المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول فيمن تحققنا حاله من المتوفين بمدينة زبيد وما والاها - طبقات صلحاء اليمن = تاريخ البريهي

[عبد الوهاب البريهي]

فهرس الكتاب

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌القَوْل فِي ذكر من علمنَا حَاله من الْعلمَاء والفضلاء من أهل وصاب وريمة وَمَا والى ذَلِك

- ‌القَوْل فِي ذكر من تحققنا حَاله من أهل بلد حراز وملحان وبرع وَمَا والى ذَلِك

- ‌القَوْل فِي ذكر من تحققنا حَاله من الْأَعْيَان من الْبِلَاد الْفُضَلَاء بمخلاف جَعْفَر وَمَا وَالَاهُ من بعض جهاته على الِاخْتِصَار والاقتصار على ذَوي الْفضل والشهرة بذلك مَعَ حذف ذكر من كَانَ دونهم مِمَّا هُوَ مَذْكُور فِي الأَصْل

- ‌القَوْل فِي ذكر الْفُضَلَاء وَالْعُلَمَاء من أهل مَدِينَة إب

- ‌القَوْل فِي من تحققنا حَاله من الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء من أهل ذِي جبلة مِمَّن اشْتهر وَظهر فَضله وَعلمه وصلاحه فِي المئة التَّاسِعَة من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة

- ‌القَوْل فِيمَن تحققنا حَاله من الْعلمَاء والصلحاء من أهل جبل سورق وبلد العربيين وصهبان والجند ومعشار الدملوة وَمَا والى ذَلِك

- ‌القَوْل فِي ذكر من تحققنا حَاله من الْأَعْيَان من أهل قَائِمَة بني حُبَيْش وَجبن والمقرانة ودمت وخبان والربيعين وَحجر وصهيب وَمَا والى ذَلِك

- ‌القَوْل فِي ذكر من تحققنا حَاله من الْعلمَاء والصلحاء من أهل مَدِينَة تعز وصبر وَذخر وَمَا والاها والوافدين إِلَيْهَا من الْعلمَاء المتوفين بهَا

- ‌القَوْل فِيمَن تحققنا حَاله من أهل موزع والمخا والعارة وحيس والسلامة والحلبوبي وهقرة وَمَا والى ذَلِك

- ‌القَوْل فِيمَن تحققنا حَاله من المتوفين بِمَدِينَة زبيد وَمَا والاها

- ‌القَوْل فِي ذكر من تحققنا حَاله من أهل لحج وعدن وَمن توفّي هُنَاكَ مِمَّن وَفد إِلَيْهَا

- ‌القَوْل فِي ذكر من تحققت حَاله من الوافدين إِلَى الْيمن من الْعلمَاء والفضلاء من أقطار شَتَّى وَلم تكن وَفَاته فِيهِ

الفصل: ‌القول فيمن تحققنا حاله من المتوفين بمدينة زبيد وما والاها

‌القَوْل فِيمَن تحققنا حَاله من المتوفين بِمَدِينَة زبيد وَمَا والاها

فَمنهمْ الإِمَام الْعَلامَة جمال الدّين مُحَمَّد بن مُوسَى بن مُحَمَّد الصريفي الذؤالي هُوَ الإِمَام الحبر الْمُجْتَهد أحد الْأَئِمَّة الْمُحَقِّقين وَالْعُلَمَاء المؤلفين اشْتهر بِمَعْرِِفَة الحَدِيث وَالتَّفْسِير والأصلين والمنطق وَالْأَدب فطار اسْمه واشتهر صيته ودرس وَأفْتى وَأفَاد وتكاثرت عَلَيْهِ الطّلبَة وَقصد للْفَتْوَى من الْبِلَاد الْبَعِيدَة كَانَ أَبوهُ حنفيا ثمَّ انْتقل إِلَى مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي فَلم يزل الإِمَام جمال الدّين شافعيا جلدا قَالَ الإِمَام جمال الدّين بن الْخياط هُوَ عَارِف بالأصلين وَالتَّفْسِير ومعاني الحَدِيث وصنف التصانيف البديعة مِنْهَا كتاب حديقة الأذهان فِي شرح أَحَادِيث فضل الْأَخْلَاق وَالْإِحْسَان وَمن تصانيفه كتاب مَاهِيَّة الْحمى وَكتاب فِي ذكر الصِّرَاط وَكتاب صنفه باسم السُّلْطَان الْأَشْرَف سَمَّاهُ التُّحْفَة الْمُدَوَّنَة فِي أسرار السلطنة وَهُوَ كتاب مُفِيد يحثه على مطالعته وَله مُصَنف سَمَّاهُ السِّرّ الملحوظ فِي حَقِيقَة اللَّوْح الْمَحْفُوظ يدل على غزارة علمه وجودة فهمه فتلقي مِنْهُ بِالْقبُولِ

وَله شعر رائق مِنْهُ مَا قَالَه على صفة النَّصِيحَة والوعظ

ص: 288

(جَانب النَّاس وفر مِنْهُم تعش

عيشة الْأَحْرَار مغتبطا)

(ثمَّ عاشرهم معاشرة

مثل بلواك بهم وسطا)

(لَا تكن مرا فيطرحوك

لَا وَلَا حلوا فتسترطا)

وَله قصيدة كَبِيرَة يصف بهَا نَفسه لما تنقصه بعض من لَا خير فِيهِ أَولهَا

(تصرفت بالتصريف والنحو حِرْفَة

وَعلم الْمعَانِي وَالْبَيَان مَعَ اللغه)

(وبالمنطق العالي تمنطقت واحتوى

على مُشكل التَّفْسِير ذهني وسوغه)

وَهِي طَوِيلَة ذكرت بَعْضهَا فِي الأَصْل وَقد أثنى عَلَيْهِ الإِمَام ابْن حجر وَابْن الْخياط وَلما دخل الإِمَام مجد الدّين الشِّيرَازِيّ قَالَ القَاضِي عَليّ النَّاشِرِيّ وددت أَن الإِمَام جمال الدّين الذؤالي كَانَ حَيا لنتجمل بِهِ عِنْد الشَّيْخ مجد الدّين الشِّيرَازِيّ

وَكَانَت وَفَاته سنة تسعين وسبعمئة وَلم يذكرهُ الخزرجي المؤرخ وَلَا ذكر أَخَاهُ الْآتِي ذكره فَلذَلِك ذكرتهما وَلَعَلَّه جعله فِي الزِّيَادَة الَّتِي فِيهَا فُقَهَاء الْيمن

وَأما أَخُوهُ فَهُوَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْقَاسِم بن مُوسَى بن مُحَمَّد الصريفي الذؤالي فقد قَالَ بعض المعلقين هُوَ الإِمَام الْعَلامَة شرف الدّين برع فِي الْأُصُول

ص: 289

وَالْفِقْه والعربية وَكَانَ يضاهي أَخَاهُ فِي البراعة وَالتَّحْقِيق لجَمِيع الْعُلُوم فدرس وَأفْتى وصنف كتبا كَثِيرَة أَقَامَ فِي مَدِينَة زبيد يُقيد الْفَوَائِد السّنيَّة فازدهت الْبَلَد بِهِ وبأخيه وتكاثرت عَلَيْهِمَا الطّلبَة ثمَّ سَافر إِلَى مَكَّة المشرفة فحج وزار ثمَّ سَافر إِلَى مصر واشتهر فِيهَا وطار اسْمه وأضيف إِلَيْهِ فِيهَا بعض الولايات اللائقة بِحَالهِ فَأَقَامَ بهَا معززا مكرما إِلَى أَن توفّي هُنَاكَ غَرِيبا وَذَلِكَ بعد سنة تسعين وسبعمئة رَحمَه الله تَعَالَى

وَمِنْهُم الْفَقِيه شرف الدّين إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم البومة قَرَأَ على جمَاعَة من أَئِمَّة وقته فِي الْعُلُوم ثمَّ اشْتهر وَغلب عَلَيْهِ معرفَة النَّحْو والتصريف فَكَانَ محققا لذَلِك انْتَهَت إِلَيْهِ الرِّئَاسَة فِي وقته فدرس وَأفْتى وَتخرج على يَده جمَاعَة من اهل مَدِينَة زبيد وَغَيرهم

رَأَيْت مُعَلّقا بِخَط الشَّيْخ الشريف المرتضى بن يحيى بن أَحْمد الحسني قَالَ قَرَأت على الْفَقِيه الأديب الأوحد الأمجد شرف الدّين إِسْمَاعِيل البومة جَمِيع مُقَدّمَة ابْن الْحَاجِب فِي النَّحْو ومقدمته فِي التصريف فَأفَاد لي وأجاد قَالَ وَكَانَت الْقِرَاءَة سنة اثْنَتَيْ عشرَة وثمانمئة انْتهى

وَكَانَ مِمَّن يصحب القَاضِي شرف الدّين إِسْمَاعِيل المقرىء وينقل غَرَائِبه فمما وجدته مُعَلّقا بِخَطِّهِ من إنْشَاء القَاضِي شرف الدّين الْمقري أبياتا تقْرَأ مدحا من أَولهَا وذما من آخرهَا

(طلبُوا الَّذِي نالوا فَمَا حرمُوا

رفعت فَمَا حطت لَهُم رتب)

(وهبوا وَمَا منت لَهُم خلق

سلمُوا فَلَا أودى بهم عطب)

(طلبُوا الَّذِي يُرْضِي فَمَا كسدوا

حمدت لَهُم شيم وَمَا كسبوا)

(غضبوا وَمَا ساءت لَهُم خلق

ستروا فَمَا هتكت لَهُم حجب)

ص: 290

(ذَهَبُوا وَمَا يمْضِي لَهُم أثر

رحموا فَلَا حلت بهم نوب)

(حسب لَهُم يزكو فَمَا سقطوا

كلم لَهُم صدقت فَمَا كذبُوا)

(عصب لَهُم نصرت فَمَا خذلوا

شرفوا فَلَا يدنو لَهُم حسب)

توفّي الْفَقِيه شرف الدّين البومة سنة خمس عشرَة وثمانمئة أَو قبلهَا بِقَلِيل أَو بعْدهَا بِقَلِيل وَدفن بمقبرة مَدِينَة زبيد رحمه الله ونفع بِهِ

وَمِنْهُم الْفَقِيه شُجَاع الدّين معوضة بن مُحَمَّد الشرعبي أَخذ الْعُلُوم عَن جمَاعَة من الشُّيُوخ واجتهد فِي الْعِبَادَة وَظَهَرت لَهُ الكرامات أَخْبرنِي المقرىء شمس الدّين عَليّ الشرعبي قَالَ أَخْبرنِي خَادِم لأخي أَنه كَانَ لَا يزَال مُسْتَقْبل الْقبْلَة إِمَّا يُصَلِّي أَو يذكر الله تَعَالَى أَو يطالع فِي كتب الْعلم وَأخْبر عَنهُ الْخَادِم بكرامة ذكرتها فِي الأَصْل وَتُوفِّي رحمه الله سنة عشر وثمانمئة

