المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌معنى الوسيلة والتوسل لغة وشرعا - صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان

[محمد بشير السهسواني]

الفصل: ‌معنى الوسيلة والتوسل لغة وشرعا

‌معنى الوسيلة والتوسل لغة وشرعا

بتحقيق المؤلف لمسألة التوسل1

إنه لا بد هناك أولاً من بيان معنى التوسل لغة وشرعاً ثم بيان حكمه قسماً قسماً.

قال العلامة أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي في المصباح المنير: وسلت إلى الله بالعمل أسل -من باب وعد- رغبت وتقربت، ومنه اشتقاق الوسيلة، وهي ما يتقرب به إلى الشيء، والجمع الوسائل، والوسيل قيل جمع وسيلة وقيل لغة فيها، وتوسل إلى ربه بوسيلة تقرب إليه بعمل. اه

وقال في النهاية: وفي حديث الأذان "آت محمداً الوسيلة". هي في الأصل ما يتوسل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها وسائل، يقال وسل إليه وسيلة وتوسل، والمراد به في الحديث القرب من الله تعالى، وقيل هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل هي منزل من منازل الجنة، كذا جاء في الحديث. اه

وقال في مجمع البحار: لأن الواصل إليها يكون قريباً من الله، ومنه "سلوا الله لي الوسيلة". طلب من أمته الدعاء له افتقاراً إلى الله هضماً لنفسه لتنتفع به أمته ويثاب عليه، أو للإرشاد ليسأل كل صاحبه الدعاء له. اه

وقال الجوهري في الصحاح: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل والتوسيل والتوسل واحد، يقال وسل فلان إلى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة أي تقرب إليه بعمل، والواسل الراغب إلى الله، قال لبيد:

بلى كل ذي دين إلى الله واسل

انتهى ملخصاً.

وقال في القاموس: الوسيلة والواسلة المنزلة عند الملك والدرجة والقربة، ووسل إلى الله تعالى توسيلاً عمل عملاً تقرب به إليه كتوسل، والواسل الواجب والراغب إلى الله تعالى. اهـ. وهذا الذي ذكرنا يعلم منه معنى التوسل اللغوي.

وأما معناه الشرعي فتحقيقه متوقف على استقراء مواقع هذا اللفظ في الكتاب

1 العنوان للمصحح.

ص: 194

والسنة، فليعلم أن هذا اللفظ قد جاء في سورة المائدة قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس: أي القربة، وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وابن زيد وغير واحد، وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ} . وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه، وأنشد عليه ابن جرير قال الشاعر:

إذا غفل الواشون عدنا لوصلها

وعاد التصافي بيننا والوسائل

والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود. والوسيلة أيضاً علم لأعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش اهـ. وهكذا في سائر التفاسير، وقال تعالى في سورة بني إسرائيل:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . قال الحافظ ابن كثير: الوسيلة هي القربة كما قال قتادة، ولهذا قال:{أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} .

وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة" رواه البخاري.

قال الحافظ في الفتح: قوله: "رب هذه الدعوة" بفتح الدال، زاد البيهقي من طريق محمد بن عون عن علي بن عياش "اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة". قوله "الوسيلة" هي ما يتقرب به إلى الكبير، يقال توسلت أي تقربت، وتطلق على المنزلة

ص: 195

العلية، وقع ذلك في حديث عبد الله بن عمر، وعند مسلم بلفظ "فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله" الحديث، ونحوه للبزار عن أبي هريرة، ويمكن ردها إلى الأول بأن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله فتكون كالقربة التي يتوسل بها. اه

قال المؤلف: محمد بن عون الخراساني عن عكرمة، قال النسائي: متروك، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال عباس عن ابن معين: ليس بشيء، كذا في الميزان فلا تصلح روايته لأن يحتج بها على مسألة من مسائل الشرع، فليعلم.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة". رواه مسلم. قال النووي: وأما لغاته ففيه الوسيلة، وقد فسرها قوله صلى الله عليه وسلم:"فإنها منزلة من الجنة" قال أهل اللغة: الوسيلة المنزلة عند الملك. اه.

وعن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال فيسقون. رواه البخاري، وقد نقلنا فيما تقدم رواية الزبير بن بكار التي فيها صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك من الفتح، فتذكر فإنها تفيد أن التوسل بالعباس رضي الله عنه إنما كان بدعائه لا بذاته.

وأيضاً قال في الفتح: وأخرج -يعني ابن الزبير بن بكار- أيضاً من طريق داود عن عطاء بن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس ابن عبد المطلب فذكر الحديث وفيه فخطب الناس عمر رضي الله عنه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله. وفيه فما برحوا حتى سقاهم الله. اهـ.

فتحصل من هذا كله أن التوسل في اللغة التقرب، والوسيلة هي ما يتقرب به إلى الشيء، ولم يجعل الشرع للتوسل حقيقة غير الحقيقة اللغوية، نعم جعل للوسيلة حقيقة

ص: 196

حيث استعمل في الآيتين بمعنى القربة باتفاق المفسرين، وفي الحديثين بمعنى أعلى منزلة في الجنة، ولا مرية في كون المعنى الأخير حقيقة شرعية، وأما كون المعنى الأول أي القربة حقيقة شرعية ففيه تأمل لا يخفى على من له أدنى تأمل، وبعد اللتيا والتي فالتوسل إلى الله تعالى على أنواع:

(أحدهما) التوسل بأسمائه تعالى وصفاته، وهو ثابت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأنك أن الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال "دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب". رواه الترمذي وأبو داود كذا في المشكاة.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأبي عياش زيد بن الصامت الزرقي وهو يصلي وهو يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا منان يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى". رواه أحمد واللفظ له وابن ماجه. ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم، وزاد هؤلاء الأربعة:"يا حي يا قيوم". وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. كذا في الترغيب والترهيب للمنذري.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت وإذا استرحمت به رحمت وإذا استفرجت به فرجت" قال فقال يوماً: ياعائشة: "هل علمت أن الله قد دلني على الاسم الذي إذا دعي به أجاب". قالت فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله فعلمنيه، قال "إنه لا ينبغي لك يا عائشة". قالت فتنحيت وجلست ساعة ثم قمت فقبلت رأسه ثم قلت: يا رسول الله علمنيه، قال:"إنه لا ينبغي لك يا عائشة أن أعلمك، إنه لا ينبغي لك أن تسألي به شيئاً للدنيا" قالت فقمت فتوضأت

ص: 197

ثم صليت ركعتين، ثم قلت: اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك البر الرحيم، وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم أن تغفر لي وترحمني. قالت: فاستضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "إنه لفي الأسماء التي دعوت بها" رواه ابن ماجه.

و (الثاني) التوسل بالأعمال الصالحة، وهذا أيضاً ثابت بالكتاب والسنة الصحيحة، أما الكتاب فما تقدم ذكره من الآيتين اللتين فيهما ذكر الوسيلة، فإن المراد بها بإجماع المفسرين هي القربة، وفي قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . إشارة إلى ذلك، فإن العبادة قدمت على الاستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية، وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب وأدعى إلى الإجابة، كذا في البيضاوي وغيره يدل عليه قول الله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} . والمعنى: استعينوا على حوائجكم وما تؤملون من خير الدنيا والآخرة إلى الله تعالى بالصبر والصلاة، حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب، كذا في البيضاوي وغيره، وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

وأما السنة فما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غاز في الجبل، فانحت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها". الحديث متفق عليه، والحديث دال على أنه يستحب للإنسان أن يتوسل بصالح أعماله إلى الله تعالى، فإن هؤلاء فعلوه واستجيب لهم، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم، وجميل فضائلهم، لكن الثابت منه إنما هو توسل الشخص بأعمال نفسه لا بأعمال غيره من الأنبياء والصالحين، كما زعم الإمام الشوكاني رحمه الله.

و (الثالث) أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بتصديقه على الرسالة، والإيمان بماجاء به، طاعته في أمره ونبيه، ونصرته حياً وميتاً، ومعاداة من عاداه، ومولاة من ولاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته، ونشر شريعته، ونفي التهمة عنها واستشارة علومها، والتفقه في معانيها والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها،

ص: 198

وتعليمها وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، ومحبته ومحبة أهل بيته وأصحابه ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من عترته وصحبه ودعاء الوسيلة له، والصبر على لأواء مهجره وشدته ونحو ذلك، وكذلك التوسل بالصالحين بمحبتهم وتوقيرهم وإجلالهم، وما يحذو حذوه.

وهذا التوسل هو عين دين الإسلام لا يجحده أحد من المسلمين، لكن هذا التوسل في الحقيقة هو التوسل بالأعمال الصالحة، وإن سماه أحد توسلاً بالأنبياء والصالحين فلا يتغير حكمه بهذه التسمية، فإن العبرة للمسمى والمعنون لا للاسم والعنوان.

(الرابع) التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كفاحاً، وكذلك التوسل بدعاء الصالحين، ومنه قول عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. ومنه قول أعرابي حين أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، ومنها ما كانت الصحابة رضي الله عنهم من أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إليه، فقال: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، وإليه الإشارة في قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . وهذا أيضاً مما لا نزاع فيه لأحد، وعليه يحمل حديث الضرير "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" على تقدير ثبوته، أي بدعاء نبيك، ويدل عليه لفظ فقال "ادع الله" وقوله "اللهم شفعه فيّ".

(الخامس) أن يدعو الرب سبحانه بإضافته إلى عباده الصالحين، كما في حديث عائشة رضي الله عنها "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل" المروي في صحيح مسلم. فلو قال أحد في دعائه: اللهم رب إبراهيم وموسى وعيسى وداود ومحمد -أو قال- اللهم رب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -أو قال- اللهم رب فاطمة والحسن والحسين -أو قال- اللهم رب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد -أو قال- اللهم رب البخاري

ص: 199

ومسلم والترمذي وأبي داود وابن ماجه -أو قال- اللهم رب معروف الكرخي وأبي يزيد البسطامي والشيخ عبد القادر الجيلاني وجنيد، فلا أرى به بأساً.

(السادس) التوسل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له إلى الله حاجة أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء، وليصل ركعتين، ثم ليثن على الله وليصل على النبي ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم" الحديث رواه الترمذي وابن ماجه، وفي سنده فائد بن عبد الرحمن بن أبي الورقاء، وهو وإن كان عند الجمهور ضعيفاً لكن قال الحاكم إنه مستقيم الحديث1، ولهذا شاهد من حديث أنس فكان صالحاً لأن يحتج به. وقد ورد في حديث أبي بن كعب في فضل الصلاة قال:"إذاً تكفي همك، ويكفر لك ذنبك" رواه الترمذي.

وعن فضالة بن عبيد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله وصل عليّ ثم ادعه" قال ثم صلى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي "أيها المصلي ادع تجب". رواه الترمذي، وروى أبو داود والنسائي نحوه.

وعن عبد الرحمن بن مسعود قال: كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله تعالى ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعوت لنفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"سل تعطه" رواه الترمذي، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منها شيء حتى تصلي على نبيك، رواه الترمذي. وعن علي رضي الله عنه قال: كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد صلى الله عليه وسلم. رواه الطبراني في الأوسط موقوفاً ورواته ثقات.

1 فائد بن أبي الورقاء هذا قال الحافظ في التقريب: متروك اتهموه، فالعجب من المصنف كيف يعتد بشهادة الحاكم له مع علمه بتضعيف الجمهور له، وطالما قرر وكرر القول بعدم الاعتماد على توثيق الحاكم لمثله ولمن هو أمثل منه. وكتبه محمد رشيد.

ص: 200

و (السابع) أن يقول: اللهم أسألك بحق فلان عبدك أو بجاهه أو حرمته أو نحو ذلك، فعن العز بن عبد السلام ومن تابعه عدم الجواز إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وعند الحنابلة في أصح القولين أنه مكروه كراهة تحريم. ونقل القدوري وغيره من الحنفية عن أبي يوسف أنه قال قال أبو حنيفة رحمه الله: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. وذكر العلائي في شرح التنوير عن التتار خانية عن أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله سبحانه إلا به. وفي جميع متونهم أن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والأولياء وبحق البيت والمشعر الحرام مكروه كراهة تحريم، وهي كالحرام في العقوبة بالنار عند محمد، وعللوا ذلك كلهم بقولهم: لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.

قلت: قد ورد في حديث معاذ المتفق عليه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بني وبينه إلا مؤخرة الرحل فقال: "يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً". فقد ثبت بهذا الحديث أن للمخلوق أيضاً حقاً على الله، فالتعليل المذكور فاسد، فإن أُوّلَ الحديث فليؤول بمثله قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والأولياء، ولكن مجرد ثبوت الحق للمخلوق على الخالق لا يقتضي جواز السؤال به، فالقول الفصل في ذلك الفصل أن السؤال بحق فلان إن ثبت بحديث صحيح أو حسن فلا وجه للمنع، وإن لم يثبت فهي بدعة، وقد عرفت فيما سلف أن كل حديث ورد في هذا الباب لا يخلو عن مقال ووهن، فالأحوط ترك هذه الألفاظ، وقد جعل الله في الأمر سعة، وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التوسل المشروع على هيئات متعددة كما تقدم، فلا ملجئ إلى الوقوع في مضيق الشبهات، فقد ورد في حديث نعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه". الحديث متفق عليه.

وأما ما قال الإمام الشوكاني من أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في

ص: 201

التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة، ومزاياهم الفاضلة، إذ لا يكون الفاضل فاضلاً إلا بأعماله، فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة. اهـ.

ففيه نظر من وجوه:

(الأول) أن قوله في دليل الدعوى: إذ لا يكون الفاضل فاضلاً إلا بأعماله، دعوى مجرد لم يذكر عليه دليلاً فلا تقبل1. ألا ترى أن أمته صلى الله عليه وسلم خير أمة بدليل قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . مع أن من خلا من الأمم أكثر عملاً منهم، فيجوز أن يكون الفاضل فاضلاً بفضل الله تعالى لا بمجرد العمل.

(الثاني) أنا لا نسلم أن الفاضل إذا كان فضله بالأعمال كان التوسل به توسلاً بالأعمال الصالحة، لم لا يجوز أن يكون التوسل به توسلاً بذاته؟ بل هو الظاهر2، فإن حقيقة التوسل بالشيء التوسل بذاته، والتوسل بالأعمال أمر خارج زائد على الحقيقة، ولا يصرف عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمانع.

1 في هذا النظر من المؤلف نظر، فليته تركه، فكون الفاضل لا يكون فاضلاً إلا بعمله بديهي لا يحتاج إلى دليل، وهل الفضل إلا لزيادة على غيره بالعمل الذي يشمل عمل النفس والجوارح، وما كانت شهادة الله لهذه الأمة بالخيرية إلا مقرونة بذكر العمل الذي به الخيرية، وهو قوله تعالى بعدها:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . وكتبه محمد رشيد رضا.

2 إن المعلوم من حال هؤلاء المتوسلين بالأشخاص أنهم يتوسلون بذواتهم الممتازة بصفاتهم وأعمالهم المعروفة عنهم لاعتقاد أن لهم تأثير في حصول المطلوب بالتوسل، إما بفعل الله تعالى لأجلهم وإما بفعلهم أنفسهم مما يعدونه كرامة لهم وقد سمعنا الأمرين منهم وممن يدافع عنهم، وكل من الأمرين باطل. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 202

(الثالث) أن الثابت بحديث الصخرة إنما هو توسل شخص بأعمال نفسه، لا بأعمال غيره، فلا يتم التقريب، بل التوسل بأعمال الغير مما يستنكف عنه العقل السليم، ولا يدل عليه دليل من الكتاب والسنة.

فإن قلت: قد ورد في حديث جابر في باب دعاء الأذان من طريق محمد بن عون "اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة" فهذا القول من غير المؤذن توسل بعمل الغير، قلت: جوابه من وجهين: (الأول) ما تقدم من الكلام في محمد بن عون فلا يصلح لأن يستدل به على شيء من مسائل الدين. (والثاني) أن المراد بهذه الدعوة التامة نوع الأذان لا أذان مؤذن مخصوص، كما أن المراد مطلق الصلاة لا صلاة مصل معين، فغاية ما يثبت منه التوسل بمطلق الأعمال الصالحة، من غير إضافتها إلى أشخاص معينين، وهو بمعزل عن المطلوب.

(الرابع) أنه لو سلم أن مراد القائل: اللهم إني أتوسل إليك بأبي بكر رضي الله عنه مثلاً هو التوسل بأعمال أبي بكر رضي الله عنه لا التوسل بذاته، فاللفظ محتمل للتوسل بالذات أيضاً، وهذا مما لا شك فيه، وقد نهانا الله تعالى عن استعمال لفظ موهم لأمر غير جائز فقال في سورة البقرة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال الإمام العلامة أبو الطيب صديق بن حسن القنوجي دام فيضه في تفسيره (فتح البيان) : وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسب والنقص، وإن لم يقصد المتكلم بها هذا المعنى المفيد للشتم، سداً للذريعة، وقطعاً لمادة المفسدة والتطرق إليه. اهـ.

وكذلك ما قال والد صاحب (جلاء العينين) مجوزاً قول القائل: اللهم إني أسألك بحق النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه، من أن المراد من الحق والجاه معنى يرجع إلى صفة من صفات الله تعالى، مثل أن يراد المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته محل نظر، فإن إرجاع لفظ الحق والجاه إلى صفة من صفاته تعالى لا يخلو من تعسف، ولو سلم فاللفظ محتمل للتوسل بالذات أيضاً، واستعمال الألفاظ المحتملة للأمر غير الجائز منهي عنه بدليل الآية المتقدمة، وكذلك ما قيل إنه إذا جاز التوسل

ص: 203

بالأعمال الصالحة فالتوسل به صلى الله عليه وسلم أحق وأولى لما فيه من النبوة والفضائل فاسد، فإن بينهما من الفرق ما لا يخفى، إذ التوسل بالأعمال الصالحة ثابت بالكتاب والسنة الصحيحة، بخلاف التوسل بالذوات الفاضلة فإن أمثل ما يستدل به على هذا المطلب هو حديث عثمان بن حنيف، وهو غير ثابت لأن في سنده أبا جعفر الرازي وهو سيئ الحفظ يهم كثيراً فلا يحتج بما ينفرد به، وعلى تقدير ثبوته فالمراد بقوله "بنبيك" بدعاء نبيك وشفاعته، بل هذا متعين بدليل قول الضرير ادع الله أن يعافيني، وقوله صلى الله عليه وسلم "إن شئت دعوت". وقوله في الدعاء "فشفعه في". وبدليل قول عمر رضي الله عنه: كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فإن المراد بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القول هو التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وبدعاء عمه صلى الله عليه وسلم لا غير، كما يدل عليه صفة ما استسقى به النبي صلى الله عليه وسلم وعمه العباس رضي الله عنه، فقد علم بذلك أن المراد بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في عرف الصحابة هو التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القسم من التوسل لم يقل أحد من العلماء إنه شرك، فإن أشدهم في المنع شيخ الإسلام ابن تيميه وتلامذته وتبعهم في ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي رحمهم الله تعالى وهؤلاء العلماء يصرحون بأنه ليس بشرك.

قال في (تبعيد الشيطان بتقريب إغاثة اللهفان) قال شيخنا قدس الله روحه: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب، أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيما كما يفعله كثير من الناس. قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قل يتمثل لهم الشطان في صورة الميت الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل لهم الشيطان أحياناً، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وكذلك السجود للقبر وتقبيله. (المرتبة الثانية) أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين. (الثالثة) أن يسأله نفسه. (الرابعة) أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب وأنه أفضل من المسجد فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، وهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك ويقول بعضهم: قبر

ص: 204

فلان ترياق مجرب! والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر. اهـ.

وأيضاً قال فيه: والشيطان له تلطف في الدعوة، فيدعوه أولاً إلى الدعاء عنده، فيدعو العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة، فيجيب الله دعوته لما قام بقلب لا لأجل القبر، فيظن الجاهل أن للقبر، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيراً -إلى أن قال- فإذا وقع ما يريده الشطان من الإنسان من استحسان الدعاء عند القبر وأنه أرجح من دعائه في بيته ومسجده نقله درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأن الله تعالى أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك.

قال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي: قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأجد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول أسألك بمعاقد العز من عرشك، وأن يقول بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام.

وقال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فمنكرة لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق له على خلقه، وأما قوله بمعقد العز من عرشك فكرهه أبو حنيفة ورخص فيه أبو يوسف، وروى أنه صلى الله عليه وسلم دعا بذلك، قال: ولأن معقد العز يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش مع عظمته، وكأنه سأله بأوصافه، وقال ابن بلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله إلا به، ولا يقول أسألك بملائكتك أو بأنبيائك أو نحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، أو يقول في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك، وعن أبي يوسف جوازه، وما يقوله فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا، هو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب، وفي فتاوى ابن عبد السلام نحو ذلك، وتوقف في نبينا صلى الله عليه وسلم لاعتقاده أن ذلك جاء في حديث وأنه لم يعرف صحة الحديث.

فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به والدعاء أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجح في قضاء الحاجة نقله إلى درجة أعلى من تلك وهي دعاؤه نفسه من دون

ص: 205

الله، ثم إلى درجة فوق تلك هي اتخاذه وثناً يعكف عليه ويوقد عليه القناديل، ويعلق عليه الستور ويبني عليه المسجد ويعبده بالسجود له والطواف عليه وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده، ثم ينقله إلى دعاء الناس وعبادته واتخاذه عيداً ومنسكاً، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم. اهـ.

وقد نقلنا عبارة محمد بن عبد الوهاب في ذلك فيما تقدم، فتذكر.

