قبلكم بهذا المراء، لقلة خيره، ذروا المراء، فإن المؤمن لا يماري. ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته. ذروا المراء فكفى إثماً ألا تزال ممارياً، ذروا المراء، فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء، فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق. ذروا المراء، فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء. فإن بني اسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم، قالوا يا رسول الله ما السواد الأعظم؟ قال:"من كان على ما أنا عليه وأصحابي، من لم يمار في دين الله، ولم يكفر أحداً من أهل التوحيد بذنب غفر له". ثم قال:"إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً". قالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، ولا يمارون في دين الله ولا يكفرون أحداً من أهل التوحيد بذنب". رواه الطبراني في الكبير. وفيه كثير بن مروان وهو ضعيف جداً، كذا في مجمع الزوائد في باب المراء، وفيه في (باب لا يكفر أحد من أهل القبلة) أخرجه الطبراني في الكبير، وفيه كثير بن مروان، كذبه يحيى والدارقطني اهـ. وفي الميزان: ضعفوه يروى عن إبراهيم بن أبي عبلة وغيره، قال يحيى والدارقطني: ضعيف، وقال يحيى مرة: كذاب، وقال الفسوي: ليس حديثه بشيء. اهـ.

فإن قيل: هذا الحديث ضعيف جداً فلا يصح أن يحتج به، قلت: ليس بأضعف من حديث: "عليكم بالسواد الأعظم"، فإذا جوز صاحب الرسالة الاحتجاج بهذا على لزوم اتباع الجمهور فليجوز الاحتجاج بذاك أيضاً على تعيين المراد بالسواد الأعظم، وليعلم هناك أن محل وجوب اتباع السواد الأعظم الذي أريد منه جماعة الصحابة هو ما اختلف فيه الصحابة فذهب عامتهم وأكثرهم إلى أمر والبعض الآخر إلى خلافه، بدليل لفظ الاختلاف والسواد الأعظم الواردين في الحديث، فإن السواد من الناس عامتهم كما في القاموس وغيره، وأما ما أجمع عليه الصحابة فوجوب اتباعه يعلم بفحوى الخطاب، وأما ما اختلفوا فيه، ولا يعلم كثرتهم في جانب فالحديث لا يدل على وجوب اتباعهم فيه، وهذا كله فيما إذا لم تعارضه آية أو حديث مرفوع صحيح أو حسن ولم

ص: 311

يثبت نسخهما، وأما إذا عارضته آية أو حديث فلا يلتفت إلا ما أجمع عليه الصحابة أو ذهب إليه أكثرهم إن قدر وقوع ذلك.

وجملة الكلام أن المقصود اتباع الحق ولزومه كما قال ملا سعد الرومي في (المجالس) لا اتباع الكثير أو القليل، وإنما أمرنا باتباع الكثير من الصحابة فيما اختلفوا فيه لأن ذهاب أكثرهم إلى أمر جعل أمارة وعلامة على كونه حقاً، إذ هم خير الأمة وأمنة لها، قال صلى الله عليه وسلم:"فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون". أي من البدع والحوادث وذهاب الخير ومجيء الشر، وهم كانوا لا يبتدعون من عند أنفسهم شيئاً، ويأخذون في كل أمر بسنته صلى الله عليه وسلم، ويتقدون بأمره، والعمل بمقتضى الأمارة إنما هو إذا لم يوجد نص صريح، وأما وقت وجدان النص الصريح الصحيح المعارض لمقتضى الأمارة فلا يعمل بمقتضى الأمارة، بل العمل بالنص حينئذ متعين متحتم، فإنه حق صريح، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وماذا بعد الحق إلا الضلال.

ولعلك تفطنت من هنا أن الإحداث في أمر الدين، كما أنه لا يجوز لنا كذلك هو غير جائز للصحابة رضي الله عنهم أيضاً، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". ولا تحسبن أن محدثات الصحابة إن قدر وقوعها داخلة في السنة خارجة عن حد البدعة، كيف وقد ورد في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أنا فرطكم عن الحوض، وليرفعن رجال منكم، ثم ليختلجن دوني فأقول: يارب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". وفي رواية أبي سعيد الخدري عند البخاري "فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي".

فلا غرو إن صدر أحياناً من بعض أفراد الصحابة شيء من الحدث أو غيره من المعاصي، فإنا معاشر أهل السنة والجماعة لا نقول بعصمة أحد غير الأنبياء عليهم السلام كائناً من كان، ولكنا نعلم قطعاً أن معظم الصحابة وعامتهم وأكثرهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون بسنته صلى الله عليه وسلم ويتقدون بأمره، وينكرون شديد الإنكار على من أحدث في الدين، أو فعل فعلاً لم يفعله سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ في الفتح: وحاصل ما حمل عليه حال المذكورين أنهم كانوا ممن ارتد

ص: 312

عن الإسلام فلا إشكال في تبري النبي صلى الله عليه وسلم منهم وإبعادهم، وإن كانوا ممن لم يرتد لكن أحدث معصية كبيرة من أعمال البدن أو بدعة من اعتقاد القلب، فقد أجاب بعضهم بأنه يحتمل أن يكون أعرض عنهم ولم يشفع لهم اتباعاً لأمر الله فيهم حتى يعاقبهم على جنايتهم، ولا مانع من دخولهم في عموم شفاعته لأهل الكبائر من أمته فيخرجون عند إخراج الموحدين من النار. والله أعلم. اهـ.

قوله: وقال صلى الله عليه وسلم: "من خالف الإسلام قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه".