وَمِنْهُم الشَّيْخ الْوَلِيّ الصَّالح الْمُسَمّى بريش اشْتهر بِهَذَا الِاسْم لَا غَيره كَانَ رجلا صَالحا فَاضلا زَالَ عقله فضر النَّاس بيدَيْهِ وَكَانَ النَّاس يقصدونه للتبرك بِهِ فيتكلم بأَشْيَاء كَثِيرَة من المغيبات ويكاشف النَّاس بمقصودهم الَّذِي يطْلبُونَ مِنْهُ مِمَّا فِي ضميرهم من غير أَن يكلموه بِشَيْء مِنْهُ وَأخْبر عَنهُ سَيِّدي الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد الجبرتي وَغَيره بكرامات بِمثل ذَلِك وَتُوفِّي بعد سنة عشر وثمانمئة

وَمِنْهُم الشَّيْخ النسابة أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحسن الخزرجي المؤرخ وجدت

ص: 291

مُعَلّقا بِخَط الإِمَام جمال الدّين مُحَمَّد الْأَكْبَر بن الْخياط مَا مِثَاله الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحسن الخزرجي قد سَاق نسبته فِي مَوَاضِع من تصنيفه من ذَلِك شَجَرَة النّسَب من صَنعته ولد بعد الثَّلَاثِينَ وسبعمئة وَعمل فِي زخرفة الْمدَارِس والدور الملوكية واسْمه مُثبت فِي بعض الْمدَارِس كالمدرسة الْأَفْضَلِيَّة وَرُبمَا فوض إِلَيْهِ مُبَاشرَة الْعِمَارَة من السُّلْطَان وَذكر أَنه كَانَ من جملَة المزخرفين فِي دَار الديباج بثعبات ثمَّ قَرَأَ فِي الْأَدَب ونظم الشّعْر خُصُوصا فِي التعصب للقحطانية فَقَالَ قصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِي أَولهَا

(تألق الْبَدْر الكليل فِي الدجى

مرفرفا وهب نشري الصِّبَا)

فَعَاتَبَهُ أديب الْيمن أَبُو الْحسن النَّاشِرِيّ على ذَلِك بقصيدة فَأَجَابَهُ بِنَوْع من المغالطة وَنظر فِي الْأَنْسَاب وصنف كتاب العسجد يشْتَمل على تواريخ عدَّة أَدخل بَعْضهَا فِي بعض وَله تَرْتِيب فُقَهَاء الْيمن اخْتِصَار الجندي أَجَاد فِيهِ وَزَاد جمَاعَة من العصريين وَغَيرهم ورتبه على الْحُرُوف فجَاء فِي ثَلَاثَة مجلدات وَلم يزل يدأب فِي ذَلِك إِلَى أَن توفّي فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وثمانمئة رَحمَه الله تَعَالَى

وَمِنْهُم الشَّيْخ الصَّالح مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم المزجاجي الصُّوفِي كَانَ رجلا فَاضلا صوفيا جليل الْقدر عَظِيم الْحَظ صحب الشَّيْخ أَبَا بكر بن حسان

ص: 292

فِي مبادىء أمره ثمَّ اتَّصل بِصُحْبَة الشَّيْخ إِسْمَاعِيل الجبرتي وَصَارَ من كبار أَصْحَابه الْمشَار إِلَيْهِم وَحج على قدمه مرَارًا هُوَ وَالشَّيْخ أَحْمد الرداد وجد واجتهد فِي سلوك سَبِيل الْقَوْم حَتَّى صَار من رجال الطَّرِيق وَكَانَت أوقاته موزعة الأوراد والدعوات وَالصِّيَام وَالصَّلَاة وَسمع جملَة من كتب الحَدِيث والتصوف على القَاضِي مجد الدّين وَغَيره وَقَرَأَ من لَفظه عوارف المعارف على الشَّيْخ غياث الدّين الْهِنْدِيّ بِجَامِع زبيد وَكَانَ ملازما لمطالعة كتب التَّفْسِير وَالرَّقَائِق والتصوف وَصَحب الْملك الْأَشْرَف ثمَّ ابْنه النَّاصِر وَكَانَت لَهُ منزلَة عالية عِنْدهمَا وَكَانَ كثير الْبر وَالصَّدقَات وَيجْرِي على كثير من أَصْحَابه مَا يكفيهم من النَّفَقَة وَملك من الْأَرَاضِي والنخيل شَيْئا كثيرا وَحصل من الْكتب المفيدة مَا لَا يُحْصى وَأَنْشَأَ مدرسة فِي جنب دَاره وأوقف كتبه فِيهَا وَتزَوج السُّلْطَان الظَّاهِر ابْنَته الطاهرة سيدة النَّاس بعد وَفَاة أَبِيهَا فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وثمانمئة وَكَانَت امْرَأَة صَالِحَة تحب فعل الْخَيْر وَتصل أَصْحَاب والدها وتحسن إِلَيْهِم وَكَانَت وَفَاته شهر ذِي الْقعدَة سنة تسع وَعشْرين وثمانمئة وَقد رثاه بعض الشُّعَرَاء بقصيدة طَوِيلَة قد ذكرتها فِي الأَصْل ذكر فِيهَا مَا مِثَاله

(وَأجل خطب فِي الخطوب مفاجي

نعيي الْوَلِيّ الصَّالح المزجاجي)

(شيخ الشُّيُوخ مُحَمَّد بن مُحَمَّد

كَهْف الصِّفَات وموئل الْمُحْتَاج)

(مُغنِي الْأَيَامَى واليتامى كَفه

بنواله المتفجر الثجاج)

وَمِنْهُم الإِمَام الْعَلامَة جمال الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد بن عبد الله بن شرعان كَانَ إِمَامًا حنفيا سلمت إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة الرياسة واشتهر بِحل المشكلات وَكَانَ متبحرا متفننا بِجَمِيعِ الْعُلُوم قيل لم يكن فِي وقته بِمَدِينَة زبيد من جمع الْعُلُوم مثله جمع اثْنَيْنِ وَعشْرين فَنًّا من الْعُلُوم شَاركهُ النَّاس بِبَعْضِهَا توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثمانمئة رَحمَه الله

ص: 293

وَمن المتوفين بِمَدِينَة زبيد من الوافدين إِلَيْهَا شيخ الْإِسْلَام وَإِمَام الْأَئِمَّة الْأَعْلَام مجد الدّين مُحَمَّد بن يَعْقُوب بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عمر بن إِدْرِيس بن فضل الله بن شيخ الْإِسْلَام أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن يُوسُف الفيروزابادي الْقرشِي الصديقي الْبكْرِيّ التَّيْمِيّ هُوَ رَاكب ذرْوَة الْمَعَالِي والمفاخر الكاسب فَضَائِل المناقب والمآثر أَلْقَت إِلَيْهِ الرِّئَاسَة مقاليدها وملكته السِّيَادَة طريفها وتليدها وأوطأه الْمجد كَاهِله وبوأه الْكَرم مواطنه ناهيك من رجل شهِدت لَهُ بالبلاغة تصانيفه وَدنت على شُعَاع شمسه تواليفه فَهُوَ الَّذِي تدر بمدرار الْفَوَائِد غمائمه وتفتر عَن أزهار الْفَوَائِد كمائمه

ترْجم لَهُ الإِمَام نَفِيس الدّين الْعلوِي رحمه الله فَقَالَ كَانَ رحمه الله فِي الْعلم بِالْمحل الْأَعْلَى وَالْمَكَان الْأَسْنَى إِمَامًا كَبِيرا متضلعا من الْعُلُوم لَهُ فِي كل فن من ذَلِك مصنفات جَيِّدَة وبسطة وَيَد طولى فِي التصنيف وَله قُوَّة قريحة مطاوعة وَقدم فِي الْعُلُوم راسخة قَارِعَة يفوق أَبنَاء جنسه فَلَا يكَاد أحد يضاهيه بل لَا يدانيه وفضائله فِي ذَلِك أَكثر من أَن تحصر يشْهد بهَا وينطق بِصِحَّتِهَا مَا دون من مصنفاته وتواليفه ورسائله ونظمه ونثره وعَلى الْجُمْلَة فَكَانَ أحد أَعْيَان الزَّمَان والمشار إِلَيْهِ بالبنان فِي الْبَيَان وَمِمَّنْ سحب على سحبان ذيل النسْيَان

وَكَانَ مولده بِشَهْر ربيع الآخر سنة تسع وَعشْرين وسبعمئة قَرَأَ على الْأَئِمَّة الْكِبَار مِنْهُم الشَّيْخ الإِمَام الْمسند عز الدّين أبي الْعَبَّاس بن أَحْمد بن المظفر النابلسي الْحَنَفِيّ وَالشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة أبي عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف الْأنْصَارِيّ

ص: 294

الزرندي وَالشَّيْخ صدر الدّين أَبُو عبد الله التَّفْتَازَانِيّ وَالشَّيْخ نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم الفارقي وَالشَّيْخ الإِمَام الْقدْوَة حَافظ الشَّام صَلَاح الدّين خَلِيل بن كيكلدي العلائي وَغَيرهم

وَمن تصانيفه فِي اللُّغَة الْكتاب الْمَشْهُور الْمُسَمّى بالقاموس الْمُحِيط وَكتاب الرَّوْض المسلوف فِيمَا لَهُ اسمان إِلَى أُلُوف وَشرح البُخَارِيّ بشرح سَمَّاهُ منح الْبَارِي فِي شرح البُخَارِيّ وَلم يكمله بلغ بِهِ إِلَى بَاب الْقيام بأَرْبعَة وَعشْرين مجلدا كَمَا وجدته بِخَط القَاضِي صفي الدّين أَحْمد بن أبي بكر البريهي وَمن مصنفاته الصلات والبشر فِي الصَّلَاة على خير الْبشر وَكتاب المعالم المطابة فِي تَارِيخ طابة وَكتاب الْوَصْل والمنى فِي فضل منى وَكتاب إحساس اللطائف بمحاسن اللطايف وَكتاب التُّحْفَة العنبرية فِي مولد خير الْبَريَّة وَله غير ذَلِك من المصنفات

وَقَالَ جمعت الْقَامُوس فِي اللُّغَة مُخْتَصرا من ألف كتاب

ص: 295

وَقَالَ بعض الْعلمَاء وَهُوَ الشَّاهِد الْعدْل على فضل مُصَنفه

وَقيل إِنَّه يَعْنِي الْقَامُوس لَا نَظِير لَهُ وَقد مدحه بَعضهم بقوله وَقيل إِنَّهَا للشَّيْخ إِسْمَاعِيل الْمقري

