الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الثاني
الباب الثاني: أهل السنة والجماعة يثبتون إمامة الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الفضل
الفصل الأول: خلافة الصديق رضي الله عنه
المبحث الأول: الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه
…
تمهيد:
قبل أن أشرع في ذكر اعتقاد أهل السنة والجماعة في ترتيب الخلفاء الراشدين في الإمامة أسبق ذلك بهذا التمهيد المتضمن لبيان معنى الإمامة في اللغة والاصطلاح وبيان حكم الإمامة عند أهل السنة والجماعة.
أولاً: معناها في اللغة: قال الزجاج: "الإمام الذي يؤتم به ويفعل كفعله ويقصد ما قصده ومنه قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 1 أي: فاقصدوا"2.
وجاء في الصحاح للجوهري: "والأمّ "بالفتح" القصد يقال: أمه وتأممه إذا قصده
…
والإمام: خشبة البناء التي يسوى عليها البناء والإمام: الصقع من الأرض والطريق قال تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} 3 والإمام الذي يقتدى به"4.
وجاء في لسان العرب: "والإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين إلى أن قال: "والجمع أئمة
…
وإمام كل شيء قيمه والمصلح له. والقرآن إمام المسلمين وسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة والخليفة إمام الرعية وإمام الجند قائدهم
…
وأممت القوم في الصلاة إمامة وائتم به أي: اقتدي به وإمام الغلام في المكتب ما يتعلم كل يوم، والإمام الخيط الذي يمد على البناء فيبنى عليه ويسوى عليه ساق البناء، والحادي إمام الإبل وإن كان وراءها لأنه الهادي لها ويقال: فلان إمام القوم معناه هو المتقدم لهم ويكون الإمام رئيساً كقولك إمام المسلمين5.
1ـ سورة النساء آية /43.
2ـ ذكره عنه ابن الجوزي في كتابه: "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" ص/126.
3ـ سورة الحجر آية/79.
4ـ الصحاح للجوهري 5/1864-1865.
5ـ لسان العرب 12/24، وانظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص/459، نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر "لابن الجوزي" ص/126، القاموس المحيط 4/78، تاج العروس 8/193.
فالإمامة في اللغة ذات معان متقاربة كما في هذه التعاريف اللغوية وكلها فيها التوضيح إلى أن المراد بالإمام عند العرب هو الذي يتبع ويقتدى به وهو القيم على مصالح الناس وشئونهم وكذلك كان الأئمة الأربعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قاموا بمصالح الأمة على أتم وجه وأكمله فيلزم من ولي من أمر المسلمين أن يقتدي بالخلفاء الراشدين في أعمالهم الطيبة وسيرتهم الحسنة نحو الأمة ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الالتزام الكامل والتمسك التام بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده حيث قال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ"1.
ثانيا: تعريف الإمامة في الاصطلاح:
لقد عرف العلماء الإمامة في الاصطلاح بتعريفات مختلفة من حيث اللفظ وعلى الرغم من اختلاف تعبيراتهم في تحديدها من حيث اللفظ إلا أنها تتحد في مدلولها من حيث المعنى ومن هذه التعريفات:
1-
قال الماوردي: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم2 "3.
2-
وعرفها إمام الحرمين الجويني4 بقوله: "الإمامة رياسة تامة وزعامة
1ـ المسند 4/126-127، سنن أبي داود 2/506، سنن الترمذي 4/150، سنن ابن ماجة 1/15-16، سنن الدارمي 1/44-45 كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
2ـ هو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم من كبار المعتزلة "انظر ترجمته في" فرق وطبقات المعتزلة ص/65، سير أعلام النبلاء 9/402، طبقات المفسرين للداودي 1/274-275، لسان الميزان 3/427.
3ـ الأحكام السلطانية ص/5.
4ـ هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة وتوفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة انظر: ترجمته في وفيات الأعيان 3/167-170 تبين كذب المفتري ص/278-285، الأعلام للزركلي 4/306.
تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدنيا والدين"1.
3-
وعرفها ابن خلدون بقوله: "هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"2.
فهذه التعاريف فيها بيان حد الإمامة في الاصطلاح وهي مترادفة لفظاً متحدة من حيث المعنى بين فيها هؤلاء العلماء أن سياسة الإمام يجب أن تكون وفق الشريعة الإسلامية الغراء التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون بعيداً عن الحكم بالهوى والشهوة في كل حال ولا بد أن يكون حكمه بالشرع في كل الأمور الدينية والدنيوية حتى يصدق عليه أنه نائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا بالقيام بشرع الله الذي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة ولفظ الإمام، والخليفة، والأمير ألفاظ مترادفة وكلها جاءت في ألفاظ من الحديث النبوي الشريف مثل قول المصطفى عليه الصلاة والسلام:"الأئمة من قريش ولهم عليكم حق ولكم مثل ذلك" 3 وقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 4 وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني"5.
فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يروون هذه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاها عنهم التابعون كذلك دون أن يفرقوا بين لفظ خليفة وإمام وأمير وقد سمى الصديق رضي الله عنه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما ولي الفاروق أرادوا أن يطلقوا
1ـ الأحكام السلطانية ص/5، انظر غياث الأمم في التياث الظلم ص/15.
2ـ المقدمة ص/191، انظر العقائد النسفية ص/179، المواقف ص/395، التعريفات ص/35.
3ـ المسند 3/183.
4ـ المصدر السابق 4/127.
5ـ صحيح مسلم 3/1466 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
عليه: "خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك من يأتي بعده فنظروا فإذا باللفظ يطول فاتفقوا على تسميته بأمير المؤمنين1 وكذلك سمى عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
ثالثاً: حكم الإمامة:
أجمع عامة المسلمين على وجوب نصب إمام للأمة يقيم لهم أحكام شرع الله ولم يخالف هذا الإجماع إلا النجدات من الخوارج والأصم والفوطي2 من المعتزلة.
قال أبو محمد بن حزم: "اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالو: لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة"3.
فأهل السنة والجماعة مذهبهم أن نصب الإمام الأعظم واجب بنص الشرع الحنيف لتجتمع به كلمة المسلمين وتنفذ به أحكام الشريعة وهذا المذهب هو المذهب الحق المؤيد بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع فأما دلالة الكتاب على وجوبها فمن ذلك:
1-
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
1ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/281.
2ـ هو هشام بن عمرو الفوطي شيباني من أهل البصرة وهو يعتبر من الطبقة السادسة من المعتزلة "انظر طبقات المعتزلة" ص/61، وانظر الفرق بين الفرق ص/159.
3ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/87، وانظر قول النجدات في عدم وجوب نصب الإمام "مقالات الإسلاميين" 1/205.
خَلِيفَةً} 1 الآية.
وجه دلالة الآية أن أهل العلم اعتبروها أصلاً في وجوب نصب الإمام ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع التنازع وينتصر لمظلومهم من ظالميهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: "هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة2 ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها وأقاموا الحدود على من وجبت عليه أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولى ذلك"3.
2-
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 4.
وفي هذه الآية أوجب الله تعالى على عباده المؤمنين طاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منهم والمراد بأولي الأمر هم الأمراء والولاة.
فقد أخرج ابن جرير الطبري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال في قوله تعالى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} : هم الأمراء5 وهو مروي عن ابن
1ـ سورة البقرة آية/ 30.
2ـ لعلها وتنفذ بها أحكام الشريعة.
3ـ الجامع لأحكام القرآن 1/264، وانظر أضواء البيان 1/49.
4ـ سورة النساء آية/ 59.
5ـ جامع البيان 5/147، شرح السنة للبغوي 10/50.
عباس وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل"1.
وقد ذكر العلامة ابن جرير عدة أقوال في المراد بقوله: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ثم رجح قول من قال: "هم الأمراء والولاة لصحة الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة"2.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "الظاهر ـ والله أعلم ـ أن الآية عامة في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء"3.
فالآية دلت على أنه يجب على المسلمين أن ينصبوا لهم إماماً يرجعون إليه.
3-
وهذه الآية فيها إرشاد وتعليم من الباري ـ جل وعلا ـ لعباده المؤمنين أنه لا بد من خليفة يقوم بالحكم بما أنزل الله بين عباده لتصلح به البلاد والعباد.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد"5.
والآيات الدالة على وجوب نصب الإمام كثيرة جداً فما من آية أنزلها الله على رسوله بتشريع حكم من الأحكام والتي لها علاقة بموضوع الإمامة وشئونها إنما هي تأكيد جازم على إيجاد الإمامة الشرعية في المجتمع المسلم لأن وجود ولي الأمر من
1ـ زاد المسير في علم التفسير 2/116.
2ـ جامع البيان 5/150.
3ـ تفسير القرآن العظيم 2/326.
4ـ سورة ص آية/26.
5ـ تفسير القرآن العظيم 5/119.
الضروريات التي حث الإسلام على وجودها في كل الأحيان إذ هناك أمور يتطلب تنفيذها وجود الإمامة العظمى.
وأما دلالة السنة على وجوب نصب الإمام الأعظم فقد ورد ذلك في أحاديث كثيرة منها:
1-
روى الإمام أحمد وغيره عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب قلنا أو قالوا: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فأوصنا قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعيش منكم يرى بعدي اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ"1.
فقد بين عليه الصلاة والسلام أنه سيكون من بعده خلفاء راشدون يخلفونه في أمته ويسيرون على نهجه في سياسة الأمة بالكتاب والسنة وحث الناس على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وفي هذا بيان أنه لا بد للناس من إمام يرجع إليه في إقامة الحدود وقطع التنازع والاختلاف ولذا تواتر أن الصفوة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين بايعوا الصديق رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم، ولما أحس الصديق بدنوا أجله استخلف الفاروق رضي الله عنه ولما طعن الفاروق رضي الله عنه أبو لؤلؤة المجوسي جعل الأمر شورى في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أن يخلف الفاروق عثمان بن عفان رضي الله عنه ولما استشهد عثمان رضي الله عنه بايعوا أبا الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهذه طريقتهم في الخلافة، فنجد أنهم حرصوا كل الحرص في تنصيب الإمام ولم يتهاونوا في ذلك وهذا مما يجب على المسلمين أن يقتدوا بهم فيه بأمر من أرسله الله رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم.
1ـ المسند 4/127، سنن أبي داود 2/506، سنن الترمذي 4/150، سنن ابن ماجة 1/15-16 =
2-
وروى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده:
إلى نافع مولى ابن عمر قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع1 حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال: إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له2 ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهية"3.
فقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن البيعة فريضة في عنق كل مسلم للإمام الحق الذي تجتمع عليه كلمة المسلمين وما دامت البيعة واجبة على كل مسلم فإن هذا الواجب لا يتأتى أداؤه إلا بنصب الإمام الذي يرجع إليه في تنفيذ أحكام الشريعة وحسم التنازع والاختلاف الذي يحصل بين الناس فالحديث دلالته واضحة على وجوب نصب الإمام بالشرع لا بالعقل.
3-
وروى الشيخان في صحيحيهما عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بو إسرائيل تسوسهم 4 الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فت كثر" قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم
= سنن الدارمي 1/44-45، واللفظ لأحمد رحمه الله.
1ـ هو عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي القرشي كان ممن خلع يزيد وخرج عليه وكان يوم الحرة قائد قريش، كما كان عبد الله بن حنظلة قائد الأنصار وإذ خرج أهل المدينة لقتال مسلم بن عقبة المري الذي بعثه يزيد لقتال أهل المدينة ولما ظفر أهل الشام بأهل المدينة لحق عبد الله بن مطيع بابن الزبير وبقي معه حتى حصر الحجاج ابن الزبير انظر ترجمته في الإصابة 3/65، تهذيب التهذيب 6/36.
2ـ لا حجة له: أي: لا حجة له في فعله ولا عدالة ينفعه.
3ـ صحيح مسلم 3/1478.
4ـ تسوسهم الأنبياء: أي يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه "شرح النووي على صحيح مسلم" 12/231، وانظر فتح الباري 6/497.
فإن الله سائلهم عما استرعاهم" 1 هذا الحديث فيه إشارة إلى أنه لا بد للرعية من قائم بأمورها يحملها على الطريق الحسنة وينصف المظلوم من الظالم2.
4-
روى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: "ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم.." الحديث3.
وعند أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم"4.
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرشد أمته أنه إذا خرج ثلاثة في سفر فإن عليهم أن يختاروا أحدهم أميراً عليهم مع أن السفر يكون في مسافة محدودة ومدة وجيزة فما الشأن بالإمامة العظمى فإن وجوبها متحتم على الأمة من باب أولى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر هذين الحديثين: "فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم كان هذا تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها ديناً يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر" 5.
وأما دلالة الإجماع على وجوب نصب الإمام:
فقد أجمعت الأمة على أنه لا بد من نصب الإمام الأعظم للأمة ليرجع إليه
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/495، صحيح مسلم 3/1471-1472.
2ـ فتح الباري 6/497.
3ـ المسند 2/176-177، وانظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني 8/106.
4ـ سنن أبي داود 2/34.
5ـ الحسبة في الإسلام ص/5 وانظر السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص/161 والحديث في المسند 3/22 من حديث أبي سعيد.
في شئون العباد وقد نقل الإجماع بعض أهل العلم.
فقد روى الماوردي: "وعقدها ـ أي الإمامة ـ لمن يقوم بها واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم"1 وقال البغوي رحمه الله: "واتفقت الأمة من أهل السنة والجماعة على أن الاستخلاف سنة وطاعة الخليفة واجبة إلا الخوارج المارقة الذين شقوا العصا وخلعوا ربقة الطاعة"2.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: "وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها ولقال قائل: إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ولم يقل له أحد: هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين والحمد لله رب العالمين"3.
وقال النووي رحمه الله: "وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل"4 وقال عبد الرحمن أن خلدون: "نصب الإمام واجب وقد عرف وجوبه بالشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر
1ـ الأحكام السلطانية ص/5.
2ـ شرح السنة للبغوي 10/84.
3ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/264-265، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1/49-50.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/205
إليه في أمورهم وكذلك في كل عصر من الأعصار واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام"1.
ومما تقدم تبين أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب بل جعلوه رضي الله عنهم من أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلافهم رضي الله عنهم في التعيين لا تأثير له على الإجماع المذكور.
1ـ المقدمة ص/191، وانظر الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة ص/7-8.
المبحث الأول: الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه
عقيدة أهل السنة والجماعة في ترتيب الخلفاء الأربعة في الإمامة كترتيبهم في الفضل فالإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين ثم أبو السبطين علي رضي الله عنهم أجمعين فأهل الحق يعتقدون اعتقاداً جازماً لا مرية فيه ولا شك أن أولى الناس بالإمامة والأحق بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه روى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى عباد السماك قال: سمعت سفيان الثوري يقول: الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز وما سوى ذلك فهم منتزون"1.
قال أبو عمر: "قد روي عن مالك وطائفة نحو قول سفيان هذا وتأبى جماعة من أهل العلم أن تفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية لمكان صحبته"2.
وروى بإسناده إلى أبي نوبة قال: سمعت أبا إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك وعيسى بن يونس ومخلد بن الحسين يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي" وروى أيضاً بإسناده إلى الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي محمد بن إدريس يقول: أقول في الخلافة والتفضيل بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم"3 وروى البيهقي بإسناده إلى الربيع بن سليمان أنه قال: قال الشافعي في مسألة الحجة في تثبيت خبر الواحد: ولم تزل كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ
1ـ أي: متغلبون.
2ـ جامع بيان العلم وفضله 2/226-227.
3ـ المصدر السابق 2/227.
أمره ـ إلى أن قال ـ: وهكذا كانت كتب خلفائة من بعده وعمالهم وما أجمع المسلمون من كون الخليفة واحداً والقاضي واحداً والأمير واحداً والإمام واحداً فاستخلفوا أبا بكر واستخلف أبو بكر عمر، ثم أمر عمر أهل الشورى ليختاروا واحداً، فاختار عبد الرحمن عثمان بن عفان"1 وروى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى أبي علي الحسن بن أحمد بن الليث الرازي قال: سألت أحمد بن حنبل ـ فقلت ـ: يا أبا عبد الله من تفضل؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء ـ فقلت ـ يا أبا عبد الله إنما أسألك عن التفضيل من تفضل قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء المهديون الراشدون ورد الباب في وجهي قال أبو علي: ثم قدمت الري فقلت لأبي زرعة وسألت أحمد وذكرت له القصة فقال: لا نبالي من خالفنا، نقول: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلافة والتفضيل جميعاً هذا ديني الذي أدين الله به وأرجو أن يقبضني الله عليه.
وروى أيضاً: بإسناده إلى سلمة بن شبيب قال: قلت لأحمد بن حنبل: من تقدم؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلافة"2.
وروى أبو الفرج بن الجوزي إلى أبي بكر المروذي قال: قال أحمد بن حنبل: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر ليصلي بالناس وقد كان في القوم من هو أقرأ منه وإنما أراد الخلافة"3.
وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كنت بين يدي أبي جالساً ذات يوم فجاءت طائفة من الكرخية فذكروا خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وذكروا خلافة علي بن أبي طالب فزادوا وأطالوا فرفع أبي رأسه إليهم فقال: يا هؤلاء، قد أكثرتم القول في علي والخلافة إن الخلافة لم تزين
1ـ مناقب الشافعي للبيهقي 1/435 وانظر الرسالة ص/419-420.
2ـ جامع بيان العلم وفضله 2/225-226.
3ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/160.
علياً بل علي زينها قال السياري ـ أحد رجال السند ـ: فحدثت بهذا بعض الشيعة فقال لي: قد أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض"1.
فهذه طائفة من أقوال بعض كبار أئمة أهل السنة وكلها تبين أنهم يثبتون إمامة الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الفضل وأن أحق الناس بالإمامة بعد ـ النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق وعلى هذا الاعتقاد مشى من جاء بعدهم من أهل السنة ودونوا هذا الاعتقاد في كتبهم ودعوا الناس إلى اعتقاده فقد قال الطحاوي: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي رضي الله عنه"2.
وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله تعالى في ذكر سياقه لبيان عقيدة أهل السنة والجماعة: "ثم الإيمان والمعرفة بأن خير الخلق وأفضلهم
…
وأحقهم بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق
…
ثم من بعده على هذا الترتيب والصفة أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الفاروق ثم من بعدهما على هذا الترتيب والنعت عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو أبو عبد الله وأبو عمرو ذو النورين رضي الله عنه ثم علي هذا النعت والصفة من بعدهم أبو الحسن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه
…
فبحبهم وبمعرفة فضلهم قام الدين وتمت السنة وعدلت الحجة"3.
وقال أبو الحسن الأشعري في صدد ذكره للأدلة على أن الصديق هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم: "فوجب أن يكون إماماً بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين"4.
1ـ المصدر السابق ص/162-163.
2ـ العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الحنفي ص/533-545.
3ـ كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/257-261.
4ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/67.
وقال ابن أبي زيد القيرواني: "وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين"1.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: "ويجب أن يعلم: أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين ومقدم خلق الله أجمعين من الأنصار والمهاجرين بعد الأنبياء والمرسلين: أبو بكر الصديق رضي الله عنه
…
"ثم من بعده على هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لاستخلافه إياه
…
وبعده أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه
…
وبعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه"2.
وقال أبو عثمان الصابوني مبيناً عقيدة أهل الأثر في ترتيب الخلافة: "ويثبت أصحاب الحديث خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه واتفاق الصحابة عليه بعده وإنجاز الله ـ سبحانه ـ بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه وعده ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى وإجماع الأصحاب كافة ورضاهم به حتى جعل الأمر إليه، ثم خلافة علي رضي الله عنه ببيعة الصحابة إياه عرفه ورآه كل منهم رضي الله عنه أحق الخلق وأولاهم في ذلك الوقت بالخلافة ولم يستجيزوا عصيانه وخلافه فكان هؤلاء الأربعة الخلفاء الراشدون الذين نصر الله بهم الدين وقهر وقسر بمكانهم الملحدين وقوى بمكانهم الإسلام ورفع في أيامهم للحق الأعلام ونور بضيائهم ونورهم وبهائهم الظلام"3.
وقال أبو عمر ابن عبد البر: "الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر، وعمر وعثمان وعلي وهم أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"4.
1ـ الرسالة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني ص/23.
2ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/64-66.
3ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/128.
4ـ جامع بيان العلم وفضله 2/224.
وقال الإمام موفق الدين بن قدامة رحمه الله تعالى مبيناً أن الصديق رضي الله عنه أحق الناس بخلافة النبي صلى الله عليه وسلم: "وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة ثم من بعده عمر رضي الله عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه لتقديم أهل الشورى له، ثم علي رضي الله عنه لفضله وإجماع أهل عصره عليه. وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنوجذ" 1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الخلاف في مسألة تقديم عثمان على علي في الأفضلية، ثم بين أن أمر أهل السنة استقر في هذه المسألة على تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما فقال:"وإن كانت هذه المسألة مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، ثم عثمان، ثم علي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله"2.
وقال في موضع آخر: "اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان ثم علي"3.
وقال الصديق حسن خان: "أحقهم بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلوات على جميع أصحابه وإجماع الصحابة على تقديمه ومتابعتة ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة"4.
1ـ لمعة الاعتقاد ص/27-28 والحديث رواه أحمد في مسنده 4/126 وابن ماجه في سننه 1/15-16.
2ـ العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص/146.
3ـ الوصية الكبرى ص/33.
4ـ قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر ص/99.
وقال عمر بن علي بن سمرة الجعدي1 في صدد ذكره لترجمة الصديق رضي الله عنه: "ثم استخلف أفضل الصحابة وأولاهم بالخلافة معدن الوقار وشيخ الافتخار صحاب المصطفى بالغار سيد المهاجرين والأنصار الصديق أبو بكر التيمي
…
قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يصلي بالناس أيام مرضه وبذلك احتج عمر رضي الله عنه على الأنصار يوم السقيفة فقال: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا، وأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقادوا له وبايعوه"2.
فهذه طائفة من أقوال أئمة أعلام من أهل السنة والجماعة سقناها في هذا المبحث كلها توضح وتبين أن أهل السنة والجماعة يؤمنون ويعتقدون بأن أحق الناس بالخلافة بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وهذا ما يجب على المسلم أن يعتقده ويؤمن به ويموت عليه.
1ـ هو عمر بن علي بن الحسين أبو الخطاب الجعدي: مؤرخ يماني، من القضاة ولد بقرية أنامر "باليمن" سنة سبع وأربعين وخمسمائة وتوفي بعد ست وثمانين وخمسمائة انظر ترجمته في الأعلام للزركلي" 5/215-216، معجم المؤلفين 7/299-300.
2ـ طبقات فقهاء اليمن ص/34-35.
المبحث الثاني: كيفية مبايعته رضي الله عنه بالخلافة
لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص يحدد الكيفية التي يختار بها الإمام الذي يتولى أمر المسلمين ومع هذا لم يغفل أهل العلم هذه المسألة بل ذكروا طرقاً يتم بها اختيار إمام للمسلمين وبعض هذه الطرق استنبطوها من تولية الخلفاء الراشدين ولا شك في مشروعية طريقة تولي الخلفاء الراشدين لأن المصطفى عليه الصلاة والسلام حث المسلمين عامة على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وتلك الطرق التي يختار الإمام بها ذكرها أهل العلم ودونوها في كتبهم.
فقد قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "بعد ذكره لقول عمر رضي الله عنه "إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني" إلى آخره حاصله أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الوفاة وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا وإلا فقد اقتدى بأبي بكر وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة كما فعل عمر بالستة وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل"1.
وقال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى: "والإمامة تنال بالنص كما تقول طائفة من أهل السنة في أبي بكر أو بالإيماء إليه كما يقوله آخرون منهم أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كما فعله عمر، أو باجتماع
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/205، وانظر تحفة الأحوذي 6/479-480.
أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع والله أعلم، أو يقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق، والاختلاف وقد نص عليها الشافعي"1.
وقد بين هذان الإمامان النووي وابن كثير الطرق التي تنال بها الإمامة وهي إما طريقة الاختيار، أو العهد من الإمام السابق إلى من يراه من المسلمين لائقاً بهذا المنصب من بعده، أو القهر والغلبة.