أقول: هذا الحديث بهذا اللفظ رواه الترمذي في أبواب الأمثال من حديث الحارث الأشعري في أثناء حديث طويل وقال: هذا حديث صحيح غريب، قال محمد بن إسماعيل: والحارث الأشعري له صحبة، وله غير هذا الحديث.

قال الحافظ في الفتح: "من فارق الجماعة شبراً فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه". أخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من حديث الحارث بن الحارث الأشعري في أثناء حديث طويل، وأخرجه البزار والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس، وفي سنده خليد بن دعلج وفيه مقال، وقال:"من رأسه" بدل "عنقه" انتهى.

وفي مجمع الزوائد: وعن أبي سلام ممطور عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم –قال أراه أبا مالك الأشعري– قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا آمركم بخمس: بالسمع والطاعة والجماعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فمن خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه". الحديث، وقال أحمد: ورجاله ثقات رجال الصحيح، خلا علي بن إسحاق السلمي وهو ثقة، ورواه الطبراني باختصار إلا أنه قال: فمن فارق الجماعة قيد قوس لم يقبل منه صلاة ولا صيام، وأولئك هم وقود النار اهـ.

قلت: في تصحيح الترمذي وابن خزيمة وابن حبان حديث الحارث نظر، فإن في سنده يحيى بن أبي كثير وهو مدلس وقد عنعنه، ورواه عن زيد بن سلام، وروايته عنه منقطعة لأنها عن كتاب له، وقال يحيى القطان: مرسلات يحيى بن كثير شبه الريح، كذا في الميزان. ورواه أيضاً أبو داود في باب قتل الخوارج من حديث أبي ذر

ص: 313

وفي سنده خالد بن وهبان، قال الذهبي في الميزان: خالد بن وهبان عن أبي ذر مجهول. اهـ.

وفي الباب أحاديث أخر جلها ضعيفة، منها ما روي عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فقال:"إنه كائن بعدي سلطان فلا تذلوه، فمن أراد أن يذله فقد خلع ربقة الإسلام". رواه أحمد، وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات.

ومنها ما روى عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن خرج عن الجماعة قيد شبر متعمداً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" رواه الطبراني، وفيه عمرو بن واقد وهو متروك.

ومنها ما روي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن خرج من الطاعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" رواه الطبراني، وفيه عمرو بن رويبة وهو متروك.

ومنها ما روي عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبر شبراً: "من فارق جماعة المسلمين شبراً خرج من عنقه ربقة الإسلام". رواه الطبراني، وفيه حسين بن قيس وهو ضعيف.

ومنها ما روي عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة فهو في النار على وجهه". رواه الطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم.

ومنها ما روي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة واستذل الإمارة لقى الله لا وجه له عنده". رواه أحمد ورجاله ثقات.

ومنها ما روي عن صلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة شبراً فقد فارق الإسلام". رواه البزار، وفيه محمد بن عبيد الله العزرمي وهو ضعيف.

ومنها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة قياس –أو قيد– شبر خلع ربقة الإسلام من عنقه" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه خليد بن دعلج وهو ضعيف.

ص: 314

ذكر تلك الأحاديث كلها الهيثمي في مجمع الزوائد: نعم في الوعيد على من فارق الجماعة أحاديث صحيحة لعل صاحب الرسالة لم يظفر بها، وإلا فلا وجه لترك ما هو في أعلى درجة الصحة وذكر ما دونه، وهذا أدل دليل على قصور نظره في صنعة الحديث:

منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية". وفي رواية: "من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية". وفي رواية: "ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية". رواه البخاري ومسلم والدارمي.

ومنها حديث أبي هريرة: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية". وفي لفظ: "من خرج من الطاعة ثم مات مات ميتة جاهلية". رواه مسلم والنسائي.

ومنها حديث ابن عمر: "من خلع يداً من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". ولكن ليس فيها ولا في غيرها مما فيه وعيد على مفارق الجماعة دلالة على مطلوب الخصم من لزوم اتباع الجمهور، كيف والمراد بالجماعة في تلك الأحاديث هو معظم الناس الذين يجتمعون على طاعة السلطان.

يدلك على هذا ما ورد في بعض الروايات من لفظ السلطان ومثله، وليعم أنه لا يبعد أن يكون الحامل على ترك ما هو في أعلى درجة الصحة وذكر ما هو دونه هو زعم أن إرادة الجمهور من لفظ الجماعة في القسم الأول غير متعسرة، بخلاف القسم الثاني، فإن كان هذا فهو أبعد من الديانة على ما لا يخفى.

قوله: وقد ذكر العلامة ابن الجوزي في كتابه المسمى (تلبيس إبليس) أحاديث كثيرة في التحذير من مفارقة السواد الأعظم.

أقول: يعلم من هذا ديانة المؤلف من وجوه:

(الأول) أن صاحب هذه الرسالة نقل ما ذكر ابن الجوزي في التحذير من

ص: 315

مفارقة الجماعة زعماً منه أنه يفيده في ذلك المقام مع أنه بعد تعيين المراد منه ليس فيها أثر من ذلك، ولم ينقل ما ذكر1 في قلة أهل السنة والجماعة الدال على نقيض مدعاه، حيث قال في الباب الأول من ذلك الكتاب: عن يوسف بن أسباط قال: قال سفيان أخبرنا يوسف: إذا بلغك عن رجل بالمشرق أنه صاحب سنة فابعث إليه بالسلام، وإذا بلغك عن رجل آخر بالمغرب أنه صاحب سنة فابعث إليه بالسلام، فقد قل أهل السنة والجماعة.

