المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في فضل المسجد النبوي - صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان

[محمد بشير السهسواني]

الفصل: ‌فصل في فضل المسجد النبوي

وقال: بسم الله، والصلاة على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء، ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيستقبل جدار القبر لا يمسه ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكس الرأس وغاض الطرف، مستحضراً بقلبه جلالة موقفه، ثم يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، ليغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد: اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه شرباً1 لا نظمأ بعده أبداً.

"ثم يأتي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فيقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعيه ورحمة الله وبركاته، جزاكما الله عن صحبة نبيكما وعن الإسلام خيراً {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} . قال ويزور قبور أهل البقيع وقبور الشهداء إن أمكن".

هذا كلام الشيخ رحمه الله بحروفه، انتهى ما في الصارم.

وقال في موضع آخر: وقد قال الشيخ رحمه الله في منسك له صنفه في أواخر عمره2:

1 الذي في كتاب الصارم المنكى المطبوع "مشرباً روياً".

2 في عبارته مخالفة قليلة لهذا المنسك المطبوع بمصر سنة 1324.

ص: 22

‌فصل في فضل المسجد النبوي

وإذا دخل المدينة -قبل الحج أو بعده- فإنه يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه،

ص: 22

والصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه وإلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وهو مرويٌ من طرق أخرى، ومسجده كان أصغر مما هو اليوم، وكذلك المسجد الحرام، لكن زاد فيهما الخلفاء الراشدون ومن بعدهم، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام، ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فإنه قد قال:"ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام". رواه أبو داود وغيره.

وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف. وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه. وإذا قال في سلامه: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خيرة الله من خلقه، السلام عليك يا أكرم الخلق على ربه يا إمام المتقين، فهذا كله من صفاته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وإذا صلى عليه مع السلام عليه فهذا مما أمر الله تعالى به، ويسلم مستقبل الحجرة مستدبر القبلة، عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد. أما أبو حنيفة فإنه قال: يستقبل القبلة، فمن أصحابه من قال يستدبر الحجرة، ومنهم من قال يجعلها عن يساره، واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها ولا يدعو هناك مستقبلاً الحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك.

وقوله: "أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} . الخ".

أقول: في هذا الاستدلال فساد من وجوه:

(الأول) : إن قوله دلت الآية على حث الأمة على المجيء إليه صلى الله عليه وسلم، ماذا أراد به؟ إن أراد حث جميع الأمة فغير مسلم، فإن الآية وردت في قوم معينين كما سيأتي، وليس هناك لفظ عام حتى يقال العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد، بل الألفاظ الدالة على الأمة الواقعة في هذه الآية كلها ضمائر، وقد ثبت في مقره أن الضمائر لا عموم لها، ولذا لم يتشبث أحد من المستدلين بهذه الآية على القربة من التقي السبكي والقسطلاني

ص: 23

وابن حجر المكي بعموم اللفظ، حتى إن صاحب الرسالة1 أيضاً لم يذكره. وأما ما قال صاحب الرسالة تبعاً للتقي السبكي والقسطلاني وابن حجر المكي من أن الآية تعم بعموم العلة ففيه أنه على هذا التقدير لا يكون الدليل كتاب الله بل القياس، وقد فرض أن الدليل كتاب الله، على أن المعتبر عند من يقول بحجة القياس قياس المجتهد الذي سلم اجتهاده الجامع للشروط المعتبرة فيه المذكورة في علم الأصول، وتحقق كلا الأمرين فيما نحن فيه ممنوع، كيف وصاحب الرسالة من المقلدين، والمقلد لا يكون من أهل الاجتهاد، مع أن الاجتهاد عند المقلدين قد انقطع بعد الأئمة الأربعة، بل المقلد لا يصلح لأن يستدل بواحد من الأدلة الشرعية، وما له وللدليل؟ فإن منصبه قبول قول الغير بلا دليل، فذكرُ صاحب الرسالة الأدلة الشرعية هناك خلاف منصبه، وإن أراد حث بعض الامة فلا يتم التقريب.

و (الثاني) : أن صاحب الرسالة جعل المجيء إليه صلى الله عليه وسلم الوارد في الآية عاماً شاملاً للمجيء إليه صلى الله عليه وسلم في حياته وللمجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم بعد مماته، ولم يدر أن اللفظ العام لا يتناول إلا ما كان من أفراده، والمجيء إلى قبر الرجل ليس من أفراد المجيء إلى الرجل لا لغة ولا شرعاً ولا عرفاً، فإن المجئ إلى الرجل ليس معناه إلا المجئ إلى عين الرجل، ولا يفهم منه أصلاً أمر زائد على هذا، فإن ادعى مدع فهم ذلك الأمر الزائد من هذا اللفظ فنقول له: هل يفهم منه كل أمر زائد، أو كل أمر زائد يصح إضافته إلى الرجل، أو الأمر الخاص أي القبر؟

والشق الأول مما لا يقول به أحد من العقلاء.

فإن اختير الشق الثاني يقال: يلزم على قولك الفاسد أن يطلق المجيء إلى الرجل على المجيء إلى بيت الرجل وإلى أزواجه وإلى أولاده وإلى أصحابه وإلى عشيرته وإلى أقاربه وإلى قومه وإلى أتباعه وإلى أمته وإلى مولده وإلى مجالسه، وإلى آباره وإلى بساتينه، وإلى مسجده وإلى بلده وإلى سككه وإلى دياره، وإلى مهجره، وهذا لا يلتزمه إلا جاهل

1 أي رسالة دحلان المردود عليها.

ص: 24

غبي، وإن التزمه أحد فيلزمه أن يلتزم أن الآية دالة على قربة المجيء إلى الأشياء المذكورة كلها، وهذا من أبطل الأباطيل.

وإن اختير الشق الثالث فيقال: ما الدليل على هذا الفهم؟ ولن تجد عليه دليلاً من اللغة والعرف والشرع، أما ترى أن أحداً من الموافقين والمخالفين لا يقول في قبر غير قبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أحد أنه جاء ذلك الرجل، ولا يفهم أحد من العقلاء من هذا القول أنه جاء قبر ذلك الرجل.

فتحصل من هذا أن المجيء إلى الرجل أمر، والمجيء إلى قبر الرجل أمر آخر، كما أن المجيء إلى الرجل أمر، والمجيء إلى الأمور المذكورة أمور أخر، ليس أحدها فرداً للآخر.

إذا تقرر هذا فالقول بشمول المجيء إلى الرسول: المجيء إلى الرسول والمجيء إلى قبر الرسول، كالقول بشمول الإنسان الإنسان والفرس، وهذا هو تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره، وهو باطل بإجماع العقلاء، وهكذا جعل الاستغفار عنده عاماً شاملاً للاستغفار عنده في حياته وللاستغفار عند القبر بعد مماته، مع أن الاستغفار عند قبره ليس من أفراد الاستغفار عنده.

فإن قلت: لا نقول إن المجيء إليه صلى الله عليه وسلم شامل للمجيء إليه في حياته وللمجيء إلى قبره بعد مماته حتى يرد ما أوردتم، بل نقول إن المجيء إليه شامل للمجيء إليه في حياته الدنيوية المعهودة والمجيء إليه في حياته البرزخية، ولما كان المجيء إليه في حياته البرزخية مستلزماً للمجيء إلى قبره ثبت من الآية المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم الذي هو المسمى بزيارة القبر.

قلنا: لا سبيل إلى إثبات الحياة البرزخية من لغة ولا عرف، فلا يفهم من هذا اللفظ -بحسب اللغة والعرف- إلا المجيء إليه في حياته الدنيوية المعهودة، فلا يكون المجيء إليه في حياته البرزخية فرداً للمجيء إليه بحسب اللغة والعرف، إنما تثبت الحياة البرزخية ببيان الشرع، لكن يبقى الكلام في أن كون المجيء إليه في حياته البرزخية فرداً من المجيء إليه هل يثبت من الشرع أم لا؟ وعلى مدعي الثبوت البيان، وفي أن

ص: 25

المجيء إلى قبره هو عين المجيء إليه في حياته البرزخية أو مستلزم له أم لا؟ وعلى المدعي الدليل، لم لا يحوز أن لا يكون المجيء إلى قبره عين المجيء إليه في حياته البرزخية ولا مستلزماً له بل يتوقف المجيء إليه في حياته البرزخية على أن يموت الجائي وينتقل إلى عالم البرزخ، فلابد من نفي هذا الاحتمال بدليل من الشرع، ويؤيد هذا أنا إذا قلنا جئنا زيداً، إنما نريد به أنا جئنا إلى مكان يُرى منه زيد ويسمع كلامه بحسب العادة، والمجيء إلى القبر ليس مجيئاً إلى مكان يُرى منه المقبور ويسمع كلامه، ويسمع المقبور كلام الجائي، أما تعلم أن الحي لو دفن في القبر كما يدفن الميت لن يرى أصلاً ولن يسمع كلامه، ولا هو يسمع كلام الجائي، وأما سماع الموتى خفق نعالنا وغير ذلك مما ثبت في الأحاديث فليس بحسب العادة، إنما هو بإسماع الله تعالى، بخلق قوة فيه هي خارجة عن العادة، أو بطريق آخر لا علم لنا بتعيينه، إنما نجزم أنه بطرق غير عادي.

يرشدك إلى هذا أن الزوار لا يرون المقبور ولا يسمعون كلامه، والمقبور يرى الزائر ويسمع كلامه، وهذا أدل دليل وأوضح برهان على أن رؤية المقبور وسماعه ليس بطريق عادي بل بطريق غير عادي، وإلا لسمع الزائر أيضاً كلام المقبور ورآه، على أن المجيء إليه قد انقطع بعد موته كما انقطع سائر الأحكام التي سيأتي ذكرها في الوجه الثالث، والفرق بين المجيء إليه وسائر الأحكام لا يقبل بغير بيان فارق شرعي، وأنى لك ذلك! وأما ما قال السبكي في تعليله وتبعه القسطلاني تعظيماً له فيرد عليه أنه على هذا يلزم أن لا تنقطع جميع الأحكام المذكورة أيضاً تعظيماً له، على أنه ما الدليل على أن التعظيم يوجب عدم انقطاع هذا الحكم بالموت من كتاب وسنة؟!

و (الثالث) : أن قوله "وهذا لا ينقطع بموته" قول لا دليل عليه، فإن انقطاع هذا الحكم لا استبعاد فيه، كما أن سائر الأحكام -من الإمامة الصغرى والكبرى1، والجهاد، والصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحريض المؤمنين على القتال، والمشاورة، وتجهيز الجيوش، وحفظ الثغور- قد انقطعت بعد موته، فإن زعم زاعم أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره فما

1 الإمامة الصغرى إمامة الصلاة، والكبرى هي الخلافة وتنفيذ الأحكام.

ص: 26

معنى انقطاعه بعد الموت؟ إن الحياة البرزخية هل هي مساوية للحياة الدنيوية في كل الأحكام عندكم أم لا؟ والأول بديهي البطلان لإطباق الأمة على انقطاع الأحكام المذكورة من الإمامة الصغرى وغيرها، وعلى الثاني فلا استبعاد في انقطاع حكم المجيء إليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

(الرابع) قوله: "فأما استغفاره صلى الله عليه وسلم فهو حاصل لجميع المؤمنين بنص قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . فاسد.

بيانه أن المراد باستغفار الرسول الواقع في آية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} . الاستغفار بعد وقوع الظلم استغفاراً مستأنفاً، فإن "استغفر"[في قوله]{وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} . معطوف على {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} . وهو الظاهر، أو على {جَاءُوكَ} . كما زعم السبكي في شفاء السقام، وعلى كلا التقديرين يكون بعد وقوع الظلم، أما على الأول فلأن استغفروا الله متأخر عن جاءوك، بدليل فاء التعقيب، والمعطوف في حكم المعطوف عليه، فيكون استغفر لهم الرسول متأخراً عن جاءوك، وجاءوك متأخراً عن الظلم، والمتأخر عن المتأخر عن الشيء متأخر عن ذلك الشيء، وأما على الثاني فلأن استغفر لهم الرسول على هذا التقدير معطوف على جاءوك والمعطوف في حكم المعطوف عليه، وجاءوك متأخر عن الظلم فاستغفار الرسول متأخر عن الظلم، فعلم بذلك أن الاستغفار العام المأمور به صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . لا يكفي فيما هنالك، وتدل عليه الآية الأخرى والسنة:

أما الآية فقوله تعالى في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَاّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . فعلم أن الاستغفار العام المأمور به صلى الله عليه وسلم لا يكفي بل كان صلي الله عليه وسلم مأموراً باستغفار آخر وقت أخذ البيعة والتوبة من الشرك والمعاصي.

ص: 27

وقوله تعالى في سورة الفتح: {سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} . وقوله تعالى في سورة المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} .

فإن هاتين الآيتين تدلان على أن المسلمين كانت عادتهم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله فعلتُ كذا وكذا فاستغفر لي، وكان هذا فرقاً بينهم وبين المنافقين، وهذا الاستغفار كان غير ما أُمر به صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} .

وأما السنة فما روي عن كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك في حديث طويل فيه: فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً -وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس- فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، وفي ذلك الحديث: وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما اعتذر به المخلفون قد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك الحديث قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه. رواه البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للبخاري، فعلم من هناك أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءه مذنب وتاب واستغفر يستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم استغفاراً مستأنفاً، ولا يقنع بالاستغفار العام.

على أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . بالاستغفار لأهل الإيمان، وآية أخرى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} . الآية.

ص: 28

وردت في شأن المنافقين، فالاستغفار الذي فعله صلى الله عليه وسلم بامتثال قوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . لا يكون شاملاً للاستغفار لأهل النفاق، بل قد نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار للمنافقين فقال تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . وقال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} . وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} . فلا بد من أن يراد باستغفار الرسول -الذي ورد في شأن المنافقين- غير ما ورد في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . فإن المنافقين داخلون في آية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} . دخولاً أولياً، وإن سلم دخول غيرهم فيها بعموم العلة وما ضاهاه دخولاً ثانوياً.

وههنا نظر وعنه جواب فتأمل. وهكذا فهم جمهور أهل التفسير من الاستغفار الاستغفار الخاص ولم يقل أحد منهم إن الاستغفار العام يكفي هاهنا، قال الشوكاني رحمه الله في فتح القدير:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} . بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك {جَاءُوك} متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم ومخالفاتهم {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} . لذنوبهم وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً فاستغفرت لهم.

وقال الإمام الرازي في مفاتيح الغيب: يعني أنهم عندما ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت والفرار من التحاكم إلى الرسول جاءوا الرسول وأظهروا الندم على ما فعلوه وتابوا عنه واستغفروا منه واستغفر لهم الرسول بأن يسأل الله أن يغفر لهم عند توبتهم: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} . انتهى.

وقال أيضاً (المسألة الثانية) لقائل أن يقول: أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح لكانت توبتهم مقبولة؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم؟

(قلنا) الجواب عنه من وجوه: (الأول) أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله، وكان أيضاً إساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإدخالاً للغم في قلبه، ومن

ص: 29

كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره، فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم. (الثاني) : أن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم ذلك التمرد، فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه الاستغفار. اهـ.

وقال أبو السعود: جاءوك من غير تأخير، كما يفصح عنه تقديم الظرف متوسلين بك في التنصل عن جناياتهم القديمة والحادثة، ولم يزدادوا جناية على جناية بالقصد إلى سترها بالاعتذار الباطل، والأيمان الفاجرة، فاستغفروا الله بالتوبة والإخلاص، وبالغوا في التضرع إليك حتى انتصبت شفيعاً لهم إلى الله تعالى واستغفرت لهم. اهـ.

وقال في المدارك1: ولو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم مع استغفارهم واستغفار الرسول لوجدوا الله تواباً. اهـ. وقال البيضاوي: فاستغفروا الله بالتوبة والإخلاص، واستغفر لهم الرسول واعتذروا إليك حتى انتصبت لهم شفيعاً. اهـ.

وقد علم من تلك العبارات أن عامة أهل التفسير قد فهموا من الآية أن استغفار الرسول يكون بعد استغفارهم. وأما ما قال السبكي في شفاء الأسقام: وليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم بل هي محتلمة والمعنى يقتضي بالنسبة إلى استغفار الرسول أنه سواء تقدم أم تأخر فإن المقصود إدخالهم بمجيئهم واستغفارهم تحت من يشمله استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يحتاج إلى المعنى المذكور، إذا جعلنا {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُول} . معطوفاً على {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} أما إن جعلناه معطوفاً على {جَاءُوك} لم يحتج إليه. هذا آخر ما في الشفاء2، ففيه نظر من وجوه:

(الأول) أن عامة المفسرين قد فهموا من الآية أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم، فالقول بأن ليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم تخطئة للجمهور ومخالفة لهم.

1 هو تفسير النسفي.

2 أي شفاء السقام للسبكي.

ص: 30

(الثاني) أن تقديم استغفارهم على استغفار الرسول في الآية يستدعي أن يكون استغفارهم قبل استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن الشافعية استدلوا على وجوب الترتيب في الوضوء بالترتيب المذكور في الآية والسبكي أيضاً منهم، ويقويه ما ورد عن جابر بن عبد الله في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم:"ابدءوا بما بدأ الله به". أخرجه النسائي.

و (الثالث) أنه لو سلم أنه ليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم، فلا شك أن في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد وقوع الظلم منهم، وهذا القدر يكفي لإثبات مرامنا، فإنه يدل دلالة واضحة على أن الاستغفار العام غير كاف فيما هنالك.

و (الرابع) أن في قوله1 أما إن جعلناه معطوفاً على {جَاءُوك} لم يحتج إليه اهـ فإن هذا العطف لا يضرنا أصلاً، فإنه يدل على أن استغفار الرسول بعد وقوع الظلم منهم إذ المعطوف في حكم المعطوف عليه، ولا شك أن جاءوك بعد وقوع الظلم منهم.

(الخامس) من وجوه: الأصل أن قوله2 "فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم فقد تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته". مردود بأنا لا نسلم أنه إذا وجد المجيء إلى القبر واستغفارهم عنده وجدت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته، فإن الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته هي المذكورة في الآية، وإنما هي المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في الحياة بعد الظلم، واستغفارهم عنده في الحياة بعد الظلم، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في الحياة بعد الظلم، وفي زيارة القبر لا يوجد واحد منها.

(السادس) قوله: "وسيأتي في الأحاديث الآتية ما يدل على أن استغفاره صلى الله عليه وسلم لا يتقيد بحال حياته" فيه أنه سيأتي الكلام عليها فانتظره.

(السابع) قوله: "وقد علم من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفراً ربه"، ظن محض وتخمين صرف ليس عليه أثارة من كتاب ولا سنة فلا يسمع، على أن لنا أن نعارض فنقول: إنه لو كان استغفاره لمن جاءه مستغفراً بعد

1 أي السبكي في شفائه.

2 أي المردود عليه دحلان تبعاً للسبكي في شفائه.

ص: 31

موته ممكناً أو مشروعاً لكان كمال شفقته ورحمته يقتضي ترغيبهم في ذلك وحضهم عليه، ومبادرة خير القرون إليه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرغب في ذلك، ولم يبادر خيرُ القرون إليه، فتبين أن الاستغفار بعد موته صلى الله عليه وسلم ليس ممكناً أو مشروعاً، وهذا التقرير مستفاد من الصارم1.

(الثامن) قوله: "والآية الكريمة وإن وردت في قوم معينين في حال الحياة تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في حال الحياة وبعد الممات".

قلت: الأمر كما أقر به الخصم في هذا المقام من أن الآية وردت في قوم معينين من أهل النفاق، يدل عليه قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} . وورد نظر ذلك في حقهم في سورة المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} . ولكن عمومها بعموم العلة قد تقدم ما فيه في الوجه الأول، وبعد تسليم ذلك العموم يقال: إن الآية تعم ما وردت فيه وما كان مثله، فهي عامة في كل منافق قيل له تعالى إلى ما أنزل الله وإلى الرسول فصد عن الرسول صدوداً، وتحاكم إلى الطاغوت، ثم جاء الرسول في حياته فاستغفر الله واستغفر له الرسول في حياته وأما المؤمن الذي عصى فجاء قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاستغفر الله فليس مثله.

(التاسع) قوله: "ولذلك فهم العلماء منها العموم للجائين واستحبوا لمن أتى قبره صلى الله عليه وسلم أن يقرأها مستغفراً الله تعالى، واستحبوها للزائر ورأوها من آدابه التي ليس2 له فعلها، وذكرها المصنفون في المناسك من أهل المذاهب الأربعة".

قلت: هذا مما أورده السبكي في الشفاء ورد عليه العلامة ابن عبد الهادي رحمه الله ف الصارم، فلنذكر هنا عبارة الصارم بلفظها، قال في الصارم "وقوله: ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين" فيقال له: من فهم هذا من سلف الأمة وأئمة الإسلام؟ فاذكر لنا عن رجل واحد من الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين أو

1 يعني الصارم المنكى في الرد على السبكي للحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله.

2 كذا، وصوا به ينبغي بالإثبات لا بالنفي.

ص: 32

الأئمة الأربعة أو غيرهم من الأئمة أو أهل الحديث والتفسير أنه فهم العموم بالمعنى الذي ذكرته أو عمل به أو أرشد إليه، فدعواك على العلماء بطريق العموم هذا الفهم دعوى باطلة ظاهرة البطلان. اهـ.

ومن عجائب فهم صاحب الرسالة1 أنه زعم أن ضمير "حكاها" في الشفاء راجع إلى الآية فقال: وذكر المصنفون. مع أن مرجعه حكاية العتبى، ولفظ الشفاء هكذا: ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتى إلى قبره صلى الله عليه وسلم أن يتلوا هذه الآية ويستغفر الله تعالى. وحكاية العتبى في ذلك مشهورة، وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب. اهـ

لا يقال إن الإمام مالكاً من الأئمة الأربعة فهم العموم كما سيأتي في حكاية مناظرة الخليفة المنصور والإمام مالك، لأنا نقول: هذه الرواية ليست مما يعتمد عليه كما سيأتي، على أن من فهم العموم فمناطه حكاية الأعرابي وهي ليست بثابتة، كما ستطلع عليه عن قريب2.

(العاشر) قوله: "ودلت الآية أيضاً على أنه لا فرق في الجائي بين أن يكن مجيئه بسفر أو غير سفر، لوقوع "جاءوك" في حيز الشرط الدال على العموم".

قلت: هذا ذكره ابن حجر المكي في الجوهر المنظم، وهو فاسد. بيانه أن عموم الفعل الواقع في حيز الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع الشرط. قال الإمام المحلي في شرحه على جمع الجوامع: لتضمن الفعل المنفي لمصدر منكر. وقال السعد في حاشيته على العضدي: والمحققون من النحاة على أن المراد بتنكير الجملة أن المفرد الذي يسبك منها نكرة، وعموم الفعل المنفي ليس من جهة تنكيره بل من جهة ما يتضمنه من المصدر نكرة، فمعنى "لا يستوي زيد وعمرو" لا يثبت استواء بينهما. اهـ

وعموم النكرة في موضع الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع النفي، قال السعد في التلويح: يريد أن الشرط في مثل "إن فعلت فعبده حر أو امرأته طالق"،

1 أي الشيخ دحلان المردود عليه.

2 وانظر (التوسل والوسيلة) لابن تيميه طبع السلفية ص67-82 و 154 الخ.

ص: 33

لليمين على تحقق نقيض الشرط إن كان الشرط فيها مثل "إن ضربت رجلاً فكذا" فهو يمين للمنع، بمنزلة قولك "والله لأضربن رجلاً"، وإن كان منفياً مثل "إن لم أضرب رجلاً فكذا" فهو يمين للحمل بمنزلة قولك "والله لأضربن رجلاً"، ولا شك أن النكرة في الشرط المثبت خاص يفيد الإيجاب الجزئي فيجب أن يكون في جانب النقيض للعموم والسلب الكلي، والنكرة المنفية عام يفيد السلب الكلي فيجب أن يكون في جانب النقيض للخصوص والإيجاب الجزئي، فظهر أن عموم النكرة في موضع الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع النفي. اهـ

فتحصل من هذا أن عموم الفعل في سياق الشرط لا يكون إلا في موضع يحصل فيه نكرة في سياق النفي، وهذا لا يحصل إلا في مثل شرط يكون لليمين التي للمنع، ولذا قال السعد في حاشيته على العضدي: قوله "أو في معناه" يعني النكرة الواقعة في الشرط المستعمل موضع اليمين التي للمنع، مثل "إن أكلت فأنت طالق" فإنه للمنع عن الأكل، إذ انتفاء الطلاق مطلوب وذلك بانتفاء الأكل، فهو في معنى لا آكل البتة، وهذا معنى قوله:"إذ ينتفي الطلاق بأن لا يأكل".اهـ

وقال في التوضيح: والنكرة في موضع الشرط إذا كان مثبتاً عام في طرف النفي، وإنما قيد بقوله إذا كان الشرط مثبتاً، حتى لو كان الشرط منفياً لا يكون عاماً كقوله إن لم أضرب رجلاً فعبدي حر، فمعناه أضرب رجلاً، فشرط البر ضرب واحد من الرجال، فيكون للإيجاب الجزئي. اهـ.

وفي الآية الكريمة كون الشرط لليمين التي للمنع غير مسلم، وأيضاً قد علم أن في قوله "إن لم أضرب رجلاً فعبدي حر" الفعل واقع في سياق الشرط مع أنه ليس عاماً، فالقول بعموم الفعل الواقع في سياق الشرط عموماً فاسد.

(الحادي عشر) : أن جميع الأمة عصاة مذنبون، وخطّاء ظالمون، ورد في الحديث القدسي "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار" رواه مسلم من حديث أبي ذر، وفيه "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته". وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون" رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي،

ص: 34

وعن ابن عباس في قوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن تغفر اللهم تغفر جما

وأي عبد لك لا ألما "؟

رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وفي حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مذنب إلا من عافيت". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وفي حديث ابن مسعود قال:"لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} . شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس ذاك، إنما هو الشرك". رواه البخاري ومسلم.

فلو كانت الآية تعم كل ظالم سواء كان مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، وسواء كانت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة سفر أو لم تكن، وسواء كان يدعي أو لم يدع، وسواء كان مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو إلى قبره بعد وفاته كما زعم صاحب الرسالة1 يلزم أن يكون مجيء كل أحد من أمته بعد كل ظلم ومعصية صغيرة كانت أو كبيرة إليه صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده قربة مطلوبة بالكتاب، وهذا مما لم يقل به أحد من المسلمين، ولا يطيقه أحد، وأيضاً يلزم أن يكون جميع مسلمي زمانه صلى الله عليه وسلم الذين لم يجيئوا إليه صلى الله عليه وسلم بعد كل ظلم تاركين لهذه القربة، وأيضاً يلزم أن لا يكون المجيء إلى القبر مرة كافياً، بل يكون المجيء بمرات غير محصورة على قدر ذنوبهم قربة مطلوبة، كيف وذنوبنا غير محصورة ولا واقفة عند حد، وأيضاً يلزم مزية زيارة القبر على الحج، فإن حج بيت الله فرض في العمر مرة وتكون زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قربة في كل سنة بل في كل شهر بل في كل أسبوع بل في كل ساعة بل في كل لمحة، فإنا لا نخلو في لمحة من اللمحات من الذنوب، بل يلزم سكنى المدينة فيلزم أن يكون جميع الأكابر الذين لم يقيموا في المدينة من السلف والخلف تاركين لهذه القربة، وأيضاً يلزم أن يكون الزاد والراحلة غير مشروط في الزيارة مع أنهما شرطان في الحج، وهذه المفاسد مما لا يلتزمها إلا جاهل غبي.

(الثاني عشر) أن في الآية تقبيحاً لضرب من المجيء، أي إتيانهم حالفين بالله

1 أي المردود عليها وهو دحلان.

ص: 35

حلفاً كاذباً كما جاء المنافقون، وتحسيناً لضرب آخر منه وهو أن يجيء مستغفراً فالمقصود الحث على تقدير المجيء على المجيء مستغفراً، فالثابت منها أنه على تقدير المجيء الإتيان مستغفراً قربة، لا أن نفس المجيء مع الاستغفار قربة، والمطلوب الثاني لا الأول فلا يتم التقريب.

(الثالث عشر) أنه لو صح الاستدلال المذكور بالآية المذكورة لصح بالأولى الاستدلال بالآية الواقعة في سورة الحجرات: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . على عدم كون زيارة القبر المعهودة في زماننا قربة الذي هو نقيض مطلوب صاحب الرسالة1 فإن الآية دلت على ذم نداء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، وهذا لا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم تعظيماً له كما قال الخصم في تقرير الآية بل هو أولى، فإن النداء من وراء الحجرات بعد الموت بيا رسول الله وغيره من الألفاظ فرد من أفراد نداء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات بلا ريب ولا شبهة، بخلاف المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم، فإن كونه فرداً من أفراد المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاسد كما تقدم، ودلت أيضاً على تعليق ثبوت الخيرية لهم بالصبر على النداء من وراء الحجرات، والآية الكريمة وإن وردت في قوم معينين في حال الحياة تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في حال الحياة وبعد الممات كما قرر الخصم في الآية، بل عمومه أولى بالنسبة إلى الآية التي استدل بها الخصم فإن في هذه الآية {الَّذِينَ} لفظ موصول وهو من الألفاظ العامة، بخلاف الآية المتقدمة فإن فيها ضميراً وهو ليس من العموم في شيء، ولذلك فهم العلماء منها العموم للمنادين.

قال القاضي عياض في الشفا: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوماً فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} . ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية، وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ

1 أي دحلان.

ص: 36

يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ} . وبأن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان له أبو جعفر. اهـ. وهذه الرواية وإن كان فيها مقال كثير ولكنها من مسلمات الخصم.

وأيضاً قال القاضي فيه: ولما كثر على مالك الناس قيل له: لو جعلت مستملياً يسمعهم، فقال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} . وحرمته حياً وميتاً سواء. اهـ.

وقال القطسلاني في المواهب: روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إنه لا ينبغي رفع الصوت على نبي حياً ولا ميتاً، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمناصع توقياً لذلك، نقله ابن زبالة. اهـ.

ودلت الآية أيضاً على أنه لا فرق في الصابر بين أن يكون صبره بحيث تكون بينه وبين قبر النبي صلى الله عليه وسلم مدة سفر أو لا لوقوع "صبروا" في حيز الشرط الدال على العموم كما قرر الخصم، على أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم المعهودة في زماننا هل يرفع فيها الصوت ويجهر له بالقول أم لا؟ والأول منهي عنه لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} . وعن أبي هريرة قال: لما نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} . قال أبو بكر: والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار1 حتى ألقى الله، أخرجه عبد بن حميد والحاكم وصححه، وفي صحيح البخاري: قال ابن الزبير فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر. قال القسطلاني:

1 هو المسارَّة، أي كصاحب السرار أو كمثل المساررة، لخفض صوته، والكاف صفة مصدر محذوف. اهـ مجمع البحار.

ص: 37

وإن أكابر الصحب ما كانوا يخاطبونه إلا كأخي السرار. اهـ.

وبما جاء في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت نائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما فقال: ممن أنتما، ومن أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن مالك قال: بنى عمر رحبة في ناحية المسجد تسمى البطحاء وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعراً أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة. رواه في الموطأ، كذا في المشكاة، وعن أبي هريرة في حديث مرفوع في أشراط الساعة فيه "وظهرت الأصوات في المساجد"، وفي رواية "وارتفعت الأصوات في المساجد". وعن مكحول في حديث في أشراط الساعة "وأن تعلو أصوات الفسقة في المساجد". رواه ابن أبي الدنيا مرسلاً، هكذا في الترغيب والترهيب للمنذري. ففي هذا الشق يلزم ثلاث محذورات:(الأول) رفع الصوت في المسجد، و (الثاني) رفع الصوت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (الثالث) رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال القسطلاني في المواهب: ومنها أنه حرم على الأمة نداءه باسمه، قال تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} . أي لا تجعلوا دعاءه وتسميته كدعاء بعضكم بعضاً باسمه ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت. اهـ. قال الزرقاني بحرمة رفعه عليه، والظرف أي "بينكم" متعلق بتجعلوا لا حال من الرسول، لأنه يوهم أنه لا يحرم نداؤه باسمه بعد وفاته مع أن الحرمة ثابتة مطلقاً. اهـ.

وقال القسطلاني في المواهب أيضاً: ومنها أنه يحرم الجهر له بالقول، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} . اهـ، قال الزرقاني أي خشية ذلك بالرفع والجهر المذكورين، روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال كاد

ص: 38

الخيران أن يهلكا: أبو بكر وعمر. لما قدم وفد بني تميم قال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ -إلى قوله- عَظِيمٌ} . قال ابن أبي مليكة عن ابن الزبير: فكان عمر بعد إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر. اهـ.

وقال القسطلاني في المواهب: وقال ابن عباس لما نزل قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} . كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار. اهـ.

وقال في المواهب: وينبغي للزائر أن يستحضر من الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصداً في سلامه بين الجهر والإسرار. اهـ. وأيضاً في المواهب: ثم يقول الزائر بحضور قلب وغض طرف وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله.. الخ.

وقال ابن حجر في الجوهر المنظم: إذا وقت أو جلس ثم سلم لا يرفع صوته، بل يقتصد فيقول: السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته.. الخ. وقال السيوطي في (موجز اللبيب في خصائص الحبيب) : ويحرم التقدم بين يديه، ورفع الصوت فوق صوته، والجهر له بالقول، ونداؤه من وراء الحجرات، والصياح به من بعيد. اهـ.

والشق الثاني أيضاً باطل، فإن السلام المشروع عند القبر سلام تحية لا سلام دعاء، وسلام التحية لابد فيه من أن يفعل بحيث يسمعه المسلم عليه حتى يرده على المسلم.

قال في المواهب وشرحه للزرقاني: ويكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرته الشريفة حيث يسمعه ويرد عليه، بأن يقف بمكان قريب منه ويرفع صوته إلى حد لو كان حياً مخاطباً لسمعه عادة اهـ. وقال الزرقاني: والظاهر أن المراد بالعندية قرب القبر بحيث يصدق عليه عرفاً أنه عنده، وبالبعد ما عداه وإن كان بالمسجد اهـ. ولما سدت حجرة عائشة رضي الله عنها التي هي مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنيت على القبر حيطان مرتفعة مستديرة حوله ثم بنى عليه جدران من ركني القبر

ص: 39

الشماليين تعذر الوصول إلى قرب القبر، فالزائرون اليوم إنما يسلمون من مسافة لو سلم على حي من تلك المسافة لما سمعه، فكيف يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ويرد عليه ولو سلم حياته صلى الله عليه وسلم في القبر؟ فإن قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الممات يمكن أن يزداد قوة سمعه فيسمع من تلك المسافة؟ فيقال: أي دليل على هذا من كتاب وسنة؟ ومجرد الإمكان العقلي لا يغني من شيء، على أنه هل لذلك تحديد أم لا؟ على الثاني يستوي المسلم من بعيد والمسلم عند القبر، وهذا باطل عند من يقول بقربة الزيارة فإنهم فضلوا السلام عند القبر على السلام من بعيد كالسبكي وابن حجر المكي، وعلى الأول فلا بد من بيانه بدليل شرعي، وأنى له ذلك؟

(الرابع عشر) أنه لو صح الاستدلال بالآية المذكورة لجاز أن يستدل على جواز بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الموت، لقوله تعالى في سورة الممتحنة:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَاّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وبقوله تعالى في سورة الفتح: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} . وهذا لا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم تعظيماً له صلى الله عليه وسلم كما قال الخصم، ودلت الآية على أنه لا فرق في الجائية بين أن يكون مجيئها بسفر أو غير سفر، لوقوع "جاءوك" في حيز الشرط الدال على العموم كما قال الخصم، ولكون "الذين" من الأسماء الموصولة وهي من ألفاظ العموم، مع أن أحداً من الأمة لم يقل بجواز بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الموت، ولم يفعلها أحد من السلف والخلف.

(الخامس عشر) أنه لو دلت الآية على كون زيارة القبر قربة، وعلى أنه شرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له، لكان القبر أعظم أعياد المذنبين وأجلها، وهذه مضادة صريحة لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تجعلوا قبري عيداً".

ص: 40

(السادس عشر) أن أعلم الأمة بالقرآن ومعانيه وهم سلف الأمة لم يفهم منهم أحد إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم، ولم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقثول يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت، أفترى عطل الصحابة والتابعون -وهم خير القرون على الإطلاق- هذا الواجب الفرية التي ذم الله سبحانه من تخلف عنها وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق له من لا يؤبه له من الناس، ولا يعد في أهل العلم1؟. ويالله العجب! أكان ظلم الأمة لأنفسها -ونبيها حي بين أظهرها- موجوداً وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر لها وذم من تخلف عن المجيء، فلما توفي صلى الله عليه وسلم ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه ليستغفر له، وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأول عليه المعترض هذه الآية تأويل باطل قطعاً، ولو كان حقاً لسبقونا إليه علماً وعملاً وإرشاداً ونصيحة، ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة2. وهذان الوجهان الأخيران مأخوذان من الصارم.

1 زاد في الصارم المنكي هنا ما نصه: وكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام، وهداة الأنام، من أهل الحديث والفقه والتفسير ومن لهم لسان صدق في الأمة، فلم يدعوا إليه، ولم يحضوا عليه، ولم يرشدوا إليه، ولم يفعله أحد منهم البتة، بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسوء الغلاة فيما يكرهه وينهى عنه من الغلو والشرك، الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية، ولما كان هذا المنقول شجى في حلوق البغاة، وقذى في عيونهم وريبة في قلوبهم، قابلوه بالتكذيب والطعن في الناقل، ومن استحيى منهم من أهل العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل، ويأبى الله إلا أن يعلي منار الحق ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد وتقوم الحجة على المعاند، فيعلي الله بالحق من يشاء، ويضع برده وبطره وغمص أهله من يشاء. اهـ.

2 يعني أن أحكام العبادات العملية المنصوصة في القرآن لا يعقل أن يجهلها أو يترك العمل بها الصحابة والتابعون وسائر علماء السلف، ثم ينفرد بعملها وفهمها مثل السبكي وابن حجر المكي بعدهم ببضعة قرون، وليس معناه أنه ليس لأحد بعد الصدر الأول أن يفهم من علوم القرآن وحكمه ما لم ينقل عنهم، فإن هذا باطل لم يقل به أحد، فعلوم القرآن وحكمه كدرر البحار لا تنفد، ولا تفتأ تتجدد. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 41

قوله: وقد قال تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} . ولا شك عند من له أدنى مسكة من ذوق العلم أن من خرج لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدق عليه أنه خرج مهاجراً إلى الله ورسوله، لما يأتي من الأحاديث الدالة على أن زيارته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كزيارته في حياته، وزيارته في حياته داخلة في الآية الكريمة قطعاً، فكذا بعد وفاته بنص الأحاديث الشريفة الآتية.

أقول: هذا كله مأخوذ من كلام ابن حجر المكي في الجوهر المنظم، وهو مردود من وجوه:

(الأول) أن الآية واردة في الهجرة من دار الشرك إلى دار الاسلام، يدل عليه سياق الآية وسباقها1، فإن أولها:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواًّ غَفُوراً وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} . ويدل عليه أيضاً شأن نزولها: أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني -قال السيوطي2 بسند رجاله ثقات- عن ابن عباس قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجراً، فقال لقومه: احملوني فأخرجوني من أرض الشرك إلى أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي:{وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ} الآية. كذا في فتح القدير للإمام الشوكاني رحمه الله، ويدل عليه أيضاً معنى الهجرة: قال في المصباح والهجرة –بالكسرة- مفارقة بلد إلى غيره، فإن كانت قربة لله فهي الهجرة الشرعية اهـ. وفي الصحاح: والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية اهـ. وفي القاموس: والهجرة -بالكسر والضم- الخروج من أرض إلى أخرى اهـ. وفي

1 أي الآيات السابقة عليها.

2 أي في الدر المنثور.

ص: 42

النهاية: الهجرة في الأصل الاسم من الهجر ضد الوصل، وقد هجره هجراً وهجراناً، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض وترك الأولى للثانية، وفي مجمع البحار: الهجرة في الأصل الاسم من الهجر ضد الوصل، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض.

فقد علم من ههنا أنه لابد في معنى الهجرة من أمرين: (الأول) الخروج من أرض إلى أرض (والثاني) ترك الأولى للثانية، والخروج لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته يتحقق فيه الأمر الأول لا الثاني، ويدل على كون الأمرين معتبرين في معنى الهجرة أحاديث:

منها ما روى الشيخان عن جابر بن عبد الله أن أعرابياً بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقلني بيعتي، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى. فخرج الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها".

ومنها ما روى مسلم عن جابر قال: جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "بعنيه" فاشتراه بعبدين أسودين، ولم يبايع أحداً بعده حتى يسأله: أعبد هو أو حر؟

ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الهجرة فقال: "ويحك إن الهجرة شأنها شديد، فهل لك من إبل"؟ قال: نعم، قال "فتعطي صدقتها"؟ قال: نعم. قال "فهل تمنح منها"؟ قال: نعم. قال "فتحلبها يوم وردها "؟ قال: نعم. قال" فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً"1.

ومنها ما روى البخاري ومسلم عن العلاء بن الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث للمهاجر بعد الصدر"2.

ومنها ما رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص قلت: يا رسول الله أخلف3

1 يترك بكسر التاء أي لن ينقصك.

2 الصدر بفتحتين: الرجوع، أي أن المهاجر بعد الرجوع من منى وانتهاء حجه له أن يلبث في مكة ثلاث ليال.

3 بتشديد اللام، أصله أأخلف أي أتأخر؟

ص: 43

بعد أصحابي؟ قال: "إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم". لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي بمكة1.

