المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما كان عليه الوهابية من الاتباع - صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان

[محمد بشير السهسواني]

الفصل: ‌ما كان عليه الوهابية من الاتباع

العظيمة، وينقلونها من معناها إلى معنى1 وكفى به إثماً ووهنا، وتغييراً لما أراده الله بأسمائه وصفاته2، لقد خسر والله من ضل سعيه وهو يحسب أنه يحسن صنعا. اهـ.

وقال الشيخ في الرسالة التي كتبها إلى عبد الرحمن بن عبد الله: والحاصل أن ما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكله من البهتان اهـ. وللسيد العلامة إمام العصر محمد بن إسماعيل الأمير اليمني نظم في مدح الحديث مشتمل على فصول حكم في فصل منها على دلائل الخيرات بالتحريق فقال:

وحرق عمداً للدلائل دفترا

أصاب ففيها ما يجل عن العد

غلوٌ نهى عنه الرسول وفرية

بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي

أحاديث لا تعزى إلى عالم ولا

تساوى فلساً إن رجعت إلى النقد

وصيرها الجهال للدرس ضرة

يرى درسها أزكى لديه من الحمد

ولما اطلع الشيخ الفاضل العلامة ناصر بن حسين المحبش الصنعاني على هذه الأبيات أرسل إليه نظماً سأل فيه عن وجه هذا الحكم، فأجاب السيد العلامة أولاً [على] النظم بالنظم، ثم حرر أدلة على دعواه في النثر على وجه الإتقان، وهذا السؤال والجواب كلاهما يتيسران في بلاد اليمن ونواحيه، ذكره السيد العلامة مولانا السيد صديق حسن سلمه الله تعالى في كتابه (إتحاف النبلاء) .

1 كذا في نقل الأصل ولعله: إلى ما ليس له معنى، أو إلى ما لا يصح له معنى.

2 لعله في أصله زيادة "الحسنى". وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 473

‌ما كان عليه الوهابية من الاتباع

والاجتهاد

في الأصول والفروع

قوله: وكان يمنع أتباعه من مطالعة كتب الفقه والتفسير والحديث، وأحرق

ص: 473

كثيراً منها، وأذن لكل من اتبعه أن يفسر القرآن بحسب فهمه حتى همج الهمج من أتباعه.

أقول: قد فرغ الشيخ من جوابه بما قال في الرسالة التي كتبها إلى عبد الله بن سحيم في المسائل التي شنع بها، منها ما هو البهتان الظاهر وهي قوله إني مبطل كتب المذاهب، وقوله إني أدعي الاجتهاد، وقوله إني خارج عن التقليد. اهـ ملخصاً.

وقال في الرسالة التي كتبها إلى عبد الرحمن بن عبد الله: وأخبرك أني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بينت للناس إخلاص الدين، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم. اهـ.

قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في رسالة اختصرت من الرسائل المؤلفة للشيخ محمد بن عبد الوهاب: إن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف، ونحن أيضاً في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولا ننكر على من قلد أحد الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم، فلا نقرهم على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب، كإرث الجد والأخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث وإن خالف مذهب الحنابلة، ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي كذلك مخالف لمذهب بعض الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح دليل ذلك1، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة وشتان بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أشرناهم للنص2، وإن خالف المذهب، وذلك إنما يكون نادراً جداً،

1 يزاد عليه أن من لم يقل بفرضية الطمأنينة يقول بأنها هي السنة العملية، بل صرح الحنفية بوجوبها.

2 لعله: أرشدناهم للنص.

ص: 474

ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفين للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه، ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ومن أجلها لدنيا تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذلك البيضاوي والبغوي والخازن والهداد1 والجلالين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشروحه كالقسطلاني والعسقلاني على البخاري، والنووي على مسلم والمناوي على الجامع الصغير، ونحوهم على كتب الحديث خصوصاً الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولاً وفروعاً، وقواعد وسيراً وصرفاً ونحواً، وجميع علم الأمة، ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلاً، إلا ما توقع الناس في الكفر2، كروض الرياحين، أو يحصل بسببه خلل في العقائد كعلوم المنطق فإنه قد حرمه كثير من العلماء على أنا لا نفحص على مثل ذلك، وكالدلائل إلا أن تظاهر به صاحبه معانداً أتلف عليه، وما اتفق لبعض البدوان في إتلاف كتب أهل الطائف إنما صدر لجهلة وقد زجر هو وغيره عن مثل ذلك.

ولا نرى قتل النساء والأطفال، وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق، بأنا نقرأ القرآن لرأينا3، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شروح ولا نعول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا النبي رمة في قبره وعصا أحدنا أنفع منه، وليس له شفاعة، وإن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ} مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد أقوال العلماء، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة وأنا نكفر الناس على الإطلاق، ومن بعد الست المائة إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك أن لا نقبل بيعة أحد حتى نقرر عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله، وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

1 في نسخة: الحداد.

2 في نسخة: الشرك.

3 لعل أصله: تفسير القرآن برأينا.

ص: 475

ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأن من دان بما نحن عليه سقط عنه جميع التبعات حتى الديون، وأنا لا نرى حقاً لأهل البيت رضوان الله عليهم، وأنا نجبر على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شاباً على مرافعة لدينا ولا وجه لذلك –فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً ما كان جوابنا عليه في كل مسألة من ذلك إلا {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا ورأى مجلسنا وتحقق ما عندنا، علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه جماهير أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله بالعبادة، فإنا نعتقد أن من فعل أنواعاً من الكبائر كالقتل للمسلم بغير حق والزنا والربا وشرب الخمر، وتكرر ذلك منه، لا يخرج بفعل ذلك عن دائرة الإسلام ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحداً لله في جميع أنواع العبادة.

والذي نعتقده في مرتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنها أعلى مراتب المخلوقات على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة مستقرة أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام من يسلم عليه، وتسن زيارته إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته في الاشتغال بالصلاة عليه الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين وكفى همه كما جاء في الحديث.

قوله: وتارة يقول إن الشريعة واحدة، فما لهؤلاء جعلوها مذاهب أربعة؟

أقول: قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في ديباجة الرسالة المذكورة ما نصه:

ونودي بالمواظبة على الصلوات في الجماعات وعدم التفرق في ذلك بأن يجتمعوا في كل صلاة مع إمام واحد يكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة رضوان الله عليهم، اهـ. وقد تقدم أيضاً قوله: بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة، فعلم بذلك أن هذا افتراء بحت.

قوله: وكان الشيخان المذكوران يعني الشيخ محمد بن سليمان الكردي، والشيخ

ص: 476

محمد حياة السندي الحنفي وغيرهما من أشياخه يتفرسون فيه الإلحاد والضلال، ويقولون سيضل هذا ويضل الله به من أبعده وأشقاه، فكان الأمر كذلك، وما أخطأت فراستهم فيه.

أقول: هذا النقل مما لا اعتماد عليه.

قوله: وكان والده عبد الوهاب من العلماء الصالحين، فكان أيضاً يتفرس في ولده المذكور الإلحاد ويذمه كثيراً ويحذر الناس منه.

أقول: هذا كذب صريح، فإن والده قد أثنى عليه ثناء بليغاً كما يظهر من عبارة (روضة الأفكار) وقد نقلت فيما تقدم.

قوله: وكذا أخوه سليمان بن عبد الوهاب فكان ينكر ما أحدثه من البدع والضلال والعقائد الزائغة، وتقدم أنه ألف كتاباً في الرد عليه.

أقول: نعم قد كان أخوه سليمان في أول الأمر كما قال هذا القائل، ثم رجع عن مذهبه الأول وندم على ما فرط من الضلال والطغيان، كما يلوح من كتابه الذي كتب إلى أحمد بن محمد التويجري وأحمد ومحمد ابني عثمان بن شبانة، وقد نقل فيما سبق فتذكر.

قوله: وكانت ولادة محمد بن عبد الوهاب سنة ألف ومائة وأحد عشر.

أقول: هذا غلط، والصحيح ما في (الروضة) من أنه رحمه الله ولد سنة خمس عشرة بعد المائة والألف كما تقدم.

قوله: ولما أراد إظهار ما زينه له الشيطان من البدعة والضلالة.

أقول: هذا بهتان عظيم، فإن الشيخ رحمه الله سعى سعياً عظيماً في إزالة البدعة والضلالة، وإنما دعا الناس إلى التوحيد الخالص واتباع السنة وترك الشرك والبدعة.

قوله: ويفهمهم أن ما عليه الناس كله شرك وضلال.

أقول: هذا بعمومه افتراء بحت.

قوله: وكان يقول لهم: إني أدعوكم إلى الدين، وجميع ما هو تحت السبع الطباق مشرك على الإطلاق، ومن قتل مشركاً فله الجنة.

ص: 477

أقول: هذا كله افتراء بلا ريب على الشيخ يعرفه من له رائحة من الإيمان والعلم والعقل.

قوله: وكانوا ملكوا الطائف في ذي القعدة سنة 1217 قتلوا الكبير والصغير والمأمور والآمر، ولم ينج إلا من طال عمره، وكانوا يذبحون الصغير على صدر أمه، ونهبوا الأموال وسبوا النساء –إلى قوله– فإنهم كانوا يحكمون على الناس بالكفر من منذ ستمائة، وغفلوا أيضاً عن استباحتهم أموال الناس ودمائهم وانتهاكهم حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بارتكابهم أنواع التحقير له ولمن أحبه وغير ذلك من مقابحهم التي ابتدعوها وكفروا الأمة بها، وكانوا إذا أراد أحد أن يتبعهم على دينهم طوعاً أو كرهاً يأمرونه بالإتيان بالشهادتين أولاً ثم يقولون له اشهد على نفسك أنك كنت كافراً، أو اشهد على والديك أنهما ماتا كافرين، واشهد على فلان وفلان أنه كان كافراً، ويسمون له جماعة من أكابر العلماء الماضين، فإن شهدوا بذلك قبلوهم وإلا أمروا بقتلهم، وكانوا يصرحون بتكفير الأمة من منذ ستمائة سنة، وأول من صرح بذلك محمد بن عبد الوهاب فتبعوه على ذلك، وإذا دخل إنسان في دينهم وكان قد حج حجة الإسلام قبل ذلك يقولون له حج ثانياً فإن حجتك الأولى فعلتها وأنت مشرك، فلا يسقط عنك الحج، ويسمون من اتبعهم من الخارج المهاجرين، ومن كان من أهل بلدتهم يسمونهم الأنصار، والظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعي النبوة إلا أنه ما قدر على إظهار التصريح بذلك، وكان في أول أمره مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً كمسيلمة الكذاب، وسجاح، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وأضرابهم، فكأنه يضمر في نفسه دعوى النبوة، ولو أمكنه إظهار هذه الدعوة لأظهرها، وكان يقول لأتباعه: إني أتيتكم بدين جديد، ويظهر ذلك من أقواله وأفعاله، ولهذا كان يطعن في مذاهب الأئمة وأقوال العلماء، ولم يقبل من دين نبينا صلى الله عليه وسلم إلا القرآن ويؤوله على حسب مراده، مع أنه إنما قبله ظاهراً فقط لئلا يعلم الناس حقيقة أمره، فيكشفوا عنه، بدليل أنه هو وأتباعه إنما يؤولونه على حسب ما يوافق أهواءهم لا بحسب ما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح وأئمة التفسير، فإنه كان لا يقول بذلك ولا يقول بما عدا القرآن من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقاويل الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين ولا بما استنبطه الأئمة من القرآن والحديث، ولا يأخذ بالإجماع، ولا

ص: 478

بالقياس الصحيح، وكان يدعي الانتساب إلى مذهب الإمام أحمد رحمه الله كذباً، وتستراً وزوراً، والإمام أحمد بريء منه.

أقول: الجواب على هذه الأقوال كلها أنها على طولها وكثرتها كاذبة خبيثة، فلا تعجبك كثرة الخبيث.

قوله: حتى أخوه سليمان بن عبد الوهاب ألف رسالة في الرد عليه كما تقدم.

أقول: قد عرفت فيما تقدم أن الشيخ سليمان قد رجع عن قوله الأول، فالاستناد بالقول المرجوع عنه عجيب.

قوله: وتمسك في تكفير المسلمين بآيات نزلت في المشركين فحملها على الموحدين.

أقول: إنما تمسك الشيخ في تكفير الذين يسمون أنفسهم مسلمين وهم يرتكبون أمور مكفرة بعموم آيات نزلت في المشركين، وقد ثبت في علم الأصول أن العبرة لعموم اللفظ، لا لخصوص السبب، وهذا مما لا مجال لاختلاف فيه لأحد.

قوله: وقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في وصف الخوارج أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين.

أقول: قد وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أنه سأل نافعاً: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: كان يراهم شرار الخلق انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين، قلت: وسنده صحيح قاله الحافظ في الفتح، والشيخ رحمه الله تعالى بريء من هذا الصنيع بحمد الله، والدليل عليه أنه ذكر في كتاب التوحيد باب إثم من فجر بالقرآن حديث أبي سعيد الخدري المروي في الخوارج وذكر هذا الأثر، فكيف يرتكب ما يشنع به على الخوارج؟ نعم قد استدل الشيخ رحمه الله على كفر عباد القبور بعموم آيات نزلت في الكفار، وهذا مما لا محذور فيه، إذ عباد القبور ليسوا بمؤمنين عند أحد من المسلمين1.

1 إن المؤلف يختصر في دحض هذه المفتريات لما سبق له من التفصيل فيما يفندها من بطلان النقل وأدلة الشرع، ومن عجائب جهل دحلان وأمثاله أنهم يظنون أن ما بينه القرآن من بطلان شرك المشركين خاص بهم لذواتهم وليس حجة على من يفعل مثل فعلهم كأن من ولد مسلماً يباح له الشرك لجنسيته الإسلامية وإن أشرك بالله في كل ما عده كتاب الله شركاً، وعلى هذا لا يتصور وقوع الردة في الإسلام لأن من سمى مسلماً يجب أن يسمى كفره وشركه إسلاماً، أو يعد مباحاً له أو حراماً على الأقل، وقد يعدونه مشروعاً بالتأويل! وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 479

قوله: وفي رواية أخرى عن ابن عمر عند غير البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: أخوف ما أخاف على أمتي رجل متؤول للقرآن يضعه في غير موضعه".

أقول: في هذا الكلام خطأ من وجوه:

(الأول) أن هذا الحديث من رواية عمر بن الخطاب، لا من رواية ابن عمر كما ستعرفه عن قريب.

و (الثاني) أن المتبادر من قوله عند غير البخاري أن غير البخاري من الأئمة الستة قد أخرجوه، مع أنه ليس له أثر في شيء من الكتب الستة، فهذا تدليس واضح، وإن كان المراد بغير البخاري الطبراني فقط فكان التصريح بالطبراني أولى بالديانة من هذا الإبهام والتلبيس.