وأيضاً قال: وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء، وعن أبي بكر بن عياش: السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان، وقال في الباب الثاني: وعن عبد الله بن محيريز يذهب الدين سنة سنة، كما يذهب الحبل قوة قوة2، وإذ قد ثبت قلة أهل السنة والجماعة فكيف يصح القول بلزوم اتباع جمهور كل زمان وقرن؟

و (الثاني) أن صاحب الرسالة لم ينقل من كتاب ابن الجوزي ما يدل على تعيين الجماعة والسواد الأعظم، فإن فيه حديث ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي". قال الترمذي: هذا حديث غريب مفسر اهـ. فهذا الحديث فيه دلالة على أن المراد بالجماعة جماعة الصحابة، كما قال الترمذي ونقله ابن الجوزي.

وأيضاً فيه عن ابن العالية قال: عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا، قال عاصم: فحدثت به الحسن فقال: قد نصحك والله وصدقك، وعن الأوزاعي قال: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا،

1 أي: ولم ينقل عنه ما ذكره ألخ.

2 القوة من الحبل الطاقة من طاقات فتله.

ص: 316

وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم اهـ، وإذ قد تعين المراد، فالقول باتباع جمهور كل عصر بين الفساد.

و (الثالث) أنه ترك من كلام ابن الجوزي في الباب الثاني ما فيه التصريح بالمراد حيث قال: فإن قال قائل: قد مدحت السنة وذممت البدعة، فما السنة وما البدعة؟ وكل مبتدع في زمننا يزعم أنه من أهل السنة؟ فالجواب أن السنة في اللغة الطريق ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه هم أهل السنة لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. اهـ.

وأيضاً فيه: فقد بان بما ذكرنا أن أهل السنة هم المتبعون، وأن أهل البدعة هم المظهرون شيئاً لم يكن قبل ولا مستند له.

وأيضاً فيه: وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" أخرجاه في الصحيحين1.

وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله". قال المصنف: انفرد بإخراجه مسلم، وقد روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم معاوية وجابر بن عبد الله وقرة، وعن الترمذي: قال محمد بن إسماعيل قال علي بن المديني: هم أصحاب الحديث. اهـ.

و (الرابع) أن ابن الجوزي ذكر في الكتاب المذكور أحاديث كثيرة في ذم البدع والمبتدعين: (منها) حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (ومنها) حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رغب عن سنتي فليس مني". (ومنها) حديث العرباض بن سارية قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا يعظنا

1 كان هذا الحديث وما بعده محرفين، وسقط من الأول لفظ "أمر" فكان: حتى يأتي الله فصححناهما.

ص: 317

موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال:"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". (ومنها) حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني فأقول: يارب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". وصاحب الرسالة قد ترك تيك الأحاديث كلها لأنها تبطل دعواه الباطلة من التوسل المكروه المحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قول القائل: اللهم إني أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه محدث، والأحاديث المذكورة ترد على كل ما أحدث في الدين.

وليعلم هناك أن قرن الصحابة كأن البدعة لم تكن فيه، والسنة كانت خالصة فيه، يدل عليه حديث أبي موسى رضي الله عنه مرفوعاً:"وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون". رواه مسلم، وحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". رواه مسلم. وحديث العرباض بن سارية مرفوعاً: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وحديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا عليه وأصحابي". وحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل طيباً وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة". فقال رجل: يا رسول الله إن هذا اليوم لكثير في الناس، قال:"وسيكون في قرون بعدي". رواه الترمذي.

ص: 318

ولذا أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم الخيرية المطلقة في قوله: "خير أمتي قرني". ومن ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. رواه رزين، كذا في المشكاة.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن عبد الله بن مسعود قال: لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، فإن آمن آمن وإن كفر كفر، وإن كنتم لابد مقتدين فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. اهـ.

وأيضاً قال ابن مسعود: إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فاختار محمداً فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد فاختار له أصحاباً فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح. قال شمس الدين السخاوي في المقاصد الحسنة: أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود من قوله، وكذا أخرجه البزار والطيالسي والطبراني وأبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة ابن مسعود، بل عند البيهقي في الاعتقاد من وجه آخر عن ابن مسعود اهـ كلامه. قال ابن نجيم في (الأشباه والنظائر) قال العلائي: لم أجده مرفوعاً في شيء من كتب الحديث أصلاً ولا بسند ضعيف، بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه، أخرجه أحمد في مسنده، وقال الحموي في حواشيه قال السخاوي في (المقاصد الحسنة) : حديث: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن". رواه أحمد في كتاب السنة، ووهم من عزاه للمسند من حديث أبي وائل عن ابن مسعود، وهو موقوف حسن. اهـ ملخصاً، فكأن العلائي تبع من وهم في نسبته إلى المسند. اهـ.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، ورجاله موثقون، وروى الدارمي عن عمر بن يحيى قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد،

ص: 319

فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أرَ والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول هللوا مائة فيهللون مائة، ويقول سبحوا مائة فيسحبون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتحي باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق1 يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج. اهـ.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن عمرو بن سلمة قال: كنا قعوداً على باب ابن مسعود بين المغرب والعشاء فأتى أبو موسى فقال: اخرج إلينا أبا عبد الرحمن، فخرج ابن مسعود فقال: أبا موسى ما جاء بك هذه الساعة؟ قال: لا والله إلا أني رأيت أمراً