(مذ مد مجد الدّين فِي أرجائنا

من بعض أبحر علمه القاموسا)

(ذهبت صِحَاح الْجَوْهَرِي كَأَنَّهَا

سحر الْمَدَائِن حِين ألْقى مُوسَى)

وَقيل إنَّهُمَا لَهُ وَقَالَ بَعضهم يحِق لهَذَا المُصَنّف أَن يكْتب بِمَاء الذَّهَب

وَقد سُئِلَ الشَّيْخ مجد الدّين الْمَذْكُور كم كَانَ للشَّيْخ أبي إِسْحَاق من الْوَلَد فَقَالَ كَانَ جدي رحمه الله تزوج امْرَأَة فَحملت بِولد ثمَّ سَافر إِلَى بَغْدَاد فَأَقَامَ بهَا طول عمره وَلم يُولد لَهُ سوى الْوَلَد الَّذِي غَابَ وَامْرَأَته حَامِل بِهِ فَولدت ذَلِك الْحمل وسموه فضل الله وَلم يعلم بِهِ أَبوهُ فولد لفضل الله أَوْلَاد فغرق فِي الْبَحْر وَلم يصل إِلَى أبي إِسْحَاق فَبَلغهُ ذَلِك فَقَالَ

(صبي كَأَن الْمَوْت رق لأَخذه

فلَان لَهُ فِي صُورَة المَاء جَانِبه)

(أَبى الله أَن أنساه دهري لِأَنَّهُ

توفاه فِي المَاء الَّذِي أَنا شَاربه)

(فَمَا ذقت طعم المَاء إِلَّا وجدته

يخاطبني فِي صَفوه وأخاطبه)

وَقد اعْترض الشَّيْخ شهَاب الدّين ابْن حجر وَجَمَاعَة على الشَّيْخ مجد الدّين نِسْبَة الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ إِلَى أبي بكر الصّديق رضي الله عنه وَقَالُوا هَذَا لم يَصح ثمَّ أَنْكَرُوا أَيْضا نِسْبَة الشَّيْخ مجد الدّين إِلَى الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَقد نقل عَن هَذَا الشَّيْخ مجد الدّين أَيَّام مجاورته فِي مَكَّة وَالْقِرَاءَة عَلَيْهِ فَوَائِد يضيق عَنهُ هَذَا

ص: 296

الْمَجْمُوع وَكَانَ أجل مشايخه عِنْده الشَّيْخ عَليّ بن عبد الْكَافِي السُّبْكِيّ

وَكَانَ دُخُول الشَّيْخ مجد الدّين الْيمن سنة سِتّ وَتِسْعين وسبعمئة وَقَالَ الخزرجي كَانَ وُصُوله إِلَى ثغر عدن فَلَمَّا علم السُّلْطَان الْأَشْرَف بن الْأَفْضَل طلبه إِلَى زبيد وَأمر لَهُ بِأَلف دِينَار لقصد الزَّاد فقبضها وَوصل إِلَى زبيد بِشَهْر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة فَأعْطَاهُ السُّلْطَان برسم الضِّيَافَة ألف دِينَار ووالى عَلَيْهِ من إحسانه أَضْعَاف ذَلِك وأضاف إِلَيْهِ من الْأَسْبَاب شَيْئا كثيرا وعكفت عَلَيْهِ الطّلبَة وقرؤوا عَلَيْهِ صَحِيح الإِمَام البُخَارِيّ فَاجْتمع من الْفُقَهَاء وَغَيرهم جمع عَظِيم وَالَّذِي حضر عِنْد ختم الْكتاب نَحْو سبعمئة رجل ثمَّ أضَاف إِلَيْهِ السُّلْطَان من الْأَسْبَاب بِمَدِينَة تعز شَيْئا كثيرا مَعَ مَا وهب لَهُ من النخيل والأراضي بزبيد

فَلَمَّا وصل مَدِينَة تعز عكفت عَلَيْهِ طلبة الْعلم من أَهلهَا وفقهائها وَمن غَيرهم من كل مَكَان فَسَمِعُوا عَلَيْهِ كتب الحَدِيث وَالتَّفْسِير وأفادهم الْفَوَائِد السّنيَّة وَكَانَ كل من قَرَأَ عَلَيْهِ يحضر على مائدته للْأَكْل فَيقدم سماطا أول النَّهَار وسماطا آخِره وَوقت الْقِرَاءَة يَدُور عَلَيْهِم الخدم بمجامر الْعود والعنبر من ابْتِدَاء الْقِرَاءَة إِلَى آخرهَا وَلما توفّي السُّلْطَان الْأَشْرَف واستقام السُّلْطَان النَّاصِر زَاد فِي إكرام الإِمَام مجد الدّين الْمَذْكُور وتعظيمه وولاه الْقَضَاء الْأَكْبَر وَكتب لَهُ منشورا بِإِطْلَاق يَده ونفوذ أمره على كل أحد فِي مملكة السُّلْطَان الْمَذْكُور

وَكَانَت الْعلمَاء فضلا عَن غَيرهم إِذا حَضَرُوا مَجْلِسا هُوَ فِيهِ لزموا الْأَدَب مَعَه فَمن كَانَ مِنْهُم مُفِيدا صَار بَين يَدَيْهِ مستفيدا فيكتبون مُعظم مَا يتَكَلَّم بِهِ ويعلقونه فِي كتبهمْ وَقد قَالَ بَعضهم لبَعض تلامذته إِنَّه أعجمي فَقَالَ تِلْمِيذه قد أحسن الأول بقوله

ص: 297

(وَإِنِّي وَإِن قَالُوا فصيح وأعجم

وَلَيْسَ لقومي يعرب وإياد)

(فقد تسجع الورقاء وَهِي حمامة

وَقد تنطق الأوتار وَهِي جماد)

وَقد مدحه وَأثْنى عَلَيْهِ جمَاعَة من الشُّعَرَاء بقصائد كَثِيرَة وَمِنْهُم تِلْمِيذه الشَّاب التائب والفقيه برهَان الدّين الجحافي وَالْقَاضِي وجيه الدّين النحواني وَغَيرهم ذكرت بَعْضهَا فِي الأَصْل مَعَ زِيَادَة فَوَائِد وفضائل ومراث فَمن أحب ذَلِك فلينظرها مِنْهُ

وَكَانَت وَفَاته بِشَهْر رَجَب سنة سبع عشرَة وثمانمئة رحمه الله ونفع بِهِ آمين وَمن شعره فِي ذكر مَا فِي الْقُرْآن الْعَظِيم

(أَلا إِنَّمَا الْقُرْآن تِسْعَة أحرف

أتيت بِهِ فِي بَيت شعر بِلَا خلل)

(حَلَال حرَام مُحكم متشابه

بشير نَذِير قصَّة عظة مثل)

وَمِنْهُم الْعَلامَة الْمُحدث جمال الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْعلوِي قد تقدم رفع نسبه عِنْد ذكر أَبِيه وأخيه الإِمَام نَفِيس الدّين سُلَيْمَان الْعلوِي كَانَ هَذَا الإِمَام جمال الدّين عَالما عَاملا مُحدثا شُيُوخه فِي الحَدِيث بعض شُيُوخ أَخِيه وَلِهَذَا زِيَادَة فِي الْمَشَايِخ اشْتهر بِمَدِينَة زبيد بِمَعْرِِفَة الحَدِيث كشهرة أَخِيه الإِمَام نَفِيس الدّين بِمَدِينَة تعز وَالْجِبَال وعكفت عَلَيْهِ الطّلبَة فَأفَاد وأجاد وَفتح عَلَيْهِ من الدُّنْيَا برزق كثير اسْتَعَانَ بِهِ على نشر الْعلم فَكَانَ هَذَا الإِمَام ينْفق على جمَاعَة من أَقَاربه مِمَّن لَا تجب عَلَيْهِ نَفَقَتهم ويكسوهم وَقد ابْتُلِيَ بداء الجذام فَصَبر على ذَلِك وَلم تَنْصَرِف الطّلبَة عَنهُ بل قصدته للتدريس وَالْفَتْوَى وَهُوَ بِهَذَا الْمَرَض وَكَانَ حَنَفِيّ الْمَذْهَب وَسَنَده فِي الحَدِيث عَال وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثمانمئة رَحمَه الله تَعَالَى

وَمِنْهُم المقرىء الصَّالح شرف الدّين أَبُو الْقَاسِم بن مُحَمَّد الْمَشْهُور بالسهامي قَرَأَ

ص: 298

على ابْن شَدَّاد وعَلى غَيره فِي الْقرَاءَات السَّبع والنحو واشتهر بِمَعْرِِفَة ذَلِك فَكَانَ هُوَ المقرىء الْمشَار إِلَيْهِ بِمَدِينَة زبيد فِي وقته عَالما صَالحا عابدا درس وَأفَاد وَأجْمع أهل وقته على صَلَاحه وجلل وَأكْرم واحترم ودام على الْحَال المرضي إِلَى أَن توفّي سنة سبع عشرَة وثمانمئة رَحمَه الله تَعَالَى ونفع بِهِ

وَمن أَوْلَاده الْفَقِيه شهَاب الدّين أَحْمد نَشأ بِمَدِينَة زبيد فَقَرَأَ بفن الْأَدَب على جمَاعَة من الْأَئِمَّة أَجلهم الشَّيْخ الْعَلامَة بدر الدّين الدماميني الإسْكَنْدراني وَأَجَازَ لَهُ وَكَانَ مَشْهُورا بالمعرفة فِي الْأَدَب وَقَرَأَ بِغَيْرِهِ فِي سَائِر الْعُلُوم فشارك بذلك واشتهر بالبلاغة وَحسن الْخط وانتقل من مَدِينَة زبيد إِلَى مَدِينَة إب فَأَقَامَ بهَا معتكفا فِي الْمَسَاجِد مُجْتَهدا بِالْعبَادَة كثير الصمت دَائِم الْفِكر إِلَى أَن توفّي بهَا سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثمانمئة وَدفن بهَا رَحمَه الله تَعَالَى

وَمِنْهُم الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم شيخ شُيُوخ المتصوفة بزبيد ذُو الْمَوَاهِب والمناقب شهَاب الدّين أَحْمد بن الشَّيْخ الصَّالح رَضِي الدّين أَبُو بكر بن الرداد الْقرشِي الشَّافِعِي قَالَ فِيهِ الشَّاب التائب هُوَ الشَّيْخ الْعَالم الرباني مظهر سر الْمظهر الإنساني شيخ الْمَشَايِخ عين أَعْيَان السَّادة القادرية طراز حلَّة الْبِلَاد اليمنية غزالي زَمَانه فشيري أَوَانه سهروردي عصره أحد العارفين والمتكلمين وعدة السالكين والناسكين قَالَ بعض معلقي مناقبه تعلم الْقُرْآن وَحفظه صَغِيرا ثمَّ قَرَأَ بِالْعَرَبِيَّةِ فبرع بهَا ثمَّ قَرَأَ بالفقه وانتفع وَأَجَازَ لَهُ الْأَئِمَّة الْكِبَار ثمَّ دخل طَريقَة الْقَوْم يَعْنِي الصُّوفِيَّة فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وسبعمئة وَكَانَت لَهُ رياضة حَسَنَة اجْتهد فِيهَا نَحْو