(الثامن) أن يسال الله ويدعوه عند قبور الصالحين معتقداً أن الدعاء عند القبر مستجاب.

و (التاسع) أن يقول عند قبر نبي أو صالح: يا سيدي فلان ادع الله تعالى أو نحو ذلك، فهذان القسمان مما لا يتسريب عالم أنهما غير جائزين وأنهما من البدع التي لم يفعلها السلف، وإن كان السلام على القبور جائزاً.

(العاشر) أن يقول عند قبر نبي أو صالح: يا سيدي فلان اشف مريضي واكشف عني كربتي وغير ذلك، وهذا شرك جلي، إذ نداء غير الله طالباً بذلك دفع شر أو جلب منفعة فيما لا يقدر عليه الغير دعاء، والدعاء عبادة، وعبادة غير الله شرك، وهذا أعم من أن يعتقد فيهم أنهم مؤثرون بالذات، أو أعطاهم الله تعالى التصرفات في تلك الأمور، أو أنهم أبواب الحاجة إلى الله تعالى وشفعاؤه ووسائله، وفي هذا الحكم التوسل بسائر العبادات من الذبح لهم والنذر لهم والتوكل عليهم والالتجاء إليهم والخوف والرجاء منم والسجود لهم والطواف لهم.

(الحادي عشر) أن يدعو غائباً أو ميتاً عند غير القبور: يا سيدي فلان ادع الله تعالى في حاجتي فلانة، زاعماً أنه يعلم الغيب ويسمع كلامه في كل زمان ومكان ويشفع له في كل حين وأوان، فهذا شرك صريح، فإن علم الغيب من الصفات المختصة بالله تعالى.

(الثاني عشر) أن يدعو غائباً أو ميتاً عند غير القبر: يا سيدي فلان اشف مريضي واقض عن الدين وهب لي ولداً وارزقني واغفر لي وأمثال ذلك، وهذا أيضاً شرك من وجهين: الأول أنه يعتقد علم الغيب لذلك المدعو وهو شرك، والثاني أنه ينادي ويدعو غير الله تعالى طالباً بذلك دفع شر أو جلب منفعة فيما لا يقدر ذلك

ص: 206

الغير عليه، وهذا الدعاء عبادة، وعبادة غير الله شرك، ومن قال من العلماء بكون التوسل شركاً فإنما أراد به أحد الأقسام الثلاثة الأخيرة.

قوله: وإنما استسقى عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه ولم يستسق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليبين للناس جواز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك لا حرج فيه، وأما الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم فكان معلوماً عندهم فلربما أن بعض الناس يتوهم أنه لا يجوز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم فبين لهم عمر باستسقائه بالعباس الجواز، ولو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما يفهم منه بعض الناس أنه لا يجوز الاستسقاء بغيره صلى الله عليه وسلم.

أقول فيه كلام من وجهين:

(الأول) أن المراد بالاستسقاء بالعباس والتوسل به الوارد في حديث أنس رضي الله عنه هو الاستسقاء بدعاء العباس على طريقة معهودة في الشرع، وهي أن يخرج من يستسقي به إلى المصلى فيستسقي ويستقبل القبلة داعياً ويحول رداءه ويصلي ركعتين أو نحوه من هيئات الاستسقاء التي وردت في الصحاح، والدليل عليه قول عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإن نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ففي هذا القول دلالة واضحة على أن التوسل بالعباس كان مثل توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بأن يخرج صلى الله عليه وسلم ويستقبل القبلة ويحول رداءه ويصلي ركعتين أو نحوه من الهيئات الثابتة للاستسقاء، ولم يرد في حديث ضعيف فضلاً عن الحسن أو الصحيح أن الناس طلبوا السقيا من الله في حياته متوسلين به صلى الله عليه وسلم من غير أن يفعل صلى الله عليه وسلم ما يفعل في الاستسقاء المشروع من طلب السقيا والدعاء والصلاة وغيرهما مما ثبت بالأحاديث الصحيحة، ومن يدعي وروده فعليه الإثبات.

إذا تمهد هذا فاعلم أن الاستسقاء والتوسل على الهيئة التي وردت في الصحاح للاستسقاء لا يمكن إلا بالحي لا بالميت، فالقول بإمكان هذا الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته من أبطل الأباطيل، وكان القول بأنه لو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما يفهم منه

ص: 207

بعض الناس أنه لا يجوز الاستسقاء بغيره صلى الله عليه وسلم بديهي البطلان، فإن ما ثبت بفعله صلى الله عليه وسلم هو مشروع لنا لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} . وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . ما لم يدل دليل على كونه مخصوصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا مجال لهذا التوهم حتى يحتاج إلى دفعه.

و (الثاني) أن المقصود لو كان دفع التوهم المذكور لكان أولى أن يتوسل بحي غير النبي صلى الله عليه وسلم في حياته صلى الله عليه وسلم أو بميت غير النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أو بميت غير النبي صلى الله عليه وسلم في حياته صلى الله عليه وسلم، فإن هاتيك الصور الثلاث أبعد من أن يبدأ فيها الاحتمال الآتي من أنه إنما استسقى بالعباس لأنه حي والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات، وأن الاستسقاء بغير الحي لا يجوز، فلما ترك عمر رضي الله عنه تلك الصور واختار الصورة التي يتأتى فيها الاحتمال المذكور دل هذا الصنيع على أن مقصوده رضي الله عنه ليس دفع التوهم المذكور.

و (الثالث) أن توهم عدم جواز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم أخف من وهم عدم جواز الاستسقاء بالميت، سيما إذا كا ذلك الميت غير النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا التوهم أولى بالدفع، فكان الأنسب حينئذ أن يستسقي بميت غير النبي صلى الله عليه وسلم.

و (الرابع) أن هذا التعليل فاسد، لأن المعلل لم يقم عليه برهاناً ولا دليلاً فلا يصغى إليه.

قوله: وليس لقائل أن يقول إنما استسقى بالعباس لأنه حي والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات وأن الاستسقاء بغير الحي لا يجوز، لأنا نقول إن هذا الوهم باطل ومردود بأدلة كثرة.

أقول: هذه الأدلة ليست صالحة لأن يستدل بها على المطلوب كما تقدم، فتذكر.

قوله: ومع أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره.

أقول: بعد التسليم هذه الحياة حياة برزخية، وتساوي الحياة البرزخية والدنيوية في جميع الأحكام لا يقول به أحد من العقلاء، إذ هو يستلزم مفاسد غير محصورة كما لا يخفى على من له أدنى فهم.

ص: 208

قوله: قال بعض العارفين: وفي توسل عمر بالعباس رضي الله عنه دون النبي صلى الله عليه وسلم نكتة أخرى زيادة على ما تقدم، وهي شفقة عمر رضي الله عنه على ضعفاء المؤمنين، فإنه لو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما استأخرت الإجابة، لأنها معلقة بإرادة الله تعالى ومشيئته، فلو تأخرت الإجابة ربما تقع وسوسة فاضطراب لمن كان ضعيف الإيمان بسبب تأخر الإجابة.

أقول: هذه النكتة أحق أن يقال إنها نكتة سوداء، أو وسوسة دهماء، أو فتنة صماء، أو شبهة عمياء، فإنها تقتضي ترك الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته صلى الله عليه وسلم أيضاً، فإنه لو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما استأخرت الإجابة لأنها معلقة بإرادة الله تعالى في حياته وبعد وفاته، فلو تأخرت الإجابة ربما تقع وسوسة فاضطراب، ولا يقول به أحد من المسلمين.

وبالجملة فالذي ألجأ هؤلاء إلى إبداء أمثال هذه النكتة السخيفة الساقطة الردية، والتعليلات الباردة الفاسدة المرمية، هو أن عمر رضي الله عنه وسائر الصحابة مع أنهم السابقون الأولون عدلوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس، وهذا العدول أوضح دليل وأبهر برهان على أن التوسل بالأموات غير جائز، فهؤلاء المجوّزون للتوسل بالأموات احتاجوا إلى توجيه هذا العدول وتأويله، فعموا وصموا وقالوا ما قالوا، فخبطوا خبط عشواء، وركبوا متن عمياء، وإلى الله المشتكى من أمثال هذه التوجيهات، فإنها تحريفات واضحات.

قوله: والحاصل أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وكذا بالأولياء والصالحين، لما دلت عليه الأحاديث السابقة.

أقول: إن أراد أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة جميع أقسام التوسل التي ذكرناها آنفاً ففاسد، فإن كثيراً من أهل السنة صرحوا بكون بعض الأقسام غير جائز أو مكروهاً، بل بكون بعضها كفراً وشركاً، وإن أراد أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة بعض أقسام التوسل فنحن لا ننكره ولا أحد من العلماء الذين رُموا

ص: 209

بإنكار التوسل.

قوله: لأنا معشر أهل السنة لا نعتقد تأثيراً ولا خلقاً ولا إيجاداً ولا إعداماً ولا نفعاً ولا ضراً إلا لله وحده لا شريك له، ولا نعتقد تأثيراً ولا نفعاً ولا ضراً للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره من الأموات، فلا فرق في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وكذا بالأولياء والصالحين، لا فرق بين كونهم أحياء وأمواتاً، لأنهم لا يخلقون شيئاً، وليس لهم تأثير في شيء، وإنما يتبرك بهم لكونهم أحباء الله تعالى، وأما الخلق والإيجاد والإعدام والنفع والضر فإنه لله وحده لا شريك له.

أقول: فيه كلام من وجوه:

(الأول) أنه يعتقد كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله وتارة استقلالاً، ويصرخون بأسمائهم، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء، كما تقدم ذلك في كلام الشوكاني.

و (الثاني) أن مجرد عدم اعتقاد التأثير والخلق، والإيجاد والإعدام، والنفع والضر إلا لله لا يبرئ من الشرك، فإن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم أيضاً كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق، بل لابد فيه من إخلاص توحيده وإفراده، وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء والاستغاثة والرجاء واستجلاب الخير واستدفاع الشر له ومنه لا بغيره ولا من غيره، وكذلك النذر والذبح والسجدة كلها تكون لله، وهذا قد ظهر من العبارات التي نقلناها سابقاً ظهوراً بيناً لا خفاء فيه.

و (الثالث) أن مجرد كون الأحياء والأموات شركاء في أنهم لا يخلقون شيئاً وليس لهم تأثير في شيء لا يقتضي أن يكون الأحياء والأموات متساوين في جميع

ص: 210

الأحكام حتى يلزم من جواز التوسل بالأحياء جواز التوسل بالأموات، وكيف وليس معنى التوسل بالأحياء إلا التوسل بدعائهم وهو ثابت بالأحاديث الصحيحة، وأما التوسل بدعاء الأموات فلم يثبت بحديث صحيح ولا حسن.

قوله: وأما الذين يفرقون بين الأحياء والأموات فإنهم بذلك الفرق يتوهم منهم أنهم يعتقدون التأثير للأحياء دون الأموات، ونحن نقول:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} . فهؤلاء المجوزون التوسل بالأحياء دون الأموات أو المعتقدون تأثير غير الله وهم الذين دخل الشرك في توحيدهم لكونهم اعتقدوا تأثير الأحياء دون الأموات.

أقول: هذا كلام تقشعر منه الجلود، أما يعلم هذا القائل الصنديد، والمتفوه العنيد، أن الفارقين بين الأحياء والأموات هم الذين يمنعون مما هو دون اعتقاد تأثير الله بمراحل ويصرحون بكونه شركاً؟ فكيف يتوهم منهم أنهم يعتقدون تأثير غير الله؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، على أن مناط الفرق بين الأحياء والأموات ليس اعتقاد التأثير للأحياء دون الأموات كما زعم هذا المتقول على الموحدين، إنما مناطه ثبوت التوسل بالأحياء بالأحاديث الصحيحة دون الأموات.

قوله: فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد، وليس لها في قلوب المؤمنين معنى إلا التبرك بذكر أحباء الله تعالى، لما ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياء أو أمواتاً.

أقول: هذا الحصر غير مسلم فإن صاحب الرسالة1 قد عد من أفراد التوسل

1 أي صاحب هذه الرسالة المردود عليها، والرد هنا قاصر، ومما كان ينبغي أن يقوله المصنف في رده: إن الألفاظ الثلاثة ليست بمعنى واحد، وإن الذين ليس لها في قلوبهم معنى إلا التبرك لا يشدون الرحال إلى القبور لأجل ذكر موتاها –وإن ذكرها في الدعاء تبركاً من التعبد الذي لا يعلم إلا بالنص من الشارع وهو غير موجود– وإن كونها سبباً للرحمة مضاد لكونها لا تأثير لها. وهو قد جمع بين الضدين في الجملة الآتية ويسمى ذكرهم سبباً عادياً للتأثير الإلهي، والمعروف عن جماعة القبوريين أنهم يعدونه من خوارق العادات لا من الأسباب العادية. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 211

ما رواه الدارمي عن أبي الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت: انظروا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق، وليس فيه التبرك بذكر أحباء الله، على أن التوسل إذا كان خالياً من اعتقاد التأثير ودعاء غير الله والنذر له والذبح له وسائر العبادات وجميع ما نهى الله ورسوله عنه، وكان محض التبرك بذكر أحباء الله لا يكون شركاً، لكن ينظر إليه فإن كان ذلك التبرك ثابتاً بكتاب أو سنة صحيحة فلا مرية في مشروعيته، وإن لم يكن ثابتاً فهو بدعة ضلالة، والكلام في حديث أبي الجوزاء سيأتي فارتقبه، ودعوى أنه ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً تحتاج إلى إقامة البرهان عليها، ودونه لا تُسمع، ثم إلى تبيين أن المراد بلفظة "بسببهم" بسبب ذكرهم، وبدونه لا يتم التقريب.

قوله: فالمؤثر والموجد حقيقة هو الله تعالى، وذكر هؤلاء الأخيار سبب عادي في ذلك التأثير، وذلك مثل الكسب العادي فإنه لا تأثير له.

أقول: كون ذكر هؤلاء الأخيار سبباً عادياً في ذلك التأثير من أين علم؟ وأي دليل عليه؟ ولو سلم فالسببية لا تستلزم المشروعية، ألا ترى أن كثيراً من العقود الفاسدة سبب لتحصيل المنافع وليست بمشروعة.

قوله: وحياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم ثابتة عند أهل السنة بأدلة كثيرة.

أقول: هب أن حياة الأنبياء عليهم السلام ثابتة، ولكنها حسب اعتراف صاحب الرسالة ليست مثل الحياة الدنيوية، فلا يتفرع عليها جواز التوسل كما يتفرع على الحياة الدنيوية.

قوله: فإن قال قائل: إن شبهة هؤلاء المانعين للتوسل أنهم رأوا بعض العامة يأتون بألفاظ توهم أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، ويطلبون من الصالحين أحياء وأمواتاً أشياء جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى، ويقولون للولي

ص: 212

افعل لي كذا وكذا، وأنهم ربما يعتقدون الولاية في أشخاص لم يتصفوا بها بل اتصفوا بالتخليط وعدم الاستقامة، وينسبون لهم كرامات وخوارق عادات وأحوالاً ومقامات وليسوا بأهل لها ولم يوجد فيهم شيء منها، فأراد هؤلاء المانعون للتوسل أن يمنعوا العامة من تلك التوسعات دفعاً للإيهام وسداً للذريعة، وإن كانوا يعلمون أن العامة لا يعتقدون تأثيراً ولا نفعاً ولا ضراً لغير الله تعالى ولا يقصدون بالتوسل إلا التبرك، ولو أسندوا للأولياء شيئاً لا يعتقدون فهيم تأثيراً، فنقول لهم إذا كان لأمر كذلك وقصدتم سد الذريعة فما الحامل لكم على تكفير الأمة عالمهم وجاهلهم وخاصهم وعامهم، وما الحامل لكم على منع التوسل مطلقاً، بل كان ينبغي لكم أن تمنعوا العامة من الألفاظ الموهمة لتأثير غير الله تعالى، وتأمروهم بسلوك الأدب في التوسل.

أقول: أولاً - إن تقرير دليل المانعين نوع تحريف مقصود، وأصل تقريرهم هكذا: إنا نرى كثيراً من العامة وبعض الخواص يأتون بألفاظ دالة دلالة مطابقة على أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، ويطلبون من الصالحين أحياءً وأمواتاً أشياء لا يقدر عليها إلا الله، وينذرون لهم النذور وينحرون لهم النحائر ويقربون إليهم نفائس الأموال، ويجعلونهم وسائط يدعونهم ويسألونهم جلب المنافع، بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملوك أو لكونهم أقرب إلى الملك1، وبعد ملاحظة أصل تقريرهم وجه التكفير ظاهر، فإن اعتقاد تأثير غير الله كفر صريح، والدعاء والنذر والنحر عبادة، وعبادة غير الله شرك وكفر.

وثانياً - أنا معاشر أهل التوحيد لا نكفر الأمة كلهم عالمهم وجاهلهم وعامهم وخاصهم، هذا افتراء علينا، بل نكفر من وجد فيه موجبات الكفر من اعتقاد

1 بل قال بعض المؤلفين في الفقه وغيره منهم: إن الولي يخرج من قبره فيقضي بنفسه حاجة من دعاه من أو توسل به. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 213

التأثير لغير الله واعتقاد أنه يضر وينفع، ودعاء غير الله والنذر له والنحر له وغيرها.

ثالثاً: أن مجرد عدم اعتقاد التأثير لغير الله لا يكفي للبراءة من الشرك كما تقدم، بل لابد فيها من إخلاص العبادة لله تعالى، بأن يكون الدعاء والاستغاثة والنذر والنحر وسائر أقسام العبادة كلها لله تعالى.

ورابعاً- أنا معاشر الموحدين لا نمنع التوسل مطلقاً كما تقدم، وإنما نمنع منه ما كان متضمناً لعبادة غير الله، أو لما نهى الله عنه ورسوله، أو محدثاً لم يدل عليه دليل من كتاب وسنة ثابتة.

قوله: مع أن تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على المجاز من غير احتياج إلى التكفير للمسلمين، وذلك المجاز مجاز عقلي شائع ومعروف. اهـ.

أقول: فيه نظر من وجوه:

(الأول) أن لفظ "الموهمة" في هذا المقام وفيما تقدم لا يخلو عن تدليس وتلبيس، فإن تلك الألفاظ دالة دلالة مطابقة على تأثير غير الله تعالى، فما معنى الإيهام؟

(والثاني) أنه لو سلم هذا الحمل لاستحال الارتداد، ولغاب باب الردة الذي يعقده الفقهاء، فإن المسلم الموحد متى صدر منه قول أو فعل موجب للكفر يجب حمله على المجاز العقلي، والإسلام والتوحيد قرينة على ذلك المجاز.

(والثالث) أنه يلزم على هذا أن لا يكون المشركون الذين نطق كتاب الله بشركهم مشركين، "فإنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، لكن كانوا يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، فالاعتقاد المذكور قرينة على أن المراد بالعبادة ليس معناها الحقيقي، بل المراد هو المعنى المجازي، أي التكريم مثلاً، فما هو جوابكم هو جوابنا.

(الرابع) أنكم هؤلاء أوّلتم عنهم في تلك الألفاظ الدالة على تأثير غير الله

ص: 214

تعالى، فما تفعلون في أعمالهم الشركية من دعاء غير الله واستغاثة والنذر والنحر؟ فإن الشرك لا يتوقف على اعتقاد تأثير غير الله، بل إذا صدر من أحد عبادة من العبادات لغير الله صار مشركاً سواء اعتقد ذلك الغير مؤثراً أم لا.

قوله: وأما منع التوسل مطلقاً فلا وجه له مع ثبوته في الأحاديث الصحيحة، وصدوره من النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة وخلفها.

أقول: لا نمنع التوسل مطلقاً كما بينا فيما تقدم، إنما نمنع منه ما هو متضمن لعبادة غير الله، أو لما نهى عنه الله ورسوله، أو كان محدثاً لم يدل عليه دليل من الكتاب والسنة الثابتة، وأما الأحاديث التي ذكرها صاحب الرسالة ويزعم أنها صحيحة فقد تقدم الكلام عليها، فتذكر.

قوله: فهؤلاء المنكرون للتوسل المانعون منه منهم من يجعله محرماً، ومنهم من يجعله كفراً وشركاً، وكل ذلك باطل، لأنه يؤدي إلى اجتماع معظم الأمة على ضلالة.

أقول: قد عرفت فيما تقدم أن التوسل له أقسام: بعضها مشروع، وبعضها شرك ومحرم، وبعضها مكروه وبدعة، فالذي نجعله محرماً أو كفراً وشركاً أو بدعة لا نسلم اجتماع معظم الأمة عليه، والذي عليه اجتماع معظم الأمة لا نقول بكونه شركاً أو محرماً أو بدعة.

قوله: لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "لا تجتمع أمتي على ضلالة". قال بعضهم: إن هذا حديث متواتر.

أقول: الحديث رواه الترمذي في أبواب الفتن من حديث ابن عمر ولفظه هكذا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يجمع أمتي -أو قال أمة محمد- على ضلالة. ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار". هذا حديث غريب من هذا الوجه. وسليمان المديني هو عندي سليمان بن سفيان. اهـ.

قلت: هذا حديث ضعيف، ففي سنده سليمان بن سفيان قال الذهبي في الميزان:

ص: 215

سليمان بن سفيان أبو سفيان المدني عن عبد الله بن دينار وبلال بن يحيى، قال ابن معين ليس بشيء، وقال مرة ليس بثقة، وكذا قال النسائي، وقال أبو حاتم والدراقطني: ضعيف. اهـ وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: سليمان بن سفيان التيمي مولاهم أبو سفيان المدني ضعيف من الثامنة، وقال الذهبي في الكاشف: ضعفه أبو حاتم وغيره، اهـ. وقال في الخلاصة: سليمان بن سفيان مولى آل طلحة التيمي أبو سفيان المدني عن عبد الله بن دينار وبلال بن يحيى، وعنه معتمر بن سليمان وأبو دود الطيالسي، ضعفه أبو حاتم وغيره. اهـ.