ومنها ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:

كل امرئ مصبح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

بواد وحولي إذخر وجليل؟

وهل أردن يوماً مياه مجنة

وهل يبدون لي شامة وطفيل؟

اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة". قال القاضي في الحديث الأول: إنما استقاله على الهجرة ولم يرد الارتداد عن الإسلام2، قال ابن بطال: بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك، وإنما لم يقله بيعته لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله إذ لا يحل الرجوع إلى الكفر، وإن كانت قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة، ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه، كذا قال القسطلاني.

قال النووي: قال العلماء إنما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم بيعته لأنه لا يجوز لمن أسلم أن

1 جملة الاستدراك هذه مدرجة في الحديث من رواية الزهري عن إبراهيم بن سعد، وليست من كلامه صلى الله عليه وسلم.

2 يعني أن الأعرابي إنما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله بيعته على الهجرة ليخرج من المدينة فراراً من الحمى، ولم يطلب إقالته من الإسلام نفسه، أي لأنه لو أراد هذا لفر من المدينة ولم يقل يا رسول الله أقلني بيعتي.

ص: 44

يترك الإسلام، ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره. اهـ.

وقال النووي في الحديث الثاني: وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق والإحسان العام، فإنه كره أن يرد ذلك العبد خائباً مما قصده من الهجرة وملازمة الصحبة، فاشتراه ليتم له ما أراده اهـ.

وقال القطسلاني في الحديث الثالث "فسأله عن الهجرة": أي أن يبايعه على أن يقيم بالمدينة "ويحك إن الهجرة شأنها " أي القيام بحقها "شديد" لا تستطيع القيام بحقها "فاعمل من وراء البحر" فلا تبال أن تقيم في بلدك ولو كنت في أقصى بلاد الإسلام اهـ.

وقال القسطلاني في الحديث الرابع: وهو بعد الرجوع من منى من غير زيادة، وجوز بعضهم الإقامة بعد الفتح. قال النووي: معنى الحديث: إن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها، ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا عن الثلاثة. وقال القاضي عياض: في هذه الحديث حجة لمن منع المهاجر قبل الفتح من المقام بمكة بعد الفتح، قال: هو قول الجمهور، وأجاز لهم جماعة بعد الفتح مع الاتفاق على وجوب الهجرة عليهم قبل الفتح ووجوب سكنى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساتهم له بأنفسهم، وأما غير المهاجر ومن آمن بعد ذلك فيجوز له سكنى أي بلد أراد سواء مكة وغيرها بالاتفاق. هذا كلام القاضي اهـ.

وقال القطسلاني في الحديث الخامس "ولا تردهم على أعقابهم": بترك هجرتهم ورجوعهم عن استقامتهم. "أن توفى" أي لأجل وفاته "بمكة" التي هاجر منها اهـ.

وقال القسطلاني في الحديث السادس: وتأمل كيف تعزى أبو بكر رضي الله عنه عند أخذ الحمى بما ينزل به من الموت الشامل للأصيل والغريب، وبلال رضي الله عنه تمنى الرجوع إلى وطنه على عادة الغرباء، يظهر لك فضل أبي بكر على غيره من الصحابة رضي الله عنهم اهـ.

ص: 45

ومنها ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم". قال النووي: معنى هذه الجملة أنهم رأوا رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة وكف القتل عنهم فظنوا أنه يرجع إلى سكنى مكة والمقام فيها دائماً ويرحل عنهم ويهجر المدينة، فشق ذلك عليهم، فأوحى الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم فأعلمهم بذلك اهـ. وأيضاً قال: فمعناه إني هاجرت إلى الله وإلى دياركم لاستيطانها، فلا أتركها ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله تعالى، بل أنا ملازم لكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم، إني لا أحيا إلا عندكم، ولا أموت إلا عندكم. اهـ.

ومنها ما روى الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلىّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك".

ومنها ما روى مسلم عن سلمة بن الأكوع أنه دخل على الحجاج فقال: "يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك، تعربت، قال: لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو".

قال النووي: قال القاضي عياض أجمعت الأمة على تحريم ترك المهاجر هجرته ورجوعه إلى وطنه، وعلى أن ارتداد المهاجر أعرابياً من الكبائر، ولهذا أشار الحجاج، إلى أن أعلمه سلمة أن خروجه إلى البادية إنما هو بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولعله رجع إلى غير وطنه، أو لأن الغرض في ملازمة المهاجر أرضه التي هاجر إليها وفرض ذلك إنما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لنصرته، أو ليكون معه، أو لأن ذلك إنما كان قبل فتح مكة لمواساة النبي صلى الله عليه وسلم ومؤازرته ونصرة دينه وضبط شريعته اهـ.

ومن ثم قال عثمان رضي الله عنه لما قال له الصحابة رضي الله عنهم -وقد حوصر- الحق بالشام: لن أفارق هجرتي، ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها. كذا في الجوهر المنظم لابن حجر المكي. فقد علم من تلك الأحاديث أن الأمرين المذكورين معتبران في معنى الهجرة.

وجملة القول في هذا المقال أن ليست الهجرة عين الخروج لزيارته صلى الله عليه وسلم، بل بينهما

ص: 46

عموم وخصوص من وجه يجتمعان في مادة كمن هاجر في حياته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وزار النبي صلى الله عليه وسلم، ويفترقان كمن هاجر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من دار حرب إلى دار الإسلام فيصدق عليه أنه خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله، فإن معنى "إلى الله وإلى رسوله" حيث أمر الله ورسوله، كذا في المدارك، ولا يصدق عليه أنه زار النبي صلى الله عليه وسلم وكمن زار النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ثم رجع إلى وطنه فيصدق عليه أنه زار، ولا يصدق عليه أنه هاجر، فدخول زيارته صلى الله عليه وسلم في حياته في الآية الكريمة ممنوع فضلاً عن دخول الزيارة فيها بعد مماته.

(والثاني) أن مثل من يستدل بهذه الآية على كون الزيارة قربة كمثل من يستدل على كون الزيارة قربة بحديث: "انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة" متفق عليه، وحديث:"لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" متفق عليه، وحديث:"ما أغبرَّت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار" رواه البخاري، وحديث:"من فصل في سبيل الله فمات أو قتل أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء فإنه شهيد وإن له الجنة". رواه أبو داود، وحديث:"إن الهجرة تهدم ما كان قبلها "، وحديث:"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" وجميع الآيات التي ورد فيها ذكر الهجرة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} . وغير ذلك من الآيات، مع أن أحداً من أهل العلم والدين لم يستدل بهذه الأحاديث والآيات على كون الزيارة قربة.

(والثالث) أنه لو سلم دخول زيارته صلى الله عليه وسلم في الآية الكريمة في الحياة فلا نسلم

ص: 47

دخول زيارته صلى الله عليه وسلم بعد الممات فيها، والأحاديث الدالة على أن زيارته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كزيارته في حياته لم يثبت واحد منها كما سيأتي:

قوله: أما السنة فما يأتي من الأحاديث.

أقول: تلك الأحاديث ليس شيء منها قابلاً لأن يحتج به، كما ستطلع عليه عن قريب.

قوله: وأما القياس فقد جاء أيضاً في السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور.. الخ.

أقول: الاستدلال بالسنة التي فيها الأمر بزيارة القبور استدلال بالسنة لا بالقياس، ولذا ذكر السبكي هذا الاستدلال في الاستدلال بالسنة في شفاء الأسقام ونصه هذا: وأما السنة فما ذكرناه في الباب الأول والثاني من الأحاديث وهي أدلة على زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بخصوصه، وفي السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور، فقبر النبي صلى الله عليه وسلم سيد القبور داخل في عموم القبور المأمور بزيارتها اهـ ملخصاً، وهذا الغلط قد صدر من المؤلف تقليداً لابن حجر المكي في الجوهر المنظم، وعبارته هكذا: وأما القياس فقد جاء أيضاً في السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور، فقبر نبينا منها أولى وأحرى، وأحق وأعلى، بل لا نسبة بينه وبين غيره.

قوله: وأما إجماع المسلمين فقد قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم في زيارة قبر النبي المكرم صلى الله عليه وسلم: قد نقل جماعة من الأئمة حملة الشرع الشريف الذين عليهم المدار والمعول الإجماع.

أقول ليس في المسألة إجماع، لتحقق ثبوت الخلاف فيها عن بعض المجتهدين، وإن كان قوله ضعيفاً من حيث الدليل. قال شيخ الإسلام في أثناء كلمه: مع أن نفس زيارة القبور مختلف في جوازها، قال ابن بطال في شرح البخاري: كره قوم زيارة القبور لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في النهي عنها، وقال الشعبي: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقال إبراهيم النخعي: كانوا

ص: 48

يكرهون زيارة القبور. وعن ابن سيرين مثله. قال: وفي مجموعه قال علي بن زياد: سئل مالك عن زيارة القبور فقال: قد نهى عنه عليه الصلاة والسلام ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيراً لم أر بذلك بأساً، وليس من عمل الناس، وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها، فهذا قول طائفة من السلف، ومالك في القول الذي رخص فيه يقول: ليس من عمل الناس، وفي الآخر ضعفها فلم يستحبها لا في هذا ولا في هذا، اهـ ما حكاه الشيخ، كذا في الصارم، وأما ما قال ابن حجر المكي في الجوهر المنظم "شاذ لا يلتفت إليه لمخالفة إجماع غيرهما" فهو مردود من وجهين:(الأول) أن قوله "لمخالفة إجماع غيرهما" غير صحيح، فإن ابن سيرين ومالكاً في قول موافق لهما. (والثاني) سلمنا أنه شاذ لكن كاف لنقض الإجماع كما تقرر في الأصول، وما قال ابن حجر المكي من أنه مؤول بفرض تسليمه الاعتداد به فهو لا يأتي في قبر نبينا صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم لا يخفى سخافته.

قوله: واحتج القائلون بوجوب الزيارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني" رواه ابن عدي بسند يحتج به.

أقول: في سند ابن عدي نعمان بن شبل ومحمد بن محمد بن النعمان بن شبل، وهما ضعيفان جداً، أما النعمان فقد قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير: النعمان ضعيف جداً، وقال الذهبي في الميزان: النعمان بن شبل الباهلي البصري عن أبي عوانة ومالك، قال موسى بن هارون: كان متهماً. وقال ابن حبان: يأتي بالطامات. وقال في تنزيه الشريعة: النعمان بن شبل الباهلي البصري عن أبي عوانة ومالك قال موسى بن هارون: كان متهماً. وقال ابن حبان: يأتي بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات، وقال في الصارم: قد اتهمه موسى بن هارون الحمال. وقال أبو حاتم البستي: يأتي عن الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات.

وأما محمد بن محمد بن النعمان فقال الحافظ في اللسان: محمد بن محمد بن النعمان ابن شبل الباهلي عن مالك روى عنه الوراق وقد طعن فيه الدارقطني واتهمه، وقال في تنزيه الشريعة: محمد بن محمد بن النعمان ابن شبل الباهلي طعن فيه الدارقطني واتهمه،

ص: 49

وقال في الصارم: والطعن فيه على ابنه محمد بن محمد بن النعمان كما ذكر ذلك شيخ الصنعة إمام عصره وفريد دهره ونسيج وحده الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني ولم يخالفه أحد يعتمد على قوله اهـ. وقال الحافظ في التقريب: محمد بن محمد بن النعمان بن شبل الباهلي البصري متروك اهـ.

فقولك "بسند يحتج به" باطل قطعاً، ومن ثم صرح جماعة من أهل النقد بضعف الحديث وجماعة بوضعه، ولم يذهب أحد إلى صحته أو حسنه، إنما تفرد به ابن حجر المكي وقلده على القارئ ولا عبرة بتحسينهما فإنهما ليسا بأهل لذلك ومن يدعي فعليه الإثبات.

قوله: ويدل لذلك أحاديث كثيرة صحيحة صريحة لا يشك فيها إلا من انطمس نور بصيرته.

أقول: ليس في الباب حديث واحد صحيح فضلاً عن الأحاديث الكثيرة الصحيحة، ولا أراك شاكاً في أن هذا القول غلط واضح وخطأ بين، فإن السبكي مع شدة سعيه في هذا الباب لم يثبت في زعمه إلا حسن حديثين أو صحتهما، الأول "من زار قبري وجبت له شفاعتي" والثاني "من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة" هذان الحديثان فيهما أيضاً كلام شديد كما سيأتي، وبالجملة ادعاء صحة الأحاديث الكثيرة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم باطل بالبداهة.

قوله: منها صلى الله عليه وسلم "من زار قبري وجبت له شفاعتي".

أقول في هذا الحديث كلام من وجهين: (الأول) أن في سنده موسى بن هلال العبدي وهو ضعيف، قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان قال أبو حاتم: مجهول، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، ثم ذكر أي ابن القطان1 كلامهم في موسى بن هلال وقال: الحق أنه لم تثبت عدالته، وفي أسئلة البرقاني أنه سأل الدارقطني عن موسى

1 ابن القطان لم يسبق له ذكر يصحح عود الضمير إليه كما في لسان الميزان فكان ينبغي للمؤلف أن يقول ثم ذكر الحافظ عن ابن القطان كذا.

ص: 50

ابن هلال فقال: هو مجهول، وقد أورد شيخنا في الذيل وهو المذكور فيه وأطلق عليه ذلك أبو حاتم اهـ ملخصاً.

فإن قلت: قال الحافظ ابن حجر فيه قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، قلت هو صالح الحديث فقد حصل التوثيق.

(قلت) : هاتان الكلمتان للتوثيق مما يكتب حديث صاحبها للاعتبار لا للاحتجاج، قال السيوطي في التدريب: الرابعة وهي سادسة بحسب ما ذكرنا "صالح" فإنه يكتب حديثه للاعتبار، وزاد العراقي فيها: صدوق إن شاء الله تعالى، أرجو أن لا بأس به، صويلح اهـ.

وبالجملة فموسى بن هلال في عداد من ينجبر ضعفه بالمتابعة وتعدد الطرق، فلينظر هل تابع أحد موسى بن هلال في رواية هذا الحديث أم لا؟ وعلى الأول فهل ذلك المتابع صالح للمتابعة أم لا؟ فأقول: قد تابعه مسلم بن سالم الجهني وهو لا يصلح للمتابعة، فإن أبا داود السجستاني قال في حقه: إنه ليس بثقة، نص عليه الحافظ في اللسان.

ومن يكتب في حقه هذا اللفظ فهو لا يصلح للمتابعة.

قال السيوطي في التدريب: وإذا قالوا متروك الحديث أو ذاهبه أو كذاب فهو ساقط لا يكتب حديثه ولا يعتبر به ولا يستشهد، إلا أن هاتين مرتبتان وقبلهما مرتبة أخرى ولا يعتبر بحديثها أيضاً، وقد أوضح ذلك العراقي، فالمرتبة التي قبل وهي الرابعة رد حديثه، ردوا حديثه، مردود الحديث، ضعيف جداً، واه بمرة، طرحوا حديثه، مطرح، مطرح الحديث، ارم به، ليس بشيء، لا يساوي شيئاً، يليها متروك الحديث، تركوه، ذاهب، ذاهب الحديث، ساقط، هالك، فيه نظر، سكتوا عنه، لا يعتبر به، لا يعتبر بحديثه، ليس بالثقة، ليس بثقة، غير ثقة اهـ.

(الثاني) أن في سنده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في الصارم: وقد تكلم في عبد الله العمري جماعة من أئمة الجرح والتعديل ونسبوه إلى سوء الحفظ والمخالفة للثقات في الروايات.

قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي في كتاب المجروحين من المحدثين: عبد الله بن

ص: 51

عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري أخو عبيد الله بن عمر من أهل المدينة يروي عن نافع، روى عنه العراقيون وأهل المدينة، كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الأخبار، وجودة الحفظ للآثار، فوقع المناكير في روايته، فلما فحش خطؤه استحق الترك، ومات سنة ثلاث وأربعين ومائة، حدثنا الهمداني حدثنا عمرو بن علي قال: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن عبد الله بن عمر. قال أبو حاتم: وهو الذي روى عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ خلل لحيته. وروى عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً يسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً". وروى عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس سهمين وللراجل سهماً -فيما يشبه هذا من المقلوبات والملزوقات التي ينكرها من أمعن في العلم وطلبه من مظانه. وقال أبو عيسى والترمذي في جامعه: وعبد الله بن عمر ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه. وقال البخاري في تاريخه: عبد الله بن عمر بن حفص العمري المدني القرشي كان يحيى بن سعيد يضعفه. وقال النسائي في كتاب الكنى: أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر ضعيف. وقال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت يحيى بن معين عن عبد الله بن عمر العمري فقال ضعيف. حدثنا عبد الله قال: سألت أبي عن عبد الله بن عمر فقال كذا وكذا. وقال أبو زرعة الدمشقي قيل لأحمد بن حنبل: كيف حديث عبد الله بن عمر؟ فقال: كان يزيد في الأسانيد ويخالف، وكان رجل صالحاً، وقد ذكر العقيلي هذا القول عن الإمام أحمد بن حنبل من رواية أبي بكر الأثرم عنه، وروى إسحاق بن منصور عن يحيى ابن معين قال: عبد الله بن عمر صويلح. وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: ضعيف، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال يعقوب بن شيبة: صدوق، في حديثه اضطراب. وقل صالح بن محمد البغدادي: لين، مختلط الحديث، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم اهـ. قال الحافظ في التقريب: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن المدني ضعيف عابد اهـ.

فإن قلت: قد ورد عن أئمة الجرح والتعديل في حقه ما يدل على حسن روايته

ص: 52

وتقويته كما في الكاشف وتهذيب التهذيب، قلت: تلك الألفاظ إنما هي صويلح، لا بأس به، صدوق، ليس به بأس، يكتب حديثه، ثقة في حديثه اضطراب، صالح ثقة، فمنها ما يكتب حديثه للاعتبار والاستشهاد لا للاحتجاج، ومنها ما يكتب حديثه وينظر فيه. وطريق النظر أن يقابل حديثه بحديث الضابطين فإن كان أكثره موافقاً فهو ضابط يحتج بحديثه ولا تضره مخالفته النادرة، وإن كانت المخالفة أكثر والموافقة نادرة ففي ضبطه خلل لا يحتج به. وعبد الله بن عمر العمري كثير المخالفة، قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي في كتاب المجروحين: كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الأخبار وجودة الحفظ للآثار فوقع المناكير في روايته، فلما فحش خطؤه استحق الترك اهـ. ومنها ما يدل على أن حديثه بانفراده لائق للاحتجاج وهو لفظ ثقة، وهذا مما كتبه يعقوب بن شيبة وابن معين، ولكن يعلم بعد البحث والنظر أن هذه اللفظة ليست نصاً على كونه قابلاً للاحتجاج عموماً، فإن لفظة "ثقة" تطلق على معاني:(الأول) العدل المطلق، (والثاني) العدل الضابط، (والثالث) رجل لم يرد في حقه جرح ولا تعديل، وشيخه والذي يروي عنه ثقتان، ولم يأت بحديث منكر، فيحتمل أن يكون المراد في كلامهما بالثقة العدل المطلق، وحديث العدل المطلق لا يصح الاحتجاج به حتى يكون ضابطاً، ومما يعين ذلك الاحتمال أن يعقوب بن شيبة قال مع ذلك: في حديثه اضطراب، ويحيى بن معين قال مع ذلك: ضعيف.

قوله: وفي رواية "حلت له شفاعتي" رواه الدراقطني وكثير من أئمة الحديث.

أقول: هذا اللفظ رواه البزار في مسنده وإسناده هكذا: حدثنا قتيبة حدثنا عبد الله بن إبراهيم حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قبري حلت له شفاعتي". وفي هذا السند ضعيفان: (أحدهما) عبد الله بن إبراهيم الغفاري، (والآخر) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

قال ابن عبد الهادي في الصارم المنكى: واعلم أن هذا الحديث الذي ذكره من رواية البزار حديث ضعيف منكر ساقط الإسناد لا يجوز الاحتجاج بمثله عند أحد من أئمة الحديث وحفاظ الأثر كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى. وقتيبة شيخ البزار

ص: 53

هو ابن المرزبان روى عنه غير هذا الحديث، وأما عبد الله بن إبراهيم فهو ابن أبي عمرو الغفاري أبو محمد المدني، يقال إنه من ولد أبي ذر الغفاري، وهو شيخ ضعيف الحديث جداً منكر الحديث، وقد نسبه بعض الأئمة إلى الكذب ووضع الحديث نعوذ بالله من الخذلان. قال أبو داود: وهو شيخ منكر الحديث. وقال الدراقطني: حديثه منكر. وقال الحاكم أبو عبد الله: يروي عن جماعة من الثقات أحاديث موضوعة لا يرويها عنهم غيره. وقال البزار عقب رواية حديثه: وعبد الله بن إبراهيم حدّث بأحاديث لا يتابع عليها. وقال أبو حاتم بن حبان البستي: عبد الله بن أبي عمرو الغفاري شيخ يروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأهل المدينة. واسم أبيه إبراهيم، روى عنه سلمة بن شبيب والناس، كان ممن يأتي عن الثقات بالمقلوبات، وعن الضعفاء بالملزوقات، روى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما جزت ليلة أسري بي من سماء إلى سماء إلا رأيت اسمي مكتوباً محمد رسول الله أبو بكر الصديق" وهذا خبر باطل، فلست أدري البلية منه أو من عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، على أن عبد الرحمن بن زيد ليس هذا من حديثه بمشهور، فكان القلب إلى أنه من عمل عبد الله بن أبي عمرو1 أميل اهـ. وأيضاً قال في الصارم: وذكر ابن عدي لعبد الله بن إبراهيم أحاديث كثيرة منكرة بل موضوعة، ثم قال: وعامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات، وقال العقيلي: عبد الله بن إبراهيم الغفاري كان يغلب على حديثه الوهم.

وأما عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فضعيف غير محتج به عند أهل الحديث، قال الفلاس: لم أسمع عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه، وقال أبو طالب عن أحمد بن حنبل: ضعيف، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء وقال البخاري وأبو حاتم الرازي: ضعفه علي بن المديني جداً، وقال أبو داود وأبو زرعة والنسائي والدراقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى أكثر من ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك.

1 في الصارم المنكى ابن إبراهيم بدل ابن أبي عمرو، وهو هو.

ص: 54

وقال الحاكم أبو عبد الله: روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه، وقال ابن خزيمة: عبد الرحمن بن زيد ليس ممن يحتج أهل الحديث بحديثه، وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: حدث عن أبيه لا شيء، وقال محمد بن عبد الله بن الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثاً فقال: من حدثك؟ فذكر إسناداً منقطعاً، فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح. وقال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي يقول: سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: حدثك أبوك عن أبيه عن جده أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت ركعتين؟ قال: نعم اهـ. وقال في الخلاصة: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المدني عن أبيه، وعنه وكيع وابن وهب وقتيبة وخلق، ضعفه أحمد وابن المديني والنسائي وغيرهم، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة، وقال الذهبي في الميزان: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العمري مولاهم المدني أخو عبد الله وأسامه، قال أبو يعلى الموصلي سمعت يحيى بن معين يقول: بنو زيد بن أسلم ليسوا بشيء، وروى عثمان الدرامي أن يحيى بن معين يقول: بنو زيد ضعفاء. وقال البخاري: عبد الرحمن ضعفه علي جداً. وقال النسائي: ضعيف. وقال أحمد: عبد الله ثقة والآخران ضعيفان اهـ. وقال الترمذي في جامعه: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف في الحديث، ضعفه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وغيرهما من أهل الحديث، وهو كثير الغلط اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في اللسان وذكر -يعني عبد الحق- أن البزار رواه أيضاً، وإنما رواه البزار من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف أيضاً. وفيه أيضاً عبد الله بن إبراهيم الغفاري وقد تكلموا فيه أيضاً اهـ. وقال في تنزيه الشريعة: عبد الله بن إبراهيم الغفاري ويقال ابن أبي عمرو نسبه ابن حبان إلى وضع الحديث. وقال الذهبي في الميزان: نسبه ابن حبان إلى أن يضع الحديث. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال الدراقطني: حديثه منكر. وذكر له ابن عدي الحديثين اللذين في جزء ابن عرفة في فضل أبي بكر وعمر وهما باطلان. وقال الحاكم: عبد الله يروي عنجماعة من الضعفاء أحاديث موضوعة اهـ ملخصاً. وقال في تهذيب التهذيب قال أبو داود: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يضع الحديث. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه اهـ.

ص: 55

وقال الحافظ في التقريب: عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو الغفاري أبو محمد المدني متروك، ونسبه ابن حبان إلى الوضع، من العاشرة اهـ. وقال الذهبي في الكاشف: عبد الله بن إبراهيم بن الغفاري المدني، عن إبراهيم بن مهاجر ومالك، وعنه الكديمي وأبو قلابة، متهم. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قبري حلت له شفاعتي" رواه البراز، وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف اهـ، وقال في تنزيه الشريعة في حق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيه عليه، وقال الذهبي في التذهيب: ضعفه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم. وقال أبو حاتم: كان في نفسه صالحاً وفي الحديث واه، وضعفه ابن المديني جداً. وقال الحافظ في التقريب: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم ضعيف اهـ. وقال الذهبي في الكاشف: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المدني عن أبيه وابن المنكدر وعنه أصبغ وقتيبة وهشام، ضعفوه اهـ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من زار قبري حلت له شفاعتي". رواه البزار، وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف اهـ، وقال الحافظ في التلخيص: ورواه البزار من حديث زيد بن أسلم عن ابن عمر، وفي إسناده عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف اهـ. وقال الإمام الحافظ صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري في الخلاصة: عبد الله بن إبراهيم بن عمر الغفاري أبو محمد المدني عن أبيه وإبراهيم بن مهاجر، وعنه الحسن بن عرفة وسلمة بن شبيب: قال ابن حبان: يضع اهـ. وقال في التهذيب: قال ابن عدي عامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات. وقال الدراقطني: حديثه منكر اهـ.

قوله: وقد أطال الإمام السبكي في كتابه المسمى شفاء السقام في زيارة قبر خير الأنام في بيان طرق هذا الحديث وبيان من صححه من الأئمة.

أقول: قد ردّ الإمام ابن عبد الهادي على السبكي رداً شنيعاً في كتابه المسمى (الصارم المنكى) وقد بين من ضعفه من الأئمة.

قوله: منها رواية "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي".

ص: 56

أقول: هذا الحديث رواه الدراقطني في سننه وإسناده هكذا: حدثنا أبو عبيد والقاضي أبو عبد الله وابن مخلد قالوا حدثنا محمد بن الوليد البسري حدثنا وكيع حدثنا خالد بن أبي خالد وأبو عون عن الشعبي والأسود بن ميمون عن هارون بن أبي قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة".

قال في الصارم والجواب أن يقال: هذا الحديث الذي جعله ثامناً هو بعينه الحديث السادس والسابع، فهو حديث واحد ضعيف مضطرب الإسناد، وهذه الرواية التي ذكرها لم تزده إلا اضطراباً في الإسناد، وفي المتن أيضاً، وقد أخرجها البيهقي في كتاب شعب الإيمان من طريق الدارقطني ثم قال: كذا وجدته في كتابه، وقال غيره سوار بن ميمون وقيل ميمون بن سوار، ووكيع هو الذي يروي عنه أيضاً. وفي تاريخ البخاري: ميمون بن سوار العبدي عن هارون بن أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات في أحد الحرمين". قال يوسف بن راشد حدثنا وكيع حدثنا ميمون. والحاصل أن هذه الرواية المذكورة عن محمد بن الوليد عن وكيع لم تزد الحديث إلا ضعفاً واضطراباً في إسناده وفي لفظه، فالحديث حديث واحد مجهول الإسناد مضطرب اضطراباً شديداً، ومداره على هارون أبي قزعة، وقيل ابن قزعة، وقيل ابن أبي قزعة، وبعض الرواة يذكره وبعضهم يسقطه، وشيخه بعضهم يذكره وبعضهم يسقطه، وبعضهم يقول فيه عن رجل من آل عمر، وبعضهم يقول عن رجل من آل الخطاب، وبعضهم يقول عن رجل من ولد حاطب، ثم الرجل المبهم بعضهم يسنده عن عمر، وبعضهم يسنده عن حاطب، وبعضهم يرسله ولا يسنده لا عن حاطب ولا عن عمر، وهو الذي ذكره البخاري وغير واحد، ثم الراوي عن هارون يسميه بعض الرواة سوار بن ميمون ويقلبه بعضهم فيقول ميمون ابن سوار، ويسميه بعضهم الأسود بن ميمون، ولا يرتاب من عنده أدنى معرفة بعلم المنقولات أن مثل هذا الاضطراب الشديد من أقوى الحجج وأبين الأدلة على ضعف الخبر، وسقوطه وردّه، وعدم قبوله وترك الاحتجاج به، ومع هذا الاضطراب

ص: 57

الشديد في الإسناد، فاللفظ مضطرب أيضاً اضطراباً شديداً مشعراً بالضعف وعدم الضبط.

وأما ما وقع من الزيادة في الإسناد عن وكيع عن خالد بن أبي خالد وأبي عون أو ابن عون عن الشعبي أو بإسقاط الشعبي فإنها زيادة منكرة غير محفوظة، وليس للشعبي مدخل في إسناد هذا الحديث، وخالد بن أبي خالد وأبو عون أو ابن عون قد ذكر في الرواية الأولى أنهما يرويان عن الشعبي وفي الأخرى أنهما يرويان عن هارون بن أبي قزعة، ولم يذكر في الأولى عمن أسند الشعبي الحديث، وأسقط في الأخرى ذكره بالكية، وذكر الرجل الذي يروي عنه هارون الحديث، وكل ذلك مشعر بشدة الضعف وعدم الضبط.

وقوله عن خالد بن أبي خالد وهم، وإنما هو ابن أبي خلدة، قال البخاري في تاريخه: خالد بن أبي خلدة الحنفي الأعور، سمع الشعبي وإبراهيم، روى عنه الثوري ومروان ابن معاوية منقطع، وقال ابن أبي حاتم: خالد بن أبي خلدة الحنفي الأعور روى عن الشعبي وإبراهيم وروى عنه الثوري وابن عيينة ومروان بن معاوية سمعت أبي يقول.

والحاصل أن ذكر هذه الزيادة المظلمة في الإسناد لم يزد في الحديث قوة بل لم يزده إلا ضعفاً واضطراباً، فقد تبين أن هذا الحديث الذي احتج به المعترض على شيخ الإسلام وجعله ثلاثة أحاديث هو حديث واحد غير صحيح اهـ.

وقال في الصارم تحت حديث: "من زار قبري – أو من زارني – كنت له شفيعاً أو شهيداً". ومدار الحديث على هارون، وهو شيخ مجهول لا يعرف له ذكر إلا في هذا الحديث، وقد ذكره أبو الفتح الازدي وقال: هو متروك الحديث لا يحتج به، وقال أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي في كتاب الضعفاء والمتروكين له: هارون أبو قزعة روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه، قاله البخاري، وقال أبو أحمد ابن عدي في كتاب الكامل في معرفة الضعفاء وعلل الأحاديث: هارون أبو قزعة، سمعت ابن حماد يقول قال البخاري: هارون أبو قزعة روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه، قال ابن عدي: وهارون أبو قزعة لم ينسب، وإنما روى الشيء الذي أشار إليه البخاري.

ص: 58

هذا جميع ما ذكره ابن عدي في ترجمة هارون، ولو كان عنده شيء عن أمره غير ما قاله البخاري لذكره كما هي عادته. فقد تبين أن مدار هذا الحديث على هارون بن قزعة، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث الضعيف، ولم يشتهر من حاله ما يوجب قبول خبره، ولم يذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، ولا ذكره الحاكم أبو أحمد في كتاب الكنى، ولم يذكر النسائي في كتاب الكنى أيضاً اهـ. قال الحافظ في اللسان: هارون بن قزعة عن رجل في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال البخاري: لا يتابع عليه. قال الأزدي: هارون أبو قزعة يروي عن رجل من آل حاطب المراسيل.

قلت: فتعين أنه الذي أراد الأزدي، وقد ضعفه أيضاً يعقوب بن شيبة، وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود في الضعفاء، وأورد العقيلي حديثه من طريق الجندي اهـ ملخصاً. وقال الحافظ أيضاً في اللسان: هارون بن قزعة لا يعرف، قال الأزدي: متروك اهـ. وقال البخاري روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه. قلت: ما يبعد أن الأزدي أراد من فوقه الذي تقدم. اهـ.

قوله: وفي رواية "من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة".

أقول: رواه الطبراني، وفي سنده مسلمة بن سالم الجهني. قال في اللسان: مسلم بن سالم الجهني البصري كان يكون بمكة، قال أبو داود السجستاني: ليس بثقة اهـ. وقال في التقريب: مسلم بن سالم الجهني بصري، كان يكون بمكة، ضعيف. ويقال فيه مسلمة بزيادة هاء اهـ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة" رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه مسلمة بن سالم وهو ضعيف. قال الإمام ابن عبد الهادي في الصارم: هذا الحديث ليس فيه ذكر زيارة القبر ولا ذكر الزيارة بعد الموت مع أنه حديث ضعيف الإسناد، منكر المتن، لا يصلح الاحتجاج به ولا يجوز الاعتماد على مثله، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا رواه الإمام أحمد في مسنده ولا أحد من الأئمة المعتمد على ما أطلقوه في روايتهم،

ص: 59

ولا صححه إمام يعتمد على تصحيحه، وقد تفرد به هذا الشيخ الذي لم يعرف بنقل العلم ولم يشتهر بحمله ولم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبره وهو مسلمة بن سالم الجهني الذي لم يشتهر إلا برواية هذا الحديث المنكر وحديث آخر موضوع ذكره الطبراني بالإسناد المتقدم ومتنه "الحجامة في الرأس أمان من الجنون والجذام والبرص والضرس" وروى عنه حديث آخر منكر من رواية غير العبادي، وإذا انفرد مثل هذا الشيخ المجهول الحال القليل الرواية بمثل هذين الحديثين المنكرين عن عبيد الله بن عمر أثبت آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمانه وأحفظهم عن نافع عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر من بين سائر أصحاب عبيد الله الثقات المشهورين، والأثبات المتقنين، علم أنه شيخ لا يحل الاحتجاج بخبره، ولا يجوز الاعتماد على روايته.

هذا مع أن الراوي عنه وهو عبد الله بن محمد العبادي أحد الشيوخ الذين لا يحتج بما تفردوا به، وقد اختلف عليه في إسناد الحديث فقيل عنه عن نافع عن سالم كما تقدم، وقيل عنه عن نافع وسالم، وقد خالفه من هو أمثل منه وهو مسلم بن حاتم الأنصاري وهو شيخ صدوق فرواه عن مسلمة بن سالم عن عبد الله – يعني العمري- عن نافع عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "من جاءني زائراً لم ينزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة". هكذا رواه الحافظ أبو نعيم عن أبي محمد بن حبان عن محمد بن أحمد بن سليمان الهروي عن مسلم بن حاتم الأنصاري، وهذه الرواية رواية مسلم بن حاتم التي قال فيها عن عبد الله وهو العمري الصغير المكبر1 الضعيف أولى من رواية العبادي التي اضطرب فيها وقال عن عبيد الله يعني العمري الكبير المصغر الثقة الثبت، وكلا الروايتين لا يجوز الاعتماد عليهما لمدارهما على شيخ واحد غير مقبول الرواية وهو مسلمة بن سالم، وهو شيبه بموسى بن هلال صاحب الحديث المتقدم الذي يرويه عن عبد الله العمري أو عن أخيه عبيد الله وقد أختلف عليه في ذلك كما اختلف على مسلمة. اهـ.

1 قوله"المكبر" يعني به المسمى عبد الله، وعن أخيه "المصغر" يعني المسمى عبيد الله.

ص: 60

قوله: وفي رواية "من جاءني زائراً كان له حقاً على الله أن أكون له شفيعاً يوم القيامة".

أقول: قد روى1 أبو بكر بن المقري في معجمه بهذه اللفظة، وفي سنده أيضاً مسلمة بن سالم الجهني.

قوله: وفي رواية لأبي يعلى والدراقطني والطبراني والبيهقي وابن عساكر "من حج فزار قبري –وفي رواية فزارني– بعد وفاتي عند قبري كان كمن زارني في حياتي".

أقول: في سنده حفص بن أبي داود وليث بن أبي سليم، وفي بعض طرقه الحسن ابن طيب وأحمد بن رشدين، وكلهم ضعفاء مجروحون، قال الإمام ابن عبد الهادي في الصارم: واعلم أن هذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به ولا يصلح الاعتماد على مثله، فإنه حديث منكر المتن، ساقط الإسناد، لم يصححه أحد من الحفاظ، ولا احتج به أحد من الأئمة، بل ضعفوه وطعنوا فيه، وذكر بعضهم أنه من الأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة، ولا ريب في كذب هذه الزيادة فيه، وأما الحديث بدونها فهو منكر جداً، وراويه حفص بن أبي داود هو حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي الكوفي البزار القاري الغاضري، وهو صاحب عاصم بن أبي النجود في القراءة وابن امرأته، وكان مشهوراً بمعرفة القراءة ونقلها، وأما الحديث فإنه لم يكن من أهله ولا ممن يعتمد عليه في نقله، ولهذا جرحه الأئمة وضعفوه وتركوه، واتهمه بعضهم، قال عثمان بن سعيد الدارمي وغيره عن يحيى بن معين: ليس بثقة. وذكر العقيلي عن يحيى أنه سئل عنه فقال: ليس بشيء، وقال عبد الله بن الإمام أحمد سمعت أبي يقول: حفص بن سليمان أبو عمر القاري متروك الحديث. وقال البخاري: تركوه.

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قد فرغ منه من دهر، وقال مسلم بن الحجاج: متروك. وقال علي بن المديني: ضعيف الحديث وتركته على عمد. وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال مرة: متروك الحديث. وقال صالح بن محمد

1 الظاهر أن يقول: قد رواه.

ص: 61

البغدادي: لا يكتب حديثه، وأحاديثه كلها مناكير. وقال زكريا الباجي: يحدث عن سماك وعلقمة بن مرثد وقيس بن مسلم وعاصم أحاديث بواطيل. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عنه فقال: لا يكتب حديثه هو ضعيف الحديث لا يصدق متروك. قال ما حاله في الحروف؟ قال: أبو بكر بن عياش أثبت منه. وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش: كذاب متروك يضع الحديث. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال الدارقطني: ضعيفه. وقال أبو حاتم بن حبان: كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل. وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها من غير سماع، وقال ابن عدي أخبرنا الباجي حدثنا أحمد بن محمد البغدادي قال سمعت يحيى بن معين يقول: "كان حفص بن سليمان وأبو بكر بن عياش من اعلم الناس بقراءة عاصم، وكان حفص أقرأ من أبي بكر، وكان أبو بكر صدوقاً، وكان حفص كذاباً. وروى ابن عدي لحفص أحاديث منكرة غير محفوظة منها هذا الحديث الذي رواه في الزيارة، قال: وهذه الأحاديث يرويها حفص بن سليمان، ولحفص غير ما ذكرت، وعامة حديثه عمن روى عنهم غير محفوظ.

وقال العقيلي حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا يحيى القطان قال ذكر شعبة حفص بن سليمان وقال: كان يأخذ كتب الناس وينسخها، وقال شعبة: أخذ مني حفص بن سليمان كتاباً فلم يرده، وقال العقيلي أيضاً: حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحسن بن علي حدثنا شبابة قال: قلت لأبي بكر بن عياش: أبو عمر رأيته عند عاصم؟ قال: قد سألني عن هذا غير واحد ولم يقرأ على عاصم أحد إلا وأنا أعرفه، ولم أر هذا عند عاصم قط.

وقال أبو بشر الدولابي في كتاب الضعفاء والمتروكين: حفص بن سليمان متروك الحديث. وقد روى البيهقي في السنن الكبير حديث حفص الذي رواه في الزيارة وقالك تفرد به حفص وهو ضعيف. وقال في شعب الإيمان: وروى حفص بن أبي داود – وهو ضعيف – عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعاً: "من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي". أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأنا أبو أحمد

ص: 62

ابن عدي حدثنا عبد الله بن أحمد البغوي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حفص بهذا الحديث، وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنبأنا أحمد بن عبيد حدثني محمد بن إسحاق الصفار حدثنا بكار حدثنا حفص بن سليمان فذكره وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: تفرد به حفص وهو ضعيف في رواية الحديث. هكذا ضعف البيهقي حفصاً في كتاب السنن الكبير وفي كتاب شعب الإيمان وذكر أنه تفرد برواية هذا الحديث. فإذا كانت هذه حال حفص عند أئمة هذا الشأن فكيف يحتج بحديث رواه أو يعتمد على خبر نقله؟ مع أنه قد اختلف عليه في رواية هذا الحديث فقيل عنه عن ليث بن أبي سليم كما تقدم مع أن ليثاً مضطرب الحديث عندهم، وقيل عنه عن كثير ابن شنظير عن ليث، قال أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي: حدثنا يحيى بن أيوب المقابري حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن ليث ابن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من حج فزارني بعد وفاتي عند قبري فكأنما زارني في حياتي". اهـ وأيضاً قال في الصارم: وليث بن أبي سليم مضطرب الحديث قاله الإمام أحمد بن حنبل.

وقال أبو معمر القطيعي: كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم، وقال يحيى بن معين والنسائي: ضعيف، وقال السعدي: يضعف حديثه.

وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا يحيى بن معين عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان لا يحدث عن ليث بن أبي سليم، وقال أحمد بن سليمان الرُّهاوي عن مؤمل بن المفضل قلنا لعيسى بن يونس: ألم تسمع من ليث بن أبي سليم؟ قال: قد رأيته وكان قد اختلط، وكان يصعد المنارة بارتفاع النهار فيؤذن.

وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: ليث لا يشتغل به، هو مضطرب الحديث. وقال أيضاً سمعت أبا زرعة يقول: ليث بن أبي سليم لين الحديث، لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث. اهـ.