ص: 299

عشْرين سنة حَتَّى رقي من رتب الْمَعَالِي فعلاها وحوى من الْعُلُوم الإلهية فحواها وَلزِمَ مجْلِس الشَّيْخ الْمَعْرُوف إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الجبرتي وَحج سِنِين مُتعَدِّدَة مِنْهَا سنة على قدم التجرد إِلَى مَكَّة المشرفة ثمَّ إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَحصل من الْعلم مَا لم يحصله غَيره وصنف فِي طَرِيق الصُّوفِيَّة تصانيف مِنْهَا كتاب تَلْخِيص الْقَوَاعِد الوفية فِي أصل خرقَة الصُّوفِيَّة وَكتاب عدَّة المرشدين وعمدة المسترشدين وَله غير ذَلِك نظما ونثرا ونال الْحَظ الأوفر عِنْد السُّلْطَان الْأَشْرَف بن الْأَفْضَل ثمَّ عِنْد وَلَده النَّاصِر فقربه وَجعله من خواصه فَتزَوج السُّلْطَان من أهل بَيته وأضاف إِلَيْهِ الْقَضَاء الْأَكْبَر فِي شَوَّال سنة سبع عشرَة وثمانمئة وَذَلِكَ بعد موت الشَّيْخ مجد الدّين الشِّيرَازِيّ وَكَانَت سيرته فِي الْوَظِيفَة سيرة مرضية وسعى فِي اسْتِخْرَاج الْوَقْف الَّذِي قد كَانَت الْمُلُوك أدخلته فِي دفاترهم وَصَرفه مصرفه وَرفع الوفر الَّذِي كَانَ يقبضهُ الْمُلُوك من الْوَقْف ثمَّ لما كَانَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وثمانمئة حصل بَين الْفَقِيه شرف الدّين إِسْمَاعِيل بن أبي بكر المقرىء وَالشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن أبي بكر الرداد أُمُور وأحداث أدَّت إِلَى ظُهُور الشقاق وَسُوء الْأَخْلَاق وَبَالغ الشَّيْخ شرف الدّين فِي الْإِنْكَار على الشَّيْخ شهَاب الدّين فِي إِظْهَار السماع وَمَا لَا يجوز مِمَّا يَفْعَله المتصوفون مِمَّا لَا ترتضيه الشَّرِيعَة وَعمل فِي ذَلِك قصائد مِنْهَا القصيدة الَّتِي أَولهَا

(إِن الشَّرِيعَة ذلت بعد عزتها

وَأصْبح الراس مِنْهَا مَوضِع الذَّنب)

ص: 300

وَكَانَت الْعَاقِبَة إِلَى الْإِصْلَاح وتسكين هَذِه الثائرة بِأَمْر السُّلْطَان النَّاصِر

وللشيخ شهَاب الدّين الرداد شعر حسن من ذَلِك مَا قَالَه عِنْدَمَا جرت المشاجرة بَينه وَبَين الْفَقِيه شرف الدّين إِسْمَاعِيل المقرىء

(ملاحاة الرِّجَال أضرّ شَيْء

على الْإِنْسَان فِي كل الْأُمُور)

(إِذا لم يلحقوه غَدا بِسوء

فهم رقباؤه أَبَد الدهور)

وَله فِي الْغَزل قصائد كَثِيرَة مِنْهَا القصيدة الطَّوِيلَة الَّتِي أَولهَا

(شغلي بذكرك عِنْدِي خير أشغالي

يَأْمَن لَهُ كل أقوالي وأفعالي)

(ملكتني مِنْك بِالذَّاتِ الَّتِي اشْتَمَلت

على حقائق أسراري وأحوالي)

وَله فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك

(تورع ودع مَا قد يريبك كُله

جَمِيعًا إِلَى مَا لَا يريبك تسلم)

(وحافظ على أعضائك السَّبع جملَة

وراع حُقُوق الله فِي كل مُسلم)

(وَكن رَاضِيا بِاللَّه رَبًّا وحاكما

وفوض إِلَيْهِ فِي الْأُمُور وَسلم)

وعَلى الْجُمْلَة فقد كَانَ هَذَا الشَّيْخ شهَاب الدّين مِمَّن جمع بَين الْعلم وَالْعَمَل وتخلق بأخلاق الصَّالِحين وتهدى بهديهم وتأدب بآدابهم حوى جملا من المحاسن من سَلامَة الصَّدْر ورقة الْقلب وصفاء الخاطر وَشرف النَّفس وكرم الْأَخْلَاق والإغضاء وَهَذَا مَعَ الجاه العريض وَالْكَرم المستفيض ودام على الْحَال المرضي إِلَى أَن توفّي بِشَهْر ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَعشْرين وثمانمئة وَدفن بمقابر مَدِينَة زبيد فِي الْقبَّة الَّتِي دفن فِيهَا الشَّيْخ أسماعيل الجبرتي

وَحكي أَن الإِمَام إِسْمَاعِيل المقرىء رَآهُ فِي الْمَنَام بعد وَفَاته بهيئة حَسَنَة غبطه عَلَيْهَا

ص: 301

رحمهمَا الله تَعَالَى ونفع بهما

وَمِنْهُم الإِمَام الْعَلامَة فَخر الْيمن وبهجة الزَّمن شرف الدّين إِسْمَاعِيل بن أبي بكر المقرىء الشاوري كَانَ إِمَامًا يضْرب بِهِ الْمثل فِي الذكاء مرتقيا أَعلَى ذرْوَة الْفضل بِلَا امتراء نادرة الدَّهْر وَأعظم فضلاء الْعَصْر مَلأ بِعِلْمِهِ الصُّدُور والسطور وَأَبَان بمشكاة فهمه مَا كَانَ عويصا على أَعْلَام الصُّدُور لَهُ المصنفات الْكَثِيرَة الَّتِي سَارَتْ بهَا الركْبَان والفوائد الجليلة المستفيضة فِي الْبلدَانِ برز فِي ميدان الْفَضَائِل وَأمن من النَّاظر والمناضل فَلَيْسَ يباريه مبار وَلَا يجاريه إِلَى غَايَة الْفضل مجار أصل بلد أَبِيه بلد بني شاور وَهِي بَلْدَة مَعْرُوفَة ثمَّ انْتقل إِلَى بَيت حُسَيْن فَأَقَامَ بهَا ثمَّ نَشأ لَهُ هَذَا الْوَلَد النجيب فَقَرَأَ على وَالِده طرفا من الْعلم ثمَّ انْتقل إِلَى مَدِينَة زبيد فَقَرَأَ على الإِمَام جمال الدّين الريمي وعَلى غَيره من الْعلمَاء فِي الْفِقْه والنحو واللغة والْحَدِيث حَتَّى برع بذلك وفَاق أَبنَاء جنسه واعترفوا بفضله وَكَانَت لَهُ قريحة مطاوعة وبديهة عَجِيبَة فَأَنْشَأَ قصيدة إِلَى الْوَزير بن معيبد فَأعْطَاهُ نَحْو ألف دِينَار ثمَّ أنشأ أُخْرَى إِلَى السُّلْطَان الْأَشْرَف بن الإفضل فقرضها لَهُ الْوَزير بن معيبد فَأَجَازَهُ السُّلْطَان عَلَيْهَا بألوف واشتهر شعره فَعلم بذلك وَالِده فَكتب إِلَيْهِ ينهاه عَن الِاشْتِغَال بِغَيْر علم الشَّرْع وعاتبه على هجره لَهُ وَكتب إِلَيْهِ شعرًا فِي القصيدة الْمَعْرُوفَة الَّتِي أَولهَا يحثه فِيهَا على طلب الْعلم الشريف وَيتْرك الشّعْر ويصل وَالِديهِ

(روض الْبِدَايَة بَانَتْ مِنْك يَا وَلَدي

أريضة غضة مطلولة نظره)

فامتثل أَمر وَالِده وَترك الِاشْتِغَال بقول الشّعْر وواصل وَالِديهِ ووقف عِنْدهمَا

ص: 302

واجتهد بِطَلَب الْعلم الشريف ثمَّ بالتدريس ثمَّ بالتصنيف ثمَّ سَافر إِلَى مَكَّة المشرفة فِي السّنة الَّتِي لزم الشريف حسن بن عجلَان الَّتِي أَولهَا

(أَحْسَنت فِي تَدْبِير أَمرك يَا حسن

وأجدت فِي تَحْلِيل أخلاط الْفِتَن)

وَهِي قصيدة طَوِيلَة قَالَ فِيهَا

(مُوسَى هزبر لَا يُطَاق نزاله

فِي الْحَرْب لَكِن أَيْن مُوسَى من حسن)

(بِعْ مِنْهُ مهجته وَخذ مَا عِنْده

ثمنا يكن مِنْهُ الْمُثمن وَالثمن)

وَلما دخل على الشريف حسن الْمَذْكُور أنْشدهُ ارتجالا

(أتيت مُسلما وَمن الرجالة

أقوم مودعا خوف الثقاله)

(فَإِن ترض الْوَدَاع شكرت حَالي

وَإِن لَا يرتضيه فشكرها لَهُ)

فَأكْرمه الشريف غَايَة الْإِكْرَام وَأحسن إِلَيْهِ غَايَة الْإِحْسَان ثمَّ عَاد من الْحَج إِلَى مَدِينَة زبيد وآلى على نَفسه أَن لَا يَقُول شعرًا بعد أَن أنشأ بَيْتَيْنِ هما

(بِعَين الشّعْر أبصرني أنَاس

فَلَمَّا سَاءَنِي أخرجت عينه)

(خُرُوجًا بعد رَاء كَانَ رَأْي

فَصَارَ الشّعْر مني الشَّرْع عينه)

واجتهد بالتدريس وَالْفَتْوَى والتصنيف وَكَانَ غواصا فِي الْمعَانِي الدقيقة وصنف كتاب عنوان الشّرف وَهُوَ الْكتاب الَّذِي لم يسْبق إِلَى مثله جمع فِيهِ

ص: 303

خَمْسَة عُلُوم علم يُؤْخَذ من أول السطور وَعلم من آخرهَا وعلمان من أوسطها وَجعل أصل الْكتاب فقها وَهُوَ مَعْرُوف وَقد قَالَ الأديب إِبْرَاهِيم الأخفافي فِي هَذَا الْكتاب مادحا مَا مِثَاله