وأما الكيفية أو الطريقة التي تمت بها مبايعة الصديق رضي الله عنه فإنه لما قبض الرب ـ جل وعلا ـ نبيه صلى الله عليه وسلم ونقله إلى جنته ودار كرامته اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة2 بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا عقد الإمامة لسعد ابن عبادة وبلغ ذلك أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقصدا نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين ولما انتهوا إليهم حصل بينهم حوار في أمر الخلافة حيث اضطرب أمر الأنصار فجعلوا يطلبون الأمر لأنفسهم، أو الشركة فيه مع المهاجرين فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الأئمة من قريش" 3 فأذعنوا لذلك منقادين ورجعوا إلى الحق طائعين، وبايعوا أبا بكر رضوان الله عليه واجتمعوا على إمامته واتفقوا على خلافته وانقادوا لطاعته وانقطع الحوار في مسألة الخلافة باجتماعهم على أبي بكر رضي الله عنه وقد بين عمر رضي الله عنه كيفية بيعة أبي بكر رضي الله عنه في حديث طويل رواه البخاري وفيه أنه قال: "قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم
1ـ تفسير القرآن العظيم 1/125.
2ـ بنو ساعدة: قوم من الأنصار من بني كعب بن الخزرج بن ساعدة ومنهم سعد بن عبادة وسهل بن سعد الساعديان رضي الله عنهما وسقيفتهم في المدينة بمنزلة دار الندوة التي كانت لقريش في مكة وكانت السقيفة مكاناً يجتمعون فيه حين يجد ما يدعو إلى تداول الرأي "انظر معجم البلدان" 3/228-229.
3ـ مسند أحمد 3/183.
أن الأنصار خالفوا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان1 فذكروا ما تمالأ عليه القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا فقالوا: هذا سعد بن عبادة فقلت: ماله؟ قالوا: يوعك2 فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم3 فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم ـ معشر المهاجرين ـ رهط وقد دفت دافة4 من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا5 من أصلنا وأن يخضونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم ـ وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ـ وكنت أداري منه بعض الحد6 فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال: ما ذكرتم فيكم
1ـ هما: عويم بن ساعدة ومعن بن عدي "انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/660، المصنف لابن أبي شيبة 15/565
2ـ الوعك: الحمى بنافض ولذلك زمل "فتح الباري" 12/151 وانظر النهاية في غريب الحديث 5/207.
3ـ كان خطيب الأنصار ثابت بن قيس فالذي يظهر أنه هو "فتح الباري" 12/151.
4ـ دافة: أي عدد قليل، وأصله من الدف وهو السير البطيء في جماعة
…
يريد أنكم قوم طرأة غرباء أقبلتم من مكة إلينا ثم أنتم تريدون أن تيتأثروا علينا "فتح الباري" 12/151-152، وانظر النهاية في غريب الحديث 2/124.
5ـ يختزلونا: أي: يقتطعونا عن الأمر وينفردوا به دوننا "النهاية في غريب الحديث" 2/29، فتح الباري 12/150.
6ـ الحد والحدة: سواء من الغضب
…
وبعضهم يرويه بالجيم من الجد ضد الهزل أهـ. النهاية في غريب الحديث 1/353.
من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسباً وداراً وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ـ فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ـ فلم أكره مما قال غيرها، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها1 المحكك وعذيقها المرجب. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش2 فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت3 من الاختلاف فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته4 وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا5 على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قلتم سعد بن عبادة فقلت: قتل الله سعد بن عبادة قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضي وإما نخالفهم فيكون فساداً فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه ثغرة أن يقتلا"6.
ولقد اعترف سعد بن عبادة رضي الله عنه بصحة ما قاله الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة من أن قريشاً هم ولاة هذا الأمر وسلم طائعاً منقاداً لما قاله
1ـ الجذيل: تصغير جذل ـ وهو في الأصل عود ينصب للإبل الجربى لتحتك به، والعذيق: تصغير العذق ـ وهو النخلة يحملها، والمرجب: اسم مفعول من قولهم: "رجب النخلة ترجيباً" إذا بنى حولها دكاناً تعتمد عليه وذلك إنما يضع إذا كثر ثمرها حتى خيف أن تسقط منه ولم يرد بالتصغير في الموضعين إلا المدح، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 1/251، 2/197، فتح الباري 7/31.
2ـ قائل هذا هو: الحباب بن المنذر "فتح الباري" 12/153.
3ـ الفرق: بالتحريك الخوف والفزع يقال: فرق يفرق فرقاً "النهاية في غريب الحديث" 3/438.
4ـ وفي رواية أخرى أخرجها ابن إسحاق أن عمر رضي الله عنه قال: "ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده ثم ضربت على يده وتابع الناس "ذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 5/278، وقد سمى ابن سعد هذا الرجل بأنه: بشير بن سعد والد النعمان بن بشير الطبقات الكبرى 3/182 وانظر: البداية والنهاية 5/278.
5ـ ونزونا على سعد أي: وقعوا عليه ووطئوه "النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/44.
6ـ صحيح البخاري 4/179-180.
المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد تذكير الصديق إياه بذلك.
فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في طائفة من المدينة قال: فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً مات محمد ورب الكعبة ـ وفيه ـ فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتوهم فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم من شأنهم ـ إلا ذكره وقال: لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو سلك وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار" ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ وأنت قاعد: "قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم" فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء1.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد إيراده لهذا الحديث: "فهذا مرسل حسن ولعل حميداً أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا ذلك وفيه فائدة جليلة جداً وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالإمارة فرضي الله عنهم أجميعن"2.
والبيعة التي حصلت للصديق رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة تعتبر بيعة أولى من كبار وفضلاء الصحابة من مهاجرين وأنصار وقد بويع رضي الله عنه بيعة عامة من الغد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتممت البيعة من المهاجرين والأنصار قاطبة صبيحة يوم الثلاثاء وهو اليوم الثاني من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل تجهيزه عليه الصلاة والسلام.
وروى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر
1ـ المسند 1/5.
2ـ منهاج السنة 1/143.
صامت لا يتكلم قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم ـ فإن يك محمد قد مات فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين فإنه أولى الناس بأموركم، فقوموا بايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكان بيعة العامة على المنبر قال الزهري عن أنس بن مالك: سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر فلم يزل حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة"1.
وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وخليفته من المهاجرين، ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلكم أما لو قلتم غير هذا لم نبايعكم وأخذ بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه فبايعه عمر وبايعه المهاجرون والأنصار قال: فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير قال: فدعا بالزبير فجاء فقال: قلت ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فبايعه ثم نظر في وجوه القوم فلم ير علياً فدعا بعلي بن أبي طالب فجاء فقال: قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين قال: لا تثريب با خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه"2.
قال ابن كثير: "فيه فائدة جليلة وهي: مبايعة علي بن أبي طالب إما
1ـ صحيح البخاري 4/248.
2ـ أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 5/280 ثم قال عقبه: "وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان المنذري وانظر الاعتقاد للبيهقي ص/178.
في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة وهذا حق فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه
…
وخرج معه إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهراً سيفه يريد قتال أهل الردة"1.
وأما ما جاء في الصحيحين في حديث عائشة رضي الله عنها من أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته2 فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك3 فقال أبو بكر: وما عساهم أن يفعلوا بي إني والله لآتينهم فدخل
1ـ البداية والنهاية 5/281.
2ـ قال النووي: "وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر رضي الله عنه فمعناه انقباضها عن لقائه وليس هذا من الهجران المحرم الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء وقوله في هذا الحديث "فلم تكلمه" يعني في هذا الأمر أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه ولم ينقل قط انهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته"أهـ. شرح النووي 12/73-74.
3ـ معنى قول عمر رضي الله عنه: "والله لا تدخل عليهم وحدك" خاف أن يغلظوا عليه في المعاتبة ويحملهم على الإكثار من ذلك لين أبي بكر وصبره عن الجواب عن نفسه وربما رأى من كلامهم ما غير قلبه فيترتب على ذلك مفسدة خاصة أو عامة وإذا حضر عمر امتنعوا من ذلك"أهـ. شرح النووي 12/78.
عليهم أبو بكر فتشهد علي بن أبي طالب ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ولكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نحن نرى لنا حقاً لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الحق ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته1 فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهد علي بن أبي طالب فعظم حق أبي بكر وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضله الله به ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيباً فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت فكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر المعروف"2.
فتأخر علي رضي الله عنه عن المدة المذكورة في الحديث عن بيعة الصديق رضي الله عنه أجاب عنه بعض أهل العلم بما يقنع الذين يسمعون، ويشفي من سلمت قلوبهم من الأحقاد والأضغان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد قال الإمام النووي: "أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة فقد ذكره علي في هذا الحديث واعتذر أبو بكر رضي الله عنه ومع هذا فتأخره ليس بقادح في البيعة ولا فيه أما البيعة فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من
1ـ ذكر البيهقي في كتابه "الاعتقاد" ص/179 أن الصديق رضي الله عنه قال في اعتذاره إلى علي وغيره ممن تخلف عن بيعته: "أما والله ما حملنا على إبرام ذلك دون من غاب عنه إلا مخافة الفتنة وتفاقم الحدثان وإن كنت لها لكارهاً لولا ذلك ما شهدها أحد كان أحب إلي أن يشهدها إلا من هو بمثل منزلتك"أهـ.
2ـ صحيح البخاري 3/55-56، صحيح مسلم 3/2380.
العلماء والرؤساء ووجوه الناس، وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له وأن لا يظهر خلافاً ولا يشق العصا وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته فإنه لم يظهر على أبي بكر خلافاً ولا شق العصا ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره فلم يجب عليه الحضور لذلك ولا لغيره فلما لم يجب لم يحضر وما نقل عنه قدح في البيعة ولا مخالفة ولكن بقي في نفسه عتب فتأخر حضوره في أن زال العتب وكان سبب العتب أنه مع وجاهته وفضيلته في نفسه في كل شيء وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك رأى أنه لا يستبد بأمر إلا بمشورته وحضوره وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهم الأمور كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله أو الصلاة عليه أو غير ذلك وليس لهم من يفصل الأمور فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء والله أعلم"1.
قال الحافظ ابن كثير معللاً عدم اسجابة الصديق رضي الله عنه لما طلبته فاطمة رضي الله عنها من الميراث حيث ظنت أن ما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين الورثة قال: "فلم يجيبها إلى ذلك لأنه رأى أن حقاً عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق البار الراشد التابع للحق رضي الله عنه فحصل لها ـ وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة ـ عتب وتغضب ولم تكلم الصديق حتى ماتت واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر
1ـ شرح النووي 12/77-78.
رضي الله عنه
…
مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد ذلك صحة قول موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن ابراهيم: حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس وقال: ما كنت حريصاً يوماً ولا ليلة سألتها في سر ولا علانية فقبل مقالته وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار وإنا لنعرف شرفه وخيره ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي "إسناد جيد ولله الحمد والمنة ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع الصحابة ـ المهاجرين منهم والأنصار على تقديم أبي بكر وظهر له برهان قوله عليه الصلاة والسلام: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 1.
فبيعة علي رضي الله عنه للصديق بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها محمول على أنها بيعة ثانية أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث ومنعه إياهم ذلك بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا نورث ما تركناه فهو صدقة".
كما تقدم، ومن هذا يعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا حصل لهم بعض العتب على بعضهم فإنهم كانوا سريعي الرجوع عند مراجعة الحق وظهوره ولم يجعلوا للغل في قلوبهم سكناً بل كانت قلوبهم على قلب رجل واحد وحتى أم الحسنين رضي الله عنها رجعت عن عتبها على الصديق وعدلت عن مطالبته فيما أفاء الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال فدك بعد أن أبان لها الحكم فيه كما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم2 وهذا هو الصواب والمظنون بها واللائق بأمرها وسايداتها وعلمها ودينها رضي الله عنها3 ولم تطب نفس الإمام الأكبر والصديق الأعظم أبو بكر
1ـ البداية والنهاية 5/281.
2ـ المسند 1/4، سنن أبي داود 2/130، البداية والنهاية 5/352.
3ـ البداية والنهاية 5/325.
رضي الله عنه أن تبقى سيدة نساء العالمين عاتبه عليه بل ترضاها وتلاينها قبل موتها فرضيت رضي الله عنها على رغم أنف كل رافضي على وجه الأرض فقد روى الحافظ أبو بكر بإسناده إلى إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم! فأذنت له فدخل عليها يترضاها فقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضات الله ومرضات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرضاتكم أهل البيت ثم ترضاها حتى رضيت1.
ففي هذا الأثر صفعة قوية للرافضة الذين فتحوا على أنفسهم شراً عريضاً وجهلاً طويلاً وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم بسبب ما ذكر من هجران فاطمة رضي الله عنها لأبي بكر ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة وفرقة مرذولة يتمسكون بالمتشابه ويتركون الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين2.
ثم أن الصديق رضي الله عنه لم يقبل الإمامة حرصاً عليها ولا رغبة فيها وإنما قبلها تخوفاً من وقوع فتنة أكبر من تركه قبولها رضي الله عنه وأرضاه3، ولما بويع رضي الله عنه البيعة الثانية التي هي بيعة عامة الناس في مسجد رسول الله
1ـ أورده الحافظ ابن كثير "البداية والنهاية 5/325 ثم قال عقبه: وهذا إسناد جيد قوي والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8/27، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/121 وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري 6/139، وقال عقبه وهو وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح.
2ـ انظر البداية والنهاية 5/322.
3ـ انظر المصدر السابق 5/279.
صلى الله عليه وسلم خطب الناس خطبة عامة حيث قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله: "أما بعد: أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله"1.
وقوله رضي الله عنه: "قد وليت عليكم ولست بخيركم" من باب الهضم والتواضع إذ أنهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضي الله عنهم2.
ففي هذه الروايات المتقدمة بيان كيفية مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد انعقدت له الخلافة بعقد خيار هذه الأمة المحمدية وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة وبهم قهر المشركون وبهم فتحت جزيرة العرب. فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر وأما كون عمر أو غيره سبق إلى البيعة ففي كل بيعة لا بد من سابق"3.
1ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/661، والطبقات لابن سعد 3/182-183، البداية والنهاية 5/279-280 وقال:"هذا إسناد صحيح".
2ـ انظر البداية والنهاية 5/280.
3ـ منهاج السنة 1/142.
المبحث الثالث: ذكر النصوص التي فيها الإشارة إلى خلافته من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
أولاً: الآيات القرآنية:
لقد وردت آيات في الكتاب العزبز فيها الإشارة إلى أبا بكر الصديق رضي الله عنه أحق الناس من هذه الأمة بخلافة سيد الأولين والآخرين وتلك الآيات هي:
1/ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1 ووجه الدلالة أن أبا بكر رضي الله عنه داخل فيمن أمر الله ـ جل وعلا ـ عباده أن يسألوه أن يهديهم طريقهم وأن يسلك بهم سبيلهم وهم الذين أنعم الله عليهم وذكر منهم الصديقين في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 2 وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين3 فدل ذلك على أنه واحد منهم بل هو المقدم فيهم ولما كان أبو بكر رضي الله عنه ممن طريقهم هو الصراط المستقيم فلا يبقى أي شك لدى العاقل في أنه أحق خلق الله من هذه الأمة بخلافة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن عمر الرازي: " قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ
1ـ سورة الفاتحة آية/6-7.
2ـ سورة النساء آية/69.
3ـ انظر صحيح البخاري 2/293.
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم؟ فقال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} الآية ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقيين ولو كان أبو بكر ظالماً لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه"1.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم ـ أعني الفاتحة ـ بأن نسأله أن يهدينا صراطهم فدل على أن صراطهم هو الصراط المستقيم وذلك في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أبي بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم وأن إمامته حق"2.
هذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر
1ـ التفسير الكبير للرازي 1/260.
2ـ أضواء البيان 1/36.
3ـ سورة المائدة آية/54.
الصديق رضي الله عنه وجيوشه من الصحابة الذين قاتلوا المرتدين فقد مدحهم الله بأكمل الصفات وأعلى المبرات ووجه دلالة الآية على خلافة الصديق أنه "كان في علم الله سبحانه وتعالى ما يكون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ارتداد قوم فوعد سبحانه ووعده صدق ـ أنه يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل ولا يخافون لومة لائم، فلما وجد ما كان في علمه في ارتداد من ارتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد تصديق وعده بقيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقتالهم فجاهد بمن أطاعه من الصحابة من عصاه من الأعراب ولم يخف في الله لومة لائم حتى ظهر الحق وزهق الباطل وصار تصديق وعده بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم آية للعالمين ودلالة على صحة خلافة الصديق رضي الله عنه"1.
روى ابن جرير الطبري بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: فسوف يأتي الله المرتدة في دورهم بقوم يحبهم ويحبونه بأبي بكر وأصحابه"2 وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى الحسن البصري رحمه الله أنه قال في قوله: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: هم الذين قاتلوا مع أبي بكر أهل الردة من العرب حتى رجعوا إلى الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: وكذلك قال عكرمة وقتادة والضحاك، وروينا عن عبد الله بن الأهتم أنه قال لعمر بن عبد العزيز: إن أبا بكر قام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا إلى سنته ومضى على سبيله فارتدت العرب، أو من ارتد منهم فعرضوا أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة فأبى أن يقبل منهم إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قابلاً في حياته فانتزع السيوف من أغمادها وأوقد النيران في شعلها وركب بأهل حق الله أكتاف أهل الباطل حتى قررهم بالذي نفروا منه وأدخلهم من الباب الذي خرجوا
1ـ الاعتقاد للبيهقي ص/173-174.
2ـ جامع البيان 6/285.
منه حتى قبضه الله"1.
فدلت الآية السابقة على خلافة الصديق حيث حصل في خلافته ما نطقت به الآية من ارتداد الكثير من العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وجاهدهم أبو بكر رضي الله عنه هو والصحابة الكرام رضي الله عنهم حتى رجعوا إلى الإسلام كما أخبر الله تعالى في الآية وهذا من الكائنات التي أخبر بها الرب ـ جل وعلا ـ قبل وقوعها.
3/ قال تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 2 ففي هذه الآية الكريمة جعل الله أبا بكر في مقابلة الصحابة أجمع حيث خاطبهم بأنهم إن لم يعينوا رسوله صلى الله عليه وسلم بالنفير معه للمقاتلة في سبيل الله فقد نصره بصاحبه أبي بكر رضي الله عنه وأيده بجنود من الملائكة ثم بين ـ تعالى ـ أنه ثاني اثنين ـ ثالثهما رب العالمين وهذه الميزة الشريفة والمنزلة العظيمة اعتبرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفاته العالية التي جعلته أحق الناس بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم3 لأنه لا أفضل في الأمة المحمدية من أبي بكر الذي هو ثاني اثنين قال عليه الصلاة والسلام في شأنهما: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"4.
قال أبو عبد الله القرطبي: "قال بعض العلماء في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الخليفة لا يكون إلا ثانياً وسمعت شيخنا أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب
1ـ الاعتقاد ص/174.
2ـ سورة التوية آية/40.
3ـ انظر صحيح البخاري 4/248، المصنف لابن أبي شيبة 15/570.
4ـ صحيح البخاري 2/288، صحيح مسلم 4/1854.
كلها ولم يبق الإسلام إلا بالمدينة وجواثاً1 فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين"2.
4/ قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 3. الآية "ووجه دلالة الآية على أحقية الصديق بلإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم وإذا ثبت هذا فإن أسبق الناس إلى الهجرة أبو بكر الصديق فإنه في خدمة المصطفى عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وإذا ثبت هذا صار محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما"4.
1ـ جواثاً: قرية بالبحرين معروفة "انظر معجم البلدان" 2/174، لسان العرب 2/126.
2ـ الجامع لأحكام القرآن 8/147-148.
3ـ سورة التوبة آية/100.
4ـ انظر التفسير الكبير للفخر الرازي 16/168-169.
5ـ سورة النور آية/55.
"هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق رضي الله عنه وعلى خلافة الثلاثة بعده فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف والتمكين في أمر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي دل ذلك على أن خلافتهم حق"1.
قال الحافظ ابن كثير: "وقال بعض السلف خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله ثم تلا هذه الآية"2.
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وقد دل الله على إمامة أبي بكر في سورة براءة فقال للقاعدين عن نصرة نبيه عليه السلام والمتخلفين عن الخروج معه {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} 4 وقال في سورة أخرى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يعني قوله: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً} ثم قال: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَاّ قَلِيلاً} وقال: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} ـ يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم إلى قتالهم ـ {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 5 والداعي لهم إلى ذلك غير النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال الله عز وجل له {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} وقال في سورة الفتح:
1ـ انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 5/121.
2ـ المصدر السابق.
3ـ سورة الفتح آية/16.
4ـ سورة التوبة آية/83.
5ـ سورة الفتح آية/15-16.
{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} "فمنعهم عن الخروج مع نبيه عليه السلام وجعل خروجهم معه تبديلاً لكلامه فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال داع يدعوهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم"1.
وقد قال مجاهد في قوله: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} : هم فارس والروم وبه قال الحسن البصري. وقال عطاء: هم فارس وهو أحد قولي ابن عباس رضي الله عنه، وفي رواية أخرى عنه أنهم بنو حنيفة يوم اليمامة فإن كانوا أهل اليمامة فقد قوتلوا في أيام أبي بكر: وهو الداعي إلى قتال مسيلمة وبني حنيفة من أهل اليمامة، وإن كانوا أهل فارس والروم2 فقد قوتلوا في أيام أبي بكر وقاتلهم عمر من بعده وفرغ منهم وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر لأنه العاقد له الإمامة فقد دل القرآن على إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وإذا وجبت إمامة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب أنه أفضل المسلمين رضي الله عنه"3.
وجه دلالة هذه الآية على خلافته رضي الله عنه أن الله ـ جل وعلا ـ سماهم "صادقين" ومن شهد له الرب ـ جل وعلا ـ بالصدق فإنه لا يقع في الكذب ولا يتخذه خلقاً بحال وقد أطبق هؤلاء الموصوفون بالصدق على تسمية الصديق رضي الله عنه "خليفة رسول الله"5 صلى الله عليه وسلم ومن هنا كانت الآية دالة على ثبوت خلافته رضي الله عنه.
1ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/67، وانظر مقالات الإسلاميين 2/144، الاعتقاد للبيهقي ص/172-173.
2ـ انظر جامع البيان للطبري 26/82-84، الاعتقاد للبيهقي ص/173، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/340.
3ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/67.
4ـ سورة الحشر آية/8.
5ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/107، منهاج السنة 1/135.
ثانياً: وأما الأحاديث النبوية التي جاء التنبيه فيها على خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكثيرة شهيرة متواترة ظاهرة الدلالة إما على وجه التصريح، أو الإشارة ولاشتهارها وتواترها صارت معلومة من الدين بالضرورة بحيث لا يسع أهل البدعة إنكارها ومن تلك الأحاديث:
1-
ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن جبير من مطعم قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك ـ كأنها تقول الموت ـ قال صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر"1.
اشتمل هذا الحديث على إشارة واضحة في أن الذي يخلفه على الأمة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال أبو محمد بن حزم: "وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر"2.
وقال الحافظ ابن حجر: "وفي الحديث أن مواعيد النبي صلى الله عليه وسلم كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها وفيه رد على الشيعة في زعمهم أنه نص على استخلاف علي والعباس"3.
2-
وروى مسلم رحمه الله بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا"4.
قال النووي: "هذا دليل لأهل السنة في تقديم أبي بكر ثم عمر للخلافة مع إجماع الصحابة وفيه دلالة لأهل السنة أن خلافة أبي بكر ليست بنص من
1ـ صحيح البخاري 2/289، صحيح مسلم 4/1856-1857.
2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/108.
3ـ فتح الباري 7/24.
4ـ صحيح مسلم 4/1856.