1 الحلق في الأصل بالمهملة وصحح في جدول بيان الخطأ وصوابه في الطبعة الهندية فجعل بالمعجمة وهو تصحيف لا يقبل إلا إذا كان هو الرواية، وإلا فالحلق بالمهملة هو الذي ذكر في أول الأثر، فالمعرفة هنا عين المنكرة هناك، فهو الذي تقتضيه الرواية، وواضع جدول التصويب يذكر مثل هذا التصحيف وما يقرب منه من التحريف ويدع الأغلاط الكثيرة لأنه لا يعرفها، وقد صححنا أكثرها كما نظن، وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 320

ذعرني وإنه لخير، ولقد ذعرني وإنه لخير، قوم جلوس في المسجد ورجل يقول سبحوا كذا وكذا، احمدوا كذا وكذا، قال فانطلق عبد الله وانطلقنا معه حتى أتاهم فقال: ما أسرع ما ضللتم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء، وأزواجه شوابّ، وثيابه وأبنيته لم تغير، احصوا سيئاتكم، فأنا أضمن على الله أن يحصي حسناتكم، رواه الطبراني في الكبير، وفيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي، وضعفه البخاري وأحمد بن حنبل ويحيى.

وعن أبي البختري قال: بلغ عبد الله بن مسعود أن قوماً يقعدون بين المغرب والعشاء يقولون قولوا كذا قولوا كذا، قال عبد الله: إن فعلوا فآذنوني، فلما جلسوا أتوه فانطلق معهم، فجلس وعليه برنس فأخذوا في تسبيحهم، فحسر عبد الله عن رأسه البرنس وقال: أنا عبد الله بن مسعود -فسكت القوم- فقال: لقد جئتم بدعة ظلماً، وإلا فضللنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فقال عمرو بن عتبة بن فرقد: استغفر الله يا ابن مسعود وأتوب إليه، فأمرهم أن يتفرقوا، قال: ورأى ابن مسعود حلقتين في مسجد الكوفة فقام بينهما فقال: أيتكما كانت قبل صاحبتها؟ قالت إحداهما: نحن، فقال للأخرى: قوموا إليها، فجعلهم واحدة، رواه الطبراني في الكبير وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلط، وفي بعض طرق الطبراني الصحيحة المختصرة: فجاء عبد الله بن مسعود متقنعاً فقال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عبد الله بن مسعود، إنكم لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو أنكم لتعلقون بذنب ضلالة، وفي رواية لعطاء بن السائب فقال ابن مسعود: لئن اتبعتم القوم لقد سبقوكم سبقاً بعيداً بيناً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالا بعيداً. اهـ.

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: يا معشر القراء استقيموا، فقد سبقتم سبقاً بعيداً، وإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً. رواه البخاري.

وأيضاً عن حذيفة قال: كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من قبلكم. رواه أبو داود.

إذا دريت ما ذكرنا من الأحاديث والآثار فقد علمت أن قرن الصحابة كانت السنة

ص: 321

خالصة فيه، وكأن البدعة لم تكن فيه، وإنما لم أقل إن البدعة لم تكن فيه لما ورد في الصحيح:"أنا فرطكم على الحوض، فليرفعن إلى رجال منكم، حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: إي رب أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك". فهذا الحديث يدل أوضح دلالة على أن من الصحابة من يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم بعد انقراض قرن الصحابة أتى أمته ما يوعدون من الحوادث والبدع، وكلما أحدثت بدعة رفع مثلها من السنة، ولكن في قرن التابعين وأتباع التابعين لم تظهر البدع ظهوراً فاشياً، وأما بعد قرن أتباع التابعين فقد تغيرت الأحوال تغيراً فاحشاً، وغلبت البدع، وصارت السنة غريبة، واتخذ الناس البدعة سنة والسنة بدعة، ولا تزال السنة في المستقبل غريبة إلا ما استثنى من زمان المهدي رضي الله عنه وعيسى عليه السلام، إلى أن تقوم الساعة على شرار الناس.

يدل على ذلك الأحاديث والآثار التي نذكرها الآن بحوله وقوته، منها: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة: "ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون، ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن" رواه البخاري ومسلم.

ومنها حديث الأسلمي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بألة". رواه البخاري.

قال الحافظ في الفتح: ووجدت لهذا الحديث شاهداً من رواية الفزارية امرأة عمر بلفظ "تذهبون الخير فالخير، حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر، ينزو بعضهم على بعض نزو المعز". أخرجه أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر وقال بُعيْدَه: ووقع في آخر حديث الفزارية المذكور آنفاً: "على أولئك تقوم الساعة". وقال في الفتح أيضاً قال ابن بطال: وفيه أنه يجوز انقراض أهل الخير في آخر الزمان حتى لا يبقى إلا أهل الشر، واستدل به على جواز خلو الأرض من عالم حتى لا يبقى إلا أهل الجهل صرفاً". اهـ.

ص: 322

ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل وتشرب الخمر ويظهر الزنا". رواه البخاري.

ومنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". رواه البخاري، قال الحافظ في الفتح: واستدل به الجمهور على القول بخلو الزمان عن مجتهد، ولله الأمر يفعل ما يشاء. اهـ.

ومنها حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتقارب الزمان وينقص العلم ويلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج". قالوا: يا رسول الله أيما هو؟ قال: "القتل القتل" رواه البخاري.