(فَهَذَا كتاب لَا يصنف مثله

لصَاحبه الْأجر الْعَظِيم من الْخط)

(عرُوض وتاريخ وَنَحْو مُحَقّق

وَعلم القوافي وَهُوَ فقه أولى الْحِفْظ)

وَقد اختصر الإِمَام شرف الدّين الرَّوْضَة مُخْتَصرا سَمَّاهُ الرَّوْض وَاخْتصرَ الْحَاوِي الصَّغِير بكتابه الْإِرْشَاد ثمَّ شَرحه شرحا مُبينًا سَمَّاهُ التمشية بمجلدين وَهُوَ شرح مُفِيد

وَمِمَّا جمعه الْمَسْأَلَة الْمَشْهُورَة فِي المَاء المشمس الَّذِي قَالَ فِي آخرهَا بلغت الْمسَائِل الَّتِي لَا خلاف فِيهَا ثلاثمئة ألف مَسْأَلَة وَسَبْعَة وَخمسين ألفا ومئة وَعشْرين وَالَّتِي فِيهَا خلاف ألفي ألف وخمسمئة ألف واثنين وَسبعين ألفا فِي كل مَسْأَلَة وَجْهَان قَالَ فجملة الْوُجُوه فِي الْمَسْأَلَة فِي المَاء المشمس خَمْسَة آلَاف ألف وَجه ومئة ألف وَأَرْبَعَة وَثَمَانُونَ ألف وَجه

وَقد قَالَ الإِمَام ابْن النَّحْوِيّ فِي أُمْنِية النبيه وَصلهَا بعض طلبتي بِالضَّرْبِ إِلَى ثلاثمئة ألف وَجه وَتِسْعين ألفا ومئتين وَسِتَّة عشر وَجها

وَللْإِمَام شرف الدّين من الْفَوَائِد الجليلة والرسائل العجيبة مَا يبلغ مَجْمُوعه مجلدات كَثِيرَة وَقد تقدم أَنه ترك الشّعْر ودام على ذَلِك ثَمَانِي سِنِين حَتَّى أمره السُّلْطَان

ص: 304

النَّاصِر أَن ينظم بديعية على منوال بديعية الصفي الْحلِيّ فَكفر عَن يَمِينه الَّتِي كَانَ حَلفهَا ونظم البديعية الَّتِي أَولهَا

(شارفت ذرعا فذر عَن مَائِهَا الشبم

وَجَرت نملا فنم لَا خوف فِي حرم)

ضمنهَا مدح النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأودعها أَنْوَاع البديع وَهِي قصيدة مَشْهُورَة مِمَّا قَالَ فِيهَا

(يَا أَحْمد الرُّسُل هَذَا أَحْمد الخلفا

بِالْملكِ هَذَا الْمُسَمّى بِاسْمِك الْعلم)

(فجازه عَن مديحي فَهُوَ باعثه

وجازني فِي انتقاء الدّرّ وَالْحكم)

وَجعل بِهَذِهِ القصيدة خطْبَة حكى فِيهَا تَركه الشّعْر وَمَا فعله إِلَّا امتثالا لأمر السُّلْطَان لَهُ

وَأما قصيدته الْمَشْهُورَة فِي الْوَعْظ الَّتِي تناقلها الركْبَان إِلَى الْبلدَانِ الشاسعة وَهِي الَّتِي أَولهَا

(إِلَى كم تماد فِي غرور وغفلة

وَكم هَكَذَا نوم إِلَى غير يقظه)

فقد فاق فِيهَا على اهل زَمَانه وَلم يَأْتِ أحد بِمِثْلِهَا فِي وقته

وَأما رده وإنكاره على من قَرَأَ كتب ابْن عَرَبِيّ وَإِبْطَال مَا فِيهَا من المقالات الْمُنكرَة بالحجج الْوَاضِحَة فَذَلِك مَشْهُور حَتَّى بلغ شهرة ذَلِك إِلَى مصر وَالشَّام ووقف عَلَيْهَا الْعلمَاء من أهل مصر وَالشَّام

ص: 305

وَقَالَ فِي مدح الْفَقِيه شرف الدّين ابْن قَاضِي شُهْبَة فِي تَارِيخه بِمَا مِثَاله هُوَ شامخ الْعرنِين والحسب ومنقطع القرين فِي علم الْأَدَب نَاظر أَتبَاع ابْن عَرَبِيّ فعميت عَلَيْهِم الْأَبْصَار ودمغهم بأبلغ حجَّة فِي الْإِنْكَار وَله فيهم غرر القصائد مُشِيرا إِلَى تَنْزِيه الصَّمد الْوَاحِد

وَلما وَفد الإِمَام ابْن حجر إِلَى الْيمن وَأقَام فِي زبيد أَيَّامًا كتب إِلَيْهِ الإِمَام شرف الدّين بِمَا مِثَاله

(قل لِلشِّهَابِ ابْن عَليّ بن حجر

سورا على مودتي من الْغَيْر)

(فسور ودي مِنْك قد بنيته

من الصَّفَا والمروتين وَالْحجر)

فَاسْتحْسن ذَلِك الإِمَام ابْن حجر اسْتِحْسَانًا عَظِيما وَقَالَ لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يَأْتِي بِمِثْلِهَا وأجابه بقوله

(عوذت سور الود مِنْك بالسور

فَهُوَ على الْعليا بالحكم حجر)

(يَا من رقى بالمجد انهى غَايَة

بِالْحَقِّ أعيت من بَقِي وَمن غبر)

(فضل سواك مدعي أَو نَاقص

كَأَنَّهُ إِن أَتَت بِلَا خبر)

(لأَنْت إِسْمَاعِيل بِالصّدقِ لَهُ

وصف على كل الورى بِهِ قد افتخر)

وَتركت بَاقِيهَا اختصارا وَكفى للفقيه شرف الدّين فخرا مدح الإِمَام ابْن حجر لَهُ ثمَّ مَا صنفه من المصنفات البليغة الَّتِي لم يَأْتِ أحد بِمِثْلِهَا ثمَّ بَاقِي مناقبه وفوائده كَثِيرَة وَقد ذكرت من اشعاره فِي الأحجيات والرسالات والإنشاءات بَعْضهَا فِي الأَصْل وَأما جملَة ذَلِك فَلَا ينْحَصر وَقد أجمع أهل عصره على أَنه كَانَ إِمَامًا جَامعا لأسباب الْعُلُوم على اخْتِلَاف أجناسها وأنواعها وَأَنه أشهر من أَن يصفه واصف وَعمر

ص: 306

عمرا طَويلا حَتَّى نَيف على الثَّمَانِينَ من مولده ثمَّ توفّي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثمانمئة رحمه الله ونفع بِهِ

وَمِنْهُم ذُرِّيَّة الشَّيْخ الهتار نفع الله بِهِ فقد ذكر المؤرخون جدهم وَأَنه مقبور فِي التريبة هُوَ وَجَمَاعَة من أَوْلَاده وَأَوْلَاد أَوْلَاده وأثنوا على من يسْتَحق الثَّنَاء مِنْهُم ثَنَاء مرضيا وأرخوا وَقت وفاتهم

وَأما الَّذين توفوا بِمَدِينَة زبيد فأشهرهم الشَّيْخ الصَّالح طَلْحَة وَقد ذَكرُوهُ أَيْضا وأثنوا عَلَيْهِ وأرخوا وَقت وَفَاته سنة ثَمَانِينَ وسبعمئة

واشتهر من أَوْلَاده الشَّيْخ الْوَلِيّ الصَّالح جمال الدّين مُحَمَّد الْغَزالِيّ بن طَلْحَة الْمُقدم الذّكر كَانَ زاهدا عابدا لَهُ الْقدَم الراسخة فِي التَّمَكُّن من المعارف شرب مِنْهَا الكأس الإوفى وَالْمشْرَب الأصفى دأبه ذكر الله تَعَالَى والتلاوة ومطالعة الْكتب الزهدية وَالْعُزْلَة عَن النَّاس فِي مُعظم الْأَوْقَات وَقد مدحه الإِمَام الدماميني ببيتين من الشّعْر فأودعهما نوعا من البديع فَقَالَ

(شيخ روى عَن طَلْحَة حبر التقى

وَله اسانيد بِذَاكَ عوالي)

(أَحْيَا لياليه بِطَاعَة ربه

لَا يُنكر الاحياء للغزالي)

وَقد أَخْبرنِي بعض الثِّقَات أَنه اشتهرت لَهُ كرامات وَأجْمع كل من يعرف هَذَا الشَّيْخ أَنه من الصَّالِحين وَمن الْعلمَاء الزاهدين فَكَانَ بَيته مُحْتَرما بِمَدِينَة زبيد يأوي إِلَيْهِ كل خَائِف فَيَأْمَن وَمن كَانَ لَهُ جَار فَلَا يهتضم وَكَانَت الْمُلُوك وأعوانهم يجلون هَذَا الشَّيْخ ويحترمونه لمكانته وَلَا يردون شَفَاعَته وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن توفّي سنة تسع

ص: 307

وَعشْرين وثمانمئة رَحمَه الله تَعَالَى

وَخَلفه من بعده وَلَده الشَّيْخ الصَّالح عفيف الدّين عِيسَى نَشأ على سيرة شَيْخه ووالده الشَّيْخ الْغَزالِيّ فِي الْعِبَادَة وَالِاجْتِهَاد بِأَفْعَال الْخَيْر مَقْصُودا للمهمات وتقضى على يَدَيْهِ الْحَاجَات وَكَانَ يزور قبر وَالِده كل يَوْم هُوَ وَجَمَاعَة من أَصْحَابه فيشرعون بِقِرَاءَة ختمة شريفة فَلَا يقومُونَ حَتَّى يختموها ثمَّ يدعونَ الله تَعَالَى ثمَّ يَنْصَرِفُونَ وَلم يزل الشَّيْخ عِيسَى على الطَّرِيقَة المحمودة إِلَى أَن توفّي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى بعد أَن ظَهرت لَهُ كرامات وَقد حُكيَ عَنهُ كرامات بعد مَوته وَكَانَت وَفَاته سنة سبع وَأَرْبَعين وثمانمئة وقبر بالقبة الَّتِي دفن فِيهَا وَالِده رحمهمَا الله تَعَالَى

وَمِنْهُم أَخُوهُ الشَّيْخ عفيف الدّين عبد اللَّطِيف بن الشَّيْخ جمال الدّين مُحَمَّد الْغَزالِيّ الْمُقدم الذّكر كَانَ مشاركا بِشَيْء من الْعُلُوم ملازما لطريقة الصُّوفِيَّة يغلب عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد بِالْعبَادَة ورزق ارْتِفَاع الْمَكَان عِنْد السُّلْطَان الْمَنْصُور الرسولي فَلَمَّا مَاتَ الْمَنْصُور أخمل وَكَانَت الرِّئَاسَة لِأَخِيهِ الشَّيْخ عِيسَى الْمُقدم الذّكر ثمَّ سَافر الشَّيْخ عبد اللَّطِيف إِلَى مَكَّة المشرفة فحج وزار ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَدِينَة زبيد وَأقَام بهَا إِلَى أَن توفّي سنة خمسين وثمانمئة