النبي صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحاً بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته ولو كان هناك نص عليه أو على غيره لم تقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أولا ولذكر حافظ النص ما معه ولرجعوا إليه لكن تنازعوا أولا ولم يكن هناك نص ثم اتفقوا على أبي بكر واستقر الأمر وأم ما تدعيه الشعية من النص على علي والوصية إليه فباطل لا أصل له باتفاق المسلمين والاتفاق على بطلان دعواهم من زمن علي وأول من كذبهم علي رضي الله عنه بقوله: ما عندنا إلا ما في هذه الصحيفة الحديث1 ولو كان عنده نص لذكره ولم ينقل أنه ذكره في يوم من الأيام ولا أن احداً ذكره له والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم
…
للمرأة حين قالت: يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك قال: "فإن لم تجديني فأتي أبا بكر " فليس فيه نص على خلافته وأمر بها، بل هو إخبار بالغيب الذي أعلمه الله تعالى به والله أعلم"2.
3-
وروى الإمام أحمد وغيره عن حذيفة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي" وأشار إلى أبي بكر وعمر "وتمسكوا بعهد عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه"3.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي" أي: "بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبو بكر وعمر. وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة"4.
4-
وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس فجاءني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني فنزع دلوين وفي نزعه
1ـ انظر هذا الحديث في صحيح مسلم 3/1567.
2ـ شرح النووي 15/154-155.
3ـ المسند 5/385 ـ وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 3/233-236.
4ـ انظر فيض القدير للمناوي 2/56، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 10/147.
ضعف والله يغفر له فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم أر نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر" 1.
هذا الحديث فيه إشارة ظاهرة إلى خلافة أبي بكر وعمر وصحة ولايتهما وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: "رؤيا الأنبياء وحي وقوله: وفي نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته"2.
5-
وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعي لي أبا بكر، وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"3.
6-
وعند الإمام أحمد عنها رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: "ائتني بكتف 4 أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه" فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: "أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر"5.
دل هذا الحديث دلالة ظاهرة على فضل الصديق رضي الله عنه حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق الأعلى وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره رضي الله عنه وفي الحديث إشارة أنه سيحصل نزاع ووقع كل
1ـ صحح البخاري 2/290، صحيح مسلم 4/1861-1862 واللفظ له.
2ـ الاعتقاد للبيهقي ص/171.
3ـ صحيح البخاري 2/247-248، صحيح مسلم 4/1857 واللفظ له.
4ـ الكتف: عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدواب كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس "النهاية" 4/150.
5ـ المسند 6/47.
ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام ثم اجتمعوا على أبي بكر رضي الله عنه قال أبو محمد بن حزم بعد أن ذكر هذا الحديث: "فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده"1.
7-
وروى البخاري من حديث طويل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر"2.
وفي لفظ آخر للشيخين: "لا يبقين في المسجد خوخة3 إلا سدت إلا خوخة أبي بكر" 4 فأمره صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب جميعها إلا باب أبي بكر فيه إشارة قوية إلى أنه أول من يلي أمر الأمة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
قال الحافظ ابن حجر: "قوله إلا باب أبي بكر" هو استثناء مفرغ والمعنى لا تبقوا باباً غير مسدود إلا باب أبي بكر فاتركوه بغير سد قال الخطابي وابن بطال وغيرهما: في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة والأمر بالسد كناية عن طلبها5 كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لا حرج عليه في طلبها وإلي هذا جنح ابن حبان فقال بعد أن أخرج هذا الحديث: "في هذا الحديث دليل على أنه الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حسم بقوله سدوا عني
1ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/108.
2ـ صحيح البخاري 2/288-289.
3ـ الخوخة: الباب الصغير بين البيتين أو الدارين "شرح النووي" 15/151، النهاية لابن الأثير 2/86.
4ـ صحيح البخاري 2/331.
5ـ الصحيح في تأويل الحديث أن سد الخوخات كان حسياً وليس معنوياً ولذلك بادروا إلى سد الخوخات بالماء والطين والله أعلم.
كل خوخة في المسجد أطماع الناس كلهم على أن يكونوا خلفاء بعده"1.
8-
وروى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت عائشة: إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فعادت فقال: "مري أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف" 2 فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم3.
9-
وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها أنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "مروا أبا بكر يصلي بالناس" قالت عائشة: قلت: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل للناس فقالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس ففعلت حفصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت حفصة لعائشة: "ما كنت لأصيب منك خيراً"4.
10-
وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: بلى ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلى الناس" قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قال: "ضعوا لي ماء في المخضب" 5 ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء6 فأغمي عليه ثم
1ـ فتح الباري 7/14.
2ـ قوله: فإنكن صواحب يوسف: أي في الظاهر على ما تردن وكثرة إلحاحكن في طلب ما تردنه وتملن إليه أهـ. شرح النووي 4/140.
3ـ صحيح البخاري 2/124، صحيح مسلم 1/316.
4ـ صحيح البخاري 2/124، صحيح مسلم 1/313.
5ـ المخضب: بالكسر شبه المركن وهي إجانة تغسل فيها الثياب "النهاية في غريب الحديث 2/39، شرح النووي 4/136.
6ـ ينوء: أي يقوم وينهض "شرح النووي" 4/136.
أفاق فقال: "أصلى الناس" قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله فقال: "ضعوا لي ماء في المخضب" ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: "أصلى الناس" فقلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر، وكان رجلاً رقيقاً: يا عمر صل بالناس قال: فقال عمر: أنت أحق بذلك قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر وقال لهما: "أجلساني إلى جنبه" فأجلساه إلى جنب أبي بكر وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هات فعرضت حديثها عليه فما أنكر منه شيئاً غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس قلت: لا قال: هو علي"1.
هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة منها: "فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره ومنها أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم ومنها فضيلة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يعدل إلى غيره"2.
1ـ صحيح مسلم 1/311-312.
2ـ شرح النووي 4/137.
11-
وروى الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً قال: فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم قال: ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر قال: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك"1.
12-
وروى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: "لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكريتقدم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات"2 فهذه الأحاديث التي فيها تقديم الصديق رضي الله عنه في الصلاة على اختلاف رواياتها واضحة الدلالة على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الصحابة على الإطلاق وأحقهم بالخلافة وأولاهم بالإمامة وقد فهم هذه الدلالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
13-
فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير قال: فأتاهم عمر رضي الله عنه فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر رضي الله عنه فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر"3.
1ـ صحيح البخاري 2/124، صحيح مسلم 1/315.
2ـ صحيح البخاري 2/124-125.
3ـ المستدرك 3/67.
14-
وروى ابن سعد بإسناده إلى الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فقدمنا أبا بكر"1.
وكما فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من تقديم الصديق في الصلاة أن ذلك إشارة إلى أنه أحق الناس بالإمامة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كذلك فهم هذا الفهم من جاء بعدهم من أهل العلم، فقد قال أبو بكر المروذي2:"قيل لأبي عبد الله ـ أحمد بن حنبل ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم" فلما مرض قال: "قدموا أبا بكر يصلي بالناس" وقد كان في القوم من هو أقرؤ من أبي بكر فقال أبو عبد الله: إنما أراد الخلافة3.
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سناً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاماً" قال ابن كثير ـ وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه4.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي بعد أن ساق الأحاديث التي فيها تقديم أبي بكر الصديق في الصلاة: "فهذه الأخبار وما في معناها تدل على أن النبي
1ـ الطبقات 3/183.
2ـ هو أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز أبو بكر المروذي كان رحمه الله مقدماً في أصحاب أحمد لورعه وفضله وكان أحمد يأنس به وينبسط إليه وهو الذي تولى إغماض أحمد لما مات وغسله وروى عن الإمام أحمد مسائل كثيرة توفي سنة خمس وسبعين ومائتين هجرية "انظر ترجمته في طبقات الحنابلة" 1/56-63.
3ـ المسند من مسائل الإمام أحمد للخلال ورقة 43 وهو مخطوط يوجد في مكتبة مخطوطات الجامعة الإسلامية، وانظر مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/160.
4ـ البداية والنهاية 5/265.
صلى الله عليه وسلم رأى أن يكون الخليفة من بعده أبو بكر الصديق فنبه أمته بما ذكر من فضيلته وسابقته وحسن أثره، ثم بما أمرهم به من الصلاة خلفه، ثم الاقتداء به وبعمر ابن الخطاب رضي الله عنهما على ذلك وإنما لم ينص عليه نصاً لا يحتمل غيره والله أعلم لأنه علم بإعلام الله إياه أن المسلمين يجتمعون عليه وأن خلافته تنعقد بإجماعهم على بيعته"أ. هـ1.
ولا يفوتنا أن نذكر في ختام هذا المبحث أن أهل السنة لهم قولان في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من حيث الإشارة إليها بالنص الخفي أو الجلي.
القول الأول:
منهم من قال: إن إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثابتة بالنص الخفي والإشارة وهذا القول ينسب إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى وجماعة من أهل الحديث2 وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل3 رحمة الله عليه واستدل أصحاب هذا القول بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة وبأمره صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب إلا باب أبي بكر وقد تقدمت هذه الأحاديث قريباً.
القول الثاني:
ومنهم من قال: إن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ثابتة بالنص الجلي وهذا قول طائفة من أهل الحديث4 وبه قال أبو محمد بن حزم الظاهري5 واستدل
1ـ الاعتقاد ص/172.
2ـ انظر "الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 4/107، منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/134-135، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/125، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص/533.
3ـ انظر المعتقد في أصول الدين لأبي يعلى الفراء ص/226، منهاج السنة 1/134.
4ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/107، منهاج السنة 1/134-135، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/125، شرح العقيدة الطحاوية ص/533.
5ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/107.
هذا الفريق بحديث المرأة التي قال لها: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر" وبقوله لعائشة رضي الله عنها: "ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" وحديث رؤياه صلى الله عليه وسلم:"أنه على حوض يسقي الناس فجاء أبو بكر فنزع الدلو من يده ليروحه" وكل هذه الأحاديث تقدم تخريجها قريباً في هذا المبحث.
والقول الذي يطمئن إليه القلب وترتاح له النفس في خلافة أبي بكر رضي الله عنه أن يقال: إن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم من بعده أبا بكر رضي الله عنه وإنما دلهم عليها لإعلام الله ـ سبحانه ـ له بأن المسلمين سيختارونه لما له من الفضائل العالية التي ورد بها القرآن والسنة وفاق بها غيره من جميع الأمة المحمدية رضي الله عنه وأرضاه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد ذكره للخلاف الوارد في خلافة الصديق هل ثبتت بالنص الجلي، أو الخفي: "والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك
…
فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً قاطعاً للعذر ولكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، رواه البخاري ومسلم.." إلى أن قال ـ "فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعاً لكن النص دل على
رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد، وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة فإن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص"1.
فهذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة لأن النصوص متفقة على إثبات فضله الذي لا يلحقه فيه أحد، وإرشاد الأمة إلى أنه أحق الناس بنيابة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين سيجتمعون على خلافة أبي بكر لسابقته إلى الإسلام وفضله العظيم الذي لا يشاركه فيه أحد فخلافته رضي الله عنه ورد في القرآن والسنة التنبيه والإشارة إليها والله أعلم.
1ـ منهاج السنة 1/139-141 وانظر مجموع الفتاوى 35/47-49.
المبحث الرابع: بيان الإجماع على خلافته رضي الله عنه
…
المبحث الرابع: بيان انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه:
لقد أجمع أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لفضله وسابقته ولتقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلوات على جميع الصحابة وقد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مراد المصطفى عليه الصلاة والسلام من تقديمه في الصلاة فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يتخلف منهم أحد ولم يكن ـ الرب جل وعلا ـ ليجمعهم على ضلالة فبايعوه طائعين وكانوا لأوامره ممتثلين ولم يعارض منهم أحد في تقديمه وما يزعمه الشيعة من أن علياً تخلف عن بيعته هو والزبير قد قدمنا قريباً ما يدل على بطلان هذا الزعم من ثبوت بيعتهما في البيعة العامة التي كانت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من بيعة السقيفة ومن زعم أن علياً والزبير رضي الله عنهما بايعا ظاهراً وخالفا باطناً فقد قال فيهما أقبح القول فهما رضي الله عنهما أجل قدراً وأكبر محلاً من هذا، وقد نقل إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أولى بالخلافة من كل أحد جماعة من أهل العلم المعتبرين.
فقد روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى أبي محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ أنه قال: أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر قالوا له: يا خليفة رسول الله ولم يسم أحد بعده خليفة، وقيل: إنه قبض النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثين ألف مسلم كل قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوا به من بعده رضي الله عنهم1.
1ـ تاريخ بغداد 10/130-131.
وقال أبو الحسن الأشعري: "أثنى الله عز وجل على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية1 قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وسموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك"2
وقال أيضاً: بعد أن ذكر آيات من القرآن الكريم استدل بها على خلافة أبي بكر: "ومما يدل على إمامة الصديق رضي الله عنه أن المسلمين جميعاً تابعوه وانقادوا لإمامته
…
ثم رأينا علياً والعباس قد بايعاه وأجمعا على إمامته فوجب أن يكون إماماً بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين، ولا يجوز لقائل أن يقول: كان باطن علي والعباس خلاف ظاهرهما، ولو جاز هذا لمدعيه لم يصح إجماع وجاز لقائل أن يقول ذلك في كل إجماع المسلمين وهذا يسقط حجية الإجماع لأن الله عز وجل لم يتعبدنا في الإجماع بباطن الناس وإنما تعبدنا بظاهرهم وإذا كان ذلك كذلك فقد حصل الإجماع والاتفاق على إمامة أبي بكر الصديق"3.
وقال أبو بكر الباقلاني في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصديق رضي الله عنه: "وكان رضي الله عنه مفروض الطاعة لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له حتى قال أمير المؤمنين علي عليه السلام مجيباً لقوله رضي الله عنه لما قال: أقيلوني فلست بخيركم، فقال: لا نقيلك ولا نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ألا ترضاك لدنيانا يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره واستنابته في إمارة الحج فأمرك علينا وكان رضي الله عنه أفضل الأمة وأرجحهم
1ـ سورة الفتح آية/18.
2ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/66.
3ـ المصدر السابق ص/67-68.
إيماناً وأكملهم فهماً وأوفرهم علماً"1.
وقال أبو عثمان الصابوني: "ويثبت أهل الحديث خلافة أبي بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، وقولهم قاطبة: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا، وقولهم: قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يؤخرك وأرادوا أنه صلى الله عليه وسلم قدمك في الصلاة بنا أيام مرضه فصلينا وراءك بأمره فمن ذا الذي يؤخرك بعد تقديمه إياك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في شأن أبي بكر في حال حياته مما يبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده فلذلك اتفقوا عليه واجتمعوا فانتفعوا بمكانه والله وارتفعوا به وارتقوا"2.
وقال أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي بعد ذكره روايات عدة في مبايعة الصحابة جميعاً بالخلافة لأبي بكر رضي الله عنه: "وقد صح بما ذكرنا اجتماعهم على مبايعته مع علي بن أبي طالب فلا يجوز لقائل أن يقول: كان باطن علي أو غيره بخلاف ظاهره فكان علي أكبر محلا وأجل قدراً من أن يقدم على هذا الأمر العظيم بغير حق أو يظهر للناس خلاف ما في ضميره ولو جاز هذا في اجتماعهم على خلافة أبي بكر لم يصح إجماع قط والإجماع أحد حجج الشريعة ولا يجوز تعطيله بالتوهم والذي روي أن علياً لم يبايع أبا بكر ستة أشهر ليس من قول عائشة إنما هو من قول الزهري فأدرجه بعض الرواة في الحديث عن عائشة في قصة فاطمة رضي الله عنهم وحفظه معمر بن راشد فرواه مفصلاً وجعله من قول الزهري منقطعاً من الحديث وقد روينا في الحديث الموصول عن أبي سعيد الخدري ومن تابعه من المغازي أن علياً بايعه في بيعة العامة بعد البيعة التي جرت في السقيفة ويحتمل أن علياً بايعه بيعة العامة كما روينا في حديث أبي سعيد الخدري وغيره، ثم شجر بين فاطمة وأبي بكر كلام بسبب الميراث إذ لم تسمع من رسول الله
1ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/65.
2ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/128.
صلى الله عليه وسلم في باب الميراث ما سمعه أبو بكر وغيره فكانت معذورة فيما طلبته وكان أبو بكر معذوراً فيما منع فتخلف علي عن حضور أبي بكر حتى توفيت، ثم كان منه تجديد البيعة والقيام بواجباتها كما قال الزهري ولا يجوز أن يكون قعود علي في بيته على وجه الكراهية لإمارته ففي رواية الزهري أنه بايعه بعد وعظم حقه ولو كان الأمر على غير ما قلنا لكانت بيعته آخراً خطأ، ومن زعم أن علياً بايعه ظاهراً وخالفه باطناً فقد أساء الثناء على علي، وقال فيه أقبح القول وقد قال علي في إمارته وهو على المنبر: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم قالوا: بلى قال: أبو بكر ثم عمر ونحن نزعم أن علياً كان لا يفعل إلا ما هو حق ولا يقول إلا ما هو صدق وقد فعل في مبايعة أبي بكر ومؤازرة عمر ما يليق بفضله وعلمه وسابقته وحسن عقيدته وجميل نيته في أداء النصح للراعي والرعية
…
فلا معنى لقول من قال بخلاف ما قال وفعل وقد دخل أبو بكر الصديق على فاطمة في مرض موتها وترضاها حتى رضيت عنه فلا طائل لسخط غيرهما ممن يدعي موالاة أهل البيت ثم يطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجن من يواليه ويرميه بالعجز والضعف واختلاف السر والعلانية في القول والفعل وبالله العصمة والتوفيق"1.
وقال عبد الملك الجويني: "أما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فقد ثبتت بإجماع الصحابة فإنهم أطبقوا على بذل الطاعة والانقياد لحكمه
…
وما تخرص به الروافض من إبداء علي شراساً2 وشماساً3 في عقد البيعة له كذب صريح، نعم لم يكن رضي الله عنه في السقيفة وكان مستخلياً بنفسه قد استفزه الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل فيما دخل الناس فيه وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد"4.
1ـ الاعتقاد ص/179-180.
2ـ الشراس: شدة المعاملة "مختار الصحاح" ص/346.
3ـ شموس: أي صعب الخلق "لسان العرب" 6/111.
4ـ كتاب الإرشاد ص/361.
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "وهو ـ أي أبو بكر ـ أحق خلق الله تعالى بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضوان الله عليهم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تقديمه ومتابعته ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة"1.
وقال أبو عبد الله القرطبي: "وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش"2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في سياق رده على الرافضي: "فلما اتفقوا على بيعته3 ولم يقل قط أحد: إني أحق بهذا الأمر منه لا قرشي ولا أنصاري فإن من نازع أولاً من الأنصار لم تكن منازعته للصديق بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير وهذه منازعة عامة لقريش، فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة وقال لهم الصديق: رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح قال عمر: فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، وقال له بمحضر الباقين: أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه ولا رغبة بذلتهم ولا رهبة فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة والذين بايعوه ليلة العقبة، والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرهم، ولم يقل أحد قط: إني أحق بهذا من أبي بكر ولا قاله أحد في
1ـ لمعة الاعتقاد ص/27.
2ـ الجامع لأحكام القرآن 1/264.
3ـ الضمير عائد إلى أبي بكر رضي الله عنه.
أحد بعينه إن فلاناً أحق بهذا الأمر من أبي بكر وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية: إن بيت الرسول أحق بالولاية لأن العرب ـ في جاهليتها ـ كانت تقدم أهل الرؤساء وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي، فأما الذين لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض وهو التقديم بالإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ولا خالف أحد من هؤلاء ولا هؤلاء وفي أنه ليس في القوم أعظم إيماناً وتقوى من أبي بكر فقدموه مختارين له مطيعين فدل على كمال إيمانهم وتقواهم واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى وكان ما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولهم أفضل لهم والحمد لله على أن هدى هذه الأمة وعلى أن جعلنا من أتباعهم"1
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "قد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على بيعة الصديق حتى علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما"2.
وقال يحيى بن أبي بكر العامري رحمه الله تعالى: "وقد كانت بيعته إجماعاً من الصحابة الذين هم أعرف بالحال وأدرى بصحة الدليل في المقال والإجماع حجة قطعية من غيرهم فما ظنك بهم"3.
فهذه النقول للإجماع عمن تقدم ذكره من الأئمة كلها وضحت أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الأحق بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لإجماع الصحابة على إمامته وانقيادهم له جميعاً وإطباقهم على مخاطبتهم له بالخلافة فقالوا بأجمعهم: يا خليفة رسول الله وما حصل عليه الإجماع لا يكون إلا حقاً فهذا سبيل المؤمنين أهل السنة والجماعة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتبع سبيلاً غيره.
1ـ منهاج السنة 3/269-270.
2ـ البداية والنهاية 6/340.
3ـ الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة ص/142-143.
المبحث الخامس: ذكر بعض شبه الشيعة الإمامية في أن الخليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبيان بطلانها
يزعم الشيعة الإمامية بأن علياً رضي الله عنه هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل ويدعون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه وأوصى له بالخلافة1 ويعتقدون هذا اعتقاداً جازماً والناظر بعين البصيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يجد أنه ليس هناك دليل فيهما يدل على معتقدهم هذا، وبالنظر في كتب الملل والنحل اتضح أن أول من أحدث هذه المقالة التي مضمونها أن علياً وصي النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أوصى له بالخلافة ـ عبد الله بن سبأ اليهودي2 الذي رام بهذه المقالة الكيد للإسلام وتفريق كلمة المسلمين وقد تقبل مقالته الفاسدة من بعده الشيعة الإمامية والنظام3 ومن وافقه من فرق المعتزلة وقد جعل الشيعة الإمامة ركناً من أركان الإيمان التي لا يكمل إيمان الإنسان إلا بها4 بل بالغوا فيها حتى قالوا: إنها أفضل من أركان الإسلام الأخرى5 ثم زعموا أن كل إمام من أئمتهم من أهل البيت
1ـ انظر الطرائف في معرفة مذهب الطوائف لابن طاووس 1/168 وما بعدها، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للعاملي 2/30-47، مقالات الإسلاميين 1/89، الفرق بين الفرق ص/59-60، الملل والنحل للشهرستاني 1/146.
2ـ الفرق بين الفرق ص/235، الملل والنحل للشهرستاني 1/174.
3ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/57.
4ـ جاء في كتاب الكافي للكليني 2/15 كتاب الإيمان والكفر باب دعائم الإسلام حديث رقم 1 فقد ذكر بإسناده إلى جعفر عليه السلام قال: بني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة والصوم، والحج، والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية وانظر ما قاله الخميني في هذا الصدد في كتابه كشف الأسرار ص/149.
5ـ روى الكليني في "الكافي" أيضاً: 2/17 حديث رقم 5 عن أبي جعفر عليه السلام
منصوص على إمامته بالتلميح تارة، وبالتصريح أخرى حيث إن كل إمام من أئمتهم يوصي بالإمامة لمن بعده1 ولكي يضللوا على جهلة المسلمين وليستميلوهم إلى اعتقاد أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو علي رضي الله عنه عمدوا إلى آيات من كتاب ـ تعالى ـ فيها ثناء ومدح لعامة عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين وجعلوها خاصة برابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجعلوا يؤولونها على حسب معتقدهم الباطل، كما اختلقوا كثيراً من الأحاديث لنصرة بدعتهم الفاسدة واعتقادهم الباطل ويجادلون بها على أنها أدلة مسلمة، وفي الحقيقة إنها شبه يصطادون بها جهلة المسلمين ومن قل نصيبه من العلم منهم وسأذكر في هذا المبحث طائفة من الآيات القرآنية، والأحاديث التي يذكرها عوامهم ومن يدعي العلم منهم عند محاجتهم في مسألة الإمامة وسأقرن تلك الآيات والأحاديث بالرد بما يبين بطلان دلالتهما على ما يدعون وما يهدفون إليه.