و (الثالث) لفظ الحديث هكذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر ما أتخوف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن يضعه على غير مواضعه، ورجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره" رواه الطبراني في الأوسط، كذا في مجمع الزوائد، والمؤلف قد أخطأ في نقل هذه الرواية في غير ما موضع كما لا يخفى.

و (الرابع) في سنده إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو متروك الحديث كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت الأنصاري أبو مصعب عن أبي حازم ويحيى بن سعد الأنصاري، قال البخاري والدراقطني: منكر الحديث، وقال النسائي وغيره: ضعيف، وقال ابن عدي: وعامة ما يرويه منكر. اهـ ملخصاً.

ص: 480

و (الخامس) أن صدقه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب غير مسلم، ومن يدعي فعليه البيان.

وقد ورد في هذا المعنى أحاديث أخر:

منها حديث حذيفة، قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو موسى حدثنا أبو عمرو بن عاصم حدثنا المعتمر عن أبيه عن قتادة عن الحسن بن جندب بن عبد الله أنه بلغه عن حذيفة –أو سمعه منه– يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر "إن في أمتي قوماً يقرءون القرآن ينثرونه نثر الدقل، يتأولونه على غير تأويله"، لم يخرجوه، كذا في تفسير الحافظ ابن كثير.

ومنها حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليكم منافقاً عليم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون". رواه الطبراني في الصغير والأوسط من رواية الحارث وهو الأعور، وقد وثقه ابن حبان وغيره.

ومنها حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان". رواه الطبراني في الكبير والبزار ورواته محتج بهم في الصحيح، ورواه أحمد من حديث عمر بن الخطاب، كذا في الترغيب والترهيب للمنذري، وقال في مجمع الزوائد: رواه البزار وأحمد وأبو يعلى ورجاله موثقون.

ومنها حديث معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني أخاف عليكم ثلاثاً، وهن كائنات: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم". رواه الطبراني في الثلاثة، وفيه عبد الحكيم بن منصور وهو متروك الحديث.

ومنها حديث معاذ بن جبل أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم وثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة عالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن يزل فلا تقطعوا عنه أعمالكم، وأما جدال منافق بالقرآن فإن للقرآن

ص: 481

مناراً كمنار الطريق، فما عرفتم فخذوه، وما أنكرتم فردوه إلى عالمه، وأما دنيا تقطع أعناقكم فمن جعل الله في قلبه غني فهو غني". رواه الطبراني في الأوسط، وعمرو بن مرة لم يسمع من معاذ، وعبد الله بن صالح كاتب الليث وثقه عبد الملك بن شعيب بن الليث، ويحيى في رواية منه، وضعفه أحمد وجماعة.

ومنها حديث عمرو بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني أخاف على أمتي من ثلاث: من زلة عالم، ومن هوى متبع، ومن حكم جائر". رواه البزار وفيه كثير بن عبد الله بن عوف وهو متروك، وقد حسن له الترمذي.

ومنها حديث عمر بن الخطاب قال: حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ منافق عليم اللسان. رواه البزار وأحمد وأبو يعلى ورجاله موثقون.

ومنها حديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن واللبن، أما اللبن فيتبعون الريف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلاة، وأما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به الذين آمنوا". رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه دراج أبو السمح، وهو ثقة مختلف في الاحتجاج به، كذا في مجمع الزوائد.

وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال قلت لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين. رواه الدارمي.

وعن عمرو بن الأشجع أن عمر بن الخطاب قال: إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. رواه الدارمي.

و (السادس) أن المراد في الحديث –على تقدير ثبوته– رجل يبتغي تأويل ما تشابه من القرآن، يدل عليه ما أخرجه أبو القاسم في المعجم الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} . الآية. وأن يروا ذا علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه". كذا في تفسير ابن كثير.

وقبحُ تأويل ما تشابه من القرآن ثابت بالكتاب، أي قوله تعالى: {فَأَمَّا

ص: 482

الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} . الآية. وبالسنة الصحيحة وهو ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} . وقرأ إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا رأيت –وعند مسلم رأيتم– الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم" متفق عليه. والخوارج داخلون فيهم دخولاً أولياً، بل إن قيل إنهم هم المراد في الحديث الذي ذكره صاحب الرسالة في الآية لم يكن بعيداً، فإن أول بدعة وقعت في الإسلام هي فتنة الخوارج ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة، ثم انبعثت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من أهل البدع، فهم أصل كل أهل البدعة ورأسهم1، ويهديك إليه ما أخرجه الحافظ أبو يعلى عن الحسن بن جندب بن عبد الله أنه بلغه عن حذيفة أو سمعه منه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر:"إن في أمتي قوماً" الحديث وقد ذكر آنفاً.

وما أخرجه أحمد عن أبي غالب قال: سمعت أبا أمامة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} . قال: هم الخوارج. وفي قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} . وقد رواه ابن مردويه من غير وجه عن أبي غالب عن أبي أمامة فذكره، كذا في تفسير ابن كثير، فالفرد الكامل للحديث والآية هو الخوارج، ولكل أهل بدعة كفل منها على قدر بدعته، حتى الخلف من الذين يسمون أنفسهم أهل السنة، ومنهم صاحب الرسالة، فإنهم يؤولون آيات الصفات وأحاديثها.

وإذا عرفت هذا فاعلم أن الشيخ ليس مصداق هذا الحديث بيقين، فإنه يشنع تشنيعاً بليغاً على من يتبغي تأويل المتشابهات، فكيف يكون مصداقه؟ وقد عقد في كتاب التوحيد باباً لما جاء في اتباع المتشابه، وقد ذكر فيه حديث عائشة المذكور، وأثر عمر رضي الله عنه: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ الحديث، وقال: ولما سمع

1 نسى المؤلف هنا غلاة الشيعة كالسبأيين، فهم قبل الخوارج وشر منهم.

ص: 483

صبيغ يسأل عن الذاريات وأشباهها فعل به عمر ما فعل، والقصة مشهورة، وقال في الرسالة التي اختصرت لأهل مكة: فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم والأعلم والأحكم، خلافاً لمن قال طريقة الخلف أعلم، وهي أنا نقر آيات الصفات والأحاديث على ظاهرها ونكل معناها إلى الله تعالى، فإن مالكاً وهو من أجل علماء السلف لما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

قوله: وأعجب من ذلك كله أنه كان يكتب إلى عماله الذين هم من أجهل الجاهلين: اجتهدوا بحسب فهمكم، وانظروا حكماً بما ترونه مناسباً لهذا الدين.

أقول: هذا كذب بحت، فإن الشيخ قال في الرسالة التي اختصرت لأهل مكة: ونحن أيضاً في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولا ننكر على من قلد أحد الأربعة، دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم، فلا نقرهم على شيء من مذاهبهم الفاسدة بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة1، ولا نستخف بمرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا الحديث كإرث الجد والأخوة، فإنا نقدم الجد وإن خالف مذهب الحنابلة، ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض إلا إذا اطلعنا على نص جلي كذلك مخالف لمذهب بعض الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل به شعار ظاهر كإمام الصلاة فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة وشتان بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص وإن خالف المذهب، وذلك إنما يكون نادراً جداً، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب

1 تقدم أن مذاهبهم مدونة، وقوله ولا نستخف كانت ولا نستحق ولعله تصحيف.

ص: 484

الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفة للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه. اهـ.

قوله: وقد اعتنى كثير من العلماء من أهل المذاهب الأربعة للرد عليه.

أقول: قد اعتنى كثير من العلماء من أهل التحقيق بالجواب على ذلك الرد.

قوله: وسألوه عن مسائل يعرفه أقل طلبة العلم فلم يقدر على الجواب عنها، لأنه لم يكن له تمكن في العلوم.

أقول: تمكنه في العلوم الدينية مما لا مجال للكلام فيه، فإن الشيخ إمام الموحدين ورأس العلماء العاملين، وغرة الأئمة المحققين، كان حفظ القرآن عن ظهر قلبه قبل بلوغه العشر، وكان حاد الفهم، سريع الحفظ، اشتغل في العلم عن أبيه، وأخذ في القراءة على والده في الفقه، ورحل في العلم وسار، وجد في الطلب فزاحم فيه العلماء الكبار، وأخذ العلم عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني، وقد سمع رحمه الله الحديث والفقه من جماعة بالبصرة كثيرة وقرأ بها النحو وأتقن تحريره، وكتب الكثير من اللغة والحديث، فلله دره من جهبذ عالم، وداع إلى توحيد الله قائم، وناصح لله ملازم، ومجدد لتلك المشاهد السنية والمعالم، كذا في الروضة للشيخ حسين بن غنام الأحسائي، وقال عالم صنعاء وشيخها:

قفي واسألي عن عالم حل سوحها

به يهتدي من ضل عن منهج الرشد

محمد الهادي لسنة أحمد

فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي

لقد سرني ما جاءني من طريقه

وكنت أرى هذى الطريقة لي وحدي

وقال عالم الأحساء وشيخها:

لقد رفع المولى به رتبة الهدى

بوقت به يعلو الضلال ويرفع

وجرت به نجد ذيول افتخارها

وحق لها بالألمعي ترفع

وقد عرف طلب الشيخ ورحلته في تحصيله كما ذكره صاحب التاريخ الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، وقد اجتمع بأشياخ الحرمين في وقته ومحدثيها وأجازه بعضهم ورحل إلى البصرة، وسمع وناظر، وإلى الأحساء وهي إذ ذاك آهلة بالعلماء فسمع من أشياخها، وباحث في أصول الدين ومقالات الناس في الإيمان وغيره، وسمع من

ص: 485

والده ومن فقهاء نجد في وقته، واشتهر عندهم بالعلم والذكاء، كذا قاله بعض المحققين في تأليف رد فيه على (جلاء الغمة في تكفير هذه الأمة) .

وللشيخ رسائل وتأليفات تدل على سعة علمه، منها (كتاب التوحيد) وكتاب (أصول الإيمان واستنباط الأحكام من بعض السور وغيرها) . وحكاية السؤال عن المسائل وعدم القدرة على الجواب عنها حكاية رجل خائن لا يعتمد على حكايته.

قوله: فمن جملة ما سأله عنه قوله أسألك عن قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} . إلى آخر السورة التي هي من قصار المفصل كم فيها من حقيقة شرعية وحقيقة لغوية وحقيقة عرفية –إلى قوله– وما فيها من احتراس وتتميم، وبين لنا موضع كل ما ذكر، فلم يقدر محمد بن عبد الوهاب على الجواب عن شيء مما سأله عنه.

أقول: الكلام فيه من وجوه: (الأول) عدم الاعتماد على هذه الحكاية، و (الثاني) عدم القدرة على جواب مثل هذا السؤال لا يدل على عدم تمكنه في العلوم الدينية من الحديث والتفسير والفقه. و (الثالث) أن هذا السؤال من جنس محارات العلماء وهي غير جائزة، بل من جنس الأغلوطات وهو منهي عنه، لما روى أبو داود عن معاوية قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات. وعن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل مشكل حرام، وليس في الدين إشكال". رواه الطبراني في الكبير، وفيه الحسين بن عبد الله بن ضميرة وهو مجمع على ضعفه.

وعن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون أقوام من أمتي يتعاطون فقهاءهم عضل المسائل، أولئك شرار أمتي". رواه الطبراني، وفيه يزيد بن ربيعة وهو متروك، كذا في مجمع الزوائد. قال الذهبي في ترجمة الحسين بن عبد الله بن ضميرة كذبه مالك، وقال أبو حاتم متروك الحديث، وقال أحمد لا يساوي شيئاً، وقال ابن معين ليس بثقة ولا مأمون، وقال البخاري: منكر الحديث ضعيف، وقال أبو زرعة ليس بشيء أضرب على حديثه اهـ.

وقال في ترجمة يزيد بن ربيعة الرحبي الدمشقي: قال البخاري أحاديثه مناكير، وقال أبو داود وغيره ضعيف، وقال النسائي متروك، قال أبو مسهر: كان يزيد بن

ص: 486

ربيعة فقيهاً غير متهم ما ننكر عليه أنه أدرك أبا الأشعث، ولكن أخشى عليه سوء الحفظ والوهم، وقال الجوزجاني أخاف أن تكون أحاديثه موضوعة، وأما ابن عدي فقال أرجو أنه لا بأس به. اهـ.

وحديث تميم الداري وثوبان وإن كانا ضعيفين ولكن يكفيان للاستئناس والتقوية، لا يقال إن حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي"؟ الحديث رواه البخاري يدل على خلاف ما رواه أبو داود عن معاوية، قلت: دلالته على الخلاف غير مسلمة، فإن حديث ابن عمر يدل على أن امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه جائز، وأما حديث معاوية فمحمول على صعاب المسائل مما لا نفع فيه أو ما خرج على سبيل تعنيت المسئول أو تعجيزه، كذا قال الحافظ في الفتح، ولا ريب أن السؤال الذي ذكره المؤلف خرج على سبيل تعنيت المسئول وتعجيزه.

و (الرابع) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين، وأهل العلم من التابعين وتبع التابعين، ولا سيما الأئمة الأربعة من الفقهاء والأئمة الستة من أهل الحديث لو سئلوا عن أمثال تلك المسائل فهل يقدرون على الجواب عن شيء منها أم لا؟ على الثاني فللشيخ رحمه الله تعالى أسوة حسنة في هؤلاء السادة الكبار، والأول مستبعد جداً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف شيئاً من حقيقة شرعية وحقيقة لغوية وحقيقة عرفية ومجاز مرسل وغيرها من الأمور المذكورة في هذا السؤال، وكذا أصحابه وأهل بيته رضي الله عنهم، وكذلك أهل العلم من التابعين وتبع التابعين، وكذلك الفقهاء الأربعة والأئمة الستة.

قوله: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الخوارج في أحاديث كثيرة فكانت تلك الأحاديث من أعلام نوبة النبي صلى الله عليه وسلم لأنها من الإخبار بالغيب، وتلك الأحاديث كلها صحيحة بعضها في صحيحي البخاري ومسلم وبعضها في غيرهما.

أقول: كون الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه مصداق تلك الأحاديث

ص: 487

وكذلك كون تلك الأحاديث كلها صحيحة محل نظر، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

قوله: فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "الفتنة من ههنا، الفتنة من ههنا". وأشار إلى المشرق.