ومنها حديث أنس بن مالك قال: سمعت من نبيكم صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم". رواه البخاري. قال الحافظ في الفتح: وبهذا اللفظ أخرج الطبراني بسند جيد عن ابن مسعود نحو هذا الحديث موقوفاً عليه، قال:"ليس عام إلا والذي بعده شر منه". وله عنه بسند صحيح قال: "أمس خير من اليوم، واليوم خير من الغد، وكذلك حتى تقوم الساعة". اهـ.

قال الحافظ في الفتح: وقد استشكل هذا الإطلاق، مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز وهو بعد زمان الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز، بل لو قيل إن الشر اضمحل في زمانه لما كان بعيداً، فضلاً عن أن يكون شراً من الزمن الذي قبله، وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج فقال: لابد للناس من تنفيس، وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الذي بعده لقوله صلى الله عليه وسلم:"خير القرون قرني". وهو في الصحيحين،

ص: 323

وقوله "أصحابي أمَنَة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" أخرجه مسلم. ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون. اهـ.

وقال في الفتح أيضاً: واستشكلوا أيضاً زمان عيسى بن مريم بعد زمان الدجال، وأجاب الكرماني بأن المراد الزمان الذي يكون بعد عيسى، أو المراد جنس الزمان الذي فيه الأمراء، وإلا فمعلوم من الدين بالضرورة أن زمان النبي المعصوم لا شر فيه. قلت: ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده، ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى عليه السلام فله حكم مستأنف. والله أعلم. اهـ.

وقال في الفتح أيضاً: واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، ثم وجدت عن ابن مسعود ما يصلح أن يفسر به الحديث، وهو ما أخرجه الدارمي بسند حسن عن عبد الله قال: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما أني لست أعنى عاماً. اه

قلت وتمام الحديث: أخصب من عام، ولا أميراً خيراً من أمير، ولكن علماءكم وخياركم وفقهاءكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفاً، ويجيء قوم يقيسون الأمر برأيهم.

ومنها حديث حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة. وحدثنا عن رفعها قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من

ص: 324

قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت. ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل المجل، كجمر دحرجته على رجلك فتنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه حبة من خردل من إيمان". متفق عليه.

ومنها حديث حذيفة قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني قال: قلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال:"نعم". قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟ قال "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر". قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال "نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها". قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا". قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟. قال "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" متفق عليه.

ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا". رواه مسلم.

ومنها حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم" قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال "فمن"؟ متفق عليه.

ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء". رواه مسلم.

وقد ورد تفسير الغرباء في حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد ابن ملحة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذين ليأرز إلى الحجاز كما

ص: 325

تأرز الحية إلى حجرها، وليعقلن الدين في الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي". رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن.

قلت: وفي تحسينه نظر، فإنه من رواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وكثير هذا اتهمه الشافعي وأبو داود بالكذب، وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، وأما الترمذي فروى من حديثه "الصلح جائز بين المسلمين" وصححه، فلذا لم يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي، كذا في الميزان.

وقد وقع تفسير الغرباء في حديث روى عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك، وهو حديث طويل رواه الطبراني في الكبير، وقد تقدم في بيان السواد الأعظم، وفيه كثير بن مروان وهو أيضاً متهم بالكذب.

وورد في تفسير الغرباء أيضاً في حديث عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء" قال: قيل ومن الغرباء؟ قال "النزاع من القبائل" رواه ابن ماجه والدارمي، وجميع رواته ثقات سوى سفيان بن وكيع وهو وإن تكلموا فيه لكنه صدوق، قال ابن خزيمة: لو خر من السماء فتخطفه الطير أحب إليه من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حسن له الترمذي كذا في الميزان، فهذا الحديث أحسن شيء في الباب، قال في النهاية: وفيه "طوبى للغرباء" قيل: من هم يا رسول الله؟ قال "النزاع من القبائل" هي جمع نازع ونزيع، وهو الغريب الذي نزع من أهله وعشيرته أي بعد وغاب. انتهى.

ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد" كذا في المشكاة من غير ذكر المخرج، وفي مجمع الزوائد: وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" "المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن صالح العدوي، ولم أر من ترجمه وبقية رجاله ثقات.

ص: 326

ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا" رواه الترمذي.

ومنها حديث أبي ثعلبة في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} . وفيه "فإن وراءكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله1، قالوا: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال "أجر خمسين منكم". رواه الترمذي وابن ماجه.

ومنها حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر" رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب إسناداً.

ومنها حديث عبد الرحمن بن العلاء الحضرمي قال: حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم لهم مثل أجر أولهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقاتلون أهل الفتن" رواه البيهقي في دلائل النبوة.

ومنها ما روي عن عبد الله بن الديلمي قال: بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنّة، يذهب الدين سنة فسنة كما يذهب الحبل قوة قوة". رواه الدرامي.

ومنها ما روي عن شقيق قال: قال عبد الله: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا غيرت السنة، قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة. رواه الدارمي.

ومنها ما روي عن عبد الله قال: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي كان قبله، أما إني لست أعني أن عاماً أخصب من عام، ولا أميراً خيراً من أمير، ولكن علماءكم وخياركم وفقهاءكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفاً، ويجيء قوم يقيسون الأمر برأيهم. رواه الدارمي، وقد نقل هذا فيما قبل من الفتح.

1 هكذا أورد الحديث، ونصه المروي "فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم".

ص: 327

ومنها ما روي عن الحسن قال: سنتكم والله الذي لا إله إلا هو بينهما: بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقى، الذين لم يذهبوا مع أهل الأتراف في أترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا. رواه الدرامي.