وَكَانَ لَهُ شعر جيد مِنْهُ مَا قَالَه لما رأى الْكَعْبَة المشرفة

(يَا طَالب الْمَعْرُوف من ينبوعه

أبشر فقد أدْركْت لَك طلاب)

(أَتعبت نَفسك طَالبا متماديا

رزقا فهذي كعبة الطلاب)

(من حَيْثُ جِئْت فول وَجهك شطرها

متمسكا بالستر والأهداب)

ص: 308

(لَا تفزعن إِلَى اللئام بحاجة

فهم الْكلاب دناءة وخساسة)

(بل فاطرحنهم واجتنبهم رافضا

لَهُم فَلَا تحدث لديك نَجَاسَة)

وَمن أهل زبيد الْفَقِيه الْعَلامَة تَقِيّ الدّين عمر بن المنقش أخْبرت أَنه كَانَ من الْعلمَاء العاملين وَمن عباد الله الصَّالِحين قَرَأَ على جمَاعَة من أَئِمَّة وقته واشتهر بِالْعبَادَة والزهادة ودرس وَأفْتى وَتخرج بِهِ جمَاعَة من أهل مَدِينَة زبيد وَغَيرهم وَلم أتحقق تَارِيخ وَفَاته

وَمِنْهُم وَلَده النجيب شهَاب الدّين أَحْمد قَرَأَ على وَالِده وعَلى جمَاعَة من فُقَهَاء مَدِينَة زبيد فِي الْعُلُوم الْفِقْهِيَّة والنحوية وَفِي الحَدِيث النَّبَوِيّ فَكَانَ مشاركا بِهَذِهِ الْعُلُوم وينوب بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة بِمَدِينَة زبيد للْقَاضِي أبي الْفضل النَّاشِرِيّ فِي بعض الْأَيَّام فحمدت سيرته وتصدر للتدريس فِي الحَدِيث وَأثْنى عَلَيْهِ جمَاعَة بِالْحِفْظِ والذكاء وَاخْتصرَ صَحِيح البُخَارِيّ فَجعله مثل المسندات يذكر الصَّحَابِيّ ثمَّ يذكر جَمِيع مَا رَوَاهُ من الْأَحَادِيث وَجعله باسم السُّلْطَان الظَّاهِر وَنسبه إِلَيْهِ توفّي هَذَا الْفَقِيه شهَاب الدّين الْمَذْكُور بعد سنة ثَلَاثِينَ وثمانمئة رَحمَه الله تَعَالَى

وَمِنْهُم الإِمَام عفيف الدّين عُثْمَان بن عَليّ الْأَحْمَر قَرَأَ بالفقه والْحَدِيث والنحو على جمَاعَة من الْعلمَاء من بني النَّاشِرِيّ وَغَيرهم بِمَدِينَة زبيد وَأَجَازَ لَهُ الشَّيْخ مجد الدّين الشِّيرَازِيّ ونفيس الدّين الْعلوِي وَكَانَ رَفِيقه فِي الْقِرَاءَة القَاضِي جمال الدّين الطّيب بن أَحْمد النَّاشِرِيّ فَقَالَ لَهما الإِمَام الْعلوِي أما أَنْت يَا فَقِيه عُثْمَان فقد نفعك الله بِكَثْرَة جهدك وَأما أَنْت يَا طيب فقد نفعك الله ببركة والدك واشتهر بعد موت الإِمَام جمال الدّين الْعلوِي بِعلم الحَدِيث ولازم الْعِبَادَة والزهادة وَظَهَرت لَهُ الكرامات واعتقد أهل الْبَلَد فِيهِ الْخَيْر وَالصَّلَاح وَكَانَ بِهِ صمم قَلِيل لَا يسمع إِلَّا

ص: 309

من رفع صَوته وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثمانمئة رَحمَه الله تَعَالَى

وَمِنْهُم الإِمَام الْعَلامَة الْوَاعِظ كَمَال الدّين مُوسَى بن مُحَمَّد الضجاعي قَرَأَ وَسمع على الْأَئِمَّة من بني النَّاشِرِيّ وَغَيرهم وأجازوا لَهُ فدرس وَأفْتى وأضيف إِلَيْهِ الخطابة بِجَامِع زبيد فَكَانَ لوعظه موقع فِي الْقُلُوب ودام على ذَلِك مُدَّة طَوِيلَة وَقد أثنى عَلَيْهِ الإِمَام بدر الدّين حسن بن مُحَمَّد الشظبي ومدحه بِأَبْيَات فَقَالَ

(إِذا رمت من وعظ شِفَاء فَإِنَّهُ

بوعظ كَمَال الدّين للداء يستطب)

(يَقُول مقَالا مستطابا لصدقه

وَكم من مقَال لم يلذ ويستطب)

(إِذا مَا ترقى منبرا فاح عنبرا

وساعده فصل الْخطاب إِذا خطب)

(فموسى بِهِ يوسي الكليم من الأسى

على مَا أسى والمستقر الرسوخ طب)

(فدامت بِهِ للدّين قُرَّة أعين

وَبلغ من خير الحياتين مَا أحب)

انْتَهَت إِلَيْهِ الرِّئَاسَة فِي علم الحَدِيث بعد موت الْفَقِيه عُثْمَان الْأَحْمَر وَكَانَ يدرس فِي علم الحَدِيث فِي الثَّلَاثَة الْأَشْهر رَجَب وَشَعْبَان ورمضان ويدرس فِي الْفِقْه بَاقِي السّنة وصنف كتابا سَمَّاهُ غَايَة الأمل فِي فصل الْعلم وَالْعَمَل وصنف غير ذَلِك واشتهر هَذَا الْفَقِيه بِالْعبَادَة والزهادة وَنسب إِلَيْهِ شَيْء من الكرامات وَتُوفِّي بِشَهْر ربيع الآخر سنة إِحْدَى وَخمسين وثمانمئة وعمره ثَمَانُون سنة

وَمِنْهُم الْعَلامَة الإِمَام شمس الدّين عَليّ بن مُحَمَّد قحر قَرَأَ على أَئِمَّة أجلة كثيرا من أبلغهم فِي الْفِقْه جمال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله الريمي وَالْإِمَام مجد الدّين

ص: 310

الشِّيرَازِيّ وَالْإِمَام نَفِيس الدّين الْعلوِي فِي الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَكَانَ من أكَابِر الْعلمَاء الْمُفْتِينَ والمدرسين بِمَدِينَة زبيد وَهُوَ من شيوخي فِي علم الحَدِيث ورتب إِمَامًا بِمَسْجِد الأشاعر ودام على ذَلِك مُدَّة طَوِيلَة وَكَانَ القَاضِي شرف الدّين المقرىء معاصرا لَهُ وَقد يتَّفق بَينه وَبَينه اخْتِلَاف فِي مسَائِل فَيَأْتِي الْفَقِيه شمس الدّين بن قحر بنصوص الشَّافِعِي وَأَصْحَابه ويستدل بهَا على صدق قَوْله وَلما توفّي الإِمَام شرف الدّين بن المقرىء استقام هَذَا الإِمَام شمس الدّين بمكانه للتدريس وَالْفَتْوَى وصنف كتابا سَمَّاهُ الظَّاهِرِيّ باسم السُّلْطَان فَأَجَازَهُ السُّلْطَان على ذَلِك بمئة مِثْقَال وكساه وَقد أحسن إِلَيْهِ السُّلْطَان الظَّاهِر بإقامته بمرتبة الإِمَام شرف الدّين لما وجده وحيد عصره وفريد دهره بوقته فَبَقيَ الإِمَام ابْن قحر مسموع القَوْل مُطَاع الْكَلِمَة وَجمع من الْكتب شَيْئا كثيرا وضبطها أحسن ضبط وصححها وَنبهَ على دقائق فِي مَوَاضِع مِنْهَا وَتخرج بِهِ جمَاعَة من الْفُقَهَاء بزبيد وَطَالَ عمره فِي التدريس والإفادة للطلبة وَتُوفِّي سنة خمس وَأَرْبَعين وثمانمئة وقبر بِبَعْض مَقَابِر زبيد

وَكَانَ لَهُ ولدان لَا نجابة فيهمَا فتوفيا بعد وَفَاته وَتَفَرَّقَتْ كتبه بَين أَوْلَاد الْأَوْلَاد مِمَّن لم يشْتَغل بِالْقِرَاءَةِ بل صَارُوا من عُمَّال النّخل الَّذين يستأجرون لذَلِك فَالْحَمْد لله على كل حَال

وَمِنْهُم الْفَقِيه الْعَالم الصَّالح جمال الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم نَاصِر الْحُسَيْنِي قَرَأَ على الإِمَام شرف الدّين إِسْمَاعِيل بن أبي بكر المقرىء وَهُوَ أكبر شُيُوخه فِي الْيمن وعَلى غَيره من الْعلمَاء فجد واجتهد حَتَّى صَار عَالما عَاملا عابدا زاهدا صَالحا عَلَيْهِ سكينَة الْعلم ووقار التَّقْوَى وَقد أجَاز لَهُ الإِمَام الْجَزرِي وَالْإِمَام كَمَال الدّين مُوسَى الضجاعي فدرس وَأفْتى ورتب إِمَامًا بِمَسْجِد الأشاعر بعد موت الإِمَام شرف الدّين المقرىء

ص: 311

والأمام ابْن قحر وَقصد للزيارة وَظَهَرت لَهُ كرامات وَكَانَ منقوله كتاب الْحَاوِي الصَّغِير وَشرع بتصنيف شرح للمنهاج ومختصر للتفقيه وَلم يتممهما بل اخترمته الْمنية فَتوفي سنة ثَلَاث وَخمسين وثمانمئة وقبر بمجنة بَاب سِهَام

وَكَانَ ينظم الشّعْر من ذَلِك جَوَابه على السُّؤَال الَّذِي أوردهُ الْفَقِيه إِبْرَاهِيم الإخفافي بقوله المنظوم الَّذِي أَوله

(يَا أَيهَا الْعلمَاء يَا أَعْلَام

أَنْتُم بدور والأنام ظلام)

(رجل رأى امْرَأَة مُزَوّجَة على

رجل سواهُ ودينها الْإِسْلَام)

(وَلَقَد رَآهَا صبح جُمُعَة جَامع

يَوْمًا بِهِ تتشرف الْأَيَّام)

(فَأتى عَلَيْهِ الظّهْر وَهِي حَلَاله

وأتى عَلَيْهِ الْعَصْر وَهِي حرَام)