أولاً: ذكر بعض شبههم من الآيات القرآنية وهي:-
الشبهة الأولى:
قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 2 وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يذكرون عن ابن عباس أنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه فقال: "سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين أن يتوب عليه فتاب عليه" وهذه فضيلة لم يلحقه أحد من الصحابة فيها فيكون هو الإمام لمساواته النبي صلى الله عليه وسلم في التوسل به إلى الله3.
= بني على خمس أشياء على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية. قال زرارة: فقلت وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل لانها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن قلت: ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟ فقال: الصلاة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة عمود دينكم. ..إلخ".
1ـ الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للعاملي 2/160-170.
2ـ سورة البقرة آية/37.
3ـ منهاج الكرامة لابن المكرم الحلي المطبوع مع كتاب منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 4/36- وانظر تفسير العياشي 1/41، تفسير فرات الكوفي ص/13، كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/82-83، ص/138.
وهذا الاستدلال باطل من وجوه:
الأول: أنهم يطالبون بثبوت هذا النقل إلى ابن عباس ولا سبيل لهم إلى هذا.
الثاني: أن هذا الذي نسبوه إلى ابن عباس كذب موضوع باتفاق أهل العلم وقد أورده أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات1 من أفراد أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني فإن له كتباً في الأفراد والغرائب قال الدارقطني: تفرد به حسين الأشقر2 رواي الموضوعات عن الأثبات عن عمرو3 بن ثابت وليس بثقة ولا مأمون.
الثالث: أن الكلمات التي تلقاها آدم قد جاءت مفسرة في قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4 وقد روي عن السلف هذا وما يشبهه وليس في شيء من النقول الثابتة لتفسير الآية ما يذكره الشيعة من القسم.
الرابع: أن الكفار والفساق إذا تاب أحدهم إلى الله تاب الله عليه وإن لم يقسم عليه بأحد فكيف يحتاج آدم في توبته إلى ما لا يحتاج إليه أحد من المذنبين لا مؤمن ولا كافر، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً في توبته بمثل هذا الدعاء.
1ـ الموضوعات 3/3.
2ـ هو الحسين بن الحسن الأشقر الفزاري الكوفي صدوق يهم ويغلو في التشيع من العاشرة مات سنة ثمان ومائتين، قال أبو يعلى: سمعت أبا معمر الهذلي يقول: الأشقر كذاب. وقال ابن معين: كان من الشيعة الغالية "انظر ترجمته وأقوال العلماء فيه " كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي 1/249-250، تهذيب التهذيب 2/335-337.
3ـ هو عمرو بن ثابت وهو ابن أبي المقدام الكوفي مولى بكر بن وائل ضعيف رمي بالرفض من الثامنة مات سنة اثنين وسبعين وهو رافضي خبيث "انظر ترجمته وأقوال العلماء فيه" في تهذيب التهذيب 8/9-10، ميزان الاعتدال 3/249.
4ـ سورة الأعراف آية/23.
الخامس: يقال لهم: إن هذه الخصيصة المكذوبة التي ذكرتموها ليست من خصائض الأئمة إذ أنها حسب زعمكم ثابتة لفاطمة رضي الله عنها وخصائص الأئمة لا تثبت للنساء وما لم يكن من خصائصهم لم يستلزم الإمامة فإن دليل الإمامة لا بد أن يكون ملزوماً لها يلزم من وجوده استحقاقها فلو كان هذا دليلاً على الإمامة لكان من يتصف به يستحقها والمرأة لا تكون إماماً بالنص والإجماع.1
الشبهة الثانية:
قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} 2 الآية، وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم ينسبون إلى ابن مسعود أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "انتهت الدعوة إلي وإلى علي لم يسجد أحدنا لصنم قط فاتخذني نبياً واتخذ علياً وصياً" وهذا نص في الباب3.
والرد على هذا الاستدلال من وجوه:
الأول: إن هذا الحديث كذب باتفاق الحفاظ.
الثاني: أن قوله انتهت الدعوة إلينا كلام لا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن أريد أنها لم تصب من قبلنا كان ممتنعاً لأن الأنبياء من ذرية إبراهيم دخلوا في الدعوة فقد قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} 4 وقال عن بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} 5 ففي هاتين الآيتين إخبار بأنه ـ تعالى ـ جعل أئمة
1ـ انظر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 4/36، الميزان في تفسير القرآن محمد حسين الطباطبائي 1/279.
2ـ سورة البقرة آية/124.
3ـ منهاج الكرامة لابن المطهر الحلي المطبوع مع كتاب "منهاج السنة" 4/36، المنتقى للذهبي ص/439.
4ـ سورة الأنبياء آية/73.
5ـ سورة السجدة آية/24.
من ذرية إبراهيم قبل أمتنا، وإن أريد انتهت الدعوة إلينا أنه لا إمام بعدنا لزم ألا يكون باقي الاثني عشر أئمة.
الثالث: أن كونه لم يسجد لصنم فضيلة يشاركه فيها جميع من ولد على الإسلام مع أن السابقين الأولين أفضل منهم فكيف يجعل المفضول مستحقاً لهذه المرتبة دون الفاضل وليس كل من لم يكفر أو من لم يأت بكبيرة أفضل ممن تاب عنها مطلقاً بل قد يكون التائب من الكفر والفسوق أفضل ممن لم يكفر ولم يفسق كما دل على ذلك الكتاب فإن الله فضل الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وأولئك كلهم أسلموا من بعد وهؤلاء فيهم من ولد على الإسلام، وفضل السابقين الأولين على التابعين لهم بإحسان وأولئك آمنوا بعد الكفر والتابعون ولدوا على الإسلام وقد ذكر الله في القرآن أن لوطاً آمن لإبراهيم وبعثه الله نبياً وقال شعيب:{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} 1 وقد أخبر الله عن إخوة يوسف بما أخبر ثم نبأهم بعد توبتهم وهم الأسباط الذين أمرنا أن نؤمن بما أوتوا وإذا كان في هؤلاء من صار نبياً فمعلوم أن الأنبياء أفضل من غيرهم وهذا مما تنازع فيه الرافضة وغيرهم ويقولون من صدر منه ذنب لا يصير نبياً والنزاع فيمن أسلم أعظم لكن الاعتبار بما دل عليه الكتاب والسنة والذين منعوا من هذا عمدتهم أن التائب من الذنب يكون ناقصاً مذموماً لا يستحق النبوة ولو صار من أعظم الناس طاعة وهذا هو الأصل الذي نوزعوا فيه والكتاب والسنة يدلان على بطلان قولهم فيه"2.
وبهذه الوجوه اتضح بطلان استدلال الشيعة بالآية الكريمة على إمامة علي رضي الله عنه
1ـ سورة الأعراف آية/89.
2ـ منهاج السنة 4/37، وانظر المنتقى للذهبي ص/439.
الشبهة الثالثة: آية المباهلة:
ووجه استدلالهم بهذه الآية على إمامة علي رضي الله عنه أنهم يزعمون أنها دلت على أفضليته من وجهين:
أحدهما: أن موضوع المباهلة ليتميز المحق من المبطل وذلك لا يصح أن يفعل إلا بمن هو مأمون الباطن مقطوعاً على صحة عقيدته أفضل الناس عند الله.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم جعله مثل نفسه بقول: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} لأنه أراد بقوله: {أبناءنا} الحسن والحسين ((ع)) وبقوله: {أنفسنا} نفسه ونفس علي ((ع))
…
وإذا جعله مثل نفسه وجب أن لا يدانيه ولا يقاربه في الفضل أحد2.
قال السماوي مبيناً وجه الدلالة من الآية على ما يريده الشيعة: "فإذا عرفنا أن علياً بنص الكتاب هو نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فهل يصح الرجوع إلى أحد من الناس أياً كان ونفس الرسول موجود بينهم وهل يحكم الناس حاكم
…
ونفس الرسول حاضر"3.
وقال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه الدلالة من الآية: "نقل الجمهور كافة أن أبناءنا إشارة إلى الحسن والحسين ونساءنا إشارة إلى فاطمة، وأنفسنا إشارة إلى علي وهذه الآية دليل على ثبوت الإمامة لعلي لأنه تعالى قد جعله نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم والاتحاد محال فيبقى المراد بالمساواة له الولاية وأيضاً لو كان غير
1ـ سورة آل عمران آية/61.
2ـ تفسير التبيان للطوسي 3/485.
3ـ الإمامة في صوء الكتاب والسنة 2/98-99.
هؤلاء مساوياً لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضوع الحاجة وإذا كانوا هم الأفضل تعينت الإمامة فيهم وهل تخفى دلالة هذه الآية على المطلوب إلا على من استحوذ الشيطان عليه وأخذ بمجامع قلبه وحببت إليه الدنيا التي لا ينالها إلا بمنع أهل الحق من حقهم"1.
والرد على استدلالهم هذا:
يقال لهم: إن استدلالكم بهذه الآية على إمامة علي رضي الله عنه مردود وباطل ودليل واضح على الجهل والقول بغير علم إذ تقريرهم أن الرسول عنى بقوله: أنفسنا نفسه ونفس علي غير مسلم لهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً بطلان فهمهم من الآية مساواة علي للرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: "وهو خلاف المستعمل في لغة العرب ومما يبين ذلك أن قوله: {نساءنا} لا يختص بفاطمة بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة، فإن رقية وأم كلثوم كن قد توفين قبل ذلك فكذلك أنفسنا ليس مختصاً بعلي بل هو صيغة جمع كما أن نساءنا صيغة جمع وكذلك أبناءنا صيغة جمع وإنما دعا حسناً وحسيناً لأنه لم يكن ممن ينسب إليه بالبنوة سواهما"2 "وجاء في مختصر التحفة الاثنى عشرية" وما قاله علماؤهم بأن الشخص لا يدعو نفسه فكلام مستهجن إذ قد شاع وذاع في العرف القديم والجديد أن يقال: دعته نفسه إلى كذا ودعوت نفسي إلى كذا {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} 3، وأمرت نفسي، وشاورت نفسي إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء فكان معنى (ندع أنفسنا) نحضر أنفسنا وأيضاً: لو قررنا أن الأمير من قبل النبي لمصداق (أنفسنا) فمن
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/33-34، حق اليقين 1/148، كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/268.
2ـ منهاج السنة 4/35.
3ـ سورة المائدة آية/30.
تقرره، من قبل الكفار لمصداق (أنفسكم) في أنفس الكفار مع أنهم مشتركون في صيغة (ندعو) ولا معنى لدعوة النبي إياهم وأبناءهم بعد قوله:(تعالوا) فعلم أن الأمير داخل في الأبناء حكماً كما أن الحسنين داخلان في الأبناء كذلك لأنهما ليسا بابنين حقيقة ولأن العرف يعد الختن من غير ريبة في ذلك وأيضاً: قد جاء لفظ النفس بمعنى الشريك في النسب والدين كقوله تعالى: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 1 أي: أهل دينكم {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} 2 {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} 3 فلما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم، في النسب والقرابة والمصاهرة واتحاد في الدين والملة وكثرة المعاشرة والألفة وهذا غير بعيد فلا يلزم المساواة"4
ولو سلم للشيعة بمساواة علي للرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الصفات كما يزعمون للزم من ذلك "اشتراكه في خصائص النبوة وغيرها من الأحكام الخاصة به وهو باطل بالإجماع لأن التابع دون المتبوع، وأيضاً: لو كانت الآية دليلاً لإمامته لزم ـ أن يكون علي ـ إماماً في زمنه صلى الله عليه وسلم وهو باطل بالاتفاق وإن قيدوا بوقت دون وقت فالتقييد لا دليل عليه في اللفظ فلا يكون مفيداً للمدعي إذ هو غير متنازع فيه"5.
أما زعمهم لو كان غير من دعاهم عند المباهلة مساوياً لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضع الحاجة وإذا كانوا هم الأفضل تعينت الإمامة فيهم يقال لهم: "لم يكن المقصود من أخذه صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم إجابة الدعاء إذ دعاؤه صلى الله عليه وسلم وحده كاف
1ـ سورة البقرة آية/84.
2ـ سورة الحجرات آية/11.
3ـ سورة النور آية/12.
4ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/156.
5ـ المصدر السابق نفس الصفحة.
ولو كان المراد بمن دعاه معه أن يستجاب دعاؤه لدعا المؤمنين كلهم ودعا بهم كما كان يستسقي بهم وكما كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وكان يقول: "فهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم"1 أي: بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم ومن المعلوم وإن كان علي وفاطمة والحسن والحسين مجابي الدعوة فكثرة الدعاء أبلغ في الإجابة لكن لم يكن المقصود من دعوة من دعاه إجابة دعائه بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل، ومن المعلوم بالضرورة لدى كل مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو دعا أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة لكانوا من أعظم الناس استجابة لأمره وكان دعاء هؤلاء وغيرهم أبلغ في إجابة الدعاء لكن لم يأمره الله ـ سبحانه ـ بأخذهم لأنه لم يحصل به المقصود فإن المقصود أن أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعاً كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم فلو دعا النبي صلى الله عليه وسلم قوماً أجانب لأتى أولئك بأجانب ولم يكن يشتد عليهم نزول البهلة بأولئك الأجانب كما يشتد عليهم نزولها بالأقربين إليهم فإن طبع البشر يخاف على أقربيه ما لا يخاف على الأجانب فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو قرابته وأن يدعو أولئك قرابتهم"2.
فتبين مما تقدم ذكره عن أهل العلم أن الآية ليست فيها ما يدل على إمامة علي وبنيه كما يزعم الشيعة ذلك وأن استدلال الشيعة بها على هذا المطلب تعسف منهم وتلكف خاطئ وفاسد وغاية ما تدل عليه الآية هو اختصاص علي رضي الله عنه بهذه المنقبة على غيره من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وكون الرسول صلى الله عليه وسلم أشركه في المباهلة إنما هو إرضاء للخصم وإفحام له إذ المعروف من طبيعة الإنسان ألا يعرض أقاربه للهلاك فكونه عليه الصلاة والسلام يدعو ألصق الناس به وأقربهم إليه دليل واضح على صحة نبوته ولهذا لما رأى نصارى
1ـ انظر الحديث في مسند أحمد 5/198، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/88 من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
2ـ منهاج السنة 4/35.
نجران صدقه خافوا على أنفسهم وتخلوا عن مباهلته ولكن الشيعة لما ابتلوا بدفع الحق وعدم التسليم له أصيبوا بعدم فهم ما تدل عليه آيات الكتاب العزيز.
الشبهة الرابعة:
قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1 ووجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يكذبون على الثعلبي أنه قال: إنما نزلت في علي وهذا دليل على أنه أفضل فيكون هو الإمام2.
وهذا الاستدلال مردود بوجوه:
الوجه الأول: أن هذا كذب على الثعلبي وأنه قال في تفسيره لهذه الآية: قال علي وقتادة والحسن أنهم أبو بكر وأصحابه.
الوجه الثاني: أن هذا قول بلا حجة فلا يجب قبوله ولا الالتفات إليه.
الوجه الثالث: أن قولهم هذا معارض لما هو أشهر منه وأظهر وهو أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه3 الذين قاتلوا معه أهل الردة وهذا هو المعروف كما تقدم، لكن الشيعة أرادوا أن يجعلوا فضائل الصديق لعلي وهذا من المكر السيء الذي لا يحيق إلا بأهله.
ولا يشك مسلم في أن علياً رضي الله عنه ممن كان يحب الله ويحبه الله لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان ولا كان جهاده للكفار أعظم من جهاد هؤلاء ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم مما حصل بهؤلاء بل كل منهم له سعي مشكور وعمل مبرور وآثار صالحة في الإسلام والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء فهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
1ـ سورة المائدة آية/54.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/58، وانظر تفسير العياشي 1/327، تفسير القمي 1/170، "كتاب الصافي" في تفسير القرآن 1/488.
3ـ انظر جامع البيان للطبري 6/285، الدر المنثور للسيوطي 3/102.
الوجه الرابع: يقال لهم: على سبيل الفرض: إنها نزلت في علي فهل يصح أن يقول قائل: إنها مختصة به ولفظها يصرح بأنهم جماعة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} إلى قوله: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فهذا صريح في أن هذا ليسوا رجلا واحداً فإن الواحد لا يسمى قوماً في لغة العرب لا حقيقة ولا مجازاً، ولو قيل: المراد هو شيعته لقيل إذا كانت الآية أدخلت مع علي غيره فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفار والمرتدين أحق بالدخول فيها من غيرهم.
الوجه الخامس: أن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} لفظ مطلق ليس فيه تعيين وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائناً من كان لا يختص ذلك بأبي بكر ولا بعلي وإذا لم يكن مختصاً بأحدهما لم يكن هذا من خصائصه فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه فضلاً عن أن يستوجب بذلك الإمامة بل هذه الآية تدل على أنه لا يرتد أحد إلى يوم القيامة إلا أقام الله قوماً يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون هؤلاء المرتدين1.
وبهذه الوجوه الخمسة يبطل استدلال الشيعة بهذه الآية على إمامة علي رضي الله عنه.
الشبهة الخامسة: آية الولاية.
وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} 2.
ووجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يدعون الإجماع أنها نزلت في علي رضي الله عنه ويذكرون حديثاً يعزونه إلى تفسير الثعلبي عن أبي ذر أنه قال: سمعت
1ـ منهاج السنة 4/58-60، وانظر المنتقى للذهبي ص/451-452.
2ـ سورة المائدة آية/55.
رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاتين وإلا صمتا ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: علي قائد البررة وقاتل الكفرة فمنصور من نصره ومخذول من خذله أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة الظهر فسأل سائل فلم يعطه أحد شيئاً فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم إنك تشهد أني سألت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعطني أحد شيئاً وكان علي راكعاً فأومأ بخنصره اليمنى وكان متختماً فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم وذلك بعين النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: "اللهم إن موسى سألك وقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} 1 فأنزلت عليه قرآنا ناطفاً {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا} اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً اشدد به ظهري" قال أبو ذر: فما استتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال: "يا محمد اقرأ قال: وما أقرأ قال: اقرأ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} 2.
قال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه الدلالة من الآية: "ونقل ابن المغازلي الواسطي الشافعي أن هذه الآية نزلت في علي، والولي هو المتصرف وقد أثبت له الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله"3.
وقال الطوسي: "ووجه الدلالة فيها أنه قد ثبت أن الولي في الآية بمعنى
1ـ سورة طه آية/25-32.
2ـ ذكر هذا الخبر ابن المطهر الحلي وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/2، تفسير فرات الكوفي ص/38-40، العياشي 1/327، تفسير القمي 1/170، تفسير الكاشاني المسمى كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/450-451.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/2.
الأولى والأحق وثبت أيضاً: أن المعني بقوله: {الذين آمنوا} أمير المؤمنين1.
((ع)) .
والناظر بعين البصيرة يرى أن هذا الخبر الذي ساقوه لبيان وجه دلالة الآية على إمامة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل خبر مفترى وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يعرف فيه ذلك من ألفاظه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد وضع بعض الكذابين حديثاً مفترى أن هذه الآية نزلت في حق علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل"2.
وقد بين رحمه الله وجوه بطلان هذا الخبر المفترى فقال: "وكذبه بين من وجوه كثيرة: منها أن قوله: الذين، صيغة جمع وعلي واحد.
ومنها: أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك كان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة ومنها: أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجباً ولا مستحباً باتفاق علماء الملة فإن في الصلاة شغلاً ومنها: أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسناً لم يكن فرق بين حال الركوع وغير حال الركوع بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن ومنها: أن علياً لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة.
ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور لا ينتظر أن يسأله سائل، ومنها: أن الكلام في سياق
1ـ تفسير التبيان للطوسي 3/559، وانظر المفصح في إمامة أمير المؤمنين له أيضاً: ص/129.
2ـ منهاج السنة 1/155-156.
النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين كما يدل عليه سياق الكلام"1.
وقال أيضاً: رحمه الله تعالى: "إن ألفاظ الحديث مؤذنة بأنه حديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم فإن علياً رضي الله عنه ليس قائداً لكل البررة بل لهذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو أيضاً: قاتلاً لكل الكفرة بل قتل بعضهم كما قتل غيره بعضهم وما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار إلا وهو قاتل لبعض الكفرة وكذلك قوله: منصور من نصره مخذول من خذله هو خلاف الواقع والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً
…
وأيضاً: فالدعاء الذي عن النبي صلى الله عليه وسلم عقب التصديق بالخاتم من أظهر الكذب لأن من المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه ما هو أعظم قدراً ونفعاً من إعطاء سائل خاتماً وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما نفعني مال كمال أبي بكر إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً "2.
وقد تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم"3.
والإنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام أعظم من صدقة على سائل محتاج ـ والإنفاق ـ الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه وأما إعطاء السائلين لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تلك النفقات العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء فكيف يدعو هذه لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذباً في سؤاله ولا ريب أن هذا ومثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت لأبي بكر بقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 4 بأن يذكر لعلي رضي الله عنه
1ـ منهاج السنة 1/155-156.
2ـ صحيح البخاري 2/289.
3ـ انظر سنن الترمذي 5/289.
4ـ سورة الليل آية/17-21.
من هذا الجنس فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على جاهل.. إلى أن قال: فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يشد بشخص من الناس كما سأله موسى أن يشد أزره بهارون فقد افترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخسه حقه"1.
وقد خطأ ابن كثير رحمه الله تعالى من ظن أن قوله تعالى في الآية: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} جملة حالية وعلل ذلك بأنه: يلزم منه أن يكون دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء وممن نعلمه من أئمة الفتوى2.
وقال الدهلوي مبيناً عدم نزول الآية في علي وعدم صحة الحديث الذي اختلقه الرافضة لبيان دلالتها على إمامة علي رضي الله عنه حيث قال: وأما القول بنزولها في حق علي بن أبي طالب ورواية قصة السائل وتصدقه بالخاتم عليه في حالة الركوع فإنما هو للثعلبي فقط وهو متفرد به ولا يعد المحدثون من أهل السنة روايات الثعلبي قدر شعيرة ولقبوه بحاطب ليل3 فإنه لا يميز بين الرطب واليابس وأكثر رواياته عن الكلبي عن أبي صالح وهو من أوهى ما يروي في التفسير عندهم4.
وأما زعم الشيعة أن لفظ: الولي هو المتصرف وقد أثبتت له5 الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله.
فهذا يدل على جهل الشيعة حيث "يجعلون الولي هو الأمير ولم يفرقوا بين الولاية بالفتح والولاية بالكسر والأمير يسمى الوالي ولكن قد يقال: هو ولي الأمر كما يقال: وليت أمركم، ويقال: أولو الأمر وأما إطلاق القول بالمولى وإرادة
1ـ منهاج السنة 4/6-7.
2ـ انظر تفسير القرآن العظيم 2/597.
3ـ انظر منهاج السنة 4/4.
4ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/141-142.
5ـ الضمير يعود إلى علي رضي الله عنه.
الولي فهذا لا يعرف بل يقال في الولي المولى ولا يقال: الوالي فتبين أن الآية دلت على الموالاة المخالفة للمعاداة الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض وهذا مما يشترك فيه الخلفاء الأربعة وسائر أهل بدر وأهل بيعة الرضوان فكلهم بعضهم أولياء بعض ولم تدل الآية على أحد منهم يكون أميراً على غيره بل هذا باطل إذ لفظ الولي والولاية غير لفظ الوالي والآية عامة في المؤمنين والإمارة لا تكون عامة"1.
وبما تقدم ذكره اتضح بطلان استدلال الشيعة على إمامة علي رضي الله عنه إذ هي بعيدة كل البعد عن مراد الشيعة من حيث النزول والدلالة.
الشبهة السادسة:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} 2 وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يقولون: إن الحافظ أبا نعيم الأصبهاني روى بإسناده إلى ابن عباس قال: نزلت في علي والود محبة في القلوب المؤمنة، وفي تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "يا علي قل اللهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودة" فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} ولم يثبت لغيره ذلك فيكون هو الإمام3.
والرد على هذا الاستدلال وبيان بطلانه من وجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بالدليل على صحة هذا النقل وإلا فالاستدلال بما لا تثبت مقدماته باطل بالاتفاق وهو من القول بلا علم ومن قفو الإنسان، ما ليس له به علم ومن المحاجة بغير علم والعزو المذكور لا يقبل الثبوت باتفاق
1ـ منهاج السنة النبوية 4/8.