وقال الذهبي في الميزان في ترجمة حفص بن سليمان: وكان ثبتاً في القراءة، واهياً في الحديث، فإنه كان لا يتقن الحديث ويتقن القرآن ويجودّه، وإلا فهو في نفسه

ص: 63

صادق اهـ. وأيضاً فيه قال حنبل بن إسحاق عن أحمد: ما به بأس، وروى الحسين بن حبان عن ابن معين قال: هو أصح قراءة من أبي بكر وأبو بكر أوثق منه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: متروك الحديث. فهذه رواية ابن أبي حاتم عن عبد الله، وأما رواية أبي علي الصواف عن عبد الله عن أبيه فقال: صالح. وقال ابن معين أيضاً: ليس بثقة. وقال البخاري: تركوه، وقال أبو حاتم: متروك، وقال ابن خراش: كذاب يضع الحديث. وقال ابن عدي: لا يصدق، عامة أحاديثه غير محفوظة، وقال ابن حبان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها من غير سماع.

وقال أحمد بن حنبل أخبرنا يحيى القطان قال: ذكر شعبة حفص بن سليمان فقال: كان يأخذ كتب الناس وينسخها، أخذ مني كتاباً فلم يرده، وقال أحمد بن محمد الحضرمي: سألت يحيى بن معين عن حفص بن سليمان أبي عمرو البزار فقال: ليس بشيء اهـ، وقال الذهبي في الكاشف: ثبت في القراءة لا الحديث. قال البخاري: تركوه. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: حفص بن سليمان الأسدي أبو عمرو البزاز الغاضري بمجمعتين وهو حفص بن أبي داود القارئ صاحب عاصم ويقال له حفيص متروك الحديث مع إمامته في القراءة. اهـ. وقال الحافظ في التلخيص: أما حفص فهو ابن سليمان ضعيف الحديث، وإن كان أحمد قال فيه صالح اهـ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه حفص بن أبي داود القارئ وثقه أحمد وضعفه جماعة اهـ.

وقال في الخلاصة: حفص بن سليمان الأسدي الغاضري بمعجمتين ثم مهملة أبو عمرو البزاز ابن امرأة عاصم ويقال له حفيص بن أبي داود الكوفي المقرئ عن علقمة ابن مرثد ومحارب بن دثار، وعنه آدم بن أبي إياس، ومحمد بن سليمان لوين وعلى بن حجر وخلق، قال البخاري: تركوه في رواية الحديث، وأما القراءة فهو فيها ثبت بإجماع اهـ.

وقال في تنزيه الشريعة: حفص بن أبي داود، وهو حفص بن سليمان صاحب القراءة، قال ابن خراش: كذاب يضع الحديث، اهـ وقال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في ترجمة ليث بن أبي سلم: فيه خلاف، وقد حدث عنه الناس

ص: 64

وضعفه يحيى والنسائي، وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره.

وقال مؤمل بن الفضل سألت عيسى بن يونس عن ليث فقال: رأيته وكان قد اختلط، وكنت ربما مررت به ارتفاع النهار وهو على المنارة يؤذّن، وقال الدارقطني: كان صاحب سنة، إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاوس ومجاهد حسبُ، ووثقه ابن معين في رواية. اهـ.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وأما ليث بن سليم فضعفه الجماهير، قالوا: واختلط واضطربت أحاديثه، قالوا: وهو ممن يكتب حديثه، قال أحمد بن حنبل: هو مضطرب الحديث ولكن حدَّث الناس عنه، وقال الدارقطني وابن عدي: يكتب حديثه، وقال كثيرون: لا يكتب حديثه، وامتنع كثيرون من السلف من كتابة حديثه اهـ، وقال في تهذيب الأسماء: اتفق العلماء على ضعفه، وقال ابن جملة في فوائده: وأكثر المحدثين على تضعيفه في الحديث، وصرح جماعة من أئمتهم بتركه. اهـ.

وفي الأنساب للسمعاني: ليث بن أبي سليم بن زُنيم الليثي من الأبناء، وأصله من أبناء فارس، واسم أبي سليم أنس، كان مولده بالكوفة فكان معلماً بها يروي عن مجاهد وطاوس وروى عنه الثوري وأهل الكوفة، وكان من العباد، ولكن اختلط في آخر عمره حتى لا يدري ما كان يحدث به، وكان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، ويأتي عن الثقات بما ليس من أحاديثهم، كل كان منه من اختلاط، تركه يحيى بن القطان وابن مهدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين، ومات ليث سنة ثلاث وأربعين ومائة، قال عيسى بن يونس: ليث بن أبي سليم كان قد اختلط، ربما مررت به ارتفاع النهار وهو على المنارة يؤذن.

وذكر محمد بن خلف العسقلاني أنه رأى مجاهداً في النوم فقال له: يا أبا الحجاج أي شيء حال ليث بن أبي سليم عندكم؟ قال: مثل حاله عندكم، هكذا في تراجم الحفاظ للبدخشى، وقال الحافظ في التقريب: الليث بن أبي سليم بن زُنيم بالزاى والنون مصغراً، واسم أبيه أيمن، وقيل أنس، وقيل غير ذلك صدوق، اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك اهـ. وقال الحافظ في الفتح: قوله ولم يصح وذلك لضعف

ص: 65

إسناده واضطرابه، تفرد به ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. اهـ.

وقال الذهبي في الميزان في ترجمة الحسن بن الطيب: الحسن بن الطيب البلخي عن قتيبة، قال ابن عدي: كان له عم يقال له الحسن بن شجاع فادعى كتبه حيث وافق اسمه اسمه، أخبرني بهذا عبدان، وكان عبدان يروي عن عمه، وقال ابن عدي: وقد حدث أيضاً بأحاديث سرقها، وكان قد حمل إلى بغداد وقرئ عليه، وقال الخطيب: حدث عن هدبة وقتيبة وأبي كامل الجحدري، روى عنه ابن المظفر والزيات وطائفة، قال البرقاني: إنه ذاهب الحديث، وقال الدارقطني: لا يساوي شيئاً، يحدث بما لا يسمع، وعن مطين: إنه كذاب. اهـ.

وقال في الميزان في ترجمة أحمد بن رشدين قال ابن عدي: كذبوه وأنكرت عليه أشياء، قلت: فمن أباطيله رواية الطبراني وغيره عنه قال: حدثنا حميد بن علي البجلي الكوفي حدثنا ابن أبي لهيعة عن أبي عثانة عن عقبة بن عامر مرفوعاً "قالت الجنة يا رب، أليس وعدتني أن تزينني بركنين؟ قال: ألم أزينك بالحسن والحسين؟ فماست الجنة كما تميس العروس" اهـ.

وقال في تنزيه الشريعة: أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بن سعد أبو جعفر المصري، قال ابن عدي: كذبوه، اهـ. وقال السيوطي في التدريب: وأوهى أسانيد المصريين أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بن سعد عن أبيه عن جده عن قرة بن عبد الرحمن عن كل من روى عنه فإنها نسخة كبيرة اهـ. وقال الحافظ في اللسان: محمد بن حجاج بن رشدين المهري عن أبيه عن جده قال العقيلي: في حديثه نظر، روى عنه ابنه أحمد بن محمد، ويروى أيضاً عن ابن وهب. توفي سنة 231. اهـ.

وقال ابن عدي: كأن بيت رشدين خصوا بالضعف، رشدين ضعيف، وابنه حجاج ضعيف، وللحجاج ابن يقال له محمد ضعيف. قلت: وابن محمد أحمد ضعيف، وقد تقدم، ويقال له أحمد بن رشدين ينسب إلى جده الأعلى. اهـ.

قوله: وفي رواية "من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي".

ص: 66

أقول: رواه بهذا اللفظ بعض الحفاظ في زمن عبد الله بن منده، وفي سنده حفص بن سليمان وليث بن أبي سليم وقد تقدم الكلام فيهما، قال في الصارم: وقال بعض الحفاظ في زمن عبد الله بن منده: حدثنا أبو الحسن حامد بن حماد بن المبارك السر من رأى1 بنصيبين حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن سيار بن محمد النصيبي حدثنا عمر بن سيار بمصر حدثنا حفص بن سليمان، عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي" هكذا رواه بهذا اللفظ اهـ.

قوله: وفي رواية "من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً وشهيداً".

أقول: قال في (الصارم) والجواب أن يقال: هذا اللفظ المذكور غلط في هذا الحديث -حديث نافع عن ابن عمر- ولفظ الزيارة فيه غير محفوظ، ولو كان محفوظاً لم يكن فيه حجة على محل النزاع، والمحفوظ في هذا عن أيوب السختياني ما رواه هشام الدستوائي وسفيان بن موسى عنه عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فنه من مات بها كنت له شفيعاً أو شهيداً". هذا هو حديث أيوب عن نافع، ليس فيه ذكر الزيارة أصلاً، وكذلك رواه الحسن بن أبي جعفر الجعفري -وهو ضعيف- عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، ورواه وهيب عن أيوب عن نافع مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه إسماعيل بن علية عن أيوب قال نبئت عن نافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال موسى بن هارون: ووهيب وابن علية اثبت من الدستوائي ومن الجعفري ومن سفيان بن موسى، وقد ذكرنا ألفاظ هذا الحديث فيما تقدم، وذكرنا من رواته نافعاً من أصحابه، وحكينا ما ذكره الدارقطني وغيره في ذلك، وقد وقف هذا المعترض على ما ذكره في كتاب العلل من الاختلاف في إسناد الحديث ومتنه ولم ينقل منه إلا طريقاً واحدة أخطأ فيها، ولفظاً

1 سر من رأى اسم مدينة بين بغداد وتكريت استحدثه المعتصم، قال أبو عثمان المازني: سألني الخليفة الواثق: كيف ينسب رجل إلى سر من رأى؟ فقلت: سرى، بضم السين وتشديد الراء كالنسبة إلى تابط شراً: تأبطى.

ص: 67

واحداً وهم فيه الناقل، وأعرض عن ذكر الطرق الواضحة والألفاظ الصحيحة، وهل هذا إلا عين الخذلان أن ينظر الرجل في ألفاظ الحديث وطرقه في موضع واحد فينقل منها الضعيف السقيم، ويدع القوي الصحيح من غير بيان لذلك، ثم يعتل بأن النسخة التي نقل منها سقيمة.

وهذا الحديث الذي نقله المعترض من كتاب العلل للدارقطني أخطأ راويه في إسناده، ووهم في متنه، أما خطؤه في إسناده فقوله:"عن عون بن موسى" وإنما هو سفيان بن موسى، وهو شيخ من أهل البصرة روى له مسلم في صحيحه حديثاً واحداً متابعة يرويه عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أقيمت الصلاة ووضع العشاء فابدءوا بالعشاء" وقد ذكر ابن أبي حاتم أنه سئل عنه فقال مجهول، وذكره ابن حبان في آفات الثقات.

وأما وهمه في متنه فقوله صلى الله عليه وسلم: "من زارني إلى المدينة" ولفظ الزيارة في حديث أيوب عن نافع ليس بصحيح، والمعروف من حديثه عنه "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل"، وأصح منه الفظ الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يصبر عن لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة". اهـ.

قوله: وفي رواية: "من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً وشهيداً، ومن مات بأحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة". رواه بهذه الزيادة أبو داود الطيالسي.

أقول: قال في (الصارم) والجواب أن يقال: هذا الحديث ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه، ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم فيه جعله المتعرض ثلاثة أحاديث، وهو حديث واحد ساقط الإسناد لا يجوز الاحتجاج به ولا يصلح الاعتماد على مثله كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى، وقد خرجه البيهقي في كتاب شعب الإيمان وفي كتاب السنن الكبير، وقال في كتاب السنن بعد تخريجه، هذا إسناد مجهول. (قلت) : وقد خالف أبو داود غيره في إسناده ولفظه، وسوار بن ميمون شيخه يقلبه بعض الرواة ويقول ميمون بن سوار، وهو شيخ مجهول،

ص: 68

لا يعرف بعدالة ولا ضبط، ولم يشتهر بحمل الحديث ونقله. وأما شيخ سوار في هذه الرواية رواية أبي داود فإنه شيخ مبهم، وهو أسوأ حالاً من المجهول، وبعض الرواة يقول فيه" عن رجل من آل عمر" كما في هذه الرواية، وبعضهم يقول:"عن رجل من ولد حاطب"، وبعضهم يقول:"عن رجل من آل الخطاب".

وقد قال البخاري في تاريخه: ميمون بن سوار العبدي عن هارون أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات في أحد الحرمين" قاله يوسف بن راشد حدثنا وكيع حدثنا ميمون، هكذا سماه البخاري ميموناً من رواية وكيع عنه، ولم يذكر فيه عمر، وزاد فيه ذكر هارون، وقال:"عن رجل من ولد حاطب". وفي هذا مخالفة لرواية أبي داود من وجوه.

وقال في حرف الهاء من التاريخ هارون أبو قزعة عن رجل من ولد حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات في أحد الحرمين" روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه، وقال العقيلي في كتاب الضعفاء: هارون بن قزعة مدني، روى عنه سوار بن ميمون حدثني آدم قال سمعت البخاري يقول: هارون بن قزعة مدني لا يتابع عليه، هكذا ذكر العقيلي هارون بن قزعة، والذي في تاريخ البخاري: هارون أبو قزعة، وقد يكون اسم أبي هارون قزعة وهارون يكنى بأبي قزعة.

ثم قال العقيلي: حدثنا محمد بن موسى حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي حدثنا شعبة عن سوار بن ميمون عن هارون بن قزعة عن رجل من آل الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة". قال العقيلي بعد ذكر هذا الحديث: الرواية في هذا لينة. (قلت) : هكذا في هذه الرواية: "عن رجل من آل الخطاب" وهو يوافق رواية الطيالسي "عن رجل من آل عمر"، وكأنه تصحيف من حاطب، والذي في تاريخ البخاري "عن رجل من ولد حاطب" وليس في هذه الرواية التي ذكرها العقيلي ذكر عمر كما في رواية الطيالسي، وكذلك رواية وكيع التي ذكرها البخاري، وليس فيها ذكر عمر أيضاً، فالظاهر أن ذكره وهم من

ص: 69

الطيالسي، وكذلك إسقاطه هارون من روايته وهم أيضاً. اهـ.

قوله: ثم ذكر أحاديث كلها تدل على مشروعية الزيارة.

أقول: قد رد على كلها صاحب الصارم، فلم يبق واحد منها قابلاً لأن يحتج به على مشروعية الزيارة.

قوله: فتلك الأحاديث كلها مع ما ذكرنا صريحة في ندب بل تأكد زيارته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً للذكر والأنثى.

أقول: قد عرفت فيما تقدم أن تلك الأحاديث ليست قابلة لأن يحتج بها على حكم من الأحكام الشرعية، على أن بعضا فيها غير دال على المطلوب، فإنه ليس فيه ذكر القبر ولا ذكر الوفاة.

قوله: والزيارة شاملة للسفر، لأنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور كلفظ المجيء الذي نصت عليه الآية الكريمة.

أقول: هب أن الزيارة مطلقة شاملة للسفر، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". مقيد لذلك الإطلاق، والتأويل الذي ذكره صاحب الرسالة ستطلع على فساده، على أن لفظ الزيارة مجمل كالصلاة والزكاة والربا فإن كل زيارة قبر ليست قربة بالإجماع للقطع بأن الزيارة الشركية والبدعية غير جائزة، فلما زار النبي صلى الله عليه وسلم القبور وقع ذلك الفعل بياناً لمجمل الزيارة، ولا يثبت السفر من فعله صلى الله عليه وسلم مع أن الخروج إلى مطلق المسجد أيضاً شامل للسفر وهو قربة كما سيأتي بيانه، فيكون السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة أيضاً قربة والخصم أيضاً لا يقول به، وكذلك الصلاة والذكر شاملان لجميع الصلوات المبتدعة والأذكار المحدثة، فلو سوغ الاستدلال بمثل تلك الإطلاقات للزم جواز تلك الصلوات المبتدعة والأذكار المحدثة.

قوله: وإذا كانت كل زيارة قربة كان كل سفر إليها قربة.

أقول: هذا إما مبنى على القاعدة الآتية وهي فاسدة كما سيأتي بيانه، والمبني على

ص: 70

الفاسد فاسد، أو مبني على أن الزيارة شاملة للسفر فالجواب ما تقدم آنفاً من كون لفظ الزيارة مجملاً ووقوع فعل النبي صلى الله عليه وسلم بياناً لإجماله وكون حديث:"لا تشد الرحال" الحديث مقيداً لإطلاق الزيارة على تقدير تسليم شمول الزيارة للسفر.

قوله: وقد صح خروجه صلى الله عليه وسلم لزيارة قبور أصحابه بالبقيع وبأحد، فإذا ثبت مشروعية الانتقال لزيارة قبر غير قبره صلى الله عليه وسلم فقبره الشريف أولى.

أقول: الثابت بالحديث المذكور إنما هو مشروعية الانتقال الذي هو دون السفر للزيارة، ولا ينكره أحد، والانتقال الذي تنكر مشروعيته هو السفر وهو ليس بثابت.

قوله: والقاعدة المتفق عليها أن وسيلة القربة المتوقفة عليها قربة -إلى قوله-: صريحة في أن السفر للزيارة قربة مثلها.

أقول: فيه كلام من وجوه:

(الأول) أن هذه القاعدة في أي كتاب من كتب الأصول والفقه؟ وما الدليل عليها من الكتاب والسنة؟ ولابد من نقل الإجماع عليها.

و (الثاني) أن هذه القاعدة منقوضة بأن إتيان مسجد قباء والصلاة فيه ركعتين قربة لما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً ويصلي فيه ركعتين، وعن أسيد بن ظهير الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة في مسجد قباء كعمرة" رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي، وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم دخل مسجد قباء فركع فيه أربع ركعات كان ذلك عدل رقبة" رواه الطبراني في الكبير. مع أن السفر إلى قباء ليس بقربة، فإنه سفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وكذلك تحية المسجد في غير المساجد الثلاثة قربة، لحديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" متفق عليه. وكذلك الغدوّ إلى مسجد غير المساجد الثلاثة لتعليم الآيتين إذ قراءتهما قربة لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلا

ص: 71

يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله". الحديث رواه مسلم. وكذلك الخروج إلى مسجد غير المساجد الثلاثة قربة لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح" متفق عليه. ولحديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى". متفق عليه. ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة". متفق عليه. وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة". رواه أبو داود والترمذي. وعن أبي أمامة رضي الله عنه: "من خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله". رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه، مع أن السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة ليس بقربة، وكذلك دخول بيت الله قربة مع أن وسيلته في بعض الأحيان -أي دفع الرشوة التي يأخذها الحجبة- ليس بقربة، كذا في كتب الفقه، وكذلك الحج قربة مع أن وسيلته في بعض الأزمنة والأمكنة دفع الرشوة وإعطاء المكس والخفارة، وهي ليست من القربة في شيء.

و (الثالث) أن القربة على نوعين: نوع ورد الترغيب فيه من الشارع بخصوصه كصلاة الليل والضحى وغيرهما، ونوع لم يرد الترغيب فيه من الشارع بخصوصه بل وقع الترغيب في عام وهي من أفراده، كالنفل الذي يؤدي بعد الظهر عقب الراتبة فإنه لم يرد في حقه ترغيب في حديث بل إنما ورد الترغيب في مطلق التطوع وهو من أفراده، والقربة التي هي من النوع الأول قربة بالذات، وأما القربة التي هي من النوع الثاني فإنها داخلة في عموم الأمر بزيارة القبور1، ولم يثبت حديث في خصوص كون زيارة قبره صلى الله عليه وسلم قربة كما عرفت فيما تقدم، فالقربة حقيقة فيما هنالك مطلق الزيارة وهو لا يتوقف على السفر بل تحصل هذه القربة بزيارة قبر من قبور بلد الزائر وقريته،

1 لعله سقط من هنا بيان أن عموم الأمر بصلاة التطوع من هذا النوع، وأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم تدخل في عموم الأمر بزيارة القبور.

ص: 72

وإن كان فرده الكامل هو زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

و (الرابع) أنا لا نسلم أن مطلق زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قربة، بل القربة هي الزيارة التي لا يقع فيها شد رحل بدليل حديث "لا تشد الرحال".

و (الخامس) أنه لو سلم كون مطلق زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قربة فلا نسلم كونها متوقفة على السفر للزيارة، لجواز أن يسافر لزيارة المسجد النبوي أو أمر آخر من التجارة وغيرها، ثم بعد وصول المدينة الطيبة يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فحينئذ تكون الزيارة متوقفة على مطلق السفر لا على سفر الزيارة1، فيكون مطلق السفر قربة لا سفر الزيارة، ومطلوب الخصم هذا دون ذاك فلا يتم التقريب.

(السادس) أنه لو سلمت هذه القاعدة فهي إنما هي وسيلة لم ينه الشارع عنها، والسفر للزيارة قد نهى الشارع عنه بدليل حديث "لا تشد الرحال".

قوله: ومن زعم أن الزيارة قربة في حق القريب فقط فقد افترى على الشريعة الغراء فلا يعول عليه.

أقول: هذا ليس من الافتراء على الشريعة في شيء بل هو الحق والصواب، فإن لفظ الزيارة الواقعة في الأحاديث مجمل يشمل الزيارة البدعية والشركية وهما غير مرادتين بالإجماع ولم يعلم أن المراد أي الزيارة، فبين النبي صلى الله عليه وسلم المراد منها بفعله، والثابت من قوله صلى الله عليه وسلم ليس إلا زيارة القبور القريبة التي ليست بينه صلى الله عليه وسلم وبينها مسافة سفر، ولو سلم أن المراد بالزيارة في الأحاديث مطلقها فحديث "لا تشد الرحال" يكون مقيداً لها، على أن لو كانت الزيارة قربة في حق البعيد لفعلها النبي صلى الله عليه وسلم أو واحد من أصحابه في زمنه صلى الله عليه وسلم أو بعده، ولما لم يفعلها النبي صلى الله عليه ولا أحد من أصحابه في زمنه صلى الله عليه وسلم ولا بعده، بل ولا فعلها واحد من التابعين وتبع التابعين علم أن السفر لزيارة القبور ليس من القربة في شيء.

قوله: وأما تخيل بعض المحرومين أن منع الزيارة أو السفر إليها من باب المحافظة

1 إنما يجيء هذا في غير المقيم بالمدينة وجوارها.

ص: 73

على التوحيد، وأن ذلك مما يؤدي إلى الشرك، فهو تخيل باطل.

أقول: لعل المراد ببعض المحرومين شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وأتباعه، ولكن لم أجد بعد1 ذلك التخيل في كلام الشيخ المذكور ولا في كلام أحد من أتباعه، بل قد وجد في غير ما موضع من كلامه ما يدل صراحة على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم نقل بعض عباراته في هذا الباب فتذكر، فعل هذا افتراء على الشيخ رحمه الله، نعم قد منع شيخ الإسلام الإفراط في تعظيم قبره صلى الله عليه وسلم معللاً بالعلة المذكورة، وعليه اعترض السبكي في شفاء الأسقام حيث قال: فإن قلت: الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور، وقبره صلى الله عليه وسلم يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعبد. قلت: هذا كلام تقشعر منه الجلود، ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته، فإن فيه تركاً لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخيالية، وكيف يقدم على تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم "زوروا القبور" وعلى ترك قوله "من زار قبري وجبت له شفاعتي" وعلى مخالفة إجماع السلف والخلف بمثل هذا الخيال الذي لم يشهد به كتاب ولا سنة، وهذا بخلاف النهي عن اتخاذه مسجداً وكون الصحابة احترزوا عن ذلك للمعنى المذكور، لأن ذلك قد ورد النهي فيه وليس لنا أن نشرع أحكاماً من قبلنا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} فمن منع زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله، وقوله مردود عليه، ولو فتحنا هذا الخيال الفاسد لتركنا كثيراً من السنن بل ومن الواجبات، والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف والصالحين على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك، ومن تأمل القرآن العزيز وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه وما كانت الصحابة يعاملونه به من ذلك امتلأ قلبه إيماناً واحتقر هذا الخيال الفاسد واستنكف

1 لعل كلمة "بعد": هنا من سبق القلم أو غلط الطبع، لأنها تدل على أنه يتوقع أن يجد ذلك بعد الآن، وكيف وقد وجد ما يخالفه؟ وهو ما ذكره بعده من تصريح شيخ الإسلام بأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم قربة، وهو ما تقدم في أول الكتاب.

ص: 74

أن يصغي إليه، والله تعالى هو الحافظ لدينه {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} و {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} . وعلماء المسلمين مكلفون بأن يبينوا للناس ما يجب من الأدب والتعظيم والوقوف عند الحد الذي لا يجوز مجاوزته بالأدلة الشرعية، وبذلك يحصل الأمن من عبادة غير الله، ومن أراد الله ضلاله من أفراد الجهال فلن يستطيع أحد هدايته، فمن ترك شيئاً من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعماً بذلك الأدب مع الربوبية فقد كذب على الله تعالى وضيع ما أمر به في حق رسله، كما أن من أفرط وجاوز الحد إلى جانب الربوبية فقد كذب على رسل الله وضيع ما أمروا به في حق ربهم سبحانه وتعالى، والعدل حفظ ما أمر الله به في الجانبين، وليس في الزيارة المشروعة من التعظيم ما يفضي إلى محذور، انتهى ما ذكره1.

وقد أجاب عنه الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي في الصارم المنكى2 فقال: "قوله: فإن قلت الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور وقبره يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعبد – سؤال لا تخفى صحته وقوته على أهل العلم والإيمان، وقوله في جوابه: هذا كلام تقشعر منه الجلود ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته. فيقال: نعم تقشعر منه جلود عباد القبور الذين إذا دعوا إلى عبادة الله وحده وأن لا يشرك به، ولا يتخذ من دونه وثن يعبد، اشمأزت قلوبهم، واقشعرت جلودهم واكفهرت وجوههم، ولا يخفى أن هذا نوع شبه وموافقة للذين قال الله فيهم {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} . ثم يقال: أما جلود أهل التوحيد المتبعين للرسول، العالمين بمقاصده، الموافقين له فيما أحبه ورغب فيه، وكرهه وحذر منه، فإنها لا تقشعر من هذا الفرق، بل تزيد قلوبهم وجلودهم طمأنينة وسكينة {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . وأما الذين في قلوبهم مرض فلا تزيدهم قواعد التوحيد وأدلته، وحقائقه وأسراره إلا رجساً إلى رجسهم، وإذا سلك التوحيد في قلوبهم دفعته قلوبهم وأنكرته ظناً منهم أنه تنقص وهضم

1 أي السبكي في شفائه.

2 ص332-338.

ص: 75

للأكابر وإزراء بهم وحط لهم عن مراتبهم، وأتباع هؤلاء ضعفاء العقول، وهم أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، وأما أهل العلم والإيمان فإنما تقشعر جلودهم من مخالفة الرسول فيما أمر، ومن ترك قبول قوله فيما أخبر، ومن قول القائل وإقراره بأن اليقين لا يستفاد بقوله، وأنه يجب أو يشرع الحج إلى قبره ويجعل من أعظم الأعياد، ويحتج بفعل العوام والطغام على أن هذا من دينه، ويقدم هديهم على هدي المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ويستحل تكفير من نهى عن أسباب الشرك والبدع، ودعا إلى ما كان عليه خيار الأمة وساداتها، ويستحل عقوبته وينسبه إلى التنقص والإزراء، فهذا وأمثاله تقشعر منه جلود أهل العلم والإيمان.

وقوله إن في هذا الفرق "تركا لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخيالية"، ففي هذا الكلام من قلب الحقائق وترك موجب النصوص النبوية والقواعد الشرعية والمحكم الخاص المقيد، إلى المجمل المتشابه العام المطلق، كما يفعله أهل الأهواء الذين في قلوبهم زيغ، ما نبينه بحول الله ومعونته وتأييده، فإن النصوص التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن تعظيم القبور بكل نوع يؤدي إلى الشرك ووسائله من الصلاة عندها وإليها واتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وشد الرحال إليها، وجعلها أعياداً يجتمع لها كما يجتمع للعيد ونحو ذلك، صحيحة صريحة محكمة فيما دلت عليه، وقبور المعظمين مقصودة بذلك النص والعلة، ولا ريب أن هذا من أعظم المحاذير، وهو أصل أسباب الشرك والفتنة به في العالم، فكيف يناقض هذا ويعارض بإطلاق "زوروا القبور" وبأحاديث لا يصح منها شيء البتة في زيارة قبره ولا يثبت خبر واحد، ونحن نشهد بالله أنه لم يقل شيئاً منها، كما نشهد بالله أنه قال تلك النصوص الصحيحة الصريحة، وهؤلاء فرسان الحديث وأئمة النقل ومن إليهم المرجع في الصحيح والسقيم من الآثار، وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم لم يصححوا منها خبراً واحداً، ولم يحتجوا منها بحديث واحد، بل ضعفوا جميع ما ورد في ذلك وطعنوا فيه وبينوا سبب ضعفه وحكم عليه جماعة منهم بالكذب والوضع.

ص: 76

وكذلك دعواه إجماع السلف والخلف على قوله، فإذا أراد بالسلف المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فلا يخفى أن دعوى إجماعهم مجاهرة بالكذب، وقد ذكرنا غير مرة فيما تقدم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة شيء في هذا إلا عن ابن عمر وحده فإنه ثبت عنه إتيان القبر للسلام عند القدوم من سفر، ولم يصح هذا عن أحد غيره، ولم يوافقه عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من الخلفاء الراشدين ولا من غيرهم، وقد ذكر عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن عبيد الله بن عمر أنه قال: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر، وكيف ينسب مالك إلى مخالفة إجماع السلف والخلف في هذه المسألة وهو أعلم أهل زمانه بعمل أهل المدينة قديماً وحديثاً، وهو يشاهد التابعين الذين شاهدوا الصحابة وهم جيرة المسجد وأتبع الناس للصحابة، ثم يمنع الناذر من إتيان القبر ويخالف إجماع الأمة؟ هذا لا يظنه إلا جاهل كاذب على الصحابة والتابعين وأهل الإجماع.

"وقد نهى علي بن الحسين زين العابدين -الذي هو أفضل أهل بيته وأعلمهم في وقته- ذلك الرجل الذي كان يجيء إلى فرجة كانت عند القبر فيدخل فيها فيدعو، واحتج عليه بما سمعه من أبيه عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن بن علي شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً، وقال للرجل الذي رآه عند القبر: مالي رأيتك عند القبر؟ فقال: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.

"وكذلك سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الأئمة الأعلام وقاضي المدينة في عصر التابعين ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه كان لا يأتي القبر قط، وكان يكره إتيانه، أفيظن بهؤلاء السادة الأعلام أنهم خالفوا الإجماع وتركوا تعظيم صاحب

ص: 77

القبر وتنقصوا به؟ فهذا لعمر الله هو الكلام الذي تقشعر منه الجلود.

"وليس مع عباد القبور من الإجماع إلا ما رأوا عليه العوام والطغام في الأعصار التي قل فيها العلم والدين، وضعفت فيها السنن، وصار المعروف فيها منكراً والمنكر معروفاً من اتخاذ القبر عيداً والحج إليه، واتخاذه منسكاً للوقوف والدعاء، كما يفعل عند مواقف الحج بعرفة ومزدلفة، وعند الجمرات، وحول الكعبة، ولا ريب أن هذا وأمثاله في قلوب عباد القبور لا ينكرونه ولا ينهون عنه، بل يدعون إليه ويرغبون فيه، ويحضون عليه، ظانين أنه من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام بحقوقه، وإن من لم يوافقهم على ذلك أو خالفهم فيه فهو منتقص تارك للتعظيم الواجب، وهذا قلب لدين الإسلام وتغيير له، ولولا أن الله سبحانه وتعالى ضمن لهذا الدين أن لا تزال طائفة من الأمة قائمة به لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة لجرى عليه ما جرى على دين أهل الكتاب قبله، وكل ذلك باتباع المتشابه، ولما لا يصح من الحديث، وترك النصوص المحكمة الصحيحة الصريحة.

وقوله1: إن من منع زيارة قبره فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وليس لنا ذلك. جوابه2 أن يقال: أما من منع مما منع الله ورسوله منه، وحذر مما حذر منه الرسول بعينه، ونبه على المفاسد التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم بتعظيم القبور وجعلها أعياداً واتخاذها أوثاناً ومناسك يحج إليها كما يحج إلى البيت العتيق، ويوقف عندنا للدعاء والتضرع والابتهال كما يفعل عند مناسك الحج، وجعلها مستغاثاً للعالمين ومقصداً للحاجات، ونيل الرغبات، وتفريج الكربات، فإنه لم يشرع ديناً لم يأذن به الله، وإنما شرعه من خالف ذلك ودعا إليه ورغب فيه، وحض النفوس عليه، واستحب الحج إلى القبر وجعله عيداً يجتمع إليه كما يجتمع للعيد، وجعله منسكاً للوقوف والسؤال والاستغاثة به، فأي الفريقين الذي شرع من الدين ما لم يأذن به الله إن كنتم تعلمون؟

ونحن نناشد عباد القبور هل هذا الذي ذكرناه عنهم وأضعافه كذب عليهم، أو هو أكبر مقاصدهم وحشو قلوبهم؟ والله المستعان.

1 يعني السبكي.

2 هذا خبر "وقوله".

ص: 78

"وقوله1: والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف الصالحين على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك. جوابه: أنه قد عرف بما قررناه أهل تعظيمه المتبعون له، الموافقون لما جاء به والتارك لتعظيمه بتقرير خلاف ما جاء به، والحض على ما حذر منه، والتحذير مما رغب فيه، وترك ما جاء به لآراء الرجال وعقولهم، وتقريره وتقرير سلفه أن اليقين والهدى لا يستفاد بكلامه، وأن ما عليه عباد القبور هو من الغلو لا من التعظيم الذي هو من لوازم الإيمان، فلا حاجة إلى إعادته.

"وقوله": من تأمل القرآن وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه، وما كانت الصحابة تعامله به من ذلك، امتلأ قلبه إيماناً واحتقر هذا الخيال الفاسد واستنكف أن يصغي إليه.

جوابه أن يقال: أنت وأضرابك من أقل الناس نصيباً من ذلك التعظيم، وإن كان نصيبكم من الغلو الذي ذمه وكرهه ونهى عنه نصيباً وافراً. فإن أصل هذا التعظيم وقاعدته التي يبتنى عليها هو طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر. وأنت وأضرابك اكتفيتم من طاعته بأن أقمتم غيره مقامه، تطيعونه فيما قاله، وتجعلون كلامه بمنزلة النص المحكم، وكلام المعصوم أن التفتم إليه بمنزلة المتشابه، فما وافق نصوص من اتخذتموه من دونه قبلتموه، وما خالفها تأولتموه أو رددتموه أو أعرضتم عنه ووكلتموه إلى عالمه، فنحن ننشدكم الله هل تتركون نصوص من قلدتموه لنصه؟ أو تتركون نصه لنص من قلدتموه، واكتفيتم من خبره عن الله وصفاته بخبر من عظمتموه من المتكلمين الذين أجمع الأئمة الأربعة والسلف على ذمهم والتحذير منهم والحكم عليم بالبدعة والضلالة، فاكتفيتم من خبره عن الله وصفاته بخبر هؤلاء، وجعلتم خبرهم قواطع عقلية، وأخباره ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، ولا يجوز تقديمها على أقوال المتكلمين.

ثم مع هذا العزل الحقيقي عظمتم ما يكره تعظيمه من القبور، وشرعتم فيها وعندها ضد ما شرعه، وعدتم بهذا التعظيم على مقصوده بالإبطال فعظمتم بزعمكم ما يكره

1 أي السبكي.

ص: 79

تعظيمه، وتقربتم إليه بما يباعدكم منه، واستهنتم بالإيمان كله في تعظيمه، ونبذتموه وراء ظهوركم، واتخذتم من دونه من عظمتم أقواله غاية التعظيم حتى قدمتموها عليه، وما أشبه هذا بغلو الرافضة في علي رضي الله عنه وهم أشد الناس مخالفة له، وكذلك غلو النصارى في المسيح وهم من أبعد الناس منه، وإن ظنوا أنهم معظمون له، فالشأن كل الشأن في التعظيم الذي لا يتم الإيمان إلا به، وهو لازم وملزوم له، والتعظيم الذي لا يتم الإيمان إلا بتركه، فإن إجلاله عن هذا الإجلال واجب، وتعظيمه عن هذا التعظيم متعين.

"وقوله: إن المبالغة في تعظيمه واجبة. أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً حتى الحج إلى قبره، والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن شاء، ويدخل الجنة من يشاء؟ فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين، أم يريد بها التعظيم الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من وجوب محبته وطاعته ومعرفة حقوقه، وتصديق أخباره وتقديم كلامه على كلام غيره، ومخالفة غيره لموافقته ولوازم ذلك؟ فهذا التعظيم لا يتم الإيمان إلا به، ولكن هذا المعترض وأضرابه عن ذلك بمعزل، وإذا أخذ الناس منازلهم من هذا التعظيم فمنزلتهم منه أبعد منزل، وهو وحقوقه كما قال الأول:

نزلوا بمكة في قبائل هاشم

ونزلت بالبيداء أبعد منزل

"وقوله: إن من ترك شيئاً من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعماً بذلك الأدب مع الربوبية إلى آخر كلامه، فنعم ولكن الشأن في التعظيم المشروع وتركه وهل هو إلا طاعته وتقديمها على طاعة غيره، وتقديم خبره على خبر غيره، وتقديم محبته على محبة الولد والوالد والناس أجمعين. فمن ترك هذا فقد كذب على الله وعصى أمره وترك ما أمر به من التعظيم، وأما جعل قبره الكريم عيداً تشد المطايا إليه كما تشد إلى البيت العتيق، ويصنع عنده ما يكرهه الله ورسوله ويمقت فاعله، ويتخذ موقفاً للدعاء

ص: 80

وطلب الحاجات وكشف الكربات، فمن جعل ذلك من دينه فقد كذب عليه وبدل دينه". انتهى.

هذا آخر ما في الصارم، ومحصوله أن شيخ الإسلام لا يقول إن نفس الزيارة مما يؤدي إلى الشرك، إنما يقول: إن الإفراط في تعظيم قبره صلى الله عليه وسلم -بأن يجعل قبره الكريم عيداً أو يتخذ مسجداً أو موقفاً، أو تطلب الحاجات عنده، أو يعتقد وجوب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم أو استحبابه استحباباً متأكداً فوق ما يثبت من قوله صلى الله عليه وسلم "فزوروها" أو من فعله صلى الله عليه وسلم في زيارة قبور المسلمين- مما يؤدي إلى الشرك، ولا يبعد أن يقال إن نفس الزيارة وإن كانت مشروعة عند شيخ الإسلام وجميع المسلمين ولكنها بالنسبة إلى العوام والطغام قد تفضي إلى الشرك، فإذن يمنعون عن نفس الزيارة قطعاً للذريعة وسداً للوسيلة، كما لو كانت زيارة قبر أحد غيره صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى العوام مفضية إلى الشرك فيمنع العوام عن نفس الزيارة هناك أيضاً. وهذا أمر جلي لا يجحده من فهم باب قطع الذرائع وسد الوسائل حق الفهم من أهل الفقه والحديث، ويدل عليه آيات بينات وأحاديث صحيحة وعبارات السلف والخلف من المتقدمين والمتأخرين لم تتعرض لذكرها خشية الإطناب.

قوله1: " ومنها أمران لا بد منهما: أحدهما وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ورفع رتبته عن سائر الخلق، والثاني إفراد الربوبية واعتقاد أن الرب تبارك وتعالى منفرد بذاته وصفاته وأفعاله عن جميع خلقه".

أقول: لا يخفى ما في هذا الحصر من النظر، فإنه لا بد هناك من أمر ثالث وهو عدم إحداث ما ليس من أمر الدين مما لم يأذن به الله ورسوله، بل من أمر رابع هو الاجتناب عما نهى الله عنه ورسوله، فمن أحدث في أمر الزيارة ما ليس عليه دليل

1 يعني قول الشيخ دحلان.

ص: 81

شرعي أو ارتكب ما نهى الله عنه ورسوله فقد صار مبتدعاً ضالاً1.

قوله: ومن بالغ في تعظيمه صلى الله عليه وسلم بأنواع التعظيم ولم يبلغ به ما يختص بالباري سبحانه وتعالى فقد أصاب الحق وحافظ على جانب الربوبية والرسالة جميعاً، وذلك هو القول الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

أقول: فيه نظر عويص، فإن من أنواع التعظيم ما هو محدث، ومنها ما هو منهي عنه، مع أنهما مما لا يختص بالباري سبحانه وتعالى. فكيف يقال لمرتكبه أنه أصاب الحق؟

قوله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، فمعناه أن لا تشد الرحال إلى مسجد لأجل تعظيمه والصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة –إلى قوله- وهذا التقدير لا بد منه، ولو لم يكن التقدير هكذا لاقتضى منع شد الرحال للحج والجهاد والهجرة من دار الكفر ولطلب العلم وتجارة الدنيا وغير ذلك، ولا يقول بذلك أحد.

أقول: عدم التقدير المذكور لو اقتضى منع شد الرحال إلى الأمور المذكورة فأي محذور فيه؟ فإن الآيات والأحاديث الدالة على وجوبها أو جوازها تقع مخصصة لعموم حديث "لا تشد الرحال"، وبناء العام على الخاص مسألة مشهورة، على أن ذكر الحج في الأمور المذكورة غفلة شديدة، إذ حديث "لا تشد الرحال" لا يقتضي

1 هذه مسألة أخطأ فيها كثير من الناس، زعموا أنه لا يحظر من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم إلا وصفه بالربوبية والألوهية كما قال البوصيري:

دع ما ادعته النصارى في نبيهم

واحكم بما شئت مدحاً فيهم واحتكم

وفي معناه:

دعوا مقال النصارى في نبيهم

يا مادحيه، ومهما شئتم قولوا

والحق أن التعظيم غير المشروع نوعان: أحدهما كفر وهو ما يختص بالله تعالى، ومنه الدعاء والاستغاثة في الشدائد، والآخر معصية، كالكذب واختراع الآيات والمعجزات غير المروية بالأسانيد القوية وهو كثير.