أقول: رواه البخاري في كتاب الفتن من حديث ابن عمر ولفظه هكذا: عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام إلى جنب المنبر فقال: "الفتنة ههنا، الفتنة ههنا، من حيث يطلع قرن الشيطان" أو قال: "قرن الشمس". وفي رواية عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: "ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان". وفي رواية عنه قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا". قالوا: وفي نجدنا؟ قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا". قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ فأظنه قال في الثالثة "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان"1. انتهى.

قال الحافظ في الفتح قوله: "الفتنة ههنا، الفتنة ههنا" كذا فيه مرتين، وفي رواية يونس "ها إن الفتنة ههنا". أعادها ثلاث مرات، قوله:"من حيث يطلع قرن الشيطان". أو قال "قرن الشمس". كذا هنا بالشك، وفي رواية عبد الرزاق "ههنا أرض الفتن". وأشار إلى المشرق يعني حيث يطلع قرن الشيطان، وفي رواية شعيب "ألا إن الفتنة ههنا" يشير إلى المشرق حيث يطلع قرن الشيطان، وفي رواية يونس مثل معمر لكن لم يقل: أو قال "قرن الشيطان" بل قال: يعني المشرق.

ولمسلم من رواية عكرمة بن عمار عن سالم سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله

1 قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وقال الخطابي "نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي مشرق أهل المدينة، وأصل (النجد) ما ارتفع من الأرض، وهي خلاف (الغور) فإنه ما انخفض من منها، وتهامة كلها من الغور، ومكة من تهامة، انتهى. ثم قال ابن حجر: وعرف بهذا وهاء ما قاله الداودي إن نجداً من ناحية العراق، كأنه توهم أن نجداً موضع مخصوص، وليس كذلك، بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى نجداً، والمنخفض غوراً. وانظر كتاب (مع الرعيل الأول) فصل "هل أخطأ الأحنف". ص192-195.

ص: 488

صلى الله عليه وسلم يشير بيده نحو المشرق ويقول: ها إن الفتنة ههنا" ثلاثاً "حيث يطلع قرن الشيطان ". وله من طريق حنظلة عن سالم مثله، لكن قال "إن الفتنة ههنا" ثلاثاً، وله من طريق فضيل بن غزوان سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول: يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة، سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ههنا" وأومأ بيده نحو المشرق "من حيث يطلع قرنا الشيطان" كذا فيه بالتثنية، وله في صفة إبليس من طريق مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مثل سياق حنظلة سواء، وله نحوه من رواية سفيان الثوري عن عبد الله ابن دينار أخرجه في الطلاق ثم ساق هنا من رواية الليث عن نافع عن ابن عمر مثل رواية يونس إلا أنه قال: "ألا أن الفتنة ههنا" ولم يكرر، وكذا لمسلم، وأورده الإسماعيلي من رواية أحمد بن يونس عن الليث فكررها مرتين. اهـ.

قلت: قد عرفت من هنا أن زيادة لفظ "من" لا تعرف في شيء من طرق الحديث ولعلها من أغلاط المؤلف، ولا يستبعد ذلك منه، فإنه كثيراً ما يغلط في نقل الروايات لأنه ليس من أهل هذا الشأن، وهذا الحديث لا شك في صحته، وقد وردت في هذا المعنى أحاديث صحيحة أخر:

منها ما روى البخاري في المناقب عن أبي مسعود يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ههنا جاءت الفتن –نحو المشرق– والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين أهل الوبر عند أصول أذناب الإبل والبقر، في ربيعة ومضر". ولفظ مسلم هكذا عن أبي مسعود قال: أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمين فقال: "ألا إن الإيمان ههنا وإن القسوة، وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر".

ولمسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأس الكفر نحو المشرق" والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم".

وله في رواية عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان يمان، والكفر قبل المشرق

ص: 489

والسكينة في أهل الغنم والفخر والرياء في الفدادين أهل الخير والوبر ".

وله في رواية عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة وأضعف قلوباً، الإيمان يمان والحكمة يمانية، والسكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر قبل مطلع الشمس".

وله في رواية عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوباً وأرق أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية، رأس الكفر قبل المشرق".

وله عن جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "غلظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز".

قال الحافظ في الفتح: وقال غيره –أي غير الخطابي– كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك ما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة. اه

وقال القسطلاني: إنما أشار عليه الصلاة والسلام إلى المشرق لأن أهله يومئذ أهل كفر فأخبر أن الفتنة تكون من تلك الناحية، وكذا وقع فكان وقعة الجمل ووقعة صفين ثم ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق وما وراءها من المشرق، وكان أصل ذلك كله وسببه قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهذا علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم. اهـ.

وقال أيضاً: يبدأ من المشرق ومن ناحيتها يخرج يأجوج ومأجوج والدجال، وبها الداء العضال، وهي الهلاك في الدين" اهـ.

وقال النووي: والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر كما قال في حديث آخر "رأس الكفر نحو المشرق". وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك، ويكون حين يخرج الدجال من المشرق وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن

ص: 490

العظيمة، ومثار لكفرة الترك الفاسقة العاتية الشديدة البأس. اهـ.

وقال صاحب مجمع البحار: ومنه حديث "قرنا الشيطان قبل المشرق" أي جمعاه المعنويان أو شيعتاه من الكفار، يريد مزيد تسلطه في المشرق وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم ويكون حين يخرج الدجال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ومثار الترك العاتية. اهـ.

ولا يخفى عليك أن لفظاً من ألفاظ هذا الحديث لا يقتضي أن كل من يولد في المشرق أو يسكن فيه يكون مصداقاً لهذا الحديث حتى يثبت ما ادعاه المؤلف من كون الشيخ مصداقاً له، والمؤلف لم يبين وجه الاستدلال به حتى يتكلم فيه ويجاب عليه، ومجرد وقوع الفتنة في موضع لا يستلزم ذم كل من يسكنه.

ألا ترى إلى ما روى الشيخان عن أسامة بن زيد قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة فقال: "هل ترون ما أرى"؟ قالوا: لا. قال: "فإني لأرى الفتن تقع في خلال بيوتكم كوقع المطر".

وإلى ما روى أبو داود عن أبي ذر قال: كنت رديفاً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فلما جاوزنا بيوت المدينة، قال:"كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة جوع تقوم عن فراشك ولا تبلغ مسجدك حتى يجهدك الجوع؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: تعفف يا أبا ذر. قال: كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة موت يبلغ البيت العبد حتى أنه يباع القبر بالعبد"؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال "تصبر يا أبا ذر" قال: "كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة قتل تغمر الدماء أحجار الزيت"؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "تأتي من أنت منه" قال قلت وألبس السلاح؟ قال: "شاركت القوم إذاً". قلت فكيف أصنع يا رسول الله؟ قال: "إن يبهرك شعاع السيف فالق ناحية ثوبك على وجهك ليبوء بإثمك وإثمه"1.

1 هذا الحديث أخرجه البغوي في المصابيح وعزاه مخرجوه وصاحب المشكاة إلى أبي داود، وهو غير موجود في نسخ أبي داود التي في الأيدي بهذا اللفظ، ولكنه جاء فيه بلفظ آخر يشير إلى أنه سبقه غيره، وأحجار الزيت مكان في المدينة معروف، قال بعضهم: هو الموضع الذي وقعت فيه الوقعة في زمن يزيد بن معاوية حين استباح المدينة وهو من جهتها الغربية، وقوله:"تأتي من أنت منه". وعند أبي داود "عليك بمن أنت منه". معناه: الزم أهلك وعشيرتك ولا تنغمس في الفتنة، وقيل الزم إمامك الذي بايعته. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 491

وإلى ما روى البخاري عن ابن المسيب قال: وقعت الفتنة الأولى –يعني مقتل عثمان– فلم يبق من أصحاب بدر أحد، ثم وقعت الفتنة الثانية –يعني الحرة– فلم يبق من أصحاب الحديبية أحد، ثم وقعت الفتنة الثالثة فلم ترفع وبالناس طباخ.

وهذه الأحاديث وغيرها مما ورد في هذا الباب دلالة على وقوع الفتن في المدينة النبوية، فلو كان وقوع الفتنة في موضع مستلزماً لذم ساكنيه لزم ذم سكان المدينة كلهم أجمعين، وهذا لا يقول به أحد، على أن مكة والمدينة كانتا في زمان موضع الشرك والكفر، وأي فتنة أكبر منهما؟ بل وما من بلدة أو قرية إلا وقد كانت في زمن أو ستصير في زمان موضع الفتنة، فيكف يجترئ مؤمن على ذم جميع مسلمي الدنيا؟ وإنما مناط ذم شخص معين كونه مصدراً للفتن من الكفر والشرك والبدع والظلم، وأما مجرد تولده في موضع الفتنة أو سكناه فيه مع كونه ماحياً للفتن، ومحيياً للسنن، فليس سبباً للذم والعيب، بل موجب للثناء والوصف الجميل، كيف لا وهو كالمقاتل خلف الفارين، وكغصن أخضر في شجر يابس، ومثل مصباح في بيت مظلم؟ كما ورد في الحديث.

وملاك الأمر في كون الرجل أولى الناس بالرسول هو تقواه من كان وحيث كان يدل عليه ما روى الإمام أحمد بن محمد بن حنبل عن معاذ بن جبل قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله

ص: 492

صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال:"يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري". فبكى معاذ جشعاً1 لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: "إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا".

قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج ناس من قبل المشرق ويقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه، سيماهم التحليق" والفوق بضم الفاء موضع الوتر.

أقول: الحديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد عن معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج ناس من قبل المشرق ويقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه". قيل ما سيماهم؟ قال: "سيماهم التحليق، أو قال: التسديد". اهـ. وليس فيما نقله المؤلف لفظ "ثم" ولا لفظة "قيل ما سيماهم".

وأخرج مسلم عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماً يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق، قال:"هم شر الخلق أو من أشر الخلق، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق". قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم مثلاً أو قال قولاً "الرجل يرمي الرمية –أو قال: الغرض– فينظر في النصل فلا يرى بصيرة، وينظر في النضّي فلا يرى بصيرة2، وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة، قال: قال أبو سعيد: وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق". اهـ.

وفي رواية له عن سهل بن حنيف قال: "يتيه قوم قبل المشرق محلقة رءوسهم".

1 الجشع بالتحريك: الجزع لفراق الإلف، وهو المراد هنا كما في اللسان وغيره. قال: والجشع أسوأ الحرص وقيل أشده على الطعام وغيره. وكتبه محمد رشيد رضا.

2 النضي كغني: قدح السهم، أو ما جاوز الريش منه إلى النصل، والبصيرة: أثر الدم.

ص: 493

وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد على فوقه، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله تعالى منهم، قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: "التحليق". وله عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم

نحوه، قال:"سيماهم التحليق والتسبيد1 فإذا رأيتموهم فأنيموهم".

وأخرج النسائي عن شريك بن شهاب قال: كنت أتمنى أن ألقى رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أسأله عن الخوارج، فلقيت أبا برزة في يوم عيد في نفر من أصحابه، فقلت له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج؟ فقال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني ورأيته بعيني: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال فقسمه، فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله ولم يعط من وراءه شيئاً، فقام رجل من ورائه فقال: يا محمد ما عدلت في القسمة، رجل أسود مطموم الشعر2 عليه ثوبان أبيضان، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وقال:"والله لا تجدون بعدي رجلاً هو أعدل مني" ثم قال: "يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة". قال أبو عبد الرحمن: شريك بن شهاب ليس بذلك المشهور". اهـ.

وأخرج ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج في آخر الزمان –أو في هذه الأمة– قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم أو حلوقهم، إذا رأيتموهم –أو إذا لقيتموهم– فاقتلوهم". اهـ.

1 التحليق المبالغة في حلق الشعر، والتسبيد بالباء استئصاله، فهو بمعناه، وقيل: هو التشعيث بترك الغسل والدهن، وفي نسخة والتمسيد بالميم وهو بمعناه. وكتبه محمد رشيد رضا.

2 أي محلوقة.

ص: 494

قال الحافظ في الفتح: وقد ذكر صلى الله عليه وسلم للخوارج علامة أخرى، ففي رواية معبد ابن سيرين عن أبي سعيد قال: ما سيماهم؟ قال: "سيماهم التحليق" وفي رواية عاصم بن سمح عن أبي سعيد: فقام رجل فقال: يا نبي الله هل في هؤلاء القوم علامة؟ قال: "يحلقون رءوسهم، فيهم ذو ثدية" وفي حديث أنس عن أبي سعيد "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتا". قيل: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: "التحليق ". هكذا أخرجه الطبري، وعند أبي داود بعضه. اهـ.

هذا ما اطلعت عليه من الأحاديث التي فيها ذكر الحلق، وليس فيها اللفظ الذي نقله المؤلف، ولعل هذا من أوهامه وأغلاطه.

قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم "سيكون من أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل ". الحديث.

أقول: قد عرفت فيما سبق أن الحديث أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك، ولكن أخطأ المؤلف في نقله في مواضع:(الأول) أنه زاد لفظة "إيمانهم". حيث قال لا يجاوز إيمانهم تراقيهم. و (الثاني) أنه قال لفظة "يعود" موضع يرتد. و (الثالث) أنه زاد لفظة "السهم". و (الرابع) أنه قال لفظة "إلى" موضع على. و (السادس) أنه قال: "لمن قتلهم أو قتلوه" بأو والموجود في سنن أبي داود "لمن قتلهم وقتلوه". بالواو.

قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام يقولون قول خير البرية، الحديث.

أقول: هذا حديث علي قد أخرجه البخاري عن سويد بن غفلة قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فوالله لأن أخر من السماء أحب إليّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق

ص: 495

السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرأ لمن قتلهم يوم القيامة، وفي لفظ له "يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قلتهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة". أخرجه مسلم ولفظه هكذا: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة". اهـ. وأخرجه أبو داود ولفظه هكذا: "يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة". وأخرجه النسائي ولفظه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة". وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود.

أما لفظ الترمذي فهكذا: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".

وأما لفظ ابن ماجه فهكذا: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول الناس، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فمن لقيهم فليقتلهم فإن قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم". اهـ.

واللفظ الذي نقله المؤلف لا يوافق شيئاً مما ذكر من الروايات، أما الرواية الأولى للبخاري فلأن لفظ البخاري "سيخرج قوم في آمر الزمان" ونقل المؤلف "سيخرج

ص: 496

في آخر الزمان قوم". ولفظ البخاري "حداث الأسنان" والمؤلف قال: "أحداث الأسنان" ولفظ البخاري "يقولون من خير قول البرية". والمؤلف قال: "يقولون قول خير البرية". وزاد لفظة "يقرءون القرآن" وهذه اللفظة ليست في تلك الرواية وحذف لفظة "إيمانهم" وإنما لفظ هذه الرواية هكذا "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم" ولفظة الرواية "فأينما لقيتموهم" وقال المؤلف "فإذا لقيتموهم" والمؤلف زاد لفظة "عند الله" من عند نفسه، ولفظة الرواية هكذا "لمن قتلهم يوم القيامة".