ومنها ما روي عن ابن مسعود: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعلموا العلم وعلموه الناس، تعلموا الفرائض وعلموه الناس، تعلموا القرآن وعلموه الناس، فإني امرؤ مقبوض والعلم سيقبض، وتظهر الفتن حتى يختلف اثنان في فريضة لا يجدان أحداً يفصل بينهما". رواه الدارمي.

ومنها ما روي عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال "ذاك عند أوان ذهاب العلم". قلت: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤها أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال "ثكلتك أمك زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما "؟ رواه أحمد وابن ماجه.

وروى الترمذي عنه نحوه وكذا الدارمي عن أبي أمامة. كذا في المشكاة.

قلت: وقد روى الدارمي هذا الحديث أيضاً عن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال "هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء". فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال "ثكلتك أمك يا زياد" الحديث.

ورواه أحمد والطبراني في الكبير عن أبي أمامة وإسناد الطبراني أصح. وفي الباب عن ابن عمر رواه البزار وفيه سعيد بن سنان، وعن عوف بن مالك رواه البزار، وفيه عبد الله بن صالح، وعن وحشي بن حرب رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن، وعن صفوان بن عسال رواه الطبراني في الكبير، وفيه مسلمة بن علي الخشني وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد.

ص: 328

ومنها حديث حزام بن حكيم بن حزام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنكم قد أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، كثير معطوه قليل سؤاله، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي زمان قليل فقهاؤه وكثير خطباؤه، وكثير سؤاله قليل معطوه، العلم فيه خير من العمل" رواه الطبراني في الكبير، وفيه عثمان بن عبد الرحمن الطرائقي وهو ثقة إلا أنه قيل فيه يروي عن الضعفاء، وهذا من روايته عن صدقة بن خالد وهو من رجال الصحيح.

وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنكم في زمان علماؤه كثير وخطباؤه قليل، من ترك فيه عشر ما يعلم هوى، وسيأتي على الناس زمان يقل علماؤه ويكثر خطباؤه، من تمسك فيه بعشر ما يعلم نجا" رواه أحمد، وفيه رجل لم يسم.

وعن حزام بن حكيم عن عمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه، كثير معطوه قليل سؤاله، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه كثير سؤاله قليل معطوه العلم فيه خير من العمل" رواه الطبراني في الكبير، وفيه صدقة بن عبد الله السمين وهو ضعيف منكر الحديث، كذا في مجمع الزوائد.

ومنها حديث حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعز من ثلاث: درهم حلال، أو أخ يستأنس به، أو سنة يعمل بها" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه روح بن صلاح ضعفه ابن عدي وقال الحاكم ثقة مأمون وذكره ابن حبان في الثقات، وبقية رجاله موثقون، كذا في مجمع الزوائد.

ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن. رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون، كذا في مجمع الزوائد.

ومنها حديث علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود" رواه البيهقي في شعب الإيمان، كذا في المشكاة.

ص: 329

ومنها حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا صدقة، وليسري على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة -لا إله إلا الله- فنحن نقولها، فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه –ثلاثاً- كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة، تنجيهم من النار (ثلاثاً) . رواه ابن ماجه ورواته كلهم ثقات.

ومنها حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها1 فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن" قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال "حب الدنيا وكراهية الموت" رواه أبو داود والبيهقي في دلائل النبوة، كذا في المشكاة.

ومنها حديث ابن مسعود: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء" رواه البخاري.

ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " رواه مسلم. ومنها حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق" رواه مسلم.

ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة، وذو الخلصة طاغية دوس الذي كانوا يعبدون في الجاهلية. متفق عليه.

1 تداعى عليكم الأمم بفتح التاء، أصله تتداعى، أي يدعو بعضها بعضاً إلى سلب ملككم واستذلالكم كا يتداعون إلى قصعة الطعام لأنكم تكونون مأكلة لها.

ص: 330

ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى يعبد اللات والعزى" فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . أن ذلك تام، قال "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفي كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم" رواه مسلم.

ومنها حديث النواس بن سمعان في قصة الدجال وعيسى أو يأجوج ومأجوج وفيه "إذ بعث الله ريحاً طيبة فتقبض روح كل مؤمن ومسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة".

فإن قلت: ما وجه الجمع بين تيك الأحاديث وبين حديث: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة"، قلت: وجه الجمع حمل الغاية في حديث: "لا تزال طائفة"، على وقت هبوب الريح الطيبة التي تقبض روح كل مؤمن ومسلم، فلا يبقى إلا الشرار، فتهجم الساعة عليهم بغتة، كذا في فتح الباري.

وجملة القول في الباب أن السنة كانت غالبة في قرن الصحابة خاصة، ولذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية المطلقة، وأما بعده فقد زالت غلبة السنة، ولكن قرن التابعين وقرن تبع التابعين لم تغلب فيهما البدعة أيضاً، ولذا وصفا في الحديث بالخيرية الإضافية، وأما بعد انقراض القرن الثالث فقد صارت السنة غريبة وأهلها غرباء ولا تزال غربتها في زيادة إلى أن تقوم الساعة، اللهم إلا في زمان المهدي رضي الله عنه وعيسى عليه السلام، فلا يجوز التمسك بجمهور إلا بجمهور الصحابة.