ص: 82

منع شد الرحال للحج أصلاً1.

قوله: قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم: ومما يدل أيضاً لهذا التأويل للحديث المذكور التصريح به في حديث سنده حسن، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد يبتغى الصلاة فيه، غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى".

أقول: هذا الحديث رواه أحمد في مسنده عن شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد الخدري وذكر عنده صلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينبغي أن تشد رحال إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا. ولا ينبغي لامرأة دخلت في الإسلام أن تخرج من بيتها مسافرة إلا مع بعل أو ذي محرم منها. ولا ينبغي الصلاة في ساعتين من النهار: من بعد صلاة الفجر إلى أن ترتحل الشمس، ولا بعد العصر إلى أن تغرب الشمس. ولا ينبغي الصوم في يومين من الدهر: يوم الفطر من رمضان والأضحى". قال الهيثمي في مجمع الزوائد قلت: هو في الصحيح بنحوه، وإنما أخرجته لغرابة لفظه. انتهى. فحكم الهيثمي عليه بالغرابة.

والجواب عنه بوجوه: (الأول) أن هذا الحديث ضعيف لأن في سنده شهر ابن حوشب، وهو وإن وثقه جماعة من الأئمة فقد جرحه جماعة من النقاد هي أكثر عدداً من الأولى.

قال الدارقطني في سننه: شهر بن حوشب ليس بالقوي. وقال في موضع آخر منه: حدثنا صالح بن أحمد قال: سألت موسى بن هارون عن هذا الحديث، قال: ليس بشيء، فيه شهر بن حوشب، وشهر ضعيف اهـ. وقال مسلم في صحيحه: وحدثنا

1 الاكتفاء بهذا التعليل السلبي قصور في تشنيع غفلة المعترض وبلادته. فكان ينبغي أن يقول: غفلة عن كون شد الرحال إلى الحج هي عين شدها إلى المسجد الحرام، أفما قرأت يا دحلان قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة، ثم ألم تعلم أيها المفتي الذكي لم سميت الراحلة راحلة.

ص: 83

عبيد الله بن سعيد قال سمعت النضر يقول: سئل ابن عون عن حديث شهر وهو قائم على أسكفة الباب فقال: إن شهراً نزكوه إن شهراً نزكوه1. قال أبو الحسين مسلم بن الحجاج: يقول أخذته ألسنة الناس، تكلموا فيه، وحدثني الحجاج بن الشاعر قال حدثنا شبابة قال: قال شعبة: ولقد لقيت شهراً فلم أعتد به اهـ. قلت: نقل مسلم جرحه عن ابن عون وشعبة وسكت عليه، ولم ينقل توثيقه عن أحد، وهذا يدل على أن الراجح عنده الجرح، ومن ثم والله أعلم لم يورد حديثه في صحيحه إلا مقروناً بغيره.

وقال الترمذي في جامعه قال أحمد بن حنبل: لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب. قال محمد2: شهر حسن الحديث وقوى أمره، وقال إنما تكلم فيه ابن عون. ثم روى عن هلال بن أبي زينب عن شهر بن حوشب حدثنا أبو داود أخبرنا النضر بن شميل عن ابن عون قال: إن شهراً نزكوه، قال أبو داود قال النضر: نزكوه أي طعنوا فيه ا. هـ قال الذهبي في الميزان: شهر بن حوشب الأشعري عن أم سلمة وأبي هريرة وجماعة، وعنه قتادة وداود بن أبي هند وعبد الحميد بن بهرام وجماعة. قال أحمد: روى عن أسماء بنت يزيد أحاديث حساناً. وروى ابن أبي خيثمة ومعاوية ابن أبي صالح عن ابن معين ثقة، وقال أبو حاتم: ليس هو بدون أبي الزبير ولا يحتج به، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وروى النضر بن شميل عن ابن عون قال: إن شهراً نزكوه، وقال النسائي وابن عدي: ليس بالقوي. يحيى بن أبي بكير الكرماني حدثني أبي قال: كان شهر على بيت المال فأخذ منه دراهم فقال قائل:

لقد باع شهر دينه بخريطة

فمن يأمن القراء بعدك يا شهر

1 نزكوه بالنون والزاي: عابوه وطعنوا فيه. وأصله الطعن بالنيزك، وهو الريح القصير، واستعمل الطعن بغير حق علمه الطاعن. قال في مجاز الأساس: نزكه: عابه بغير ما رأى منه، وشهر قد نزكوه اهـ. يعني شهر بن حوشب فهو قد حكى عبارتهم فيه شاهداً، وكتبه محمد رشيد رضا.

2 يعني البخاري.

ص: 84

وقال الدولابي: شهر لا يشبه حديثه حديث الناس، كأنه مولع بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم. قال السعدي قال الفلاس: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن شهر، وكان عبد الرحمن يحدث عنه. أبو داود أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، قال شعبة فلقيت ابن عطاء فسألته فقال حدثني زياد بن مخراق، فقدمت على زياد فسألته، فقال حدثني رجل من بني ليث عن مجاهد عن شهر من حديث عقبة بن عامر عن عمر بن الخطاب في الوضوء. معاذ بن معاذ سألت ابن عون عن حديث هلال بن أبي زينب عن شهر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجتهاه" فقال ما يصنع بشهر؟ إن شعبة قد ترك شهراً. يحيى القطان عن عباد بن منصور قال: حججت مع شهر بن حوشب فسرق عيبتي.

وقال علي بن حفص المدايني سألت شعبة عن عبد الحميد بن بهرام فقال: صدوق، إلا أنه يحدث عن شهر. قال أحمد بن حنبل: عبد الحميد حديثه مقارب من حديث شهر وكان يحفظها كأنه يقرأ سورة وهي سبعون حديثاً. سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن أبي بكر عن شهر بن حوشب قال: لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة لا يضحك، ثم أنشأ يقول:

تغيرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم

وكل بشاشة الوجه المليح

إسحاق بن المنذر صدوق حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر عن ابن عباس مرفوعاً قال "لكل نبي حرم وحرمي المدينة". قال ابن عدي حدثنا محمد بن يحيى المروذي حدثنا إسحاق قال أبو عيسى الترمذي قال محمد –هو البخاري-: شهر حسن الحديث، وقوّى أمره، وقال أحمد بن عبد الله العجلي" ثقة شامي، وروى عباس عن يحيى: ثبت، وقال يعقوب بن شيبة شهر ثقة طعن فيه بعضهم، قال ابن عدي: شهر ممن لا يحتج به، ولا يتدين بحديثه، قلت: قد ذهب إلى الاحتجاج به جماعة، فقال حرب الكرماني عن أحمد: ما أحسن حديثه، ووثقه، وهو حمصي، وروى حنبل عن أحمد: ليس به

ص: 85

بأس، وقال الفسوي: شهر وإن تكلم فيه ابن عون فهو ثقة، قلت: أما روايته عن بلال وتميم الداري فظاهرة الانقطاع، قال صالح جزرة: قدم على الحجاز فحدث بالعراق ولم يوقف منه على كذب، وكان رجلاً يتنسك. وتفرد ثابت عنه عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر. انتهى.

قال المنذري في الترغيب والترهيب: شهر بن حوشب قال ابن عون نزكوه، وقال سبابة عن شعبة لقيت شهراً فلم أعتد به، وقال ابن عدي شهر ممن لا يعتد بحديثه ولا يتدين بدينه، وقال أبو حاتم: ليس بدون أبي الزبير، ولا يحتج به، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال يعقوب بن شيبة: شهر ثقة طعن فيه بعضهم، ووثقه ابن معين وأحمد بن حنبل والعجلي والفسوي، وروى له مسلم مقروناً، واحتج به غير واحد. انتهى.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: ويدل عليه أيضاً أن شهراً ليس متروكاً بل وثقه كثيرون من كبار أئمة السلف أو أكثرهم، فممن وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وآخرون. وقال أحمد بن حنبل: ما أحسن حديثه ووثقه، وقال أحمد بن عبد الله العجلي: هو تابعي ثقة، وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: هو ثقة، ولم يذكر ابن أبي خيثمة غير هذا، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال الترمذي قال محمد –يعني البخاري- شهر حسن الحديث وقوى أمره، وقال: إنما تكلم فيه ابن عون. ثم روى عن هلال بن أبي زينب عن شهر. وقال يعقوب بن أبي شيبة: شهر ثقة، وقال صالح بن محمد: شهر روى عنه الناس من أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام، ولم يوقف منه على كذب وكان رجلاً يتنسك أي يتعبد إلا أنه روى أحاديث لم يشركه فيها أحد. اهـ.

قال الحافظ في التقريب: شهر بن حوشب الأشعري الشامي مولى أسماء بنت يزيد ابن السكن صدوق كثير الإرسال والأوهام اهـ. وقال في الخلاصة: شهر بن حوشب مولى أسماء بنت يزيد بن السكن أبو سعيد الشامي أرسل عن تميم الداري وسلمان، وروى عن مولاته وابن عباس وعائشة وأم سلمة وجابر وطائفة، وعنه قتادة وثابت والحكم وعاصم بن بهدلة، ووثقه ابن معين وأحمد، وقال يعقوب بن سفيان: شهر

ص: 86

وإن قال ابن عون نزكوه فهو ثقة، وقال ابن معين ثبت، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أبو زرعة: لا بأس به لم يلق عمرو بن عبسة، وقال البخاري وجماعة: مات سنة مائة وقيل سنة إحدى عشرة ا. هـ

إذا دريت ما تلونا عليك من العبارات فقد علمت أن القوم قد تحزبوا في شهر ثلاثة أحزاب: فحزب يقتصر على الجرح، وحزب يقتصر على التوثيق، وحزب يجمع بين الجرح والتعديل.

فمن الأول الدارقطني وموسى بن هارون وابن عون وشعبة ومسلم والنسائي وابن عدي وأبو بكير والدولابي ويجيى بن سعيد وعباد بن منصور.

ومن الثاني أحمد بن حنبل والبخاري والترمذي وابن معين وأبو زرعة والعجلي ويعقوب بن أبي شيبة والفسوي.

ومن الثالث أبو حاتم الرازي وصالح بن محمد وابن حجر العسقلاني.

ومن البين أن حديث شهر -على رأي الحزب الأول- ليس مما يحتج به قطعاً، وكذلك على رأي الجامعين بين التوثيق والجرح لا يكون حديث منفرداً قابلاً للاحتجاج، فإن أبا حاتم قد نص على أنه لا يحتج به، وأما صالح بن محمد فإنه قال: روى أحاديث لم يشركه فيها أحد، فيكون عنده منكر الحديث، والحافظ ابن حجر قد صرح بأنه كثير الإرسال والأوهام، وقد ثبت في الأصول أن حديث منكر الحديث وكثير الأوهام مما لا يحتج به.

قال ابن الصلاح: ولا تقبل رواية من كثرت الشواذ والمناكير في حديثه، جاء عن شعبة أنه قال: لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ، ولا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في رواياته إذا لم يحدث من أصل صحيح اهـ. وأيضاً من شرائط من يحتج بروايته أن يكون عدلاً ضابطاً لما يرويه، وكونه منكر الحديث كثير الأوهام مشعر بعدم ضبطه، فيكون حديثه على رأي أربعة عشر إماماً مما لا يحتج به، وعلى رأي ثمانية أئمة مما يحتج به، وكثرة العدد من المرجحات كما تقرر في الأصول.

قال الحافظ في الفتح، باب الخلع: ويؤخذ من إخراج البخاري هذا الحديث في الصحيح فوائد: منها أنا الأكثر إذا وصلوا وأرسل الأقل قدم الواصل ولو كان الذي أرسل أحفظ، ولا يلزم منه أنه تقدم رواية الواصل على المرسل دائماً اهـ.

ص: 87

فالراجح أن حديث شهر مما لا يحتج به منفرداً، ومن ثم لم يرو عنه مسلم إلا مقروناً بغيره، على أن الجرح مقدم على التعديل.

قال ابن الصلاح في مقدمته: إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل، فالجرح مقدم، لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله والجارح مخبر عن باطن خفي على المعدل، فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل التعديل أولى، والصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرنا اهـ. فإن قلت: الجرح المبهم غير مقبول وجرح شهر كذلك فلا يقبل. قلت: بعض جروحه مفسر كجرح أبي بكير حيث قال: كان شهر على بيت المال فأخذ منه دراهم، وكجرح عباد بن منصور فإنه قال: حججت مع شهر بن حوشب فسرق عيبتي. والبعض الآخر وإن كان مبهماً والجرح المبهم لا يقبل، ولكن يقبل لأن يتوقف في قبول حديثه.

قال ابن الصلاح في مقدمته: ولقائل أن يقول إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح أو في الجرح والتعديل، وقلما يتعرضون لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء، ونحو ذلك، أو هذا حديث ضعيف، وهذا حديث غير ثابت، ونحو ذلك، فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب والأكثر. وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك، بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف، ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولن نتوقف، كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن فيهم مثل هذا الجرح من غيرهم، فافهم ذلك فإنه مخلص حسن اهـ.

ولو سلم أن شهراً عدل ضابط، فعلى هذا أيضاً لا يقبل حديثه لأنه شاذ، رواه مخالفاً لمن هو أوثق وأحفظ وأضبط منه، فإن قزعة مولى زياد روى عن أبي سعيد الخدري هذا الحديث، وليس فيه ذكر المستثنى منه.

ص: 88

قال البخاري في صحيحه1: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة عن عبد الملك قال: سمعت قزعة مولى زياد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يحدث بأربع عن النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني وآنقنني2 قال: "لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم. ولا صوم في يومين: الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام ومسجد الأقصى، ومسجدي".

وقال مسلم في صحيحه حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة جميعاً عن جرير، قال قتيبة: حدثنا جرير عن عبد الملك وهو ابن عمير عن قزعة عن أبي سعيد قال: سمعت منه حديثاً فأعجبني، فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أسمع؟ قال: ما سمعته يقول؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، وسمعته يقول:"لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها".

وقال الترمذي في جامعه: حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلى إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد الأقصى" قال: هذا حديث حسن صحيح اهـ.

ومن أجل ذلك حكم صاحب مجمع الزوائد على حديث شهر بالغرابة، وقزعة أثبت من شهر، وحسبك في توثيقه أنه من رجال الصحيحين، ولا أعلم أحدا ذكره بجرح، ولذا والله أعلم لم يذكره الذهبي في الميزان لأنه موضوع لذكر الضعفاء، ولو كان فيه جرح خفيف وجرحه من لا يعتمد على جرحه.

1 رواه في باب مسجد بيت المقدس (فتح الباري) قبل أبواب العمل في الصلاة.

2 أعجبني الشيء استحسنته، وآنقني راعني حسنه أو إتقانه، فهو أخص مما قبله، وقل من يدقق في التفرقة بينهما.

ص: 89

وروى قزعة وغيره عن غير أبي سعيد هذا الحديث، وليس فيه أيضاً ذكر المستثنى منه، فقد روى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الأقصى"، هذا لفظ البخاري.

ولفظ مسلم في رواية هكذا: "لا تشد الرجال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى". وفي رواية: "تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد".

وروى سلمان الأغر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيليا"، رواه مسلم.

وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: الكعبة ومسجدي هذا، ومسجد الأقصى" رواه الدارمي. وروى حجية بن عدي عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، رواه الطبراني في المعجم الصغير.

وروى قزعة بن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى المسجد الأقصى، وإلى مسجدي هذا" رواه ابن ماجه.

وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن من حديث أبي هريرة عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلا على ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس"، رواه مالك في الموطأ. قال ابن عبد البر الصواب أبا بصرة1 واسمه جميل بن أبي بصرة، والغلط من يزيد لا من مالك، وفي التقريب: أبو بصرة الغفاري جميل بن بصرة اهـ. فيكون حديث شهر شاذاً مردوداً.

1 كذا في الأصل ومقتضى الإعراب: أبو بصرة.

ص: 90

قال السيوطي في التدريب في بيان الشاذ "فالصحيح التفصيل: فإن كان الثقة بتفرده مخالفاً لمن هو أحفظ منه وأضبط؟ عبارة ابن الصلاح: لما رواه من هو أولى بالحفظ لذلك، وعبارة شيخ الإسلام: لمن هو أرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات "كان ما انفرد به شاذاً مردوداً"

قال شيخ الإسلام: ومقابله يقابله يقال له المحفوظ، قال: مثاله ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من طريق ابن عيينة عن ابن عباس "أن رجلاً توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدع وارثاً إلا مولى هو أعتقه"، الحديث، وتابع ابن عيينة على وصله ابن جريج وغيره، وخالفهم حماد بن زيد رواه عن عمرو بن دينار عن عوسجة ولم يذكر ابن عباس، قال أبو حاتم: المحفوظ حديث ابن عيينة.

قال شيخ الإسلام: فحماد بن زيد من أهل العدالة والضبط، ومع ذلك رجح أبو حاتم رواية من هم أكثر عدداً منه، قال: وهذا هو المعتمد في حد الشاذ بحسب الاصطلاح.

ومن أمثلته في المتن ما رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه"، قال البيهقي: خالف عبد الواحد العدد الكثير في هذا، فإن الناس إنما رووه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا من قوله، وانفرد عبد الواحد من بين ثقات أصحاب الأعمش بهذا اللفظ. انتهى.

قال الذهبي في الميزان: عبد الواحد بن زياد بن شيبة العبدي البصري أحد المشاهير احتجا به في الصحيحين، وتجنبا تلك المناكير التي نقمت عليه فيحدث عن الأعمش بصيغة السماع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه" أخرجه أبو داود. انتهى

وقال السيوطي في بحث المنكر مثل الأول، وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات، رواية مالك عن الزهري عن علي بن حسين عن عمر بن عثمان عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" فخالف مالك غيره

ص: 91

من الثقات في قوله: "عمر بن عثمان"، بضم العين.

وذكر مسلم في التمييز أن كل من رواه من أصحاب الزهري قال بفتحها وأن مالكاً وهم في ذلك.

قال العراقي: وفي هذا التمثيل نظر، لأن الحديث ليس بمنكر، ولم يطلق عليه أحد اسم النكارة فيما رأيت، وغايته أن يكون السند منكراً أو شاذاً لمخالفة الثقات لمالك، ولا يلزم من شذوذ في السند ونكارته وجود ذلك الوصف في المتن.

وقد ذكر ابن الصلاح في نوع المعل أن العلة الواقعة في السند قد تقدح في المتن، وقد لا تقدح كما سيأتي، قال فالمثال الصحيح لهذا القسم ما رواه أصحاب السنن الأربعة من رواية همام بن يحيى عن ابن جريج عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه". قال أبو داود بعد تخريجه: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد الزهري عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه" قال: والوهم فيه من همام ولم يروه إلا همام، وقال النسائي بعد تخريجه: هذا حديث غير محفوظ، فهمام بن يحيى ثقة احتج به أهل الصحيح، ولكن خالف الناس فروى عن ابن جريج هذا المتن بهذا السند، وإنما روى الناس عن ابن جريج الحديث الذي أشار إليه أبو داود. فلهذا حكم عليه بالنكارة اهـ.

قال المؤلف: قد علم من العبارة المنقولة أن العلة الواقعة في السند قد تقدح في المتن ومثل لها ابن الصلاح بالإرسال والوقف، وكم من أحاديث رواتها ثقات عدت من الشواذ لمخالفة روايات الثقات، وتلك المخالفة الموجبة لشذوذها قد تكون في السند بحيث توجب شذوذ المتن أيضاً، وقد تكون في نفس المتن.

فمن أمثلة القسم الأول حديث محمد بن فضيل الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولاً وآخراً" قال الترمذي في جامعه قال أبو عيسى: سمعت محمداً يقول: حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصح من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ أخطأ فيه محمد ابن فضيل: حدثنا هناد حدثنا أبو أسامة عن أبي إسحاق الفزاري عن الأعمش عن

ص: 92

مجاهد قال: كان يقال إن للصلاة أولاً وآخراً، فذكر نحو حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، نحوه بمعناه اهـ. وقال الدارقطني: هذا لا يصح مسنداً، وهمَ في إسناده ابن فضيل، وغيره يرويه عن الأعمش عن مجاهد مرسلاً، أخبرنا أبو سهل بن زياد أخبرنا محمد بن أحمد بن النضر حدثنا معاوية بن عمرو أخبرنا زائدة عن الأعمش عن مجاهد قال: كان يقال إن للصلاة أولاً وآخراً، ثم ذكر هذا الحديث وهو أصح من قول ابن فضيل، وقد تابع زائدة عبثر بن القاسم. وحدثنا أبو بكر الشافعي حدثنا محمد بن شاذان أخبرنا معلى بن منصور أخبرني أبو زبيد –وهو عبثر- أخبرنا الأعمش عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، اهـ. مع أن محمد بن فضيل ثقة من رجال الصحيحين.

قال الذهبي في الميزان: إن محمد بن فضيل بن غزوان كوفي صدوق مشهور، كان صاحب حديث ومعرفة، وثقه ابن معين، وقال أحمد: حسن الحديث شيعي، وقال النسائي: لا بأس به ا. هـ ملخصاً. وقال الحافظ في التقريب: صدوق عارف، رمي بالتشيع اهـ. وقال أبو زرعة: صدوق كذا في التهذيب، وقال الذهبي في الكاشف: ثقة شيعي اهـ.

ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه". عند جماعة قال الحافظ في البلوغ: رواه الدارقطني والحاكم ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله.

ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب عليها"، قال الحافظ في البلوغ: رواه الحاكم وصححه، والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر من قوله اهـ. وقال في تخريج الهداية: وعن ابن عمر أخرجه الحاكم والدارقطني وإسناده صحيح، إلا أن البيهقي قال: غلط فيه عبد الله بن موسى عن حنظلة عن سالم عنه، والصواب رواية ابن وهب عن حنظلة عن سالم عن ابن عمر عن عمر قوله، وهكذا قال ابن عيينة عن عمرو عن سالم. انتهى

ص: 93

وقال الدارقطني: حدثنا أبو علي الصفار من أصل كتابه حدثنا علي بن سهل بن المغيرة حدثنا عبد الله بن موسى أخبرنا حنظلة عن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثبت منها"، لا يثبت هذا مرفوعاً، والصواب عن ابن عمر عن عمر مرفوعاً. انتهى ما في سنن الدارقطني، هكذا في النسخة المكتوبة في سنة تسع وعشرين وسبع مائة المقروءة على ابن الجزري بلفظ: والصواب عن ابن عمر عن عمر مرفوعاً. ولعله من سهو الناسخ، والصواب: عن ابن عمر عن عمر موقوفاً كما قال الحافظ، والله أعلم.

ومنها حديث عكرمة أن أخت عبد الله ابن أبيّ أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، الحديث الذي روي مرسلاً، فإن البخاري قدم هنالك الموصول على المرسل لكثرة الواصلين.

قال الحافظ في الفتح: ويؤخذ من إخراج البخاري في هذا الحديث في الصحيح فوائد: (منها) أن الأكثر إذا وصلوا وأرسل الأقل قدم الواصل، ولو كان الذي أرسل أحفظ، ولا يلزم منه أنه تقدم رواية الواصل على المرسل دائماً. (ومنها) أن الراوي إذا لم يكن في الدرجة العليا من الضبط ووافقه من هو مثله اعتضد وقاومت الروايتان رواية الضابط المتقن، انتهى. مع أن رجاله كلهم ثقات أثبات.

ومن أمثلة القسم الثاني حديث عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات" رواه الترمذي.

قال الحافظ في شرح الأذكار: قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وفيما قاله نظر، لأن فيه عللاً:(منها) الشذوذ فإنه جاء عن خمسة من أصحاب أبي أمامة أصل الحديث من رواية صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عن عمرو بن عبسة واقتصروا كلهم على الشق الأول، انتهى ملخصاً. مع أن عبد الرحمن بن سابط ثقة من رجال صحيح مسلم. (ومنها) حديث أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام وهو

ص: 94

جنب ولا يمس ماء، رواه الترمذي. قال: وقد روى غير واحد عن الأسود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ قبل أن ينام، وهذا أصح من حديث أبي إسحاق عن الأسود، وقد روى عن أبي إسحاق هذا الحديث شعبة والثوري وغير واحد، ويرون أن هذا غلط من أبي إسحاق، انتهى. مع أن أبا إسحاق ثقة من رجال الصحيحين.

(ومنها) حديث أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة قال: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين رواه الترمذي، فإن راويه عبد الرحمن ابن ثروان أبا قيس الأودي مع أنه ثقة، وثقه ابن معين وغيره وهو من رجال صحيح البخاري لما خالف الثقات في رواية هذا الحديث عد حديثه هذا من الشواذ، فإن نافع بن جبير روى هذا الحديث عن عروة بن المغيرة عن أبيه المغيرة بن شعبة، أخرجها البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، وأن عامراً الشعبي رواه عن عروة بن المغيرة عن أبيه أخرجها البخاري ومسلم وأبو داود والدارمي والدارقطني، وأن أشعث رواه عن الأسود بن هلال عن المغيرة أخرجها مسلم، وأن مسلماً روى عن مسروق عن المغيرة بن شعبة أخرجها مسلم والنسائي، وإن بكر بن عبد الله المزني رواه عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه أخرجها مسلم، وأن ابن سيرين رواه عن عمرو بن موهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة أخرجها النسائي والدارقطني، وأن عبد الرحمن بن أبي الزناد رواه عن أبيه عن عروة بن الزبير عن المغيرة بن شعبة أخرجها أبو داود والترمذي والدارقطني، وأن عباد بن زيد رواه عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه رواه أبو داود ومالك بغير ذكر عروة، وأن قتادة رواه عن الحسن وعن زرارة بن أوفى عن المغيرة بن شعبة أخرجها أبو داود، وأن بكر ابن عامر البجلي رواه عن عبد الرحمن بن أبي أنعم عن المغيرة بن شعبة أخرجها أبو داود، وأن إسماعيل بن محمد بن سعد رواه عن حمزة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه، وأن بكر بن عبد الله المزني رواه عن حمزة ابن المغيرة بن شعبة عن أبيه أخرجها النسائي، وأن بكر بن عبد الله المزني رواه عن ابن المغيرة عن أبيه أخرجها أبو داود والنسائي والدارقطني، وليس في رواية هؤلاء الثقات الأثبات المسحُ على الجوربين

ص: 95

ومن أجل ذلك ضعفه الأئمة.

قال النسائي: لا أعلم أحداً تابع أبا قيس، والصحيح عن المغيرة المسح على الخفين، وقال أبو داود: كان ابن مهدي لا يحدث به، وقال البيهقي: ضعف هذا الحديث الثوري وابن مهدي وابن معين وأحمد وابن المديني ومسلم، كذا في تخريج الهداية للحافظ ابن حجر.

قوله: وأما التوسل فقد صح صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح في أحاديث كثيرة منها أنه صلى الله عليه وسلم كان من دعائه:"اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك"، وهذا توسل لا شك فيه. وصح في أحاديث كثيرة أنه كان يأمر أصحابه أن يدعوا بها، فمنها ما رواه ابن ماجه بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا إليك، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة" اهـ.

أقول في حديث أبي سعيد كلام من وجوه:

(الأول) أن في سنده عطية بن سعد العوفي، وهو وإن كان ممن اختلف في الاحتجاج به، لكن الراجح والمحقق أنه ضعيف، وها أنا أذكر عبارات القوم ثم أرجح ما هو الراجح فنقول: قال الذهبي في الميزان: عطية بن سعد العوفي الكوفي تابعي شهير ضعيف عن ابن عباس وأبي سعيد وابن عمر، وعنه مسعر وحجاج بن أرطأة وطائفة وابنه الحسن، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ضعيف، وقال سالم المرادي: كان عطية يتشيع، وقال ابن معين: صالح، وقال أحمد: ضعيف الحديث، وكان هشيم يتكلم في عطية.

وروى ابن المديني عن يحيى قال: عطية وأبو هارون وبشر بن حرب عندي سواء. وقال أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير كان يكنيه بأبي سعيد فيقول، قال أبو سعيد، قلت: يعني يوهم أنه الخدري. وقال النسائي

ص: 96

وجماعة: ضعيف اهـ. وقال المنذري في الترغيب والترهيب: عطية بن سعد العوفي قال أحمد وغيره: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه، ووثقه ابن معين وغيره، وحسن له الترمذي غير ما حديث، وأخرج حديثه ابن خزيمة في صحيحه وقال: في القلب من عطية شيء اهـ.

وقال الحافظ ابن القيم في الهدى في بيان سنة الجمعة: عطية العوفي قال البخاري كان هشيم تكلم فيه، وضعفه أحمد وغيره. وقال البيهقي: عطية العوفي لا يحتج به، ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث، والحجاج بن أرطأة لا يحتج به.

قال بعضهم: ولعل الحديث انقلب على بعض هؤلاء الثلاثة الضعفاء لعدم ضبطهم وإتقانهم اهـ ملخصاً. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: عطية بن سعد ابن جنادة بضم الجيم بعدها نون خفيفة العوفي الجدلي بفتح الجيم والمهملة الكوفي أبو الحسن صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً من الثالثة، مات سنة إحدى عشرة1 اهـ.

وقال الذهبي في الكاشف: عطية بن سعد العوفي أبو الحسن عن أبي سعيد وطائفة وعنه ابناه عمر والحسن ومسعر ومرة وخلق، ضعفوه، مات سنة 111 اهـ.

وقال الحافظ صفي الدين بن أحمد بن عبد الله الخزرجي في الخلاصة: عطية بن سعد بن جنادة العوفي بفتح المهملة وإسكان الواو بعدها فاء الجدلي بفتح الجيم أبو الحسن الكوفي عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس، وعنه ابناه عمر والحسن وإسماعيل ابن أبي خالد ومسعر وخلق، ضعفه الثوري وهشيم وابن عدي، وحسن له الترمذي أحاديث، قال مطين: مات سنة إحدى عشرة ومائة اهـ.

وقال في التهذيب: قال أبو حاتم وابن سعد مع ضعفه يكتب حديثه اهـ. وقال المنذري في تلخيصه لسنن أبي داود: عطية ضعيف الحديث، وقال في غير ما موضع لا يحتج بحديثه، وقال في موضع: في إسناده محمد بن الحصين بن عطية العوفي عن أبيه

1 أي بعد المائة.

ص: 97

عن جده وثلاثتهم ضعفاء، وقال في موضع: في إسناده عطية العوفي وهو ضعيف، وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير تحت حديث أبي سعيد "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره"، أبو داود وابن ماجه، وفيه عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف، وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق بن القطان بالضعف والاضطراب اهـ.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: عطية مختلف في الاحتجاج به، وفي موضع: وفيه الحجاج بن أرطأة وعطية وكلاهما فيه كلام، وفي موضع: وفيه عطية وثقه ابن معين وضعفه جماعة تضعيفا لينا اهـ. وقال الدارقطني في سننه تحت حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان"، وحديث عبد الله ابن عيسى عن عطية عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم منكر غير ثابت من وجهين:(أحدهما) أن عطية ضعيف وسالم ونافع أثبت منه وأصح رواية، (والوجه الآخر) أن عمر بن شبيب ضعيف الحديث لا يحتج بروايته والله أعلم اهـ.

فهذه عبارات القوم في عطية، وقد اتضح من هذه العبارات أمور:(الأول) أن الذهبي مختاره التضعيف حيث قال في حقه في الميزان: تابعي شهير ضعيف. يؤيد ما قاله في الكاشف من قوله ضعفوه، ولم ينقل هناك القول بالتوثيق، فعلم أنه رجح التضعيف. وقال في الميزان في ترجمة الحكم بن فضيل عن عطية العوفي:(قلت) وقد وثقه أبو داود وعطية واه. وقال في الميزان في ترجمة فضيل بن مرزوق: وقال ابن حبان منكر الحديث جداً، كان ممن يخطئ على الثقات، ويروى عن عطية الموضوعات، (قلت) عطية أضعف منه اهـ، وكذا اختار الحافظ ابن القيم تضعيفه في الهدى، وكذا المنذري في تلخيصه لسنن أبي داود في غير ما موضع، والحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير، والدارقطني في سننه.

(والثاني) أن عطية وأبا هارون وبشر بن حرب سواء كما نقل عن يحيى، أما أبو هارون فاسمه عمارة بن جوين. قال الذهبي في الميزان: عمارة بن جوين أبو هارون العبدي تابعي لين بمرة، كذبه حماد بن زيد. وقال شعبة: لأن أقدم فتضرب عنق أحب إلي من أن أحدث عن أبي هارون. وقال أحمد: ليس بشيء، وقال ابن

ص: 98

معين: ضعيف لا يصدق في حديثه. وقال س متروك الحديث. وقال الدارقطني: يتلون خارجي وشيعي، فيعتبر بما روى عنه الثوري. وقال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه. وروى معاوية بن صالح عن يحيى: ضعيف، يحيى القطان قال: قال شعبة: كنت أتلقى الركبان أسأل عن أبي هارون العبدي فقدم، فرأيت عنده كتاباً فيه أشياء منكرة في علي رضي الله عنه فقلت: ما هذا الكتاب؟ قال: هذا الكتاب حق، قال القطان: لم يزل ابن عون يروي عن أبي هارون حتى مات، قال الجوزجاني: أبو هارون كذاب مفتر، ابن عدي حدثنا الحسن بن سفيان حدثني عبد العزيز بن سلام حدثني علي بن مهران سمعت بهز بن أسد سمعت شعبة يقول: أتيت أبا هارون فقلت أخرج إلى ما سمعته من أبي سعيد، فأخرج إلي كتابا فإذا فيه حدثنا أبو سعيد أن عثمان أدخل حفرته وإنه لكافر بالله؟ فدفعت الكتاب في يده وقمت. الأثرم حدثنا يحيى بن آدم حدثنا معلى بن خالد قال لي شعبة: لو شئت أن يحدثني أبو هارون العبدي عن أبي سعيد بكل شيء أرى أهل واسط يصنعونه بالليل لفعلت.

وقال ابن معين: كانت عند أبي هارون صحيفة يقول: هذه صحيفة الوحي، قال السليماني: سمعت أبا بكر بن حامد يقول سمعت صالح بن محمد أخبرنا علي وسئل عن أبي هارون العبدي فقال: أكذب من فرعون.

أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن أبي هارون سمعت أبا سعيد قال: كانت لي جارية كنت أعزل عنها فولدت أحب الناس إلي، رواه محمد بن كثير عن الثوري. وبالإسناد الثاني عن أبي سعيد مرفوعاً "وإذا ضرب أحدكم خادمه فذكر الله فارفعوا أيديكم"اهـ.

وأما بشر بن حرب فقال الذهبي في الميزان: بشر بن حرب أبو عمر الندبي البصري، والندب حي من الأزد، له عن أبي سعيد وجماعة، وعنه شعبة وحماد بن زيد، ضعفه علي ويحيى، وقال أحمد: ليس بالقوي، وقال ابن خراش: متروك، وكان حماد بن زيد يمدحه، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت ابن المديني عنه فقال: كان ثقة عندنا، وقال

ص: 99

ابن عدي لا بأس به عندي، لا أعرف له حديثاً منكرا.

وحيث كان عطية سواء لهما1 صدق عليه أنه لين بمرة، كذاب ليس بشيء لا يصدق في حديثه، متروك الحديث، كذاب مفتر، أكذب من فرعون فعلم أن في عطية كلاماً شديداً لا كما قال الهيثمي. وضعفه جماعة تضعيفاً ليناً، والغرض من نقل هذا ليس أن إطلاق تلك الكلمات عليه مختار عندي، فإن المختار عندي قول أبي حاتم: ضعيف يكتب حديثه. فإنه أعدل الأقوال وأصوبها، ولكن المقصود التنبيه على خطأ الهيثمي في قصر التضعيف على تضعيف لين.

(والثالث) أنه مدلس كما صرح به الحافظ ابن حجر، ويدلس شر تدليس كما قال الإمام أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، كان يكنيه بأبي سعيد، فيقول قال أبو سعيد، يعني أنه يوهم أنه الخدري، فهذا تدليس أي تدليس، قال في توضيح الأفكار: فإن صادف شهرة راو ثقة يمكن أخذ ذلك الراوي عنه فمفسدته أشد كما وقع لعطية العوفي في تكنية محمد بن السائب الكلبي أبا سعيد فكان إذا حدث عنه يقول حدثني أبو سعيد، فيوهم أنه أبو سعيد الخدري، لأن عطية كان قد لقيه وروى عنه، وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدليس الشيوخ اهـ. يعني ما قال الحافظ ابن حجر اهـ.

(والرابع) أن جماعة من النقاد أعلوا حديث أبي سعيد "من أسلف في شيء فلا يصرفة إلى غيره" بالضعف، كما نقله الحافظ في تلخيص الحبير مع أن رواته كلهم إلى عطية موثقون، فما جاء فيه الضعف إلى من قبله، فإن سنده في سنن أبي داود هكذا: حدثنا محمد بن عيسى أخبرنا أبو بدر عن زياد بن خيثمة عن سعد –يعني الطائي- عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري.

وفي سنن ابن ماجه هكذا: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا شجاع بن الوليد حدثنا زياد بن خيثمة عن سعد عن عطية عن أبي سعيد، وفي رواية أخرى هكذا: حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا شجاع بن الوليد عن زياد بن خيثمة عن عطية عن أبي

1 أي مساويا لبشر بن حرب وأبي هارون عمارة ابن جوين المار ذكرهما.

ص: 100

سعيد، قال ابن ماجه فذكر مثله، لم يذكر سعداً، أما محمد بن عيسى فقال الحافظ في التقريب: محمد بن عيسى بن نجيح أبو جعفر الطباع البغدادي نزيل أذنة1 ثقة فقيه، كان من أعلم الناس بحديث هيثم، من العاشرة، مات سنة أربع وعشرين وله أربع وسبعون اهـ.

وقال في الخلاصة: محمد بن عيسى بن نجيح البغدادي أبو جعفر الطباع سكن أذنة، عن محمد بن مطرف وابن إبراهيم بن سعد وهيثم وخلق، وعنه البخاري تعليقاً وأبو داود والذهلي والدارمي، وقال أبو حاتم: ثقة مأمون، وقال أبو داود: وكان يحفظ نحوا من أربعين ألف حديث اهـ.

وقال في الكاشف: محمد بن عيسى بن الطباع أبو جعفر أخو إسحاق ويوسف، نزل أذنة، وروى عن مالك وأبي غسان ومحمد بن مطرف وعبدة، وعنه الدارمي وأحمد بن جليد الحلبي وعلق له البخاري، وكان حافظاً مكثراً فقيهاً، قال وكان يحفظ نحواً من أربعين ألف حديث، وقال أبو حاتم: ثقة مأمون، ما رأيت أحفظ للأبواب منه اهـ.

وأما أبو بدر فاسمه شجاع بن الوليد قال في التقريب: شجاع بن الوليد بن قيس السكوني أبو بدر الكوفي صدوق ورع له أوهام، من التاسعة، مات سنة أربع ومائتين اهـ، ورمز له الحافظ ع الدال على أنه روى له أصحاب الأصول الستة، وقال في الكاشف: شجاع بن الوليد وأبو بدر السكوني الحافظ الصالح عن الأعمش وهشام ابن عروة وعنه ابنه الوليد اهـ.

وقال في الخلاصة: شجاع بن الوليد بن قيس السكوني أبو بدر الكوفي نزيل بغداد محدث صالح عن الأعمش وهشام وعطاء بن السائب، وعنه محمد بن عبد الرحيم البزار وأحمد بن محمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابنه الوليد بن شجاع، قال أحمد: كان شيخاً صالحاً صدوقاً، وقال أحمد بن أبي خيثمة وعبد الخالق بن منصور: ثقة، قال ابن سعد: مات سنة أربع ومائتين، له في البخاري فرد حديث اهـ. وقال في

1 أذنة هي التي يسميها الترك أطنة، وهي في الأصل من سورية.

ص: 101

الميزان: شجاع بن الوليد أبو بدر الكوفي السكوني الحافظ صدوق مشهور، روى عن مغيرة بن مقسم وليث، وعنه ابنه الوليد وأبو خيثمة وخلق، وثقه ابن معين وغيره، قال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: لين الحديث شيخ ليس بالمتين، لا يحتج به إلا أن عنده عن محمد بن عمرو أحاديث صحاح، وقال المروزي: قلت لأبي عبد الله: أبو بدر ثقة؟ قال: أرجو أن يكون صدوقاً قد جالس الصالحين، وروى وكيع عن الثوري قال: ليس في الكوفة أعبد من أبي بدر اهـ ملخصاً.

وأما زياد بن خيثمة فقال في التقريب: زياد بن خيثمة الجعفي الكوفي ثقة من السابعة اهـ. وقال في الخلاصة: زياد بن خيثمة الجعفي عن الشعبي ومجاهد وعنه زهير بن معاوية وهشيم ووكيع، وثقه ابن معين اهـ. ورمز له في الخلاصة م 4 الدال على أنه روى له مسلم وأصحاب السنن الأربعة، وقال في الكاشف: زياد بن خيثمة الكوفي عن الشعبي ومجاهد وعنه هشيم ووكيع ثقة اهـ.

وأما سعد الطائي فقال الحافظ في التقريب: سعد أبو مجاهد الطائي الكوفي لا بأس به من السادسة، ورمز له خ د ت ق وهذا يدل على أنه من رجال البخاري، وقال في الخلاصة: سعد الطائي أبو مجاهد الكوفي عن محل بن خليفة وعنه إسرائيل والأعمش وثقه ابن حبان اهـ. وقال في التهذيب: ووكيع اهـ.