2ـ سورة مريم آية/96.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/37، وانظر تفسير فرات الكوفي ص/88-89، تفسير القمي 2/56، تفسير الكاشاني المسمى "الصافي" في تفسير القرآن 2/58.
أهل السنة والشيعة.
الوجه الثاني: أن هذين الحديثين من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
الوجه الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} عام في جميع المؤمنين فلا يجوز تخصيصها بعلي بل هي متناولة لعلي وغيره والدليل على ذلك أن الحسن والحسين وغيرهما من المؤمنين الذين تعظمهم الشيعة داخلون في الآية فعلم بذلك الإجماع على عدم اختصاصها بعلي رضي الله عنه.
الوجه الرابع: أن الله ـ تعالى ـ أخبر أنه سيجعل للذين آمنوا وعملوا الصالحات وداً وهذا وعد منه صادق والله لا يخلف الميعاد فقد جعل للصحابة رضي الله عنهم الود في قلوب جماهير المسلمين ولا سيما الخلفاء رضي الله عنهم ولا سيما أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنه في مقدمة من يودهما ويحبهما رضي الله عن صحابة نبيه أجمعين"1.
وبهذه الوجوه تبين أنه لا دلالة في الآية على ما تدعيه الشيعة من تقديم علي رضي الله عنه في الإمامة.
الشبهة السابعة:
قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} 2 ووجه استدلالهم بها أنهم يقولون: قال الثعلبي بإسناده عن أنس وبريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله فقال: "بيوت الأنبياء" فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها يعني بيت علي وفاطمة، قال:"نعم من أفضلها"، وصف فيها الرجال بما يدل على أفضليتهم؛ فيكون علي هو الإمام وإلا لزم
1ـ انظر منهاج السنة 4/37-38.
2ـ سورة النور آية/37.
تقديم المفضول"1.
واستدلالهم بهذه الآية مردود لوجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا النقل إذ مجرد عزو ذلك إلى الثعلبي ليس بحجة باتفاق أهل السنة والشيعة وليس كل خبر رواه واحد من الجمهور يكون حجة عند الجمهور بل علماء الجمهور بل علماء الجمهور متفقون على أن ما يرويه الثعلبي وأمثاله لا يحتجون به لا في فضيلة أبي بكر وعمر ولا في إثبات حكم من الأحكام إلا أن يعلم ثبوته بطريقه
…
ثم علماء الجمهور متفقون على أن الثعلبي وأمثاله يروون الصحيح والضعيف ومتفقون على أن مجرد روايته لا توجب اتباع ذلك
…
وتفسيره وإن كان غالب الأحاديث التي فيه صحيحة ففيه ما هو كذب موضوع باتفاق أهل العلم.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث موضوع عند أهل المعرفة بالحديث ولهذا لم يذكره علماء الحديث في كتبهم التي يعتمد عليها في الحديث كالصحاح والسنن والمسانيد مع أن في بعض هذه الكتب ما هو ضعيف بل ما يعلم أنه كذب لكن هذا قليل جداً وأما هذا الحديث وأمثاله فهو أظهر كذباً من أن يذكروه في مثل ذلك.
الوجه الثالث: أن يقال: الآية باتفاق الناس هي في المساجد كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} الآية وبيت علي ليس موصوفاً بهذه الصفة.
الوجه الرابع: يقال لهم: بيت النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من بيت علي باتفاق المسلمين ومع هذا لم يدخل في هذه الآية لأنه ليس في بيته رجال وإنما فيه هو والواحدة من نسائه ولما أراد بيت النبي قال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} 2 وقال
1ـ منهاج الكرامة في معرفة الإمامة لابن المطهر مع منهاج السنة 4/25، وانظر" تفسير فرات الكوفي" ص/103، تفسير القمي 2/104.
2ـ سورة الأحزاب آية/53.
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} 1.
الوجه الخامس: دعواهم أن الآية في بيوت الأنبياء كذب فإنه لو كان كذلك لم يكن لسائر المؤمنين فيها نصيب وقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} متناول لكل من كان بهذه الصفة. إذ لفظ الآية دل على أنهم رجال، وليسوا رجلا واحداً فهذا دليل على أن هذا لا يختص بعلي بل هو وغيره مشتركون فيها وحينئذ فلا يلزم أن يكون أفضل من المشاركين له فيها.
السادس: وأما دعواهم امتناع تقديم المفضول على الفاضل فإنه إذا سلم فإنما هو في مجموع الصفات التي تناسب الإمامة وإلا فليس كل من فضل في خصلة من الخير استحق أن يكون هو الإمام ولو جاز هذا لقيل ففي الصحابة من قتل من الكفار أكثر مما قتل علي وفيهم من كان عنده من العلم ما ليس عند علي وبالجملة لا يمكن أن يكون واحد من الأنبياء له مثل ما لكل واحد من الصحابة من كل وجه ولا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل واحد من الصحابة من كل وجه ولا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل واحد من الأنبياء من كل وجه ولا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل واحد من الصحابة من كل وجه بل يكون في المفضول نوع من الأمور التي يمتاز بها عن الفاضل ولكن الاعتبار في التفضيل بالمجموع2.
فالآية لا دلالة فيها على ما ذهب إليه الرافضة حيث إن المراد بالبيوت فيها هي المساجد وهي عامة في كل من لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وليس فيها دلالة على إمامة علي رضي الله عنه ولا على أفضليته.
الشبهة الثامنة: آية التطهير:
وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
1ـ سورة الأحزاب آية/34.
2ـ منهاج السنة النبوية 4/25-26. وانظر المنتقى للذهبي ص/431.
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1 هذه الآية فهم الشيعة منها أنها تدل على عصمة أهل البيت ثم أخذوا منها الدلالة على إمامة علي رضي الله عنه.
قال الطوسي: "إن لفظ إنما تجرى ليس
…
فيكون تلخيص الكلام ليس يريد الله إلا إذهاب الرجس على هذا الحد عن أهل البيت فدل ذلك أن إذهاب الرجس قد حصل فيهم، وذلك يدل على عصمتهم، وإذا ثبتت عصمتهم ثبت ما أردناه"2.
وقال ابن المطهر الحلي: "وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظة "إنما" وإدخال اللام في الخبر والاختصاص في الخطاب بقوله: {أَهْلَ الْبَيْتِ} والتكرير بقوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ} والتأكيد بقوله: {تَطْهِيراً} وغيرهم ليس بمعصوم فتكون الإمامة في علي ولأنه ادعاها في عدة من أقواله كقوله: والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقاً فيكون هو الإمام"3.
والرد على هذا الاستدلال:
يقال لهم: إن الآية ليس فيها أي إشارة تدل على عصمة أحد من أئمة أهل البيت التي يلزم منها عند الشيعة إمامتهم وذلك أن الآية ما هي إلا كقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} 4 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 5 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} 6 فإن إرادة الله في هذه
1ـ سورة الأحزاب آية/33.
2ـ تفسير التبيان للطوسي 8/340.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/20، وانظر حق اليقين 1/150.
4ـ سورة المائدة آية/6.
5ـ سورة البقرة آية/185.
6ـ سورة النساء آية/26-27.
الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد ولا أنه قضاه وقدره ولا أنه يكون لا محالة ـ وكما هو معلوم ـ "أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره"1.
والإرادة في آية التطهير إنما هي إرادة دينية شرعية تذهب الرجس عن أهل البيت بامتثالهم الأوامر الربانية واجتنابهم المنهيات "والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية التطهير قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" 2 فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم لم يحتج إلى الطلب والدعاء"3.
وإذا كان الشيعة يستدلون بهذه الآية على عصمة أهل البيت فإنه يلزم، على معتقدهم هذا أن "يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لأن الله تعالى قال في حقهم في مواضع من التنزيل:{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 4 وقال: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} 5 وظاهر أن إتمام النعمة في الصحابة كرامة زائدة بالنسبة إلى ذينك اللفظين ووقوع هذا الإتمام أدل على عصمتهم لأن إتمام النعمة لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان"6.
وأما زعمهم أن علياً ادعاها وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقاً
…
الخ
1ـ منهاج السنة 4/21.20.
2ـ رواه أحمد في المسند 6/304.292، ورواه الترمذي في سننه 5/30-31.
3ـ منهاج السنة 4/20.
4ـ سورة المائدة آية/6.
5ـ سورة الأنفال آية/11.
6ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/153.
فإن هذا "لا يسلم بل كل مسلم يعلم بالضرورة أن علياً ما ادعاها قط حتى قتل عثمان ـ وما قال: "إني معصوم ولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعلني الإمام بعده ولا أنه أوجب على الناس متابعتي ولا نحو هذه الألفاظ بل من المعلوم بالضرورة أن من نقل هذا ونحوه عنه فهو كاذب عليه إذ أن علياً رضي الله عنه كان أتقى لله من أن يدعي الكذب الظاهر الذي يعلم الصحابة كلهم أنه كذب"1.
فآية التطهير ليس فيها دلالة على عصمة أهل البيت لأنها لم ترد بصيغة الإخبار وليس فيها أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد على إمامتهم ومما يدل على ذلك "أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية. والسياق إنما هو في مخاطبتهن من قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} إلى قوله {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 2 فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعم غيرهن من أهل البيت جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره وليس مختصاً بأزواجه بل هو متناول لأهل البيت كلهم وعلي وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك ولذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم"3.
الشبهة التاسعة: آية المودة:
وهي قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4 وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم ينسبون إلى الإمام أحمد أنه روى في مسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قالوا يا رسول الله: من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: "علي وفاطمة وابناهما" وكذا في تفسير الثعلبي ونحوه في الصحيحن وغير علي من الصحابة
1ـ منهاج السنة 4/24.
2ـ سورة الأحزاب آية/32-33.
3ـ منهاج السنة 4/21، وانظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/149.
4ـ سورة الشورى آية/23.
والثلاثة لا تجب مودته فيكون علي أفضل فيكون هو الإمام ولأن مخالفته تنافي المودة وبامتثال أوامره تكون مودته فيكون واجب الطاعة وهو معنى الإمامة"1.
والرد على بطلان هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا الحديث ودعواهم أن أحمد روى هذا الحديث في المسند كذب ظاهر فإن مسند أحمد موجود وبه من النسخ ما شاء الله وليس هو في الصحيحين، بل فيهما وفي غيرهما ما يناقض ذلك، ولا ريب أن الرافضة جهال بكتب أهل العلم لا يطالعونها ولا يعلمون ما فيها
…
فهم يعزون إلى المسند والصحيحين وغيرهما باطلاً لا حقيقة له يعزون إلى مسند أحمد ما ليس فيه أصلاً لكن أحمد رحمه الله صنف كتابا في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وقد يروي في هذا الكتاب ما ليس في المسند.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وهم المرجوع إليهم في هذا ولهذا لا يوجد في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها.
الوجه الثالث: أن هذه الآية في سورة الشورى وهي مكية باتفاق أهل السنة. ومن المعلوم أن علياً إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة، والحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة فكيف يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق.
الوجه الرابع: أن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن سعيد بن جبير قال:
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/26-27، حق اليقين لعبد الله شبر 1/150، وانظر تفسير القمي 2/275، تفسير فرات الكوفي ص/147-150، تفسير الكاشاني المسمى الصافي في تفسير القرآن 2/513-514.
سئل ابن عباس عن قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقلت: ألا تؤذوا محمداً في قرابته فقال ابن عباس: عجلت إنه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة فقال: "لا أسألكم عليه أجراً لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم"1.
فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت بعد علي ليس معناها مودة ذي القربى لكن معناها: لا أسألكم يا معشر العرب ويا معشر قريش عليه أجراً لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم، فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولاً أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلغ الرسالة.
الوجه الخامس: أنه قال لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى: لم يقل: إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى فلو أراد المودة لذوي القربى لقال: المودة لذوي القربى كما قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} 2 وكذلك قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} 3 وهكذا في غير موضع فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم وذوي قربى الإنسان إنما قيل فيها ذوي القربى لم يقل: في القربى فلما ذكر هذا المصدر دون الاسم دل على أنه لم يرد ذوي القربى.
الوجه السادس: يقال لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن تبليغ رسالة ربه أجراً البتة بل أجره على الله كما قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} 4 {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ} 5 ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة لكن لم يثبت
1ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 3/185.
2ـ سورة الأنفال آية/41.
3ـ سورة الروم آية/ 38.
4ـ سورة ص آية/86.
5ـ سورة سبأ آية/47.
وجوبها بهذه الآية ولا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه وسلم مما أمرنا الله به، كما أمرنا بسائر العبادات
…
فمن جعل محبة أهل بيته أجراً له يوفيه إياه فقد أخطأ خطأ عظيماً ولو كان أجراً له لم نثب عليه نحن لأنا أعطينا أجره الذي يستحقه بالرسالة فهل يقول مسلم مثل هذا؟.
الوجه السابع: أنا نسلم أن علياً تجب مودته وموالاته بدون الاستدلال بهذه الآية لكن ليس في وجوب موالاته ومودته ما يوجب اختصاصه بالإمامة ولا الفضيلة. وأما اعتقادهم: "أن الثلاثة لا تجب موالاتهم" فممنوع بل يجب أيضاً: مودتهم وموالاتهم فإنه قد ثبت أن الله يحبهم ومن كان الله يحبه وجب علينا أن نحبه فإن الحب في الله والبغض في الله واجب، وهو أوثق عرى الإيمان وكذلك هم من أكابر أولياء المتقين وقد أوجب الله موالاتهم بل قد ثبت أن الله قد رضي عنهم ورضوا عنه بنص القرآن وكل من رضي الله عنه فإنه يحبه والله يحب المتقين والمحسنين والمقسطين والصابرين وهؤلاء أفضل من دخل في هذه النصوص من هذه الأمة بعد نبيها"1.
وأما استنباطهم من هذا الحديث الذي لم يثبت أن المخالفة تنافي المودة وامتثال أوامره هو مودته فيكون واجب الطاعة وهو معنى الإمامة.
فالجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: إن كان المودة توجب الطاعة فقد وجبت مودة ذوي القربى فتجب طاعتهم فيجب أن تكون فاطمة أيضاً إماماً وإن كان هذا باطلاً فهذا مثله.
الوجه الثاني: أن المودة ليست مستلزمة للإمامة في حال وجوب المودة، فليس من وجبت مودته كان إماماً حينئذ بدليل أن الحسن والحسين تجب مودتهما قبل مصيرهما إمامين، وعلي تجب مودته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن إماماً بل
1ـ انظرهذه الوجوه في منهاج السنة 4/27-29.
تجب وإن تأخرت إمامته إلى مقتل عثمان.
الوجه الثالث: زعمهم أن المخالفة تنافي المودة. يقال لهم: متى؟ إذا كان ذلك واجب الطاعة أو مطلقاً؟ الثاني ممنوع وإلا لكان من أوجب على غيره شيئاً لم يوجبه الله عليه إن خالفه فلا يكون محباً له ولا يكون مؤمن محباً لمؤمن حتى يعتقد وجوب طاعته وهذا معلوم الفساد، وأما الأول فيقال: إذا لم تكن تلك المخالفة قادحة في المودة إلا إذا كان واجب الطاعة فحينئذ يجب أن يعلم أولاً وجوب الطاعة حتى تكون مخالفته قادحة في مودته فإنه لا يعلم أن المخالفة تقدح في المودة حتى يعلم وجوب الطاعة ولا يعلم وجوب الطاعة إلا إذا علم أنه إمام ولا يعلم أنه إمام حتى يعلم أن مخالفته تقدح في مودته.
الوجه الرابع: يقال: المخالفة تقدح في المودة إذا أمر بطاعته أو لم يؤمر؟ والثاني منتف ضرورة، وأما الأول فإنا نعلم أن علياً لم يأمر الناس بطاعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان.
الوجه الخامس: يقال هذا بعينه في حق أبي بكر وعمر وعثمان فإن مودتهم ومحبتهم وموالاتهم واجبة ومخالفتهم تقدح في ذلك1.
الآية إذاً ليس فيها دليل على ما ذهب إليه الشيعة أي: من الادعاء أنها نزلت في أهل البيت وأنها تدل على إمامتهم وفضلهم.
الشبهة العاشرة: قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} 2 وجه استدلالهم بهذه الآية على إمامة علي أنهم يعزون إلى ابن عبد البر وأبي نعيم أنهما رويا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به جمع الله بينه وبين الأنبياء ثم قال: سلهم يا محمد علام بعثتم؟ قالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله وعلى الإقرار بنبوتك والولاية
1ـ منهاج السنة 4/30.
2ـ سورة الزخرف آية/45.
لعلي بن أبي طالب وهذا صريح في ثبوت الإمامة لعلي"1. ويرد على هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون في هذا الكذب القبيح بثبوت صحته إذ لا يشك أحد في أن هذا وأمثاله من أسمج الكذب وأقبحه لكن على طريق التنزل في المناظرة وأن هذا لم يعلم أنه كذب لم يجز أن يحتج به حتى يثبت صدقه فإن الاستدلال بما لا تعلم صحته لا يجوز بالاتفاق فإنه قول بلا علم وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع.
الوجه الثاني: أن مثل هذا مما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع.
الوجه الثالث: أن هذا مما يعلم من له علم ودين أنه من الكذب الباطل الذي لا يصدق به من له عقل ودين وإنما يختلق مثل هذا أهل الوقاحة والجراءة في الكذب فإن الرسل صلوات الله عليهم كيف يسألون عما لا يدخل في أصل الإيمان وقد أجمع المسلمون على أن الرجل لو آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعه ومات في حياته قبل أن يعلم أن الله خلق أبا بكر وعمر وعثمان وعلي لم يضره ذلك ولم يمنعه ذلك من دخول الجنة فإذا كان هذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يقال: إن الأنبياء يجب عليهم الإيمان بواحد من الصحابة والله ـ تعالى ـ قد أخذ الميثاق عليهم لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه هكذا قال ابن عباس وغيره2.
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/45، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/151 وانظر تفسير القمي 2/285.
2ـ انظر جامع البيان لابن جرير الطبري 3/332، تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 1/314، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/65، الدر المنثور للسيوطي 2/252-253.
3ـ سورة آل عمران آية/81.
الإيمان بتفصيل ما بعث به محمد فلم يؤخذ عليهم فكيف يؤخذ عليهم موالاة واحد من الصحابة دون غيره من المؤمنين.
الوجه الرابع: أن لفظ الآية {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 1 ليس في هذا سؤال لهم بماذا بعثوا.
الوجه الخامس: يقال لهم: إن كنتم تزعمون أن الرسل إنما بعثوا بهؤلاء الثلاثة فهذا كذب عليهم وإن كنتم تزعمون أنها أصول ما بعثوا به فهذا أيضاً كذب، فإن أصول الدين التي بعثوا بها من الإيمان بالله واليوم الآخر، وأصول الشرائع أهم عندهم من ذكر الإيمان بواحد من أصحاب نبي غيرهم بل ومن الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الإقرار بمحمد يجب عليهم مجملاً، كما يجب علينا نحن الإقرار بنبواتهم مجملاً لكن من أدركه منهم وجب عليه الإيمان بشرعه على التفصيل كما يجب علينا، وأما الإيمان بشرائع الأنبياء على التفصيل فهو واجب على أممهم، فكيف يتركون ذكر ما هو واجب على أممهم ويذكرون ما ليس هو الأوجب.
الوجه السادس: أن ليلة الإسراء كانت بمكة قبل الهجرة بمدة قيل: إنها سنة ونصف وقيل إنها خمس سنين وقيل غير ذلك، وكان علي صغيراً ليلة المعراج لم يحصل له هجرة ولا جهاد ولا أمر يوجب أن يذكره به الأنبياء، والأنبياء لم يذكر علي في كتبهم أصلاً وقد دخل في الإسلام كثير من أهل الكتاب ولم يذكر أحد منهم أن علياً رضي الله عنه ذكر في كتبهم فكيف يجوز أن يقال: أن كلاً من الأنبياء بعثوا بالإقرار بولاية علي ولم يذكروا ذلك لأممهم ولا نقله أحد منهم2.
وبهذه الوجوه تبين أنه لا دلالة في الآية للشيعة الرافضة على ما يذهبون
1ـ سورة الزخرف آية/45.
2ـ انظر هذه الوجوه في منهاج السنة 4/45-46، المنتقى للذهبي ص/446.
إليه من أنها دالة على إمامة علي رضي الله عنه.
الشبهة الحادية عشر:
قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} 1. وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم ينسبون إلى أبي نعيم أنه روى عن ابن عباس قال في هذه الآية: سابق هذه الأمة علي بن أبي طالب كما يقولون: روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: {السابقون السابقون} قال سبق يوشع بن نون إلى موسى، وسبق هارون إلى موسى، وسبق صاحب يس إلى عيسى وسبق علي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة فيكون هو الإمام2.
وهذا الاستدلال باطل من وجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا النقل لأن أبا نعيم وابن المغازلي يدونان كثيراً من الأحاديث الموضوعة.
الوجه الثاني: أن هذا باطل عن ابن عباس ولو صح لم يكن حجة إذا خالفه من هو أقوى منه.
الوجه الثالث: أن الله تعالى يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} 3 وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 4
1ـ سورة الواقعة آية/10-11.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/42، وانظر تفسير القمي 2/347، تفسير فرات الكوفي ص/177-178، المناقب لمحمد بن علي بن شهرشوب ص/5، البرهان في تفسير القرآن للبحراني 4/274.
3ـ سورة التوبة آية/100.
4ـ سورة فاطر آية/32.
"والسابقون الأولون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، الذين هم أفضل ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل دخل فيهم أهل بيعة الرضوان وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة فكيف يقال: إن سابق هذه الأمة واحد".
الوجه الرابع: دعواهم أن هذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة ممنوع فإن الناس متنازعون في أول من أسلم فقيل أبو بكر أول من أسلم فهو أسبق إسلاماً من علي وقيل: إن علياً أسلم قبله لكن علي كان صغيراً وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وأنفع فيكون هو أكمل سبقاً بالاتفاق وأسبق على الإطلاق على القول الآخر فكيف يقال: علي أسبق منه بلا حجة تدل على ذلك.
الوجه الخامس: أن هذه الأفضلية للسابقين الأولين لم تدل على أن كل من كان أسبق إلى الإسلام كان أفضل من غيره وإنما يدل على أن السابقين أفضل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1. فالذين سبقوا إلى الإنفاق والقتال قبل الحديبية أفضل ممن بعدهم فإن الفتح فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية2.
وإذا كان أولئك السابقون قد سبق بعضهم بعضاً إلى الإسلام فليس في الآيتين ما يقتضي أن يكون أفضل مطلقاً بل قد يسبق إلى الإسلام من سبقه غيره إلى الإنفاق والقتال ولهذا كان عمر رضي الله عنه ممن أسلم بعد تسعة وثلاثين وهو أفضل من أكثرهم بالنصوص الصحيحة وبإجماع الصحابة والتابعين وما علمت أحد قط قال: إن الزبير ونحوه أفضل من عمر والزبير أسلم قبل عمر ولا قال من يعرف من أهل العلم أن عثمان أفضل من عمر، وعثمان أسلم قبل عمر وإن كان الفضل بالسبق إلى الإنفاق والقتال فمعلوم أن أبا بكر أخص بهذا فإنه
1ـ سورة الحديد آية/10.
2ـ المسند 3/420، سنن أبي داود 2/69.
لم يجاهد قبله أحد لا بيده ولا بلسانه بل هو من حين آمن بالرسول ينفق ما له ويجاهد بحسب الإمكان فاشترى من المعذبين في الله غير واحد وكان يجاهد مع الرسول قبل الأمر بالقتال كما قال تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} 1.