وأما الرواية الثانية له فأيضاً تخالف ما ذكره المؤلف من وجوه، وهي أن لفظة هذه الرواية "يأتي في آخر الزمان قوم" وقال المؤلف "سيخرج في آخر الزمان قوم" وفي الرواية "حدثاء الأسنان" وقال المؤلف "أحداث الأسنان" ولفظ الرواية "يقولون من خير قول البرية" وقال المؤلف "يقولون قول خير البرية" وزاد المؤلف لفظ "يقرءون القرآن" وليس هذا اللفظ في تلك الرواية أصلاً، ولفظ الرواية "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم" وليس لفظ إيمانهم فيما نقله المؤلف، وجملة "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" قبل قوله صلى الله عليه وسلم "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم" في الرواية، وفيما ذكره المؤلف عكس القضية، ولفظ الرواية "يمرقون من الإسلام" وفيما نقله المؤلف "يمرقون من الدين" ولفظ الراوية "فأينما لقيتموهم" وفيما نقله المؤلف" فإذا لقيتموه" ولفظ الرواية "فإن قتلهم أجر" وفيما نقله المؤلف "فإن في قتلهم أجراً" وزاد المؤلف لفظ "عند الله" من عند نفسه وهذا اللفظ ليس في الرواية.

وأما رواية مسلم فهي وإن كانت أقرب الروايات إلى ما ذكره المؤلف ولكنها ليست عينه، فإن لفظ الرواية "يقولون من خير قول البرية" وقال المؤلف "يقولون قول خير البرية".

وأما رواية أبي داود فعين الرواية الثانية للبخاري فحالها حالها.

ص: 497

وأما رواية النسائي فأيضاً مخالفة لما ذكره المؤلف، فإن لفظ الراوية "يخرج قوم في آخر الزمان" والمؤلف قال "سيخرج في آخر الزمان" والرواية "يقولون من خير قول البرية" ونقل المؤلف "يقولون قول خير البرية" وزاد لفظ "يقرءون القرآن" وحذف لفظ "إيمانهم" والراوية "فإن قتلهم أجر" وقال المؤلف "فإن في قتلهم أجراً" وزاد "عند الله" من عند نفسه.

وأما رواية الترمذي فأيضاً مخالفة لما ذكره المؤلف، فإن الرواية "يخرج في آخر الزمان" وقال المؤلف "سيخرج" وفي الرواية جملة "يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم" قبل قوله صلى الله عليه وسلم "يقولون من قول خير البرية" وفيما ذكره المؤلف عكس القضية ولفظ الراوية "تراقيهم" وفيما ذكره المؤلف "حناجرهم" وفي الرواية "يقولون من قول خير البرية" والمؤلف نقل "يقولون قول خير البرية" وقوله "فإذا لقيتموهم" الحديث ليس في رواية الترمذي.

وأما رواية ابن ماجه فأيضاً تخالف ما ذكره المؤلف، فإن الرواية "يخرج" والمؤلف زاد لفظ السين والرواية "يقولون من خير قول الناس" والمؤلف ذكر "يقولون قول خير البرية" والراوية "تراقيهم" وذكر المؤلف "حناجرهم" والراوية "يمرقون من الإسلام" والمؤلف قال "يمرقون من الدين" والراوية "فمن لقيهم فليقتلهم" والمؤلف قال "فإذا لقيتموهم فاقتلوهم" والراوية "فإن قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم" والمؤلف قال "فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة".

قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "أناس من أمتي سيماهم التحليق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، هم شر الخلق والخليقة".

أقول: قد راجعت الأمهات الست وسنن الدارمي والموطأ وزوائد مسند البزار فما وجدت الحديث بهذا اللفظ، فعلى مدعي صحته بيان تخريجه وإثبات دعواه.

قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرح ناس من المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه، سيماهم التحليق".

ص: 498

أقول لفظه قريب مما رواه البخاري في آخر كتاب التوحيد من طريق معبد ابن سيرين عن أبي سعيد الخدري، وقد تقدم، ولكن ليس عينه، فإن الرواية "من قبل المشرق" والمصنف هنا أسقط لفظ "قبل" والراوية "يقرءون القرآن" بإثبات الواو والمؤلف قد حذفها هنا، والراوية "ثم لا يعودون فيه" والمؤلف لم يذكر لفظ "ثم" والراوية قيل ما سيماهم؟ قال" والمؤلف لم يذكر هذا، وهذا الحديث قريب من ثاني الأحاديث التي ذكرها المؤلف بيد أنه ليس في هذا اللفظ "قيل" والواو على رأس يقرءون.

وبالجملة واجب على المؤلف تخريج هذين الحديثين –أي الثاني والسادس- وإثبات الفرق بينهما وتبيين صحتهما، ودونه خرط القتاد.

قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم "رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل".

أقول: الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وتمام الحديث هكذا" الفدّادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم"

قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم "من ههنا جاءت الفتن" وأشار نحو المشرق".

أقول: أخرجه البخاري في المناقب من حديث أبي مسعود، لكن فيه "وأشار نحو المشرق" وقد تقدم.

قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم "غلظ القلوب والجفاء بالمشرق، والإيمان في أهل الحجاز".

أقول: أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله كما تقدم، ولكن المؤلف قال "بالمشرق" وفي صحيح مسلم "في المشرق" وفي زوائد مسند البزار للهيثمي: حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس حدثنا ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"غلظ القلوب والجفاء في أهل المشرق، والإيمان يمان، والسكينة في أهل الحجاز".

ص: 499

قلت: رواه مسلم، خلا قوله:"والسكينة في أهل الحجاز" قال البزار: قد روى عن جابر من غير وجه اهـ. وقال في مجمع الزوائد: رواه البزار، وفيه ابن أبي الزناد وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ.

قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا يا رسول الله وفي نجدنا" 1 الحديث.

أقول: أخرجه البخاري في أبواب الاستسقاء (باب ما قيل في الزلازل والآيات) ولفظه هكذا: حدثني محمد بن المثني قال حدثنا حسين بن الحسن قال حدثنا ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال: قال:"اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" قال قالوا: وفي نجدنا؟ قال فقال:"اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" قال قالوا وفي نجدنا؟ قال قال "هنالك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان. اهـ.

قال الحافظ في الفتح: حديث ابن عمر: "اللهم بارك لنا في شامنا" الحديث وفيه قالوا: وفي نجدنا؟ قال "هناك الزلازل والفتن" هكذا وقع في هذه الروايات التي اتصلت لنا بصورة الموقوف عن ابن عمر "قال اللهم بارك" لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقال القابس: سقط ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من النسخ ولابد منه، لأن مثله لا يقال بالرأي. اهـ. وهو من رواية الحسين بن الحسن النصري من آل مالك بن يسار عن عبد الله بن عون عن نافع، ورواه أزهر السمان عن ابن عون مصرحاً فيه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في كتاب الفتن، ويأتي الكلام عليه أيضاً هناك، ونذكر فيه من وافق أزهر على التصريح برفعه إن شاء الله تعالى.

وأخرج في كتاب الفتن ولفظه هكذا: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا أزهر بن سعد عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ قال "اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ فأظنه قال في الثالثة

1 انظر الهامش في ص 488، وسيأتي قريباً في ص503.

ص: 500

"هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان". اهـ.

قال الحافظ في الفتح: كذا أورده عن علي بن عبد الله عن أزهر السمان، وأخرجه الترمذي عن بشر بن آدم ابن بنت أزهر حدثني جدي أزهر بهذا السند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. ومثله للإسماعلي من رواية أحمد بن إبراهيم الدورقي عن أزهر. وأخرجه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عون عن أبيه كذلك، وقد تقدم من وجه آخر عن ابن عون في الاستسقاء. موقوفاً، وذكرت هناك الاختلاف فيه. اهـ.

وقال في مجمع الزوائد: وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" فقال رجل: وفي شرقنا يا رسول الله؟ فقال: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" فقال رجل: وفي شرقنا يا رسول الله؟ قال: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا"1 إن من هناك يطلع قرن الشيطان وبه تسعة أعشار الكفر وبه الداء العضال" رواه الطبراني في الأوسط واللفظ له، وأحمد ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا" مرتين فقال رجل في مشرقنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من هناك يطلع قرن الشيطان وبه تسعة أعشار الشرك" ورجال أحمد رجال الصحيح، غير عبد الرحمن بن عطاء وهو ثقة وفيه خلاف لا يضر. اهـ.

وفي موطأ مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أراد الخروج إلى العراق فقال له كعب الأحبار: لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين فإن بها تسعة أعشار السحر، وبها فسقة الجن، وبها الداء العضال. اهـ.

قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم: يخرج ناس من المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما قطع قرن نشأ قرن آخر حتى يكون أخرهم مع المسيح الدجال.

أقول: لم أقف على اللفظ، ولكن أخرج معناه النسائي من حديث أبي برزة وقد

1 كذا في طبعة المنار، ولعله سقط منها أو من الطبعة الهندية قبلها: فقال رجل وفي شرقنا يا رسول الله؟ فقال.

ص: 501

ذكرناه فيما سلف، وأخرج ابن ماجة أيضاً معناه من حديث ابن عمر ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينشأ نشء يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قطع"، قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلما خرج قرن قطع أكثر من عشرين مرة حتى يخرج في عراضهم الدجال". اهـ.

وفي مجمع الزوائد عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج ناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما قطع قرن نشأ قرن حتى يكون مع بقيتهم الدجال" رواه الطبراني وإسناده حسن. اهـ.

وكل من تيك الأحاديث لم تصل إلى درجة الصحة، أما حديث أبي برزة فلأن راويه شريك بن شهاب مجهول، قال النسائي: شريك بن شهاب ليس بذلك المشهور، قال الذهبي في الميزان: شريك بن شهاب عن أبي برزة لا يعرف إلا براوية الأزرق بن قيس عنه. اهـ. وأما قول الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول. فلا يقتضي الصحة.

وأما حديث ابن عمران فلأن راويه هشام بن عمار بن نصير قد كبر فصار يتلقن، قال الذهبي في الميزان: صدوق مكثر له ما ينكر، قال أبو حاتم: صدوق قد تغير فكان كل ما لقنه تلقن. وقال أبو داود: حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها. اهـ ملخصاً وهو وإن وثقه جماعة، لكن لا نسلم وصول ما تفرد به إلى درجة الصحة.

وأما حديث عبد الله بن عمرو فإسناده وإن سلم كونه حسناً كما قال الهيثمي، ولكن حسن الإسناد لا يقتضي حسن الحديث فضلاً عن صحته.

هذا الكلام منا كله كان متعلقاً بتخريج الأحاديث وصحتها، والآن ننظر في ما ادعاه المؤلف من كون الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه ممن يصدق عليهم تلك الأحاديث فنقول بحول الله وقوته:

إن جهة المشرق منشأ الفتن ومبدؤها، قال الحافظ في الفتح تحت قوله صلى الله عليه وسلم

ص: 502

"رأس الكفر نحو المشرق" الواقع في كتاب بدء الخلق: وفي ذلك إشارة إلى شدة كفر المجوس، لأنه مملكة الفرس ومن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكانوا في غاية القوة والتكبر والتجبر حتى مزق ملكهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه، واستمرت الفتن من قبل المشرق كما سيأتي واضحاً في الفتن.

وقال الحافظ في الفتح تحت قوله صلى الله عليه وسلم:" هل ترون ما أرى"؟ قالوا لا. قال: "فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر" الواقع في كتاب الفتن: وإنما اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان رضي الله عنه كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك أو عن شيء تولد عنه.

ثم إن قتل عثمان كان أشد أسبابه الطعن على أمرائه ثم عليه بتوليته لهم، وأول ما نشأ ذلك في العراق وهي من جهة المشرق، فلا منافاة بين حديث الباب وبين الحديث الآتي:"إن الفتنة من قبل المشرق". اهـ.

قال الحافظ في الفتح تحت قوله صلى الله عليه وسلم" اللهم بارك لنا في شامنا" الحديث"

وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها وهي مشرق أهل المدينة، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها، وتهامة كلها من الغور ومكة من تهامة. اهـ. وعرف بهذا وهاء ما قاله الداودي: إن نجداً موضع مخصوص، وليس كذلك بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى المرتفع نجداً والمنخفض غوراً. اهـ.

قال الحافظ في الفتح: (باب قتل الخوارج) وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان، فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه،

ص: 503

ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا علياً فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، فبلغ علياً فخرج إليهم فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة1، وانتصر علي وقتل طلحة في المعركة، وقتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق، ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك، وكان أمير الشام إذا ذاك2، وكان علي أرسل إليه لأن يبايع له أهل الشام، فاعتل بأن عثمان قتل مظلوماً، وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته، وأنه أقوى الناس على الطب بذلك ويلتمس من علي أن يمكنه منهم، ثم يبايع له بعد ذلك، وعلي يقول ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلى أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج في أهل العراق طالباً قتال أهل الشام، فخرج معاوية في أهل الشام قاصداً إلى قتاله3، فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهما شهراً، وكاد أهل الشام أن ينكسروا، فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا: ندعوكم إلى كتاب الله، وكان ذلك بإشارة عمرو بن

1 وفي الليلة التي تقدمت الوقعة حصل التفاهم بين الفريقين على يد القعقاع رضي الله عنه، وبات أبناء هؤلاء عند هؤلاء وأبناء هؤلاء عند أولئك، فلما أيقن قتلة عثمان أن الصلح سيكون على رقابهم ودمائهم بيتوا الفتنة والشر، وفي الفجر فاجأوا الفريقين بإنشاب القتال، فهب كل فريق يدافع عن نفسه ويحسب أن الغدر وقع عليه من الفريق الآخر، ولم يعلموا أن قتلة عثمان هم الذين أنشبوا الحرب في الجانبين. محب الدين.

2 وهو كبير بني أمية والولي عنهم بطلب إقامة الحد على قتلة أمير المؤمنين عثمان بن عفان.

3 أي أن خروج جند الشام إلى صفين كان بعد خروج جند علي إلى النخيلة متجهين نحو الشام، وهذه حقيقة تاريخية لا يختلف عليها أحد.

ص: 504

العاص وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممن كان مع علي –وخصوصاً القراء- القتال بسبب ذلك تديناً، واحتجوا بقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية، فراسلوا أهل الشام في ذلك، فقالوا ابعثوا حكماً منهم وحكماً منا، ويحضر معهما من لم يباشر القتال، فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب علي ومن معه إلى ذلك، وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج.

وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام: هذا ما قضى عليه أمير المؤمنين علي ومعاوية فامتنع أهل الشام من ذلك وقالوا اكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك، فأنكره عليه الخوارج أيضاً، ثم انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان ومن معهما بعد مدة عينوها في مكان وسط بين الشام والعراق ويرجع العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلى الشام ورجع علي إلى الكوفة، ففارقه الخوارج وهم ثمانية آلاف، وقيل كانوا أكثر من عشرة آلاف، وقيل ستة آلاف، ونزلوا مكاناً يقال له (حروراء) بفتح المهملة وراءين الأولى مضمومة ومن ثم قيل لهم الحرورية، وكان كبيرهم عبد الله بن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد اليشكري وشبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة التميمي فأرسل عليهم علي ابن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم معه ثم خرج إليهم علي فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة معهم رئيساهم المذكوران، ثم أشاعوا أن علياً تاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك علياً فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقال: كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم: لكم علينا ثلاثة أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدأكم بقتال ما لم تحدثوا فساداً، وخرجوا شيئاً بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن فراسلهم في الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب، ثم راسلهم أيضاً فأرادوا قتل رسوله، ثم اجتمعوا على أن من يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله، وانتقلوا إلى الفعل فاستعرضوا الناس، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت وكان والياً لعلي على بعض تلك البلاد ومعه

ص: 505

سرية وهي حامل فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فبلغ علياً فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينج منه إلا دون العشرة، ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة، فهذا ملخص أول أمرهم. اهـ.

وقال الحافظ في الفتح آخر كتاب التوحيد تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج ناس من قبل المشرق": تقدم في كتاب الفتن أنهم الخوارج وبيان مبدأ أمرهم وما ورد فيهم، وكان ابتداء خروجهم في العراق وهي من جهة الشرق بالنسبة إلى مكة المشرفة. اهـ.

وأخرج البخاري عن بشير بن عمر، وقال: قلت لسهل بن حنيف: هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئاً؟ قال سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق "يخرج منه قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية". وفي رواية لمسلم وأشار بيده نحو الشرق، وفي رواية قال:"يتيه قوم قبل المشرق محلقة رءوسهم".

قال الحافظ في الفتح: أخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد من طريق الفرزدق الشاعر أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد وسألهما فقال: إني رجل من أهل الشرق وأن قوماً يخرجون علينا يقتلون من قال لا إله إلا الله ويؤمنون من سواهم، فقالا: سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتلهم فله أجر شهيد، ومن قتلوه فله أجر شهيد" اهـ. وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد قال: قال أبو سعيد وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق.

فعلم من تلك الرويات أن الخوارج يخرجون من المشرق والعراق، وأن أهل العراق والشرق هم الذين يقتلونهم، وهذا يدل دلالة واضحة على أن جميع أهل العراق والمشرق ليس ممن تصدق عليهم هذه الأحاديث التي فيها ذكر الخوارج بل منهم من يقتلونهم، وكذلك المراد بنجد في حديث ابن عمر " هناك الزلازل والفتن" نجد العراق، قال بعض المحققين: وأما قوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له وفي نجدنا "تلك موضع الزلازل والفتن وهنا يطلع قرن الشيطان" فالمقصود بها نجد العراق وشرق المدينة، وقد ورد ذلك صريحاً في حديث ابن عمر ونص عليه الخطابي وغيره، وقد ترك الدعاء للعراق جملة بل وذمها.

ص: 506

وقد روى الطبراني من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "دخل إبليس العراق فقضى فيها حاجته، ثم دخل الشام فطردوه، ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عليها عبقريه" ولا يقول مسلم بذم علماء العراق لما ورد فيها وأكابر أهل الحديث وفقهاء الأمة وأهل الجرح والتعديل أكثرهم أهل العراق، وإمام السنة أحمد بن حنبل وشيخ الطريقة الجنيد بن محمد وعلم الزهاد الحسن وابن سيرين وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري وأصحابه وإسحاق ابن إبراهيم بن راهويه ومحمد بن إسماعيل1 ومسلم بن الحجاج وأبو داود وأصحاب السنن وأصحاب الدواوين الإسلامية كلهم عراقي الدار مولداً أو سكنى، والليث بن سعد ومحمد بن إدريس وأشهب ومن قبل هؤلاء كلهم سكن العراق ومصر، وجملة من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التابعين بعدهم، ومن عاب الساكن بالسكنى والإقامة في مثل تلك البلاد فقد عاب جمهور الأمة وسبهم وآذاهم بغير ما اكتسبوا، وقد داول الله تعالى الأيام بين البقاع والبلاد، كما داولها بين الناس والعباد، قال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} .

وكم من بلد قد فتحت وصارت من خير بلاد المسلمين بعد أن كانت في أيدي الفراعنة والمشركين والفلاسفة والصابئين والكفرة من المجوس وأهل الكتابين، بل الخربة التي كانت بها قبور المشركين صارت مسجداً هو أفضل مساجد المسلمين بعد المسجد الحرم، ودفن بها أفضل المرسلين وسادات المؤمنين.

ولا يعيب شيخنا بدار مسيلمة إلا من عاب أئمة الهدى ومصابيح الدجى بما سبق في بلادهم من الشرك والكفر المبين، وطرد هذا القول جرأة على النبيين وأكابر المؤمنين، وهذا المعترض كعنز السوء يبحث عن حتفه بظلفه ولا يدري، وقد قال بعض الأزهريين: مسيلمة الكذاب من خير نجدكم، فقلت: وفرعون اللعين رأس مصركم فبهت. وأين كفر فرعون من كفر مسيلمة لو كانوا يعلمون. اهـ.

وأيضاً قال وقد تقدم أن طرد هذا الكلام يوجب ذم كل من سكن بلدة من بلاد

1 أي البخاري.

ص: 507

المسلمين التي سكنها قبله أعيان المشركين ورؤوس الكافرين، فأي أحد يبقى لو طرد هذا؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من فارس" مع أن بلادهم من شر البلاد، فيها الأوثان والنيران، وكفر فيها بالله الذي لا إله إلا هو الرحمن. اهـ.

وأيضاً قال: وسكنى الدار لا تؤثر، فإن الصحابة سكنوا مصر وبلاد الفرس، وفضلهم لا يزال في مزيد، وإيمانهم قهر أهل الكفر والشرك والتنديد، وعادت تلك البقاع والأماكن أفضل مساكن أهل التوحيد. اهـ.

وجملة القول أن الأحاديث التي ذكرها المؤلف في هذا المقام منها ما هو خاص بإجماع المسلمين بالحرورية الخارجين على علي رضي الله تعالى عنه وهو ماعدا حديث ابن عمر "الفتنة ههنا الفتنة ههنا" وحديث أبي هريرة "رأس الكفر نحو المشرق" وحديث أبي مسعود "من ههنا جاءت الفتن" وحديث جابر "غلظ القلوب والجفاء في المشرق" وحديث ابن عمر "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" الحديث.

قال بعض المحققين: والجواب أن يقال هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يصف أهل نجد وأهل اليمامة بهذا، ولا دخل في وصفه من يؤمن بالله ورسوله منهم ولا من غيرهم، بل الموصوف بإجماع المسلمين هم الحرورية الخارجون على علي الذين قاتلهم علي من أهل الكوفة والبصرة وما يليها، وفيهم من بني يشكر ومن طي وتميم وغيرهم من قبائل العرب ودارهم ومسكنهم بالعراق ولا يختلف في هذا، ودولتهم وشوكتهم كانت هناك دون النهر، ولذلك نسبوا إليه وقيل أهل النهروان، وحروراء بلدة هناك نسبوا إليها فقيل الحرورية، اهـ ملخصاً. وبعض ألفاظ الحديث في بعض الطرق دال على تلك الخصوصية كما وقع في رواية البخاري عن أبي سعيد:"يخرجون على حين فرقة من الناس" قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه، جئ بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق". اهـ.

ولا شك أن هذا لا يمكن صدقه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، لا يقال

ص: 508

وقع في رواية النسائي عن أبي برزة: "لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال" وفي رواية ابن عمر وابن ماجه "كلما خرج قرن قطع أكثر من عشرين مرة حتى يخرج في عراضهم الدجال" اهـ، لأن كل من يأتي بعد قوم خرجوا على علي رضي الله عنه ممن يصلي يتخشع ويقرأ كتاب الله إلى يوم القيامة ويجتهد في التلاوة والعبادة لا يكون من الخوارج بالضرورة وإلا لزم أن يكون معظم الأمة من أهل الفقه والحديث من الخوارج، بل إنما يكون من الخوارج من يستن بسنة هؤلاء الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ويسلك مسلكهم، ومن قتل أهل الإسلام، وودع أهل الأوثان، وتكفير من لا يعتقد معتقدهم، وإباحة دمه وماله وأهله، وأن عثمان وعلياً وأصحاب الجمل وصفين، وكل من رضى بالتحكيم كفار، وأن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبداً، وأن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم، وإبطال رجم المحصن وقطع يد السارق من الإبط، وإيجاب الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادراً، وإن لم يكن قادراً فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وسائر معتقداتهم الفاسدة، وأعمالهم الزائغة ولا يتحقق شيء من عقائدهم وأعمالهم في الشيخ وأتباعه، بل مذهبهم في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتهم طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومن روى عنهم شيئاً من تلك أو نسبه إليهم فقد كذب عليهم وافترى، وهذا ظاهر لمن طالع كتابه (كتاب التوحيد) وسائر الرسائل المؤلفة للشيخ.

ومن ثم عرفت فساد ما قال السيد محمد أمين المعروف بابن عابدين الحنفي في (رد المحتار على الدر المختار) في باب البغاة تحت قول الماتن (ويكفرون أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم : علمت أن هذا غير شرط في مسمى الخوارج، بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي رضي الله عنه، وإلا فيكفي فيهم اعتقادهم كفر من خرجوا عليهم كما وقع في زمننا في أتباع عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون، وأن من خالف اعتقادهم

ص: 509

مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل الشر وقتل علمائهم حتى كسر الله تعالى شوكتهم وخرب بلادهم، وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف. اهـ.

وكذا فساد ما على هامش سنن النسائي المطبوع في الهند في المطبع النظامي سنة ستة وتسعين بعد الألف ومائتين في ص412: ثم ليعلم أن الذين يدينون دين عبد الوهاب النجدي ويسلكون مسالكه في الأصول والفروع ويدعون في بلادنا باسم الوهابيين وغير المقلدين، ويزعمون أن تقليد أحد الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم شرك، وأن من خالفهم هم المشركون، ويستبيحون قتلنا أهل السنة، وسبي نسائنا وغير ذلك من العقائد الشنيعة التي وصلت إلينا منهم بواسطة الثقات وسمعنا بعضاً منهم أيضاً، هم فرقة من الخوارج، وقد صرح به العلامة الشامي في كتابه (رد المختار) . اهـ.

وكذا فساد ما في هامش سنن النسائي المذكور في 634 حيث قال: وقد وقع خروجهم مراراً أفاده العيني. وقال الشامي: كما وقع في زمننا خروج أتباع عبد الوهاب. اهـ.

وجه الفساد أن الشيخ وأتباعه لم يكفروا أحداً من المسلمين ولم يعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالفهم هم مشركون، ولم يستبيحوا قتل أهل السنة وسبي نسائهم، ولم يقولوا إن تقليد أحد الأئمة الأربعة شرك، ولقد لقيت غير واحد من أهل العلم من أتباع الشيخ، وطالعت كثيراً من كتبهم فما وجدت لهذه الأمور أصلاً وأثراً بل كان هذا بهتان وافتراء1، وليعلم أن ابن عابدين وصاحب الهامش قد أخطآ في قولهما (عبد الوهاب) والصواب محمد بن عبد الوهاب.

1 بل في هذه الكتب خلاف ما ذكر وضده: ففيها أنهم لا يكفرون إلا من أتى بما هو كفر بإجماع المسلمين، وأنهم في الأصول على مذهب جمهور السلف الصالح وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد، وأنهم يحترمون مذاهب الأئمة الأربعة ولا يفرقون بين أحد من مقلديهم، وإنما قال ابن عابدين ومن تبعه ما قاله تصديقاً لأكاذيب الشيخ أحمد دحلان ومفترياته مع عدم وجود شيء من كتب الشيخ وكتب أولاده وأحفاده في الأيدي، ونحن كنا نصدق هذه الإشاعات التي أشاعتها السياسة التركية عنهم تصديقاً لابن عابدين وأمثاله، وقد طبعت كتبهم وكتب أنصارهم في عصرنا فلا عذر لأحد في تصديق الحشوية والمبتدعة وأهل الأهواء فيهم.

وقد ذكرت هذه الإشاعات مرة بمجلس الأستاذ الأكبر الشيخ أبي الفضل الجيزاوي شيخ الأزهر في إدارة المعاهد الدينية فاستحضرت لهم نسخاً من كتبا الهدية السنية فراجعها الشيخ الأكبر وعنده طائفة من أشهر علماء الأزهر فاعترفوا بأن ما فيها هو عين مذهب جمهور أهل السنة والجماعة. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 510

وأما بقية الأحاديث التي ذكرها المؤلف في هذا المقام فأولاها بأن يشنع به على الشيخ وأتباعه حديث ابن عمر: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" الحديث فإنه ذكر فيه نجداً وقال صلى الله عليه وسلم في شأنه "هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان" والشيخ من أهل نجد.

(والجواب) : أن المراد بنجد نجد العراق كما عرفت فيما تقدم، ومما يؤيد هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: دعا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا، فقال رجل من القوم يا نبي الله وعراقنا؟ قال "إن بها قرن الشيطان وتهيج الفتن، وإن الجفاء بالمشرق" رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات كذا في (الترغيب والترهيب) للمنذري، وأن عمر ابن الخطاب أراد الخروج إلى العراق فقال له كعب الأحبار: لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين، فإن بها تسعة أعشار السحر، وبها فسقة الجن، وبها الداء العضال، وقد تقدم تخريجه، وحديث سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تفتح اليمن، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون". أخرجه البخاري ومسلم، فإنه ذكر في هذا الحديث في مقابلة اليمن والشام العراق لا نجد العرب، وكذلك في أحاديث

ص: 511

أخر مثل حديث ابن حوالة وهو عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيصير الأمر أن تكونوا أجناداً مجندة: جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق" قال ابن حوالة: خر لي1 يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ فقال:" عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما أن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم فإن الله توكل -وفي رواية تكفل- لي بالشام وأهله" رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال صحيح الإسناد كذا في (الترغيب والترهيب) للمنذري، وحديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام يوماً في الناس فقال:"يا أيها الناس توشكون أن تكونوا أجناداً مجندة، جند بالشام، وجند بالعراق، وجند باليمن" الحديث كذا في (الترغيب والترهيب) للمنذري: وحديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستجندون أجناداً جنداً بالشام ومصر والعراق واليمن" الحديث كذا في زوائد مسند البزار، ويكفي لذم العراق حديث سهل بن حنيف الذي أخرجه البخاري وفيه قال: سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق "يخرج منه قوم" الحديث وقد تقدم.