قال الترمذي في جامعه: وفي الباب عن ابن عباس حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا إبراهيم بن ميمون عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يد الله مع الجماعة" هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه. اهـ. قلت: في سنده عبد الرزاق وهو وإن كان ثقة حافظاً، لكن عمي في آخر عمره فتغير.

قال الحافظ في التقريب: عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم أبو بكر الصنعاني ثقة حافظ مصنف شهير، عمي في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع، اهـ. وقال الذهبي في الميزان: قال أبو زرعة الدمشقي: قال لي أحمد أتينا عبد الرزاق قبل المائتين وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعد ما ذهب بصره فهو ضعيف السماع، وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث "النار جبار" فقال: هذا باطل من يحدث به عن عبد الرزاق؟ قلت حدثني أحمد بن شبويه. قال: هؤلاء سمعوا منه بعد ما عمي، كان يلقن فيلقنه، وليس هو في كتبه. وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه كان يلقنها بعدما عمي، وقال النسائي: فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة. روى عنه أحاديث مناكير. وقال البخاري: ما حدث عنه عبد الرزاق من كتابه فهو أصح اهـ. ملخصاً.

قال المؤلف: يجب على من يستدل بهذا الحديث أن يثبت أن يحيى بن موسى سمع هذا الحديث من عبد الرزاق قبل ذهاب بصره، على أن هذا الحديث ليس فيه لفظ يحتج به على حجية الإجماع، ورواه ابن ماجه في أبواب الفتن من حديث أنس بن مالك ولفظه هكذا: حدثنا العباس بن عثمان الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا معان بن رفاعة

ص: 216

السلامي حدثني أبو خلف الأعمى قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم السواد الأعظم". في سنده معان بن رفاعة السلامي قال الحافظ في التقريب: لين الحديث، كثير الإرسال. اهـ.

وقال الذهبي في الميزان: معان بن رفاعة الدمشقي وقيل الحمصي عن أبي الزبير وعبد الوهاب بن بخت، وعنه أبو المغيرة وعصام بن خالد وجماعة، وثقه ابن المديني وقال الجوزجاني ليس بحجة، ولينه يحيى بن معين، مات مع الأوزاعي تقريباً، وهو صاحب حديث ليس متقن اهـ. وقال في الكاشف: قال أبو حاتم وغيره لا يحتج به. اهـ.

وفي سنده أيضاً أبو خلف الأعمى، قال الحافظ في التقريب: أبو خلف الأعمى نزيل الموصل خادم أنس، قيل اسمه حازم بن عطاء، متروك، ورماه ابن معين بالكذب، من الخامسة، ومن زعم أنه مروان الأصغر فقد وهم، ومروان أيضاً يكنى أبا خلف فيما قال مسلم والله أعلم. اهـ.

قال الذهبي في الميزان: أبو خلف الأعمى عن أنس بن مالك قيل اسمه حازم، كذبه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: منكر الحديث اهـ، وقال الذهبي في الكاشف: لين.

وبالجملة هذا الحديث بهذا السند ضعيف جداً، قال علي بن أحمد العزيزي في (السراج المنير) قال الشيخ أي محمد حجازي الشعراني أنى حديث صحيح اهـ. قلت: هذا خطأ من الشيخ بين لما عرفت من أن في سنده من رمي بالكذب ومن هو لين الحديث كثير الإرسال، فالحكم بصحته عجيب، ورواه الدرامي في باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن قيس، ولفظه هكذا: أخبرنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية عن عروة بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أدرك بي الأجل المرحوم، واختصر لي اختصاراً، فنحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة، وإني قائل قولاً غير فخر: إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله، ومعي لواء الحمد يوم القيامة،

ص: 217

وأن الله عز وجل وعدني في أمتي وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة، ولا يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة". اهـ. في سنده عبد الله بن صالح وهو كثير الغلط، وقد تقدم الكلام عليه فتذكر. وفيه معاوية بن صالح الحضرمي وهو صاحب أوهام، قال الحافظ في التقريب: معاوية بن صالح بن حدير بالمهملة مصغراً الحضرمي أبو عمرو -أو أبو عبد الرحمن- الحمصي قاضي الأندلس صدوق له أوهام اهـ. قال الذهبي في الميزان: وكان يحيى القطان يتعنت ولا يرضاه، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وكذا لم يخرج له البخاري ولينه ابن معين. اهـ ملخصاً.

وفيه عروة بن رويم وهو كثير الإرسال قال الحافظ في التقريب عروة بن رويم بالراء مصغراً اللخمي أبو القاسم صدوق يرسل كثيراً من الخامسة. اهـ.

ورواه أبو داود من حديث أبي مالك الأشعري في كتاب الفتن، ولفظه هكذا: حدثنا محمد بن عوف الطائي أنبأنا محمد بن إسماعيل حدثني أبي، قال ابن عوف وقرأت في أصل إسماعيل قال: حدثني ضمضم عن شريح عن أبي مالك -يعني الأشعري- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة". اهـ.

قال المؤلف: في سنده محمد بن إسماعيل بن عياش الحصمي، قال الذهبي في الميزان: محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي قال أبو داود: لم يكن بذاك، وقال أبو حاتم الرازي: لم يسمع من أبيه شيئاً اهـ. وقال الحافظ في التقريب: محمد بن إسماعيل بن عياش بالتحتانية والمعجمة الحمصي عابوا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع. اهـ.

وقال في الخلاصة: محمد بن إسماعيل بن عياش بتحتانية العنسي بنون الحمصي قال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه إنما حملوه على ذلك فحدث. وعنه أبو زرعة قال أبو داود: ليس بذاك اهـ. وفي سنده ضمضم بن زرعة وهو صاحب أوهام، قال الحافظ في التقريب: ضمضم بن زرعة بن ثوب بضم المثلثة وفتح الواو ثم موحدة الحضرمي الحمصي صدوق يهم اهـ. وقال الذهبي في الميزان: ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد وثقه يحيى بن معين وضعفه أبو حاتم، روى عنه جماعة. اهـ.

ص: 218

وقال في الخلاصة: ضمضم بن زرعة الحضرمي عن شريح بن عبيد وعنه ابن عبيد وعنه إسماعيل بن عياش ويحيى بن حمزة وثقه ابن معين وابن حبان، وضعفه أبو حاتم اهـ. وفيه شريح بن عبيد وهو يرسل كثيراً، قال الحافظ في التقريب: شريح بن عبيد بن شريح الحضرمي الحمصي ثقة من الثالثة، وكان يرسل كثيراً، مات بعد المائة، وقال الذهبي في الكاشف: وثق وقد أرسل عن خلق. اهـ.

ورواه الدراقطني من حديث كعب بن عاصم الأشعري ولفظه هكذا: أنبأنا محمد بن إسماعيل الفارسي أنبأنا الوليد بن مروان أنبأنا جنادة بن مروان أنبأنا أبي أنبأنا شعوذ ابن عبد الرحمن عن خالد بن معدان قال: قال كعب بن عاصم الأشعري إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى أجارني على أمتي من ثلاث: لا يجوعوا ولا يستجمعوا على ضلال، ولا تستباح بيضة المسلمين" اهـ. في سنده جنادة بن مروان وهم متهم بالكذب، قال الذهبي في الميزان: جنادة بن مروان حمصي عن جرير بن عثمان وغيره اتهمه أبو حاتم. اهـ.

وفيه خالد بن معدان الكلاعي الحمصي أبو عبد الله قال الحافظ في التقريب: خالد بن معدان الكلاعي الحمصي أبو عبد الله ثقة عابد يرسل كثيراً، اهـ. وقال في الخلاصة: عن جماعة من الصحابة مرسلاً، وعن معاوية والمقدام بن معديكرب وأبي أمامة اهـ. وبقية رجاله ما وجدتهم لا في الميزان ولا في الكاشف ولا في التقريب والخلاصة، بيد أن الذهبي قال في الميزان: الوليد بين مروان عن غيلان بن جرير مجهول اهـ. فإن كان الوليد الواقع في سنده هذا فهو مجهول، وإن كان آخر فما عرفته.

وبالجملة فهذا الحديث بهذا السند ضعيف جداً بل موضوع، ورواه أحمد من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة، فإن الله عز وجل لن يجمع أمتي إلا على هدى". وفيه البختري بن عبيد وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان:

ص: 219

البختري بن عبيد عن أبيه عبيد بن سليمان وعنه هشام بن عمار وسليمان بن بنت شرحبيل ضعفه أبو حاتم، وغيره تركه، فأما أبو حاتم فأنصف فيه، وأما أبو نعيم الحافظ فقال: روى عن أبيه موضوعات، وقال ابن عدي: روى عن أبيه قدر عشرين حديثاً عامتها مناكير، اهـ ملخصاً، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف متروك، وقال الذهبي في الكاشف ضعفوه. اهـ.

قوله: ومن الشبه التي تمسك بها هؤلاء المنكرون للتوسل قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} . فإن الله نهى المؤمنين في هذه الآية أن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما يخاطب بعضهم بعضاً كأن ينادوا باسمه، وقياساً على ذلك يقال: لا ينبغي أن يطلب من غير الله تعالى كالأنبياء والصالحين الأشياء التي جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى، لئلا تحصل المساواة بين الله تعالى وخلقه بحسب الظاهر.

أقول: لم يتمسك أحد من منكري التوسل بالآية المذكورة فيما أعلم، فإن كان أحد تمسك بها فالحق أنه أخطأ ولا ملجئ لنا إليه، فإن هناك أدلة قوية صحيحة دالة على المطلوب، مغنية عما سواها كما تقدم.

قوله: فإنه يحمل على المجاز العقلي إذا صدر من موحد.

أقول: قد عرفت فيما سلف ما فيه من لزوم كون المشركين الأولين غير مشركين وعدم إمكان الارتداد ولغوية1. أحكام الردة.

قوله: فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو واسطة بينه وبين المستغيث، فهو سبحانه وتعالى مستغاث به حقيقة، والغوث منه بالخلق والإيجاد، والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث به مجازاً، والغوث منه بالكسب والتسبب العادي.

أقول: وهكذا كان المشركون السابقون الذين بعث الله الرسل إليهم، فإنهم كانوا يعلمون أن الله تعالى هو الخالق الموجد، وأما الأصنام فيقولون إنها أسباب

1 أي إلغاء.

ص: 220

ووسائل عادية، فمن أجل ذلك كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم ويعبدونهم، وهذا هو دأب عبدة الصالحين، والقبور في هذا الزمان، يدعونهم ويستغيثون بهم، وينحرون لهم وينذرون لهم، والدعاء والاستغاثة والنحر والنذر كلها من أقسام العبادة على معناها المجازي، فكذلك فليحمل لفظ العبادة الواقع في كلام المشركين الأولين الذي حكاه الله تعالى عنهم حيث قال سبحانه وتعالى:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . فما وجه الفرق1؟

قوله: وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة لمن يحصل منه غوث باعتبار الكسب أمر معلوم لا شك فيه لغة ولا شرعاً، فإذا قلت: أغثني يا الله، تريد الإسناد الحقيقي باعتبار الخلق والإيجاد، وإذا قلت: أغثني يا رسول الله، تريد الإسناد المجازي باعتبار التسبب والكسب والتوسط بالشفاعة.

أقول: هكذا كان مشركو الجاهلية حذو النعل بالنعل، كانوا يدعون الصالحين والأنبياء والمرسلين طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .

1 الفرق بين عبدة القبور المتأخرين وأولئك المشركين الأولين، أن الأولين هم أصحاب اللغة بالسليقة، ومنها أن كل ما يتوجه به إلى الخالق سبحانه ويطلب منه بالذات أو بالوساطة عنده فهو عبادة، وكل ما يتوجه به مخلوق بطلب ما ليس من الأسباب العادية المشتركة بين الناس، فهو يدخل في مسمى العبادة، وكذا كل خوف ورجاء في شيء من الأشياء لا يدخل في الأسباب المعروفة للناس، فالذين عبدوا الثعبان ما كانت عبادتهم له إلا اعتقادهم أنه يقدر على قتل الإنسان أو الجمل بدون سبب من أسباب القتل المعروفة لهم. وجملة القول إن العبادة الفطرية عندهم وعند جميع الأمم تشمل كل اعتقاد وشعور وعمل ودعاء يتعلق بمن له سلطة غيبية غير عادية، وقد يكون لعدة أشياء بعضها فوق بعض: منها ما له السلطة والتأثير بالذات، ومنها ما يكون بالوساطة، وأما المتأخرون فلما لقنوا أن العبادة لا تكون إلا لله سموا عبادة التوسط عند الله توسلاً، وسموا من توجه إليه وسيلة وشفيعاً وولياً كما كان يسميه المشركون الأولون، وإنما خالفوهم في تسميته إلهاً وتسمية وساطته عبادة، وهي تسمية لغوية صحيحة في اللغة، فالخلاف بينهما لغوي محض. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 221

وقال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . على أن القول بأن إسناد الغوث إلى الله تعالى إسناد حقيقي باعتبار الخلق والإيجاد، وإلى الأنبياء والصالحين إسناد مجازي باعتبار التسبب والكسب، بديهي البطلان، بيانه من وجوه:

(الأول) أنه لو كان مناط الإسناد الحقيقي اعتبار الخلق والإيجاد كما توهم صاحب الرسالة لزم أن يكون إسناد أفعال العباد كلها إلى الله تعالى حقيقياً، فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الخالق لأفعال العباد هو الله تعالى، وهذا يقتضي أن يتصف الله تعالى بالإيمان والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وصلة الرحم، وغير ذلك من الأعمال الحسنة، وكذلك يتصف حقيقة بالأعمال السيئة من الكفر والشرك والفسق والفجور والزنا والكذب والسرقة والعقوق وقتل النفس وأكل الربا وغيرها، فإنه تعالى هو الخالق لجميع الأفعال حسنها وسيئها، والتزام هذا فعل من لا عقل له ولا دين له، فإنه يستلزم اتصاف الله تعالى بالنقائص وصفات الحدوث واجتماع الأوصاف المتضادة بل المتناقضة.

و (الثاني) أنه لو كان مناط الإسناد المجازي اعتبار التسبب والكسب كما زعم هذا الزاعم لزم أن لا يكون إنسان حقيقة مؤمناً ولا كفاراً ولا براً ولا فاجراً، ولا مصلياً ولا مزكياً ولا صائماً ولا حاجاً ولا مجاهداً ولا زانياً ولا سارقاً، ولا قاتلاً، ولا كاذباً، فيبطل الجزاء والحساب، وتلغى الشرائع والجنة والنار، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين.

و (الثالث) أن دعوى كون الأنبياء والصالحين سبباً للغوث وكاسباً له محتاج إلى إقامة الدليل ودونه لا تسمع، وبالجملة فهذه شبهة داحضة ووسوسة زاهقة، تنادي بأعلى نداء على صاحبها بالجهل والسفه.

قوله: ومنه ما في صحيح البخاري في مبحث الحشر ووقوف الناس للحساب يوم القيامة: "بينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم". فتأمل تعبيره صلى الله عليه وسلم بقوله: "استغاثوا بآدم" فإن الاستغاثة به مجازية، والمستغاث به حقيقة هو الله تعالى.

ص: 222

أقول: هذا ليس مما نحن فيه، فإن الاستغاثة بالمخلوق على نوعين:

(أحدهما) أن يستغاث بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر أو يحول بينه وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعاً صائلاً أو لصاً أو نحو ذلك، ومن ذلك طلب الدعاء لله تعالى من بعض عباده لبعض، وهذا لا خلاف في جوازه، والاستغاثة الواردة في حديث المحشر من هذا القبيل، فإن الأنبياء الذين يستغيث العباد بهم يوم القيامة يكونون أحياء، وهذه الاستغاثة إنما تكون بأن يأتي أهل المحشر هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله سبحانه، ويدعوا لهم بفصل الحساب والإراحة من ذلك الموقف، ولا ريب أن الأنبياء قادرون على الدعاء، فهذه الاستغاثة تكون بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه.

و (الثاني) أن يستغاث بمخلوق ميت أو حي فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وهذا هو الذي يقول فيه أهل التحقيق إنه غير جائز، فإن قلت: هؤلاء المستغيثون بالأموات أو الغائبين أيضاً يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله تعالى ويدعوا لهم بقضاء حاجاتهم وهم قادرون على ذلك فتكون استغاثتهم هذه من قبيل النوع الأول، قلت في هذا التقرير خلل من وجوه:

(الأول) أن فيه ذهولاً عن قيد الحي، والمراد بالحياة الدنيوية لا البرزخية.

و (الثاني) أن ظاهر ألفاظهم مثل: يا رسول الله اشف مريضي واكشف عني وهب لي ولداً ورزقاً واسعاً ونحو ذلك، دال على أنهم لا يطلبون منهم الشفاعة بل يطلبون شفاء شفاء المريض وكشف الكربة وإعطاء الولد والرزق، وظاهر أنهم غير قادرين على تلك الأمور.

و (الثالث) أن هؤلاء المستغيثين بالأموات والغائبين يدعونهم ويستغيثون من أماكن مختلفة ومواضع بعيدة معتقدين أن الأموات والغائبين يعلمون استغاثتهم ويسمعون دعاءهم من كل مكان وفي كل زمان، ولا ريب أن هذا إثبات لعلم الغيب لهم الذي هو من الصفات المختصة بالله تعالى فيكون شركاً.

ص: 223

قوله: وصح عنه صلى الله عليه وسلم ممن أراد عوناً أن يقول: "يا عباد الله أعينوني". وفي رواية "أغيثوني".

أقول: فيه كلام من وجهين:

(الأول) أن الحديث ضعيف كما سيأتي بيانه، فلا يصح الاحتجاج به.

و (الثاني) على تقدير ثبوته يقال: إن هذه الاستغاثة من جنس النوع الأول، فإن هؤلاء العباد ليسوا أمواتاً بل أحياء من جنس الملائكة قادرون على الإعانة.

قوله: وجاء في قصة قارون لما خسف به أنه استغاث بموسى عليه السلام فلم يغثه، بل صار يقول: يا أرض خذيه، فعاتب الله موسى حيث لم يغثه وقال له: استغاث بك فلم تغثه ولو استغاث بي لأغثته، فإسناد الإغاثة إلى الله تعالى حقيقي، وإسنادها إلى موسى مجازي.

أقول: القصة أخرجها ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قارون ابن عم موسى، وكان يتتبع العلم حتى جمع علماً، فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده، فقال له موسى: إن الله أمرني أن آخذ الزكاة، فأبى فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم، جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها، فتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ فقالوا: لا نحتمل، فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أراداها على نفسها، فأرسلوا إليها فقالوا لها نعطيك جعلك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك، قالت: نعم. فجاء قارون إلى موسى فقال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك، قال نعم. فجمعهم فقالوا: ما أمرك ربك؟ قال أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تصلوا الرحم، وكذا وكذا، وأمرني إذا زنى الرجل وقد أحصن أن يرجم. قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا فإنك قد زنيت! قال: أنا؟ فأرسلوا للمرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى: أنشدك بالله إلا ما صدقت. قالت: أما إذ أنشدتني بالله فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أنك بريء وأنك

ص: 224

رسول الله، فخر موسى ساجداً يبكي ويقول: يا رب إن كنتُ رسولك فاغضب لي. فأوحى الله إليك: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض، فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم، فأخذتهم فغشيتهم، فأوحى الله إليه: يا موسى، سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم، وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم، كذا في تفسير فتح البيان.

فقد علمت من ههنا أن الوارد في حديث قصة قارون ليس لفظ الإغاثة، بل إنما هو لفظ الإجابة، ولكن المآل واحد فلا ننازع فيه، إنما ننازع في أن الحديث المذكور هل يدل على المطلوب أم لا؟ فنقول: ليس الحديث المذكور من المطلوب في شيء، فإن الثابت منه -بعد تسليم اتحاد معنى الإغاثة والإجابة- إنما هو أن الإغاثة مسندة إلى الله تعالى وإلى موسى، وأما أن إسنادها إلى الله تعالى حقيقي وإلى موسى مجازي، فكلا، لم لا يجوز أن يكون إسناد الإغاثة إلى موسى حقيقياً؟ بل هو المتعين فإن إغاثة موسى بني إسرائيل التي عاتب الله تعالى موسى على تركها ولو وقعت لكانت فيما يقدر موسى عليه السلام عليه، بدليل ما أوحى الله تعالى إليه من أنه ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فتطيعك. ولأن موسى لم يكن قادراً على الإغاثة لما عاتبه الله على تركها، قال الله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . وإسناد الإغاثة إلى المخلوق فيما يقدر عليه حقيقي، وتلك القدرة إنما تكون باعتبار العمل والكسب لا باعتبار الخلق والإيجاد، ألا ترى أن إسناد الصلاة والصوم والزكاة والحج ونحوها من الأعمال الحسنة، وإسناد الزنا والسرقة والكذب والخيانة ونحوها من الأعمال السيئة، وإسناد الأكل والشرب واللبس وجماع المنكوحة ونحوها من الأعمال المباحة- إلى العباد إسناد حقيقي؟ وليست القدرة عليها باعتبار الفعل والكسب دون الخلق والإيجاد، فإن الخالق لأفعال العباد كلها هو الله تعالى عند أهل السنة والجماعة.