فكان أبو بكر أسبق الناس وأكملهم في أنواع الجهاد بالنفس والمال ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر"2. والصحبة بالنفس وذات اليد هو المال فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أمنّ الناس عليه في النفس3 والمال" وحسبنا هنا من الآيات القرآنية التي يدعون أنها أدلة على أن علياً رضي الله عنه هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل ما تقدم. ونقتصر عليها في هذا المبحث لأنه كما تقدم معنا أن هذه الآيات التي ذكرناها هنا يذكرها عوامهم ومن يدعي العلم منهم عندما يحاجون في مسألة الإمامة وإلا فالآيات التي يستدلون بها على إمامة علي رضي الله عنه كثيرة فقد أورد ابن المطهر الحلي في كتابه "منهاج الكرامة في معرفة الإمامة" أربعين آية4 وذكر الخميني في كتبابه "كشف الأسرار"5 أن مائة وأربعين آية تدل على أن الإمام هو علي رضي الله عنه وكما قدمنا أنها ليست أدلة وإنما هي شبه يتصيدون بها ضعاف العقول من المسلمين ومن حظه قليل من العلم فهي آيات قرآنية عامة واردة في جميع المؤمنين والشيعة يخصصونها بعلي رضي الله عنه، وكما تقدم من الآيات التي أسلفناها أنه لا دلالة فيها على إمامة علي رضي الله عنه ولا على أفضليته وكذلك بقية الآيات التي لم يرد ذكرها هنا كلها من هذا القبيل.
1ـ سورة الفرقان آية/52.
2ـ صحيح البخاري 2/289.
3ـ انظر هذه الوجوه في منهاج السنة النبوية 4/42-43، المنتقى للذهبي ص/442.
4ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/2-79.
5ـ ص/161.
ثانياً: شبههم من الأحاديث:
أما شبههم من الأحاديث التي يستدلون بها على أن علياً رضي الله عنه هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهي إما أحاديث صحيحة تدل على فضله ولا تدل على إمامته وإما أحاديث ضعيفة غير صحيحة لعلل في أسانيدها وإما أحاديث مكذوبة مختلقة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن تلك الشبه ما يلي:
الشبهة الأولى: حديث المنزلة، فقد روى الشيخان من طريق سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد عن ابيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" 1 فقد فهم الشيعة من هذا الحديث النبوي أن النبي عليه الصلاة والسلام نصب علياً رضي الله عنه إماماً للمسلمين فقد روى الصدوق2 بإسناده إلى هارون العبدي قال: سألت جابر بن عبد الله الأنصاري عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" قال: استخلفه بذلك والله على أمته في حياته وبعد وفاته وفرض عليهم طاعته فمن لم يشهد له بعد هذا القول بالخلافة فهو من الظالمين3 وقال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه دلالة حديث المنزلة على إمامة علي رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن جملة منازل هارون أنه كان خليفة لموسى ولو عاش بعده لكان خليفة أيضاً: ولأنه خلفه مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فعند موته تطول الغيبة فيكون أولى بأن يكون خليفة"4.
1ـ صحيح البخاري 2/300، صحيح مسلم 4/1870 واللفظ له.
2ـ هو أبو جعفر محمد بن علي، ابن الحسين بن بابويه القمي ت: 381هـ، انظر ترجمته في تنقيح المقال للمامقاني 3/154.
3ـ معاني الأخبار للصدوق ص/74.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/87.
والرد على هذا الاستدلال.
يقال لهم: لا يشك مسلم في صحة هذا الحديث وأنه يدل على فضل علي رضوان الله عليه لا على أنه الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ مناسبة ورود الحديث تأبى أن يكون مراد النبي عليه الصلاة والسلام التنصيص على خلافة علي وإمامته ولو أراد ذلك لصرح بلفظ لا يتطرق إليه احتمال وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يخرج من المدينة لغزو أو غيره إلا ويستخلف أحد الصحابة على المدينة فلما كانت غزوة تبوك لم يأذن لأحد في التخلف عنها وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها فلم يتخلف إلا النساء والصبيان أو من هو معذور لعجزه عن الخروج أو من هو منافق وتخلف الثلاثة الذين تيب عليهم"1.
ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم كما كان يستخلف في كل مرة بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة منه لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحداً كما كان يبقي في جميع مغازيه فإنه كان يكون بالمدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم من يستخلف فكل استخلاف يستخلفه في مغازيه مثل استخلافه في غزوة بدر الكبرى والصغرى وغزوة بني المصطلق وخيبر وفتح مكة وسائر مغازيه التي لم يكن فيها قتال ومغازيه بضعة عشر غزوة وقد استخلف فيها كلها إلا القليل وقد استخلف في حجة الوداع وعمرتين قبل غزوة تبوك وفي كل مرة يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك فكان كل استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممن استخلف عليه علياً فلهذا خرج إليه علي رضي الله عنه وقال: "أتخلفني في النساء والصبيان"2.
1ـ الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وتيب عليهم هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع "انظر قصتهم في صحيح مسلم" 4/2120-2128.
2ـ صحيح مسلم 4/1871.
وقيل: إن بعض المنافقين طعن فيه وقال: إنما خلفه لأنه يبغضه فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما استخلفه لأمانته عنده وإن الاستخلاف ليس بنقص ولا غض فإن موسى استخلف هارون على قومه فكيف يكون نقصاً وموسى يفعله بهارون، فطيب بذلك قلب علي وبين أن جنس الاستخلاف يقتضي كرامة المستخلف وأمانته لا يقتضي إهانته ولا تخوينه
…
ولم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون لأن العسكر كان مع هارون وإنما ذهب موسى وحده، وأما استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فجميع العسكر كان معه ولم يتخلف بالمدينة غير النساء والصبيان أو معذور أو عاص وقول القائل: هذا بمنزلة هذا وهذا مثل هذا هو كتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دل عليه السياق لا يقتضي المساواة في كل شيء ـ فإنه قد ثبت ـ من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأسارى لما استشار أبا بكر وأشار بالفدى واستشار عمر فأشار بالقتل قال: "أخبركم عن صاحبيكم مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1 ومثل عيسى إذ قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2 ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} 3 أو مثل موسى إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} 4 فقوله: لهذا: مثلك كمثل إبراهيم وعيسى ولهذا مثل نوح وموسى أعظم من قول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى فإن نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى أعظم من هارون وقد جعل هذين مثلهم ولم يرد أنهما مثلهم في كل شيء لكن فيما دل عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله وكذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دل عليه
1ـ سورة إبراهيم آية/36.
2ـ سورة المائدة آية/118.
3ـ سورة نوح آية/26.
4ـ انظر الحديث بطوله في مسند الإمام أحمد 1/383-384، وأورده ابن كثير في تفسيره 3/345-346.
السياق وهو استخلافه في مغيبه كما استخلف موسى هارون وهذا الاستخلاف ليس من خصائص علي بل ولا هو مثل استخلافاته فضلاً عن أن يكون أفضل منها وقد استخلف من علي أفضل منه في كثير من الغزوات ولم تكن تلك الاستخلافات توجب تقديم المستخلف على علي إذا قعد معه فكيف يكون موجباً لتفضيله على علي بل قد استخلف على المدينة غير واحد وأولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى ومن جنس استخلاف علي
…
وليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى
…
وأما زعمهم "أنه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل فإن قوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. . دليل على أنه يسترضيه بذلك ويطيب قلبه لما توهم من وهن الاستخلاف ونقص درجته فقال هذا على سبيل الجبر له وقوله: "بمنزلة هارون من موسى" أي: مثل منزلة هارون وأن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره وإنما يكون له ما يشابهها فصار هذا كقوله: هذا مثل هذا، وقوله عن أبي بكر: مثله مثل إبراهيم وعيسى، وعمر مثله مثل نوح وموسى
…
ومما يبين ذلك أنه لو أراد أن يكون خليفة على أمته بعده لم يكن هذا خطاباً بينهما يناجيه به ولا كان أخره حتى يخرج إليه علي ويشتكي، بل كان هذا من الحكم الذي يجب بيانه وتبليغه للناس كلهم بلفظ يبين المقصود، ثم من جهل الرافضة أنهم يتناقضون فإن هذا الحديث يدل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب علياً بهذا الخطاب إلا ذلك اليوم في غزوة تبوك فلو كان علي قد عرف أنه المستخلف من بعده كما رووا ذلك فيما تقدم لكان علي مطمئن القلب أنه مثل هارون بعده في حياته ولم يخرج إليه يقول:"أتخلفني مع النساء والصبيان"1.
ولو كان علي بمنزلة هارون مطلقاً لم يستخلف عليه أحداً وقد كان يستخلف على المدينة غيره وهو فيها كما استخلف على المدينة عام خيبر غير علي وكان علي بها أرمد حتى
1ـ تقدم تخريجه قريباً.
لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية حين قدم وكان قد أعطى الراية رجلاً فقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" 1.
وأما قولهم في الاستدلال: "لأنه خليفة مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فعند موته تطول الغيبة يكون أولى بأن يكون خليفة".
فالجواب أنه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير علي استخلافاً أعظم من استخلاف علي واستخلف أولئك على أفضل من الذين استخلف عليهم علياً وقد استخلف بعد تبوك على المدينة غير علي في حجة الوداع فليس جعل علي هو الخليفة بعده لكونه استخلف على المدينة بأولى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه وأعظم مما استخلفه وآخر الاستخلاف كان على المدينة عام حجة الوداع وكان علي باليمن وشهد معه الموسم لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير علي، فإن كان الأصل بقاء الاستخلاف فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أولى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك، وبالجملة فالاستخلافات على المدينة ليست من خصائصه ولا تدل على الأفضلية ولا على الإمامة بل قد استخلف عدداً غيره ـ ولكن الرافضة ـ يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين علي وغيره خاصة بعلي رضي الله عنه2.
قال أبو نعيم الأصبهاني في معرض رده على الطاعنين في إمامة الصديق رضي الله عنه: "فإن قال: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" 3. قيل له: كذلك نقول في استخلافه على المدينة في حياته بمنزلة من
1ـ صحيح البخاري 2/300، صحيح مسلم 4/1871.
2ـ منهاج السنة 4/87-90، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/468-470.
3ـ تقدم تخريجه قريباً.
موسى وإنما خرج هذا القول له من النبي صلى الله عليه وسلم عام تبوك إذ خلفه بالمدينة فذكر المنافقون أنه مله وكره صحبته فلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم فذكر له قولهم فقال صلى الله عليه وسلم: "بل خلفتك كما خلف موسى هارون"1.
قال أبو محمد بن حزم مبيناً المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى": وهذا لا يوجب له فضلاً على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعده عليه والسلام لأن هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون فتى موسى الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام كما ولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة وإذا لم يكن علي نبياً كما كان هارون نبياً ولا كان هارون خليفة بعد موت موسى فقد صح أن كونه رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط وأيضاً فإنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك فقال المنافقون استقله فخلفه فلحق علي برسول الله صلى الله عليه وسلم فشكى ذلك إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى يريد عليه السلام أنه استخلفه على المدينة مختاراً استخلافه كما استخلف موسى عليه السلام أيضاً مختاراً لاستخلافه، ثم قد استخلف عليه السلام قبل تبوك وبعد تبوك على المدينة في أسفاره رجالاً سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلاً على غيره ولا ولاية الأمر بعده كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين"أ. هـ2.
وقال الحافظ ابن حجر عند شرحه للحديث: "واستدل بحديث الباب على استحقاق علي للخلافة دون غيره من الصحابة فإن هارون كان خليفة موسى
1ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/221.
2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/94-95، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/174.
وأجيب بأن هارون لم يكن خليفة موسى إلا في حياته لا بعد موته لأنه مات قبل موسى باتفاق أشار إلى ذلك الخطابي"1.
فلا دلالة في الحديث للشيعة من أن الخلافة كانت من جملة منازل هارون كما يزعمون ولا يسلم لهم بهذا الادعاء "لأن هارون كان نبياً مستقلاً في التبليغ ولو عاش بعد موسى أيضاً لكان كذلك ولم تزل عنه هذه المرتبة قط وهي تنافي الخلافة لأنها نيابة للنبي ولا مناسبة بين الأصالة والنيابة في القدر والشرف فقد علم أن الاستدلال على خلافة ـ علي رضي الله عنه من هذا الطريق لا يصح أبداً"2.
الشبهة الثانية: حديث الراية
فقد زعم ابن المطهر الحلي أن الجمهور رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر خيبر تسعاً وعشرين ليلة وكانت الراية لأمير المؤمنين علي فلحقه رمد أعجزه عن الحرب وخرج مرحب يتعرض للحرب فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقال: خذ الراية فأخذها في جمع من المهاجرين ولم يغن شيئاً ورجع منهزماً فلما كان من الغد تعرض لها عمر فسار غير بعيد ثم رجع يخبر أصحابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جيئوني بعلي" فقيل: إنه أرمد فقال: "أرونيه أروني رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ليس بفرار" فجاءوا بعلي فتفل في يده ومسحها على عينيه ورأسه فبرأ فأعطاه الراية ففتح الله على يديه وقتل مرحب ووصفه عليه السلام بهذا الوصف يدل على انتفائه عن غيره وهو يدل على أفضليته فيكون هو الإمام"3.
والرد على هذا الاستدلال من وجوه:
1ـ فتح الباري 7/74.
2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/163-164.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/97، العاملي في كتابه الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/2.
الوجه الأول: أنهم يطالبون بتصحيح هذا النقل ولا سبيل لهم إلى هذا.
الوجه الثاني: دعواهم أنه رواه الجمهور يقال لهم: إن الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا بل الذي في الصحيحين أن علياً رضي الله عنه كان غائباً عن خيبر لم يكن حاضراً فيها حيث كان أرمد ثم إنه شق عليه التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم فلحقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم قبل قدومه: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه" ـ ولم تكن الراية قبل ذلك لأبي بكر ولا لعمر ولا قربها واحد منهما بل هذا من الأكاذيب ولهذا قال عمر: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ وبات الناس كلهم يرجوا أن يعطاها فلما أصبح دعا علياً فقيل له إنه أرمد فجاءه فتفل في عينه حتى برأ فأعطاه الراية"1.
وكان هذا التخصيص جزاء مجيء علي مع الرمد وكان إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وعلي ليس بحاضر لا يرجونه من كراماته صلى الله عليه وسلم فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر وعمر أصلاً"2.
الوجه الثالث: أن مدعى الشيعة غير حاصل ـ من هذا الحديث الصحيح ـ إذ لا ملازمة بين كونه محباً لله ورسوله ومحبوباً لهما وبين كونه إماماً بلا فصل أصلاً على أنه لا يلزم من إثباتهما له نفيهما عن غيره كيف وقد قال الله ـ تعالى ـ في حق أبي بكر ورفقائه {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 3 وقال في حق أهل بدر: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} 4. ولا شك أن من يحبه الله يحبه رسوله ومن يحب الله من المؤمنين يحب رسوله وقال في شأن أهل مسجد قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 5. وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: يا معاذ: "إني أحبك" 6 ولما سئل من أحب
1ـ صحيح البخاري 2/299-300، صحيح مسلم 4/1872.
2ـ منهاج السنة 4/97-98، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/472.
3ـ سورة المائدة آية/54.
4ـ سورة الصف آية/ 4.
5ـ سورة التوبة آية/108.
6ـ المسند 5/245، سنن أبي داود 1/349، سنن النسائي 3/53.
الناس إليك؟ قال: عائشة قيل ومن الرجال قال: أبوها" 1 وإنما نص على المحبة والمحبوبية في حق علي مع وجودهما في غيره لنكتة دقيقة تحصل من ضمن قوله: "يفتح الله على يديه" 2 وهي أنه لو ذكر مجرد الفتح لربما توهم أن ذلك غير موجب لفضيلته لما ورد: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" 3 فأزال ذلك التوهم بإثبات هاتين الصفتين له فصار المقصود منه تخصيص مضمون "يفتح الله على يديه" وما ذكر من الصفات لإزالة ذلك التوهم"4.
الشبهة الثالثة: حديث الثقلين: فقد استدل الشيعة به على إمامة علي رضي الله عنه وبنيه وهم يسوقونه بطرق مختلفة وقد ساقه ابن المطهر الحلي بلفظ: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" وقال: "أهل بيتي هم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق" ثم قال: ـ وهذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته وعلي سيدهم فيكون واجب الطاعة على الكل فيكون هو الإمام5.
وقال الصدوق مبيناً وجه دلالة هذا الحديث الذي لم يصح بهذا اللفظ كما سنرى قريباً حيث قال: "والعترة علي بن أبي طالب وذريته من فاطمة وسلالة النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين نص الله تبارك وتعالى عليهم بالإمامة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر أولهم علي وآخرهم القائم عليه السلام على جميع ما ذهبت إليه العرب
1ـ صحيح البخاري 2/290.
2ـ صحيح مسلم 4/1872.
3ـ صحيح البخاري 4/145، صحيح مسلم 1/106.
4ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/169.
5ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/104، وأورده الصدوق في كتابه معاني الأخبار ص/91، الطرائف في معرفة مذهب الطوائف ص/113-117، بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد للصفار ص/432-433.
من معنى العترة"1.
وقال ابن طاووس2 بعد ذكره لروايات كثيرة لحديث الثقلين: "فهذه عدة أحاديث برجال متفق على صحة أقوالهم يتضمن الكتاب والعترة فانظروا وأنصفوا هل جرى من التمسك بهما ما قد نص عليهما، وهل اعتبر المسلون من هؤلاء من أهل بيتي الذين ما فارقوا الكتاب؟ وهل فكروا في الأحاديث المتضمنة أنهما خليفتان من بعده؟ وهل ظلم أهل بيت نبي من الأنبياء مثل ما ظلم أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الأحاديث المذكورة المجمع على صحتها؟ وهل بالغ نبي أو خليفة أو ملك من ملوك الدنيا في النص على من يقوم مقامه بعد وفاته أبلغ مما اجتهد فيه محمد رسول الله؟ لكن له أسوة بمن خولف من الأنبياء قبله، وله أسوة بالله الذي خولف في ربوبيته بعد هذه الأحاديث المذكورة المجمع على صحتها"3.
ولقد كفانا مؤنة الرد على استدلالهم بحديث الثقلين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه قد رد عليهم وأبطل استدلالهم بوجوه عدة هي:
الوجه الأول: أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: "أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" 4 وهذا اللفظ يدل
1ـ معاني الأخبار للصدوق ص/92.
2ـ هو علي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني المتوفى سنة أربع وستين وستمائة له ترجمة في أول كتابه الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/3 وما بعدها.
3ـ الطرائف في معرفة الطوائف لابن طاووس 1/117.
4ـ صحيح مسلم 4/1873.
على أن الذي أمر بالتمسك به وجعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله وأما قوله: "وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض" فهذا رواه الترمذي1 وقد سئل عنه أحمد بن حنبل فضعفه وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا: لا يصح2، وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة قالوا: ونحن نقول بذلك كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى وغيره لكن أهل البيت لم يتفقوا على شيء من خصائص مذهب الرافضة بل هم المبرؤون المنزهون عن التدنس بشيء منه ـ وأما قوله: "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح" فهذا لا يعرف له إسناد صحيح ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عترته: إنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا علي الحوض وهو الصادق المصدوق فيدل على أن إجماع العترة حجة وهذا قول طائفة من علماء الحنابلة رحمهم الله تعالى ـ لكن العترة هم بنو هاشم كلهم ولد العباس وولد علي وولد الحارث بن عبد المطلب وسائر بني أبي طالب وغيرهم وعلي وحده ليس هو العترة وسيد العترة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ذلك أن علماء العترة كابن عباس وغيره لم يكونوا يوجبون اتباع علي في كل ما يقوله ولا كان علي يوجب على الناس طاعته في كل ما يفتي به ولا عرف أن أحداً من أئمة السلف لا من بني هاشم ولا غيرهم قال: إنه يجب اتباع علي في كل ما يقوله.
الوجه الثالث: أن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته بل أئمة العترة
1ـ سنن الترمذي 5/328.
2ـ لأن في سنده زيد بن الحسن القرشي أبو الحسن الكوفي صاحب الأنماط وهو ضعيف من الثامنة. قال أبو حاتم: "منكر الحديث" الجرج والتعديل 3/560، ميزان الاعتدال للذهبي 2/102، تهذيب التهذيب 3/406، تقريب التهذيب 1/273، ويعده الشيعة منهم وله ترجمة عند المامقاني في كتابه "تنقيح المقال في علم الرجال" 1/462، وهو غير محمود عندهم.
كابن عباس وغيره يقدمون أبا بكر وعمر وفيهم من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم أضعاف من فيهم من الإمامية والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين وتابعيهم من ولد الحسين بن علي وولد الحسن وغيرهما أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر وكانوا يفضلونهما على علي والنقول عنهم ثابتة متواترة.
الوجه الرابع: أن هذا معارض بما هو أقوى منه وأن إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع، والعترة بعض الأمة فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة وأفضل الأمة أبو بكر1 فإن كانت الطائفة التي إجماعها حجة يجب اتباع أفضلها مطلقاً فهو أبو بكر، وإن لم يكن بطل ما يذكر الشيعة في إمامة علي رضي الله عنه"2.
ومما تجدر الإشارة إليه أن حديث الثقلين قد تعددت رواياته في مصادر أهل السنة والجماعة وأن الدكتور علي أحمد الثالوث قد تتبع هذا الحديث وقام بدراسة طرقه المتعددة وأخرجها في كتابه "حديث الثقلين وفقهه" وتوصل إلى أن "ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم لا خلاف حول صحته "وأما بقية الروايات فقد قال عنها: "ورأينا الروايات الأخرى لهذا الحديث وظهر ما بها من ضعف وهنا ملحظ هام وهو أن الضعف أساساً جاء من موطن واحد وهو الكوفة وهذا يذكرنا بقول الإمام البخاري في حديث رواه عطية: أحاديث الكوفيين هذه مناكير. ومن هنا ندرك لماذا اعتبر ابن الجوزي هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة وإن كانت الروايات في جملتها كما يبدو لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع"3.
فدعوى ابن طاووس من الاتفاق على صحة أقوال رجال الأحاديث التي ساقها وحديث الثقلين الوارد في صحيح مسلم ليس
1ـ منهاج السنة 4/104-105.
2ـ انظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/476.
3ـ حديث الثقلين ص/24.
فيه أكثر من الحث على حب آل بيت النبوة وحفظ حقوقهم لأن ذلك من كمال حبه صلى الله عليه وسلم وحفظ حقوقهم وتذكيره صلى الله عليه وسلم بأهل بيته لا يلزم منه إمامتهم، ولو كان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بيان إمامتهم لأفصح عن ذلك بلفظ في غاية البيان والوضوح.
الشبهة الرابعة: حديث الغدير:
لقد أخذ حديث الغدير عند الشيعة منزلة رفيعة وافتخروا به وأشادوا به وأفردوه بالتأليف وفيه يقول الأميني: "للإمامية مجتمع باهر يوم الغدير عند المرقد العلوي الأقدس يضم إليه رجالات القبائل، ووجوه البلاد من الدانين والقاصين إشادة بهذا الذكر"1.
ومفاد قصة الغدير كما يذكرونها في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على الحج في سنة عشر من الهجرة وأعلن ذلك للناس فاجتمعوا إليه جماعات ووحدانا وقاد النبي صلى الله عليه وسلم قافلة الحجيج إلى مكة قاصدين البيت الحرام مصطحباً معه نساءه وسائر أهل بيته، ثم بعد أن قضى مناسكه قفل راجعاً إلى المدينة وسار حتى وصل غدير خم من الجحفة وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة ويومها نزل عليه جبريل من الله بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2 وأمره أن ينصب عليهم علياً إماماً ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد فحشر الناس في ذلك الموضع وأوقف سيرهم ورد مقدمتهم على مؤخرتهم ثم وقف عليهم خطيباً إلى أن قال: يا أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه" يقولها ثلاث مرات ثم قال
1ـ الغدير في الكتاب والسنة والأدب 1/13.
2ـ سورة المائدة آية/67.
"اللهم والي من والاه وعادي من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار ألا فليبلغ الشاهد الغائب" ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 1 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر على إكمال الدين وإكمال النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي من بعدي"2.
ووجه استدلالهم من حديث الغدير عبارة: "من كنت مولاه فعلي مولاه" وهذه العبارة لا تعني عند الشيعة إلا النص على إمامة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه الدلالة منه: "والمراد بالمولى هنا الأولى بالتصرف لتقدم التقوى منه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ألست أولى منكم بأنفسكم" 3
وروى الصدوق بإسناده إلى أبي إسحاق قال: قلت لعلي بن الحسين عليهما السلام ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه " قال: أخبرهم أنه الإمام بعده"4.