وقد علم بما نقل من الأحاديث والآثار أن غربة الإسلام ليس معناها أنه يقل أهل الإسلام، دل عليه ما في حدي ثوبان المتقدم من قوله صلى الله عليه وسلم:"بل أنتم يومئذ كثير"(بل) معناها أن الصالحين من أهل الإسلام يذهبون الأول فالأول وتبقى حفالة كحفالة الشعير وغثاء كغثاء السيل، وأن سنن الإسلام وشعبها وشرائعها من الصلاة والصيام والنسك والصدقة وغيرها تذهب وقتا فوقتاً حتى لا يبقى إلا قول لا إله إلا الله،

ص: 331

فإذا بعث الله ريحاً طيبة توفى كل من كان في قبلة مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فعليهم تقوم الساعة.

ولفظ السنة فيما هنالك يشمل الفرض والسنة والمندوب، كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السنة سنتان: سنة في فريضة، وسنة في غير فريضة، فالسنة التي في الفريضة أصلها في كتاب الله، أخذها هدى وتركها ضلالة، والسنة التي ليس أصلها في كتاب الله الأخذ بها فضيلة، وتركها ليس بخطيئة" رواه الطبراني في الأوسط وقال: لم يروه عن أبي سلمة إلا عيسى بن واقد، تفرد به عبد الله ابن الرومي ولم أر من ترجمه، كذا في مجمع الزوائد.

وإطلاق السنة على ما يشمل الفرض وغيره شائع كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" أي أعرض عن طريقتي فرضاً أو سنة، عملاً أو عقيدة، فليس قريباً مني، أو أعرض عنها غير معتقد لها، كذا في مجمع البحار.

وقال الحافظ في الفتح: المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، وفي حديث حذيفة الطويل: ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة، قال الحافظ في الفتح: والمراد بالسنن ما يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واجباً كان أو مندوباً.

قوله: منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب في الجابية فقال: "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد".

أقول: فيه بحث من وجوه:

(الأول) : أن لفظ حديث ابن عمر في (تلبيس إبليس) هكذا: وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" اهـ. فليس فيه أنه خطب في الجابية، وليس فيه من أراد بحبوحة الجنة، بل لفظة "من سره أن يسكن بحبوحة الجنة".

ص: 332

و (الثاني) : أن رواية ابن عمر قد ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد ونصه هكذا وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احفظوني في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد، وحتى يحلف الرجل قبل أن يستحلف، ويبذل نفسه بحلف الزور، فمن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن يد الله على الجماعة، وإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ومن ساءته سيئته، وسرته حسنته فهو مؤمن" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي وهو متروك. اهـ.

قال الذهبي في الميزان: إبراهيم بن عبد الله بن خالد عن عبد الله بن قيس وإبراهيم المصيصي عن وكيع أحد المتروكين، قال ابن حبان: إبراهيم بن عبد الله بن خالد يسرق الحديث ويروي عن الثقات ما ليس من حديثهم، قلت: هذا رجل كذاب، قال الحاكم: أحاديثه موضوعه. اهـ. ملخصاً.

و (الثالث) : أن الحديث من مسانيد عمر لا ابن عمر، دل على ذلك رواية الترمذي لفظه هكذا: حدثنا أحمد بن منيع حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة عن محمد بن سوقة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: "يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال: "أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن" هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد رواه ابن المبارك عن محمد بن سوقة، وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ.

وهذه الرواية قد ذكرها ابن الجوزي أيضاً في (تلبيس إبليس) ، بل هو أول حديث ذكره في الباب الأول، وما أغفل صاحب الرسالة حيث لم ينقل ما صححه الترمذي ونقل ما فيه متروك كذاب، وهذا أبهر برهان على أنه لا يميز بين الصحيح والسقيم.

ص: 333

و (الرابع) : أن رواية الترمذي في سندها النضر بن إسماعيل أبو المغيرة وهو ضعيف، قال الذهبي في الميزان: قال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي وأبو زرعة: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: فحش خطؤه حتى استحق الترك، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقال العجلي: ثقة اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: ليس بالقوي اهـ. إلا أن يقال إن المبارك قد تابعه كما ذكره الترمذي فارتقى الحديث إلى درجة الصحة والحسن.

وروى هذا الحديث عن عامر بن ربيعة بلفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس له طاعة مات ميتة جاهلية، وإن خلعها من بعد عقدها في عنقه لقي الله تبارك وتعالى ليست له حجة، ألا لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان إلا محرم، فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد، من ساءته سيئاته وسرته حسناته فهو مؤمن" رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، وفي رواية عنده "بعد عقده إياها في عنقه" وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد.

و (الخامس) : أن حديث ابن عمر المذكور ليس دالاً على دعواه وهي لزوم اتباع الجمهور، إذ لفظ "الجماعة" يحتمل معاني: أحدها الجماعة في الصلاة كما في حديث أبي الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بلد ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية" قال السائب: يعني بالجماعة الجماعة في الصلاة، رواه النسائي وأبو داود، والبواقي تظهر بملاحظة العبارات التي ننقلها.

قال الحافظ في الفتح في (كتاب الفتن) : قال الطبراني: اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة، فقال قوم: هو للوجوب والجماعة السود الأعظم، ثم ساق عن محمد بن سرين عن أبي مسعود أنه وصى من سأله –لما قتل عثمان-: عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، وقال قوم: المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم، وقال قوم: المراد بهم أهل العلم، لأن الله جعلهم حجة على الخلق، والناس تبع لهم في أمر الدين.

ص: 334

قال الطبري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة. اهـ.

وقال في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) : والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر، وقال الكرماني: مقتضى الأمر بلزوم الجماعة أنه يلزم المكلف متابعة ما أجمع عليه المجتهدون، وهم المراد بقوله: وهم أهل العلم، والآية التي ترجم بها احتج بها أهل الأصول لكون الإجماع حجة. اهـ.