ص: 225

وأما قوله: إن إسناد الإغاثة إلى الله تعالى حقيقي، فلا وجه لصحته حسب اعتقاد صاحب الرسالة، فإن المراد بالإغاثة أي إغاثة، فإن كان المراد بها الإغاثة التي هي كسب موسى عليه السلام فكون الله تعالى خالقاً لها مسلم. ولكن إسنادها إلى الله تعالى حقيقة يقتضي أن تكون جميع أفعال العباد مسندة إلى الله تعالى، وبطلانه أجلى من الشمس في نصف النهار كما تقدم، وإن كان المراد الإغاثة التي هي صفة من صفات الله تعالى فإسنادها إلى الله تعالى حقيقة مسلم، ولكن لا يتأتى على معتقد صاحب الرسالة، إذ مناط الإسناد الحقيقي عنده اعتبار الخلق والإيجاد، والله تعالى ليس خالقاً وموجداً لصفاته، وإلا يلزم أن تكون صفاته تعالى مخلوقة محدثة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فانعكس الأمر.

قوله: وقد يكون معنى التوسل به صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه إذ هو صلى الله عليه وسلم حي في قبره يعلم سؤال من يسأله.

أقول: سلمنا أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، ولكن تلك الحياة حياة برزخية، وتساوي الحياة البرزخية للحياة الدنيوية في جميع الأحكام غير مسلم حتى يتفرع عليها علم سؤال من يسأله وجواز طلب الدعاء منه صلى الله عليه وسلم.

قوله: وقد تقدم حديث بلال بن الحارث رضي الله عنه.

أقول: قد تقدم الكلام عليه، فتذكر.

قوله: فعلم منه أنه صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء بحصول الحاجات كما كان يطلب منه حياته.

أقول: هذا بناء الفاسد على الفاسد، فلا يعبأ به.

قوله: وأنه صلى الله عليه وسلم يتوسل به في كل خير قبل بروزه لهذا العالم وبعده في حياته وبعد وفاته وكذا في عرصات القيامة فيشفع إلى ربه.

أقول: هذا التوسيع والتعميم مما لا يدل عليه دليل يعتمد عليه، وكل ما ذكره صاحب الرسالة قد عرفت وهنه فيما تقدم.

ص: 226

قوله: وكل هذا مما تواترت به الأخبار وقام به الإجماع قبل ظهور المانعين منه.

أقول: دعوى التواتر والإجماع محتاجة إلى إقامة البرهان عليها ودونها لا تسمع.

قوله: وأما تخيل المانعين المحرومين من بركاته أن منع التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد، وأن التوسل والزيارة مما يؤدي إلى الشرك، فهو تخيل فاسد باطل.

أقول: قد عرفت فيما تقدم أن بعض أقسام التوسل شرك، وكذا بعض أقسام الزيارة، وهو الذي يتضمن دعاء غير الله والنحر له والنذر له والطواف بقبره ونحو ذلك من أقسام العبادة، فلا شك أن منع ذلك التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد.

قوله: وكأن هؤلاء المانعين للتوسل والزيارة يعتقدون أنه لا يجوز تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فحيثما صدر من أحد تعظيم له صلى الله عليه وسلم حكموا على فاعله بالكفر والإشراك.

أقول: هذا الإيجاب الكلي والسلب الكلي اللذان يشتمل عليهما هذا الكلام الساقط الفاسد بهتانان صريحان، فإن المانعين للتوسل لا يمنعون مطلق التعظيم ولا يحكمون على فاعله بالكفر والإشراك، إنما يمنعون التعظيم الذي يتضمن عبادة غير الله أو ما نهي الله عنه ورسوله، أو التعظيم المحدث الذي لا يدل عليه دليل من الكتاب والسنة، وإنما يحكمون بالكفر والشرك على من عظم تعظيماً يتضمن شيئاً من موجبات الكفر والشرك، وأما التعظيم الذي هو ثابت بالكتاب والسنة فهو عين الإيمان.

قوله: نعم يجب علينا أن لا نصفه بشيء من صفات الربوبية.

أقول: وكذلك يجب علينا أن لا نعبد غير الله بقسم من أقسام العبادة كالدعاء والنذر والنحر والطواف، وأن لا نفعل ما نهى الله عنه ورسوله، وأن لا نحدث في أمر الدين شيئاً.

قوله: ورحم الله الأبوصيري حيث قال:

ص: 227

دع ما ادعته النصارى في نبيهم

واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

أقول: هذا القول من سيئ الأقوال وأقبحها، فإنه يقتضي جواز وصفه صلى الله عليه وسلم بغير الألوهية وإن كان ذلك الغير من موجبات الكفر والشرك أو محرماً أو كذباً أو بدعة، وهذا الحكم ما أظن أحداً من أهل العلم يستقر له قدم عليه لمخالفته نصوص الكتاب والسنة.

قوله: فليس في تعظيمه بغير صفات الربوبية شيء من الكفر والإشراك، بل ذلك من أعظم الطاعات والقربات.

أقول: هذا غلط فاحش وخطأ بين، فإن دعاء غير الله والنحر له والنذر له والطواف له والسجدة له والركوع له وغيرها من أنواع العبادة كفر وشرك، مع أنها تعظيم بغير صفات الربوبية، ودعوى كونه من أعظم الطاعات والقربات محتاجة إلى إقامة الدليل عليها.

قوله: ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم الفرح بليلة ولادته وقراءة المولد والقيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم وإطعام الطعام وغير ذلك مما يعتاد الناس فعله من أنواع البر، فإن ذلك كله من تعظيمه صلى الله عليه وسلم.

أقول: هذا ادعاء بحت لا دليل عليه، بل الأمور المذكورة ليست من التعظيم في شيء، فإن التعظيم في الإطاعة، والأمور المذكورة معصية، فإنها محدثة، وكل محدثة بدعة، والبدعة مما نهى الله ورسوله عنه، فالأمور المذكورة ليست من تعظيمه صلى الله عليه وسلم، بل من تحقيره وتوهينه صلى الله عليه وسلم أعاذنا الله منه، فلولا احتمال التأويل والخطأ الاجتهادي لحكم على مرتكبها بالكفر، فإن تحقير النبي صلى الله عليه وسلم وتوهينه كفر بواح.

قوله: وقد أفردت مسألة المولد وما يتعلق بها بالتأليف، واعتنى بذلك كثير من العلماء، فألفوا في ذلك مصنفات مشحونة بالأدلة والبراهين، فلا حاجة لنا إلى الإطالة بذلك.

أقول: قد ألف غير واحد من المحققين في إثبات كون هذا العمل المحدث المبتدع

ص: 228

بدعة مؤلفات نفيسة طيبة مشتملة على رد تلك الشبهات الواهية الداحضة التي يحسبها صاحب الرسالة أدلة وبراهين، من شاء التحقيق فليرجع إليها1.

قوله: ومما أمر الله بتعظيمه الكعبة المعظمة والحجر الأسود، ومقام إبراهيم عليه السلام، فإنها أحجار وأمرنا الله بتعظيمها بالطواف بالبيت، ومسّ الركن اليماني، وتقبيل الحجر الأسود، وبالصلاة خلف المقام.

أقول: هذه التعظيمات ثابتة بعضها بالكتاب وبعضها بالسنة، بخلاف التعظيم الذي يتضمن الشرك أو الأمر المنهي عنه أو يكون محدثاً وهو الذي يمنعه المانعون، فقياس أحد التعظيمين على الآخر قياس مع الفارق، ولو لم يثبت تعظيم هذه الأحجار لم نفعله أبداً، دل عليه ما روي عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، متفق عليه. ومن ثم يكتفى باللمس في الركن اليماني ولا يقبل، إذ الأول ثابت منه صلى الله عليه وسلم والآخر لم يثبت، فافترقا.

وأما تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت فهو عين الإيمان لا يمنعه أحد من المسلمين، وهو المراد في قوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} . على قول من قال برجوع الضمير إلى الرسول، وقد جاء في الكتاب العزيز والسنة المطهرة من تفصيل ذلك التوقير الكثير الطيب:

فمن ذلك قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} . ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ

1 من الفقهاء المؤلفين الذي يعتمد على أقوالهم الشيخ دحلان في مسألة الزيارة وكثير من البدع الشيخ أحمد بن حجر الهيثمي، وقد أفتى في فتاواه الحديثية بأن القيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم بدعة تكره شرعاً، وإن لنا رسالة في (ذكرى المولد النبوي الشريف) كتبنا لها مقدمة تصدير بينا فيها ما قاله العلماء في بدعة الاحتفال بالمولد وتحقيق الحق فيها. وكتبه محمد رشيد.

ص: 229

عَلِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} . ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} . ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} . ومنه قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . ومنه قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم} . ومنه قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} . ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . ومنه قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . الآية. ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . ومنه قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} .

ص: 230

ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} . ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} . ومنه قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} . ومنه قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . ومنه قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} . وغير ذلك من الآيات.

فمن تعظيمه صلى الله عليه وسلم عدم جعل دعاء الرسول كدعاء البعض بعضاً، وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، وعدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض، وغض الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم المناداة من وراء الحجرات، والتصلية والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم بقاء الخيرة لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً، وسؤال نساء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، وعدم نكاح أزواجه من بعده أبداً، وتحكيم النبي فيما شجر بينهم، وعدم وجدان الحرج في أنفسهم مما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ ما آتاه الرسول، والانتهاء عما نهى عنه، والاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم، وإطاعة الرسول، والرد إليه إذا وقع التنازع في شيء، وإجابة دعوة الرسول وإن كان المدعو في الصلاة كما دل عليه حديث أبي سعيد ابن المعلى المروي في صحيح البخاري، واعتقاد أن الله تعالى يبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم مقاماً محموداً الذي هو أعلى درجة في الجنة1. لا ينالها إلا عبد من عباد الله وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، واعتقاد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم يكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيداً، واعتقاد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم، واعتقاد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، واعتقاد أن الله تعالى أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم ليلاً، واعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة، واعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الله تعالى ليلة الإسراء على قول، أو جبرائيل عليه السلام على صورته الأصلية على قول، واعتقاد أن الله تعالى قد غفر له صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر

1 الصحيح في "المقام المحمود" أنه الشفاعة العظمى يحمده عليها عموم الخلائق يوم القيامة.

ص: 231

وأما الأحاديث فمنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". متفق عليه. ومنها ما روي عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر ابن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفس. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر". رواه البخاري في "باب كيف يمين النبي صلى الله عليه وسلم".

ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قيل: ومن أبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". رواه البخاري، ومنها ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به". رواه في شرح السنة.

ومنها ما روي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال:"أمتهوّكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي". رواه أحمد والبيهقي.

ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من المهاجرين والأنصار، فجاء بعير فسجد له، فقال أصحابه: يا رسول الله تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال:"اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" الحديث رواه أحمد. قال العلماء في تفسير قوله "أكرموا أخاكم": أي عظموه تعظيماً يليق له بالمحبة والإكرام المشتمل على الإطاعة الظاهرية والباطنية.

ومنها ما روي عن قيس بن سعد قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: لرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يسجد له. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:

ص: 232

إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت أحق بأن يسجد لك، فقال لي:"لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ فقلت: لا. فقال: "لا تفعلوا لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من حق" رواه أبو داود.

ومنها ما روي عن عبد الرحمن بن أبي قراد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ يوماً، فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"ما يحملكم على هذا ". قالوا: حب الله ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يحب الله ورسوله، أو يحبه الله ورسوله، فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا أتمن، وليحسن جوار من جاوره". رواه البيهقي.

ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك. رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ومنها ما روي عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار" رواه الترمذي وأبو دواد.

ومنها ما روي عن أبي أمامة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على عصاً، فقمنا له، فقال:"لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً". رواه أبو داود.

ومنها ما روي عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاءنا أبو بكرة رضي الله عنه في شهادة، فقام له رجل من مجلسه، فأبى أن يجلس فيه وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذا.

ومنها ما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس وجلسنا حوله فقام فأراد الرجوع نزع نعله أو بعض ما يكون عليه فيعرف ذلك أصحابه فيثبتون. روه أبو داود.

ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً". رواه البخاري.

ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع". رواه مسلم.

ص: 233

ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة". رواه مسلم.

ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون ". رواه مسلم.

ومنها ما روي عن العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم فرقة، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم نفساً، وخيرهم بيتاً". رواه الترمذي.

ومنها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل بعضه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر". رواه الترمذي.

ومنها ما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا قائد المرسلين ولا فخر". رواه الدرامي.

ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي". رواه الترمذي والدارمي.

ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري". رواه الترمذي.

ومنها ما روي عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر" رواه الترمذي.

ص: 234

ومنها ما روي عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله". متفق عليه.

ومنها ما روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال "السيد الله" فقلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. فقال: "قولوا قولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان". رواه أحمد وأبو داود، ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا خير البرية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذاك إبراهيم". رواه مسلم.

ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري كان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان فيمن استثنى الله تعالى". متفق عليه.

فعلم من تلك الأحاديث بعض من طرق تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإن رأس الأمر والعمدة في ذلك محبة النبي صلى الله عليه وسلم فوق محبة الوالد والولد والناس أجمعين، وهي لا تتم إلا بالاتباع والطاعة، قال الله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . فمن كان أكثر اتباعاً وطاعة كان أكثر محبة، ومن كان أكثر محبة كان أشد تعظيماً، وأيضاً علم أن بعض أفراد التعظيم قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فمنه السجدة، وفي هذا الحكم جميع التعظيمات التي هي من جنس العبادة، كالدعاء والنذر والنحر والطواف والركوع وغير ذلك، ومنه التمثل قياماً والقيام تعظيماً كما تقوم الأعاجم، وأن المبالغة في الثناء والغلو والإطراء منهي عنه، بل الواجب في ذلك القصر على ما ثبت بالكتاب العزيز والسنة المطهرة، والدليل عليه أن في أول الأمر قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لفظ السيد وخير البرية والتخيير على موسى، فلما أوحي إليه أنه سيد ولد آدم، وأنه أكرم الأولين

ص: 235

والآخرين، وأنه قائد المرسلين، وإمام النبيين، وهو صاحب المقام المحمود، وأنه حبيب الله، وأنه حامل لواء الحمد، وأنه أول شافع وأول مشفع، وغير ذلك من الأوصاف، أخبر بها أمته وقال:"ولا فخر". ويؤيده قوله: "لا تطروني". وقوله: "ولا يستجرينكم الشيطان".

فالواجب على المؤمن أن لا يتجاسر على التكلم بكل كلمة في ثناء النبي صلى الله عليه وسلم فالمقام مقام الاحتياط، إذ اعتقاد اتصاف النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته الكمالية من جملة مسائل العقائد، فما لم يثبت بالكتاب العزيز أو السنة الثابتة المطهرة لم يجز وصف النبي به، فمن ههنا دريت خطأ الأبوصيري في قوله:"واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم" وخطأ صاحب الرسالة حيث استحسنه.

وبالجملة فنحن معاشر أهل الحديث نعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل تعظيم جاء في الكتاب أو السنة الثابتة، سواء كان ذلك التعظيم فعلياً أو قولياً أو اعتقادياً، والوارد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة من ذلك الباب في غاية الكثرة، وما ذكر هو بعض منه ولو رمت إحصاء ذلك على التمام لجاء في مؤلف بسيط، نعم نجتنب التعظيمات التي تشتمل على موجبات الكفر والشرك، وما نهى الله عنه ورسوله، والتعظيمات المحدثة المبتدعة.

وأما أهل البدع فمعظم تعظيمهم تعظيم محدث، كشد الرحال إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والفرح بليلة ولادته، وقراءة المولد، والقيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم، وتقبيل الإبهام عند قول المؤذن "أشهد أن محمداً رسول الله". والتمثل بين يدي قبره قياماً، وطلب الحاجات منه صلى الله عليه وسلم، والنذر له وما ضاهاها، وأما التعظيمات الثابتة فهم عنها بمراحل1، فيا أهل البدع أنشدكم الله والإسلام والإنصاف أن تقولوا أي الفريقين

1 من تتبع التاريخ يعلم أن أشد المؤمنين حباً واتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم أقلهم غلواً فيه، ولا سيما أصحابه رضي الله عنه ومن يليهم في خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً، وأقلهم اتباعاً له هم أشدهم غلواً في القول وابتداعاً في العمل، وترى ذلك في شعر الفريقين. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 236

أزيد تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم وأكثر اتباعاً له وأشد حباً له صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وقد نقلنا عبارة الصارم المنكى في ذلك الباب، فتذكر.

قوله: والحاصل كما تقدم أن هنا أمرين: (أحدهما) وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ورفع رتبته عن سائر المخلوقات، (والثاني) إفراد الربوبية واعتقاد أن الرب تبارك وتعالى منفرد بذاته وأفعاله عن جميع خلقه.

أقول: في هذا الحصر نظر ظاهر كما تقدم من أنه لابد هناك من أمر ثالث، وهو عدم إحداث ما ليس من أمر الدين مما لم يأذن به الله ورسوله، بل من أمر رابع وهو إفراد الله تعالى وحده بجميع أنواع العبادة سواء كانت اعتقادية أو لفظية أو بدنية، بل من أمر خامس وهو الاجتناب1 عما نهى الله ورسوله، ويمكن إدخال الرابع في الخامس، فمن أحدث في التعظيم ما ليس من أمر الدين فقد صار مبتدعاً ضالاً، ومن جعل فرداً من العبادة لغير الله كالدعاء والاستغاثة والنذر والنحر فقد أشرك كالمشركين السالفين، فإنهم لم يعتقدوا في مخلوق مشاركة البارئ سبحانه وتعالى في شيء من الذات والصفات والأفعال، بل عبدوهم لأنهم يقرّبونهم إلى الله زلفى، وأنهم شفعاء عند الله، ومن أتى ما نهى الله عنه ورسوله فقد صار فاسقاً عاصياً.

قوله: وأما من بالغ في تعظيمه بأنواع التعظيم ولم يصفه بشيء من صفات الربوبية فقد أصاب الحق، وحافظ على جانب الربوبية والرسالة جميعاً.

أقول: فيه خلل واضح، وفساد فاضح، فإن من أنواع التعظيم ما هو شرك كالسجود لقبره صلى الله عليه وسلم والطواف به والنحر له والنذر له، ومنها ما هو بدعة، ومنها ما هو منهي عنه، وليس في شيء منها الوصف بشيء من صفات الربوبية، فكيف يقال لمرتكبها إنه أصاب الحق؟

قوله: وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء لغير الله تعالى يجب حمله على المجاز العقلي، ولا سبيل إلى تكفير أحد من المؤمنين، إذ المجاز العقلي مستعمل في الكتابة والسنة.

1 كان ينبغي أن يقول "الانتهاء" أو "اجتناب ما نهى الله عنه" قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} .

ص: 237

أقول: هذا الكلام بعمومه فاسد، فإن المؤمنين يقولون أكلنا وشربنا وباشرنا أزواجنا وصلينا وصمنا وحججنا، ففي كل من هذه الأقوال إسناد شيء لغير الله تعالى، ولا يصح حمله على المجاز العقلي فضلاً عن الوجوب.

وتحقيق القول في ذلك الباب أنا لا ننكر المجاز العقلي، ولكن لابد هناك من التفصيل، وهو أنه إذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء مما يقدر عليه العبد لغير الله تعالى يجب حمله على الحقيقة، ولا يصح حمله على المجاز العقلي كما في الأمثلة المذكورة، وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء مما لا يقدر عليه إلا الله مثل فلان شفاني وفلان رزقني وفلان وهب لي ولداً يجب حمله على المجاز العقلي، ولكن لا مطلقاً بل متى لم يصدر من ذلك المتكلم شيء من الألفاظ والأعمال الكفرية مما هو كفر بواح، وشرك قراح، وأما إذا صدر منه شيء من تلك الألفاظ والأعمال فلا يحمل كلامه على المجاز العقلي، إذ المؤمن بهذا اللفظ والعمل قد انسلخ من الإيمان فلم يبق مؤمناً، فلا وجه لهذا الحمل، ولا ريب في أن عبدة الأنبياء والصالحين يصدر منهم من الألفاظ والأعمال ما هو كفر صريح كالسجدة والطواف والنذر والنحر ونحو ذلك.

على أنا نقول: إذا قال أحد من عبدة الأنبياء والصالحين: يا فلان اشف مريضي فما مراده؟ إن كان المراد الإسناد الحقيقي فلا ارتياب في كونه كفراً وشركاً، وإن كان المراد الإسناد المجازي بمعنى يا فلان كن سبباً لشفاء مريضي1 أي ادع الله تعالى أن يشفي مريضي، فإن كان ذلك المدعو حياً حاضراً فليس هذا من الشرك في شيء، ولكنه لما كان موهماً للإسناد الحقيقي الذي هو شرك صريح كان حقيقاً بالترك، فإن الله تعالى قد نهانا عن استعمال اللفظ الموهم كما تقدم، وإن كان ذلك المدعو حياً غير حاضر، أو ميتاً وينادى من مكان بعيد من القبر، فهذا أيضاً شرك، فإن فيه إثبات علم الغيب لغير الله تعالى وهو من الصفات المختصة به تعالى، وإن كان ذلك المدعو ميتاً وينادى عند قبره، فهذا ليس بشرك ولكنه بدعة، فعلى كل حال ينبغي للمؤن أن يجتنب دعاء غير الله، وذلك هو القول الذي لا إفراد فيه ولا تفريط.