وأما محمد بن عبد الله بن نمير الواقع في سند ابن ماجه فقال الحافظ في التقريب: محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني بسكون الميم الكوفي أبو عبد الرحمن ثقة حافظ فاضل من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين1 اهـ، وقال في الخلاصة: محد بن عبد الله ابن نمير بضم النون الهمداني خارفي بمعجمة أبو عبد الرحمن الكوفي الحافظ أحد الأعلام عن أبي خالد الأحمر وابن عيينة وأبي معاوية وخلق وعنه خ م د ق، عظمه أحمد وأجله، وقال النسائي: ثقة مأمون، قال ابن حبان: مات سنة أربع وثلاثين ومائتين اهـ. وقال في الكاشف: محمد بن عبد الله بن نمير أبو عبد الرحمن الخارفي الحافظ الزاهد عن المطلب بن زياد وابن عيينة وخلق، وعنه خ م د ق ومطين وأبو يعلى، قال أبو إسماعيل الترمذي: كان أحمد بن حنبل يعظم ابن نمير تعظيماً

1 أي ومائتين.

ص: 102

عجيباً، وقال أحمد بن صالح: ما رأيت بالعراق مثله اهـ.

وأما عبد الله بن سعيد -الواقع في سند ابن ماجه الآخر- فقال الحافظ في التقريب: عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي أبو سعيد الأشج الكوفي ثقة من صغار العاشرة مات سنة سبع وخمسين1 اهـ.

وقال في الخلاصة: عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي الكوفي أبو سعيد الأشج الحافظ أحد الأئمة عن عبد السلام بن حرب وأبي خالد الأحمر والمحاربي وابن إدريس وهشيم وطبقتهم وعنه ع قال أبو حاتم: ثقة إمام أهل زمانه، قيل مات سنة سبع وخمسين ومائتين اهـ.

وقال في الكاشف: عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج الكندي الحافظ عن هشيم والمطلب بن زياد وعنه ع وابن أبي حاتم، قال أبو حاتم: ثقة إمام أهل زمانه. وقال الشطوى2: ما رأيت أحفظ منه اهـ.

فقد ثبت أن ضعف الحديث المذكور ليس إلا من قبل عطية، ولذا صرح به الحافظ، فعلم أنه عند هؤلاء النقاد ضعيف.

(والخامس) أن وجه ضعف عطية ليس منحصراً في التشيع والتدليس، بل له وجه آخر أيضاً غيرهما وهو عدم الضبط وكثرة الخطأ، صرح به الحافظ ابن القيم في الهدى والحافظ ابن حجر في التقريب، فليفهم.

(السادس) أن جارحيه أكثر من موثقيه، فلنعد الجارحين فنقول: من الجارحين أبو حاتم وسالم المرادي وأحمد وهشيم ويحيى والنسائي والبيهقي والثوري وابن عدي وعبد الحق والذهبي والمنذري والحافظ ابن القيم والحافظ ابن حجر والدارقطني، ومن الموثقين ابن معين والترمذي، فما وزانهما في جنب ذلك السواد الأعظم

1 أي ومائتين.

2 وهو محمد بن أحمد بن بلال، كذا في تهذيب التهذيب في ترجمة أبي سعيد الأشج هذا.

ص: 103

إذا تمهد هذا فنقول: الراجح في عطية الضعف، فإن جارحيه أكثر من معدّليه، ولأن كلام الموثقين أيضاً لا يقتضي أن حديثه فيما تفرد به مما يحتج به، فإن ابن معين قال في حقه صالح كما في الميزان، وهذه اللفظة في المرتبة السادسة من مراتب التوثيق، فهذا توثيق لين، وحكمه أنه يكتب حديث للاعتبار، فهذا التوثيق لا ينافي القول بالضعف، وأما الترمذي فلم يصرح بتوثيقه، نعم حسن له غير ما حديث، وتحسينه لا يدل على أن عطية ممن يحتج بحديثه في كل موضع، فإنه ربما يحسن الحديث لمجيئه من طريق أخرى، ولاحتمال أن يكون التحسين في موضع قد ثبت عند الترمذي التصريح بالتحديث فيه، فإن عطية مدلس، وحديث المدلس إنما يقبل إذا صرح بالتحديث، على أن الترمذي متساهل في التصحيح والتحسين، ولذا لم يعتمد العلماء عليه في هذا الباب، وردوا على تصحيحه وتحسينه في غير ما موضع.

قال الذهبي في الميزان في ترجمة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد المزني: وأما الترمذي فروى من حديثه "الصلح جائز بين المسلمين" وصححه، فلذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي اهـ.

وقال في (البرهان شرح مواهب الرحمن) : وقال ابن دحية في العلم المشهور: وكم حسن الترمذي في كتابه من أحاديث موضوعة وأسانيد واهية، منها هذا الحديث اهـ. وابن حزم قد زعم أنه مجهول، والمجهول لا يعتبر تحسينه وتصحيحه، كذا في توضيح الأفكار، وهذا القول وإن كان متعقباً ولكن المقصود هناك تعداد من لم يعتمد على تصحيح الترمذي وتحسينه، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: وأنبّه على كثير مما حضر في حال الإملاء مما تساهل أبو داود في السكوت عن تضعيفه، أو الترمذي في تحسينه، أو ابن حبان والحاكم في تصحيحه، لا انتقادا عليهم رضي الله عنهم، بل مقياساً للتبصر في نظائرها من هذا الكتاب، وكل حديث عزوته إلى أبي داود وسكت عنه فهو كما ذكر أبو داود، ولا ينزل عن درجة الحسن، وقد يكون على شرط الصحيحين اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر في (تلخيص الحبير) تحت حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 104

سئل عن العمرة أواجبة؟ قال "لا وإن تعتمر فهو أولى" اهـ: في تصحيحه أي الترمذي نظر كثير من أجل الحجاج، فإن الأكثر على تضعيفه، والاتفاق على أنه مدلس، وقال النووي: ينبغي أن لا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه فقد اتفق الحفاظ على تضعيفه اهـ.

وقال في التلخيص تحت حديث جد كثير1 في تكبير العيد: وقد قال البخاري والترمذي: إنه أصح شيء في هذا الباب، وأنكر جماعة تحسينه على الترمذي. وقال تحت حديث عبد الله بن مسعود في عدم رفع اليدين: هذا الحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن حزم، وقال ابن المبارك: لم يثبت عنه، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هذا خطأ، وقال أحمد بن حنبل وشيخه يحيى بن آدم: هو ضعيف. نقله البخاري عنهما وتابعهما على ذلك، وقال أبو داود: ليس بصحيح، وقال الدارقطني: لم يثبت، وقال ابن حبان في الصلاة: هذا أحسن خبر روى أهل الكوفة في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه، وهو في الحقيقة أضعف شيء يعول عليه، وإن له عللاً تبطله. وهؤلاء الأئمة إنما طعنوا كلهم في طريق عاصم بن كليب الأولى اهـ.

ومن ثم صرح العلماء بأن ما حسنه الترمذي أو صححه ليس من جنس ما صححه إمام من الأئمة أو حسنه حتى يكون مما يجب العمل به، بل هو اصطلاح جديد، قال في (توضيح الأفكار) : فإن قلت قد صرحوا بأن عنده –أي الترمذي- نوع تساهل في التصحيح، فقد حكم بالحسن مع وجود الانقطاع في أحاديث في سننه، وحسن فيها بعض ما انفرد به راويه كما صرح هو بذلك، فإنه يورد الحديث ثم يقول عقيبه: إنه حسن غريب، وحسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قلت: هذا كله لا يضر، لأن ذلك اصطلاح جديد له، ومن بلغ النهاية في الإمامة والحفظ

1 كذا في الأصل، وهو مغلق لا يفهم، والمراد كما في التلخيص: حديث كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، قال الحافظ بعد ذكره هكذا: وكثير ضعيف وقد قال البخاري الخ. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 105

لا ينكر عليه ابتداع اصطلاح يختص به، وحينئذ فلا مشاحة في الاصطلاح، وبهذا يجاب عما استشكلوه من جمعه بين الصحة والحسن على متن واحد مع ما هو معلوم من تغابرهما اهـ. أي كلام ابن حجر الهيتمي.

قلت: إذا كان اصطلاح الترمذي أن الحسن والصحيح شيء واحد، فإنه لا يصح حمل قوله صحيح على المعنى الذي نحن بصدده، بل يحمل على أنه قسم من الحسن.

ثم قال: وقد وقع للبغوي في المصابيح اصطلاح آخر في الصحيح والحسن، فجعل الصحيح ما رواه الشيخان أو أحدهما في كتابيهما، والحسن ما روى غيرهما. وقد اخترع غيره اصطلاحاً آخر كالحاكم والخطيب، فإنهما اصطلحا على إطلاق الصحة على جميع ما في سنن أبي داود والنسائي، ووافقهما في النسائي جماعة منهم أبو علي النيسابوري وأبو أحمد بن عدي والدارقطني، اهـ. ملتقطاً من فهرست ابن حجر الهيتمي. وإنما نقلته لئلا يقع الناظر على تصحيح الترمذي أو تحسين البغوي فيظن أنه من قسم ما صححه إمام من الأئمة، أو تحسين بالمعنى الذي ذكره المصنف وغيره للصحيح، بل لا بد من معرفة اصطلاح الإمام الذي قال صحيح أو حسن قبل ذلك اهـ.

وقال في (توضيح الأفكار) بعد ذكر صحيح ابن خزيمة وابن حبان: وعلى كل حال فلا بد للتأهل من الاجتهاد والنظر، ولا يقلد هؤلاء ومن نحا نحوهم، فكم حكم ابن خزيمة بالصحة لما لا يرتقي عن رتبة الحسن، بل فيما صححه الترمذي من ذلك جملة مع أنه يفرق بين الحسن والصحيح. انتهى ما قال ابن حجر في فهرسته. قلت: فلا تأخذ مما قاله المصنف والزين وغيرهما حكماً كلياً اهـ.

وأيضاً قال في (توضيح الأفكار) : اعلم أنه يظهر من كلام المنصف أنه يعمل بما حسنه الترمذي، وقد عرفت مما سقناه عن الحافظ ابن حجر أنه حسن الترمذي أحاديث فيها ضعيف، وفيها من رواية المدلسين ومن كثر غلطه وغير ذلك، فكيف يعمل بتحسينه وهو بهذه الصفة؟ وقد نقل الحافظ عن الخطيب أنه قال: أجمع أهل العلم على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به، قال الحافظ أيضاً: وقد صرح أبو الحسن بن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل

ص: 106

الغرب في كتابه (بيان الوهم والإيهام) بأن هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال، ويتوقف على العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن، وهذا حسن قوي واثق ما أظن منصفاً يأباه دال على أن الحديث إذا وصفه الترمذي بالحسن لا يلزم أن يحتج به، لأنه أخرج حديث خيثمة البصري عن الحسن عن عمران بن حصين وقال بعده: هذا حديث حسن، وليس إسناده بذاك. وقال في كتاب العلم بعد أن أخرج حديثاً في فضل العلم: هذا حديث حسن، وإنما لم نقل هذا الحديث صحيح لأنه يقال إن الأعمش دلس فيه، فقال: حدثت عن أبي صالح عن أبي هريرة، فحكم له بالحسن للتردد الواقع فيه، وامتنع عن الحكم عليه بالصحة لذلك، لكن في كل من المثالين نظر، لاحتمال أن يكون سبب تحسينه لهما إنما جاء من وجه آخر كما تقدم تقريره، ولكن محل بحثنا هنا هل يلزم من الوصف بالحسن الحكم له بالحجة أم لا بل يتوقف، والقلب إلى ما حررة ابن القطان أميل. وأيضاً قال فيه: ثم قال –أي الحافظ في نكته على ابن الصلاح-: إنه يدل على أن الحديث إذا وصفه الترمذي بالحسن لا يلزم أن يحتج به، فإنه أخرج حديثاً من طريق خيثمة البصري عن الحسن عن عمران بن الحصين، وقال بعده: هذا حديث حسن، وليس إسناده بذاك، وقد قدمنا ذلك اهـ. وأيضاً قال فيه: على أنه لا يعزب عنك ما أسلفناه فيما صححه أو حسنه من البحث فتذكر اهـ.

ومن أجل ذلك قد رد المنذري في (تلخيص سنن أبي داود) على الترمذي في غير ما موضع ولم يقبل تصحيحه وتحسينه.

فمنه ما قال تحت حديث المغيرة بن شعبة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين: أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وذكر أبو بكر البيهقي حديث المغيرة هذا وقال: ذلك حديث منكر ضعفه سفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني ومسلم بن الحجاج. وأبو قيس الأودي اسمه عبد الرحمن بن مروان الأودي الكوفي هو وإن كان

ص: 107

البخاري قد احتج به، فقد قال الإمام أحمد بن حنبل: لا يحتج بحديثه، وسئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: ليس بقوي، هو قليل الحديث وليس بحافظ، قيل له كيف حديثه؟ قال صالح، هو لين الحديث اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث علي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، الحديث، قال الترمذي: حسن صحيح، وذكر أبو بكر البزار أنه لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة، وحكى البخاري عن عمرو بن مرة: كان عبد الله يعني ابن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر وكان قد كبر، لا يتابع في حديثه. وذكر الإمام الشافعي هذا الحديث وقال: وإن لم يكن أهل الحديث يثبتونه. وذكر الخطابي أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يوهن حديث علي هذا.

ومنه ما قال تحت حديث أبي عطية قال: كان مالك بن حويرث يأتينا إلى مصلانا هذا فأقيمت الصلاة، الحديث. قال الترمذي: حسن. وسئل أبو حاتم الرازي عن أبي عطية قال: لا يعرف ولا يسمى اهـ.

قلت: قال الترمذي تحت حديث أبي عطية في تعجيل الإفطار: وأبو عطية اسمه مالك بن أبي عامر الهمداني، ويقال مالك بن عامر وهو أصح. هذا آخر كلام الترمذي، فقول أبي حاتم "لا يسمى" يعارضه1.

ومنه ما قال تحت حديث وائل بن حجر في باب وضع الركبتين قبل يديه: قال الترمذي: حسن، قال الدارقطني: تفرد به يزيد عن شريك ولم يحدث به عن عاصم ابن كليب غير شريك، وشريك ليس بالقوي فيما يتفرد به، وقال أبو بكر البيهقي: هذا حديث يعد في أفراد شريك القاضي، وإنما تابعه همام مرسلاً، هكذا ذكره البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين. قلت: قال الترمذي نفسه تحت حديث جابر إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، قال: نعم، وشريك كثير الغلط، وقد استغرب الترمذي حديث علي "أنا دار الحكمة وعلي بابها" وأنكره من جهة تفرد شريك، ولم يحسنه.

1 أي يعارض قول الترمذي في تسمية أبي عطية.

ص: 108

ومنه ما قال تحت حديث "لا جلب ولا جنب": وأخرج الترمذي من حديث الحسن البصري عن عمران بن حصين وقال: حديث حسن صحيح. وقد ذكر علي بن المديني وأبو حاتم الرازي وغيرهما من الأئمة أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين اهـ.

قلت: قد حسن الترمذي حديث الحسن عن عمران وصححه في ما موضع، منه حديث في ميراث الجد، ومنه حديث في الكي، ومنه حديث "لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر"، ومنه حديث في الجلب على الخيل في السباق.

ومنه ما قال تحت حديث سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرص العنب كما تخرص النخل. أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. وذكر غير الترمذي أنه هذا الحديث منقطع، وما ذكره ظاهر جدا فإن عتاب بن أسيد توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومولد سعيد بن المسيب في خلافة عمر سنة خمس عشرة على المشهور، وقيل كان مولده بعد ذلك، والله عز وجل أعلم.

ومنه ما قال تحت حديث أبي سلمة عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: أنا الرحمن وهي الرحم"، وأخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح. وفي تصحيحه نظر، قال يحيى بن معين: أبو سلمة ابن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئاً، وذكر غيره أن أبا سلمة وأخاه حميداً لم يصح لهما سماع من أبيهما.

ومنه ما قال تحت حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق. وأخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن. هذا آخر كلامه، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، وذكر البيهقي أنه تفرد به. قلت: وقد صحح الترمذي حديث ابن أبي زياد في مواضع:

منها حديث علي في المذي، وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، وحديث أن العباس دخل على النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً. وقد حسن أيضاً حديثه في حديث إنها

ص: 109

دخلت العمرة في الحج، وفي حديث عبد الله بن عمر في التولي يوم الزحف، مع أن يزيد ليس من رجال الحسن، فكيف الصحيح؟ قال الذهبي: يزيد بن أبي زياد الكوفي أحد علماء الكوفة المشاهير المجمع على سوء حفظه، قال يحيى: ليس بالقوي، وقال أيضا: لا يحتج به، وقال ابن المبارك: ارم به، وقال شعبة: كان يزيد بن أبي زياد رفاعا1، وقال علي بن عاصم قال لي شعبة: ما أبالي إذا كتبت عن يزيد بن أبي زياد أن لا أكتبه عن أحد، وقال وكيع: يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله –يعني حديث الرايات- ليس بشيء، وقال أحمد: حديثه ليس بذاك، وحديثه عن إبراهيم يعني في الرايات ليس بشيء. ثم ذكر حديث الرايات قال: قلت هذا ليس بصحيح.

أما أحسن ما روى أبو قدامة سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرايات: لو حلف عندي خمسين يميناً قسامة ما صدقته أبداً، أهذا حديث إبراهيم؟ أهذا مذهب علقمة؟ أهذا مذهب عبد الله؟ قال ابن عدي: يزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم يكنى أبا عبد الله، علي بن المنذر حدثنا ابن فضيل قال: كان يزيد بن أبي زياد من أئمة الشيعة الكبار، خرج له مسلم مقروناً بآخر اهـ.

قال المنذري في الترغيب والترهيب: يزيد بن أبي زياد الكوفي أحد الأعلام، قال يحيى: لا يحتج به، وقال مرة: ليس بالقوي، ووهاه ابن المبارك، وقال علي بن عاصم قال لي شعبة: ما أبالي إذا كتبت عن يزيد بن أبي زياد أن لا أكتبه عن أحد، وقال أحمد: حديثه ليس بذاك، وأخرج له مسلم مقروناً، وحسن له الترمذي اهـ.

قال الحافظ ابن حجر في التقريب: يزيد بن أبي زياد الهاشمي مولاهم الكوفي ضعيف، كبر فتغير، صار يتلقن، وكان شيعياً، من الخامسة، مات سنة ست وثلاثين2 اهـ.

قال الذهبي في الكاشف: يزيد بن أبي زياد الكوفي مولى بني هاشم عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل وابن جحيفة وابن أبي ليلى، وعنه زائدة وابن إدريس،

1 أي يرفع الأحاديث الموقوفة كثيراً.

2 أي ومائة.

ص: 110

شيعي عالم فهيم صدوق رديء الحفظ لين ولم يترك اهـ.

وقال في الخلاصة: يزيد بن أبي زياد الهاشمي عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل وأبي جحيفة، وعنه زائدة بن قادمة وأبو عوانة وابن فضيل، وقال: كان من أئمة الشيعة الكبار، وقال ابن عدي: يكتب حديثه، وقال الحافظ شمس الدين الذهبي: هو صدوق رديء الحفظ، قال مطين: مات سنة سبع وثلاثين ومائة، روى له مسلم مقروناً اهـ.

ومنه ما قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر" وأخرجه الترمذي وقال صحيح، هذا آخر كلامه، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة اهـ. قلت: قال المنذري في الترغيب والترهيب: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي صدوق إمام ثقة رديء الحفظ كثيراً، كذا قال الجمهور فيه. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ فاحش الخطأ فكثر المناكير في حديثه فاستحق الترك، تركه أحمد ويحيى كذا قال اهـ.

قال الحافظ في التقريب: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جدا اهـ. وقال في الخلاصة: قال أبو حاتم: محله الصدق، شغل بالقضاء فساء حفظه، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال العجلي: كان فقيهاً صاحب سنة جائز الحديث اهـ. وقال الذهبي في الكاشف: قال أحمد سيء الحفظ، وقال أبو حاتم محله الصدق اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه في ميراث ابن الملاعنة: قال الترمذي: حسن، وفي إسناده عمرو بن رؤبة التغلبي قال البخاري: فيه نظر، وسئل أبو حاتم الرازي فقال: صالح الحديث. قيل تقوم به الحجة؟ فقال: لا ولكن صالح، وقال الخطابي: وهذا الحديث غير ثابت عند أهل النقل، وقال البيهقي: لم يثبت البخاري ولا مسلم هذا الحديث لجهالة بعض رواته اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث عائشة رضي الله عنها في تقبيل الميت: قال الترمذي حسن صحيح، وفي إسناده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب وقد تكلم

ص: 111

فيه غير واحد من الأئمة اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث أبي صالح عن ابن عباس في زيارة النساء القبور: قال الترمذي حديث حسن، وفيما قاله نظر، فإن أبا صالح هذا هو باذام ويقال باذان مولى أم هانئ بنت أبي طالب وهو صاحب الكلبي، وقد قيل: إنه لم يسمع من ابن عباس، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال ابن عدي: ولا أعلم أحداً من المتقدمين رضيه، وقد قيل عن يحيى بن سعيد القطان وغيرها: بخير أمره ولعله براضيه1، حجة أو قال هو ثقة اهـ.

وقال الذهبي في الميزان: باذام أبو صالح تابعي ضعفه البخاري، وقال النسائي: باذام ليس بثقة، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه تفسير. قلت: روى عن مولاته أم هانئ وأخيها علي وأبي هريرة، وعنه مالك بن مغول وسفيان الثوري وابن أخته عمار بن محمد، وقال يحيى القطان: لم أر أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى هانئ.

وقال محمد بن قيس عن حبيب بن أبي ثابت: كنا نسمي أبا صالح باذام مولى أم هانئ: دروغ زن، وقال زكريا بن أبي زائدة: كان الشعبي يمر بأبي صالح فيأخذ بأذنه فيهزها ويقول له: ويلك تفسر القرآن وأنت لا تحفظ القرآن! وقال إسماعيل بن أبي خالد: كان أبو صالح يكذب، فما سألته عن شيء إلا فسره لي.

وروى ابن إدريس عن الأعمش قال: كنا نأتي مجاهداً فنمر على أبي صالح وعنده بضعة عشر غلاماً ما نرى أن عنده شيئاً، ابن المديني سمعت يحيى بن سعيد يذكر عن سفيان قال: قال الكلبي قال لي أبو صالح: كل ما حدثتك كذب: وروى مفضل بن مهلهل عن مغيرة قال: إنما كان أبو صالح صاحب الكلبي يعلم الصبيان، وضعف تفسيره، وقال ابن معين: إذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، وقال عبد الحق في أحكامه ضعيف جداً، فأنكر هذه العبارة عليه أبو الحسن بن القطان.

1 كذا في الأصل.

ص: 112

ومنه ما قال تحت حديث عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر في باب النذر في المعصية قال الترمذي: حديث حسن، وفي إسناده عبد الله بن زحر وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قلت: قال المنذري في الترغيب والترهيب: عبيد الله بن زحر قال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن زيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد عبيد الله وعلي بن زيد والقاسم ابن عبد الرحمن لم يكن ذلك الحديث إلا مما عملت أيديهم. وقال الدارقطني: ليس بالقوي اهـ. وقال ابن عدي: يقع في أحاديثه ما لا يتابع عليه، كذا في الخلاصة.

ومنه ما قال تحت حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه في الشفعة: قال الترمذي: حسن صحيح، هذا آخر كلامه. وقد تقدم اختلاف الأئمة في سماع الحسن من سمرة، والأكثر على أنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة اهـ. قلت: قد حسن الترمذي وصحح حديث الحسن عن سمرة في غير ما موضع، ومنها حديث في الصلاة الوسطى، وحديث في السكتتين، وحديث في غسل يوم الجمعة، وحديث: نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وحديث "جار الدار أحق بدار الجار"، وحديث "لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار"، فأكثر المحدثين لم يقبلوا تصحيحه في تلك الأحاديث.

ومنه ما قال تحت حديث عمر بن حرملة عن ابن عباس في "باب ما يقول إذا شرب اللبن" قال الترمذي: حسن، وعمر بن حرملة -ويقال ابن أبي حرملة- سئل عنه أبو زرعة الرازي فقال: بصري لا أعرفه إلا في هذا الباب، وفي إسناده أيضاً علي بن زيد بن جدعان أبو الحسن البصري، وقد ضعفه جماعة من الأئمة اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} الحديث، قال الترمذي: حسن، وفي إسناده خصيف وهو ابن عبد الرحمن الجزري وقد تكلم فيه غير واحد.

ومنه ما قال في (كتاب الحمام) وأما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي وقال

ص: 113

حسن، وفي إسناده أبو يحيى القتات، واسمه عبد الرحمن بن دينار –وقيل اسمه زاذان، وقيل عمران وقيل غير ذلك- وقد تكلم فيه غير واحد اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث سهل بن معاذ بن أنس في كتاب اللباس، قال الترمذي: حسن، وسهل بن معاذ بصري ضعيف، والراوي عنه أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون بصري أيضاً لا يحتج به اهـ. قال الذهبي في الميزان: سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه ضعفه ابن معين، وقال ابن حبان في الثقات: لست أدري أوقع التخليط منه أو من صاحبه زبان بن فائد.

ومنه ما قال تحت حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان أحمران فسلم، الحديث، قال الترمذي: حسن. وفي إسناده أبو يحيى القتات وهو كوفي لا يحتج بحديثه، وقال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلم يروى بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمرو، ولا نعلم له طريقاً إلا هذه الطريق، ولا نعلم رواه عن إسرائيل إلا إسحاق بن منصور اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث أبي عبيدة وهو ابن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود في باب الأمر والنهي قال الترمذي: حسن. وقد تقدم أن أبا عبيدة ابن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، فهو منقطع اهـ. قال الحافظ في التقريب: والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث عبد الله بن محيريز عن فضالة بن عبيد في تعليق يد السارق في عنقه. قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن علي المقدمي عن الحجاج بن أرطأة. وقال النسائي: الحجاج بن أرطأة ضعيف لا يحتج بحديثه، قاله غير واحد من الأئمة.

ومنه ما قال تحت حديث عبد الله بن سراقة عن أبي عبيدة بن الجراح في الدجال، قال الترمذي: حسن، وذكر البخاري أن عبد الله بن سراقة لا يعرف له سماع من أبي عبيدة.

ومنه ما قال تحت حديث عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه في باب الصبي يولد فيؤذن

ص: 114

في أذنه، قال الترمذي: حسن صحيح، وفي إسناده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وقد غمزه الإمام مالك، وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج بحديثه، وتكلم فيه غيرهما، وانتقد عليه أبو حاتم محمد بن حبان البستي رواية هذا الحديث وغيره اهـ.

قال الحافظ في التقريب: عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي المدني ضعيف من الرابعة اهـ، قال الذهبي في الميزان عفان1 قال كان شعبة يقول: عاصم بن عبيد الله لو قلت له: من بنى مسجد البصرة؟ فيقول: أنبأنا فلان عن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بناه. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: منكر الحديث، قال الدارقطني يترك وهو مغفل، وقال ابن عدي: هو مع ضعفه يكتب حديثه، وقال العجلي: لا بأس به، وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه.

ومنه ما قال تحت حديث ابن عباس في اتباع الصيد، قال الترمذي: حسن، وفي إسناده أبو موسى عن وهب بن منبه ولا نعرفه. قال الحافظ أبو أحمد الكرابيسي: حديثه ليس بالقائم اهـ، قال الحافظ في التقريب: أبو موسى عن وهب بن منبه مجهول من السادسة اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث عامر وهو الشعبي قال أخبرني عروة بن مضرس الطائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف يعني بجمع2 قلت: جئت يا رسول الله من جبلى طيء، الحديث، قال الترمذي: حسن صحيح. هذا آخر كلامه، وقال علي بن المديني: عروة بن مضرس لم يرو عنه الشعبي. والله أعلم اهـ.

قلت: قد راجعت سنن أبي داود فوجدت فيه من رواية إسماعيل أنبأنا عامر أخبرني عروة بن مضرس. وراجعت سنن الترمذي فوجدت فيه هكذا عن داود بن أبي هند وإسماعيل بن أبي خالد وزكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن عروة بن مضرس

1 قوله عفان الخ كذا في الأصل، وليس في ترجمة عاصم في الميزان ولا في ترجمة من اسمه عفان، فلينظر أين هو وما أصله؟ وكتبه محمد رشيد

2 جمع هي مزدلفة.

ص: 115

ابن أوس بن حارثة بن لأم الطائي اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث أبي سعيد في ذكاة الجنين، قال الترمذي: حديث حسن، هذا آخر كلامه. وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني وقد تكلم فيه غير واحد اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث أبي واقد في صيد قطع منه قطعة، قال الترمذي: حسن، وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار المديني قال يحيى بن معين: في حديثه ضعف، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به اهـ. قال ابن عدي: هو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء. كذا في الخلاصة.

ومنه ما قال تحت حديث سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي في الظهار، قال الترمذي: حسن، وقال محمد -يعني البخاري-: سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلمة بن صخر، وقال البخاري أيضاً: هو مرسل، سليمان بن يسار لم يدرك سلمة بن صخر.

ومنه ما قال تحت حديث قيس بن طلق عن أبيه في السحور، أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب، وقيس هذا قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه في السواك للصائم، أخرجه الترمذي وقال: حسن. وفي إسناده عاصم بن عبيد الله وقد تكلم فيه غير واحد اهـ.

ومنه ما قال تحت حديث يونس بن عبيد مولى محمد بن القاسم قال: بعثني محمد بن القاسم إلى البراء بن عازب اهـ. في باب الرايات والألوية. قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة. هذا آخر كلامه، وأبو يعقوب الثقفي هذا كوفي، وقال ابن عدي الجرجاني: روى عنه الثقات ما لا يتابع عليه، وقال أيضاً أحاديث غير محفوظة اهـ.

قال الذهبي في الميزان: إسحاق بن إبراهيم الثقفي الكوفي عن ابن المنكدر وأبي إسحاق وعنه أبو نعيم وطائفة، قال ابن عدي: روى عن الثقات ما لا يتابع عليه اهـ.

ص: 116

وللترمذي أحاديث أخر صححها أو حسنها وليست بحرية للتصحيح والتحسين:

(منها) حديث إسماعيل بن عبيد بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه عن جده "إن التجار يبعثون فجاراً إلا من اتقى الله وبر" ما علمت روى عنه سوى عبد الله بن عثمان ابن خثيم، ولكن صحح هذا الترمذي، قاله الذهبي في الميزان.

(ومنها) أن الترمذي حسن حديث جميع بن عمير التيمي وفيه كلام شديد، قال الذهبي في الميزان: قال ابن حبان: رافضي يضع الحديث، وقال ابن نمير: كان من أكذب الناس، كان يقول الكراكي تفرخ في السماء ولا تقع فراخها، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه اهـ ملخصاً.

(ومنها) أن الترمذي صحح حديث حفص بن عبد الله عن عمران بن حصين في النهي عن التختم بالذهب، وهو حفص الليثي ما علمت روى عنه سوى أبي التياح، ففيه جهالة، قاله الذهبي في الميزان.

(ومنها) حديث حنظلة السدوسي البصري: أينحني بعضنا لبعض؟ قال يحيى القطان: تركته عمداً كان قد اختلط، وضعفه أحمد وقال: منكر الحديث يحدث بأعاجيب، وقال ابن معين: ليس بشيء، تغير في آخر عمره، وقال النسائي: ليس بقوي، وقال مرة: ضعيف. قاله الذهبي في الميزان.

(ومنها) حديث "صلاة في مسجد قباء كعمرة" في سنده زياد أبو الأبرد عن أسيد بن ظهير، وهذا حديث منكر، ورى عنه عبد الحميد بن جعفر فقط.

(ومنها) حديث "الفريعة في العدة" قال الذهبي: زينب بنت كعب بن عجرة ما روى عنها سوى سعد بن إسحاق حديث الفريعة في العدة، قال ابن حزم مجهولة، وقال ت1: تحديثها صحيح.

1 أي الترمذي، وقوله هو الصواب، وقد ذكرها بعضهم في الصحابة كما في تهذيب التهذيب. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 117

(ومنها) حديث ابن مسعود "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا"، حسنه الترمذي، مع أن في سنده سعد بن الأحزم الطائي الكوفي وهو مجهول ذكره الذهبي في الميزان فقال: تفرد عنه ولده مغيرة ا.?.

(ومنها) حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: "إذا كان غداة الإثنين فائتني أنت وولدك" الحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. أنكر هذا الحديث على رواية عبد الوهاب ابن عطاء حتى قال ابن معين: موضوع. كذا في الخلاصة.

(ومنها) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سبح مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حج حجة" الحديث، قال الذهبي في الميزان: رواه الترمذي عن محمد بن وزير وحسنه فلم يصنع شيئاً اهـ.

(ومنها) حديث عثمان في تخليل اللحية، فإن الترمذي حسنه وصححه، مع أن في سنده عامر بن شقيق ضعفه ابن معين، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال النسائي: ليس به بأس، كذا في الميزان، والراجح فيه الضعف، قال الحافظ في التقريب: لين الحديث، وقال أحمد: ليس في تخليل اللحية شيء صحيح، وقال أبو حاتم: لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخليل اللحية شيء.

(ومنها) حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة اهـ. في سنده سلمة بن الفضل الأبرش قاضي الري، وراوي المغازي عن ابن إسحاق يكنى أبا عبد الله، ضعفه ابن راهويه، قال البخاري: في حديثه بعض المناكير، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن المديني: ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديث سلمة، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال أبو زرعة: كان أهل الري لا يرغبون فيه لسوء رأيه وظلم فيه، كذا في الميزان، وقال الحافظ في التقريب: سلمة بن الفضل الأبرش بالمعجمة مولى الأنصار قاضي الري صدوق كثير الخطأ اهـ. وفي سنده حميد أيضاً وهو مدلس، وقد عنعنه، وفيه محمد بن إسحاق وهو أيضاً مدلس وقد عنعنه.

ص: 118

هذا كله كلام على تحسين الترمذي وتصحيحه، ولو سلم أن تحسين الترمذي وتصحيحه حقيق بالقبول فلا يقبل تحسينه لحديث عطية بالخصوص لظهور علة قادحة.

قال في تنقيح الأنظار: اعلم أن التصحيح على ضربين: أحدهما أن ينص على صحة الحديث أحد الحفاظ المرضيين المأمومين فقبل ذلك منه للإجماع وغيره من الأدلة الدالة على وجوب قبول خبر الآحاد كما ذلك مبين في موضعه، إلا أن تظهر علة قادحة في صحة الحديث من فسق في الراوي خفي على من صحح حديثه أو تغفل كثيراً وغير ذلك من المانع من قبول الثقات اهـ.

وقال في توضيح الأفكار: حاصله أن قبول خبر العدل بأن الحديث صحيح مقتض للعمل به ما لم يعارضه المانع. انتهى.

ومن موجبات ضعف حديث عطية العوفي أنه قد روى عنه حديثان منكران ضعيفان جداً حتى قيل إنهما موضوعان، ورجال سندهما كلهم ثقات غير عطية فهما من بلاياه:(أحدهما) ما ذكره الذهبي في الميزان في ترجمة الحكم بن فضيل ونصه: حدثنا القاسم بن زكريا عن سويد أنبأنا الحكم بن فضيل حدثنا عطية عن أبي سعيد مرفوعاً "اليدان جناح، والرجلان بريد، والأذنان قمع، والعينان دليل، واللسان ترجمان، والطحال ضحك، والرئة نفس، والكليتان مكر، والكبد رحمة، والقلب ملك، فإذا فسد الملك فسد جنوده"، قلت: وقد وثقه أبو داود، وعطية واه. قال الخطيب: الحكم بن فضيل واسطي سكن المدائن يكنى أبا محمد عن سيار أبي الحكم ويعلى بن عطاء روى عنه عاصم بن علي ومحمد بن أبان الواسطي، وقال: كان من العباد. هذا آخر كلام الذهبي، فعلم أن ضعف هذا الحديث ليس من قبل الحكم بن فضيل بل من جهة عطية.

و (ثانيهما) ما ذكره الذهبي أيضاً في الميزان في ترجمة سلام بن سليمان1 ونصه هكذا: أخبرنا عبد الرحمن بن مخلد بن كنانة أخبرنا عبد الصمد بن محمد سنة تسع

1 أي ابن سوار.

ص: 119

وستمائة أنبأنا عبد الكريم بن حمزة أنبأنا عبد العزيز بن أحمد أنبأنا تمام أنبأنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد حدثنا سلام ابن سليمان حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم السبت يوم مكر وخديعة، ويوم الأحد يوم عرس وبناء، ويوم الإثنين يوم سفر، ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس، ويوم الأربعاء يوم الأخذ والإعطاء، ويوم الخميس يوم طلب الحوائج ودخول على السلطان، ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح"، وقال النسائي في الكنى: أنبأنا العباس بن الوليد حدثنا سلام بن سليمان ثقة مدائني، وقال ابن عدي: سلام بن سليمان عامة ما يرويه حسان، إلا أن أنه لا يتابع عليه، كذا في الميزان. فعلم أن هذا البلاء ما جاء من قبل سلام بن سليمان إنما جاء من قبل عطية.

و (الثاني) أن في سنده فضيل بن مرزوق وهو ممن اختلف فيه، قال الذهبي في الميزان قال النسائي: ضعيف، وكذا ضعفه عثمان بن سعيد. قلت: كان معروفاً بالتشيع من غير سب، وقال أبو عبد الله الحاكم: فضيل بن مرزوق ليس من شرط الصحيح، عيب على مسلم إخراجه في الصحيح، وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، كان ممن يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات. قلت: عطية أضعف منه، قال ابن عدي إنه إذا وافق الثقات يحتج به، وروى أحمد بن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. انتهى ملخصاً.

وأيضاً قال في الميزان: فضيل بن مرزوق الرقاشي هو الأول روى عطية وضعف، وهم من فرّقهما اهـ. وقال أبو حاتم: صدوق يهم كثيراً يكتب حديثه ولا يحتج به كذا في التهذيب. وقال الحافظ في التقريب: صدوق يهم، ورمي بالتشيع اهـ. والقول الراجح فيه ما قاله ابن عدي من أنه إذا وافق الثقات يحتج به، وفي روايته هذا الحديث لا يعلم أحد تابعه، ومن يدعي فعليه البيان.

و (الثالث) أن في سنده الفضل بن موفق عن مسعر، ضعفه أبو حاتم، كذا في الميزان والترغيب والترهيب للمنذري والكاشف والتلخيص. فإن قلت: قد وثقه

ص: 120

ابن حبان كما ذكر المنذري في الترغيب والترهيب، قلت لا اعتداد بتوثيق ابن حبان إذا تفرد به. قال الذهبي في الميزان في ترجمة عمارة بن حديد: ولا تفرح بذكر ابن حبان له بين الثقات فإن قاعدته معروفة من الاحتجاج بمن لا يعرفه اهـ.

و (الرابع) أن الأشبه أن هذا الحديث موقوف، قال الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي الكوفي: وله عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج الرجل من بيته قال: اللهم بحق السائلين عليك وبحق ممشاي" خالفه أبو نعيم رواه عن فضيل فما رفعه، قال أبو حاتم: وقفه أشبه اهـ. والموقوف ليس بحجة عند المحققين.

و (الخامس) أن عطية مدلس وقد عنعنه فلا يقبل. فإن قلت: قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار: في كتاب الصلاة لأبي نعيم عن فضيل عن عطية قال حدثني أبو سعيد فذكره، لكن لم يرفعه، فقد أمن بذلك تدليس عطية العوفي. قلت: لا يحصل الأمن من تدليس عطية، فإن عطية يكنى محمد بن السائي الكلبي أبا سعيد، فكان إذا حدث عنه يقول حدثني أبو سعيد فيوهم أنه أبو سعيد الخدري كما تقدم. على أن الحديث على ذلك التقدير موقوف لا مرفوع، فإذا لا أظنك شاكاً في الحكم بضعف هذا الحديث، ومن ثم صدّر المنذري هذا الحديث في باب الترغيب في المشي إلى المساجد بلفظ:"روي"، وأهمل الكلام عليه في آخره، وهما عنده دلالتان للإسناد الضعيف كما قال في ديباجة الكتاب، وصرح النووي في الأذكار بضعفه، فبطل قول صاحب الرسالة1 "بسند صحيح".

قوله: وروى الحديث المذكور أيضا ابن السني بإسناد صحيح عن بلال رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج، الحديث.

أقول: القول بصحة إسناده خطأ بين، وغلط فاحش، فإن هذا الحديث أشد

1 أي المردود عليه وهو أحمد دحلان.

ص: 121

ضعفاً من حديث أبي سعيد الخدري، قال النووي في الأذكار: حديث ضعيف، أحد رواته الوازع بين نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه، وأنه منكر الحديث اهـ.

قال الحافظ في شرح الأذكار بعد تخريجه من طريق ابن السني بهذا اللفظ: هذا حديث واه أخرجه الدارقطني في الأفراد من هذا الوجه، وقال: تفرد به الوازع، وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث، قال الحافظ: والقول فيه أشد من ذلك، فقال ابن معين والنسائي: ليس بثقة، وقال أبو حاتم وجماعة: متروك، وقال الحاكم: روى أحاديث موضوعة، قال ابن عدي: أحاديثه كلها غير محفوظة.

قال الحافظ: وقد اضطرب في هذا الحديث فأخرجه أبو نعيم في اليوم والليلة من وجه آخر عنه فقال عن سالم بن عمر عن بلال –محل قوله في الطريق الأول: عن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عن بلال- قال الحافظ ولم يتابع عليه. كذا في الفتوحات الربانية. وفي (كتاب الجرح والتعديل) لأبي حاتم: الوازع بن نافع العقيلي أصله من المدينة سكن الجزيرة، يروي عن سالم بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وروى عنه أهل الجزيرة، وكان ممن يروي الموضوعات عن الثقات على قلة روايته، ويشبه أنه لم يكن المتعمد لذلك، بل وقع في روايته لكثرة وهمه، فبطل الاحتجاج به لما انفرد به عن الثقات بما ليس من أحاديثهم.