(هُوَ هَكَذَا فرض بِفَرْض لم يزل

حلا وحرما كلهَا أَحْكَام)

(كَانَ انتهاها مِنْهُ عشر فَرَائض

مُتَوَالِيَات مَا بهَا إِبْهَام)

(من ذَلِك الْيَوْم الْمشَار إِلَيْهِ لم

يحدث عَلَيْهِ بذا الْجِمَاع أثام)

(أَيجوزُ هَذَا وَالطَّلَاق ثَلَاثَة

أم لَا يجوز فقصدنا الْإِعْلَام)

فَأَجَابَهُ الإِمَام جمال الدّين بن نَاصِر رحمه الله بِجَوَاب منظوم ذَكرْنَاهُ فِي الأَصْل مضمونه أَن ذَلِك مُتَصَوّر بصور كَثِيرَة مِنْهَا أَن تكون قنة مُزَوّجَة على مُسلم ويطلقها وَهِي حَامِل فَتحل بِالْوَضْعِ

وَمِنْهُم الْفَقِيه عفيف الدّين عُثْمَان بن عَليّ بن عُثْمَان بن عبد الله الخزرجي الْأنْصَارِيّ قَرَأَ فِي الحَدِيث وَالْفِقْه والنحو على الْفُقَهَاء من بني النَّاشِرِيّ وَغَيرهم من

ص: 312

فُقَهَاء زبيد وَأَجَازَ لَهُ الشَّيْخ مجد الدّين الشِّيرَازِيّ وَالْإِمَام نَفِيس الدّين الْعلوِي وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثمانمئة

وَمِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة جمال الدّين مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم المقدشي قَرَأَ على جمَاعَة بفن الْأَدَب أشهرهم الْفَقِيه شمس الدّين عَليّ الأقعش ورتب مؤدبا لآولاد السُّلْطَان الْأَشْرَف بن الْأَفْضَل وهم الظَّاهِر وَإِخْوَته الصغار وَتخرج على يَدَيْهِ جمَاعَة فِي علم الْأَدَب وَكَانَ محققا مدققا لعلم النَّحْو كثير الصَّدَقَة وأفعال الْخَيْر وَحسن الظَّن بِجَمِيعِ النَّاس خالط مُلُوك الْوَقْت فنال الْإِحْسَان مِنْهُم وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وثمانمئة رَحمَه الله تَعَالَى ونفع بِهِ آمين

وَمِنْهُم الْفَقِيه الْأَجَل الصَّالح عفيف الدّين أَبُو الْقَاسِم بن أبي بكر العسلقي قَرَأَ على جمَاعَة من الشُّيُوخ وَلزِمَ الِاعْتِكَاف فِي الْمَسَاجِد وجد واجتهد حَتَّى تأهل للتدريس وَالْفَتْوَى واشتغل بآخر عمره بكتب الزّهْد وَالرَّقَائِق ك الْإِحْيَاء ومنهاج العابدين والرسالة للقشيري وَاخْتصرَ كتاب إحْيَاء عُلُوم الدّين اختصارا حسنا وَتُوفِّي سنة خمس وَأَرْبَعين وثمانمئة رحمه الله ونفع بِهِ

وَمِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة شرف الدّين أَبُو الْقَاسِم بن عَليّ عرف بِابْن زبيدة قَرَأَ بفن الْأَدَب على الْفَقِيه جمال الدّين المقدشي الْمُقدم الذّكر ولازمه حضرا وسفرا حَتَّى برع بذلك فَأجَاز لَهُ ثمَّ أَخذ الْفِقْه عَن القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن أبي بكر النَّاشِرِيّ فَكَانَ نحويا محققا للمعاني وَالْبَيَان والأصلين والمنطق وَغير ذَلِك وَسمع على القَاضِي مجد الدّين شَيْئا من التَّفْسِير والْحَدِيث ثمَّ على الإِمَام الْجَزرِي وَتخرج بِهِ جمَاعَة من عُلَمَاء الْبَلَد وأضيف إِلَيْهِ شَيْء من الْأَسْبَاب فَلَمَّا ضعفت الدولة الرسولية تنقل إِلَى مَوَاضِع كَثِيرَة من الْيمن وَقصد الْمَشَايِخ من السَّادة الْوُلَاة بني طَاهِر فَأحْسنُوا إِلَيْهِ إحسانا كليا ثمَّ سَافر إِلَى مَكَّة المشرفة فحج وزار قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة

ص: 313

المشرفة وَتُوفِّي بهَا سنة سبع وَخمسين وثمانمئة وَكَانَت لَهُ الْيَد الطُّولى فِي الشّعْر

وَمِنْهُم الشَّيْخ الْوَلِيّ الصَّالح شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَفْلح كَانَت لَهُ عبَادَة وزهادة ودأبه الِاعْتِكَاف فِي الْمَسَاجِد وَالصَّلَاة والتلاوة لكتاب الله تَعَالَى وَالذكر وَكَانَ متقللا من الدُّنْيَا وَمن جَاءَهُ بِشَيْء مِنْهَا أَخذ مِنْهُ قدر حَاجته لوقته إِذا تحقق حلّه واشتهرت لَهُ كرامات ويخبر عَن شَيْء من المغيبات بِمَا شهد لَهُ أَنه قطب الْوُجُود لوقته وَتُوفِّي سنة سِتِّينَ وثمانمئة فشيعه مُعظم أهل زبيد وتزاحموا على حمل جنَازَته وَكَانَ مِمَّن حملهَا خَليفَة الْوَقْت الْمقَام شمس الدّين عَليّ بن طَاهِر وَأجْمع أهل الْبَلَد أَنه لم يكن فِي وقته بزهده وورعه وعبادته وانقطاعه إِلَى الله تَعَالَى مثله وَقد قيل إِنَّه من ذُرِّيَّة الشَّيْخ عَليّ بن أَفْلح الْقَدِيم الَّذِي قيل إِنَّه شيخ أبي الْغَيْث بن جميل نفع الله بهم

وَمن الْفُقَهَاء بِمَدِينَة زبيد الْفَقِيه الْعَلامَة تَقِيّ الدّين عمر بن مُحَمَّد بن معيبد الْأَشْعَرِيّ الشهير بالفتى قَرَأَ بفن الْفِقْه على الإِمَام شرف الدّين أسماعيل المقرىء وبالنحو على الْفَقِيه بدر الدّين حسن بن مُحَمَّد الشظبي وَقَرَأَ على غَيرهمَا من أَئِمَّة وقته فأجازوا لَهُ فدرس وَأفْتى وافاد وأجاد وصنف كتبا مِنْهَا النكيتات الخفيات على الْمُهِمَّات يحتوي على ثَلَاثمِائَة اعْتِرَاض وَقد قَالَ الْعلمَاء إِن فِي ذَلِك نظرا وَألف مهمات الْمُهِمَّات وكتابا سَمَّاهُ الأبريز الغالي على وسيط الْغَزالِيّ

ص: 314

وَاخْتصرَ كتاب الْأَنْوَار بمختصر سَمَّاهُ أنوار الْأَنْوَار وَله غير ذَلِك

وَحصل بَينه وَبَين الْفَقِيه شمس الدّين عَليّ بن عطيف اليمني المجاور بِمَكَّة مباحثات وَاخْتِلَاف فِي مَسْأَلَة حدثت وَذَلِكَ أَن امْرَأَة نذرت بصداقها على غير الزَّوْج وَقد كَانَ الزَّوْج حصل مِنْهُ تَعْلِيق الطَّلَاق على بَرَاءَته من الصَدَاق فأبرأته بعد إِنْكَاره النّذر وَقد ذكرت ذَلِك فِي الأَصْل

وَلم يزل الْفَقِيه تَقِيّ الدّين مُفِيدا للطلبة فِي مَدِينَة زبيد باذلا نَفسه لنشر الْعلم متواضعا مُجْتَهدا بِالْعبَادَة جَارِيا على قَاعِدَة الْعلمَاء العاملين وَهُوَ من أشهر الْعلمَاء بِهَذَا الْعَصْر

وَله ولد نجيب قَرَأَ على وَالِده وانتفع وَهُوَ يدرس ويفتي بوصاب السافل وَسبب انْتِقَاله مَا حدث فِي زبيد ايام العبيد من الْخَوْف فتأهل الْفَقِيه تَقِيّ الدّين بهَا وَحدث لَهُ بهَا هَذَا الْوَلَد فَبَقيَ هُنَاكَ وَرجع الْفَقِيه تَقِيّ الدّين إِلَى مَدِينَة زبيد عِنْد زَوَال الْخَوْف بهَا وملكها السَّادة بني طَاهِر وَلم يزل على الْحَال المرضي إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله تَعَالَى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وثمانمئة

وَمِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة كَمَال الدّين مُوسَى بن أَحْمد بن عَليّ بن عجيل الْمَشْهُور بالمشرع وَلَيْسَ هُوَ من ذُرِّيَّة المشرع الْمَشْهُور بل هُوَ ابْن عَم أَبِيه فَجَمِيع أهل هَذَا الْبَيْت يعْرفُونَ ببني المشرع تفقه هَذَا الْفَقِيه بالفقيه عفيف الدّين عبد الله بن أبي الْقَاسِم الأكسع وبالفقيه رَضِي الدّين أبي بكر بن إِبْرَاهِيم بن جعمان وَغَيرهم وأجازوا لَهُ فدرس وَأفْتى ثمَّ قَرَأَ على القَاضِي جمال الدّين الطّيب بن أَحْمد النَّاشِرِيّ فِي الحَدِيث وَالْفِقْه وَسمع عَلَيْهِ وَأذن لَهُ بالإفتاء بِمَدِينَة زبيد ثمَّ جرت بَينهمَا أُمُور تولد مِنْهَا وَحْشَة بَينه وَبَين بني النَّاشِرِيّ فَلَمَّا استقام الْمقَام شمس الدّين عَليّ بن طَاهِر بِملك الْيمن لَاذَ الْفَقِيه كَمَال الدّين بالمقرىء شمس الدّين يُوسُف بن يُونُس الجبائي فتوسط لَهُ إِلَى

ص: 315

الْمقَام شمس الدّين بإقامته بِبَعْض الْأَسْبَاب بزبيد فأقيم لَهُ مَا كَفاهُ مِنْهَا بِمَدِينَة زبيد