1 إن مثل هذا الطلب لا يحتمل المجاز العقلي لا في اللغة ولا في عرف الناس، وطالب الدعاء يصرح به. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 238

قوله: وأما الفرق بين الحي والميت كما يفهم من كلام المانعين للتوسل فإن كلامهم يفيد أنهم يعتقدون أن الحي يقدر على بعض الأشياء دون الميت، فكأنهم يعتقدون أن العبد يخلق أفعال نفسه، فهو مذهب باطل، والدليل على أن هذا من اعتقادهم أنهم يقولون إذا نودي الحي وطلب منه ما يقدر عليه فلا ضرر في ذلك، وأما الميت فإنه لا يقدر على شيء أصلاً، وأما أهل السنة فإنهم يقولون الحي لا يقدر على شيء كما أن الميت كذلك لا يقدر، والقادر حقيقة هو الله تعالى، والعبد ليس له إلا الكسب الظاهري باعتبار الحي، والكسب الباطني باعتبار التبرك بذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأخيار وتشفعهم في ذلك.

أقول: هذا كلام متضمن لمفاسد كثيرة:

(الأول) أن قدرة الحي على بعض الأشياء دون الميت ثابت بالكتاب والسنة.

أما الكتاب، فمنه ما قال الله تعالى في سورة البقرة:{لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} . ومنه ما قال فيها أيضاً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . ومنها ما قال فيها أيضاً: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} . ومنها ما قال في سورة المائدة: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} . ومنه ما قال في سورة الأنعام والأعراف والمؤمنون: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . ومنه ما قال في سورة الأنفال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} . ومنه ما قال في سورة هود: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} . ومنه ما قال في سورة النحل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . ومنه ما قال في سورة حم السجدة: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . ومنه ما قال في سورة المجادلة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} . ومنها ما قال في سورة التغابن: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ} . ومنه ما قال في سورة القلم: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ

ص: 239

وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} . ومنه ما قال في سورة المدثر: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} . ومنه ما قال في سورة الدهر: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} . ومنه ما قال ي سورة النبأ: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} . ومنه ما قال في سورة التكوير: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} . ومنه ما قال في سورة الفاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} .

على أن الآيات التي تتضمن أن نفع العمل وضرره عائد إلى عامله لا إلى غيره1 كقوله تعالى في سورة البقرة: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقوله تعالى فيها أيضاً: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . وقوله تعالى في آل عمران: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . وقوله تعالى أيضاً فيها: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} . وقوله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} . وقوله تعالى في سورة الأنعام: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} . وقوله تعالى أيضاً فيها: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وقوله تعالى في الأعراف: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقوله تعالى في يونس: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} . وقوله تعالى في حم السجدة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . وقوله تعالى في الشورى: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} . وقوله تعالى في النجم: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} . وقوله تعالى في سورة الليل: {إِنَّ سَعْيَكُمْ

1 سيأتي خبر "أن الآيات" بعد سرد الشواهد، وكان ينبغي أن يذكر الخبر هنا فيقول "كثيرة" مثلاً.

ص: 240

لَشَتَّى} . كلها نصوص1 على أن العبد الحي له قدرة على بعض الأشياء، وكذلك آيات الأوامر والنواهي والآيات التي فيها ذكر الثواب والعقاب.

وأما الأحاديث، فمنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم.

ومنها ما روي عنه:"فمن استطاع منكم أن يطيل غرتة فليفعل" متفق عليه.

ومنها ما روي عن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال "إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ". رواه مسلم.

ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيامن ما استطاع في شأنه كله، في طهوره وترجله وتنعله. متفق عليه.

ومنها ما روي عن حمنة بنت جحش في حديث الاستحاضة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وإن قويت عليهما فأنت أعلم". وفيه "وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر" وفيه: "فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك". رواه الترمذي.

ومنها ما روي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع الصلاة شيء" وادرأوا ما استطعتم فإنما هو شيطان". رواه أبو داود.

ومنها ما روي عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تثاءب أحدكم للصلاة فليكظم ما استطاع" رواه مسلم.

ومنها ما روي عن عمرو بن عبسة في قيام الليل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن". رواه الترمذي.

1 هذا خبر قوله "على أن الآيات التي تتضمن الخ ". وهو من ضعف التأليف، وكان حسنه يقتضي وضعه قبل الشواهد قريباً من اسمها، ثم يقول هنا: فهذه الآيات كلها نصوص الخ.

ص: 241

ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خذوا من الأعمال ما تطيقون" متفق عليه.

ومنها ما روي عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" رواه البخاري.

ومنها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث صلاة التسبيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل". رواه أبو داود وابن ماجه.

ومنها ما روي عن أبي موسى الأشعري في الصدقة فإن لم يستطع أو لم يفعل قال "فيعين ذات الحاجة الملهوف" متفق عليه.

ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه في كفارة الصوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متابعين؟ قال لا. متفق عليه.

ومنها ما روي عن أبي قتادة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم؟ وفيه قال "ويطيق ذلك أحد؟ " رواه مسلم.

ومنها ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل"، وفيه: قلت إني أطيق أكثر من ذلك، قال:"صم أفضل الصوم، صوم دواد، صيام يوم وإفطار يوم". متفق عليه.

ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، وفيه ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده. متفق عليه.

ومنها ما روي عن جابر في الرقية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه". رواه مسلم.

ومنها ما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قال: "أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر؟ "رواه البيهقي.

ص: 242

ومنها ما روي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" رواه مسلم.

ومنها ما روي عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة" فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: "يسبح مائة تسبيحة فتكتب له ألف حسنة". رواه مسلم.

ومنها ما روي عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الاستغفار أن تقول: اللم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك: وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت" رواه البخاري.

ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه".

ومنها ما روي عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا" فقال رجل أكل عام يا رسول الله -فسكت حتى قالها ثلاثاً- فقال: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" وفيه "فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". رواه مسلم.

ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون". رواه مسلم.

ومنها ما روي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب ما استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". متفق عليه.

ومنها ما روي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". رواه مسلم.

ص: 243

ومنها ما روي عن ابن عمر قال: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: "فيما استطعتم". متفق عليه.

ومنا ما روي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بايع إماماً فأعطاه صفته يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع" رواه مسلم.

ومنها ما روي عن أميمة بنت رقيقة تقول: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة، فقال لنا "فيما استطعتن وأطقتن" قلت: الله ورسوله أرحم بنا بأنفسنا". الحديث رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" رواه الترمذي.

ولفظ الوسع والطاقة والقدرة والاستطاعة والقوة والملك بمعنى واحد، وإثبات مشيئة، وعدم استواء الأحياء والأموات، وانقطاع العمل بعد الموت، وسلب العجز، مما يستلزم إثبات القدرة للحي وهو المطلوب.

و (الثاني) : أن قدرة الحي على بعض الأشياء دون الميت لا تستلزم اعتقاد أن العبد يخلق أفعال نفسه، والدليل الذي ذكره صاحب الرسالة لا يثبت منه المطلوب، فإن مراد المانعين للتوسل بالقدرة الواقعة في قولهم الحي يقدر والميت لا يقدر قدرة الكسب لا قدر الخلق.

و (الثالث) : المعارضة، وتقريرها أن التسوية بين الحي والميت كما يفهم من كلام هؤلاء المجوزين للتوسل1 فإن كلامهم يفيد أنهم يعتقدون أن الحي لا يقدر على شيء كما أن الميت كذلك لا يقدر، فكأنهم يعتقدون أن العبد مجبور محض ليس له اختيار الكسب فهو مذهب باطل.

والدليل على أن هذا هو اعتقادهم أنهم يقولون إذا نودي الميت وطلب منه شيء فلا ضرر في ذلك، كما أن الحي إذا نودي منه شيء فلا ضير فيه، فإن كليهما سواء، سيان2، في عدم القدرة.

1 ينظر أين الجواب: أن التسوية الخ.

2 كذا في الأصل، جمع بين الكلمتين.

ص: 244

و (الرابع) : أن إثبات الكسب ولو باطنيا للميت مخالف للنص الصريح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله" فلا يعبأ به، على أن قدرة الحي على الكسب يعلم حدها بالمشاهدة، مثلاً نعلم أن الحي يقدر على حمل الحجر، وعلى أن يحول بينه وبين عدوه الكافر أو يدفع عنه سبعاً صائلاً أو لصاً أو يدعو له أو نحو ذلك، وأما قدرة الميت على الكسب فعلى تقدير تسليمها لا نعلم حدها بالمشاهدة، فما طريق العلم بها؟ وهل هي مساوية لقدرة الحي أو زائدة عليها أو ناقصة عنها؟ فلا بد من بيانه حتى يطلب منه على حسبه، ودونه لا معنى لهذه الدعوة العمياء.

قوله: ذكر العلامة السيد السمهودي في خلاصة الوفاء: أن من الأدلة الدالة على صحة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ما رواه الدارمي في صحيحه عن أبي الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها فقالت انظروا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمى عام الفتق.

أقول في هذا الكلام كلام من وجوه:

(الأول) : أن إطلاق الصحيح على مسند الدارمي -الذي اشتهر بالمسند، على خلاف اصطلاح المحدثين، وحقه أن يسمى بالسنن دون المسند- ليس بصحيح. قال المغلطاي إن جماعة أطلقوا على مسند الدارمي بكونه صحيحاً فتعقبه الحافظ ابن حجر بأني لم أر ذلك في كلام أحد ممن يعتمد عليه، كيف ولو أطلق ذلك من يعتد به لكان الواقع بخلافه.

و (الثاني) : أنه قال العراقي: المرسل والمعضل والمنقطع والمقطوع فيه كثير، وهذا الحديث من هذا القبيل كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

(والثالث) : أن في سنده محمد بن الفضل السدوسي أبو النعمان البصري، قال الحافظ في التقريب: لقبه عارم ثقة ثبت تغير في آخر عمره. اهـ، وقال في الخلاصة: اختلط عارم قال أبو حاتم ثقة من سمع منه قبل عشرين ومائتين فسماعه جيد. اهـ وقال الذهبي في الكاشف تغير قبل موته وترك الأخذ منه، وقال الذهبي في الميزان: قال أبو حاتم اختلط عارم في آخر عمره وزال عقله، فمن سمع منه قبل العشرين ومائتين فسماعه جيد، وقال البخاري: تغير عارم في آخر عمره.

ص: 245

وقال أبو داود: بلغني أن عارم أنكر سنة ثلاث عشرة ومائتين ثم راجعه عقله ثم استحكم به الاختلاط سنة ست عشرة ومائتين ولم يسمع منه أبو داود لتغيره. اهـ ملخصاً.

و (الرابع) : أن في سنده سعيد بن زيد قال الذهبي في الكاشف: ليس بالقوي قاله جماعة ووثقه ابن معين. اهـ وقال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام. اهـ، وقال في الخلاصة: قال ابن معين ثقة، وقال أحمد: ليس به بأس، وقال النسائي: ليس بالقوي. اهـ وقال الذهبي في الميزان: سعيد بن زيد أبو الحسن أخو حماد بن زيد، مات قبل حماد بن زيد، قال علي عن يحيى بن سعيد: ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال أحمد: ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد لا يستريبه. اه

و (الخامس) : أن في سنده عمرو بن مالك النكري، قال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام. اه

و (السادس) : أن في سنده أبا الجوزاء أوس بن عبد الله، قال في التقريب: أوس بن عبد الله الربعي يرسل كثيراً، وقال الذهبي في الميزان: أوس بن عبد الله أبو الجوزاء الربعي البصري وثقوه، وقال البخاري: قال يحيى بن سعيد قتل في الجماجم، وفي إسناده نظر ويختلفون فيه. اهـ وقال أيضاً في الكنى: أبو الجوزاء الربعي أوس تابعي مشهور، قال البخاري: في إسناده نظر. اهـ فقد ثبت من هناك أن هذا الحديث ضعيف منقطع.

و (السابع) : أن الحديث موقوف فلا يصلح حجة عند المحققين.

و (الثامن) : بعد تسليم حجيته يعارضه أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكر محمد بن إسحاق في مغازيه عن خالد بن دينار عن أبي العالية قال: لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فحملنا المصحف إلى عمر رضي الله عنه فدعا كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قرأته مثل ما أقرأ القرآن، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد، قلت فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما

ص: 246

كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه، قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: دانيال، قلت منذ كم وجدتموه مات؟ قال منذ ثلاثمائة سنة1. قلت: ما كان قد تغير منه شيء؟ قال. لا إلا الشعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع.

فانظر ما في هذه القصة من صنع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتعمية قبر هذا الرجل لئلا يفتتن به الناس، كذا في (تبعيد الشيطان بتقريب إغاثة اللهفان) .

قوله: ومن أحسن ما يقال ما جاء عن العتبي، وهو مروى أيضاً عن سفيان بن عيينة، وكل منهما من مشايخ الإمام الشافعي، قال العتبي: كنت جالساً عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول –وفي رواية: يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . وقد جئتك مستغفراً من ذنبي.

أقول: ليست هذه الحكاية مما تقوم به الحجة، قال في الصارم المنكي: وهذه الحاكية التي ذكرها بعضهم يرويها عن العتبي بلا إسناد، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي، وقد ذكرها البيهقي في كتاب شعب الإيمان، بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد البصري حدثني أبو حرب الهلالي قال: حج أعرابي، فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتى آتى القبر، ثم ذكر نحو ما تقدم وضع لها بعض الكذابين إسنادا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سيأتي ذكره.

وفي الجملة ليست هذه الحكاية المذكورة عن الأعرابي مما تقوم به حجة، وإسنادها مظلم مختلف، ولفظها مختلف أيضاً، ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب

1 دانيال النبي عليه السلام كان في سبى نبوخذ نصر لبني إسرائيل قبل ميلاد المسيح بستمائة سنة وكتابه من أسفار اليهود المعروفة، وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 247

المعترض، ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم. وبالله التوفيق.

قوله: وليس محل الاستدلال الرؤيا فإنها لا تثبت بها الأحكام لاحتمال حصول الاشتباه على الرائي كما تقدم ذلك، وإنما محل الاستدلال كون العلماء استحسنوا الإتيان بما تقدم ذكره، وذكروا في مناسكهم استحباب الإتيان به للزائر.

أقول: استحسان جميع علماء الأمة ممنوع، وأما استحسان بعض العلماء فلا تثبت به الأحكام، كما أنها لا تثبت بالرؤيا، على أنه لو ثبت استحسان جميع علماء الأمة فكونه مجمعاً عليه بالإجماع الاصطلاحي محل كلام، وبعد تسليم إمكان الإجماع الاصطلاحي فكونه حجة شرعية غير مسلم، والأحاديث الدالة على حجيته قد تقدم الكلام عليها، على أن كونها دالة على حجية الإجماع أيضاً منظور فيه.

قوله: وقال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم: وروى بعض الحفاظ عن أبي سعيد السمعاني أنه روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه أنهم بعد دفنه صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام جاءهم أعرابي فرمى بنفسه على القبر الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والسلام.

أقول: هذا الخبر ضعيف جداً حتى قيل أنه موضوع، قال في الصارم المنكي: فإن قيل قد روى أبو الحسن على بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الكرخي عن علي بن محمد بن على حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي قال حدثني أبي عن أبيه عن سلمة ابن كهيل عن أبي صادق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحثى على رأسه من ترابه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت من الله عز وجل فما وعينا عنك، وكان فيما أنزل الله تبارك وتعالى عليك:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} وقد ظلمت نفسي وجئتك لتستغفر لي، فنودي من القبر أنه قد غفر لك.

والجواب أن هذا الخبر منكر موضوع، وأثر مختلق مصنوع لا يصلح الاعتماد عليه،

ص: 248

ولا يحسن المصير إليه، وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض، والهيثم جد أحمد بن محمد ابن الهيثم أظنه ابن عدي الطائي1 فإن يكنه فهو متروك كذاب، وإلا فهو مجهول، وقد ولد الهيثم بن عدي بالكوفة ونشأ بها وأدرك زمان سلمة بن كهيل فيما قيل، ثم انتقل إلى بغداد فسكنها، قال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: الهيثم ابن عدي كوفي ليس بثقة كان يكذب، وقال العجلي أبو داود: كذاب، وقال أبو حاتم الرازي والنسائي والدولابي والأزدي: متروك الحديث، وقال السعدي: ساقط قد كشف قناعه. وقال أبو زرعة: ليس بشيء. وقال البخاري: سكتوا عنه، أي تركوه. وقال ابن عدي: ما أقل ما له من المسند، وإنما هو صاحب أخبار وأسمار ونسب وأشعار.

وقال ابن حبان: كان من علماء الناس بالسير وأيام الناس وأخبار العرب، إلا أنه روى عن الثقات أشياء كأنها موضوعات، يسبق إلى القلب أنه كان يدلسها. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال الحاكم أبو عبد الله: الهيثم بن عدي الطائي في علمه ومحله حدث عن جماعة من الثقات أحاديث منكرة. وقال العباس بن محمد: سمعت بعض أصحابنا يقول قالت جارية الهيثم: كان مولاي يقوم الليل يصلي فإذا أصبح جلس يكذب. اه

قال الذهبي في ترجمة الهيثم بن عدي الطائي: أبو عبد الرحمن المنبجي ثم الكوفي قال البخاري: ليس بثقة، كان يكذب، قال يعقوب بن محمد حدثنا أبو عبد الرحمن من أهل منبج وأمه من سبى منبج، سكتوا عنه. وروى عباس عن يحيى: ليس بثقة كان يكذب. وقال داود: كذاب. وقال النسائي وغيره: متروك الحديث.

قلت: كان اخبارياً علامة، روى عن هشام بن عروة وعبد الله بن عياش

1 ومن ادعى أن الهيثم المذكور في سند الحكاية هو ابن مالك الطائي الشامي الأعمى أبو محمد الموثق فعليه الحجة، وفي الحكاية أبو صادق لم يسمع من علي رضي الله عنه، وفيها أحمد بن محمد بن الهيثم عن أبيه لا ذكر لها في التقريب ولا التهذيب، ولا اللسان، فمن احتج بهما فعليه أن ينقل توثيقهما عن إمام من أئمة التوثيق.

ص: 249

المشرف1 ومجالد. وقال ابن عدي: ما أقل ما له في المسند، إنما هو صاحب أخبار. وقال ابن المديني: هو أوثق من الواقدي، ولا أرضاه في شيء. قال عباس الأودي: حدثنا بعض أصحابنا قالت جارية الهيثم بن عدي: مولاي يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب. انتهى ملخصاً.

وفي الميزان: الهيثم الطائي الآخر هو أيضاً كذاب، ولفظه هكذا: الهيثم بن عبد الغفار الطائي بصري مقل تالف. قال أحمد: عرضت على ابن مهدي أحاديث الهيثم بن عبد الغفار عن همام بن يحيى وغيره فقال: هذا يضع الحديث. وسألت الأقرع وكان صاحب حديث عن الهيثم فذكر نحوه. قال أحمد: وسمعت هشيماً يقول: ادعوا الله لأخينا عباد بن العوام سمعته يقول: كان يقدم علينا من البصرة رجل يقال له الهيثم بن عبد الغفار فحدثنا عن همام عن قتادة وأبيه وعن رجل يقال له ابن حبيب وعن جماعة، وكنا معجبين به، فحدثنا بشيء أنكرته أو إرتبت به ثم لقيته بعد فقال لي: ذلك الحديث دعه، فقدمت على عبد الرحمن مهدي فعرضت عليه بعض حديثه فقال: هذا رجل كذاب، أو قال: غير ثقة. وقال أحمد: ولقيت الأقرع بمكة فذكرت له بعض هذا فقال: هذا حديث البرى عن قتادة، يعني أحاديث همام، قال: فحرقت حديثه وتركناه بعد. اهـ.

قوله: ويؤيد ذلك أيضاً ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "حياتي خير لكم، تحدثون وأحدث لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، ما رأيت من خير حمدت الله تعالى، وما رأيت من شر استغفرت لكم".

أقول: قال في الصارم المنكي: قلت هذا خبر مرسل، رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن غالب القطان عن بكر بن عبد الله، وهذا إسناد صحيح إلى بكر المزني، وبكر من ثقات التابعين وأئمتهم. وقال القاضي إسماعيل: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن كثير بن الفضل عن بكر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حياتي

1 في الميزان: المتشوف.

ص: 250

خير لكم ووفاتي خير لكم: تحدثون وأحدث لكم، فإذا أنا مت عرضت علي أعمالكم، فإن رأيت خيراً حمدت الله، وإن رأيت شراً استغفر لكم". اهـ والمرسل من أقسام الحديث الضعيف، فالحكم عليه بالصحة غير صحيح.

قوله: وفي (الجوهر المنظم) أيضاً أن أعرابياً وقف على القبر الشريف وقال: اللهم إن هذا حبيبك، وأنا عبدك، والشيطان عدوك، فإن غفرت لي سر حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك، وأنت يا ربي أكرم من أن تغضب حبيبك وترضي عدوك وتهلك عبدك، اللهم إن العرب إذا مات فيهم سيد اعتقوا على قبره، وإن هذا سيد العالمين فاعتقني على قبره يا أرحم الراحمين، فقال له بعض الحاضرين: يا أخا العرب، إن الله قد غفر لك بحسن هذا السؤال.

أقول: هذا مما لا يصح الاحتجاج به على المطلوب من وجوه:

(الأول) : أن هذه القصة مذكورة بلا سند لها، فلا بد على من يحتج بها من بيان سند، وتوثيق رجاله.

و (الثاني) : أن فعل الأعرابي ليس من الحجة في شيء.

و (الثالث) : أن هذه القصة ليس فيها دعاء غير الله ولا السؤال بحق المخلوق، والتوسل الذي يمنعه المانعون، هو الذي يتضمن دعاء غير الله أو السؤال بحق مخلوق أو ما ضاهاه من المنهيات والبدع والمنكرات.

و (الرابع) : أن بعض الحاضرين القائل يا أخا العرب أن الله قد غفر لك، لا يدري من هو حتى يعتمد على قوله. وبالجملة ذكر أمثال هذه الحكايات في محل الاستدلال أدل دليل على جهل صاحبه.