وقبل أن أبين بطلان حديث الغدير هذا نبين أنه يحمل في ثناياه جهل الشيعة المركب بعدم معرفتهم بمكان وزمان نزول آيات القرآن الكريم فدعواهم أن قوله
1ـ سورة المائدة آية/3.
2ـ انظر كتاب الغدير في الكتاب والسنة والأدب للأميني 1/9-11 وكتاب الطرائف في معرفة مذهب الطوائف 1/139-148، وكتاب اليقين لابن طاووس ص/113-115، الطبرسي في الاحتجاج 1/55، والصدوق في معاني الأخبار ص/67 وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/84، حق اليقين 1/153.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/84، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/154.
4ـ معاني الأخبار ص/65.
عالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أنزلت يوم الغدير فهذه الدعوى غير صحيحة فقد رجح العلامة ابن كثير أنها مما نزل بالمدينة بل إنها من أواخر ما نزل فقد قال رحمه الله تعالى: "والصحيح أن هذه الآية مدينة بل هي من أواخر ما نزل بها والله أعلم"1.
وسياق الآية يشعر ببعد نزولها يوم الغدير بشأن خلافة علي رضي الله عنه ذلك أن الآية سبقت بآيات كلها وردت في ذم أهل الكتاب وبيان تعداد معاصيهم وتعديهم حدود الله ـ جل وعلا ـ قال العلامة ابن جرير عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} " وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص الله تعالى قصصهم في هذه السورة وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجترائهم على ربهم، وتوثبهم على أنبيائهم وتبدليهم كتابه وتحريفهم إياه ورداءة مطاعمهم ومآكلهم وسائر المشركين غيرهم ما أنزل عليه فيهم من معايبهم والإزراء عليهم والتقصير بهم، والتهجين لهم وما أمرهم به ونهاهم عنه وألا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبهم في نفسه مكروه، ما قام فيهم بأمر الله ولا جزعاً من كثرة وقلة عدد من معه وألا يتقي أحداً في ذات الله فإن الله تعالى كافيه كل أحد من خلقه ودافع عنه مكروه كل من يتقي مكروهه"2.
وأما قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 3 فإن نزولها كان بعرفة وحادثة الغدير كانت بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع وهو في طريقه إلى المدينة قال ابن جرير رحمه الله تعالى ذاكراً القول الراجح في مكان ووقت نزول هذه الآية: "وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم
1ـ انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/611.
2ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 6/307.
3ـ سورة المائدة آية/3.
عرفة يوم جمعة لصحة سنده ووهن أسانيد غيره"1.
فادعاهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزولها: "الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي من بعدي " فإنه كما قال الألوسي: "من مفترياتهم وركاكة الأمر شاهدة على ذلك"2.
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المائدة لم ينزل منها شيء في غدير خم أو بعده حيث قال رحمه الله تعالى: "فمن زعم أن المائدة نزل منها شيء في غدير خم أو بعده فهو كاذب باتفاق أهل العلم"3.
وأما لفظ حديث الغدير فقد تصدى أهل العلم من أهل السنة والجماعة لبيان درجته كما أوضحوا ما يدل عليه ما صح من لفظه من وجوه:
الوجه الأول: أن لفظ "من كنت مولاه فعلي مولاه" ليس هو في الصحاح ولكن رواه طائفة من أهل العلم4 وقد تنازع الناس في صحته أو عدمها على قولين: ـ القول الأول: نقل عن الإمام البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وطعفوه وإلى هذا القول ذهب أبو محمد بن حزم فإنه ذكر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قال: "وأما من كنت مولاه فعلي مولاه" "فلا يصح
1ـ جامع البيان 6/84.
2ـ روح المعاني 6/61.
3ـ منهاج السنة 4/85.
4ـ أخرجه الترمذي بهذا اللفظ في سننه 5/297 من حديث أبي سريحة أو زيد بن أرقم شك شعبة وقال: عقبه هذا حديث حسن غريب، ورواه أحمد في المسند 4/368 عن زيد بن أرقم 5/361 من حديث بريدة ولفظه:"من كنت وليه فعلي وليه" ورواه ابن ماجه في سننه 1/45 من حديث سعد بن أبي وقاص كما أخرجه أيضاً من حديث البراء بن عازب 1/43 وقال محققه في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وقد صححه الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحية 4/330-344.
من طرق الثقات أصلاً"1.
القول الثاني: نقل عن الإمام أحمد بن حنبل أنه حسنه كما حسنه الترمذي2 ثم إن القائلين بصحة الحديث من أهل السنة سلفاً وخلفاً بينوا المراد من الحديث وما الذي يدل عليه وأنه ليس المراد به الخلافة.
فقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى فضيل بن مرزوق قال: سمعت الحسن بن الحسن وسأله رجل ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" قال لي: بلى والله لو يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمارة أو السلطان لأفصح لهم بذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أنصح للمسلمين فقال: "يا أيها الناس هذا ولي أمركم والقائم عليكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا والله لئن كان الله ورسوله اختار علياً لهذا الأمر وجعله القائم به للمسلمين من بعده ثم ترك علي أمر الله ورسوله لكان علي أول من ترك أمر الله ورسوله"، ثم قال: ورواه شبابة بن سوار عن الفضيل بن مرزوق قال سمعت الحسن بن الحسن أخا عبد الله بن الحسن وهو يقول لرجل ممن يتولاهم: فذكر قصة ثم قال: ولو كان الأمر كما يقولون إن الله ورسوله اختار علياً لهذا الأمر والقيام على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان علي لأعظم الناس خطية وجرماً في ذلك إذ ترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أمره ويعذر فيه إلى الناس قال: فقال له الرافضي: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فقال: أما والله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان يعني بذلك الإمرة والسلطان والقيام على الناس بعده لأفصح لهم بذلك كما أفصح لهم بالصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت ولقال لهم: إن هذا ولي أمركم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا فما كان من رواء هذا شيء فإن أنصح الناس كان للمسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم3.
1ـ انظر كتاب ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة ص/264.
2ـ منهاج السنة 4/86، وانظر المنتقى للذهبي ص/466-467.
3ـ الاعتقاد للبيهقي ص/182-183 وانظر تفسير روح المعاني للألوسي 6/195.
ففي هذين الأثرين عن الحسن بن الحسن تكذيب لما نسبه الصدوق إلى علي بن الحسين من أنه قال: إن المراد بقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه" أنه أخبرهم بأنه الإمام بعده فاتضح أن ذلك من زيادات الشيعة المنكرة على أهل البيت وأنهم يدخلون ألفاظاً منكرة في الأحاديث والآثار على حسب ما تملي لهم به أهواؤهم.
وروى البيهقي بإسناده إلى الربيع بن سليمان أنه قال: سمعت الشافعي رحمه الله يقول في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:"من كنت مولاه فعلي مولاه" يعني بذلك ولاء الإسلام وذلك قول الله عز وجل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} 1.
وأما قول عمر بن الخطاب لعلي: "أصبحت مولى كل مؤمن يقول: ولي كل مسلم"2.
وقال أبو نعيم الأصبهاني في معرض رده لحجج الرافضة التي يدعون أنها تدل على إمامة علي رضي الله عنه مباشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا احتج بالأخبار وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" قيل له: مقبول منك ونحن نقول وهذه فضيلة بينة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعناه من كان النبي صلى الله عليه وسلم مولاه فعلي والمؤمنون مواليه دليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} 3. والولي والمولى في كلام العرب واحد والدليل عليه قوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} أي: لا ولي لهم وهم عبيده وهو مولاهم وإنما أراد لا ولي لهم
…
وإنما هذه منقبة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه وحث على محبته وترغيب في ولايته لما ظهر من ميل المنافقين عليه وبغضهم له وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق"4.
1ـ سورة محمد آية/11.
2ـ الاعتقاد للبيهقي ص/182.
3ـ سورة التوبة آية/71.
4ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/217-218 والحديث في صحيح مسلم 1/86، سنن الترمذي 5/299.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى: "وأما حديث الموالاة فليس فيه إن صح إسناده نص على ولاية علي بعده فقد ذكرنا من طرقه في كتاب "الفضائل" ما دل على مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وهو أنه لما بعثه إلى اليمن كثرت الشكاة عنه وأظهروا بغضه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر اختصاصه به ومحبته إياه ويحثهم بذلك على محبته وموالاته وترك معاداته فقال: "من كنت وليه فعلي وليه" وفي بعض الروايات "من كنت مولاه فعلي مولاه" والمراد به ولاء الإسلام ومودته وعلى المسلمين أن يوالي بعضهم بعضاً ولا يعادي بعضهم بعضاً وهو معنى ما ثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق1 وفي حديث بريدة "حين شكى علياً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتبغض علياً؟ فقلت: نعم فقال: "لا تبغضه وأحببه وازدد له حباً" قال بريدة: فما كان من الناس أحد أحب إلي من علي بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر قولي أهل العلم في الحديث من حيث الصحة وعدمها: "ونحن نجيب بالجواب المركب فنقول إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام فإن قاله فلم يرد به قطعاً الخلافة بعده إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلغ بلاغاً مبيناً وليس في الكلام ما يدل دلالة بينة على أن المراد به الخلافة وذلك أن المولى كالولي والله تعالى قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 3 وقال: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 4 فبين أن الرسول ولي المؤمنين وأنهم مواليه أيضاً: كما بين أن الله ولي المؤمنين وأنهم أولياؤه وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض
1ـ صحيح مسلم 1/86.
2ـ الاعتقاد ص/181-182.
3ـ سورة المائدة آية/55.
4ـ سورة التحريم آية/4.
الوجه الثاني: أما الزيادة وهي قوله: "اللهم والي من والاه وعادي من عاداه" فلا ريب أنه كذب وقد نقل أحمد بن محمد بن هاني الأثرم قال قلت لأبي عبد الله حسين الأشقر تحدث عنه؟ قال: لم يكن عندي ممن يكذب في الحديث فقال له العباس بن عبد العظيم: حدّث في أبي بكر وعمر فقلت له يا أبا عبد الله صنف باباً فيه معايب أبي بكر وعمر فقال ما هذا بأهل أن يحدث عنه وذكر أنه حدثه بحديثين.
أحدهما أنه قال: أن علياً قاله له إنك ستعرض على البراءة مني فلا تتبرأ مني فاستعظمه أبو عبد الله وأنكره.
الثاني: "اللهم والي من والاه وعادي من عاداه" فأنكره أبو عبد الله جداً وكأنه لم يشك أن هذين كذب1.
الوجه الثالث: زعمهم أن المراد بالمولى: "هو الأولى بالتصرف" غير صحيح وإنما المراد بالمولاة المضادة للمعاداة وهذا حكم ثابت لكل مؤمن فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه وفي الحديث إثبات إيمان علي في الباطن والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطناً وظاهراً ويرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب لكن ليس فيه أنه ليس من المؤمنين مولى غيره فكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موال وهم صالحوا المؤمنين فعلي أيضاً له مولى بطريق الأولى والأحرى وهم المؤمنون الذين يتولونه"2.
وبهذه الوجوه المتقدمة يبطل استدلال الشيعة على خلافة علي بحديث الغدير الذي هو من عمدة أدلتهم على ذلك، بل إن "أخبار الغدير التي فيها الأمر باستخلاف علي غير صحيحية عند أهل السنة ولا مسلمة لديهم أصلاً"3.
1ـ انظر كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي 1/249، منهاج السنة النبوية 4/85-86، المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/467، تهذيب التهذيب 2/335-337.
2ـ منهاج السنة 4/86.
3ـ انظر روح المعاني للألوسي 6/193
الشبهة الخامسة: حديث الدار:
لقد تداول الشيعة هذا الحديث فيما بينهم وتناقلوه في كتبهم وقبلوه وسلموا به سنداً ومتناً وجعلوه دليلاً على إثبات إمامة علي رضي الله عنه بل استنبط منه بعضهم بداية نشأة التشيع.
فقد قال الزنجاني: "إن الدعوة إلى التشيع ابتدأت من اليوم الذي هتف فيه المنقذ الأعظم محمد صلوات الله عليه وآله صارخاً بكلمة لا إله إلا الله في شعاب مكة وجبالها فإنه لما نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 1 جمع النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم وأنذرهم وقال: أيكم يؤازرني فيكون أخي ووارثي ووزيري ووصيي وخليفتي فيكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا"2.
وحديث الدار كما قال الحلي وهو "ما نقله الناس كافة أنه لما نزل قوله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلاً وأمر أن يصنع لهم فخذ شاة مع مد من البر ويعد لهم صاعاً من اللبن وكان الرجل يأكل الجذعة في مقعد واحد ويشرب الفرق3 من الشراب في ذلك المقام فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا ولم يتبين ما أكلوا فبهرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وتبين لهم آية نبوته فقال: "يا بني عبد المطلب إن الله بعثني إليكم خاصة" فقال: وأنذر عشيرتك الأقربين "وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان تملكون بها العرب والعجم وتنقاد لكم بها الأمم وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي ووارثي
1ـ سورة الشعراء آية/214.
2ـ عقائد الإمامية للزنجاني 1/271.
3ـ الفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلاً وهي اثنى عشر مداً أو ثلاثة آصع عند أهل الحجاز "النهاية في غريب الحديث" 3/437.
وخليفتي من بعدي".
فلم يجبه أحد منهم فقال أمير المؤمنين أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر فقال اجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا فقال علي: فقمت فقلت مثل مقالتي الأولى فقال: "اجلس"، ثم أعاد القول ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف فقمت فقلت أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر فقال:" اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك فقد جعل ابنك أميراً عليك"1.
قال الشيعي مهدي السماوي مشيداً بهذا الافتراء: "قد بلغ حداً من التواتر والشهرة لا تستطيع الأقلام إغفاله ولا الألسن أن تكم عن التحدث به لواسع شهرته وانتشاره من حيث السند، وأما مضمونه فأوضح من أن يحتاج إلى بيان في دلالته على إمامته ((ع)) وخلافة رسول الله ((ص)) ووراثته له سائر ما يورث الأنبياء فهو يثبت بوضوح كون الإمام وزير الرسول وأخاه ووصيه وخليفته من بعده"2.
وحديث الدار هذا تناوله شيخ الإسلام ابن تيمية بالنقد والتفنيد وبين زيفه وبطلانه من وجوه عدة هي:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا النقل وما يدعونه من نقل الناس كافة من أبين الكذب عند أهل العلم بالحديث فإن هذا الحديث لا يوجد في شيء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل لا في الصحاح ولا في المسانيد والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به وإذا كان يوجد في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف مثل تفسير الثعلبي
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/80، وأورده القمي في تفسيره 2/124، البرهان في تفسير القرآن للبحراني 3/190-192، حق اليقين لعبد الله شبر 1/155، وانظر الصراط المستقيم إلى متسحقي التقديم 2/30.
2ـ الإمامة في ضوء الكتاب والسنة 1/136
والواحدي والبغوي بل وابن جرير وابن أبي حاتم لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء دليلاً على صحته باتفاق أهل العلم فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف، وهذا الحديث غايتة أن يوجد في كتب التفسير التي فيها الغث والسمين فيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها مثل تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم والثعلبي والبغوي ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة الثابتة التي اتفق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك ولكن هؤلاء المفسرون ذكروا ذلك على عادتهم في أنهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة والضعيفة ولهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال يذكر أقوال الناس وما نقلوه فيها وإن كان بعض ذلك هو الصحيح وبعضه كذب، وإذا احتج بمثل هذا الضعيف وأمثاله واحد فذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات وترك سائرها ينقل مما يناقض ذلك كان هذا من أفسد الحجج.... ـ وهذا الحديث ـ مناقض لما علم بالتواتر من أئمة التفسير الذين لم يذكروا هذا بحال لعلمهم أنه باطل.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب وقد رواه ابن جرير1 والبغوي2 بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه3....، ورواه أيضاً ابن
1ـ جامع البيان للطبري 19/121-122.
2ـ تفسير البغوي على حاشية الخازن 5/105.
3ـ هو عبد الغفار بن القاسم أبو مريم الأنصاري، رافضي ليس بثقة قال علي بن المديني: كان يضع الحديث ويقال: كان من رؤوس الشيعة وقال يحيى بن معين: ليس بشيء وقال البخاري: عبد الغفار بن القاسم بن قيس بن فهد ليس بالقوي عندهم، وقال أحمد: كان أبو مريم يحدث ببلايا في عثمان، وقال أبو حاتم والنسائي وغيرهما: متروك الحديث، انظر ترجمته في" الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 6/53-54، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 5/1964-1965، منهاج السنة 4/81، ميزان الاعتدال للذهبي 2/640.
أبي حاتم وفي إسناده عبد الله بن عبد القدوس وهو ليس بثقة1،
…
وإسناد الثعلبي أضعف لأن فيه ما لا يعرف.
الوجه الثالث: أن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلاً حين نزلت هذه الآية فإنها نزلت بمكة في أول الأمر ثم ولا بلغوا أربعين رجلاً في مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإن بني عبد المطلب لم يعقب منهم بالاتفاق إلا أربعة وهم بنو هاشم ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة العباس، وحمزة، وأبو طالب، وأبو لهب، فآمن اثنان وهما حمزة والعباس ونفر اثنان أحدهما نصره وأعانه وهو أبو طالب والآخر عاداه وأعان أعداءه وهو أبو لهب، وأما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين؛ طالب وعقيل وجعفر وعلي، وطالب لم يدرك الإسلام وأدركه الثلاثة فآمن علي وجعفر في أول الإسلام وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة عام خيبر وكان عقيل قد استولى على رباع بني هاشم وتصرف فيها ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته تنزل غداً في دارك بمكة قال:"وهل ترك لنا عقيل من دار"، وأما العباس فبنوه كلهم صغار إذ لم يكن فيهم بمكة ـ رجل وعلى سبيل الفرض أنهم كانوا رجالاً ـ فهم عبد الله وعبيد الله والفضل وأما قثم فولد بعدهم وأكبرهم الفضل وبه كان يكنى وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 2وكان سنه في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين ولم يولد للعباس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الفضل وعبد الله وأما سائرهم فولدوا بعد، واما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما أقل والحارث كان له ابنان أبو سفيان وربيعة وكلاهما تأخر إسلامه وكان من مسلمة
1ـ هو عبد الله بن عبد القدوس التميمي السعدي أبو محمد ويقال: أبو سعيد ويقال: أبو صالح قال يحيى بن معين: ليس بشيء رافضي خبيث: وقال البخاري: هو في الأصل صدوق إلا أنه يروي عن أقوام ضعاف، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: ضعيف، انظر ترجمته في الجرح والتعديل 5/104، الكامل لابن عدي 4/1514، كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي 2/279-280، منهاج السنة 4/81، تهذيب التهذيب 5/303-304.
2ـ سورة الشعراء آية/214.
الفتح، وكذلك بنو أبي لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح، وكان له ثلاثة ذكور فأسلم منهم اثنان عتبة ومغيث وشهدا الطائف وحنيناً وعتيبة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكله الكلب فقتله السبع بالزرقاء من الشام كافراً1.
فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين فأين الأربعون.
الوجه الرابع: أما دعواهم أن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن كذب على القوم ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل ولا عرف فيهم من كان يأكل الجذعة ولا يشرب فرقا.
الوجه الخامس: أن قوله للجماعة: من يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي كلام مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز نسبته إليه فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين وأعانوه على هذا الأمر وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته وفارقوا أوطانهم وعادوا إخوانهم وصبروا على الشتات بعد الألفة وعلى الذل بعد العز وعلى الفقر بعد الغنى وعلى الشدة بعد الرخا، وسيرتهم معروفة مشهورة، ومع هذا فلم يكن أحد منهم خليفة له، وأيضاً فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلاً أمكن أن يجيبوه، أو أكثرهم أو عدد منهم فلو أجاب منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده أيعين واحدا بلا موجب أم يجعل الجميع خلفاء في وقت واحد وذلك أنه لم يعلق الوصية والخلافة والأخوة والمؤازرة إلا بأمر سهل وهو الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة إلا وله من هذا نصيب وافر ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه السادس: أن حمزة وجعفراً وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه
1ـ انظر مجمع الزوائد للهيثمي 6/18-19، 9/217
علي من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر فإن هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلاً ولكان النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم وكان اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم به في دار الأرقم ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة فإن أبا لهب كان مظهراً لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب.
الوجه السابع: أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا ففي الصحيحين عن ابن عمر وابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فخص وعم فقال "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها"1.
فإن قالوا ـ هذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل كالثعلبي والبغوي وأمثالهما والمغازلي ـ يقال لهم: ـ مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث فإن في كتب هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع وفيها شيء كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية والعقلية أنها كذب بل فيها ما يعلم بالاضطرار أنه كذب والثعلبي وأمثاله لا يتعمدون الكذب بل فيهم من الصلاح والدين ما يمنعهم من ذلك لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب ويروون ما سمعوه وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث"2.
وبهذه الوجوه تبين عدم صحة هذا الحديث الذي جعله الرافضة من أدلتهم.
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/501، صحيح مسلم 1/192 واللفظ له.
2ـ منهاج السنة النبوية 4/80-84، وانظر المنتقى للذهبي ص/465-466.
على أن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه.
الشبهة السادسة: خبر الطائر:
مفاده أنهم يقولون روى الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه وآله ـ أتي بطائر فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر" فجاء علي عليه السلام فدق الباب فقال أنس بن مالك إن النبي صلى الله عليه وآله على حاجة فرجع، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله كما قال أولاً فدق علي عليه السلام الباب قال أنس: أولم أقل لك إن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ على حاجة؟ فانصرف فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كما قال في الأولين فسمعه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وقد قال له أنس إنه على حاجة فأذن له في الدخول فقال: "يا علي ما أبطأك عني؟ " قال: جئت فردني أنس ثم جئت فردني أنس ثم جئت الثالثة فردني فقال: "يا أنس ما حملك على هذا" فقال: رجوت أن يكون الدعاء لأحد من الأنصار فقال: "يا أنس أوفي الأنصار خير من علي عليه السلام؟ أوفي الأنصار أفضل من علي عليه السلام؟ ـ" وإذا كان أحب الخلق إلى الله تعالى وجب أن يكون الإمام"1.
ويرد على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بتصحيح هذا النقل ودعواهم أن كافة الجمهور رووه محض افتراء عليه فإن حديث الطير هذا لم يروه أحد من أصحاب الصحيح ولا صححه أئمة الحديث ولكن هو مما رواه بعضهم2 كما رووا أمثاله
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/99، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لابن طاووس 1/71-73.
2ـ رواه الترمذي في سننه 5/300 وقال عقبه: هذا حديث غريب لا نعرفه عن حديث السدي إلا من هذا الوجه، وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/130-131.
في فضل غير علي بل قد روي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة وصنف في ذلك مصنفات وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا ولا هذا.
الوجه الثاني: أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيئ أحب الخلق إلى الله ليأكل منه فإن إطعام الطعام مشروع للبر والفاجر وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الآكل ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله.
الوجه الثالث: أن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة فإنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن علياً أحب الخلق إلى الله وأنه جعله خليفة من بعده وهذا الحديث يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله.
الوجه الرابع أن يقال لهم إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن علياً أحب الخلق إلى الله أو ما كان يعرف، فإن كان يعرف ذلك كان يمكنه أن يرسل يطلبه كما كان يطلب الواحد من الصحابة أو يقول: اللهم ائتني بعلي فإنه أحب الخلق إليك فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في ذلك ولو سمي علي لاستراح أنس من الرجاء الباطل ولم يغلق الباب في وجه علي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف ذلك بطل ما يدعونه من كونه كان يعرف ذلك ثم إن في لفظه أحب الخلق إليك وإليّ فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه.
الوجه الخامس: أن الأحاديث الثابتة في الصحاح التي أجمع أهل الحديث على صحتها وتلقيها بالقبول تناقض هذا فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه يبين هذا لكل متأمل ما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من فضائل القوم فقد جاء في الصحيحين1 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر" وهذا الحديث مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث أنه قد أخرج في الصحاح من وجوه متعددة
1ـ صحيح البخاري 2/229، صحيح مسلم 4/1855
وهو صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض أحد أحب إليه من أبي بكر فإن الخلة هي كمال الحب وهذا لا يصلح إلا لله فإذا كانت ممكنة ولم يصلح لها إلا أبو بكر علم أنه أحب الناس إليه وقوله في الحديث الصحيح لما سئل أي الناس أحب إليك قال عائشة قيل: من الرجال قال: أبوها" 1.