واشتهر لَهُ ولد نجيب هُوَ الشَّيْخ الصَّالح شهَاب الدّين أَحْمد قَرَأَ بالفقه على وَالِده وعَلى الْفَقِيه الصّديق بن جعمان وعَلى غَيرهمَا ثمَّ صحب السَّادة الصُّوفِيَّة هُنَالك وَقَرَأَ عَلَيْهِم فِي كتبهمْ كالرسالة للقشيري وعوارف المعارف للسهروردي وَقطعَة من نَوَادِر الْأُصُول للحكيم التِّرْمِذِيّ ولازم الْوُقُوف عِنْد قبر الإِمَام أَحْمد بن مُوسَى بن عجيل وعد من خَواص الْفَقِيه الصَّالح أبي الْقَاسِم بن جعمان فَلَمَّا توفّي شَيْخه ابْن جعمان سكن بَيت الْفَقِيه ابْن العجيل وتحكم على يَده جمَاعَة من الْفُقَرَاء وَهُوَ لَا يرد سَائِلًا مِمَّا بِيَدِهِ وَلَو ثِيَابه الَّتِي يلبسهَا واجتهد بِالْعبَادَة وَالْقِيَام بإكرام الضَّيْف وَالِاجْتِهَاد بِقَضَاء حَاجَة ذِي الْحَاجة فوصلته الْهَدَايَا وَالنُّذُور من بلدان كَثِيرَة فَكل مَا اجْتمع مَعَه من ذَلِك فرقه على الْفُقَرَاء فَإِذا فني مَا بِيَدِهِ علق الزنبيل بِيَدِهِ وَدَار هُوَ وَبَعض فقرائه يسْأَلُون فَلَا يردهم أحد وَظَهَرت لَهُ كرامات وَهُوَ ووالده على قيد الْحَيَاة عِنْد جمع هَذَا الْمَجْمُوع نفع الله بهما آمين

وَمِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الفرسي الْمَشْهُور بالشويهر هُوَ فَقِيه حَنَفِيّ فَرضِي نحوي لَهُ الباع الأطول فِي الْعُلُوم العقليات وَفِيه الزهادة وَالْعِبَادَة وَمِنْه تجتنى نخب الْعلم المستفادة وَله شعر حسن مِنْهُ مَا قَالَه فِي الْفَقِيه أعظم بن أبي الْبَقَاء الْهِنْدِيّ الْوَافِد إِلَى الْيمن سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وثمانمئة وَأقَام بزبيد يقرىء ويدرس فِي الْعُلُوم العقليات فَلَمَّا أَرَادَ أَن يُسَافر إِلَى بَلَده الْهِنْد قَالَ فِيهِ الْفَقِيه وجيه الدّين أبياتا من قصيدة طَوِيلَة أَولهَا

(آنستنا يَا أعظم ابْن أبي البقايا

يَا من تأزر فِي ملابيس التقى)

(أَحييت ميت الْعلم بعد وَفَاته

وَفتحت مَا قد كَانَ مِنْهُ استغلقا)

ص: 316

(يَا لَيْت شعري أَن رحلت مودعا

عَن أَرْضنَا فَمَتَى يكون الْمُلْتَقى)

وَالْقَصِيدَة مَعْرُوفَة قد أثبتها فِي الأَصْل فَأَجَابَهُ الْفَقِيه أعظم بقصيدة أَولهَا

(أَلا يَا صَاحب القَوْل السديد

لأَنْت الْيَوْم أشعر من لبيد)

(وأفصح كل ذِي علم وَفضل

وَأصْلح صالحي أَهلِي الزبيد)

وَهِي طَوِيلَة ذكرتها فِي الأَصْل وللفقيه وجيه الدّين هَذَا مدائح كَثِيرَة فِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم توفّي الْفَقِيه وجيه الدّين الشويهر بِشَهْر صفر سنة أَربع وَسبعين وثمانمئة رَحمَه الله تَعَالَى

وَمن أهل زبيد الْفَقِيه الْعَلامَة عفيف الدّين عبد الله بن مُوسَى الذؤالي كَانَ رجلا فَاضلا عَالما ذَا براعة وفصاحة فِي الشّعْر وَقد ذكرت بعض ذَلِك فِي الأَصْل وختمت القَوْل فِي ذكر الْفُضَلَاء وَالْعُلَمَاء بِمَدِينَة زبيد بِهَذَا الْفَقِيه كَمَا بدأت بِذكر وَالِده وَلم أستوعب ذكر جَمِيع الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء بِمَدِينَة زبيد وَمَا والاها لعلمي أَن الشَّيْخ بدر الدّين حُسَيْن الأهدل وَغَيره كالشيخ أَحْمد بن أبي بكر بن سَلامَة وَغَيرهم قد جمعُوا فِي ذكر أهل تهَامَة تواريخ حَسَنَة فاكتفيت بِمَا قد جَمَعُوهُ وَلم أذكر إِلَّا مَا بَلغنِي علمه من أهل وقتنا على الشَّرْط الْمَذْكُور أول الْكتاب

وَأما السَّادة الْعلمَاء من بني النَّاشِرِيّ فقد صنف المقرىء عفيف الدّين عُثْمَان النَّاشِرِيّ فِي ذكرهم وَتَحْقِيق نسبهم مصنفا جعله مجلدا كَبِيرا وَجعل لَهُم شَجَرَة جمعهم بهَا وَذكر من سكن زبيد وَمن سكن غَيرهَا مِنْهُم وَقد أَحْبَبْت أَن أتبرك بِذكر أعلمهم وأفضلهم بوقتنا وَهُوَ شَيْخي الإِمَام الْعَلامَة الصَّالح الْعَامِل الزَّاهِد جمال الدّين الطّيب بن أَحْمد النَّاشِرِيّ فَهُوَ الإِمَام الْمجمع على جلالته وفضله وتضلعه فِي الْعُلُوم

ص: 317

قَرَأَ على وَالِده ولي الله القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد النَّاشِرِيّ ثمَّ على غَيره من فُقَهَاء مَدِينَة زبيد وَغَيرهم بِجَمِيعِ فنون الْعلم وَأَجَازَ لَهُ الشُّيُوخ الْكِبَار فِي مَكَّة المشرفة وَالْمَدينَة الشَّرِيفَة عِنْد أَن سَافر لِلْحَجِّ والزيارة وَأَجَازَ لَهُ الشَّيْخ مجد الدّين الشِّيرَازِيّ وَالشَّيْخ شمس الدّين الْجَزرِي وَقد جمع الْمَشَايِخ الَّذين قَرَأَ عَلَيْهِم وأجازوا لَهُ فِي كراسة جعلهَا عِنْده واشتهر بِحسن التدريس وَالصَّوَاب فِي الْفَتْوَى وناب لِعَمِّهِ القَاضِي شمس الدّين عَليّ النَّاشِرِيّ بِالْقضَاءِ الْأَكْبَر ثمَّ اسْتَقل بِهِ بعد موت عَمه ورزق الجاه الْكَبِير عِنْد الْخَاص وَالْعَام وَرَفعه السُّلْطَان الظَّاهِر على جَمِيع النَّاس بِمَا يسْتَحقّهُ من فضل الْعلم مَعَ ورعه وزهادته الْمجمع عَلَيْهِ وأحبه النَّاس وانتفعوا بِهِ انتفاعا كثيرا وَقصد للمهمات وأطاعوه وامتثلوا أمره وصنف كتابا مُفِيدا نَحْو الشَّرْح للحاوي الصَّغِير سَمَّاهُ الْإِيضَاح نَحْو مجلدين أَتَى فِيهِ بمعظم الغرائب والنكت على بعض أَلْفَاظ الْحَاوِي جمع فِيهِ متفرق الْكَلَام كالتحرير لأبي زرْعَة والمفتاح لِابْنِ كبن والأذرعي والجواهر والمهمات وَشرح الْحَاوِي وَغير ذَلِك من كَلَام الْمُتَأَخِّرين من أهل الْعَصْر وَغَيرهم وَقد اشْتهر وانتشر وتلقاه النَّاس عَامَّة فِي الْيمن وَمَكَّة وَالشَّام بِالْقبُولِ ومدحه بعض الْفُضَلَاء البلغاء فَقَالَ هُوَ كتاب عدم نَظِيره فِي مَا مضى من الْأَيَّام وَعز وجود مثله فِي الدهور والأعوام لم ينسج على منواله وَلَا يتَصَدَّى أحد من الْعلمَاء لمثاله فَمَا لمثله فِي الْوُجُود وجود كَمَا أَن نَظِير مُؤَلفه فِي الْعَالم لمفقود وَزَاد على ذَلِك شَيْئا كثيرا مِمَّا قد ذكرته فِي الأَصْل وَقد مد الله فِي عمر هَذَا الإِمَام وَبَارك لَهُ فِيهِ حَتَّى نَيف على ثَمَانِينَ سنة ورزقه الله أَوْلَادًا نجبا وَقد قَالَ الأول

(نعم الْإِلَه على الْعباد جليلة

وأجلهن نجابة الْأَوْلَاد)

ص: 318

وهم جمَاعَة كثير أكبرهم الْفَقِيه شهَاب الدّين أَحْمد قَرَأَ على وَالِده فِي الْفِقْه والنحو والْحَدِيث وَقَرَأَ على غَيره وأجازوا لَهُ واجتهد حَتَّى برع وكمل وافتى ودرس

ثمَّ صنوه الْفَقِيه عفيف الدّين عبد الله قَرَأَ أَيْضا على وَالِده بالفقه والْحَدِيث والنحو وَقَرَأَ بالقراءات الْعشْر على المقرىء شمس الدّين عَليّ بن مُحَمَّد الشرعبي وعَلى غَيره من أَئِمَّة الْقُرْآن وَقَرَأَ بفن الْأَدَب على أَئِمَّة من أهل الْوَقْت فنجب وأعجب ودرس وَأفْتى وَله الشُّهْرَة فِي ذَلِك زِيَادَة على أَخِيه الْمُقدم الذّكر

ثمَّ صنوهما الْفَقِيه وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن قَرَأَ على وَالِده بالفقه والْحَدِيث ثمَّ على غَيره وَله الذكاء والذهن الصافي وَالنَّظَر التَّام فِي الْمسَائِل الدقيقة يتَكَلَّم على مَا فِيهَا ويشفي فِي الْجَواب عَلَيْهَا من النُّصُوص والاستنباط العجيب وَلم يزل باذلا نَفسه للطلبة وَأكْثر أوقاته فِي خدمَة الْعلم الشريف وَهُوَ آخذ بالترقي إِلَى الْمَرَاتِب الْعلية فَكل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة كَامِل عَارِف عَالم عَامل لَا يجْرِي أحد من أهل وقتهم فِي ميدانهم بِمَا يفضلهم فِيهِ وَكفوا والدهم عِنْد عَجزه جَمِيع مَا أهمه فِي جَمِيع الْأُمُور فَبَقيَ بَينهم فِي أهنى عَيْش وأرغده وَصَارَت الرِّئَاسَة لَهُم فِي وقتهم ورثوا ذَلِك كَابِرًا عَن كَابر

وَتُوفِّي الإِمَام جمال الدّين الطّيب النَّاشِرِيّ بِشَهْر شَوَّال سنة أَربع وَسبعين وثمانمئة رحمه الله ونفع بِهِ

ص: 319