قوله: وذكر علماء المناسك أيضاً أن استقبال قبره الشريف صلى الله عليه وسلم وقت الزيارة والدعاء أفضل من استقبال القبلة.

أقول: استقبال قبره الشريف في الزيارة وقت التسليم مما اختلف فيه الأئمة، وأما استقبال القبر وقت الدعاء فمنهي عنه بالاتفاق.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منسك له صنفه في أواخر عمره:

ص: 251

ويسلم عليه مستقبلَ الحجرة مستدبر القبلة عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فإنه قال: يستقبل القبلة، فمن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة ومنهم من قال: يجعلها عن يساره، واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها ولا يدعو هناك مستقبلاً للحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك أعظم كراهية لذلك، والحكاية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبلة وقت الدعاء كذب على مالك. بل ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده. اهـ.

وقال في الصارم المنكى: وكذلك الشرك بأهل القبور لم يطمع الشيطان أن يوقعهم –أي الصحابة– فيه، فلم يكن على عهدهم في الإسلام قبر نبي يسافر إليه، ولا يقصد الدعاء عنده أو تطلب بركته أو شفاعته أو غير ذلك، بل أفضل الخلق محمد خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وقبره عندهم محجوب لا يقصده أحد منهم بشيء من ذلك. وكذلك كان التابعون لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وإنما تكلم العلماء والسلف في الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره، منهم من نهى عن الوقوف للدعاء له دون السلام عليه، ومنهم من رخص في هذا وهذا، ومنهم من نهى عن هذا وهذا. وأما دعاؤه هو وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين لا من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، بل الأدعية التي ذكروها خالية من ذلك، أما مالك فقد قال القاضي عياض: وقال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويسلم، ولكن يسلم ويمضي.

وهذا الذي نقله القاضي عياض ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق في المبسوط قال: وقال مالك: لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم يمضي، وقال مالك ذلك لأن هذا هو المنقول عن ابن عمر أنه كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت –أو يا أبتاه– ثم ينصرف، ولا يقف يدعو، فرأى ذلك من البدع.

ص: 252

قال القاضي عياض وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده، فقوله في هذه الرواية إذا سلم ودعا قد يريد بالدعاء السلام فإنه قال يدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده، ويؤيد ذلك أنه قال في رواية ابن وهب: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وقد يراد أنه يدعو له بلفظ الصلاة كما ذكر في الموطأ من رواية عبد الله بن دينار أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي رواية يحيى بن يحيى وقد غلطه ابن عبد البر وغيره وقالوا إنما لفظ الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال أبو الوليد الباجي: وعندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة، ولأبي بكر وعمر لما في حديث ابن عمر من الخلاف.

قال القاضي عياض وقال في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فإن أراد بالدعاء الصلاة والسلام فهو موافق لتلك الرواية، وإن كان أراد دعاء زائداً فهي رواية أخرى، وبكل حال فإنما أراد الدعاء اليسير.

وأما ابن حبيب فقال: ثم يقف بالقبر متواضعاً موقراً فيصلي عليه ويثني عليه ويثني بما حضر ويسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم يذكر إلا الثناء عليه مع الصلاة.

وأما الإمام أحمد فذكر الثناء عليه بلفظ الشهادة له بذلك مع الدعاء له بغير الصلاة ومع دعاء الداعي لنفسه أيضاً، ولم يذكر أن يطلب منه شيئاً ولا يقرأ عند القبر قوله:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . كما لم يذكر مالك ذلك ولا المتقدمون من أصحابنا ولا جمهورهم، بل قال في منسك المروزي: ثم ائت الروضة وهي بين القبر والمنبر فصل فيها وادع بما شئت، ثم ائت قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقل: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، أشهد أن لا إله إلا أنت وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أنك

ص: 253

قد بلغت رسالة ربك، ونصحت لأمتك، وجاهدت في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جازى نبياً عن أمته، ورفع درجتك العليا، وتقبل شفاعتك الكبرى، وأعطاك سؤلك في الآخرة والأولى، كما تقبل من إبراهيم. اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه شرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً. اه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) : ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه.

واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصاً عنه، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة، ويسلم عليه، هكذا في كتب أصحابه، وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في (المبسوط) والقاضي عياض وغيرهم: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي.

وقال أيضاً1 في (المبسوط) : لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف على قبر النبي ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة2، فقال: لم يبلغني

1 يعني الإمام مالك.

2 أي قيل للإمام مالك: إن بعض أهل المدينة المقيمين فيها يقفون عند قبره صلى الله عليه وسلم فيسلمون ويدعون من غير أن يكونوا يريدون السفر أو يكونوا قادمين منه، فقال مالك: إنه لم يبلغه عن أحد من العلماء من التابعين وغيرهم أنه فعل ذلك أو رواه عن الصحابة، فعلم من هذه الرواية أن الوقوف عند قبره صلى الله عليه وسلم للسلام والدعاء قد حدث في عصر الإمام مالك من بعض العوام المقيمين في المدينة، وأنهم لقلتهم لم يرهم هو مع كثرة ملازمته لمسجده صلى الله عليه وسلم، ولعلهم لم يكونوا يفعلونه أمامه لعلمهم بأنه ينكره عليهم، بل هو قد أنكر على عبد الرحمن بن مهدي وهو من أقرانه عندما ووضع رداءه في المسجد وصلى عليه، واحتج عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث فيه حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله، الخ الحديث. وهكذا تحدث البدع بفعل الجاهلين، وسكوت العالمين، حتى تحل محل السنن بل تنسخها. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 254

هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده، وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة ما يوافق هذا ويؤيده من أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء له والتحية كالصلاة والسلام، ويكرهون قصده للدعاء والوقوف عنده للدعاء، ومن يرخص منهم في شيء من ذلك فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء أن يدعو مستقبل القبلة إما مستدبر القبر وإما منحرفاً عنه، وهو أن يستقبل القبلة ويدعو ولا يدعو مستقبل القبر.

وهكذا المنقول عن سائر الأئمة، ليس في أئمة المسلمين من استحب للمرء أن يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده، وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه، وهي الحكاية التي ذكرها القاضي عياض عن محمد ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوما فقال:{لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، وذكر باقي الحكاية ثم قال: فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة أو مغيرة، وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه، إذ قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه، فإنه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء، وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقاً، وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو مستقبل القبلة ويوليه ظهره، وقيل لا يوليه ظهره، فاتفقوا في استقبال القبلة وتنازعوا في توليه القبر ظهره وقت الدعاء.

ص: 255

ويشبه والله أعلم أن يكون مالك رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام عليه وهو يسمي ذلك دعاء، فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضاً، ومالك يرى استقبال القبر في هذه الحال كما تقدم، وكما قال في رواية ابن وهب عنه: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ويدعو ولا يمس القبر بيده، وقد تقدم قوله: إنه يصلي عليه ويدعو له، ومعلوم أن الصلاة عليه والدعاء له يوجب شفاعته للعبد يوم القيامة كما قال في الحديث الصحيح:"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة". فقول مالك في هذه الحكاية إن كان ثباتاً عنه معناه أنك إذا استقبلته وصليت عليه وسلمت عليه وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة، فإن الأمم يوم القيامة يتوسلون إلى الله بشفاعته، واستشفاع العبد به في الدنيا هو فعل ما يشفع به له يوم القيامة كسؤال الله تعالى الوسيلة ونحو ذلك.

وكذلك ما نقل عنه من رواية ابن وهب إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدعو ويسلم –يعني دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه- فهذا هو الدعاء المشروع هناك كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين وهو الدعاء لهم فإنهم أحق الناس أن يصلى عليه ويسلم عليه ويدعى له بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تتفق أقوال مالك، ويفرق بين الدعاء الذي أحبه والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة. اه

فإن قلت: قد روى عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية" رواه مسلم والنسائي وابن ماجه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدته –تعني النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو بالبقيع، فقال "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم".

ص: 256

وعن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور، ويغفر الله لنا ولكم، أنتم أسلفنا ونحن بالأثر، ففي تلك الأحاديث الدعاء لنفسه بالعافية، وعدم حرمان الأجر، وعدم الفتن، وبالمغفرة.

قلت: المقصود من الدعاء الذي ينهى عنه عند القبر هو الدعاء الذي يقصد زيارة القبر لأجله ويظن أن الدعاء عند القبر مستجاب وأنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته لأجل طلب حوائجه، وأما الدعاء لنفسه عند القبر بالعافية وعدم الحرمان الأجر، وعدم الفتنة، تبعاً للدعاء لأصحاب القبور، والترحم عليهم والاستغفار لهم فلا ينهى عنه أحد من المسلمين، ألا ترى أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من أشدهم منعاً للدعاء عند القبور، وهما يجوزان هذا الدعاء التبعي، بل يجعلان الزيارة المشتملة عليه زيارة سنية وزيارة أهل الإيمان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض مناسكه: (باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا أشرف على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدم، فإذا دخل استحب له أن يغتسل، نص عليه الإمام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى وقال: بسم الله، والصلاة على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيستقبل جدار القبر، ولا يمسه ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي صلى الله عليه وسلم ويقف متباعدا كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكس الرأس غاض الطرف مستحضراً بقلبه جلالة موقفه، ثم يقول: السلام عليكم يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم يا نبي الله، وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبين وقائد الغر المحجلين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محموداً الذي وعدته، ليغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل على

ص: 257

محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه شراباً روياً لا نظمأ بعده أبداً. اهـ1.

وقال في (الجواب الباهر، لمن سأل من ولاة الأمر عما أفتي به في زيارة المقابر2: بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع وشهداء أحد، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، ونسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى. اهـ.

وقال في منسك صنفه في أواخر عمره: وزيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية، فالشريعة المقصود بها السلام على الميت كما يقصد بالصلاة على جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنة فيها أن يسلم على الميت ويدعى له سواء كان نبياً أو غير نبي، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم:"السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم" وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع ومن به من الصحابة وغيرهم، أو زار شهداء أحد وغيرهم، إلى أن قال:

وأما الزيارة البدعية، فهو الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به، فهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا

1 هذا الفصل قد ذكره المصنف في أول الكتاب، وهو كثير التكرار.

2 وقد طبع هذا الكتاب النفيس لأول مرة في المطبعة السلفية هذا العام.

ص: 258

استحبه أحد من سلف الأمة، بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها. اهـ.

وقال ابن القيم في (زاد المعاد) : كان إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم، وهذه هي الزيارة التي سنها لأمته وشرعها لهم، وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية". اهـ.

وفي (تبعيد الشيطان بتقريب إغاثة اللهفان) : فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التي شرعها الله ووازن بينها وبين زيارة أهل الشرك التي شرعها لهم الشيطان، واختر لنفسك، قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم ديار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد". رواه مسلم.

وعنها أيضاً أن جبريل أتاه فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت كيف يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأجرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون". وفي حديث بريدة عن أبيه: كان رسول الله يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام على أهل الديار". وفي لفظ "السلام عليكم أهل الديار". الحديث اهـ. قلت: حديث بريدة قد تقدم بتمامه، وفيه "نسأل الله لنا ولكم العافية" وكيف يمنع أحد من الدعاء لنفسه تبعاً للدعاء لأصحاب القبور، وهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، قال في الصارم: فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقاً بل يؤمر به كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمناً وتبعاً، وإنما المكروه أن يتحرى المجيء إلى القبر للدعاء عنده. اهـ.

وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الداعي إذا قصد الدعاء لغيره يبدأ بنفسه، عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه. رواه

ص: 259

الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، ومن ثم ورد في التشهد "السلام علينا". قال الحافظ في الفتح: استدل به على استحباب البدأة بالنفس في الدعاء. اهـ.

فالمقصود بالذات الدعاء للميت، وأما الدعاء لنفسه فإنما هو لأجل الداعي إذا قصد الدعاء يبدأ بنفسه فهو مقصود بالعرض.

قوله: وأما ما نقل عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن استقبال القبلة أفضل فهذا النقل غير صحيح، فقد روى الإمام أبو حنيفة نفسه في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: من السنة استقبال القبر المكرم وجعل الظهر للقبلة.

أقول: في هذا الباب عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله روايتان: قال ابن حجر المكي في (الجوهر المنظم) : ما ذكرنا من أن الأفضل استدبار القبلة واستقبال الوجه الشريف هو مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، وقال آخرون الأفضل استقبال الكعبة ونقل عن أبي حنيفة، لكن نقل عنه موافقة الأول. اهـ.

وأما ادعاء عدم صحة الرواية الأولى مستدلاً بما روى الإمام أبو حنيفة رحمه الله نفسه في مسنده، ففيه أن رواية المسند مما لا يعبأ به ولا يعتمد عليه، فإن في رواتها من هو مجهول ومجروح، ومن يتهم بالكذب، ألا ترى أن من أشهر مسانيد أبي حنيفة مسند أبي محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي الذي رواه حسن بن زياد اللؤلؤي، فعبد الله هذا جامعه متهم بوضع الحديث.

قال الذهبي في الميزان: عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري الفقيه عرف بالأستاذ أكثر عنه أبو عبد الله بن منده وله تصانيف، قال ابن الجوزي: قال أبو سعيد الروسي يتهم بوضع الحديث، وقال أحمد السليماني: كان يضع هذا الإسناد على هذا المتن وهذا المتن على هذا الإسناد، وهذا ضرب من الوضع، وقال حمزة السهمي: سألت أبا رزعة أحمد بن الحسن الرازي عنه فقال: ضعيف، وقال الحاكم: هو صاحب عجائب عن الثقات، وقال الخطيب: لا يحتج به، وقال الخليلي: يعرف بالأستاذ، له معرفة بهذا الشأن، وهو لين ضعفوه، حدثنا عنه الملاحمي وأحمد بن

ص: 260

محمد البصير بعجائب، قلت: يروي عن عبيد الله بن واصل بن الصائغ وعبد الصمد بن الفضل البخلي، وسماعاته في سنة ثمانين ومائتين قبلها وبعدها، مات سنة أربعين وثلاثمائة عن إحدى وثمانين سنة، وقد جمع مسنداً لأبي حنيفة. اهـ.

والحسن بن زياد اللؤلؤي راويه كذاب، قال الذهبي في الميزان: الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي عن ابن جريج وغيره وتفقه على أبي حنيفة، روى أحمد بن أبي مريم وعباس الدوري عن يحيى بن معين: كذاب. وقال محمد بن عبد الله بن نمير: يكذب على ابن جريج، وكذا كذبه أبو داود فقال: كذاب غير ثقة. وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه، وقال أبو حاتم: ليس بثقة ولا مأمون، وقال الدارقطني: ضعيف متروك، وقال محمد بن حميد الرازي: ما رأيت أسوأ صلاة منه.

البويطي: سمعت الشافعي يقول: قال لي الفضل بن الربيع: أنا اشتهي مناظرتك واللؤلؤي، فقلت: ليس هناك. فقال: أنا اشتهي ذلك، قال فأحضرنا وأتانا بطعام فأمسكنا، فقال رجل معي له: ما تقول في رجل قذف محصنة في الصلاة؟ قال: بطلت صلاته قال: وطهارته؟ قال: بحالها. فقلت له: قذف المحصنات أشد من الضحك في الصلاة 1؟ قال فأخذ اللؤلؤي نعليه وقام، فقلت للفضل: قد قلت لك إنه ليس هناك، وقال محمد بن رافع النيسابوري: كان الحسن بن زياد يرفع رأسه قبل الإمام ويسجد قبله. مات سنة 203 وكان رأساً في الفقه. اهـ.

سيما رواية هذا الأثر2 فقد أخرجه طلحة بن محمد في مسنده عن صالح ابن

1 يعني الشافعي أن أبا حنيفة يقول بأن الضحك في الصلاة يبطل الوضوء، فكيف لا يبطله قذف المحصنات وهو أشد إثماً. وقوله للفضل أولاً وآخراً: إنه ليس هناك، معناه أنه ليس أهلاً للمناظرة. وكتبه محمد رشيد رضا.

2 قوله "سيما رواية هذا الإثر الخ" الظاهر أنه من كلام المصنف، وأنه تتمة لقوله في عبد الله الحارثي "متهم بوضع الحديث" وما بينهما اعتراض، أي ولا سيما هذا الأثر عن ابن عمر فهو أجدرها بالوضع، وهذا القدر من تقطيع الكلام والاعتراض بين المستثنى والمستثنى منه وما في معناه من ضعف التأليف. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 261

أحمد كذا في (وفاء الوفاء) وطلحة مخرجه ضعيف، قال الذهبي في الميزان: قال ابن أبي الفوارس: كان يدعو إلى الاعتزال، وضعفه الأزهري اهـ. وصالح بن أحمد كذاب دجال، قال الذهبي: صالح بن أحمد بن أبي مقاتل عن يعقوب الدورقي ويوسف بن موسى القطان وغيرهما ويعرف بالقيروطي البزار، قال الدراقطني: متروك كذاب دجال، أدركناه ولم نكتب منه، يحدث بما لم يسمع، وقال ابن عدي: كان يسرق الحديث، واسم جده يونس، وقال البرقاني: ذاهب الحديث، قال عبد الله الأستاذ فيما جمع من مسند أبي حنيفة: كتب إلى صالح حدثنا الخصر بن أبان الهاشمي حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا زفر حدثنا أبو حنيفة عن عطاء عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بئس البيت الحمام لا يستر وماء لا يطهر" فهذا من اختلاق صالح. اهـ.

على أنه لو سلم صحة إسناد هذا الأثر إلى الإمام فلا يلزم منه أن يكون ما يثبت منه هو مذهب الإمام، فغير واحد من الأئمة يروون الأحاديث ويكون مذهبهم بخلافها لوجوه ذكرت في علم الأصول، وهذا بين لا يتأتى جحوده من أحد من أهل العلم، على أن الإمام أبا حنيفة لا يحتج بالآثار في غير واحد من المسائل فلتكن هذه المسألة أيضاً منها.

وبالجملة فرواية الإمام هذا الأثر في مسنده لا يصلح دليلاً، على أن نقل استقبال القبلة عند الزيارة عن الإمام رحمه الله غير صحيح كما زعم صاحب الرسالة، ولننقل هناك بعض عبارات الحنفية ليعلم أن استقبال القبلة عند السلام هو المشهور بينهم، قال الطحاوي في حاشية الدر المختار: ثم ينهض فيتوجه إلى قبره عليه الصلاة والسلام فيقف عند رأسه مستقبل القبلة يدنو منه قدر ثلاثة أذرع أو أربعة ولا يدنو أكثر من ذلك اهـ. وفي الهندية نقلاً عن (الاختيار في شرح المختار) : ثم ينهض فيتوجه إلى قبره صلى الله عليه وسلم فيقف عند رأسه مستقبل القبلة ثم يدنو منه ثلاثة أذرع أو أربعة ولا يدنو منه أكثر من ذلك اهـ.

وقال السيد محمود أفندي شهاب الدين مفتي الحنفية ببغداد المفسر الشهير بالألوسي

ص: 262

في تفسيره: واختلف الأئمة في استقباله عليه السلام، ففي مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يستقبل بل يستدبر ويستقبل القبلة، وقال بعضهم: يستقبل وقت السلام، ويستقبل القبلة ويستدبره وقت الدعاء، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء يستقبل القبلة اهـ. وعن أبي الليث رحمه الله يقف مستقبل القبلة، وكذلك نقل عن الكرماني وغيره، وما قال السيد محمود من أن الصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء يستقبل القبلة مردود بما قال ابن جماعة في منسكه من أن الذي صححه الحنفية أنه يستقبل القبلة عند السلام عليه والدعاء له اهـ.

قوله: وسبق ابن الهمام في النص على ذلك العلامة ابن جماعة، فإنه نقل استحباب استقبال القبر عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ورد على الكرماني في أنه يستقبل القبلة فقال: إنه ليس شيء.

أقول: راجعت منسك ابن جماعة فلم أجد فيه أثراً من هذا النقل والرد، وإنما فيه في ذلك الباب ما نقلته آنفاً، فلعل هذا من أكاذيب صاحب الرسالة والنسخة التي راجعتها صحيحة قديمة كتب في آخرها ما نصه: وكمل نسخ هذه النسخة في العاشر من شهر رمضان المعظم قدره سنة ست وأربعين وسبعمائة أحسن الله نقصها في خير وعافية وكاتبها محمد بن عيسى البزاوي. اهـ.

قوله: ويستدل لاستقبال القبر أيضاً بأنا متفقون على أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره يعلم بزائره، وهو صلى الله عليه وسلم لما كان في الدنيا لم يسع زائره إلا استقباله واستدبار القبلة فكذا يكون الأمر حين زيارته في قبره الشريف صلى الله عليه وسلم.

أقول للإمام على الرواية الأولى أن يقول: إن حياته في القبر برزخية، ومساواة الحياة البرزخية للحياة الدنيوية في جميع الأحكام غير مسلمة، ومن يدعي فعليه الإثبات.

قوله: وإذا اتفقنا في المدرس من العلماء بالمسجد الحرام المستقبل للقبلة أن الطلبة يستقبلونه ويستدبرون الكعبة فما بالك به صلى الله عليه وسلم فهذا أولى بذلك قطعاً.

أقول: للإمام أن يقول: هذا قياس مع الفارق، فإن حياته صلى الله عليه وسلم برزخية وحياة

ص: 263

ذلك المدرس حياة دنيوية، وأين هذه من تلك؟

قوله: وقد تقدم قول الإمام مالك للخليفة المنصور: ولم تصرف وجهك عنه؟

أقول: قد تقدم الكلام عليه وتأويله فتذكر.