حدثنا الحنبلي قال حدثنا أحمد بن زهير عن يحيى بن معين قال: وازع بن نافع ليس بثقة، ثم نقل عنه أحاديث تكلم في إسناد بعضها بأنه موضوع أو مقلوب اهـ.

كذا في الفتوحات الربانية، وقال الذهبي في الميزان: الوازع بين نافع العقيلي الجزيري روى عن أبي سلمة وسالم بن عبد الله وعنه علي بن ثابت وبقية وجماعة، قال ابن معين: ليس بثقة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك. وقال: ليس بثقة. قال ابن عدي: عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ اهـ ملخصاً.

وقال الدارقطني في سننه: الوازع بن نافع ضعيف الحديث. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وهو ضعيف. وقال أيضاً: وهو متروك. وقال أيضاً: مجمع على ضعفه.

ص: 122

قوله: ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من التوسل أنه كان يقول في بعض أدعيته: بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي -إلى قوله- وهذا الفظ قطعة من حديث طويل رواه الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم وصححوه.

أقول: قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن أنس بن مالك قال: لما توفيت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها فقال: "رحمك الله يا أمي كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعينني، وتعرين وتكسونني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعمينني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة"، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال:"الله الذي يحيى ويميت وهو حي لا يموت، اللهم اغفر لي ولأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين" وكبر عليها وأدخلوا بها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما، رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح اهـ.

وقال الذهبي في الميزان: روح بن صلاح المصري يقال به ابن سبابة، ضعفه ابن عدي، يكنى أباب الحارث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحاكم: ثقة مأمون اهـ. فقد علم بذلك أن في سنده روح بن صلاح المصري وهو ضعيف ضعفه ابن عدي، وهو داخل في القسم المعتدل من أقسام من تكلم في الرجال كما في فتح المغيث للسخاوي، ولا اعتداد بذكر ابن حبان له في الثقات، فإن قاعدته معروفة من الاحتجاج بمن لا يعرف كما في الميزان، وقد تقدم. وكذلك لا اعتداد بتوثيق الحاكم وتصحيحه فإنه داخل في القسم المتسمح، قال السخاوي: وقسم منهم متسمح كالترمذي

ص: 123

والحاكم اهـ. قال السيوطي في تدريب الراوي: وهو متساهل، فما صححه ولم نجد فيه لغيره من المعتمدين تصحيحاً ولا تضعيفاً حكمنا بأنه حسن، إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه.

قال البدر بن جماعة: والصواب أنه يتتبع ويحكم عليه بما يليق بحاله من الحسن أو الضعف أو الصحة. ووافقه العراقي وقال: إن حكمه عليه بالحسن فقط تحكم، قال: إلا أن ابن الصلاح قال ذلك بناء على رأيه أنه انقطع التصحيح في هذه الأعصار، فليس لأحد أن يصححه، فلهذا قطع النظر عن الكشف عليه. والعجب من المصنف كيف وافقه هنا مع مخالفته له في المسألة المبني عليها كما سيأتي اهـ.

وليعلم أن في هذا الباب أيضا حديث أبي أمامة فيه: "أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك" رواه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه فضالة بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه اهـ. قال الذهبي في الميزان: فضالة بن جبير أبو المهند الغداني صاحب أبي أمامة، قال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة، وقال ابن حبان لا يحل الاحتجاج به بحال، يروي أحاديث لا أصل لها، وروى الكناني عن أبي حاتم الرازي قال: ضعيف الحديث. انتهى ملخصاً.

وفي الباب حديث أن ابن عباس قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه1 قال: "سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت عليّ، فتيب عليه"، قال الدارقطني: تفرد به عمرو بن ثابت، وقد قال يحيى: إنه لا ثقة ولا مأمون، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، كذا في الفوائد المجموعة للشوكاني. قال الذهبي في الميزان: عمرو بن ثابت أبي المقدام بن هرمز الكوفي يكنى أبا ثابت، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقة ولا مأمون، وقال النسائي:

1 إن الله تعالى قد بين الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فدعا بها هو وحواء بقوله {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وهذا أقوى رد للمتن الذي رواه هذا الوضاع المجوسي الأصل من غلاة الرافضة، وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 124

متروك الحديث، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، وقال أبو داود: رافضي، وقال البخاري ليس بالقوي عندهم.

وقال هناد: كتبت عنه كثيراً فبلغني أنه كان عند حبان بن علي فأخبرني من سمعه يقول: كفر الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة، فقيل لحبان: ألا تنكر عليه؟ فقال حبان: هو جليسنا. ولما تكلم عمرو بهذا أخذ يتنادم1 يعني حبان. وقال ابن المبارك: لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف. وقال الفلاس: سألت عبد الرحمن عن حديث لعمرو بن ثابت فأبى أن يحدث عنه. وروى معاوية ابن صالح عن يحيى قال: عمرو بن ثابت لا يكذب في حديثه. وفي سؤالات الآجري أبا داود عنه فقال: رافضي خبيث. وقد روى إسماعيل بن أبي خالد وسفيان عنه كذا. انتهى ملخصاً.

قوله: ومن الأحاديث الصحيحة التي جاء التصريح فيها بالتوسل ما رواه الترمذي والنسائي والبيهقي والطبراني بإسناد صحيح عن عثمان بن حنيف وهو صحابي مشهور رضي الله تعالى عنه أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادع الله أن يعافيني" فقال: "إن شئت دعوت وإن شئت صبرت وهو خير" قال فادعه. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد أني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى، اللهم شفعه فيّ"، فعاد وقد أبصر، إلى قوله: ففي هذا الحديث التوسل والنداء أيضاً.

أقول: في سنده أبو جعفر، فإن كان هو عيسى بن أبي عيسى ماهان أبو جعفر الرازي التميمي –كما ظنه الحافظ ابن حجر في التقريب- فالأكثرون على ضعفه. قال الذهبي في الميزان: عيسى بن أبي عيسى ماهان الرازي صالح الحديث، روى عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وقتادة وجماعة، ولد بالبصرة واستوطن الري. روى عنه ابنه عبد الله وأبو نعيم وأبو أحمد الزبيري وعلي بن الجعد وآخرون، قال ابن معين:

1 كذا في الأصل المطبوع، والتنادم تفاعل من المنادمة على الشراب، فالظاهر أن أصله يتندم من الندم. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 125

ثقة، وقال أحمد والنسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن المديني: ثقة كان يخلط. وقال مرة: يكتب حديثه، إلا أنه يخطئ. وقال الفلاس: سيء الحفظ. وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير. وقال أبو زرعة: يهم كثيراً. وروى حاتم بن إسماعيل وهاشم أبو النضر وحجاج بن محمد وغيره عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً طويلاً في المعارج وفيه ألفاظ منكرة اهـ.

وقال الحافظ في التقريب في ترجمة الرازي التميمي: أبو جعفر الرازي التميمي مولاهم مشهور بكنيته، واسمه عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان، وأصله من مرو وكان يتجر إلى الري، صدوق سيء الحفظ خصوصاً عن مغيرة، من كبار السابعة مات في حدود الستين اهـ.

وقال في الكاشف: أبو جعفر الرازي مولى تميم عيسى بن أبي عيسى مروزي يتجر إلى الري، عن عطاء وابن المنكدر، وعنه ابنه عبد الله وأبو أحمد الزبير وعبد الرحمن الفتكي، قال أبو زرعة: يهم كثيراً، وقال النسائي: ليس بالقوي، ووثقه أبو حاتم اهـ.

قال في الخلاصة: أبو جعفر التميمي مولاهم الرازي اسمه عيسى عن عطاء وعمرو بن دينار وقتادة، وعنه أبو عوانة وشعبة، وقال ابن معين: ثقة، قال الفلاس: سيء الحفظ، قال ابن المديني: يخلظ عن المغيرة اهـ.

وإن كان أبا جعفر المدني كما في سنن ابن ماجه –ولكن النسخة التي رأيت فيها سقيمة جداً- فهو مجهول لأن الذهبي قال في الميزان في ترجمته: روى عنه يحيى بن أبي كثير وحده. على أن قول الذهبي هذا يرد هذا الاحتمال، فإن الراوي عنه في الحديث المتنازع فيه هو شعبة لا يحيى بن أبي كثير.

وأما ما في التقريب من أن أبا جعفر المؤذن الأنصاري المدني مقبول من الثالثة، ومن زعم أنه محمد بن علي بن الحسين فقد وهم انتهى، وما في الخلاصة ومن أن أبا جعفر الأنصاري المؤذن المدني عن أبي هريرة، وعنه يحيى بن أبي كثير حسن الترمذي حديثه اهـ، فلا تقتضى أنه ممن يحتج به، فإن لفظ مقبول من ألفاظ المرتبة

ص: 126

السادسة التي يكتب حديثها للاعتبار لا للاحتجاج بها، وتحسين الترمذي لا يغني عنك شيئاً لما قد عرفت فيما تقدم من الكلام فيه. على أنه لا يعرف رواية شعبة عن أبي جعفر المدني هذا، ولا رواية أبي جعفر هذا عن عمار بن خزيمة.

وإن كان رجلاً آخر فلا بد من تعيينه حتى ينظر فيه، فإن قلت قال الترمذي حديث حسن صحيح، ورواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، كذا في الترغيب والترهيب للمنذري، قلت: قد عرفت ما في تصحيح الترمذي والحاكم من التساهل، وأما رواية ابن خزيمة في صحيحه فلا تقتضي الصحة مطلقاً.

قال في توضيح الأفكار: ونقل العماد ابن كثير أيضاً أن ابن حبان وابن خزيمة التزما الصحة وهما خير من المستدرك بكثير وأنظف إسنادا ومتونا، وعلى كل حال فلا بد للمتأهل من الاجتهاد والنظر ولا يقلد هؤلاء ومن نحا نحوهم، فكم حكم ابن خزيمة بالصحة لما لا يرتقي عن رتبة الحسن، بل فيما صححه الترمذي من ذلك جملة، مع أنه يفرق بين الحسن والصحيح اهـ. قلت: فلا تأخذ ما قاله المصنف والزين وغيرهما مما ذكروه حكماً كلياً اهـ.

قوله: وليس لمنكر التوسل أن يقول إن هذا إنما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن قوله ذلك غير مقبول، لأن هذا الدعاء استعمله الصحابة رضي الله عنهم والتابعون أيضاً بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لقضاء حوائجهم، فقد روى الطبراني والبيهقي أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في زمن خلافته في حاجة، فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه في حاجته، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف الراوي للحديث المذكور فقال: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضى حاجتي. وتذكر حاجتك"، إلى قوله: فهذا توسل ونداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

أقول: هذا الحديث قال الطبراني عقبه والحديث صحيح بعد ذكر طرقه التي روى بها، كذا في مجمع الزوائد والترغيب والترهيب للمنذري، ولكن في سنده روح بن

ص: 127

صلاح وقد ضعفه ابن عدي كما تقدم.

قوله: وروى البيهقي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضي الله عنه، فجاء بلال بن الحارث رضي الله عنه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبره أنهم يسقون.

أقول: قال الحافظ في الفتح: وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري وكان خازن عمر رضي الله عنه قال: أصاب الناسَ قحط في زمن عمر رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر الحديث. وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة. انتهى. فعلم أن ما روي بإسناد صحيح ليس فيه أن الجائي أحد الصحابة، وما فيه أن الجائي أحد الصحابة ضعيف غاية الضعف.

قال الذهبي في الميزان: سبق بن عمر الضبي الأسدي –ويقال التميمي البرجمي ويقال السعدي الكوفي- مصنف الفتوح والردة وغير ذلك هو كالواقدي يروي عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر وجابر الجعفي وخلق كثير من المجهولين، كان أخباريا عارفا، روى عنه عبادة بن المفلس وأبو معمر القطيعي والنضر بن حماد العتكي وجماعة، قال عباس عن يحيى: ضعيف، وروى مطين عن يحيى: فليس خير منه، قال أبو داود: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: متروك، وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة، وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر. مكحول البيروتي: سمعت جعفر بن أبان سمعت ابن نمير يقول: سيف الضبي تميمي، كان جميع يقول: حدثني رجل من بني تميم كان سيف يضع الحديث وقد اتهم بالزندقة. انتهى ملخصاً.

قال الحافظ في التقريب: سيف بن عمر التميمي صاحب الردة –ويقال له الضبي ويقال غير ذلك- الكوفي ضعيف في الحديث، عمدة في الأخبار. أفحش ابن حبان القول فيه اهـ. وقال الذهبي في الكاشف: قال ابن معين وغيره ضعيف.

ص: 128

وقال في الخلاصة: سيف بن عمر الأسدي الكوفي صاحب الردة عن جابر الجعفي وأبي الزبير، وعنه محمد بن عيسى الطباع وأبو معمر الهذلي ضعفوه اهـ.

قوله: وحديث توسل آدم عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم رواه البيهقي بإسناد صحيح في كتابه المسمى "دلائل النبوة" الذي قال فيه الحافظ الذهبي: عليك به فإنه كله هدى ونور، فرواه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا ما غفرت لي"، إلى قوله: رواه الحاكم وصححه والطبراني.

أقول: العجب من المؤلف أنه ينقل عن الذهبي ما قال في وصف (كتاب دلائل النبوة) ولم يذكر ما قال في حق الحديث بالخصوص. قال الذهبي في الميزان: عبد الله ابن مسلم أبو الحارث الفهري عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً فيه "يا آدم لولا محمد ما خلقتك" رواه البيهقي في دلائل النبوة. قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وفيه من لم أعرفهم اهـ.

قال في الصارم المنكي: وإني لأتعجب منه كيف قلد الحاكم فيما صححه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الذي رواه في التوسل وفيه قول الله لآدم "ولولا محمد ما خلقتك"، مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث ضعيف الإسناد جداً، وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع، وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن ابن زيد بصحيح بل هو مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه، ولو كان صحيحاً إلى عبد الرحمن لكان ضعيفاً غير محتج به، لأن عبد الرحمن في طريقه، وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه وتناقض تناقضاً فاحشاً كما عرف له ذلك في موضع، فإنه قال في كتاب الضعفاء بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم، وقال ما حكيته عنه فيما تقدم أنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه. قال في آخر هذا الكتاب: فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة، فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح

ص: 129

لا أستحله تقليداً. والذي أختاره لصاحب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" هذا كله كلام الحاكم أبي عبد الله صاحب المستدرك، وهو متضمن أن عبد الرحمن بن زيد قد ظهر له جرحه بالدليل، وأن الراوي لحديثه داخل في قوله صلى الله عليه وسلم:"من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".

ثم إنه رحمه الله لما جمع المستدرك على الشيخين ذكر فيه من الأحاديث الضعيفة والمنكرة –بل والموضوعة- جملة كثيرة، وروى فيه لجماعة من المجروحين الذين ذكرهم في كتابه في الضعفاء، وذكر أنه تبين له جرحهم، وقد أنكر عليه غير واحد من الأئمة هذا الفعل، وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره فلذلك وقع منه ما وقع، وليس ذلك ببعيد.

ومن جملة ما أخرجه في المستدرك حديث لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب في التوسل، قال بعد روايته: هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب. فانظر إلى ما وقع للحاكم في هذا الموضع من الخطأ العظيم، والتناقض الفاحش.

ثم إن هذا المعترض المخذول1 عمد إلى هذا الذي أخطأ فيه الحاكم وتناقض فقلده فيه، واعتمد عليه، وأخذ في التشنيع على من خالفه، فقال: والحديث المذكور لم يقف ابن تيمية عليه بهذا الإسناد ولا بلغه أن الحاكم صححه2 ولو بلغه أن الحاكم صححه لما قال ذلك، يعني أنه كذب. ولنعرض للجواب عنه. قال وكأني به إن بلغه بعد ذلك يطعن في عبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي الحديث، ونحن نقول قد

1 أي السبكي.

2 زاد في شفاء السقام هنا ما نصه: فإنه قال أعني ابن تيمية: أما ما ذكره في قصة آدم من توسله فليس له أصل ولا نقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد يصلح للاعتماد عليه ولا الاعتبار ولا الاستشهاد، ثم ادعى ابن تيمية أنه كذب وأطال الكلام في ذلك جداً بما لا حاصل تحته بالتوهم والتخرص اهـ.

ص: 130

اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم، وذكر قبل ذلك بقليل أنه مما تبين له صحته، فانظر رحمك الله إلى هذا الخذلان البين والخطأ الفاحش، كيف جاء هذا المعترض إلى حديث غير صحيح ولا ثابت –بل هو حديث موضوع- فصححه، واعتمد عليه، وقلد في ذلك الحاكم مع ظهور خطأه وتناقضه، ومع معرفة هذا المعترض لضعف راويه وجرحه واطلاعه على الكلام المشهور فيه، وأخذ مع هذا التشنيع على من رد هذا الحديث المنكر ولم يقبله، ويبالغ في تخطئته وتضليله.

وليس المقصود هنا الكلام على ضعف هذا الحديث، ومناقشة المعترض على ما وقع منه من الكلام عليه بغير علم، وإنما أشرنا إلى ذلك إشارة لما أخذ المعترض يقوي أمر عبد الرحمن بن زيد عند ذكر الحديث المروي عنه في الزيارة اهـ.

قال الترمذي في جامعه تحت حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقيء، والاحتلام"، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم يضعف في الحديث، سمعت أبا داود السجزي يقول: سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فقال: أخوه عبد الله بن زيد لا بأس به، وسمعت محمداً يذكر عن علي بن عبد الله قال: عبد الله بن زيد بن أسلم ثقة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف، قال محمد1 ولا أروي عنه شيئاً اهـ. قال السيوطي في مناهل الصفا في تحريج أحاديث الشفا: حديث أن آدم قال عند معصيته الحديث عند البيهقي والطبراني من حديث عمر رضي الله عنه بسند ضعيف اهـ.

قوله وإلى هذا التوسل أشار الإمام مالك رضي الله عنه للخليفة المنصور، وذلك أنه لما حج المنصور وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم سأل الإمام مالكاً رضي الله عنه وهو بالمسجد النبوي فقال لمالك: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له الإمام مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ

1 أي البخاري.

ص: 131

الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . ذكره القاضي عياض في الشفاء وساقه بإسناد صحيح.

أقول: قال في الصارم المنكي: وهذه الحكاية التي ذكره القاضي عياض ورواها بإسناده عن مالك ليست بصحيحة عنه، وقد ذكر المعترض في موضع من كتباه أن إسنادها إسناد جيد، وهو مخطئ في هذا القول خطأ فاحشا، بل إسنادها ليس بجيد، بل إسناد مظلم منقطع، وهو مشتمل على من يتهم بالكذاب، وعلى من يجهل حاله.

وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه، بل روايته منقطعة غير متصلة، وقد ظن المعترض أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقات المخرج لهم في صحيح مسلم، قال: فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك، وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشاً، ووهم وهما قبيحاً، فإن محمد بن حميد المعمري رجل متقدم لم يدركه يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل راوي الحكاية عن ابن حميد بل بينهما مفازة بعيدة. وقد روى المعمري عن هشام بن حسان ومعمر والثوري وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة قبل أن يولد يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل. وأما محمد بن حميد الرازي فإنه في طبقة الرواة عن المعمري كأبي خيثمة وابن نمير وعمرو الناقد وغيرهم، وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين ومائتين، فرواية يعقوب بن إسحاق عنه ممكنة، بخلاف روايته عن المعمري فإنها غير ممكنة.

وقد تكلم في محمد بن حميد الرازي، -وهو الذي رويت عنه هذه الحكاية- غير واحد من الأئمة، ونسبه بعضهم إلى الكذب. قال يعقوب بن شيبة السدوسي: محمد ابن حميد الرازي كثير المناكير. وقال البخاري: حديثه فيه نظر، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: رديء المذهب، غير ثقة.

وقال فضلك الرازي: عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث لا أحدث عنه بحرف. وقال أبو العباس أحمد بن محمد الأزهري سمعت إسحاق بن منصور يقول: أشهد

ص: 132

على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان.

وقال صالح بن محمد الحافط: كان كل ما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران، وما بلغه من حديث منصور يحيله على عمرو بن قيس، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء وعلى عنبسة، ثم قال: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه.

وقال في موضع آخر: كان أحاديثه تزيد، وما رأيت أحداً أجرأ على الله منه، وكان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضها على بعض.

وقال في موضع آخر: ما رأيت أحداً أحذق بالكذب من رجلين، سليمان الشاذكوني، ومحمد بن حميد الرازي، كان يحفظ حديثه كله، وكان حديثه كل يوم يزيد.

وقال أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد الكريم الرازي ابن أخي أبي زرعة: سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد فأومأ بأصبعه إلى فمه، فقلت له كان يكذب؟ فقال برأسه: نعم. قلت له: قد شاخ، لعله كان يعمل عليه ويدلس عليه؟ فقال: لا يا بني، كان يتعمد.

وقال أبو حاتم الرازي: حضرت محمد بن حميد وحضره عون بن جرير، فجعل ابن حميد يحدث بحديث عن جرير فيه شعر، فقال عون: ليس هذا الشعر في الحديث، إنما هو من كلام أبي. فتغافل ابن حميد فمر فيه.

وقال أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي: سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي في منزله وعنده عبد الرحمن بن يوسف بن خراش وجماعة من مشايخ أهل الري وحفاظهم للحديث، فذكروا ابن حميد، فأجمعوا على أنه ضعيف في الحديث جداً، وأنه يحدث بما لم يسمعه وأنه يأخذ أحاديث لأهل البصرة والكوفة فيحدث بها عن الرازيين.

وقال أبو العباس بن سعيد سمعت داود بن يحيى يقول: حدثنا عنه – يعني محمد بن حميد- أبو حاتم قديماً ثم تركه بأخرة قال: سمعت عبد الرحمن بن يوسف بن خراش

ص: 133

يقول: حدثنا ابن حميد، وكان والله يكذب. وقال أبو حاتم بن حبان البستي في كتاب الضعفاء: محمد بن حميد الرازي، كنيته أبو عبد الله، يروي عن ابن المبارك وجرير، حدثنا عنه شيوخنا، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين، كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات، ولا سيما إذا حدث عن شيوخ بلده، سمعت إبراهيم بن عبد الواحد البغدادي يقول قال صالح بن أحمد بن حنبل: كنت يوماً عند أبي إذ دق عليه الباب، فخرجت فإذا أبو زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة يستأذنان على الشيخ، فدخلت وأخبرته فأذن لهم، فدخلوا وسلموا عليه، فأما ابن وارة فباس يده فلم ينكر عليه ذلك، وأما أبو زرعة فصافحه، فتحدثوا ساعة، فقال ابن وارة: يا أبا عبد الله إن رأيت تذكر حديث أبي القاسم بن أبي الزناد فقال نعم حدثنا، أبو القاسم بن أبي الزناد عن إسحاق بن حازم عن ابن مقسم –يعني عبيد الله- عن جابر ابن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر فقال:"هو الطهور ماؤه، الحلال ميتته"، وقام فقالوا ما له؟ قلنا: شك في شيء، ثم خرج والكتاب بيده، فقال في كتابه "ميته" بتاء واحدة، والناس يقولون:"ميتته". ثم تحدثوا ساعة فقال له ابن وارة: يا أبا عبد الله رأيت محمد بن حميد؟ قال: نعم، قال كيف رأيت حديثه؟ قال: إذا حدث عن العراقيين يأتي بأشياء مستقيمة، وإذا حدث عن أهل بلده مثل إبراهيم ابن المختار وغيره أتى بأشياء لا تعرف، لا يدرى ما هي. قال فقال أبو زرعة وابن وارة: صح عندنا أنه يكذب. قال: فرأيت أبي بعد ذلك إذا ذكر ابن حميد نفض يده.

وقال العقيلي في (كتاب الضعفاء) : حدثني إبراهيم بن يوسف قال: كتب أبو زرعة ومحمد بن مسلم عن محمد بن حميد حديثاً كثيراً، ثم تركا الرواية عنه، وقال الحاكم أبو أحمد في (كتاب الكنى) : أبو عبد الله محمد بن حميد الرازي ليس بالقوي عندهم، تركه أبو عبد الله محمد بن يحيى الذهلي، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة.

فإذا كانت هذه حال محمد بن حميد الرازي عند أئمة هذا الشأن، فكيف يقال

ص: 134

في حكاية رواها منقطعة إن إسنادها إسناد جيد، مع أن في طريقها إليه من ليس بمعروف؟ وقد قال المعترض بعد أن ذكر هذه الحكاية وتكلم على رواتها: فانظر هذه الحكاية وثقة رواتها، وموافقتها لما رواه ابن وهب عن مالك. هكذا قال، والذي حمله على ارتكاب هذه السقطة قله علمه وارتكاب هواه، نسأل الله التوفيق.

والذي ينبغي أن يقال: فانظر هذه الحكاية وضعفها وانقطاعها ونكارتها، وجهالة بعض رواتها، ونسبة بعضهم إلى الكذب، ومخالفتها لما يثبت عن مالك وغيره من العلماء اهـ.

وقال الذهبي في الميزان: محمد بن حميد الرازي الحافظ عن يعقوب القمي وابن المبارك من بحور العلم وهو ضعيف. قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال البخاري: فيه نظر، وكذبه أبو زرعة. وقال فضلك الرازي: عند ابن حميد خمسون ألف حديث، ولا أحدث عنه بحرف. وروى محمد بن شاذان عن إسحاق الكوسج قال: قرأ علينا ابن حميد كتاب المغازي عن سلمة، فقلت له: قرأه عليه ابن حميد –يعني عن سلمة- فتعجب علي وقال سمعه محمد بن حميد مني، وعن الكوسج قال أشهد أنه كذاب. وقال صالح جزرة: كنا نتهم ابن حميد في كل شيء يحدثنا، ما رأيت أجرأ على الله منه، كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضها على بعض. وقال ابن خراش: حدثنا ابن حميد، وكان والله يكذب. وجاء عن غير واحد: كان يسرق الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب من ابن حميد ومن ابن الشاذكوني.

وقال أبو علي النيسابوري: قلت لابن خزيمة لو أخذت الإسناد عن ابن حميد فإن أحمد بن حنبل قد أحسن الثناء عليه. قال: إنه لم يعرفه، ولو عرفه كما عرفناه لما أثنى عليه أصلاً. وقال أبو أحمد العسال: سمعت فضلك الرازي يقول دخلت على محمد بن حميد وهو يركب الأسانيد على المتون.

قلت: ولم يكن يحفظ القرآن، فقد قال محمد بن جرير الطبري فيما صح عنه قال: قرأ علينا محمد بن حميد الرازي {لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوك} . وقال أبو بكر الصنعاني: حدثنا محمد بن حميد، فقيل له: أتحدث عنه؟ فقال: وما لي لا أحدث عنه

ص: 135

وقد حدث عنه أحمد بن حنبل وابن معين. وقال أبو زرعة من فاته محمد بن حميد يحتاج أن يترك في عشرة آلاف حديث. ومن آخر أصحاب ابن حميد أبو القاسم البغوي وابن جرير الطبري. مات سنة ثمان وأربعين ومائتين اهـ.

قوله: وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} : أن من جملة تلك الكلمات توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم حين قال يا رب أسألك بحرمة محمد إلا ما غفرت لي.

أقول قد عرفت فيما تقدم أن هذه الرواية ليست صالحة لأن يحتج بها على حكم من أحكام الشريعة.

قوله: واستسقى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمن خلافته بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم.

أقول: هذا الحديث مما لا شك في صحته، ولكنه بمعزل عما نتكلم فيه، فإن الكلام في التوسل بالأموات وهذا التوسل بدعاء الأحياء، وهو مما لا نزاع فيه. قال في الصارم: وقد أجدب الناس على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستسقى بالعباس رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عمر استسقى بالعباس رضي الله عنه وقال:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون"، فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهم إنما كان يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم فيدعو لهم ويدعون معه، كالإمام والمأمومين من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق، ولما مات صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به اهـ.

قال الحافظ في الفتح: وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبته، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة،

ص: 136

فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس اهـ.

قوله: وفعلُ عمر رضي الله تعالى عنه حجة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه.

أقول: فيه كلام من وجوه: (الأول) أن في سنده خارجة بن عبد الله الأنصاري، وهو ضعيف، ضعفه أحمد، قال الذهبي في الكاشف: خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبيه ونافع، وعنه معن والقضبي، ضعفه أحمد. توفي سنة 165هـ.

وقال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام من السابعة مات سنة خمس وستين1 اهـ.

و (الثاني) أن جعل الحق على لسان عمر وقلبه لا يستلزم كون فعله رضي الله عنه حجة، ومن يدعيه فعليه البيان.

و (الثالث) أن المقصود أن الله تعالى أجرى الحق على لسان عمر رضي الله عنه في وقائع، كما قال ابن عمر راوي الحديث: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه، وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر، ويقويه الحديث المتفق عليه عن أنس وابن عمر أن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} . وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة، فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت كذلك. وفي رواية لابن عمر قال: قال عمر وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر.

قال الحافظ في الفتح: قوله وافقت ربي في ثلاث اهـ أي وقائع، والمعنى وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت. لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه، أو أشار إلى حدوث رأيه وقدم الحكم. وليس في تخصيصه العدد بالثلاث ما ينفي الزيادة عليها، لأنه حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه من مشهور قصة أسارى بدر، وقصة الصلاة على المنافقين، وهما في الصحيح.

1 أي بعد المائة.

ص: 137

وصحح الترمذي من حديث ابن عمر أنه قال: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه، وقال فيه عمر أو قال ابن الخطاب فيه –شك خارجة- إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر، وهذا دال على كثرة موافقته، وأكثر ما وقفنا منها بالتعيين على خمسة عشر لكن ذلك بحسب المنقول اهـ.

وجملة القول أن هذا الحديث على تقدير ثبوته ليس معناه إلا ما روى في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر"، وفقي رواية:"لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر".

قال الحافظ في الفتح: قوله "محدثون" بفتح الدال جمع محدث، واختلف في تأويله، فقيل ملهم قاله الأكثر، قالوا المحدث بالفتح هو الرجل الصادق الظن، وهو من ألقى في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره به، وبهذا جزم أبو أحمد العسكري. وقيل من يجري الصواب على لسانه من غير قصد. وقيل مكلم أي تكلمه الملائكة بغير نبوة. وهذا ورد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً ولفظه:"قيل يا رسول الله وكيف يحدث؟ قال تتكلم الملائكة على لسانه" رويناه في فوائد الجوهري، وحكاه القابسي وآخرون، ويؤيده ما ثبت في الرواية المعلقة ويحتمل رده إلى المعنى الأول أي تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام، وفسره ابن التين بالتفرس. ووقع في مسند الحميدي عقب حديث عائشة: المحدث الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه.

وعند مسلم من رواية ابن وهب "ملهمون" وهي الإصابة بغير نبوة، وفي رواية الترمذي عن بعض أصحاب ابن عيينة "محدثون" يعني مفهمون.

وفي رواية الإسماعيلي قال إبراهيم –يعني ابن سعد- رواية قوله "محدث" أي يلقى في روعه اهـ. ويؤيده حديث "إن الله جعل الحق على لسان عمر قلبه" أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر وأحمد من حديث أبي هريرة والطبراني من حديث بلال،

ص: 138

وأخرجه في الأوسط من حديث معاوية، وفي حديث أبي ذر عند أحمد وأبي داود يقول به بدل قوله وقلبه، وصححه الحاكم، وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عمر نفسه اهـ.

وأيضاً قال في الفتح: وقوله "وإن يك في أمتي"، قيل لم يورد هذا القول مورد الترديد، فإن أمته أفضل الأمم، وإذا ثبت أن ذلك وجد في غيرهم فإمكان وجوده فيهم أولى، وإنما أورد مورد التأكيد كما يقول الرجل إن يكن لي صديق فإنه فلان يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء، ونحوه قول الأجير: إن كنت عملت لك توفني حقي، وكلاهما عالم، لكن مراد القائل إن تأخيرك حقي عمل من عنده شك في كوني عملت. وقيل الحكمة فيه أن وجودهم في بني إسرائيل قد تحقق وقوعه، وسبب ذلك احتياجهم حيث لا يكون حينئذ فيهم نبي، واحتمل عنده صلى الله عليه وسلم أن لا تحتاج هذه الأمة إلى ذلك لاستغنائها بالقرآن عن حدوث نبي، وقد وقع الأمر كذلك حتى أن المحدث منهم إذا تحقق وجوده لا يحكم بما وقع له، بل لا بد له من عرضه على القرآن، فإن وافقه أو وافق السنة عمل به وإلا تركه، وهذا وإن جاز أن يقع لكنه نادر ممن يكون أمره مبنياً على اتباع الكتاب والسنة، وتمحضت الحكمة في وجودهم وكثرتهم بعد العصر الأول في زيادة شرف هذه الأمة لوجود أمثالهم فيها، وقد تكون الحكمة في تكثيرهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم، فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيها -لكون نبيها خاتم الأنبياء- عوضوا بكثرة الملهمين اهـ.

وأيضاً قال فيه: والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها، ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات. انتهى.

إذا عرفت هذا فقد علمت أن معنى ما ورد في الصحيح عند الأكثر أنه ملهم، وعند البعض أنه ممن يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وعند البعض أنه مكلم تكلمه الملائكة بغير نبوة. وقد رده الحافظ إلى المعنى الأول، وعند البعض أنه

ص: 139

متفرس، وعلى كل تقدير لا يحكم بما وقع للمحدث، بل لا بد له من عرضه على الكتاب والسنة.

ومن ثم أجمع أهل السنة على أن إلهام غير النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحجة، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل حديث ابن عمر المذكور، وليس الغرض أن الله جعل الحق في كل حادثة وواقعة على لسان عمر وقلبه، وأن فعله وقوله حجة شرعية، وأنه لا يقع منه خطأ قط، وإلا لما خالفة ونازعه أحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل الحديث والفقه. (والثاني) باطل فإن مخالفات الصحابة والتابعين وغيرهم لعمر رضي الله عنه أكثر من أن تكتب في هذا المختصر، وأشهر من أن تخفى على من له إلمام بصحف الحديث والأثر، فالمقدم مثله.

ويا لله العجب كيف يصح القول بحجية فعل عمر رضي الله عنه عموماً كما زعم هذا المؤلف، فقد أخطأ عمر رضي الله عنه في مسائل:

(منها) عدم جواز التيمم عنده لمن أجنب فلم يجد الماء.

(ومنها) عدم جواز التمتع في الحج عنده.

(ومنها) قوله رضي الله عنه: إن لمعتدة الثلاث السكنى والنفقة.

وإذ قد ثبت من عبارة الفتح أن الحديث المتنازع فيه قد روي بطرق كثيرة، فلا بأس أن نذكر منها ما وقفنا عليه، ونتكلم عليه بالعدل والإنصاف فنقول:

أما حديث ابن عمر فقد رواه الترمذي، وفي سنده خارجة بن عبد الله الأنصاري ضعفه أحمد، له أوهام، كذا في الكاشف والتقريب. ولكن حسنه الترمذي وصححه، وقد عرفت فيما سلف ما في تحسين الترمذي وتصحيحه من التساهل.

وأما حديث أبي هريرة، فقد رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار رجال الصحيح، غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة، كذا في مجمع الزوائد.

قال الذهبي في الميزان: جهم بن أبي الجهم عن ابن جعفر بن أبي طالب وعنه محمد بن إسحاق، لا يعرف له قصة حليمة السعدية اهـ. فعلم أن جهماً هذا مجهول.

ص: 140

وأما حديث بلال فقد رواه الطبراني، وفيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الحمصي، يقال اسمه بكر، وقيل بكير، وقيل عمرو وقيل عامر وقيل عبد السلام، ضعيف عندهم. قلت: وكان من العباد، عن راشد بن أسعد وخالد بن معدان، وعنه بقية وأبو اليمان وطائفة، ضعفه أحمد وغيره لكثرة ما يغلط، وكان أحد أوعية العلم، وقال ابن حبان: رديء الحفظ لا يحتج به إذا انفرد.

قال بقية: قال لنا رجل في قرية أبي بكر وهي كثيرة الزيتون: ما في هذه القرية شجرة إلا وقد أقام أبو بكر إليها ليلة جمعا، وقال آخر: كان كثير البكاء، وقال الجوزجاني: هو متماسك، وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة ولا يحتج به، وقال يزيد بن عبد ربه: مات سنة ست وخمسين ومائة. وله حديث آخر منكر جداً.

قال أبو داود سُرق لأبي بكر بن أبي مريم حلى فأنكر عقله، وسمعت أحمد يقول: ليس بشيء اهـ ملخصاً.

قال الحافظ في التقريب: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي، وقد ينسب إلى جده، قيل اسمه بكير وقيل عبد السلام ضعيف. وكان قد سرق بيته فاختلط، من السابعة، مات سنة ست وخمسين اهـ.

وقال الذهبي في الكاشف: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني اسمه بكير وقيل عبد السلام، عن خالد بن معدان ومكحول، وعنه ابن المبارك وأبو اليمان ضعفوه، وله علم وديانة اهـ.

وأما حديث معاوية قد رواه الطبراني وفيه ضعفاء، سليمان الشاذكوني وغيره، كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: سليمان بن داود المنقري الشاذكوني البصري الحافظ أبو أيوب، لقي حماد بن زيد وجعفر بن سليمان فمن بعدهما، قال البخاري: فيه نظر، وكذبه ابن معين في حديثه ذكر له عنه، وقال عبدان الأهوازي: معاذ الله أن يتهم، إنما كانت كتبه قد ذهبت فكان يحدث من حفظه، وقال ابن عدي: كان أبو يعلى والحسن بن سفيان إذا حدثا عنه يقولان: حدثنا سليمان أبو أيوب، ولم يزيدا فيدلسانه ويسترانه.

ص: 141

وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال يحيى بن معين: قال لنا سيمان الشاذكوني هاتوا حرفاً من رأي الحسن البصري لا أحفظه، وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: كان أعلمنا بالرجال يحيى بن معين وأحفظنا للأبواب الشاذكوني، وكان ابن المديني أحفظنا للطوال، وقال صالح بن محمد الحافظ: ما رأيت أحفظ من الشاذكوني، وكان يكذب في الحديث، وقال أحمد: جالس الشاذكوني حماد بن زيد وبشر بن المفضل ويزيد بن زريع فما نفعه الله بواحد منهم، وقيل كان يتعاطى المسكر ويتماجن، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين، وقال ابن عدي: قال محمد بن موسى السواق قال ابن الشاذكوني لما حضرته الوفاة: اللهم من اعتذر إليك فإني لا أعتذر إليك ما قذفت محصنة، ولا دلست حديثاً، وساق له ابن عدي أحاديث خولف فيها ثم قال: وللشاذكوني حديث كثير مستقيم، وهو من الحفاظ المعدودين ما أشبه أمره بما قال عبدان: يحدث حفظاً فيغلط. اهـ.

وأما حديث عمر بن الخطاب فقد رواه الطبراني في الأوسط، وفيه علي بن سعيد المقيري العقاري ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد وثق وفيه ضعف، كذا في مجمع الزوائد، قال الحافظ في التقريب: عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني أبو صالح المصري كاتب الليث، صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة، من العاشرة مات سنة اثنتين وعشرين وله خمس وثمانون سنة. اهـ.

وقال الذهبي في الكاشف: عبد الله بن صالح الجهني مولاهم كاتب الليث، عن معاوية بن صالح وموسى بن علي، وعنه البخاري تعليقاً، والأصح أنه أيضاً روى عنه في الصحيح، وابن معين وبكر بن سهل، وكان مكثراً جداً، قال أبو زرعة: كان حسن الحديث، لم يكن ممن يكذب، وقال الفضل الشعراني: ما رأيته إلا يحدث أو يسبح، وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، وله أغاليط، وكذبه جزرة اهـ. وقال الذهبي في الميزان: عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني المصري أبو صالح كاتب الليث بن سعد على أمواله، صاحب حديث وعلم، مكثر له مناكير، حدث عن معاوية

ص: 142

ابن صالح وخلق، وعن شيخه الليث وابن وهب وابن معين وأحمد بن الفرات والناس.

قال عبد الملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون سمع من جدي حديثه، وقال أبو حاتم: سمعت محمد بن عبد الله بن عبيد الحكم وسئل عن أبي صالح فقال: تسألني عن أقرب رجل إلى الليث لزمه سفراً وحضراً وكان يخلو معه كثيراً، لا ينكر لمثله أن يكون قد سمع منه لكثرة ما أخرج عن الليث، وقال أبو حاتم سمعت ابن معين يقول: أقل أحواله أن يكون قرأ هذه الكتب على الليث وأجازها له، ويمكن أن يكون ابن أبي ذئب كتب إليه بهذا الدرج، قال: وسمعت أحمد بن صالح يقول: لا أعلم أحداً روى عن الليث عن أبي ذئب إلا أبو صالح، وقال أحمد بن حنبل: كان أول أمره متماسكاً ثم فسد بأخرة، يروي عن ابن أبي ذئب، ولم يسمع الليث من ابن أبي ذئب شيئاً.

وقال أبو حاتم: هو صدوق أين ما علمته، وقال أبو زرعة: لم يكن عندي ممن يتعمد الكذب، وكان حسن الحديث.

وقال أبو حاتم: أخرج أحاديث في آخر عمره أنكروها عليه، يرى أنها مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان سليم الناحية، لم يكن وزن أبي صالح الكذب، كان رجلاً صالحاً.

وقال أحمد بن محمد الحجاج بن رشدين: سمعت أحمد بن صالح يقول: متهم، ليس بشيء، يعني الحمراوي عبد الله بن صالح، وسمعت أحمد بن صالح يقول في عبد الله بن صالح: فأجروا عليه كلمة أخرى.