وقال القسطلاني في (كتاب الفتن) : والجماعة التي أمر الشارع بلزومها جماعة أئمة العلماء، لأن الله تعالى جعلهم حجة على خلقه، وإليهم تفزع العامة في أمر دينها، وهم المعنيون بقوله "إن الله تعالى لن يجمع أمتي على ضلالة"، وقال آخرون: "هم جماعة الصحابة الذين قاموا بالدين وقوموا عماده، وثبتوا أوتاده، وقال آخرون: هم جماعة أهل الإسلام ما كانوا مجتمعين على أمر واجب على أهل الملة اتباعه، فإذا كان فيهم مخالف منهم فليسوا مجتمعين. اهـ.

وعلى كل تقدير لا يثبت منه دعوى الخصم وهو لزوم اتباع الجمهور، إنما الثابت منه على المعنى الأول لزوم اتباع الجماعة في الصلاة، وعلى الثاني لزوم ابتاع ما أجمع عليه أهل الإسلام، وعلى الثالث لزوم ابتاع جماعة الصحابة، وعلى الرابع لزوم اتباع أهل العلم أي المجتهدين، وعلى الخامس لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره وهم أهل الحل والعقد من كل عصر، ويؤيد المعنى الخامس حديث عامر بن ربيعة المتقدم، وكفى به مؤيداً، وإن كان الحديث المذكور ضعيفاً فإن التأييد يحصل بالضعيف أيضاً.

قوله: وحديث عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يد الله على الجماعة، والشيطان مع من يخالف الجماعة ".

أقول: أخرج هذا الحديث النسائي ولفظه هكذا: عن عرفجة بن شريح الأشجعي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يخبط الناس فقال: "إنه سيكون بعد هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة، أو يريد تفريق أمة محمد كائناً من كان فقتلوه، فإن يد الله

ص: 335

على الجماعة، فإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض، قلت: ورواته كلهم ثقات، وفي مجمع الزوائد وعن عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يد الله على الجماعة، والشيطان مع من يخالف يركض". رواه الطبراني ورجاله ثقات. اهـ. ولكن المراد بالجماعة –في هذا الحديث- هم الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره لا غير، دل عليه ما رواه مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه".

قوله: وحديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم".

أقول: راجعت كتاب (تلبيس إبليس) : فوجدت فيه الشاذ بدل (الشاة) . وفي مجمع الزوائد: وعن أسامة بن شريك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يد الله عز وجل على الجماعة، وإذا شذ الشاذ منكم اختطفه الشيطان كما يختطف الذئب الشاة من الغنم". رواه الطبراني، وفيه عبد الأعلى بن أبي المساوري وهو ضعيف. اهـ.

قال الذهبي في الميزان: عبد الأعلى بن أبي المساور الكوفي الجرار الفاخوري عن الشعبي لحقه جبارة بن المفلس ضعفوه، قال يحيى وأبو داود: ليس بشيء، وقال ابن نمير والنسائي: متروك، وقال الدارقطني: ضعيف. اهـ.

فهذا الحديث غير صالح لأن يحتج به، على أن دلالته على المطلوب غير مسلمة، فإن لفظ الجماعة يحتمل الجماعة في الصلاة كما في حديث أبي الدرداء، وجماعة الصحابة وجماعة أهل الحل والعقد الذين هم في طاعة من اجتمعوا على تأميره.

وروى النسائي عن أسامة بن شريك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل خرج يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه" فهذا الحديث يعين أن المراد بالجماعة في الحديث المذكور هم الذين اجتمعوا على تأمير الأمير، فأين الاستدلال على لزوم اتباع الجمهور؟

قوله: وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشيطان

ص: 336

ذئب الإنسان، كذئب الغنم يأخذ الشاة الشاذة القاصية والنائية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة العامة والمسجد".

أقول: لم يذكر المصنف هناك حديث عبد الله قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط عن يمينه وشماله ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} . وهو موجود في (تلبيس إبليس) مع أنه هو حديث جيد رواه أحمد والنسائي والدارمي والحاكم وصححه، وابن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية وأبو جعفر الرازي وورقاء وعمرو بن أبي قبيس ويزيد بن هارون ومسدد وابن جرير، كذا في تفسير ابن كثير وفتح البيان وغيرهما.

قلت: ورجال بعضهم رجال الصحيحين كالدارمي وأحمد والنسائي، فلعل الباعث على حذفه أن هذا الحديث كان يقطع دابر المبتدعين، ويقوي أمر المتبعين.

وحديث معاذ بن جبل الذي ذكره صاحب الرسالة رواه أحمد والطبراني:

قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان ذئب الإنسان، كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والنائية، وإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد" رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات، إلا أن العلاء ابن زياد قيل أنه لم يسمع من معاذ بن جبل. اهـ.

قلت: قال في الخلاصة: العلاء بن زياد بن مطر البصري أرسل عن معاذ اهـ. قال الذهبي في الكاشف: العلاء بن زياد وأبو نصر العدوي، له مراسيل اهـ. فيكون الحديث ضعيفاً فلا يصلح لأن يحتج به، على أن لفظ "الجماعة" يحتمل جماعة الصلاة، وجماعة أهل الحل والعقد، وجماعة الصحابة، فلا دلالة لهذا الحديث على لزوم اتباع كل جمهور، فلا يتم التقريب.

قوله: وحديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة فإن الله تعالى لن يجمع أمتي إلا على هدى".

ص: 337