قوله: قال العلامة الزرقاني في شرح المواهب: كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر مستقبلاً له مستدبراً للقبلة.

أقول: قد عرفت فيما تقدم أن الإمام مالكاً قال في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة فقوله في هذه الرواية: إذا سلم ودعا قد يريد بالدعاء الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين، وهو الدعاء لهم قصداً وبالذات ولنفسه تبعاً وبالعرض، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين كما تقدم، فإن كان مراد المالكية هذا الدعاء فهو حق لا نزاع لأحد فيه، وإن كان مرادهم الدعاء الذي تقصد زيارة القبر لأجله، ويظن أن الدعاء عند القبر مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته لطلب حوائجه، فهذا مخالف لما روي عن إمامهم بسند صحيح أنه قال: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي، ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط والقاضي عياض وغيرهم، وقول مالك للخليفة المنصور عند المناظرة لا يصلح معارضاً لهذا المروي، فإن سنده واه جداً كما تقدم.

قوله: ثم نقل عن مذهب الإمام أبي حنيفة والشافعي والجمهور مثل ذلك.

أقول: يعارض هذا النقل ما نقله شيخ الإسلام ابن تيميه عن الأئمة الأربعة من أنهم اتفقوا على أنه إذا دعا لا يستقبل قبره صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقال الشيخ ابن القيم في الإغاثة: ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا، قال سلمة بن وردان: رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو، ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند

ص: 264

القبر، فإن الدعاء عبادة اهـ. وهذان الشيخان إمامان في النقل كما صرح به علماء النقل.

وقال ابن حجر المكي مستند صاحب الرسالة في (الجوهر المنظم) : ما ذكرناه من الاستقبال هنا في حالة الدعاء هو مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، ومشى عليه بعض المالكية مع كون مالك رحمه الله خالف في ذلك فرأى أن الأولى أن يكون في حال الدعاء أيضاً مستقبلاً للوجه الشريف، وقد سأله الخليفة المنصور الخ.

قلت قد عرفت فيما تقدم أن هذه الحكاية عن مالك ضعيفة جداً، وقد عارضها ما روي عن الإمام مالك بسند صحيح أنه قال: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي، فقد ثبت أن الإمام مالكاً موافق للجمهور في القول باستقبال القبلة في حالة الدعاء.

قوله: وأما ما ذكره الألوسي في تفسيره من أن بعضهم نقل عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه منع التوسل فهو نقل غير صحيح، إذ لم ينقله عن الإمام أحد من أهل مذهبه.

أقول: قال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي: قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول:"أسألك بمعاقد العز من عرشك".؟ وأن يقول بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام.

قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فمنكرة لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق له على خلقه، وأما قوله "بمعقد العز من عرشك" فكرهه أبو حنيفة، ورخص فيه أبو يوسف، كذا في (تبعيد الشيطان) . وقال ابن بلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله إلا به، ولا يقول: أسألك بملائكتك أو بأنبيائك أو نحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه كذا في تبعيد الشيطان.

وقال نعمان خير الدين الحنفي (في جلاء العينين) : ونقل القدوري وغيره من الحنفية عن أبي يوسف أنه قال: قال أبو حنيفة رحمه الله لا ينبغي لأحد أن يدعو الله

ص: 265

تعالى إلا به، وذكر العلائي في شرح التنوير عن التتار خانية عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله سبحانه وتعالى إلا به. وفي جميع متونهم أن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والأولياء وبحق البيت والمشعر الحرام مكروه كراهة تحريم، وهي كالحرام في العقوبة بالنار عند محمد. اهـ ملخصاً.

وأيضاً قال فيه: فقد قال الشيخ أبو الحسين القدوري في الكتاب المسمى (بشرح الكرخي) المعروف به والمشهور عنه في (باب الكراهية) :

(فصل) قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول قال أبو حنيفة رحمه الله: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله تعالى إلا به، وأكره أن يقول "بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك". وأبو يوسف لم يكره الأول وقال أكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام؛ قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. وقال البلدجي في (شرح المختار) : ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. اهـ.

وقال في (الدر المختار) وفي التتارخانية معزياً للمنتقى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه، المأمور به، ما استفيد من قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . قال: وكذا لا يصلي أحد على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وكره قوله: بحق رسلك وأنبيائك وأوليائك، أو بحق البيت، لأنه لا حق للخلق على الخالق تعالى. اهـ.

وقال العلامة ابن عابدين في (رد المحتار على الدر المختار) : قوله "وكره قوله بحق رسلك الخ" هذا لم يخالف فيه أبو يوسف، بخلاف مسألة المتن السابقة كما أفاده الاتقاني. اهـ وقال تحت قوله:"لأنه لا حق للخلق على الخالق": ومجرد إيهام اللفظ ما لا يجوز كاف في المنع كما قدمناه، فلا يعارض خبر الآحاد، فلذا والله أعلم أطلق أئمتنا المنع. اهـ.

فهؤلاء كلهم أهل مذهب أبي حنيفة رحمه الله ينقلون عن الإمام منع التوسل، والمنكر لذلك النقل جاهل بمذهب أبي حنيفة رحمه الله.

ص: 266

قوله: وفي المواهب اللدنية للإمام القسطلاني: وقف أعرابي على قبره الشريف صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد، وهذا حبيبك وأنا عبدك فأعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا تسأل العتق لك وحدك، هلا سألت العتق لجميع المؤمنين؟ اذهب فقد أعتقتك.

أقول: فيه كلام من وجوه:

(الأول) : أن هذه الحكاية ذكرها القسطلاني بغير سند فلا يعتمد عليها.

و (الثاني) : أن هتف الهاتف ليس من الحجة الشرعية في شيء لاحتمال أن يكون ذلك الصوت من الشيطان.

و (الثالث) : أن فعل الأعرابي وقوله ليس دليلاً شرعياً حتى يحتج به على مسألة من مسائل الشرع.

قوله: ثم قال في المواهب عن الحسن البصري قال: وقف حاتم الأصم على قبره صلى الله عليه وسلم فقال: يا رب إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودي: يا هذا ما أذنا لك في زيارة قبر حبيبنا إلى وقد قبلناك، فارجع أنت من معك من الزوار مغفور لكم.

أقول: فيه أيضاً كلام من وجوه:

(الأول) : أن هذه الحكاية لم يذكر لها سند فلا يعبأ بها.

و (الثاني) : أن قول حاتم الأصم ليس بحجة شرعية.

و (الثالث) : أنه ليس في قول حاتم إلا ذكر الزيارة والدعاء بتوسل الزيارة التي هي من الأعمال الصالحة، وهما مما لا يجحده أحد من المسلمين.

و (الرابع) : أن النداء المذكور في هذه الحكاية مما لا اعتماد عليه، لجواز أن يكون هذا النداء من الشيطان، فلابد لنفي هذا الاحتمال من برهان.

قوله: وقال ابن أبي فديك: سمعت بعض من أدركت من العلماء والصلحاء يقول: بلغنا أن من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ

ص: 267

عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال: صلي الله عليك يا محمد حتى يقولها سبعين مرة، ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان، ولم تسقط له حاجة.

أقول فيه خلل من وجوه:

(الأول) : أن هذه الرواية ليس لها سند فلا يعتمد عليها.

و (الثاني) : أن من روى عنه ابن أبي فديك مبهم مجهول.

و (الثالث) : أن هذا من بلاغات ذلك الرجل المبهم المجهول، وبلاغات الأئمة الثقات العدول ليس بحجة، فما ظنك بهذا.

و (الرابع) : أن قوله "بلغنا" لا يدرى أنه ممن بلغه، أمن تبع تابعي، أو من تابعي أو صحابي أو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

و (الخامس) : أن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك وإن كان صدوقاً مشهوراً وهو من المروي عنه في الكتب الستة، لكن قال ابن سعد وحده: ليس بحجة، كذا في الميزان.

قوله: وفي شرح المواهب للزرقاني أن الداعي إذا قال: اللهم إني استشفع إليك نبيك، يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك، استجيب له.

أقول: الزرقاني تحت حكاية مناظرة أبي جعفر مالكاً عند قول مالك: "وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة": إشارة إلى حديث الشفاعة العظمى وإلى ما ورد أن الداعي إذا قال: اللهم أني استشفع إليك بنبيك، يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك استجيب له، فهذا المذكور لم يذكر الزرقاني له سنداً، فعلى من يحتج به ذكر سنده وتوثيق رجاله، ولعله أراد به حديث عثمان بن حنيف أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله، الحديث، فإن كان هذا فالكلام فيه ما تقدم تحت حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه، فتذكر.

قوله: فقد اتضح لك من هذه النصوص المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلفها أن التوسل به صلى الله عليه وسلم وزيارته وطلب الشفاعة منه ثابتة عنهم قطعاً بلا شك

ص: 268

ولا مرية، وأنها من أعظم القربات، وأن التوسل به واقع قبل خلقه، وبعد خلقه، في حياته وبعد وفاته، وسيكون التوسل به أيضاً بعد البعث في عرصات القيامة.

أقول: ما ذكر صاحب الرسالة بعضه غير ثابت، وبعضه غير دال على المطلوب، وبعضه مما لا يجحد مدلوله ومقتضاه خصمه، وهذا كله ظاهر مما تقدم، فتذكر.

قوله: قال في المواهب: ورحم الله ابن جابر حيث قال:

به قد أجاب الله آدم إذ دعا

ونجي من بطن السفينة نوح

وما ضرت النار الخليل لنوره

ومن أجله نال الفداء ذبيح

أقول: لا يدرى ابن جابر من هو، فعلى من يستدل به تعيينه وبيان سند هذين البيتين إليه حتى ينظر فيه.

قوله: وروى البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي به وأنشد أبياتاً أولها:

أتيناك والعذراء يدمى لبانها

وقد شغلت أم الصبي عن الطفل

إلى أن قال:

وليس لنا إلا إليك فرارنا

وأنى فرار الخلق إلا إلى الرسل

فلم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم هذا البيت، بل قال أنس: لما أنشد الأعرابي الأبيات قام صلى الله عليه وسلم يجرد رداءه حتى رقي المنبر فخطب ودعا لهم فلم يزل يدعو حتى أمطرت السماء.

أقول: فيه كلام من وجهين:

(الأول) : أن في سنده مسلماً الملائي وهو واه جداً، قال الذهبي في الميزان: مسلم ابن كيسان أبو عبد الله الضبي الكوفي الملائي الأعور عن أنس وعن إبراهيم النخعي وعنه الثوري وأبو وكيع الجراح بن بلبح1 قال الفلاس: متروك الحديث، وقال أحمد: لا يكتب حديثه. وقال يحيى ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال

1 في الميزان: مليح.

ص: 269

يحيى أيضاً: زعموا أنه اختلط، وقال النسائي وغيره: متروك.

أبو هشام الرفاعي حدثنا أن فضيل حدثنا مسلم الملائي عن أنس: أهدت أم أيمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم طيراً مشوياً فقال: "اللهم ائتني به بأحب خلقك إليك" فذكره. اهـ مخلصاً.

وقال الحافظ في التقريب: مسلم بن كيسان الضبي الملائي البراد الأعور أبو عبد الله الكوفي ضعيف من الخامسة اهـ. وفي الخلاصة قال عمرو بن علي: منكر الحديث، وفي التهذيب: ضعفه البخاري والنسائي وابن معين وأبو حاتم. اهـ.

قلت: قد ثبت من عبارة الذهبي أن مسلماً الملائي هذا يروى حديث الطير، وهو موضوع عند غير واحد من المحدثين، قال العلامة عبد العزيز الدهلوي في (التحفة) ما معربه: إن هذا الحديث قال غير واحد من المحدثين: إنه موضوع، وممن صرح بوضعه الحافظ شمس الدين الجزري.

وقال إمام أهل الحديث شمس الدين أبو عبد الله بن محمد بن أحمد الدمشقي الذهبي في تلخيصه: لقد كنت زمناً طويلاً أظن أن حديث الطير لم يحسن بالحاكم أن يودعه في مستدركه، فلما علقت هذا الكتاب رأيت القول به من الموضوعات التي فيه، وهكذا في (الصواقع الموبقة) للعلامة نصر الله الكابلي.

وقال ابن الجوزي في (العلل المتناهية) : قال ابن طاهر: حديث الطائر موضوع إنما يجيء عن سقاط أهل الكوفة عن المشاهير والمجاهيل عن أنس وغيره، قال: ولا يخلو أمر الحاكم من أمرين: إما الجهل بالصحيح فلا يعتمد على قوله، وإما العلم به ويقول بخلافه، فيكون معانداً كذاباً وله وساوس، وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في (اليواقيت والجواهر) : وهذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وأفرد له الحافظ الذهبي جزءاً وقال: إن طرقه كلها باطلة. اهـ.

قال العلامة الشوكاني في (الفوائد المجموعة) قال في المختصر: له طرق كلها ضعيفة. وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وأما الحاكم فأخرجه في المستدرك وصححه، واعترض عليه كثير من أهل العلم، ومن أراد استيفاء البحث فلينظر ترجمة الحاكم في النبلاء. اهـ.

ص: 270

و (الثاني) : أن ما ثبت منها هو التوسل بدعاء الأحياء، وهذا مما لا ينكره أحد.

قوله: وفي صحيح البخاري أنه لما جاء الأعرابي وشكا للنبي صلى الله عليه وسلم القحط فدعا الله فانجابت السماء بالمطر قال صلى الله عليه وسلم: "لو كان أبو طالب حياً لقرت عيناه، من ينشدنا قوله"؟ فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله كأنت أردت قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر إنشاد البيت ولا قوله: "يستسقى الغمام بوجهه" ولو كان ذلك حراماً أو شركاً لأنكره ولم يطلب إنشاده.

أقول ليس في صحيح البخاري هذه الرواية، إنما ورد فيه من حديث أنس أن قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت المواشي وتقطعت السبل فدعا، فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، ثم جاء فقال: تهدمت البيوت وتقطعت السبل وهلكت المواشي فادع الله يمسكها، فقال:"اللهم على الآكام والظراب والأودية ومنابت الشجر"، فانجابت عن المدينة انجياب الثوب، وقد روى البخاري حديث أنس هذا من طرق وليس في واحدة منا قال صلى الله عليه وسلم:"لو كان أبو طالب حياً لقرت عيناه، من ينشدنا قوله"؟ فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله كأنك أردت قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم اهـ.

وكذلك قد روي فيه من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه قال: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ومن حديث سالم عن أبيه ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقى، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وهو قول أبي طالب، نعم قد ورد ما عزاه إلى البخاري فيما أخرجه البيهقي في

ص: 271

الدلائل من رواية مسلم الملائي عن أنس قال: جاء رجل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي بغط، ثم أنشده شعراً يقول فيه:

وليس لنا إلا إليك فرارنا

وأين فرار الناس إلا إلى الرسل؟

فقام يجر رداءه حتى صعد المنبر فقال: "اللهم اسقنا" الحديث. وفيه: ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لو كان أبو طالب حياً لقرت عيناه، من ينشدنا قوله" فقام علي فقال: يا رسول الله كأنك أردت قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

الأبيات

قال الحافظ في الفتح، وكذا قال القسطلاني في المواهب، وقد عرفت فيما تقدم أن في سنده مسلماً الملائي وهو متروك يروي الموضوع، فالصواب حينئذ ذكر قوله قال صلى الله عليه وسلم:"لو كان أبو طالب" الخ في رواية البيهقي لا في رواية البخاري.

فانظر إلى تحريف صاحب الرسالة ما أشنعه وما أقبحه، أعاذنا الله من أمثال هذا الصنيع.

على أن في عبارة ما عزاه إلى البخاري من الركاكة ما يدل دلالة واضحة على أنه ليس من كلام أفصح العرب:

(الأول) : أن كلمة "لما" لا يدخل في جوابها في أمثال هذه المواضيع لفظة الفاء.

و (الثاني) : أن لفظ شكا متعد بإلى لا باللام، قال تعالى:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وفي رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك عند البخاري أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم هلك المال وجهد العيال. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها" متفق عليه. وعن خباب قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه حر الرمضاء فلم يشكنا" رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها عند البخاري في كتاب التيمم: فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم. وقد جاء تعدية شكا بإلى في غير واحد من الأحاديث الصحيحة، وقال في القاموس: شكا أمره إلى الله.

ص: 272

و (الثالث) : أن قوله: "فانجابت السماء بالمطر" لا معنى له، فإن انجابت بمعنى انكشفت، في الصحاح: انجابت السحابة انكشفت، وفي المصباح: انجابت السحاب انكشف، وانكشاف السماء بالمطر لا محصل له.

و (الرابع) : أن الانجياب يدل على انقطاع المطر كما في حديث، "فانجابت عن المدينة انجياب الثوب" وانقطاع السحاب بعد دعاء السقى يدل على عدم إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وهذا باطل بالبداهة، بدليل أن الروايات كلها دالة على أن دعاء الرسول في هذه الواقعة قد أجيب بلا مرية.

و (الخامس) أن انقطاع السحاب قبل ظهروه محال.

و (السادس) أن صلة الانجياب بعن كما في حديث أنس لا بالباء.

وبالجملة فصدر ما عزاه إلى البخاري أعني قوله لما جاء الأعرابي وشكا للنبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله بالمطر ليس في البخاري ولا في البيهقي ولا في غيره من الكتب الحديثية فيما أعلم، فإذاً إنما هو من اختلاق مؤلف الرسالة.

قوله: ولم ينكر إنشاد البيت ولا قوله يستسقى الغمام بوجهه.

أقول فيه كلام من وجهين:

(الأول) أن اللفظ الذي يستدل به على جواز التوسل ليس في صحيح البخاري، إنما هو من رواية البيهقي، وهي ضعيفة جداً كما تقدم.

و (الثاني) أن الثابت به إنما هو التوسل بالأحياء ولا ينكره أحد، وإنما يمنع من يمنع التوسل بالأموات، فإن قلت: لفظ "يستسقى الغمام بوجهه" يدل على أن التوسل بالذوات الفاضلة جائز، قلت: المكروه من التوسل هو أن يقال أسألك بحق فلان أو بحرمة فلان، وأما إحضار الصالحين في مقام الاستسقاء أو طلب الدعاء منهم فهو ليس من المكروه في شيء، بل هو ثابت بالسنة الصحيحة، وليس في حديث البيهقي إلا التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وكذا التوسل الذي يشير إليه أبو طالب إنما كان بإحضار النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الاستسقاء أو بدعائه، ففيه احتمالان:

ص: 273

(الأول) أنه أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب، روى الخطابي حديثاً فيه أن قريشاً تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب، فارتقى هو ومن حضره من قريش أبا قبيس، فقام عبد المطلب واعتضد النبي صلى الله عليه وسلم فرفعه على عاتقه –وهو يومئذ غلام قد أيقع أو قرب– فدعا فسقوا في الحال، فقد شاهد أبو طالب ما دله على ما قال.

و (الثاني) أنه أشار إلى ما وقع في زمنه، فقد أخرج ابن عساكر عن حليمة1، قدمت مكة وقريش في قحط، فقائل منهم يقول: اعمدوا اللات والعزى، وقائل منهم: اعمدوا مناة الثالثة الأخرى، فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل، قالوا: كأنك عنيت أبا طالب، قال: إيها. فقاموا بأجمعهم فقمت فدققنا عليه الباب فخرج إلينا، فثاروا إليه فقالوا: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال وأنت فيهم، أما تستسقي؟ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قثماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ الغلام بإصبعه وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا ومن ههنا، وأغدق السحاب واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

وإذا كان حضور الصحابة والتابعين وتبع التابعين والضعفاء سبباً للنصر والفتح فما ظنك بحضور سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.

روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو

1 كذا في الأصل، وفي الخصائص الكبرى "عن جلهمة بن عرفطة". وفي الرواية أغلاط أخرى صححناها، وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 274

فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، متفق عليه.

وعن مصعب بن سعد قال: رأى سعد أن له فضلاً على من دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" رواه البخاري. وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ابغوني في ضعفائكم، فإنما ترزقزن أو تنصرون بضعفائكم". رواه أبو داود، وعن أمية بن خالد بن عبد الله بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، رواه في شرح السنة، وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خرج نبي من الأنبياء بالناس، فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء، فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة". رواه الدارقطني.

فالمراد بوجهه في قول أبي طالب "يستسقى الغمام بوجهه". ببركة حضور ذاته أو بدعائه، لا أن يقال أسألك بحق النبي صلى الله عليه وسلم أو بحرمته، وما أشبه هذا القول بقول أسقف النصارى المذكور في البيضاوي وغيره من التفاسير تحت آية المباهلة حيث ذكروا فقال أسقفهم: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو تسأل الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا.

قوله: وكان سبب إنشاد أبي طالب هذا البيت من جملة قصيدة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً في الجاهلية أصابهم قحط فاستسقى لهم أبو طالب وتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم.

أقول: هذا غلط واضح وخطأ فاضح، فإن سبب إنشاده أن قريشاً تمالأت على النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا عنه من يريد الإسلام.

قال الحافظ في الفتح: وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها وهي أكثر من ثمانين بيتاً، قالها لما تمالأت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا عنه من يريد الإسلام، أولها:

ولما رأيت القوم لا ود فيهم

وقد قطعوا كل العرى والوسائل

وقد جاهرونا بالعداوة والأذى

وقد طاوعوا أمر العدو المزايل

أعبد مناف أنتم خير قومكم

فلا تشركوا في أمركم كل واغل

ص: 275

فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم

تكونوا كما كانت أحاديث وائل

وأيضاً قال في الفتح: وذكر ابن التين أن في شعر أبي طالب هذا دلالة على أنه كان يعرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لما أخبره به بحيرا أو غيره من شأنه، وفيه نظر، لما تقدم عن إنشاد أبي طالب لهذا الشعر كان بعد المبعث. اهـ.