وقال ابن عبد الحكم: سمعت أبا عبد الله يقول ما لا أحصي وقد قيل له إن يحيى ابن بكير يقول في أبي صالح شيئاً فقال: قل له هل حدثك الليث؟ قال لا. وأبو صالح عنده وقد كان يخرج معه إلى الأسفار وهو كاتبه فينكر أن يكون عند غيره.

وقال سعيد بن منصور: كلمني يحيى بن معين وقال: أحب أن تمسك عن عبد الله ابن صالح، فقلت: لا أمسك عنه، وأنا أعلم الناس به، إنما كان كاتباً للضياع، وقال:

ص: 143

أحمد: كتب إليّ وأنا بحمص يسألني الزيارة، قال الفضل بن محمد الشعراني: ما رأيت أبا صالح إلا وهو يحدّث أو يسبح، قال صالح جزرة: كان ابن معين يوثقه، وهو عندي يكذب في الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، ويحيى بن بكير أحب إلينا منه، وقال ابن المديني: لا أروى عنه شيئاً، وقال ابن حبان: كان في نفسه صدوقاً، إنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له، فسمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار كان بينه وبينه عداوة، كان يضع الحديث على شيخ أبي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله ويرميه في داره بين كتبه فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدّث به. وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلط ولا يتعمد، قلت: وقد روى عنه البخاري في الصحيح على الصحيح، ولكنه يدلسه فيقول: حدثنا عبد الله ولا ينسبه وهو هو. نعم قد علق البخاري حديثاً فقال فيه: قال الليث ابن سعد حدثني جعفر بن ربيعة.

ثم قال في آخر الحديث حدثني عبد الله بن صالح أنبأنا الليث فذكره، ولكن هذا عند ابن حمويه السرخسي دون صاحبيه، وفي الجملة ما هو بدون نعيم بن حماد ولا إسماعيل بن أبي أويس ولا سويد بن سعيد وحديثهم في الصحيحين، ولكل منهما مناكير تغتفر في كثرة ما روى، وبعضها منكر واه، وبعضها غريب محتمل، انتهى.

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما كان نبي إلا في أمته معلم أو معلمان، فإن يكن في أمتي منهم أحد فهو عمر بن الخطاب، إن الحق على لسان عمر وقلبه". قلت في الصحيح بعضه بغير سياق، رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو لين الحديث كذا في مجمع الزوائد، قال ابن معين: هو أثبت الناس في هشام بن عروة، وقال أبو حاتم وغيره: لا يحتج به، كذا في الكاشف، وقال الحافظ في التقريب: صدوق، تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهاً من السابعة، ولي خراج المدينة فحمد. اهـ.

وعن علي قال: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر، ما كنا نبعد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن السكينة تنطق على لسان عمر، رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.

وعن ابن مسعود قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنزل على لسان عمر رضي الله

ص: 144

عنه. رواه الطبراني وإسناده حسن.

وعن طارق بن شهاب قال: كنا نتحدث أن السكينة تنزل على لسان عمر، رواه الطبراني ورجاله ثقات. كذا في مجمع الزوائد، فالصواب أن حديث "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه". وإن كان لا يخلو طريق من طرقه من مقال ولكنه لكثرة الشواهد صالح لأن يحتج به، إلا أن دلالته على أن فعل عمر رضي الله عنه حجة ممنوعة.

قوله: روى الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل عن الفضل بن العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عمر معي وأنا مع عمر والحق بعدي مع عمر حيث كان".

أقول: مجرد رواية الطبراني وابن عدي هذا الحديث لا يقتضي أن يصح الاحتجاج به ما لم يثبت كونه صحيحاً أو حسناً، فيجب على من يحتج به أن يبين صحته أو حسنه، ودونه خرط القتاد، على أن دلالته على المطلوب غير مسلمة على نحو ما مر في الحديث المتقدم.

قوله: وهذا مثل ما صح في حق علي رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم في حقه: "وأدر الحق معه حيث دار". وهو صحيح.

أقول: مدّعي صحة هذا الحديث يطالب أولاً بإقامة الدليل عليه، وأنى له ذلك؟ كيف وهذا الحديث رواه الترمذي وفي سنده سعيد بن حبان، قال الذهبي في الميزان: لا يكاد يعرف. اه. وأيضاً فيه مختار بن نافع التيمي عن أبي حيان التيمي قال النسائي وغيره: ليس بثقة، وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً.

أحمد بن عبد الرحمن الكزبراني حدثنا مختار بن نافع عن أبي حيان عن أبيه عن علي مرفوعاً: "رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وصحبني إلى دار الهجرة". وذكر الحديث. قال البخاري: منكر الحديث، كنيته أبو إسحاق، كذا في الميزان، وقال الحافظ في التقريب: مختار بن نافع التيمي – ويقال العكلي – أبو إسحاق التمار الكوفي ضعيف من السادسة اهـ. وفيه أيضاً سهل بن حماد، قال الذهبي في الميزان: كان بعد المائتين

ص: 145

لا يدري من هو وليس بالدلال أبي عتاب، والظاهر أنه هو فقد قال عثمان الدارمي: سألت يحيى بن معين عن سهل بن حماد الدلال فقال لا أعرفه، عنى أنه ما يخبر حاله وقال فيه أبو زرعة وأبو حاتم: صالح الحديث، شيخ، وأما أحمد فقال: لا بأس به.

قلت: مات سنة ثمان ومائتين، روى عن قرة بن خالد وشعبة وطبقتها، ما خرج له البخاري شيئاً. اهـ.

ويالله العجب ما أجرأ هذا المؤلف على تصحيح هذا الحديث، مع أن في سنده مختار بن نافع التيمي وهو ضعيف جداً، على أن دلالة مثل هذا الحديث على المطلوب غير مسلمة وإلا لزم أن يكون فعل معاوية رضي الله عنه أيضاً حجة، فإنه روى عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية:"اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به". أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب، وعن عمير رضي الله عنه قال: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهم اهد به". رواه الترمذي. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهده بالهدى، وجنبه الردى، واغفر له في الآخرة والأولى". رواه الطبراني في الأوسط وفيه السدي بن عاصم وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد، مع أن القول بحجية فعله رضي الله عنه بعيد جداً.

قوله: ومن الأدلة على أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنه حجة على جواز التوسل قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كان بعدي نبي لكل عمر". اهـ.

أقول: أخرجه الترمذي، وفي سنده مشرح بن هاعان، قال الذهبي في الميزان: مشرح بن هاعان المصري عن عقبة بن عامر صدوق لينه ابن حبان، وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين: ثقة، قال ابن حبان يكنى أبا مصعب، يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها، روى عن الليث وابن لهيعة، فالصواب ترك ما انفرد به وذكره العقيلي فما زاد في ترجمته أكثر من أن قيل: إنه ممن جاء مع الحجاج إلى مكة، ونصب المنجنيق على الكعبة. اهـ.

ص: 146

وأما حديث عصمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" فقد رواه الطبراني، وفيه الفضل بن المختار وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: الفضل بن المختار أبو سهل البصري عن ابن أبي ذئب وغيره قال أبو حاتم: أحاديثه منكرة يحدث بالأباطيل، وقال الأزدي: منكر الحديث جداً، وقال ابن عدي: أحاديثه منكرة، عامتها لا يتابع عليها، ثم ذكر له أربعة أحاديث وقال بعده: فهذه أباطيل وعجائب، ثم ذكر حديث عصمة بن مالك في السرقة الذي رواه الطبراني وقال: هذا يشبه أن يكون موضوعاً، والله أعلم. اهـ.

وفي الباب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان الله باعثاً رسولاً بعدي لبعث عمر بن الخطاب" رواه الطبراني في الأوسط. وفيه عبد المنعم ابن بشير وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: عبد المنعم بن بشير أبو الخير الأنصاري المصري عن عبد الله بن عمر العمري وعنه يعقوب الفسوي جرحه ابن معين، وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، لا يجوز الاحتجاج به، قال الحنبلي: سمعت ابن معين يقول: أتيت عبد المنعم فأخرج إليّ أحاديث أبي مودود نحواً من مائتي حديث كذب، فقلت له يا شيخ أنت سمعت هذا من أبي مودود؟ قال: نعم. قلت: اتق الله فإن هذه كذب. وقمت ولم أكتب عنه شيئاً، اهـ. ملخصاً، على أن دلالة تيك الأحاديث على المطلوب ممنوعة.

قوله: وروى الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، فإنهما حبل الله الممدود، من تمسك بهما فقد تمسك بالعورة الوثقى لا انفصام لها".

أقول: قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم، اهـ. وفي الباب عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر". أخرجه الترمذي بثلاث طرق في اثنتين منهما عبد الملك بن عمير اللخمي الكوفي الثقة كان من أوعية العلم، ولكنه طال عمره وساء حفظه، قال أبو حاتم: ليس بحافظ تغير حفظه، وقال أحمد: ضعيف يغلط، وقال ابن معين: مخلط،

ص: 147

وقال ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه، وذكر الكوسج عن أحمد أنه ضعفه جداً، ووثقه العجلي، وقال النسائي وغيره: ليس به بأس.

قال عبد الله بن أحمد: سئل أبي عن عبد الملك بن عمير وعاصم بن أبي النجود فقال: عاصم أقل اختلافاً عندي، وقدم عاصما. قلت: لم يورده ابن عدي ولا العقيلي، ولا ابن حبان، وقد ذكروا من هو أقوى حفظاً منه، وأما ابن عمير فذكر فحكى الجرح، وما ذكر التوثيق، والرجل فمن نظراء السبيعي أبي إسحاق وسعيد المقبري لما وقعوا في هرم الشيخوخة فنقص حفظهم، وساءت أذهانهم، ولم يختلطوا، وحديثهم في كتب الإسلام كلها، وكان عبد الملك ممن جاوز المائة، كذا في الميزان، وقال الحافظ في التقريب: ثقة فقيه، تغير حفظه، وربما دلس. اهـ.

وإذ قد عرفت أنه مع تغير حفظه مدلس، وقد عنعن في هذا الحديث، فلا يقبل حديثه.

وفي الأولى منها الحسن بن الصباح البزار، وهو وإن كان صدوقاً لكنه يهم كما قال الحافظ في التقريب، وقال النسائي: ليس بالقوي، كذا في الميزان.

وفي الثانية منها هلال مولى ربعي وهو مجهول، ما حدث عنه سوى عبد الملك ابن عمير كذا في الميزان، وأيضاً فيها سفيان الثوري وهو مدلس وقد عنعنه، وفي الثالثة منها عمرو بن هرم ضعفه يحيى القطان ووثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم كذا في الميزان، وفيها سالم بن العلاء أبو العلاء المرادي، وقيل سالم بن عبد الواحد عن ربعي بن حراش وعطية العوفي، وعنه يعلى بن عبيد وجماعة، وضعفه ابن معين والنسائي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، كذا في الميزان، على أن دلالة هذا الحديث على المقصود أيضاً غير مسلمة، لاحتمال أن يكون المراد بالاقتداء الاقتداء في الأمور التي يجب فيها طاعة الخلفاء وأولي الأمر، كما هو المراد بلفظ السمع والطاعة الواردين في الأحاديث التي أمر فيها بإطاعة الأمراء والأئمة كقوله صلى الله عليه وسلم:"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصىالله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني". رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وعن أم الحصين قالت:

ص: 148

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا". رواه مسلم.

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة". رواه البخاري، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، متفق عليه. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم". وفي رواية:"على أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان". متفق عليه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية". متفق عليه، وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية". رواه مسلم، وغير ذلك من الأحاديث الواردة في ذلك الباب.

ومن البين أن المراد بالسمع والطاعة في تيك الأحاديث ليس إلا الاتباع في الأمور المتعلقة بالخلافة والإمامة، لا أن أفعالهم وأقوالهم وتقريراتهم حجة كفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره، ولعل هذا هو المراد في حديث أمر فيه بالتمسك بسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وفي حديث:"اتبعوا السواد الأعظم، وعليك بالجماعة والعامة".

ومما يؤيد إرادة هذا المعنى في الحديث المتنازع فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللذين من بعدي ". فإنه لو كان المقصود أن أفعالهما حجة لكفى أن يقال اقتدوا بأبي بكر وعمر، فلما زيد فيه "اللذين من بعدي " علم أن الاقتداء بهما ليس إلا في أمر يحصل لهما بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لا في حياته، وهو أمر الخلافة والإمارة، ونظير ذلك إطاعة المرأة لبعلها

ص: 149

وإطاعة الولد للوالدين، ولن ترى أحداً من المسلمين يقول إن فعل البعل والوالدين وقولهم أو تقريرهم حجة، فكذلك الحال فيما نحن فيه.

وهذا كله كان تكلماً على الأحاديث التي ذكرها صاحب الرسالة لإثبات التوسل وما والاه، وها أنا أشرع في تحقيق مسألة التوسل، فننقل أولاً كلام بعض أهل العلم والتحقيق، ثم نذكر ما هو الحق عندي فأقول:

قال العلامة محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير اليماني الصنعاني في (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) في ديباجة الكتاب1.

"الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد، حتى يفردوه بتوحيد العبادة كل الأفراد، من اتخاذ الأنداد، فلا يتخذون له نداً، ولا يدعون معه أحداً، ولا يتوكلون إلا عليه، ولا يفزعون في كل حال إلا إليه، ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى ولا يتوسلون إليه بالشفاء {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . اهـ.

ثم ذكر أصولاً خمسة هي من قواعد الدين فقال في الأصل الثاني: "إن رسل الله وأنبياءه من أولهم إلى آخرهم بعثوا لدعاء العباد إلى توحيد الله تعالى بتوحيد العبادة، وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه قوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . و {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} . و {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} . وهذا هو الذي تضمنه قول لا إله إلا الله، فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة واعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان، ومعناها هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لما يعبد من دونه والبراءة منه".

وقال في الأصل الثالث: "إن التوحيد قسمان: (القسم الأول) توحيد الربوبية والخالقية والرازقية ونحوها، ومعناه أن الله وحده هو الخالق للعالم وهو الرب لهم

1 قد قابلنا ما نقله المؤلف من (تطهير الاعتقاد) عند التصحيح بالأصل المطبوع، فوجدنا فيه زيادة سقطت من مؤلفنا فلم نثبتها، لأن الظاهر أنه قد تركها اختصاراً.

ص: 150

والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون ولا يجعلون لله فيه شريكاً، بل هم مقرون به.

(والقسم الثاني) توحيد العبادة، ومعناه إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات الآتي بيانها، فهذا هو الذي جعلوا لله فيه شركاء، بهذا تعرف أن المشركين لم يتخذوا الأوثان والأصنام ولم يتخذوا المسيح وأمه ولم يتخذوا الملائكة شركاء لله تعالى لأجل أنهم أشركوهم في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم، بل اتخذوهم لأنهم يقربونهم إلى الله زلفى كما قالوه، فهم مقرون بالله تعالى في نفس كلمات كفرهم، وأنهم شفعاء عند الله، قال الله تعالى:{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فجعل الله اتخاذهم الشفعاء شركاً فيه نزه نفسه عنه، لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه". اهـ.

وقال في الأصل الرابع: "إن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون بأن الله تعالى خلقهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . وأنه خلق السموات والأرض: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} .

وبأنه الرزاق الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وأنه هو الذي يدبر الأمر من السماء والارض، وأنه هو الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} . {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السموات والأرض ورب ما فيهما ورازقهم". اهـ.

ثم قال: "إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أنه سبحانه جعل العبادة له أنواعاً: (منها) اعتقادية وهي أساسها، وذلك أن تعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر بيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له ولا يشفع عنده أحد إلا

ص: 151

بإذنه، وأنه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك مما يجب من لوازم الإليهة. (ومنها) لفظية وهي النطق بكلمة التوحيد. (ومنها) بدنية كالقيام والركوع والسجود. (ومنها) الصوم وأفعال الحج والطواف. (ومنها) مالية كإخراج جزء من المال امتثالاً لما أمر الله تعالى به، وأنواع الواجبات والمندوبات في الأبدان والأموال والأفعال والأقوال كثيرة، ولكن هذه أمهاتها". اهـ.

ثم أدرج التوسل في الشرك في العبادة حيث قال:

"قد عرفت من هذا كله أن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو جني أو حي أو ميت أنه ينفع أو يضر، أو أنه يقرب إلى الله تعالى أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع والتوسل إلى الرب تعالى إلا ما ورد من حديث فيه مقال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك فإنه قد أشرك مع الله غيره". اهـ.

وقال في موضع آخر: "والنذر بالمال على الميت ونحوه والنحر على قبره والتوسل به وطلب الحاجات منه، هو بعينه الذي كان تفعله الجاهلية" اهـ.

وقال في موضع آخر: "فإن قلت: القبوريون وغيرهم الذين يعتقدون في فسقة الناس وجهالهم من الأحياء يقولون: نحن لا نعبد هؤلاء ولا نعبد إلا الله وحده ولا نصلي لهم ولا نصوم ولا نحج. قلت: هذا جهل بمعنى العبادة، فإنها ليست منحصرة فيما ذكرت، بل رأسها وأساسها الاعتقاد، وقد حصل في قلوبهم ذلك، بل يسمونه معتقداً ويصنعون له ما سمعته مما تفرع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم، والتوسل بهم، والاستغاثة والاستعانة والحلف والنذور وغير ذلك". اهـ.

وقد ظهر من ملاحظة تلك العبارات أن التوسل عند هذا الإمام داخل في الشرك في العبادة.

وقال الإمام محمد بن علي الشوكاني في (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) : "اعلم أن الكلام على هذه الأطراف يتوقف على إيضاح ألفاظ هي منشأ

ص: 152

الاختلاف والالتباس: (فمنها) الاستغاثة بالغين المعجمة والمثلثة، (ومنها) الاستعانة بالعين المهملة والنون، (ومنها) التشفع، (ومنها) التوسل، فأما الاستغاثة بالمعجمة والمثلثة فهي طلب الغوث وهو إزالة الشدة، كالاستنصار وهو طلب النصر، ولا خلاف أنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال فهو في غاية الوضوح، وما أظنه يوجد فيه خلاف، ومنه:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} . وكما قال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} . وكما قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} .

"وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يستغاث فيه إلا به كغفران الذنوب، والهداية، وإنزال المطر والرزق، ونحو ذلك، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} . وقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . وعلىهذا يحمل ما أخرجه الطبراني في معجمه الكبير أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله". فمراده صلى الله عليه وسلم أنه لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله.

"وأما ما يقدر عليه المخلوق فلا مانع من ذلك، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر، أو يحول بينه وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعاً صائلاً أو لصاً أو نحو ذلك".

" وقد ذكر أهل العلم أنه يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله سبحانه، وأن كل غوث من عنده، وإذا حصل شيء من ذلك على يد غيره فالحقيقة له سبحانه ولغيره مجاز، ومن أسمائه المغيث والغياث.

قال أبو عبد الله الحليمي: الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال: يا غياث المستغيثين، ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلصهم، وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين:"اللهم أغثنا، اللهم أغثنا". إغاثة وغياثة وغوثاً، وهو في معنى المجيب

ص: 153

والمستجيب، قال تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} . إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر.

"قال شيخ الإسلام ابن تيميه في بعض فتاواه ما لفظه: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر وإما مخطئ ضال، وأما بالمعنى الذي نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أيضاً مما يجب نفيه، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها.

"ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون".

"وأما الاستعانة بالنون فهو طلب العون، ولا خلاف أنه يجوز أن يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدنيا، كأن يستعين به على أن يحمل معه متاعه أو يعلف دابته أو يبلغ رسالته، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله فلا يستعان فيه إلا به، ومنه:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

"وأما التشفع بالمخلوق فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز طلب الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا، وثبت بالسنة المتواترة واتفاق جميع الأئمة أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الشافع المشفع، وأنه يشفع للخلائق يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربه، ولم يقع الخلاف إلا في كونها لمحو ذنوب المذنبين أو لزيادة ثواب المطيعين، ولم يقل أحد بنفيها قط، وفي سنن أبي داود أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله، فقال: "شأن الله أعظم من ذلك، أنه لا يستشفع به على أحد من خلقه". فأقره على قوله نستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله نستشفع بالله عليك، وسيأتي تمام الكلام في الشفاعة.

ص: 154

"أما التوسل إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: إنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن صح الحديث فيه. ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي وصححه ابن ماجه وغيرهم أن أعمى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت في بصري، فادع الله تعالى لي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد إني استشفع بك في رد بصري، اللهم شفع النبي فيّ، وقال: فإن كان لك حاجة فمثل ذلك، فرد الله بصره".

"وللناس في معنى هذا قولان: أحدهما أن التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لما قال: كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، وهو في صحيح البخاري وغيره، فقد ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعاً وداعياً لهم.

"والقول الثاني التوسل به صلى الله عليه وسلم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه".

ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته، وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعاً سكوتياً لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه في التوسل بالعباس رضي الله عنه.

"وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين:

(الأول) ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم.

و (الثاني) أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة1، إذ لا يكون الفاضل فاضلاً إلا بأعماله، فإذا قال القائل:

1 هذا خطأ من وجهين: أحدهما أن توسل الإنسان بعمل غيره ومزاياه غير مشروع ولا معقول، وإنما توسل أصحاب الغار بعملهم. والثاني سيأتي الرد عليه: وكتبه محمد رشيد.

ص: 155

اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني، فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركاً كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة من الله لهم ولا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم، ولهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل إلى الله بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . ونحو قوله تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . ونحو قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} . ليس بوارد، بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبي عنه، فإن قولهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يعبده بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك، وكذلك قوله تعالى:{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . فإنه نهي أن يدعى مع الله غيره، كأن يقول يا الله ويا فلان، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله، وإنما وقع منه التوسل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين انطلقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} . الآية، فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم ولم يدعوا ربهم الذي يستحبب لهم، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه.

"فإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع خروجاً زائداً على ما ذكرنا كاستدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} . فإن هذه الآية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المنفرد بالأمر في يوم الدين، وأنه ليس لغيره من الأمر شيء، والمتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركته جل جلاله في أمر يوم الدين، ومن اعتقد هذا لعبد من العباد سواء كان نبياً أو غير نبي فهو في ضلال مبين، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله تعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ، {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} . فإن هاتين

ص: 156

الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الله شيء وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فكيف يملك لغيره، وليس فيها منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء والأولياء أو العلماء، وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود، مقام الشفاعة العظمى، وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك1 ويطلبوه منه، وقال له "سل تعطه واشفع تشفع" وقيد ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه، ولا تكون إلا لمن ارتضى، ولعله يأتي تحقيق هذا المقام إن شاء الله تعالى.

"وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} : "يا فلان ابن فلان لا أملك لك من الله شيئاً، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك من الله شيئاً". فإن هذا ليس فيه إلا التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله تعالى ضره، ولا ضر من أراد الله نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلاً عن غيرهم شيئاً من الله، وهذا معلوم لكل مسلم، وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله، فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهي، وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبته ما يكون سبباً للإجابة ممن هو المتفرد بالعطاء والمنع وهو مالك يوم الدين.

"وإذا عرفت هذا فاعلم أن الرزية كل الرزية، والبلية كل البلية، أمر غير ما ذكرنا من التوسل المجرد والتشفع بمن له الشفاعة، وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء من

1 نعم، إن الله تعالى يلهم الخلائق يوم القيامة أن يطلبوا الشفاعة من أنبياء الله تعالى في فصل القضاء، ولكن الله تعالى لم يأمرهم في كتابه بأن يقصدوا قبور الأنبياء والأولياء والعلماء ليسألوهم عندها قضاء حوائج الدنيا ولا الآخرة، ولم يشرع لهم أن هذا عبادة، ولا أنه سبب لقضاء الحوائج ولا لمغفرة الذنوب وسعادة الآخرة، وإنما شرع لهم أن يطلبوا الرزق وشفاء الأمراض ونحو ذلك من أسبابها المعروفة بالاختبار والتجارب، وسعادة الآخرة بالإيمان والعمل مصالح والتوبة من الذنوب، وأن لا يدعوا غير الله تعالى فيما وراء الأسباب التي أقدر الله عليها الناس وأمرهم بالتعاون عليها في دائرة الشرع، وهو ينكر هذا أشد الإنكار كما يأتي قريباً. وكتبه محمد رشيد.

ص: 157

أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله وتارة استقلالاً، ويصرخون بأسمائهم ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء، وهذا إذا لم يكن شركاً فلا ندري ما هو الشرك، وإذا لم يكن كفراً فليس في الدنيا كفر، وها نحن نقص عليك أدلة في كتاب الله سبحانه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها المنع مما هو دون هذا بمراحل، وفي بعضها التصريح بأنه شرك، وهو بالنسبة إلى هذا الذي ذكرناه يسير حقير، ثم بعد ذلك نعود إلى الكلام على مسألة السؤال". اه

ثم قال بعد عدة أوراق: "وبالجملة فالوارد عن الشرع من الأدلة الدالة على قطع ذرائع الشرك وهدم كل شيء يوصل إليه في غاية الكثرة، ولو رمت حصر ذلك على التمام لجاء في مؤلف بسيط، فلنقتصر على هذا المقدار ونتكلم على حكم ما يفعله القبوريون من الاستغاثة بالأموات، ومناداتهم لقضاء الحاجات، وتشريكهم مع الله في بعض الحالات، وإفرادهم بذلك في بعضها، فنقول:

"أعلم أن الله لم يبعث رسله ولم ينزل كتبه لتعريف خلقه بأنه الخالق لهم، والرازق لهم ونحو ذلك، فإن هذا يقر به كل مشرك قبل بعثة الرسل:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . ولهذا نجد كل ما ورد في الكتاب العزيز في شأن خالق الخلق ونحوه في مخاطبة الكفار معنوناً باستفهام التقرير: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} ، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ

ص: 158

وَالأَرْضِ} ، {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} . بل بعث الله رسله وأنزل كتبه لإخلاص توحيده وإفراده بالعبادة:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله والنداء والاستغاثة والرجاء واستجلاب الخير واستدفاع الشر له ومنه لا لغيره ولا من غيره: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله إليهم خاتم رسله صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا باعتقادهم أن الأنداد التي اتخذوها تنفعهم وتضرهم وتقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده، مع اعترافهم بأن الله سبحانه هو خالقها وخالقهم، ورازقها ورازقهم، ومحييها ومحييهم، ومميتها ومميتهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . وكانوا يقولون في تلبيتهم:1 لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.

"وإذا تقرر هذا فلا شك أن من اعتقد في ميت من الأموات، أو حيّ من الأحياء أنه يضره أو ينفعه إما استقلالاً أو مع الله تعالى، وناداه أو توجه إليه، أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق فلم يخلص التوحيد لله، ولا أفرده بالعبادة، إذ الدعاء بطلب وصول الخير إليه ودفع الضر عنه، هو نوع من أنواع العبادة، ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه حجراً أو ملكاً أو شيطاناً كما كان يفعل ذلك أهل الجاهلية، وبين أن يكون إنساناً من الأحياء أو الأموات، كما يفعله الآن كثير من المسلمين، وكل عالم بعلم هذا ويقر به، فإن العلة واحدة، وعبادة غير الله تعالى وتشريك غيره معه يكون للحيوان كما يكون للجماد،

1 كما في صحيح البخاري.

ص: 159

وللحي كما يكون للميت".

"فمن زعم أن ثم فرقاً بين من اعتقد في وثن من الأوثان أنه يضر أو ينفع، أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فقد غلط غلطاً بيناً، وأقر على نفسه بجهل كثير، فإن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه.

ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكاً بالصنم والوثن والإله لغير الله زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد كما يفعله كثير من المسلمين1 بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به سبحانه، سواء أطلق على ذلك الغير ما كانت تطلقه عليه الجاهلية أو أطلق عليه اسماً آخر، فلا اعتبار بالاسم قط، ومن لم يعرف هذا فهو جاهل لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به أهل العلم.

"وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها، واعتقاد أنها تضر وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة والتقريب لها في بعض الحاجات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور، فإنهم قد عظموها إلى حد لا يكون إلا لله سبحانه، بل ربما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد من يعتقده أو قريباً منه مخافة تعجيل العقوبة من ذلك الميت، وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله أو في مسجد من المساجد أو قريباً من ذلك، وربما حلف بعض غلاتهم بالله كاذباً ولم يحلف بالميت الذي يعتقده.

"وأما اعتقادهم أنها تضر وتنفع فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدع أحد منهم ميتاً أو حياً عند استجلابه لنفع، أو استدفاعه لضر، قائلاً: يا فلان افعل لي كذا وكذا، وعلى الله وعليك، وأنا بالله وبك.

1 لعله سقط من هنا خبر المبتدأ الذي عطف عليه الاضطراب بعده، والمعنى أن مجرد التسمية لا تقتضي التفرقة في الحكم بين المتفقين في الاعتقاد.

ص: 160

وأما التقرب للأموات فانظر ما يجعلونه من النذور لهم وعلى قبورهم في كثير من المحلات، ولو طلب الواحد منهم ليسمح بجزء من ذلك لله تعالى لم يفعل، وهذا معلوم يعرفه من عرف أحوال هؤلاء.

فإن قلت: إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار، والنافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات قصداً لإنجاز ما يطلبونه من الله سبحانه. قلت: وهكذا كانت الجاهلية، فإنهم يعلمون أن الله هو الضار النافع وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز. نعم إذا لم يحصل من المسلم إلا مجرد التوسل الذي قدمنا تحقيقه فهو كما ذكرناه سابقاً، ولكن من زعم أنه لم يقع منه إلا مجرد التوسل – وهو يعتقد من تعظيم ذلك الميت ما لا يجوز اعتقاده في أحد من المخلوقين، وزاد على مجرد الاعتقاد فتقرب إلى الأموات بالذبائح والنذور، وناداهم مستغيثاً بهم عند الحاجة – فهذا كاذب في دعواه أنه متوسل فقط، فلو كان الأمر كما زعمه لم يقع منه شيء من ذلك المتوسل به: لا يحتاج إلى رشوة بنذر أو ذبح ولا تعظيم ولا اعتقاد، لأن المدعو هو الله سبحانه وهو أيضاً المجيب، ولا تأثير لمن وقع به التوسل قط، بل هو بمنزلة التوسل بالعمل الصالح فأي جدوى في رشوة من قد صار تحت أطباق الثرى بشيء من ذلك؟ وهل هذا إلا فعل من يعتقد التأثير اشتراكاً أو استقلالاً، ولا أعدل من شهادة أفعال جوارح الإنسان على بطلان ما ينطق به لسانه من الدعاوى الباطلة العاطلة، بل زعم أنه لم يحصل منه إلا مجرد التوسل –وهو يقول بلسانه "يا فلان" منادياً لمن يعتقده من الأموات– فهو كاذب على نفسه، ومن أنكر حصول النداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالاً فليخبرنا ما معنى ما سمه في الأقطار اليمنية من قولهم: يا ابن العجيلي، يا زيلعي، يا ابن علوان، يا فلان يا فلان؟ هل ينكر هذا منكر، ويشك فيه شاك؟ وما عدا ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم، ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه وفي كل مدينة جماعة منهم، حتى أنهم في حرم الله ينادون: يا ابن عباس، يا محجوب، فما ظنك بغير ذلك؟ فلقد تلطف إبليس وجنوده أخزاهم الله تعالى لغالب أهل الملة الإسلامية بلطفة تزلزل الأقدام عن الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 161

أين من يعقل معنى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} . وقد أخبرنا الله سبحانه أن الدعاء عبادة بمحكم كتابه بقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .

وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو العبادة". وفي رواية "مخ العبادة". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية المذكورة، وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه والحاكم وأحمد وابن أبي شيبة باللفظ المذكور، وكذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم، كما أن النحر للنسك وإخراج صدقة المال والخضوع والاستكانة عبادة لله عز وجل بلا خلاف، ومن زعم أن ثم فرقاً بين الأمرين فليهده إلينا.

ومن قال إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم والنذر عليهم عبادتهم، فقل له فلأي مقتض صنعت هذا الصنيع؟ فإن دعاءك للميت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله وتنذر لله فلأي معنى جعلت ذلك للميت وحملته إلى قبره؟ فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض، وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته أو أمر قد أردته، وإلا فأنت مجنون قد رفع عنك القلم، ولا نوافقك على دعوى الجنون إلا بعد صدور أفعالك وأقوالك في غير هذا على نمط أفعال المجانين، فإن كنت تصدرها مصدر أفعال العقلاء فأنت تكذب على نفسك في دعواك الجنون في هذا الفعل بخصوصه فراراً عن أن يلزمك ما لزم عباد الأوثان الذين حكى الله عنهم في كتابه العزيز ما حكاه بقوله:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} . وبقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} .

ص: 162

فإن قلت: إن المشركين كانوا لا يقرون بكلمة التوحيد، وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرون بها، قلت: هؤلاء إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها بأفعالهم، فإن من استغاث بالأموات أن طلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، أو عظمهم أو نذر عليهم بجزء من ماله أو نحر لهم فقد نزلهم منزلة الآلهة التي كان المشركون يفعلون لها هذه الأفعال، فهو لم يعتقد معنى لا إله إلا الله ولا عمل بها، بل خالفها اعتقاداً وعملاً، فهو في قوله لا إله إلا الله كاذب على نفسه، فإنه قد جعل إلهاً غير الله يعتقد أنه يضر وينفع، وعبده بدعائه عند الشدائد والاستغاثة به عند الحاجة، وبخضوعه له وتعظيمه إياه نحر له النحائر، وقرب إليه نفائس الأموال.

وليس مجرد قول لا إله إلا الله من دون عمل بمعناه مثبتاً للإسلام، فإنه لو قالها أحد من أهل الجاهلية وعكف على صنمه يعبده لم يكن ذلك إسلاماً. اه

وأيضاً قال فيه1: "فإن قلت: فقد ورد الحديث الصحيح بأن الخلائق يوم القيامة يأتون آدم فيدعونه ويستغيثون ثم نوحاً ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمداً صلى الله عليه وسلم وسائر إخوانه من الأنبياء. قلت: أهل المحشر إنما يأتون هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله سبحانه ويدعوا لهم بفصل الحساب، والإراحة من ذلك الموقف، هذا جائز فإنه من طلب الشفاعة والدعاء المأذون فيهما.

وقد كان الصحابة يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم كما في حديث "يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم" لما أخبرهم بأنه يدخل الجنة سبعون ألفاً، وحديث:"سبقك بها عكاشة". وقول أم سليم: "يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له". وقول المرأة التي كانت تصرع: "يا رسول الله ادع الله لي". وآخر الأمر سألته الدعاء بأن لا تتكشف عند الصرع فدعا لها.

ومنه إرشاده صلى الله عليه وسلم لجماعة من الصحابة بأن يطلبوا الدعاء من أويس القرني إذا أدركوه، ومنه ما ورد في دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، وغير ذلك مما لا يحصر، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما خرج معتمراً:"لا تنسني يا أخي من دعائك".

1 أي الشوكاني في كتابه الدر النضيد.

ص: 163

فمن جاء إلى رجل صالح واستمد منه أن يدعو له، فهذا ليس من ذلك الذي يفعله المعتقدون في الأموات، بل هو سنة حسنة وشريعة ثابتة، وهكذا طلب الشفاعة ممن جاءت الشريعة المطهرة بأنه من أهلها كالأنبياء، ولهذا يقول الله لرسوله يوم القيامة:"سل تعطه واشفع تشفع"، وذلك هو المقام المحمود الذي وعده الله به كما في كتابه العزيز.

والحاصل أن طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون عليها، ومن ذلك الدعاء فإنه يجوز استمداده من كل مسلم بل يحسن ذلك، وكذلك الشفاعة من أهلها الذين ورد الشرع بأنهم يشفعون، ولكن ينبغي أن يعلم أن دعاء من يدعو له لا ينفع إلا بإذنه وإرادته ومشيئته، وكذلك شفاعة من شفع لا تكون إلا بإذن الله كما ورد بذلك القرآن العظيم، فهذا تقييد للمطلق لا ينبغي العدول عنه بحال". اهـ.

وأيضاً قال فيه: "ومن جملة الشبه التي عرضت لبعض أهل العلم ما صرح به السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله في شرحه لأبياته التي يقول في أولها:

رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي

فإنه قال: إن كفر هؤلاء المعتقدين للأموات هو من الكفر العملي، لا الكفر الجحودي، ونقل ما ورد في كفر تارك الصلاة كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وكفر تارك الحج وكما في قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . ونحو ذلك من الأدلة الواردة فيمن زنى ومن سرق ومن أتى امرأة حائضاً أو امرأة في دبرها أو أتى كاهناً أو عرافاً أو قال لأخيه يا كافر. قال: فهذه الأنواع وإن أطلقها الشارع على فعل هذه الكبائر فإنه لا يخرج به العبد عن الإيمان ويفارق به الملة ويباح به دمه وماله وأهله كما ظنه من لم يفرق بين الكفرين ومن لم يميز بين الأمرين، وذكر ما عقده البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان في كفر دون كفر، وما قاله العلامة ابن القيم أن الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة من الكفر العملي، وتحقيقه أن الكفر كفر عمل وكفل جحود وعناد، فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً، فهذا الكفر يضاد الإيمان من

ص: 164

كل وجه.

وأما كفر العمل فهو نوعان: نوع يضاد الإيمان ونوع لا يضادّه، ثم نقل عن ابن القيم كلاماً في هذا المعنى، ثم قال السيد المذكور "قلت: ومن هذا –يعني الكفر العملي– من يدعو الأولياء، ويهتف بهم عند الشدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبل جدرانها وينذر له بشي من ماله، فإنه كفر عملي لا اعتقادي، فإنه مؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر، لكن زين له الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون ويضرون فاعتقد ذلك كما اعتقد ذلك أهل الجاهلية في الأصنام، لكن هؤلاء مثبتون التوحيد لله لا يجعلون الأولياء آلهة كما قاله الكفار إنكاراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى كلمة التوحيد:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} . فهؤلاء جعلوا لله شركاء حقيقة فقالوا في التلبية،: لبيك لا شريك لك، إلا شرك هو لك، تملكه وما ملك، فأثبتوا للأصنام شركة مع رب الأنام، وإن كانت عباراتهم الضالة قد أفادت أنه لا شريك له، لأنه إذا كان يملكه وما ملك فليس بشريك له تعالى بل مملوك.

فعباد الأصنام الذين جعلوا لله أنداداً واتخذوا من دونه شركاء يقولون إنهم شفعاء يقربونهم إلى الله زلفى، بخلاف جهلة المسلمين الذين اعتقدوا في أوليائهم النفع والضر، فإنهم مقرّون لله بالوحدانية وإفراده بالإلهية وصدقوا رسله، فالذي أتوه من تعظيم الأولياء كفر عمل لا اعتقاد، فالواجب وعظهم وتعريفهم جهلهم وزجرهم ولو بالتعزير، كما أمرنا بحد الزاني والشارب والسارق من أهل الكفر العملي، إلى أن قال: فهذه كلها قبائح محرمة من أعمال الجاهلية، فهو من الكفر العملي، وقد ثبت أن هذه الأمة تفعل أموراً من أمور الجاهلية هي من الكفر العملي كحديث:"أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري فهذه من الكفر العملي لا تخرج به الأمة من الملة، بل هم من إتيانهم بهذه الخصلة الجاهلية أضافهم إلى نفسه فقال:"من أمتي".

ص: 165

فإن قلت: أهل الجاهلية تقول في أصنامها إنهم يقربونهم إلى الله زلفى كما يقوله القبوريون، ويقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . كما يقوله القبوريون. قلت: لا سواء، فإن القبوريين مثبتون التوحيد لله قائلون إنه لا إله إلا هو، ولو ضربت عنقه على أن يقول إن الولي إله مع الله لما قالها، بل عنده اعتقاد جهل أن الولي لما أطاع الله كان له لطاعته عنده تعالى جاه به تقبل شفاعته ويرجى نفعه، لا أنه إله مع الله، بخلاف الوثني فإنه امتنع عن قوله إله لا إله الله حتى ضربت عنقه زاعماً أن وثنه إله مع الله ويسميه رباً وإلهاً، قال يوسف عليه السلام:{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . سماهم أرباباً لأنهم كانوا يسمونهم بذلك كما قال الخليل: {هَذَا رَبِّي} . في الثلاث الآيات مستفهماً لهم مبكتاً متكلماً على خطئهم حيث يسمون الكواكب أرباباً وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} . وقال قوم إبراهيم: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} - {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} . وقال إبراهيم: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} ؟ ومن هنا يعلم أن الكفار غير مقرّين بتوحيد الإلهية كما توهمه من توهم من قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ، {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ -إلى قوله- فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} . فهذا إقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما، لا أنه إقرار بتوحيد الإلهية، لأنهم يجعلون أوثانهم أرباباً كما عرفت.

فهذا الكفر الجاهلي كفر اعتقاد، ومن لازمه كفر العمل، بخلاف من اعتقد في الأولياء النفع والضر مع توحيد الله وإيمان به وبرسوله وباليوم الآخر فإنه كفر عمل، فهذا تحقيق بالغ وإيضاح لما هو الحق من غير إفراط ولا تفريط اهـ، كلام السيد المذكور رحمه الله تعالى.