وقد ورد الأمر باللحوق بنجد في حديث رأيته في زوائد مسند البزار، ولفظه: حدثنا محمد بن عبد الله بن المفضل الحراني حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الحراني حدثنا عبد الرحمن بن ثابت عن أبي العوام عن عبد الملك بن مساحق عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستجندون أجناداً" فقال رجل: يا رسول الله خر لي فقال: "عليك بالشام فإنها صفوة الله في بلاده فيها خيرة الله من عباده فمن رغب عن ذلك فليلحق بنجده فإن الله تكفل لي بالشام وأهله" قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد. اهـ.

ولا يغرنك أن نجداً موضع مخصوص من العرب فكيف يراد به العراق؟ لأن أصل النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها كما ظهر من

1 خر بكسر الخاء أمر من خار له يخير (ككال يكيل) إذا اختار له ما هو خير هذه الأماكن. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 512

كلام الحافظ في الفتح. وهذا يصدق على العراق، ومع أنه قد ورد ذم العراق في غير واحد من الأحاديث لا يقول مسلم بذم علماء العراق لأن أكابر أهل الحديث وفقهاء الأمة وأهل الجرح والتعديل أكثرهم من أهل العراق وجملة من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التابعين بعدهم قد سكنوا العراق، ألا ترى إلى ما أخرج البخاري عن إبراهيم قال: ذهب علقمة إلى الشام فأتى المسجد فصلى ركعتين فقال: اللهم ارزقني جليساً فقعد إلى أبي الدراداء فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة، قال: أليس فيكم صاحب السر الذي كان لا يعلمه غيره؟ يعني حذيفة. أليس فيكم -أو كان فيكم- الذي أجاره الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الشيطان؟ يعني عماراً، أو ليس فيكم صاحب السواك والوسادة؟ يعني ابن مسعود، كيف كان عبد الله يقرأ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قال (والذكر والأنثى) فقال مازال هؤلاء حتى كادوا يشككوني، وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

وهذا ظاهر لمن تتبع أحوال الصحابة والتابعين، وقد ذكرت فيما تقدم رواية مسلم عن أبي سعيد وفيها:"وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق" فعلم أن أهل العراق هم الذين قتلوا الخوارج، فكيف يجوز ذم جميع أهل العراق؟ وأن سلم أن المراد بنجد نجد العرب، فالجواب أنه كما لا يجوز ذم جميع أهل العراق لورود أحاديث في ذمه، كذلك لا يجوز ذم جميع أهل نجد بعد تسليم ورود ذمه في حديث.

وقد ورد في الأحاديث الصحيحة1 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا قبل نجد وبعث سرية قبل نجد، وبعث خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم2، وإن تنعم، تنعم على شاكر، إن كنت تريد المال، فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد، ثم قال له "ما عندك يا ثمامة"؟ فقال:

1 أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة ولم يتذكر المؤلف منها إلا البخاري.

2 يعني بذي الدم المستحق للقتل. وكتبه وما قبله محمد رشيد رضا.

ص: 513

ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد فقال:"ماعندك يا ثمامة"؟ قال عندي ما قلت لك فقال: "أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا والله ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم، أخرج البخاري تلك الأحاديث في صحيحه.

قوله "فبشره" قال الحافظ في الفتح: أي بخيري الدنيا والآخرة، أو بشره بالجنة أو بمحو ذنوبه وتبعاته السابقة. اهـ.

فلو لم يكن في أهل نجد خير ما غزا قبل نجد، فإن العزو المقصود منه بالذات إسلام أهله، وما قبل الإسلام ثمامة بن أثال ولم يبشره بخيري الدنيا والآخرة أو بالجنة أو بمحو ذنبوه وتبعاته السابقة.

وأخرج البخاري ومسلم عن طلحة بن عبيد الله يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خمس صلوات في اليوم والليلة" فقال هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وصيام رمضان" قال هل علي غيره؟ قال: "لا إلا أن تطوع" قال وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق". اهـ.

فهذا الرجل من أهل نجد بشره صلى الله عليه وسلم بالفلاح -وقد وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد قرن المنازل كما وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة ولأهل اليمن

ص: 514

يلملم، فلو لم يكن في نجد خير فأي حاجة إلى تعيين الميقات لأهلها؟ فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل نجد يأتون للحج كما أن أهل المدينة وأهل الشام وأهل اليمن يأتون له، وقد ورد فضل بني تميم في الحديث، والشيخ عبد الوهاب منهم وهم من أهل نجد.

أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: مازلت أحب بني تميم منذ ثلاث سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم، سمعته يقول:"هم أشد أمتي على الدجال: قال وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذه صدقات قومنا"، وكانت سبية منهم عند عائشة فقال: "اعتقيها فإنها من ولد إسماعيل" اهـ.

وفي زوائد مسند البزار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر بني تميم فقال: "هم ضخام الهام، ثبت الإقدام، نصار الحق في آخر الزمان، أشد قوماً على الدجال"، قال البزار سلام هذا أحسبه سلام المدائني وهو لين الحديث.

وأيضاً فيه عن أبي هريرة قال: ربما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم على كتفي وقال: "أحبوا بني تميم" قال البزار لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه.

فإن قلت: قد جاء في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ما يشينهم" قال جاء نفر من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي تميم "أبشروا" قال: بشرتنا فأعطنا، فتغير وجهه، فجاءه أهل اليمن فقال: "يا أهل اليمن اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم" قالوا: قبلنا، الحديث أخرجه البخاري.

قلت هذا مقولة الجفاة منهم، منهم الأقرع بن حابس، ذكره ابن الجوزي كذا في الفتح.

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه فيما أورده غير واحد، قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، يا محمد، وفي رواية يا رسول لله، فلم يجبه، فقال: يا رسول إن حمدي لزين وإن

ص: 515

ذمي لشين، فقال: ذاك الله عز وجل: وقال ابن جرير حدثنا أبو عامر الحسين بن حريث المروزي حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن أبي إسحاق عن البراء في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن حمدي زين وذمي شين، فقال صلى الله عليه وسلم:"ذاك الله عز وجل" وهكذا ذكره الحسن البصري وقتادة مرسلاً، قال الحافظ في تفسير سورة الحجرات تحت حديث ابن أبي مليكة قال:"كاد الخيران أن يهلكا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع وأشار الآخر برجل آخر قال نافع لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} " الآية.

قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية. زاد وكيع كما سيأتي في الاعتصام إلى قوله: {عَظِيمٌ} ، وفي رواية ابن جريج فنزلت:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} وقد استشكل ذلك، قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة العرب.

قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة: {لا تُقَدِّمُوا} ولكن لما اتصل بها قوله: {لا تَرْفَعُوا} تمسك عمر منها بخفض صوته، وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم والذي يختص بهم قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة إن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فقال: يا محمد، إن مدحي زين، وإن شتمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ذاك الله عز وجل" ونزلت.

قلت: ولا مانع أن تنزل الآية لأسباب تتقدمها فلا يعدل للترجيح مع ظهور الجمع وصحة الطرق. اهـ.

وقال الحافظ تحت قوله: باب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} : وروى الطبراني من طريق مجاهد قال: هم أعراب بني تميم، ومن طريق

ص: 516

أبي إسحاق عن البراء قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال:"ذاك الله تبارك وتعالى" وروي من طريق معمر عن قتادة مثله مرسلاً، وزاد فأنزل الله:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية. ومن طريق الحسن نحوه. اهـ.

وقال الحافظ تحت قوله: (باب قوله: ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم) . هكذا في جميع الروايات الترجمة بغير حديث، وقد أخرج الطبري والبغوي وابن أبي عاصم في كتبهم في الصحابة من طريق موسى بن عقبة عن أبي سلمة قال: حدثني الأقرع بن حابس التميمي أنه أتى الني صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخرج إلينا فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الحديث، وسياقه لابن جرير، قال ابن منده الصحيح عن أبي سلمة أن الأقرع– مرسل، وكذا أخرجه أحمد على الوجهين.

وقد ساق محمد بن إسحاق قصة وفد بني تميم في ذلك مطولة بانقطاع، وأخرجها ابن منده في ترجمة ثابت بن قيس في المعرفة من طريق أخرى موصلة. اهـ.

وقال الترمذي في جامعه: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث أخبرنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقعد عن ابن إسحاق عن البراء بن عازب في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال: قام رجل فقال: يا رسول الله إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ذاك الله عز وجل" هذا حديث حسن غريب.

وقد جاء في الأحاديث "فضل العرب عموماً" أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه". اهـ.

وأخرج الترمذي عن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً" وقال: هذا حديث حسن.

وأخرج الترمذي عن سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمان لا تبغضني

ص: 517

فتفارق دينك" قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال: "تبغض العرب فتبغضني" وقال: هذا حديث حسن غريب.

وأخرج عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي" وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين ابن عمر الأحمسي عن مخارق، وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي.

وأخرج الترمذي عن محمد بن أبي رزين عن أمه قالت: كانت أم الحرير إذا مات أحد من العرب اشتد عليها، فقيل لها: إنا نراك إذا مات رجل من العرب اشتد عليك، قالت: سمعت مولاي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتراب الساعة هلاك العرب" قال محمد بن أبي رزين: ومولاها طلحة بن مالك، هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب1.

وأخرج مسلم عن أم شريك أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليفرن الناس من الدجال في الجبال" قالت أم شريك يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال "هم قليل" وأخرجه الترمذي أيضاً وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

وأخرج مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان قد يئس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم، كذا في (مشكاة المصابيح) وأخرجه الترمذي بغير لفظ (في جزيرة العرب) وقال: وفي الباب عن أنس وسليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه: هذا حديث حسن. اهـ.

وفي زوائد مسند البزار للهيثمي عن علي رضي الله عنه يقول: أسندت النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري فقال: "يا علي أوصيك بالعرب خيراً". قال البزار لا نعلمه يروى عن علي إذا بهذا الإسناد، وأبو المقدام هو ثابت الحداد روى عنه منصور بن المعتمر وسفيان الثوري وهو أبو عمرو بن ثابت.

1 سليمان بن حرب الأزدي الواشجي البصري القاضي بمكة إمام حافظ، روى عنه الجماعة كلهم كما في التقريب. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 518

وأيضاً فيه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني دعوت العرب فقلت: اللهم من لقيك منهم مصدقاً بك موقناً فاغفر له". قال البزار لا نعلم رواه عن ثابت إلا مروان، ولا عنه إلا الحسن بن بشر. اهـ.

وفي زوائد مسند البزار في فضل جزيرة العرب حدثنا محمد بن العلاء حدثنا الحسن بن عطية حدثنا قيس عن يونس يعني ابن عبيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد برأ الله هذه الجزيرة من الشرك ما لم يضلهم النجوم" حدثنا أحمد بن محمد بن الوليد حدثنا موسى بن داود حدثنا قيس عن يونس عن الحسن عن الأحنف عن العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بنحوه، قال البزار لا نعلم رواه إلا العباس، ولا له عنه إلا هذا الإسناد، حدثنا إبراهيم بن زياد حدثنا إبراهيم بن أبي العباس حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب ولكن قد رضي بمحقرات".

قال البزار قد روي من غير طريق عن أبي الدرداء حدثنا الفضل بن سهل حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكن قد رضي منكم بالمحقرات" قال البزار قد رواه أبو إسحاق هكذا ورواه غيره عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو أبي سعيد. اهـ.

وأخرج الترمذي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع "أي يوم هذا"؟ الحديث وفيه "وإن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلادكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحقرون من أعمالكم فسيرضى به". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. اهـ.

فقد علم من هذه الأحاديث فضل العرب على غير العرب، وقد ورد في الصحيح

ص: 519

عن أبي هريرة "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء" 1 وقد وقع هكذا، فإن كثيراً من أهل الحديث من أبناء فارس، وإذا أمكن نيل جماعة من أهل فارس -الذين هم في الخيرية أدون من أهل نجد التي هي من العرب وشرهم أزيد من شر أهل نجد- الإيمانَ، فما ظنك بأهل نجد؟

وجملة القول أن ورود مدح قبيلة أو موضع في الحديث لا يقتضي خيرية أفراده وجميع سكانه، وكذلك ورود ذم قبيلة أو موضع في الحديث لا يقتضي شرية جميع أفراده وجميع سكانه، ألا ترى أن خيرية قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار والأسد والأشعرين والأزد وحمير وذم عصية وبني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان وبني عامر بن صعصعة وربيعة ومضر وثقيف وبني حنيفة وبني أمية، قد ورد في الأحاديث مع أن الأول قد جاءت منها أشرار أيضاً، والأخر قد جاءت منها أخيار أيضاً.

وكذلك قد ورد مدح اليمن وأهله وذم المشرق والعراق وأهلها مع أن الأسود العنسي قد نشأ في اليمن وكثير من أهل الحديث من المشرق والعراق، وهذا لا يخفى على من له أدنى إلمام بفن التاريخ والرجال، وحسبك من خيرية مضر كون النبي صلى الله عليه وسلم من مضر.

أخرج البخاري عن ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب ابنة أبي سلمة قال قلت لها: أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر؟ قالت فممن كان إلا من مضر من بني النضر بن كنانة اهـ. وحسبك من خيرية ربيعة قول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم "من القوم -أو من الوفد؟ - قالوا ربيعة، قال "مرحباً بالقوم –أو بالوفد– غير خزايا ولا ندامى" فقالوا يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، الحديث أخرجه البخاري من حديث ابن عباس.

1 الإشارة إلى الفرس لأنه صلى الله عليه وسلم قال هذا ويده على سلمان الفارسي رضي الله عنه كما في الصحيحين.

ص: 520

وفي زوائد مسند البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير أهل المشرق عبد القيس". قال البزار لا نعلم أحداً رواه بهذا اللفظ إلا ابن عباس ولا عنه إلا أبو حمزة ولا عنه إلا شبيل، وشبيل بصري مشهور، ولا رواه عن إلا ابن سواء. اهـ.