وقال الزرقاني في (شرح المواهب) تحت قوله: "وفي ذلك يقول أبو طالب يذكر قريشاً حين تمالؤا عليه صلى الله عليه وسلم: بركته عليهم من صغره لا في هذا الوقت، فلا يخالف قول ابن إسحاق أنه قال القصيدة لما تمالأت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا عنه من يريد الإسلام. وتجويز أنه قال البيت عقيب الاستسقاء، والقصيدة كلها حين تمالؤا فيه نظر، إذ مجرد قوله "وفي ذلك يقول، لا يستلزم أنه قال عقيب الاستسقاء. اهـ.

قوله: وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام يا عيسى آمن بمحمد، ومر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن.

أقول: فيه كلام من وجهين:

(الأول) : أن هذا الأثر هكذا مذكور في (الجوهر المنظم) بلا سند، فعلى من يحتج به ذكر سنده وتوثيق رجاله، وقال الزرقاني في (شرح المواهب) : رواه البيهقي وغيره كشيخه الحاكم وصححه1 عن ابن عباس: أوحى الله تعالى إلى عيسى أن آمن بمحمد وأمر أمتك، الحديث. قلت: عرفت فيما تقدم ما في تصحيح الحاكم من التساهل فلا اعتداد به، قال الذهبي ما حاصله: إنه لا يحل لأحد أن يغتر بتصحيح الحاكم حتى يرى تعقباتي. ومن ثم تقرر عند العلماء أنه لا يعتمد على مستدرك الحاكم إلا

1 تعقبه الذهبي في تلخيص المستدرك فقال: أظنه موضوعاً على سعيد عن قتادة، كذا في حاشية الأصل.

ص: 276

بعد رؤية التخليص للذهبي1.

و (الثاني) : أنه ليس فيه دليل على التوسل الذي يمنعه المانعون.

قوله: وذكر القسطلاني في شرحه على البخاري عن كعب الأحبار أن بني إسرائيل كانوا إذا قحطوا استسقوا بأهل بيت نبيهم.

أقول: هذه الحكاية ذكرها القسطلاني في شرحه بلا سند، فلا يحتج بها، على أن المراد بالاستسقاء بأهل البيت هو الاستسقاء بدعائهم أو ببركة حضورهم في موضع الاستسقاء، وهذا لا يمنعه أحد، إنما المكروه أن يقال: اللهم إنا نسألك بحق أهل البيت، وهذا غير ثابت منها.

قوله: وإذا جاز التوسل بالأعمال الصالحة كما في صحيح البخاري في حديث الثلاثة الذين أووا إلى غار فأطبق عليهم ذلك الغار فتوسل كل واحد منهم إلى الله تعالى بأرجى عمل له فانفجرت الصخرة التي سدت الغار عنهم، فالتوسل به صلى الله عليه وسلم أحق وأولى، لما فيه من النبوة والفضائل سواء كان ذلك في حياته أو بعد وفاته، فالمؤمن إذا توسل به إنما يريد بنبوته التي جمعت الكمالات.

أقول: الثابت بحديث صحيح البخاري إنما هو توسل المرء بعمل نفسه لا التوسل بعمل الغير أو بكمال الآخر، وأما ادعاء أن هذا ثابت بفحوى الخطاب ودلالة النص، فهذا محتاج إلى تقريره وإثباته حتى ينظر فيه ويتكلم عليه ودونه لا يسمع.

قوله: وهؤلاء المانعون للتوسل يقولون: يجوز التوسل بالأعمال الصالحة مع كونها أعراضاً فالذوات الفاضلة أولى.

أقول: لا ملازمة بين جواز التوسل بالأعراض وبين جواز التوسل بالذوات

1 أورده السيوطي في الخصائص الكبرى وتعقبه بقوله: قال الذهبي في سنده عمرو ابن أوس لا يدرى من هو. اهـ. وقال الحافظ في لسان الميزان: عمرو بن أوس يجهل حاله وأتى بخبر منكر أخرجه الحاكم في مستدركه وأظنه موضوعاً من طريق جندل بن واثق. اهـ. وذكر هذا الخبر. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 277

الفاضلة، ومن يدعي فعليه البيان1.

قوله: فإن عمر رضي الله عنه توسل بالعباس رضي الله عنه.

أقول: التوسل بالعباس رضي الله عنه كان توسلاً بدعائه أو ببركة حضوره، وهذا جائز لا شك فيه2. إنما المكروه أن يقال: اللهم أسألك بحق العباس رضي الله عنه، وهذا ليس بثابت.

قوله: وأيضاً لو سلمنا ذلك نقول لهم: إذا جاز التوسل بالأعمال الصالحة فما المانع من جوازها بالنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار ما قام به من النبوة والرسالة والكمالات التي فاقت كل كمال، وعظمت على كل عمل صالح في الحال والمآل.

أقول: المانع من جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم هو كونه بدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"وإياكم ومحدثات الأمور"، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". ولا يخفى ما في ضمير جوازها، والصواب جوازه، بالتذكير، فإن المرجع هو التوسل وهو مذكر لا وجه لتأنيثه.

قوله: ومن أدلة جواز التوسل قصة سواد بن قارب رضي الله عنه التي رواها الطبراني في الكبير، وفيها أن سواد بن قارب أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته التي فيها التوسل ولم ينكر عليه، ومنها قوله:

وأشهد أن الله لا رب غيره

وأنك مأمون على كل غائب

وأنك أدنى المرسلين وسيلة

إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

1 إنما ينبغي أن يقال هنا: إن التوسل بالأعمال هو التقرب إلى الله تعالى بما شرعه لعباده بالإجماع والنصوص القطعية، وهو المعقول، إذ هي التي تزكي نفس العامل وتجعله أهلاً لرضوان الله واستجابته لدعائه، وأما ذات غيرك فلا تأثير لها في تزكيتك مهما تكن تلك الذات فاضلة بعملها المزكى لها {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} وكتبه محمد رشيد رضا.

2 المؤلف يكرر هذا المعنى: بركة الحضور، وفي كونه لا شك فيه نظر.

ص: 278

فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل

وإن كان فيما فيه شيب الذوائب

وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب

فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله أدنى المرسلين وسيلة، ولا قوله وكن لي شفيعاً.

أقول: فيه كلام من وجوه:

(الأول) : أن هذه القصة لا بد من بيان سندها حتى ينظر فيه، ودونه لا يعول عليها، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن محمد بن كعب القرظي قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاعداً في المسجد إذ مر به رجل في مؤخر المسجد، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أتعرف هذا الجائي؟ قال: لا، فمن هو؟ قال: هذا سواد بن قارب وهو من أهل اليمن، له فيهم شرف وموضع، وقد أتاه رئيه بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: علي به، فدعي به فقال: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم. قال: أنت الذي أتاك رئيك1 بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال فأنت على ما كنت عليه من كهانتك، فغضب غضباً شديداً وقال: يا أمير المؤمنين ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت! فقال عمر: يا سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك، أخبرني بإتيان رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتاني رئيى فضربني برجله وقال: قم يا سواد ابن قارب، فافهم واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول الله من لؤي بن غالب، يدعو إلى الله عزو جل وإلى عبادته، فذكر القصة بطولها، وفيها إنشاد سواد بن قارب قصيدته تجاه النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها الأبيات المذكورة وفيها قال: ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بإسلامي فرحاً شديداً حتى رؤى ذلك في وجوههم، قال فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه وإلتزمه وقال: قد كنت أحب أن أسمع هذا منك، رواه الطبراني، وفي رواية عنده عن سواد بن قارب الأزدي قال: كنت نائماً على جبل من جبل السراة، فأتاني آت فضربني برجله، وقال فيه: أتيت مكة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد

1 رئيك أي شيطانك الذي تراه، كما في النهاية.

ص: 279

ظهر، فأخبرته الخبر، وكلا الإسنادين ضعيف، اهـ. ما في المجمع.

قلت: قد ثبت منه أن كلاً الإسنادين ضعيف، وفي المتن اضطراب، فتنبه.

و (الثاني) أن قوله: "وإنك أدنى المرسلين وسيلة إلى الله" ليس نصاً على أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وسيلة، بل يحتمل أن يكون المراد أن قربته صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى أكثر من قربة سائر المرسلين إليه، كما أن المراد في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . هي القربة بلا خلاف، وكذلك المراد بها في قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . أو يكون المراد بها الدرجة والمنزلة، فإذاً حاصله أن درجته صلى الله عليه وسلم ومنزلته أقرب إلى الله تعالى من درجة سائر المرسلين، ولو سلم أن المراد أن نفسه صلى الله عليه وسلم وسيلة لنا فلا دليل فيه للتوسل المنهي عنه، فإن كونه صلى الله عليه وسلم وسيلة بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم واسطة تبلغنا أمر الله حق لا ينكره أحد، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما أمر به ونهى عنه، ولا يعرفون ما يستحقه من أسمائه الحسنى وصفاته العلى إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، وكذلك كونه صلى الله عليه وسلم وسيلة في حياته بأن الصحابة رضي الله عنهم متى صدر من أحدهم معصية وذنب جاء إليه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله فعلت كذا وكذا، فاستغفر لي، وإليه الإشارة في قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . وكذلك إذا وقع القحط في زمانه صلى الله عليه وسلم يأتي أحدهم فيقول: يا رسول الله هلكت المواشي وتقطعت السبل، فادع

وهكذا يطلبون الدعاء مه صلى الله عليه وسلم في سائر حاجاتهم كشفاء المريض ورد البصر. وكذلك كونه صلى الله عليه وسلم وسيلة يوم القيامة حيث يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولن: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فنوحاً فإبراهيم فموسى فعيسى فيقول: ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم كما في حديث الشفاعة الطويل "فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه1 ". الحديث، ولكن

1 قوله: "في داره فيؤذن لي عليه" ذكر الحافظ في شرح حديث أنس من كتاب الرقاق في البخاري: أن هذه العبارة من زيادة همام في روايته للحديث. أقول وفسروا داره هنا بحضرة قدسه، وبعضهم بالجنة من قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} . بناء على القول بأن السلام هنا اسم الله عز وجل، وذكر الحافظ ما قيل في الحكمة في انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى دار السلام، وهي أن أرض الموقف مكان مخافة وإشفاق ومقام الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 280

الكلام في التوسل بأن يقال: اللهم إني أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم وهو لا يثبت من قوله "وإنك أدنى المرسلين وسيلة".

و (الثالث) أن طلب الشفاعة منه يوم القيامة لا يجحده مسلم، نعم لا يكون إلا بإذن الله تعالى كما جاء مصرحاً في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فليس في قول "وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة" دليل على مطلوب الخصم.

قوله: وكذا من أدلة التوسل مرثية صفية رضي الله عنها عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها رثته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بأبيات فيها قولها:

ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا

وكنت بنا براً ولم تك جافيا

ففيها النداء بعد وفاته مع قولها، "وأنت رجاؤنا" وسمع تلك المرثية الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر عليها أحد قولها "يا رسول الله أنت رجاؤنا".

أقول: قال في مجمع الزوئد: وعن عروة قال قالت صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لهف نفسي وبت كالمسلوب

أرقب الليل لعلة المحروب

وذكر المرثية بطولها ثم قال: وقالت أيضاً:

ألا يا رسول الله كنت رجاءنا

وكنت بنا براً ولم تك جافيا

وذكر هذه المرثية أيضاً بطولها ثم قال: رواه الطبراني وإسناده حسن1 هذا

1 أنى له الحسن وعروة ولد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بتسع عشرة سنة، فإنه ولد سنة 29هـ كما في التهذيب ونحوه، فإذا كانت روايته عن أبيه مرسلة فكيف روايته عن أم أبيه في قصة وفاة رسول الله التي ولد بعدها بتسع عشرة سنة؟ فهي رواية منقطعة مرسلة، اهـ وكتبه مصححه.

ص: 281

لفظ مجمع الزوائد، قلت: هذه المرثية وإن كان إسنادها حسناً ولكن ليس فيها دليل على التوسل المنهي عنه، فإن لفظ الرجاء بمعنى التوقع والأمل، قال في مجمع البحار: وتكرر فيه الرجاء بمعنى التوقع والأمل، وقال في النهاية: وقد تكرر فيه ذكر الرجاء بمعنى التوقع والأمل، يقال رجوته أرجوه رجواً ورجاءً وجاوة، وقال في القاموس: الرجاء ضد اليأس كالرجو والرجاءة والرجاوة والترجي والارتجاء والترجية، وقال في الصحاح: والرجاء من الأمل ممدود يقال رجوت فلاناً رجواً ورجاء ورجاوة اهـ. وقال في المصباح المنير: رجوته أرجوه رجواً على فعول: أملته أو أردته، قال تعالى:{لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} . أي لا يريدونه، والاسم الرجاء بالمد. اهـ.

ولا يخفاك1 أن الرجاء بمعنى التوقع والأمل مصدر أو اسم مصدر لا يصح حمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموطأة، فإذاً هو إما مبني للفاعل أو للمفعول، لا سبيل إلى الاحتمال الأول وهذا ظاهر، فتعين الثاني، كما في قوله تعالى في سورة هود:{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} . قال البيضاوي تحت هذه الآية: لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، أن تكون لنا سيداً ومستشاراً في الأمور، وفي فتح البيان: أي كنا نرجو أن تكون فينا سيداً مطاعاً ننتفع برأيك، ونسعد بسعادتك، لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، لأنه كان من قبيلتهم، وكان يعين ضعيفهم، ويغني فقيرهم. اهـ.

ولكن لا بد من أن يعلم هناك أن من الرجاء ما هو مختص بالله تعالى بمعنى أن المرجو فيه لا يصلح إلا لله تعالى كرجاء كشف الضر والسوء وتحويله وإجابة المضطر إذا دعاه، وإنزال الماء من السماء وشفاء المريض وبسط الرزق وإعطاء الأولاد ومغفرة الذنوب، وغيرهما مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وهذا الرجاء هو الذي أثنى الله تعالى على فاعليه في قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} . وهو الذي أمرنا الله أن ندعوه متلبساً به2 حيث قال: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} . فعبر عن الرجاء بالطمع.

1 الصواب: لا يخفى عليك.

2 الصواب ملتبسين به.

ص: 282

وهو الذي نهى يعقوب عليه السلام بنيه عن ارتكاب ضده وقد حكاه الله تعالى في كتاب العزيز في قوله: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} وهو الذي أثنى الله تعالى على زكريا عليه السلام وزوجه فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} وهو الذي ذكر إبراهيم عليه السلام في ثناء الله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وهو الذي ذكره الله تعالى في وصف المؤمنين فقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وهو الذي نهى الله تعالى عن ضده فقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} والنهي عن ضد الشيء يقتضي الأمر بذلك الشيء كما تقرر في مقره، وهو الذي أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم به فقال:{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وهو الذي أمر رسول الله أمته بتعظيمه في الدعاء فقال: "إذا دعاء أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه" رواه مسلم من حديث أبي هريرة.

وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" رواه الترمذي، قال العلماء: أي كونوا موقنين بأنه تعالى يجيب الدعاء، لأن فيه صدق الرجاء، والكريم لا يخيب راجيه، وهو المراد في الحديث القدسي:"أنا عند ظن عبدي بي". متفق عليه من حديث أبي هريرة، قال العلماء: الأصح أنه أراد الرجاء وتأميل العفو، فإن ظن العفو فله ذلك، وإن ظن العقوبة فكذلك، وفي حديث قدسي آخر:"يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي". رواه الترمذي من حديث أنس، وهو المراد في الدعاء المأثور:"اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين". رواه أبو داود من حديث أبي بكرة، وفي الدعاء الذي يقرأ إذا أوى إلى فراشه:"اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبت ورهبة إليك" الحديث. متفق عليه من حديث البراء بن عازب.

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق المسور بن مخرمة قال: كانت تلبية عمر، فذكر

ص: 283

مثل المرفوع وزاد: لبيك مرغوباً ومرهوباً ذا النعماء والفضل الحسن، كذا في الفتح.

وهو الذي ينبغي للمكلف أن يكون بينه وبين الخوف حتى لا يكون مفرطاً في الرجاء بحيث يصير من المرجئة القائلين لا يضر مع الإيمان شيء، ولا في الخوف بحيث لا يكون من الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد صاحب الكبيرة -إذا مات من غير توبة- في النار، بل يكون وسطاً بينهما.

أخرج الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال له: "كيف تجدك"؟ فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه ما يرجو وأمنه مما يخاف" ورجاله كلهم ثقات غير جعفر بن سليمان الضبعي وسيار بن حاتم، والأول قال فيه ابن معين: ثقة وقال أحمد: لا بأس به، وقال ابن سعد: ثقة فيه ضعف، وقال الذهبي في الميزان: وهو صدوق في نفسه، وقال في الكاشف: ثقة، وقال الحافظ في التقريب: صدوق زاهد.

وأما الثاني: فقال الذهبي في الميزان: صالح الحديث، وثقه وابن حبان: قيل للقورايري أتتهمه؟ قال: لا. وقال الحاكم: كان سيار عابد عصره، وقد أكثر عنه أحمد بن حنبل، وقال في الكاشف: صدوق، وقال الحافظ في التقريب: صدوق، له أوهام. اهـ. فالحديث صالح لأن يحتج به.

واحتج البخاري على الرجاء مع الخوف بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحد، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار". وهو المراد في قول صلى الله عليه وسلم الذي قاله قبل موته بثلاثة أيام: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله". رواه مسلم من حديث جابر. وهو المراد في حديث أنس المروي بسند ضعيف قال: لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم سفراً قط إلا قال

ص: 284

حين ينهض من جلوسه: "اللهم بك انتشرت1، وإليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم أنت ثقتي وأنت رجائي، اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهتم به وما أنت أعلم به مني، وزودني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير حيث ما توجهت". رواه أبو يعلي، وفيه عمرو بن مساور وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد، قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف، كذا في الميزان.

هذا كله هو الرجاء المختص بالله تعالى، ومنه ما هو جائز في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم في حياته بمعنى أن المرجو منه فيه يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما يقدر عليه الأنبياء عليهم السلام سيما نبينا صلى الله عليه وسلم من صلة الرحم، وحمل الكل، وكسب المعدوم، وقرى الضيف، والإعانة على نوائب الحق، والرحمة بالمؤمنين، والجود والشجاعة والبركة، وقضاء حوائج الأرملة والمساكين واليتامى، وعدم انتقامه لنفسه في شيء قط، وعدم اللوم على شيء قط أتى فيه على يدي أحد، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة دعوة المملوك، والخلق العظيم، وتعليم الأمة الكتاب والحكمة وتزكيتهم، ودعوتهم إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وتبليغ رسالات الرب تعالى، ونصح الأمة، والاستغفار لهم عند صدور الذنوب عنهم، والدعاء لهم في حاجاتهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وإعلاء كلمة الله، والجهاد مع أعداء الله، وتعظيم شعائر الله، وإعزاز المؤمنين، وإذلال الكافرين، وغير ذلك.

وأما كونه صلى الله عليه وسلم رجاء بمعنى المرجو بعد الموت فما ثبت منه بالكتاب والسنة المطهرة فهو على الرأس والعين كالشفاعة يوم القيامة، وأما ما لم يثبت بواحد منهما فهو مردود.

إذا تقرر هذا فاعلم أن معنى ما في المرثية: إنا كنا نرجو برك ورحمتك وشفقتك، يدل عليه قولها:"وكنت بنا براً ولم تكن جافياً، وقولها: "وكان بنا براً رحيما نبينا".

1 في الأصل المطبوع في الهند: "أنتشر" وهو غلط، والانتشار الانبساط والتمدد والتفرق، وهو معنى قوله تعالى:{فَانْتَشِرُوا} في سورتي الأحزاب والجمعة، وفسر ابن الأثير "انتشرت" هنا: بابتدأت سفري الخ. وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 285

والبر والرحمة والشفقة مما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فيجوز رجاء البر والرحمة والشفقة منه صلى الله عليه وسلم، فيكون صلى الله عليه وسلم على هذا مرجوا منه، والبر والرحمة والشفقة مرجوا فيكون الرجاء في الشعر بمعنى المرجو الذي أريد منه المرجو منه وإرادة المرجو منه من المرجو ثابتة كما في قوله تعالى:{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً} ويمكن أن يقال: إن المراد بالرجاء في البيت المرجو، ويقدر التمييز، أي كنت مرجونا براً ورحمة وأمناً من الهرج الآتي بعدك، وبقاء فينا كما في طاب زيد علماً ودارا وغلاماً وفرساً، فالمرجو منه في الأولين هو النبي صلى الله عليه وسلم وفي الأخيرين هو الله تعالى، ويدل على الأخيرين قولها:

لعمرك ما أبكي النبي لموته

ولكن لهرج كان بعدك آتيا

وقولها:

فلو أن رب العرش أبقاك بيننا

سعدنا ولكن أمره كان ماضياً

ويؤيد الأخير قول عمر رضي الله عنه حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: وقال عمر والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، رواه البخاري، من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين، رواه أحمد من طريق يزيد بن بابنوس عن عائشة رضي الله عنها.

وفي حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة أن أبا بكر مر بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين، وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رؤوسهم، كذا في فتح الباري، وفي رواية: والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم، ذكره الطبري في الرياض، وفي رواية: ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا، ذكره الوائلي أبو نصر عبد الله في كتاب (الإبانة) ، كذا في المواهب.

قلت: والرواية الأخيرة موجودة في صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله

ص: 286