وأقول: هذا الكلام في التحقيق ليس بتحقيق بالغ، بل كلام متناقض متدافع، وبيانه أنه لا شك أن الكفر ينقسم إلى كفر اعتقاد وكفر عمل، ولكن دعوى أن ما يفعله المعتقدون في الأموات من كفر العمل في غاية الفساد، فإنه قد ذكر في هذا

ص: 166

البحث أن كفر من اعتقد في الأولياء كفر عملي، هذا عجيب، كيف يقول كفر من يعتقد في الأولياء كفر عمل، ويسمى ذلك اعتقاداً ثم يقول إنه من الكفر العملي؟ وهل هذا إلا التناقض البحت، والتدافع الخالص؟

انظر كيف ذكر في أول البحث أن كفر من يدعو الأولياء ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويقبل جدرانها وينذر لها بشيء من ماله هو كفر عملي، فليت شعري ما هو الحامل له على الدعاء والاستغاثة، وتقبيل الجدارات، ونذر النذورات؟ هل هو مجرد اللعب والعبث من دون اعتقاد؟ فهذا لا يفعله إلا مجنون. أم الباعث عليه الاعتقاد في الميت، فكيف لا يكون هذا من كفر الاعتقاد الذي لولاه لم يصدر فعل من تلك الأفعال؟

ثم انظر كيف اعترف بعد أن حكم على هذا الكفر بأنه كفر عمل لا كفر اعتقاد بقوله: لكن زين له الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون، فاعتقد ذلك جهلاً كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام، فتأمل كيف حكم بأن هذا كفر اعتقاد ككفر أهل الجاهلية، وأثبت الاعتقاد واعتذر عنهم بأنه اعتقاد جهل، وليت شعري أي فائدة لكونه اعتقاد جهل؟ فإن طوائف الكفر بأسرها وأهل الشرك قاطبة إنما حملهم على الكفر ودفع الحق والبقاء على الباطل الاعتقاد جهلاً، وهل يقول قائل إن اعتقادهم اعتقاد علم حتى يكون اعتقاد الجهل عذراً لإخوانهم المعتقدين في الأموات؟ ثم تمم الاعتذار بقوله: لكن هؤلاء مثبتون للتوحيد إلى آخر ما ذكره. ولا يخفاك أن هذا عذر باطل، فإن إثباتهم التوحيد إن كان بألسنتهم فقط فهم مشتركون في ذلك هم واليهود والنصارى والمشركون والمنافقون، وإن كان بأفعالهم فقد اعتقدوا في الأموات ما اعتقده أهل الأصنام في أصنامهم، ثم كرر هذا المعنى في كلامه وجعله السبب في رفع السيف عنهم وهو باطل، فما ترتب عليه مثله باطل، فلا نطوِّل بردّه، بل هؤلاء القبوريون قد وصلوا إلى حد في اعتقادهم في الأموات لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم، وهو أن الجاهلية كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله وحده، وإنما يدعون أصنامهم مع عدم نزول الشدائد من الأمور كما حكاه الله عنهم بقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ

ص: 167

الإِنسَانُ كَفُوراً} . وبقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . وبقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} . وبقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . بخلاف المعتقدين في الأموات فإنهم إذا دهتم الشدائد استغاثوا بالأموات ونذروا لهم النذور، وقل من يستغيث بالله سبحانه في تلك الحال، وهذا يعلمه كل من له بحث عن أحوالهم.

ولقد أخبرني بعض من ركب البحر أنه اضطرب اضطراباً شديداً، فسمع من أهل السفينة من الملاحين وغالب الراكبين معهم ينادون الأموات ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط، قال: ولقد خشيت في تلك الحال الغرق لما شاهدته من الشرك بالله.

وقد سمعنا عن جماعة من أهل البادية المتصلة بصنعاء أن كثيراً منهم إذا حدث له ولد جعل قسطاً من ماله لبعض الأموات المعتقدين ويقول إنه قد اشترى ولده من ذلك الميت الفلاني بكذا، فإذا عاش حتى بلغ سن الاستقلال دفع ذلك الجعل لمن يعتكف على قبر ذلك الميت من المحتالين لكسب الأموال.

وبالجملة فالسيد المذكور رحمه الله تعالى قد جرد النظر في بحثه السابق إلى الإقرار بالتوحيد الظاهري، واعتبر مجرد التكلم بكلمة التوحيد، ويخالفه من اعتقاده الذي صدرت عنه تلك الأفعال المتعلقة بالأموات، وهذا الاعتبار لا ينبغي التعويل عليه ولا الاشتغال به، فالله سبحانه إنما ينظر إلى القلوب وما صدر من الأفعال عن اعتقاد لا إلى مجرد الألفاظ، وإلا لما كان فرق بين المؤمن والمنافق. اه.

وأيضاً قال فيه1 وأقول: قد قدمنا في أوائل هذا الجواب أنه لا بأس بالتوسل بنبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء أو عالم من العلماء، وأوضحنا ذلك بما لا مزيد

1 أي الشوكاني.

ص: 168

عليه، فهذا الذي جاء إلى القبر زائراً ودعا الله وحده وتوسل بذلك الميت كأن يقول: اللهم إني أسألك أن تشفيني من كذا، وأتوسل إليك بما لهذا العبد الصالح من العبادة لك والمجاهدة فيك أو التعلم والتعليم خالصاً لك، فهذا لا تردد في جوازه1 لكن لأي معنى قام يمشي إلى القبر؟ فإن كان لمحض الزيارة ولم يعزم على الدعاء والتوسل إلا بعد تجريد القصد إلى الزيارة فهذا ليس بممنوع، فإنه إنما جاء ليزور، وقد أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور لحديث:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" وهو في الصحيح، وخرج لزيارة الموتى ودعا لهم وعلمنا كيف نقول إذا نحن زرناهم وكان يقول:"السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا بكم إن شاء الله لاحقون، وأتاكم ما توعدون، نسأل الله لنا ولكم العافية". وهو أيضاً في الصحيح بألفاظ وطرق، فلم يفعل هذا الزائر إلا ما هو مأذون له به ومشروع، لكن بشرط أن لا يشد راحلته، ولا يعزم على سفر ولا يرحل كما ورد تقييد الإذن بالزيارة للقبور بحديث:"لا تشدوا الرحال إلا لثلاثة مساجد". وهو مقيد لمطلق الزيارة، وقد خصص بمخصصات:(منها) زيارة القبر الشريف النبوي المحمدي على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم، وفي ذلك خلاف بين العلماء، وهي مسألة من المسائل التي طالت ذيولها، واشتهرت أصولها، وامتحن بسببها من امتحن، وليس ذكر ذلك من مقصودنا.

وأما إذا لم يقصد مجرد الزيارة بل قصد المشي إلى القبر ليفعل الدعاء عند فقط وجعل الزيارة تابعة لذلك أو مشى لمجموع الزيارة والدعاء فقد كان يغنيه أن يتوسل إلى الله بما لذلك الميت من الأعمال الصالحة من دون أن يمشي إلى قبره، فإن قال إنما مشيت إلى قبره لأشير إليه عند التوسل به، فيقال له إن الذي يعلم السر وأخفى، ويحول بين المرء وقلبه، ويطلع على خفيات الضمائر، وتنكشف لديه مكنونات السرائر لا يحتاج منك إلى هذه الإشارة التي زعمت أنها الحاملة لك على قصد القبر والمشي إليه، وقد كان يغنيك أن تذكر ذلك الميت باسمه العلم أو بما يتميز به عن غيره، فما أراك

1 فيه نظر، وهو أن توسل الإنسان بعبادة غيره غير مشروع ولا مأثور ولا معقول، فالتوسل تقرب شرعي، وإنما يتقرب العباد إلى ربهم بما شرعه لهم من الإيمان والعمل الصالح كما فعل أصحاب الغار الثلاثة، وتقدمت الإشارة إليه. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 169

مشيت لهذه الإشارة، فإن الذي تدعوه في كل مكان مع كل إنسان، بل مشيت لتسمع الميت توسلك به وتعطف قلبك عليك، وتتخذ عنده يداً بقصده وزيارته والدعاء عنده والتوسل به، وأنت إن رجعت إلى نفسك، وسألتها عن هذا المعنى فربما تقر لك به وتصدقك الخبر، فإن وجدت عندها هذا المعنى الدقيق، الذي هو بالقبول منك حقيق فاعلم أنه قد علق بقلبك ما علق بقلوب عباد القبور، ولكنك قهرت هذه النفس الخبيثة عن أن تترجم بلسانك عنها، وتنشد ما انطوت عليه من محبة ذلك القبر والاعتقاد فيه والتعظيم له والاستغاثة به، فأنت مالك لها من هذه الحيثية، مملوك لها من الحيثية التي أقامتك من مقامك، ومشيت بك إلى فوق القبر، فإن تداركت نفسك بعد هذه وإلا كانت المستولية عليك المتصرفة فيك، والمتلاعبة بك في جميع ما تهواه مما قد وسوس به لها الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس. اه

وأيضاً قال فيه: قد ظهر بمجموع هذا التقسيم أن من يقصد القبر ليدعو عنده هو أحد ثلاثة: إن مشى لقصد الزيارة فقط وعرض له الدعاء ولم يحصل بدعائه تغرير على الغير فذلك جائز، وإن مشى لقصد الدعاء فقط أو له مع الزيارة وكان له من الاعتقاد ما قدمنا فهو على خطر الوقوع في الشرك فضلاً عن كونه عاصياً، وإذا لم يكن له اعتقاد في الميت على الصفة التي ذكرنا فهو عاص آثم، وهذا أقل أحواله، وأحقر ما يربحه في رأس ماله. اه

وأيضاً قال فيه: وإذا عرف هذا فالذي نعتقده وندين به الله أن من دعا نبياً أو ولياً أو غيرهما وسأل منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات أن هذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا أولياء وشفعاء يستجلبون بهم المنافع ويستدفعون بهم المضار بزعمهم، قال الله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} . فمن جعل الأنبياء أو غيرهم كابن عباس أو أبي طالب1 وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع بمعنى أن الخلق

1 مع أن أبا طالب اختار أن يموت على ملة عبد المطلب في الجاهلية، وأبى أن ينطق بكلمة التوحيد التي دعاه صلى الله عليه وسلم إلى النطق بها ساعة الاحتضار، ونزلت فيه الآية:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . محب الدين.

ص: 170

يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملوك، أو لكونهم أقرب إلى الملك، فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك حلال الدم والمال وقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على ذلك وحكوا عليه الإجماع.

قال في (الإقناع) : وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم كفر إجماعاً، لأن ذلك كفعل عبادي الأصنام قائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . انتهى.

وقال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي رحمه الله: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها وإلزامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها1 وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا وأخذ تربتها تبركاً، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى2. انتهى.

وقال الإمام البكري الشافعي في تفسيره عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : وكانت الكفار إذا سئلوا من خلق السموات والأرض؟ قالوا الله. فإذا سئلوا عن عبادة الأصنام قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، لأجل طلب شفاعتهم عند الله، وهذا كفر. انتهى كلامه.

فتأمل ما ذكره صاحب الإقناع، وكذلك ما ذكره ابن عقيل من تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وهو كفر.

1 تخليقها تضميخها بالخلوق، وهو بالفتح نوع من الطيب، ومثله كل تعطير وتطييب.

2 هو اقتداء بهم وإن لم يقصد فاعله الاقتداء ولا علم بحالهم، والحكم منوط بهذا العمل الوثني لا بقصد الاقتداء بالمشركين، وكتبه وما قبله محمد رشيد.

ص: 171

قال الحافظ العماد بن كثير رحمه الله في تفسيره عند قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : أي إنما يحملهم على عبادتهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به.

قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد: {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : أي ليشفعوا لنا ويقربونا عنده، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بردها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . فأخبر أن الملائكة في السموات من المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون لله لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك أو أبغضوه:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} . تعالى الله عن ذلك. انتهى كلامه. وقال الإمام البكري رحمه الله عند قوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ} . الآية: فإن قلت إذا أقروا فكيف عبدوا الأصنام؟ قلت: كلهم يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله تعالى، والتقرب إليه، ولكن بطرق مختلفة، ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى، وفرقة قالت: الملائكة ذوو جاه ومنزلة عند الله تعالى، فاتخذنا لنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى، وفرقة قالت: جعلنا الأصنام لنا قبلة في العبادة، كما أن الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان

ص: 172

حوائجه بأمر الله، وإلا أصابه شيطانه بنكبة بإذن الله. اهـ كلامه.

فانظر إلى كلام هؤلاء الأئمة وتصريحهم بأن المشركين ما أرادوا مما عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله، وتأمل ما ذكره ابن كثير، وما حكاه عن زيد بن أسلم وابن زيد ثم قال: وهذه الشبهة هي التي اعتقدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بردها والنهي عنها، وتأمل ما ذكره البكري رحمه الله عند آية الزمر: إن الكفار ما أرادوا إلا الشفاعة، ثم صرح بأن هذا كفر، فمن تأمل ما ذكره الله في كتابه تبين له أن الكفار ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله، فإنهم لم يعتقدوا فيها أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات، بل كانوا مقرين أن الفاعل لذلك هو الله وحده، قال الله تعالى:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} . وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} . وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} . الآيتين، إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر الله فيها أن المشركين معترفون أن الله هو الخالق الرازق، وإنما كانوا يعبدونهم ليقربوهم ويشفعوا لهم كما ذكره الله سبحانه في قوله:{وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . فبعث الله الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر، وأخبر أن الشفاعة كلها لله، وأنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، وأنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلا التوحيد، والشفاعة مقيدة بهذه القيود، قال الله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} . وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} . وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . وقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . اهـ

ص: 173

وأيضاً قال فيه: والمقصود أن الكتاب والسنة دلا على أن من جعل الملائكة والأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب1 أو المحجوب وسائط بينه وبين الله يشفعون له عند الله لأجل قربهم من الله كما يفعل عند الملوك أنه كافر مشرك حلال المال والدم وإن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى وصام وزعم أنه مسلم، بل هو من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يسحبون أنهم يحسنون صنعاً. اهـ.

وأيضاً قال فيه: فإذا تبين لكم أن القرآن قد صرح بهذه المسائل الثلاث –أعني اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية، وأنهم يدعون الصالحين، وأنهم ما أرادوا منهم إلا الشفاعة– تبين لكم أن هذا الذي يفعل عند القبور اليوم من سؤال جلب الفوائد وكشف الشدائد أنه الشرك الأكبر الذي كفّر الله به المشركين، فإن هؤلاء المشركين شبهوا الخالق بالمخلوق.

وفي القرآن العزيز وكلام أهل العلم من الرد على هؤلاء ما لا يتسع له هذا الموضع، فإن الوسائط التي تكون بين الملوك وبين الناس تكون على أحد وجوه ثلاثة:

إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه، ومن قال إن الله لا يعرف أحوال العباد حتى يخبره بذلك بعض الأنبياء أو غيرهم من الأولياء والصالحين فهو كافر، بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

الثاني أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يعاونونه، فلابد له من أعوان وأنصار، لذله وعجزه! والله سبحانه ليس له ولي ولا ظهير من الذل، وكل ما في الوجود من الأسباب فهو سبحانه ربه وخالقه، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم، والله سبحانه ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، ولهذا لا يشفع عنده إلا بإذنه لا ملك مقرب ولا نبي

1 انظر التعليق ص 170.

ص: 174

مرسل فضلاً عن غيرهما، فإن من شفع عنده بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب أثر فيه بشفاعته حتى يفعل ما يطلب منه، والله لا شريك له بوجه من الوجوه.

الثالث أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم إلا بمحرك يحركه من خارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظه أو من يدل عليه بحيث يكون يرجوه أو يخافه تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته، والله سبحانه رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه إذا أجرى نفع العباد بعضهم على يد بعض فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع له فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي إرادة الإحسان والدعاء، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده، أو يعلمه ما لم يكن يعلمه، والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون عنده إلا بإذنه كما تقدم بيانه، بخلاف الملوك فإن الشافع عندهم يكون شريكاً لهم في الملك، وقد يكون مظاهراً لهم ومعاوناً لهم على ملكهم، وهم يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، والملك يقبل شفاعتهم: تارة لحاجته إليهم، وتارة لجزاء إحسانهم ومكافأتهم، حتى أنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك، فإنه محتاج إلى الزوجة والولد حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك ويقبل شفاعة مملوكه، فإنه إذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه، ويقبل شفاعة أخيه مخافة أن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس، فلا أحد يقبل شفاعة أحد إلا لرغبة أو لرهبة، والله سبحانه لا يرجو أحداً ولا يخافه، ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الغني سبحانه عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه. اهـ.

وأيضاً قال فيه: وقال شيخ الإسلام تقي الدين في الإقناع: إن من دعا ميتاً وإن كان من الخلفاء الراشدين فهو كافر، وإن من شك في كفره فهو كافر، وقال في النهر الفائق: اعلم أن الشيخ قاسماً قال في شرح البحار: إن النذر الذي يقع من أكثر العوام،

ص: 175

بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً: يا سيدي فلان إن رُد غائبي أو عوفي مريضي فلك من الذهب أو الفضة أو الشمع أو الزيت كذا، باطل إجماعاً لوجوه -إلى أن قال:- ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر، وقال ابن حجر في شرح أربعين له: من دعا غير الله فهو كافر. اهـ.

وقال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله في (الرسالة السنية) : إن كل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني أو انصرني أو ارزقني أو أجبرني، وأنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب نجا وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم ويعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . الآية. اه

قال العلامة ابن القيم: ومن العجب أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين، وما ذنبهم إلا أن قالوا: إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وإنهم لا يشفعون لعابديهم أبداً، بل حرم الله تعالى شفاعتهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها لله سبحانه، والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع.

فالمشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو عوين، وهذا أعظم التنقص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أنه يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، ولا يرحم حتى يجعله

ص: 176

الواسطة يرحم، ولا يكفي وحده أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به وتكثره به من القلة وتعززه به من الذلة، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن يرفع تلك الحاجة إليه، كما هو حال ملوك الدنيا، وهذا أصل شرك الخلق، أو يظن أنه لا يسمع دعاءه لبعده عنهم حتى يرفع الوسائط إليه ذلك أو يظن أن للمخلوق عليه حقاً فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا يمكنهم مخالفته، وكل ذلك تنقص للربوبية وهضم لحقها، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه من قلب المشرك بسبب قسمه ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به، فيضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دون الله، فالشرك ملزم لتنقص الرب سبحانه، والتنقص لازم له ضرورة، شاء المشرك أم أبى، ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره، وأن يخلد صاحبه في العذاب الأليم، ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركاً قط إلا وهو منتقص لله سبحانه وإن زعم أنه معظم له بذلك اهـ. هكذا نقله بعض المحققين في كتاب رد فيه على داود بن جرجيس العراقي لم أقف على اسمه1.

وأيضاً قال فيه: وأما قول هذا الجاهل العراقي، وكذلك المسلمون يذكرون أن طلبتهم من غير الله إنما هي من باب التسبب، فالجواب أن نسبة الطلب من غير الله إلى المسلمين من أمحل المحال وأبطل الباطل، فإن المسلم لا يطلب من غير الله، فإن من طلب وسأل حاجته من ميت أو غائب فقد فارق الإسلام، لأن المشرك ينافي الإسلام، لما تقدم من أن الإسلام هو إسلام الوجه والقلب واللسان والأركان لله وحده دون ما سواه، فالمسلم المخلص يخلص دعاءه لله، والمشرك يصرف جل الدعاء والعبادة أو بعضه لغير الله، وقد عرفت مما تقدم أن الدعاء هو العبادة، وقد

1 هو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في كتاب (منهاج التأسيس في الرد على داود بن جرجيس) البغدادي.

ص: 177

نهى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو غيره فقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} . وهذا خرج مخرج الخصوص وهو عام لجميع الأمة، وكذلك:{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} . وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . فظهر من هذه الآية أن الدعاء تأله المدعو، فإن المألوه هو المعبود، والعابد آلهٌ له. اهـ.

وأيضاً قال فيه: وأما ما ادعاه المنحرفون عن الإيمان من أن الوسيلة هو التوسل إلى الله تعالى بالأنبياء والصالحين فهذا باطل يناقض ما ذكره الله تعالى في أول الآية من تهديد من دعاهم وإنكاره عليهم دعوتهم، وقد تقدم ما يدل على أن هذا المدعى هو بعينه دين المشركين المتخذين الشفعاء يسألونهم أن يشفعوا لهم عند الله ويقربوهم إليه زلفى، والقرآن كله من أوله إلى آخره يبطل هذه الوسيلة ويبين أنها شرك وكفر كما قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . الآية، وقوله:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ -إلى قوله– وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} .

فتظاهرت الآيات والأحاديث على أن هذه الوسيلة التي يدعيها أولئك الضلال من التعلق بالأموات والغائبين برغبة أو رهبة أن هذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله كما تقدم ذلك صريحاً في كلام العلماء والاستدلال على ذلك بهذه الآيات ونظائرها. اه

وأيضاً قال فيه: فالإجماع الصحيح هو ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله وتلقاه عنه الفقهاء في كتبهم فإنه قال: ومن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً. اه

وأيضاً قال فيه: قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في مسألة الوسائط –وقد سئل عن رجل قال لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله– فأجاب: الحمد لله رب العالمين، إنه إن أراد أنه لا بد لنا من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق، فإن الخلق

ص: 178

لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به ونهى عنه ولا يعرفون ما يستحقه من أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده –إلى أن قال:- وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة تتخذه العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، يسألونه ويرجونه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويستدفعون بهم المضار، لكن الشفاعة لمن أذن الله له فيها. قال الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} . وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} . وذكر قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . وقد تقدم.

فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يمكلون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه بما يحبه ويرضاه، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وقال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويسألهم جلب المنافع وسد الفاقات، وتفريج الكربات، فهو كافر بإجماع المسلمين. اه

وأيضاً فيه: وذكر شيخ الإسلام أيضاً كلامه الذي سبق في مشايخ العلم الذين جعلهم وسائط بين الرسول وأمته يبلغون عنه ويقتدون به، فمن جعلهم وسائط بين الرسول وبين أمته في البلاغ عنه فقد أصاب، وأما جعل الوسائط بين الله وبين خلقه كالحجّاب الذين بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون حوائج

ص: 179

الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدباً منهم ليباشروا سؤال الملك أو أن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أنداداً، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى.

وأيضاً فيه: والمقصود هنا أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان. اه

وأيضاً فيه: قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيميه: (الوجه الخامس) أن يقال: نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سبباً في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر كان أو غيره كان ذلك سبباً في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين:(إحداهما) أن هذه أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله. (والثانية) أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه، فإن المسافر قد يكون سفره سبباً لأخذ ماله وكلاهما محرم، والدخول في دين النصارى قد يكون سبباً لمال يعطونه له وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سبباً لنيل المال يؤخذ من المشهود له وهو حرام، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سبباً لنيل مطالب وهو محرم، والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب وهو محرم، وكذلك الشرك كدعوة الكواكب والشياطين، بل وعبادة البشر قد تكون سبباً لبعض المطالب وهو محرم، فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته كالخمر، وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحياناً. وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقاً وأمراً، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية. اه.

ص: 180

وقال بعض أهل العلم في كتاب رد فيه على كتاب بعض معاصريه المسمى (جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة) لم أقف على اسمه1: والتوسل صار مشتركاً في عرف كثير، فبعض الناس يطلقه على قصد الصالحين، ودعائهم وعبادتهم مع الله، وهذا هو المراد بالتوسل في عرف عباد القبور وأنصارهم، وهو عند الله ورسوله وعند أولي العلم من خلقه الشرك الأكبر والكفر البواح، والأسماء لا تغير الحقائق، ويطلق أيضاً في عرف السنة والقرآن وأهل العلم بالله ودينه على التوسل والتقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الإيمان به وتوحيده وتصديق رسله وفعل ما شرعه من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها، كما توسل أهل الغار الثلاثة بالبر والعفة والأمانة، فإذا أطلق التوسل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله وكلام أهل العلم من خلقه، فهذا هو المراد به، لا ما اصطلح عليه المشركون الجاهلون بحدود ما أنزل الله على رسوله، فلبّس هذا المعترض بكلمة مشتركة ترويجاً لباطله.

وأما ما ورد في السنن من السؤال بحق السائلين عليك وبحق ممشاي ونحو ذلك فالله سبحانه وتعالى جعل على نفسه حقاً تفضلاً منه وإحساناً إلى عباده، فهو توسل إليه بوعده وإحسانه وما جعله لعباده المؤمنين على نفسه، فليس من هذا الباب، أعني باب مسألة الله بخلقه، وقد منع ذلك فقهاء الحنفية كما حدثني به محمد بن محمود الجزائري الحنفي رحمه الله بداره باسكندرية، وذكر أنهم قالوا: لا حق لمخلوق على الخالق، ويشهد بهذا ما يروى أن داود قال:"اللهم إني أسألك بحق آبائي عليك". فأوحى إليه: "أي حق لآبائك عليّ؟ " أو نحو هذا.

وأما الحق المشار إليه بالنفي هنا غير ما تقدم إثباته، فإن المثبت بمعنى الوعد الصادق، وما جعله الله تعالى للماشي إلى الصلاة وللسائلين من الإجابة والإثابة فضلاً منه وإحساناً، والمنفي هنا هو الحق الثابت بالمعاوضة والمقابلة على الإيمان والأعمال

1 هو الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب واسم كتابه (مصباح الظلام) رد فيه على كتاب (كشف الغمة عن تكفير هذه الأمة) لعثمان بن منصور من أهل سدير.

ص: 181

الصالحات، فالأول يعود ويرجع إلى التوسل بصفاته الفعلية الذاتية، والثاني يرجع إلى التوسل بذوات المخلوقين، فتأمله فإنه نفيس جداً. اه

وقال أيضاً فيه قبيله: فاعلم أن قول الملحد "فجعل بكلامه هذا كما ترى التوسل بذوات الصالحين والرسل عليهم الصلاة والسلام وطلبه جل وعلا بأوليائه من دين المشركين الشرك الأكبر المخرج عن الملة وكفر به، كما ترى صريحاً من قوله تمويه وتلبيس أدخل فيه قوله "وطلبه جل وعلا بأوليائه" ليوهم الجهال ومن لا علم عندهم بحقيقة الحال، وموضوع الكلام أن مراد الشيخ مسألة التوسل في دعاء الله بجاه الصالحين، وهذه مسألة ودعاء الصالح وقصده فيما لا يقدر عليه إلا الله مسألة أخرى، فخلطهما ليروّج باطله فقبحاً قبحاً، وسحقاً سحقاً لمن ورث اليهود، وحرف الكلم عن مواضعه، وكلام الشيخ صريح فيمن دعا مع الله إلهاً آخر في حاجاته وملماته وقصده بعباداته فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى كحال من عبد عبد القادر أو أحمد البدوي أو العيدروس أو علياً والحسين، ومع هذا الصنيع الفظيع، والشرك الجلي، يقول: أنا لا أشرك بالله شيئاً، وأشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله، ظناً منهم أن ذلك هو الإسلام فقط، وأنه ينجو به من الشرك وما رتب عليه، فكشف الشيخ شبهته، وأدحض حجته بما تقدم من الآيات:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

وأما مسألة الله تعالى بحق أنبيائه وأوليائه أو بجاههم، بأن يقول السائل "اللهم إني أسألك بحق أنبيائك أو بجاه أوليائك" أو نحوها فليس الكلام فيه ولم يقل الشيخ إنه شرك ولا له ذكر في كلامه، وحكمه عند أهل العلم معروف، وقد نص على المنع منه جمهور أهل العلم، بل ذكره الشيخ في رده على ابن البكري أنه لا يعلم قائلاً بجوازه إلا ابن عبد السلام في حق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجزم بذلك، بل علق القول على ثبوت حديث الأعمى وصحته، وفيه من لا يحتج به عند أهل الحديث، وعلى تسليم صحته فليس الكلام فيه. اه

وأيضاً قال فيه: حديث الأعمى قد تكلم فيه أهل الحديث ولم يصححوه كما تقدم،

ص: 182

لأن فيه من لا يحتج به، ولذلك توقف ابن عبد السلام في صحته وقال: إن صح الحديث فيجوز ذلك بالنبي خاصة، وغيره يقول: إن صح الحديث فليس فيه ما ذهب إليه من أجاز سؤال الله بجاه خلقه وبحقهم، لأن نص الحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وسأل الله أن يرد بصره، فهو توسل بدعائه كما في حديث عمر رضي الله عنه "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك". فدعاء الأنبياء وأقاربهم المؤمنين وأهل الفضل والصلاح من أعظم الوسائل إلى الله تعالى، وما المانع أن يكون هذا هو المراد؟

وعلى كل تقدير فالنزاع ليس في هذا، وكلام شيخنا ليس فيه، وإنما أورده المعترض لبساً ومغالطة، والمعترض ظن أن قول شيخنا فيما حكاه من شبه المشرك، وأنه يقول: وأطلب من الله بهم بجاههم وحقهم، وليس كذلك، لأن سياق الكلام وموضوعه فيمن يدعوهم مع الله، ويجعلهم وسائط بينه وبين ربه، في شأنه وأمره، وحاجته وملماته، فالمعنى حينئذ أطلب من الله بواسطتهم، بمعنى أنه يدعوهم لتحصيل مراده ومطلوبه من الله تعالى، فالغبي لم يفهم، ولبس وموه كما تقدم.

وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي في (روضة الأفكار والأفهام، لمرتاد حال الإمام) : (العاشرة) قولهم في الاستسقاء: لا بأس بالتوسل بالصالحين، وقول أحمد يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع قولهم إنه لا يستغاث بمخلوق، فالفرق ظاهر جداً، وليس الكلام مما نحن فيه، فكون بعضهم يرخص بالتوسل بالصالحين وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه، هذه المسألة من مسائل الفقه ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور إنه مكروه فلا ننكر على من فعله، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، لكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى، ويقصد القبر يتضرع عند الشيخ عبد القادر أو غيره يطلب منه تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإعطاء الرغبات، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصاً له الدين، لا يدعو مع الله أحداً، ولكن يقول في دعائه: أسألك بنبيك أو بالمرسلين أو بعبادك الصالحين، أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده، لكن لايدعو إلا الله يخلص له الدين، فأين هذا مما نحن فيه؟!

ص: 183

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الرسالة التي كتبها لأهل مكة بعد مناظرتهم إذا عرف هذا فالذي نعتقده وندين الله به أن من دعا نبياً أو ولياً أو غيرهما، وسأل منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، أن هذا من أعظم الشرك الذي كفرّ الله به المشركين، حيث اتخذوا أولياء وشفعاء يستجلبون بهم المنافع، ويستدفعون بهم المضار بزعمهم، قال الله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} . فمن جعل الأنبياء أو غيرهم كابن عباس أو المحجوب أو أبي طالب وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع، بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لكونهم أقرب إلى الملك، فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك حلال الدم والمال. اه

وقال الشيخ في الرسالة التي كتبها إلى عبد الله بن سحيم: إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها ما هو البهتان الظاهر وهي قوله إني مبطل كتب المذاهب، وقوله إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وقوله إني أدّعي الاجتهاد، وقوله إني خارج عن التقليد، وقوله إني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وقوله إني أكفر من توسل بالصالحين –إلى أن قال– فهذه اثنا عشر مسألة جوابي فيها أن أقول:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . ولكن كان قبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} . وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيراً في النار فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . الآية اه

قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرسالة التي اختصرها من رسائل محمد بن عبد الوهاب المؤلفة في التوحيد:

فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال: يا رسول الله، أو يا ابن عباس أو يا عبد القادر أو يا محجوب أو غيرهم، زاعماً أنه باب حاجته إلى الله تعالى وشفيعه

ص: 184

عنده، ووسيلته إليه، فهو المشرك الذي يهدر دمه ويباح ماله، إلا أن يتوب من ذلك. اه

وقال في موضع آخر: ونثبت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الشفاعة يوم القيامة كما ورد أيضاً، ونسألها من الله المالك لها والآذن فيها لمن شاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، بأن يقول أحدنا متضرعاً إلى الله تعالى: الهم شفع نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو: اللهم شفع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك، ونحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال: يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة وغيرها وأدركني وأغثني أو انصرني على عدوي أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، فإذا طلب ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من الكتاب ولا من السنة، ولا حث من السلف الصالح عن ذلك، بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ما ذكر شرك أكبر، قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. اه

وأيضاً قال فيها: وأما التوسل، وهو أن يقول اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو بجاه عبادك الصالحين أو نحو ذلك، فهو من البدعة المذمومة، إذ لم يرد بذلك نص. اه

قال العلامة السيد نعمان خير الدين الشهير بابن الآلوسي البغدادي في (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) : الخاتمة في التوسط بين القولين، وهو عند المنصف قرة عين الفريقين، فقد قال الوالد عليه الرحمة في تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . ما نصه:

"واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور" أو "فاستغيثوا بأهل القبور". وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل.

ص: 185

"وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حياً، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب، بل قد يطلب الفاضل من المفضول، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه لما استأذنه في العمرة "لا تنسنا يا أخي من دعائك"، وأمره أيضاً أن يطلب من أويس القرني رحمه الله أن يستغفر له، وأمر أمته صلى الله عليه وسلم بطلب الوسيلة له وبأن يصلوا عليه، وأما إذا كان المطلوب منه ميتاً أو غائباً فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة. اه

وأيضاً قال فيه: وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فعن العز بن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وقد نقل ذلك عن المناوي في شرحه الكبير للجامع الصغير، ودليله في ذلك ما رواه الترمذي –وقال حديث حسن صحيح– عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ادع الله تعالى أن يعافيني" فقال "إن شئت دعوتُ وإن شئت صبرتَ فهو خير لك". قال فادعه، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك نبي الرحمة، يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي، اللهم فشفعه في" ونقل عن أحمد مثل ذلك.

"ومن الناس من منع التوسل بالذات، والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقاً، وهو الذي يرشح به كلام التقي بن تيميه، ونقله عن الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف أي بدعاء أو شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم، ففيه جعل الدعاء وسيلة، وهو جائز بل مندوب، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث "اللهم فشفعه في" بل في أوله أيضاً ما يدل على ذلك، وقد شنع السبكي –كم هي عادته– على التقي فقال: ويحسن التوسل

ص: 186

والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيميه فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم وصار بين الإسلام مثلة. اه

"وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى الله عليه وسلم، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف كما سمعت، أو نحو ذلك كما ستسمع إن شاء الله تعالى، ومن ادعى النص فعليه البيان، وما رواه أبو داود في سننه وغيره من أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤى ذلك في وجوه أصحابه فقال صلى الله عليه وسلم " ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله تعالى أعظم من ذلك" لا يصلح دليلاً على ما نحن فيه حيث أنكر عليه قوله نستشفع بالله عليك، ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله نستشفع بك على الله لأن معنى الاستشفاع به صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه وليس معناه الإقسام به على الله تعالى ولو كان معنى الإقسام الاستشفاع فلم أنكر النبي صلى الله عليه وسلم مضمون الجملة الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله لمن ادعى جواز لمن ادعى جواز الإقسام بذاته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقاً، قياساً عليه –عليه الصلاة والسلام– بجامع الكرامة وإن تفاوتت قوة وضعفاً، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام، وما في الخبر الأول ليس نصاً في محل النزاع، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به، وتساوي حالتي حياته ووفاته صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه، ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله عنه، قال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار جائزاً لما عدلوا عن غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إننا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس، إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدنى مساغ، لذلك فعدولهم هذا مع أنهم السابقون الأولون وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبحقوق

ص: 187

الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق، دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره، وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلى الله عليه وسلم مع التفاوت في الكرامة الذي لا ينكره إلا منافق مما لا يكاد يسلم.

"على أنك قد علمت أن الإقسام به صلى الله عليه وسلم على ربه عز شأنه حياً وميتاً مما لم يقم النص عليه، لا يقال إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به عليه الصلاة والسلام وكذا بغيره كذلك، أما الأول فلقول عمر رضي الله عنه: كنا نتوسل بنبيك صلى الله عليه وسلم، وأما الثاني فلقوله: إنا نتوسل بعم نبيك، لما قيل إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام، بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا.

"وقد ذكر التقي أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح فمعناه في لغة الصحابة رضي الله عنهم أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته وذلك لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه، وهذا هو محل النزاع، وقد علمت الكلام فيه، وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل: اللهم أسألك بجاه فلان، فإنه لم يرو عن أحد من السلف أنه دعا كذلك، وقال: إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته، فيقال: أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك –الحديث– ونحو ذلك من الأدعية المأثورة.

وما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم "إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء

ص: 188

من كتب الحديث، وما رواه القشيري عن معروف الكرخي قدس سره أنه قال لتلامذته: إن كانت لكم إلى الله حاجة فأقسموا عليه بي فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله الآن، لا يوجد له سند يعوّل عليه عن المحدثين، وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة ". ففي سنده العوفي وفيه ضعف، وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقال فيه: إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم، والحق بمعنى الوعد الثابت المحقق الوقوع فضلاً لا وجوباً كما في قوله تعالى:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} . وفي الصحيح من حديث معاذ "حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم" فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة وهما من صفات الله تعالى الفعلية والسؤال بها مما لا نزاع فيه، فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في قوله صلى الله عليه وسلم "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك" فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثابته وإجابته، وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم، على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا ولا كذلك ذوات الأشخاص نفسها، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى: فأقسموا عليه عز شأنه بمن ليس في العير ولا في النفير، وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو شفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضال وتيسير كل عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر: إذا أعيتكم الأمور الخ1. وهو حديث مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك، فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة بها، والطلب من أصحابها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.

1 أي فعليكم بأصحاب القبور، وتقدم قريباً في ص 185.

ص: 189

"وعن أبي يزيد البسطامي قدس الله سره أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ومن كلام السجاد رضي الله عنه: إن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله، ومن دعاء موسى عليه السلام "وبك المستغاث" وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه "إذا استعنت فاستعن بالله" الخبر، وقال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

وبعد هذا كله أنا لا أرى بأساً في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى حياً وميتاً1، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معنى قول القائل: إلهي أتوسل بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي لي حاجتي: إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا، إذ معناه أيضاً: إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا، بل لا أرى بأساً أيضاً بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك في التوسل والإقسام بالذات البحت.

نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولعل ذلك كان تحاشياً منهم عما يخشى أن يعلق به في أذهان الناس إذ ذاك وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام شيء2، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في الصحيح.

وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس، والفرار من دعوى تضليلهم كما يزعمه البعض في التوسل بجاه عريض الجاه صلى الله عليه وسلم، لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصرحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ودرج عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد

1 سيأتي رده.

2 شيء فاعل يعلق.

ص: 190

قيل ما قيل إن حقاً وإن كذباً.

بقي ههنا أمران: (الأول) أن التوسل بجاه غير النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس به أيضاً إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاهاً عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه، وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى. (الثاني) أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات، وغيرهم مثل: يا سيدي فلان أغثني، وذلك ليس من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركاً، وإن لا يكنه فهو قريب منه، ولا أرى أحداً ممن يقول بذلك إلا وهو يعتقد أن الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب، أو يسمع النداء، ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه، ولا فتح فاه:{وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} . فالحزم التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد.

ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فجاءوا إليه فقال: إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى" لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه، والإصاخة إلى أهل ناديه، أمر يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه.

ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات، إنما هو شيطان أضله وأغواه، وزين له هواه، وذلك ما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام، وبعض

ص: 191

الجهلة يقول إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له! ولقد ساء ما يحكمون، لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن لا في مثل هذه الصورة، وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك، ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم أحسن المسالك. اه1

وهو توسط عند ذوي العقول مقبول، موافق للمنقول والمعقول، ولا أظنك تجده في كتاب، فهو اللباب لذوي الألباب.

وقال الوالد عليه الرحمة أيضاً في باب الإشارة من تفسيره ما نصه: قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} . الآية. فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التجهم والبسور، وهم في زماننا كثيرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} الآية، إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة، غافلين عن الله تعالى وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ننذر لله تعالى عز وجل ونجعل ثوابه للولي، ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم أو رد غائبهم أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشدك إلى ذلك أنه لو قيل انذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا.

وقال أيضاً عند تفسير قوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . الآية ما نصه: فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ

1 أي ما نقله صاحب (جلاء العينين) من تفسير والده المسمى بروح المعاني.

ص: 192

الأمة، ولا ترى فيهم أحداً يخص مولاه، بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال، أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال.

فبالله تعالى عليك قل لي: أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلاً، وأي الداعين أقوم قيلا؟ وإلى الله سبحانه المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، وغرقت سفينة الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف. اهـ.

ومما يفتى به في هذا المقام ما أنشدنيه لنفسه مفتى مصرنا مدينة السلام وهو قوله:

ولا تدع في حاجة بازاً ولا أسدا1

الله ربك لا تشرك به أحدا

وهو كلام يرشح منه التوحيد، ويكفى من القلادة ما أحاط بالجيد، اهـ ما في جلاء العينين.

هذا كله ما عن لي أن أذكره في هذا المقام، من كلام الأئمة الأعلام، والآن اكتب ما ألقى الله تعالى في روعي في هذا الباب، وإن كان مأخوذاً من أقوال من سلف من أهل العلم واللباب، وفي مطاوي هذا التقرير أبين إن شاء الله تعالى بعض ما أظهره الله لي من النقض والإبرام، والرد والقبول في هاتيك الأقوال، وليس المقصود منه إلا إظهار الحق والصواب من دون تعصب لقول دون قول فإنه من سيئ الخلال، فأقول مستعيناً بالرحمن الرحيم، ومتوسلاً بفضله العظيم:

1 يشير بلقب الباز إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني القطب الشهير الذي يعبده الملايين في العراق والهند وغيرهما، وهو مدفون في بغداد، ومن صور استغاثته المشهورة أن من كان له حاجة وصلى ركعتين في الليل ثم استقبل بغداد وتوجه إلى الشيخ عبد القادر واستغاثه بهذين البيتين:

أيدركني ضيم وأنت ذخيرتي؟

وأظلم في الدنيا وأنت نصيري؟

وعار على راعي الحمى وهو في الحمى

إذا ضاع في الهجا عقال بعير

وناداه باسمه وذكر حاجته فإنها تقضى!

ص: 193