والمقصود أن ربيعة ومضر مع أن ذمهما قد ورد في الحديث ومن الأخيرة سيد المرسلين ومن الأولى وفد عبد القيس وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وأما ما عدا ذلك من الأحاديث التي ذكرها المؤلف مما ذكر فيه "أن الفتنة من المشرق ورأس الكفر نحو المشرق وغلظ القلوب والجفاء بالمشرق" فالتشنيع بها على الشيخ وأتباعه تشنيع على معظم هذه الأمة من الفقهاء والمحدثين، فإن كثيراً منهم قد جاءوا من المشرق، وهذا مما لا مجال لإنكاره لأحد من أهل العلم، بل هذا التشنيع من جنس تشنيع الرافضة على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بأن البخاري أخرج عن عبد الله رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فأشار نحن مسكن عائشة فقال: "هنا الفتنة -ثلاثاً- من حيث يطلع قرن الشيطان" بل هذا أخف منه على ما لا يخفى، وإذ لم يكن التشنيع الذي هو أشد سبباً للذم عند أهل السنة فما ظنك بالأخف؟

قوله: لأنهم كانوا يأمرون من اتبعهم أن يحلق راسه ولا يتركونه يفارق مجلسهم إذا تبعهم حتى يحلقوا رأسه.

أقول: هذا كذب صريح وبهتان قبيح1.

قوله: ولم يقع مثل ذلك قط من أحد الفرق الضالة التي مضت قبلهم، إلى قوله فإنه لم يفعله أحد من المبتدعة غيرهم.

أقول: هذا غلط صريح وخطأ شنيع، قال الحافظ في كتاب المغازي من الفتح

1 إن غرض دحلان من مبالغته في هذا الكذب هو الاحتراز من اعتراض أحد عليه بأن جميع علماء المسلمين في الحجاز ومصر والشام يحلقون رءوسهم ليقول إن ضلال الوهابية هو المبالغة في الحلق بما افتراه عليهم هنا.

ص: 521

تحت قوله "محلوق" سيأتي في أواخر التوحيد من وجه آخر أن الخوارج سيماهم التحليق، وكان السلف يوفرون شعورهم ولا يحلقونها، وكانت طريقة الخوارج حلق جميع رؤوسهم. انتهى.

وقال في أواخر (كتاب التوحيد) تحت قوله "التحليق" ثم أجاب بأن السلف كانوا لا يحلقون رءوسهم إلا للنسك وفي الحاجة، والخوارج اتخذوه ديناً فصار شعاراً لهم وعرفوا به. اهـ.

فالسلب الكلي غلط قطعاً.

وقوله: وكان ابن عبد الوهاب يأمر أيضاً بحلق رءوس النساء اللاتي يتبعنه. اهـ.

أقول: هذا البهتان صريح.

قوله: جاء في رواية "قرنا الشيطان" بصيغة التثنية، قال بعض العلماء: المراد من قرني الشيطان مسيلمة الكذاب وابن عبد الوهاب.

أقول: هذه رواية مسلم من حديث سالم بن عبد الله بن عمر يقول: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة، سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ههنا -وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرنا الشيطان". الحديث.

قال النووي: وأما قرنا الشيطان فجانبا رأسه، وقيل هما جمعاه اللذان يغريهما بإضلال الناس، وقيل شيعتاه من الكفار، والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر. اهـ.

قلت: لعل المراد بقرني الشيطان ربيعة ومضر، والدليل عليه حديث أبي مسعود قال أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن فقال "ألا إن الإيمان ههنا، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين، عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرن الشيطان في ربيعة ومضر". أخرجه مسلم.

ص: 522

قوله: وجاء في بعض الروايات وبها -يعني نجد- الداء العضال.

أقول: هذه اللفظة قد وقت في روايتين على ما أعلم:

(الأولى) رواية الطبراني عن ابن عمر كما نقلتها عن مجمع الزوائد، و (الثانية) رواية مالك في الموطأ وقد ذكرت فيما تقدم، وليس في واحد منهما لفظ "نجد" بل في الأولى "وفي شرقنا" وفي الثانية لفظ "العراق" فإرجاع الضمير إلى نجد جهل1.

قوله: وفي بعض التواريخ بعد ذكر قتال بني حنيفة قال: ويخرج في آخر الزمان في بلد مسيلمة رجل يغير دين الإسلام.

أقول: هذه رواية بلا سند فلا اعتداد بها، على أن كون الشيخ مصداقاً لها محل نظر2.

قوله: وجاء في بعض الأحاديث التي فيها ذكر الفتن قوله صلى الله عليه وسلم منها فتنة عظيمة تكون في أمتي لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، تصل إلى جميع العرب، قتلاها في النار". واللسان فيها أشد من وقع السيف.

أقول: ما وجدته بهذا اللفظ، وقد أخرج أبو داود عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها ستكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقوع السيف". ورواه الترمذي وابن ماجه.

قوله: وفي رواية ستكون فتنة صماء بكماء عمياء.

1 بل هو من تعمد الكذب الذي ليس له عند دحلان حد.

2 يالله العجب من التزام المصنف لهذه الاصطلاحات العلمية ووضعها في غير موضعها، فمن المعلوم بالتواتر أن الشيخ رحمه الله تعالى جدد الإسلام في نجد وغير نجد، فهل يصح أن يكتفي بقوله إن دعوى تغييره للإسلام محل نظر؟ وصاحب الدعوى كذاب مشهور ينقل عن تاريخ مجهول. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 523

أقول: الحديث أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتنة صماء بكماء عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف".

أقول: هذان الحديثان ليس فيهما لفظ يدل على تعيين الشيخ وأتباعه، وجمهور العلماء حملوهما على الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية، يدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اللسان فيها أشد من وقوع السيف"، يعني أن الطعن في إحدى الطائفتين ومدح الأخرى مما يثير الفتنة فالكف واجب.

قوله: وفي رواية سيظهر من نجد شيطان تتزلزل جزيرة العرب من فتنته.

أقول: هذه الرواية لم أقف عليها، ولم يذكر المؤلف سندها فلا يعتد بها.

قوله: منها حديث مروي عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم أسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه:"سيخرج في ثاني عشر قرنا في وادي بني حنيفة رجل كهيئة الثور لا يزال يلعق براطمه، يكثر في زمانه الهرج والمرج، يستحلون أموال المسلمين ويتخذونها بينهم متجراً، ويستحلون دماء المسلمين ويتخذونها بينهم مفخراً، وهي فتنة يغتر فيها الأرذول والسفل، تتجارى بينهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه"، قال ولهذا الحديث شواهد تقوي معناه، وإن لم يعرف من خرجه.

أقول: إذا لم يعرف من خرجه فكيف يصح الاستدلال به؟

قوله: وأصرح من ذلك أن هذا المغرور محمد بن عبد الوهاب من تميم، فيحتمل أنه من عقب ذي الخويصرة التميمي الذي جاء فيه حديث البخاري عن أبي سعيد الخدري.

أقول: لا شك أن الشيخ من رأس تميم وأعيانهم كما صرح به بعض المحققين في الرد على (جلاء الغمة) ولكن ليس في حديث البخاري ولا في غيره ما يدل على أن

ص: 524

كل من هو من تميم أو من ضئضئ ذي الخويصرة مصداق لهذا الحديث بل في الحديث لفظة "من" دالة على التبعيض المنافي لهذه الكلية، واحتمال أنه من عقب ذي الخويصرة لا يقتضي كونه من عقب ذي الخويصرة جزماً فضلاً عن كونه مصداقاً لهذا الحديث.

وتقرير دليل المؤلف على طريقة الميزانيين هكذا: محمد بن عبد الوهاب من تميم وبعض من هو من تميم من عقب ذي الخويصرة فينتج أن محمد بن عبد الوهاب من عقب ذي الخويصرة، ثم يجعل هذه النتيجة صغرى لقياس آخر فيقال: إن محمد بن عبد الوهاب من عقب ذي الخويصرة، وبعض من هو من عقب ذي الخويصرة مصداق لحديث البخاري الوارد في شأن الخوارج، فمحمد بن عبد الوهاب مصداق لحديث البخاري الوارد في شأن الخوارج.

ولا يخفى جهل هذا المستدل على من له أدنى إلمام بعلم الميزان، إذ كلية الكبرى التي هي شرط لإنتاج الشكل الأول مفقودة في القياسين، وإن ادعى كلية كبرى القياس فيقال إن كلية كبرى القياس الأول بديهية البطلان، إذ ليس كل من هو من تميم من عقب ذي الخويصرة، وكلية كبرى القياس الثاني أيضاً باطلة، لأن الثابت بالحديث إنما هو الجزئية التي يدل عليه لفظ "من" التبعيضية الواقعة في صدر الحديث.

قوله: ولما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج قال رجل: الحمد لله الذي أبادهم وأرحنا منهم، فقال رضي الله عنه: كلا والذي نفسي بيده إن منهم لمن هو في أصلاب الرجال لم تحمله النساء، وليكونن آخرهم مع المسيح الدجال.

أقول: فيه كلام من وجهين:

(الأول) أن المؤلف لم يذكر سنده فلا يصلح هذا لأن يحتج به.

و (الثاني) على تقدير ثبوته ليس في الحديث لفظ يقتضي أن المراد به الشيخ وأتباعه.

قوله: وجاء في حديث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ذكر فيه بني حنيفة

ص: 525

قوم مسيلمة الكذاب، وقال فيه إن واديهم لا يزال وادي فتن إلى آخر الدهر، ولا يزال في فتنه من كذابهم إلى يوم القيامة، وفي رواية ويل لليمامة ويل لا فراق له.

أقول: جوابه من وجهين:

(الأول) أنه لا بد على من يحتج به ذكر سنده وتوثيق رواته وإثبات اتصاله.

و (الثاني) أنه ليس فيه لفظ يقتضي أن الشيخ وأتباعه مصداق هذا الحديث، فإن الشيخ ليس من بني حنيفة بل هو من تميم، قال بعض المحققين في الرد على (جلاء الغمة) : والجواب أن يقال لهذا المعنى إن شيخنا رحمه الله تعالى من رءوس تميم وأعيانهم وليس من بني حنيفة، وتميم قبل الإسلام وبعده هم رءوس نجد وساداتهم، وهم ممن قاتل بني حنيفة مع خالد وأبلوا بلاء حسناً، اهـ ملخصاً.

ثم قال بعد ذلك قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . ومع هذا فقد أثنى تعالى على من آمن بالله واليوم الآخر {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} الآية، فمن آمن بالله ورسوله وكذب مسيلمة ولم يؤمن به فهو من المؤمنين، وقد {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وأما قول الصديق فالمراد به من آمن بمسيلمة وأدركه منهم كما وقع من ابن النواحة، وأما من بعدهم من نسلهم وذراريهم المؤمنين فلا يتوجه إليهم ذم ولا عيب، والصديق أجل من أن يعيب من لم يؤمن بمسيلمة ولم يشهد عصره، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم كانوا على جاهلية وشرك وعبادة للأصنام والأحجار وغيرها، ولا يتوجه عيب على أحد منهم بأسلافهم: وقد يخرج الله من أصلاب المشركين والكفار من هو من خواص أوليائه وأصفيائه، ولما استأذن ملك الجبال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطبق عليهم الأخشبين لما رجمه أهل الطائف ودعا بدعائه المشهور وهو قوله: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي

ص: 526

أوسع لي، لك العتبى حتى ترضى، أعوذ بنور وجهك أن ينزل بي سخطك أو يحل بي غضبك، فاستأذنه الملك عند ذلك فقال: بل أتاني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً.

إذا عرفت هذا فشيخنا ليس من بني حنيفة أصلاً، والقصد بيان كلام الصديق وما أريد به. اهـ.

ثم قال: ثم لو فرض أن من بني حنيفة عالماً يدعو إلى الله تعالى، فما وجه عيبه وذمه بقومه، وقد خالفهم في الإيمان والدين؟ وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال ابن أبي رباح من أفضل الناس، وأسلافهم من شر الناس، بل والرسل أفضل الخلق وأكرمهم على الله تعالى والمكذبون لهم من قومهم أكثر من المستجيبين، وابن نوح على أبيه السلام لم ينتفع بإيمان أبيه ورسالته، ولم ينل بذلك ما يوجب سعادته وفلاحه، وهذا المعترض جاهلي الدين والمعرفة والمذهب اهـ.

وقال في موضع آخر: وهل عاب الله ورسوله أحداً من المسلمين أو غيرهم ببلده ووطنه وكونه فارسياً أو زنجياً أو مصرياً من بلاد فرعون ومحل كفره وسلطته، وعكرمة بن أبي جهل من أفاضل الصحابة وأبوه فرعون هذه الأمة، ومن العجب أن يقول في المؤمنين {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} . وهو كما ترى من أكثف الناس حجاباً وأغلظهم ذهناً يعيب من زكاهم الله ورسوله بالإيمان به، ومتابعة رسوله ببلاد قد كفر فيها بالله وعبد معه غيره، وهو يعلم أن بلاد الخليل إبراهيم حران دار الصائبة المشركين عباد النجوم، ودار يوسف دار فرعون الكافر اللعين، وسكنها موسى بعده وأكابر بني إسرائيل، وكذلك مكة المشرفة سكنها المشركون وعلقوا الأصنام على الكعبة المشرفة، وأخرجوا نبيهم وقاتلوه المرة بعد المرة، أفيستحل مؤمن أو عاقل أو جاهل أن يلمز أحداً من المهاجرين أو من مسلمة الفتح أو من بعدهم من المؤمنين بما سلف في مكة من الشرك بالله رب العالمين. اهـ.

قوله: وفي حديث ذكره في (مشكاة المصابيح) سيكون في آخر الزمان قوم يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم.

ص: 527

أقول: لفظ المشكاة هكذا: وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم" رواه مسلم. ولفظ المصابيح هكذا وقال "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم" رواه أبو هريرة.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هانئ عن أبي عثمان مسلم بن يسار عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم".

ومن حديث شراحيل بن يزيد يقول: أخبرني مسلم بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم" اهـ.

والمقصود من نقل هذه العبارات أن ما نقله المؤلف من المشكاة لا يوافق المشكاة ولا المصابيح ولا ما أخرجه مسلم، على أن الشيخ وأتباعه لا يتصور كونهم مصاديق هذه الأحاديث، فإن المراد في الحديث قوم يتحدثون بالأحاديث الكاذبة ويبتدعون أحكاماً باطلة واعتقادات فاسدة، والشيخ وأتباعه برآء من التحديث بالأحاديث الكاذبة وابتداع الأحكام الباطلة والاعتقادات الفاسدة، بل هم على طريقة السلف الصالح كما تشهد له رسائل الشيخ وأتباعه1.

قوله: وأنزل الله في بني تميم {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} .

أقول: نزل هذا في جفاة بني تميم، وهذا لا يقتضي ذم بني تميم كلهم، وقد ورد في ثنائهم ما ورد وقد ذكر فيما تقدم.

قوله: وأنزل الله فيهم {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} .

1 ولكن كتاب الشيخ دحلان هذا يشهد عليه بأنه من هؤلاء الدجالين الذين يحدثون الناس بما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم الذين دونوا لهم كتب السنة، وهو نفسه يعترف ببعضه أنه لم يعرف له راو. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 528

أقول: هذه الآية لم تنزل في بني تميم بل في أفضل الأمة أبي بكر وعمر، أخرج البخاري عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع ابن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر قال نافع لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} . الآية، قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر. اهـ.

فإن كان نزول هذه الآية موجباً لذم من نزلت فيه كما زعم المؤلف لزم ذم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أعاذنا الله منه1.

قوله: قال السيد العلوي الحداد المذكور آنفاً: إن الذي ورد في بني حنيفة وفي ذم تميم ووائل شيء كثير.

أقول: قد تقدم ما ورد في ذم بني تميم والجواب عليه وما ورد في مدحهم، وأما بنو حنيفة فقد ورد فيهم حديث عمران بن حصين قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكره ثلاثة أحياء: ثقيفاً، وبني حنيفة، وبني أمية، رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهذا لا يقتضي ذم جميع بني حنيفة، ألا ترى إلى ثمامة بن أثال الذي مر حديثه فيما تقدم بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيري الدنيا والآخرة أو الجنة أو بمحو ذنوبه وهو رجل من بني حنيفة، وأما وائل فلم يذكر المؤلف في ذمهم شيئاً ولم أقف عليه.

قوله: وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كنت في مبدأ الرسالة أعرض نفسي على القبائل في كل موسم ولم يجبني أحد جواباً أقبح وأخبث من رد بني حنيفة".

1 بل الآية تدل على فضل من نزلت فيهم، إذ شرفتهم بخطاب الله لهم وشهادته لهم بالإيمان، وتأديب الله لهم شرف عظيم. وكتبه محمد رشد رضا.

ص: 529

أقول: فيه كلام من وجوه:

(الأول) المطالبة بسند هذا الخبر.

و (الثاني) أن الشيخ ليس من بني حنيفة بل من رءوس تميم.

و (الثالث) على تقدير ثبوته لا يقتضي هذا الخبر ذم جميع بني حنيفة.

قوله: وأما ما نقل عن بعض العلماء أنه استصوب من فعل النجدي جمع البدو على الصلاة، وترك الفواحش الظاهرة وقطع الطريق، والدعوة إلى التوحيد فهو غلط، حيث حسن للناس فعله، ولم يطلع على ما ذكرناه من منكراته وتكفيره الأمة من ستمائة سنة، وحرق الكتب الكثيرة، وقتله كثيراً من العلماء وخواص الناس وعوامهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، وإظهار التجسيم للباري تبارك وتعالى، وعقده الدروس لذلك وتنقيصه النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء ونبش قبورهم، وأمر في الأحساء أن تجعل بعض قبور الأولياء محلاً لقضاء الحاجة، ومنع الناس من قراءة دلائل الخيرات، ومن الرواتب والأذكار، ومن قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في المنائر بعد الأذان، وقتل من فعل ذلك، وكان يعرض لبعض الغوغاء الطغام بدعواه النبوة ويفهمهم ذلك من فحوى كلامه ومنع الدعاء بعد الصلاة، وكان يقسم الزكاة على هواه، وكان يعتقد أن الإسلام منحصر فيه وفيمن تبعه، وأن الخلق كلهم مشركون، وكان يصرح في مجالسه وخطبه بتكفير المتوسل بالأنبياء والملائكة والأولياء ويزعم أن من قال لأحد يا مولانا أو سيدنا فهو كافر، ولا يلتفت إلى قول الله تعالى في سيدنا يحيى عليه السلام {وَسَيِّداً} ولا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "قوموا لسيدكم". يعني سعد بن معاذ رضي الله عنه ويمنع من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ويجعله كغيره من الأموات وينكر علم النحو واللغة والفقه والتدريس، بهذه العلوم ويقول إن ذلك بدعة.

أقول: قوله "غلط" عجيب فإن جمع البدو على الصلاة وترك الفواحش الظاهرة وترك قطع الطريق، والدعوة إلى التوحيد مما لا يرتاب أحد من المسلمين في كونها صواباً، وأما ما ذكره من مطاعن الشيخ فالجواب عنها أن منها ما هو البهتان الظاهر،

ص: 530

وهي تكفير الأمة من ستمائة سنة، وحرق الكتب الكثيرة، وقلته كثيراً من العلماء وخواص الناس وعوامهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، وإظهار التجسيم للباري تعالى وعقده الدروس لذلك، وتنقيصه النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء ونبش قبورهم، وأمره أن يجعل قبول الأولياء محلاً لقضاء الحاجة، ومنع الناس من الرواتب والأذكار، وقتل من قرأ دلائل الخيرات، ومن قرأ مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صلى الله عليه وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم على المنائر بعد الأذان، وادعاء النبوة وقسمه الزكاة على هواه، واعتقاد أن الإسلام منحصر فيه وفيمن تبعه، وأن الخلق كلهم مشركون، وتكفير المتوسل بالأنبياء والملائكة والأولياء، وتكفير من قال لأحدنا: مولانا وسيدنا، والمنع من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وجعله كغيره من الأموات وإنكار علم النحو واللغة والفقه والتدريس بهذه العلوم، فالجواب في هذه المطاعن كلها: سبحانك هذا بهتان عظيم.

أما مسألة منع الناس من قراءة (دلائل الخيرات) فأجاب عنها الشيخ في الرسالة التي كتبها إلى عبد الرحمن بن عبد الله حيث قال: وأما دلائل الخيرات فله سبب، وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجلّ من كتاب الله ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان، فهذا من البهتان. اهـ.

وأما قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك في كونها بدعة محدثة، فأي محذور في المنع منها، وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على المنائر بعد الأذان بدعة، وإزالة المنكر والبدعة وتغييرهما واجب بدلائل الأحاديث الصحيحة.

وأما الدعاء بعد الصلاة فإن كان بالألفاظ الواردة في الأحاديث الصحيحة من غير رفع اليدين كما ورد في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لم أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وكما ورد عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يعلم بنيه بهؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة "اللهم إني أعوذ بك

ص: 531

من البخل وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر". رواه البخاري.

وكما ورد عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم "اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً". رواه أحمد وابن ماجه، وكما ورد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له "أوصيك يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند قوي.

وكل هذه الأحاديث نقلتها عن (المنتقى) و (بلوغ المرام) فالشيخ لا يمنع منه ولا أحد من أتباعه بل ولا أحد من أهل الحديث، وإن كان الدعاء بالألفاظ غير المأثورة وبرفع اليدين، فللعلماء فيه قولان:(أحدهما) الجواز والاستحباب (والثاني) الكراهة، فإن اختار الشيخ أحد القولين فما وجه الطعن عليه1.

وأما مسألة قولنا لأحدنا مولانا وسيدنا فنذكر ما ورد في الباب: (منها) ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم عبدي فكلكم عبيد الله، ولكن ليقل فتاي، ولا يقول العبد ربي ولكن ليقل سيدي –وفي رواية له– ولا يقل العبد لسيده مولاي " وزاد في حديث أبي معاوية "فإن مولاكم الله عز وجل". وفي رواية له "ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي". وأخرج هذا الحديث أبو داود عن مطرف قال: قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا فقال: "السيد الله" قلنا

1 الصحيح من القولين في الأذكار والأدعية المأثورة بعد الصلاة أنها مستحبة من غير تقييد لها بالاجتماع أو رفع الصوت الذي يجعلها من الشعائر وهي ليست منها إذ لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التقييد ولا فعله أصحابه ولا غيرهم من السلف، وهذا التقييد لما أطلقه الشارع يطلق عليه العلامة الشاطبي اسم "البدع الإضافية" كما حققه في كتابه "الاعتصام". وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 532

وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً فقال:"قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" وأخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيداً فقد اسخطتم ربكم عز وجل".اهـ

فقد علم من تيك الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إطلاق لفظ السيد والمولى على أحدنا، ورخص فيهما أيضاً، ووجه التوفيق أن للسيد والمولى معاني، فالنهي باعتبار بعض المعاني، والرخصة باعتبار البعض الآخر.

قال في النهاية في مادة (السود) السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم، ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم.

وقال في مادة (الولي) وهو اسم على جماعة كثيرة فهو الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتق والناصر والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمعتق والمنعم عليه اهـ. فالنهي عن إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله محمول على السيد والمولى بمعنى الرب، والرخصة محمولة عليهما بمعنى آخر من سائر المعاني، فإن ثبت أن الشيخ قد منع من إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله فمراده السيد والمولى بمعنى الرب، وأما بالمعنى الآخر فكيف يتصور أن يمنع الشيخ منه؟ فإنه عقد باباً في كتاب الوحيد بهذا العنوان (باب لا يقول عبدي وأمتي) وأورد فيه حديث أبي هريرة المروي في مسلم الذي تقدم ذكره آنفاً وفيه هذا اللفظ "وليقل سيدي ومولاي" فهذا اللفظ صريح في جواز إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله بالمعنى الآخر1.

وأما قول المؤلف: ولا يلتفت إلى قول الله تعالى في سيدنا يحيى عليه السلام {وَسَيِّداً} ولا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "قوموا لسيدكم" يعني سعد بن معاذ رضي الله عنه ففيه كلام من وجهين:

1 وفيه وجه ثالث وهو أن يكون فيه مبالغة في الذل من قائله ومبالغة في الكبرياء من المقول له.

ص: 533

(الأول) أن لفظ الحديث "قوموا إلى سيدكم" لا "لسيدكم" فالمؤلف أخطأ في نقل الحديث، وهذا ليس بأول خطأ من المؤلف بل مثله كثير، ووجهه أن المؤلف ليس من أهل هذا الشأن.

و (الثاني) أن لفظ السيد في قول الله تعالى في يحيى عليه السلام {وَسَيِّداً} وقوله صلى الله عليه وسلم "قوموا إلى سيدكم" ليس بمعنى الرب، فالشيخ إن ثبت منعه من إطلاق لفظ السيد على غير الله فإنما هو من السيد بمعنى الرب – فالآية والحديث لا ينافيان قول الشيخ ولا يصلحان رداً عليه.

وليعلم أن لفظ السيد قد جاء في سورة يوسف في قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} . وفي غير واحد من الأحاديث: (منها) حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع ومسئول عن رعتيه". وفيه "والخادم راع في مال سيده راع ومسئول عن رعيته". أخرجه البخاري.

(ومنها) حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة". رواه مسلم. وحديث أبي هريرة في الحساب وفيه "أيُ فلُ ألم أكرمك وأسودك وأزوجك" رواه مسلم، وحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر". رواه الترمذي، وحديث عمر قال: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي. وحديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين" رواه الترمذي، وحديث أبي بكر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد". رواه البخاري، وحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". رواه الترمذي وحديث عائشة قالت: كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده فأقبلت فاطمة، وفيه قال "يا فاطمة أترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة". متفق عليه.

ص: 534

وحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين". متفق عليه، وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعما للمملوك أن يتوفاه الله يحسن عبادة ربه وطاعة سيده، نعما له". متفق عليه.

وكذلك لفظ المولى جاء في غير واحد من الأحاديث: (منها) حديث البراء ابن عازب قال: صالح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على ثلاثة أشياء، وفيه وقال لزيد "أنت أخونا ومولانا" متفق عليه. وحديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كنت مولاه فعلى مولاه" رواه أحمد والترمذي، وحديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بغدير خم الحديث وفيه "اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه، الهم وال من والاه وعاد من عاداه" فلقيه عمر بعد ذلك فقال: هنيئاً يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة، رواه أحمد.

فعلم من ههنا أن إطلاق السيد والمولى بمعنى غير الرب على الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين جائز لا وجه للمنع منه، نعم زيادة لفظ سيدنا وكذا لفظ مولانا في تشهد الصلاة كما يفعله أهل الحرمين في زماننا، وكذلك زيادتهما في تشهد الأذان كما يفعله أهل القدس، وكذلك زيادتهما في التصلية على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بدعة لا بد من تغييرها، فإن ألفاظ التشهد والأذان والتصلية في الصلاة توقيفية منقولة من الشارع لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها، ويؤيده حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلى إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول" فقتل استذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت؟ قال: لا، ونبيك الذي أرسلت" اهـ أخرجه البخاري.

قوله: ثم قال السيد العلوي الحداد في كتابه المتقدم ذكره: والحاصل أن المحقق عندنا من أقواله وأفعاله ما يوجب خروجه عن القواعد الإسلامية لاستحلاله أموالاً

ص: 535

مجمعاً على تحريمها معلومة من الدين بالضرورة بلا تأويل سائغ مع تنقيصه الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، وتنقيصهم تعمداً كفر بإجماع الأئمة الأربعة.

أقول: الجواب عنه أن هذا كله بهتان صريح.

قوله: كان رجل صالح من علماء البلدة التي تسمى بالزبير اسمه الشيخ عبد الجبار يصلي إماماً في مسجد تلك البلدة، فاتفق أن اثنين تجادلا في شأن هذه الطائفة بعد أن جاء إبراهيم باشا إلى الدرعية ودمرها ودمر من فيها، فقال أحد الرجلين المتجادلين: لابد أن يرجع أمر هذا الدين كما كان وترجع هذه الدولة كما كانت، وقال الآخر: لا يرجع أمرهم أبداً كما كان ولا ما كانوا عليه من البدعة، ثم اتفقا على أنهما يذهبان في غد ويصليان صلاة الصبح خلف الشيخ عبد الجبار وينظران ماذا يقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى ويجعلان ذلك فألا يحكمان به فيما اختلفا فيه، فذهبا وصليا خلفه فقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} . فتعجبا من ذلك ورضيا بذلك الفأل حكماً1.

أقول من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، يدل عليه حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طيرة، وخيرها الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم، متفق عليه، وحديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع: "يا راشد يا نجيح" روه الترمذي.

قال الحافظ في الفتح: وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء، والفأل بما يسر، ومن شرطه أن لا يقصد إليه فيصير من الطيرة" اهـ، وهذا الفأل كان بالقصد فلا يكون فألا بل طيرة فلا يجوز، ومن ثم يعلم مسألة الفأل من القرآن ومن كتب الصالحين، فإنه ليس بفأل بل طيرة فيكون جبتاً وشركاً وحراماً.

وهذا آخر ما أردناه من الرد على كتاب (الدرر السنية) لأحمد بن زيني دحلان.

1 لقد كذب الله فألهم، ودعوة الشيخ عادت على أبرك ما يكون وأقواه، والحمد لله رب العالمين، الذي بنعمته تتم الصالحات. اهـ محمد بن عبد الرزاق حمزة.

ص: 536