وقول الصحابة أنت خيرنا وسيدنا وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله عمر بين المهاجرين والأنصار ولا ينكر ذلك منكر وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم محبته تابعة لمحبة الله وأبو بكر أحبهم إلى الله تعالى فهو أحبهم إلى رسوله وإنما كان كذلك لأنه أتقاهم وأكرمهم وأكرم الخلق على الله تعالى أتقاهم بالكتاب والسنة وإنما كان أتقاهم لأن الله تعالى قال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 2. وأئمة التفسير يقولون إنه أبو بكر"3.
الوجه السادس: أن حديث الطير موضوع وممن صرح بوضعه ابن طاهر فقد قال: حديث الطائر موضوع إنما يجيء من سقاط أهل الكوفة عن المشاهير والمجاهيل عن أنس وغيره"4.
وقد صرح العلامة ابن الجوزي بعدم صحته فقد أورده في كتابه "العلل المتناهية" عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق واحد وقال: هذا حديث لا يصح، وأورده أيضاً عن أنس من ستة عشر طريقاً وبين علة كل طريق
1ـ تقدم تخريجه.
2ـ سورة الليل آية/17-21.
3ـ منهاج السنة النبوية 4/99-100 وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/472، وانظر في شأن تفسير قوله تعالى:{وسيجنبها الأتقى} وما بعدها فإن المفسرين أطبقوا على أن المقصود بها هو أبو بكر رضي الله عنه. انظر جامع البيان للطبري 30/228، زاد المسير لابن الجوزي 9/152، تفسير البغوي على حاشية الخازن 7/213، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 7/310، الدر المنثور للسيوطي 8/538.
4ـ العلل المتناهية في الأحاديث الواهية 1/233-234.
ثم قال في الآخر وقد ذكره ابن مردوية من نحو عشرين طريقاً كلها مظلم وفيها مطعن، فلم أر الإطالة بذلك وقال أنبأنا محمد بن ناصر قال أنبأنا محمد بن طاهر المقدسي قال: كل طرقه باطلة معلولة"1.
فإن اعترض معترض وقال: إن الحاكم قد أخرجه في مستدركه على الصحيحين وقال: إنه على شرطهما ولم يخرجاه"2.
يرد على هذا الحديث بأن حكم الحاكم على هذا الحديث بهذا الحكم لم يسلم له به فقد تعقبه الحافظ الذهبي بقوله: "ولقد كنت زمانا طويلاً أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدركه فلما علقت هذا الكتاب رأيت الهول من الموضوعات التي فيه فإذا حديث الطير بالنسبة إليها سماء"3.
وذكر أيضاً أن الحاكم سئل عن حديث الطير فقال: لا يصح ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"4.
وبهذه الوجوه المتقدمة يتضح أن حديث الطير غير صحيح وأنه حديث موضوع ولا حجة للرافضة فيه على ما يدعون.
الشبهة السابعة: حديث التسليم على علي بإمرة المؤمنين زعمت الشيعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يسلموا على علي بإمرة المؤمنين وجعلوا هذا دليلاً على إمامته. وهذا الحديث ذكره الحلي فقال: "ما رواه الجمهور أنه أمر الصحابة بأن يسلموا على علي بإمرة المؤمنين وقال بأنه سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين وقال هذا ولي كل مؤمن بعدي وقال في حقه إن علياً مني وأنا منه أولى بكل مؤمن ومؤمنة فيكون علي وحده هو الإمام لذلك وهذه نصوص في الباب"5.
1ـ المصدر السابق 1/225-233.
2ـ المستدرك 3/131.
3ـ المستدرك 3/131.
4ـ تذكرة الحفاظ 3/1042، وانظر المنتقى ص/472، وانظر طبقات الشافعية للسبكي 4/168-169.
5ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/102-103.
والرد على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول:
أنهم يطالبون بإسناد هذا الحديث وبيان صحته وأما قوله: رواه الجمهور فهذا من الكذب المحض عليهم حيث إنه غير موجود في كتب الأحاديث المعروفة لا الصحاح ولا المسانيد ولا السنن وغيرها وإن كان وجد في بعض الكتب التي يروى فيها الصحيح والضعيف والموضوع فليس ذلك بحجة يجب اتباعها باتفاق المسلمين والرب ـ جل وعلا ـ قد حرم علينا الكذب وأن نقول عليه ما لا نعلم وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"1.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وكل من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتاب يعتمد عليه.
الوجه الثالث: أن هذا مما لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن قال هذا كاذب والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن الكذب وذلك أن سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين. فإن قيل علي هو سيدهم بعده، قيل: ليس في الحديث ما يدل على هذا بل هو مناقض لهذا لأن أفضل المسلمين المتقين المحجلين هم القرن الأول ولم يكن لهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولا إمام ولا قائد غيره فكيف يخبر عن شيء لم يحضر ويترك الخبر عما هو أحوج إليه وهو حكمهم في الحال ثم القائد يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يقود علي؟.
وأيضاً فعند الشيعة جمهور المسلمين المحجلين كفار أو فساق فلمن يقود، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال:"وددت أني قد رأيت إخواني قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله قال: "أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله قال: "أرأيتم
1ـ صحيح البخاري 1/31 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
لو أن رجلاً له خيل غير محجلة بين ظهري خيل دهم1 بهم2 ألا يعرف خيله قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء وأنا فرطهم على الحوض" 3الحديث، فهذا يبين أن كل من توضأ وغسل وجه ويديه ورجليه فإنه من الغر المحجلين وهؤلاء جماهيرهم إنما يقدمون أبا بكر وعمر، والرافضة لا تغسل بطون أقدامها ولا أعقابها ولا يكونون من المحجلين في الأرجل وحينئذ فلا يبقى أحد من الغر المحجلين يقودهم ولا يقادون مع الغر المحجلين فإن الحجلة لا تكون في ظهر القدم وإنما الحجلة تكون في الرجل كالحجلة في اليد، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ويل للأعقاب من النار"4.
ومعلوم أن الفرس لو لم يكن البياض إلا لمعة في يده أو رجله لم يكن محجلاً، وإنما الحجلة بياض اليد أو الرجل فمن لم يغسل الرجلين إلى الكعبين لم يكن من المحجلين فيكون قائد الغر المحجلين بريئا منه كائنا من كان.
الوجه الرابع: زعمهم أن علياً رضي الله عنه سيدهم وإمامهم وقائدهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يعلم بالاضطرار أنه كذب وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئاً من ذلك بل كان يفضل عليه أبا بكر وعمر تفضيلاً بيناً ظاهراً عرفه الخاصة والعامة حتى إن المشركين كانوا يعرفون منه ذلك ولما كان يوم أحد قال أبو سفيان وكان حينئذ أمير المشركين: أفي القوم محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه" فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة قال لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك"5.الحديث. فهذا مقدم
1ـ دهم: أي عددها كثير. انظر النهاية في غريب الحديث 2/145.
2ـ بهم: البهيم من الخيل الذي لا شية فيه تخالف معظم لونه. النهاية 1/168.
3ـ صحيح مسلم 1/218.
4ـ صحيح البخاري 1/21، صحيح مسلم 1/214.
5ـ صحيح البخاري 3/20.
الكفار إذ ذاك لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر لعلمه وعلم الخاص والعام أن هؤلاء الثلاثة هم رؤوس هذا الأمر وأن قيامه بهم ودل ذلك على أنه كان ظاهراً عند الكفار أن هذين وزيراه وبهما تمام أمره وأنهما أخص الناس به وأن لهما من السعي في إظهار الإسلام ما ليس لغيرهما وهذا أمر كان معلوماً للكفار فضلاً عن المسلمين والأحاديث الكثيرة متواترة بمثل هذا"1.
الوجه الخامس: أما قوله: "هو ولي كل مؤمن بعدي" هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو في حياته وبعد مماته ولي كل مؤمن وكل مؤمن وليه في المحيا والممات فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان فأما الولاية التي هي الإمارة فإنما يقال فيها والي كل مؤمن"2 وبهذه الوجوه ظهر بطلان هذه الشبهة التي هي أوهى من بيت العنكبوت وحسبنا من حججهم التي يدعون أنها أدلة مسندة إلى السنة ما تقدم وقد اتضح أنها أحاديث مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم لم تثبت عنه وما صح عنه منها فإنما يدل على فضل علي رضي الله عنه لا على أنه أفضل الصحابة ولا على أنه الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد صح عن علي وغيره نصوص عدة كلها تبين بطلان اعتقاد الشيعة في الإمامة جملة وتفصيلاً من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص له بالإمامة وأنه لم ينص على الخلافة عيناً لأحد من الناس وتلك النصوص هي:
1-
روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن عباس أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصبح بحمد الله بارئاً فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا إني لأعرف وجوه
1ـ منهاج السنة 4/103-104، المنتقى للذهبي ص/473-475.
2ـ المنتقى من منهاج الاعتدال ص/475.
بني عبد المطلب عند الموت اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله فيمن هذا الأمر؟ إن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.
فهذا نص صريح من علي رضي الله عنه في أنه لا نص عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلافة ولو كان هناك نص كما تزعمه الرافضة لقال للعباس: لماذا نذهب إليه ونسأله وقد نص عليّ وأوصى لي بالخلافة، ولما اعتدى عليه الخبيث الخارجي عبد الرحمن بن ملجم ظلماً وعدواناً وضربه ضربة أودت به إلى الموت قيل له: ألا تستخلف فكان رده على هذا العرض أن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحداً عند وفاته حتى يتأسى به.
2-
فقد روى أبو بكر البيهقي بإسناده إلى شقيق بن سلمة قال قيل لعلي بن أبي طالب: ألا تستخلف علينا فقال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف ولكن إن يرد الله بالناس خيراً فسيجمعهم بعدي على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم"2. فهذا دليل واضح من أن دعوى النص عليه إنما هو من اختلاق الرافضة الذين ملئت قلوبهم بالبغض والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيهم علي وأهل بيته إنما يدعون حبهم تستراً ليتسنى لهم الكيد للإسلام وأهله.
3-
وروى أيضاً بإسناده إلى عمرو بن سفيان قال: لما ظهر علي يوم الجمل قال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئاً حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/141.
2ـ الاعتقاد ص/184، وأورده الحافظ ابن كثير في البداية وعزاه إلى البيهقي بهذا اللفظ عن أبي وائل وقال عقبه: إسناد جيد ولم يخرجوه: البداية والنهاية 5/282.
ثم قال: إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله أو قال حتى ضرب الدين بجرانه ثم إن أقواماً طلبوا الدنيا فكانت أموراً يقضي الله فيها"1.
4-
وروى الشيخان في صحيحيهما عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذا الصحيفة قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه2 فقد كذب، فيها أسنان الإبل3 وأشياء من الجراحات وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم:"المدينة حرم ما بين عير إلى ثور4 فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً وذمة المسلمين واحدة5 يسعى بها أدناهم6 ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً"7.
فهذا الحديث الثابت في الصحيحين وفي غيرهما عن علي رضي الله عنه يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى إليه بالخلافة ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته وبعد وفاته من أن يفتاتوا عليه فيقدموا غير من قدمه ويؤخروا من قدمه بنصه حاشا ـ وكلا ـ ولما؟ ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم غير ذلك فقد نسبهم بأجمعهم
1ـ الاعتقاد ص/184، ورواه الإمام أحمد بلفظ مقارب انظر المسند مع الفتح الرباني 23/4-5 وأورده بهذا اللفظ المباركفوري في تحفة الأحوذي 6/478 وقال: أخرجه أحمد ولبيهقي في دلائل النبوة بسند حسن.
2ـ القراب: هو الغلاف الذي يجعل فيه السيف بغمده.
3ـ أي: في تلك الصحيفة بيان أسنان الإبل التي تعطي دية.
4ـ هو جبل صغير واء أحد.
5ـ المراد بالذمة هنا الأمان، ومعناه أن أمان المسلمين للكافر صحيح فإذا أمنة أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له ما دام في أمان المسلم.
6ـ أي: يتولاها ويلي أمرها أدنى المسلمين مرتبة.
7ـ صحيح البخاري 1/321، صحيح مسلم 2/994-998 واللفظ له.
إلى الفجور والتواطؤ على معاندة الرسول ومضادتهم في حكمه ونصه ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام وكفر بإجماع الأئمة الأعلام"1.
قال الإمام النووي بعد ذكر قول علي رضي الله عنه: "من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب هذا تصريح من علي رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم إن علياً أوصى إليه النبي بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين وكنوز الشريعة وإنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليهم غيرهم، وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا"2.
5-
روى البخاري بإسناده إلى الأسود بن يزيد قال: ذكروا عند عائشة أن علياً رضي الله عنهما كان وصياً فقالت: متى أوصي إليه وقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت حجري فدعا بالطست فلقد انخنث3 في حجري فما شعرت أنه قد مات فمتى أوصى إليه4.
فقوله: "ذكروا عند عائشة أن علياً رضي الله عنهما كان وصياً":
قال القرطبي كانت الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي فرد عليهم جماعة من الصحابة ذلك وكذا من جاء بعدهم فمن ذلك ما استدلت به عائشة، ومن ذلك أن علياً لم يدع ذلك لنفسه ولا بعد أن ولي الخلافة، ولا ذكره أحد من الصحابة يوم السقيفة وهؤلاء ـ الشيعة ـ تنقصوا علياً من حيث قصدوا تعظيمه لأنهم نسبوه ـ مع شجاعته العظمى
1ـ البداية والنهاية 5/283-284.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 9/143.
3ـ أي: انكسر وانثنى لاسترخاء أعضائه عند الموت النهاية لابن الأثير 2/82.
4ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/356.
وصلابته في الدين ـ إلى المداهنة والتقية والإعراض عن طلب حقه مع قدرته على ذلك وقال غيره الذي يظهر أنهم ذكروا عندها أنه أوصى له بالخلافة في مرض موته فلذلك ساغ لها إنكار ذلك واستندت إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها ولم يقع منه شيء من ذلك فساغ لها نفي ذلك لكونه منحصراً في مجالس معينة لم تغب عن شيء منها"1.
6-
وروى البخاري بإسناده إلى طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال: لا فقلت: كيف كتب على الناس الوصية وأمروا بالوصية؟ قال أوصى بكتاب الله"2.
والوصية المنفية في قول عبد الله بن أبي أوفى إنما هي الوصية في الخلافة فقد توفي عليه الصلاة والسلام عن غير وصية في شأن الخلافة وأما الوصايا بغير الخلافة فوردت في عدة أحاديث اشتملت على وصيته بأشياء كثيرة أما الذي لم يوص به قطعاً هو الخلافة فإنه لم يوص بها لأحد من بعده3.
7-
فقد روى الشيخان من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: ألا تستخلف يا أمير المؤمنين فقال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ يعني أبا بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر فعرفت حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غير مستخلف"4.
فهذه النصوص القطعية تبين بطلان زعم الشيعة من دعوى النص على علي رضي الله عنه في الخلافة ـ وأن علياً رضي الله عنه براء مما نسبه إليه الشيعة من أنه الخليفة المنصوص عليه بعد ـ النبي صلى الله عليه وسلم فإن دعواهم النص عليه إنما يتضمن الطعن فيه رضي الله
1ـ فتح الباري 5/361-362.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/356.
3ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/253-257، فتح الباري 5/362.
4ـ صحيح البخاري 2/248، صحيح مسلم 3/1454-1455.
عنه لأنه لو كان معه نص فلما لا يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز والعاجز لا يصلح للإمارة وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن والخائن معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل"1.
وحاشاه رضي الله عنه من هذه الصفات كلها وحاشا الإمام الأكبر والصديق الأعظم أن يتقدم على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي شهد الله له بأنه أتقى الأمة وأبرها على الإطلاق.
8-
قال هذيل بن شرحبيل: أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ود أبو بكر أنه وجد عهداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرم أنفه بخرامة"2.
فكل هذه النصوص التي ختمنا بها هذا المبحث المروية عن علي رضي الله عنه وعن غيره من الصحابة دلت دلالة قطعية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص ولم يعهد بالخلافة من بعده لأحد لا لأبي بكر ولا لعلي رضي الله عنهما وإنما أشار إشارة قوية يفهما كل ذي لب وعقل إلى الصديق رضي الله عنه وأخبر أن المؤمنين لن يختاروا سواه ووقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
كما توضح هذه النصوص لكل من له أدنى معرفة أن النصوص التي يستدل بها الشيعة الرافضة على أن علياً رضي الله عنه هو الخليفة بالنص بعد النبي صلى الله عليه وسلم موضوعة وأنها من اختراعاتهم الباطلبة وأن عقيدتهم في الإمامة مبنية على الأحاديث الموضوعة التي اختلقها الزنادقة الملحدون وأن قصدهم منها هو إفساد دين الإسلام فعلى من افتراها من الله ما يستحق وحسبه ما وعده به الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"3.
1ـ انظر البداية والنهاية 5/284.
2ـ أورده ابن كثير في البداية والنهاية 5/283.
3ـ صحيح البخاري 1/31 حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورواه مسلم أيضاً في صحيحه 1/10.
الفصل الثاني: خلافة الفاروق رضي الله عنه
المبحث الأول: استخلاف الفاروق بعهد من أبي بكر رضي الله عنهما
…
المبحث الأول: استخلاف الفاروق بعهد من أبي بكر رضي الله عنهما
إن طريقة تولية الفاروق رضي الله عنه الخلافة بعد الصديق الأعظم رضي الله عنه كانت باستخلاف أبي بكر إياه، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه مرض قبل وفاته خمسة عشر يوماً ولما أحس بدنو أجله رضي الله عنه عهد في أثناء هذا المرض بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقرئ على المسلمين فأقروا به وسمعوا له وأطاعوا، ولم يعهد الصديق رضي الله عنه بالخلافة لعمر رضي الله عنه إلا بعد أن استشار نفراً من فضلاء الصحابة فيه مع أن عمر رضي الله عنه هو المعروف بصلابته في الدين، وأمانته وشدته على المنافقين إلى غير ذلك من الصفات الحميدة التي اتصف بها في ذات الله عز وجل ولكن الصديق رضي الله عنه فعل هذا مبالغة في النصح للأمة المحمدية وقد ذكر أهل السير والتواريخ صيغة عهد الصديق بالخلافة للفاروق رضي الله عنه فقد روى ابن سعد وغيره: أن أبا بكر الصديق لما استعز1 به دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال عبد الرحمن: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال: عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدوتك وشاور معهما
1ـ استعز به: أي: اشتد به المرض وأشرف على الموت
…
يقال: عز يعز ـ بالفتح ـ إذا اشتد، واستعز به المرض وغيره، واستعز عليه إذا اشتد عليه وغلبه النهاية في غريب الحديث والأثر 3/228.
سعيد بن زيد أبا الأعور وأسيد بن الخضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك يرضى للرضى ويسخط للسخط الذي يسر خير من الذي يعلن، ولم يل هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وسمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذ سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني فقال: أبا لله تخوفوني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك أبلغ عني ما قلت لك من وراءك، ثم اضطجع ودعا عثمان بن عفان فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم والخير أردت ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والسلام عليكم ورحمة الله، ثم أمر بالكتاب فختمه، ثم قال بعضهم لما أملى أبو بكر صدر هذه الكتاب: بقي ذكر عمر فذهب به قبل أن يسمي أحداً فكتب عثمان: إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي ما كتبت فقرأ عليه ذكر عمر فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت إن أقبلت نفسي في غشيتي تلك يختلف الناس فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً، والله إن كنت لها لأهلاً، ثم أمره فخرج بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب وأسيد بن سعيد القرظي فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، وقال بعضهم: قد علمنا به قال ابن سعد: علي القائل وهو عمر، فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به وبايعوا، ثم دعا أبو بكر عمر خالياً فأوصاه بما أوصاه به ثم خرج من عنده فرفع أبو بكر يديه مداً فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم وخفت عليهم
الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم به واجتهدت لهم رأيي فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك ونواصيهم بيدك أصلح لهم وإليهم واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هدي نبي الرحمة، وهدي الصالحين بعده وأصلح له رعيته"1.
وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن الحسن بن أبي الحسن قال: لما ثقل أبو بكر واستبان له من نفسه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي فقاموا في ذلك وخلوا عليه فلم تستقم لهم، فرجعوا إليه فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيك قال: فلعلكم تختلفون قالوا: لا قال: فعليكم عهد الله على الرضى قالوا: نعم. قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده فأرسل أبو بكر إلى عثمان بن عفان فقال: أشر علي برجل ووالله إنك عندي لها لأهل وموضع فقال: عمر فقال: اكتب فكتب حتى انتهى إلى الاسم فغشي عليه ثم أفاق، فقال: اكتب عمر2 "ومن هذا السياق تبين واتضح أن تولية الفاروق رضي الله عنه الخلافة كانت بعهد من الصديق رضي الله عنه ولقد صدقت فراسة أبي بكر في عمر حين اجتهد في العهد بالخلافة من بعده له رضي الله عنه فلقد قام بالخلافة أتم القيام حيث كان إماماً ناصحاً لله ولرسوله ولدين الإسلام حيث كثرت في خلافته الفتوح واتسعت رقعة الدولة الإسلامية ونعمت الأمة الإسلامية بعدله رضي الله عنه ولحسن اختيار الصديق رضي الله عنه في أن يكون الفاروق هو الخليفة من بعده اعتبر من أشد الناس فراسة بسبب
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/199-200، تاريخ الأمم والملوك للطبري 3/428-429، كتاب الثقات لابن حبان 2/190-191، تاريخ عمر لأبي الفرج بن الجوزي ص/66-67، الكامل في التاريخ 2/425-426.
2ـ تاريخ عمر لابن الجوزي ص/66-67.
ذلك فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أفرس الناس ثلاثة العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه، والمرأة التي رأت موسى عليه السلام فقالت: لأبيها: يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما قال الحاكم: فرضي الله عن ابن مسعود لقد أحسن في الجمع بينهم. بهذا الإسناد صحيح"1.
1ـ المستدرك للحاكم 3/90، وصححه الذهبي.ورواه أبو بكر الخلال في كتاب السنة ص/277-278.
المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه
إن حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه مما لا يشك فيها مسلم لما هو معلوم عند كل ذي عقل وفهم أنه يلزم من حقية خلافة أبي بكر حقية خلافة عمر وقد قدمنا في الفصل الثاني من هذا الباب أن نصوص الكتاب والسنة والإجماع كلها دلت على حقية خلافة أبي بكر، وما دل على حقية خلافة الصديق رضي الله عنه دل على حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه لأن الفرع يثبت له من حيث كونه فرعاً ما ثبت للأصل فحينئذ لا مطمع لأحد من الشيعة الرافضة في النزاع في حقية خلافة عمر لما قدمناه من الأدلة الواضحة القطعية على حقية خلافة مستخلفه، ولما سنذكره هنا من بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه، وإذا ثبت حقية خلافة الصديق رضي الله عنه قطعاً صار النزاع في حقية خلافة الفاروق عناداً وجهلاً وغباوة وإنكاراً لما هو معلوم في الدين بالضرورة ومن اعتقد عدم حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه كالشيعة الرافضة إنما يعد من الجهلة الحمقى حقيق أن يعرض عنه وعن أكاذيبه وأباطيله، ولا يلتفت إليه ولا يعول في شيء من الأمور عليه، فخلافة الفاروق رضي الله عنه حق بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهذا معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وقد وردت الإشارة إلى حقية خلافته في طائفة من النصوص القطعية الصحيحة منها:-
1-
في نص القرآن دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعلى وجوب الطاعة لهم وهو أن الله ـ تعالى ـ قال مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم في
الأعراب: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} 1 وكان نزول براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك2 التي تخلف فيها الثلاثة المعذرون الذين تاب الله عليهم ـ في سورة براءة ولم يغز عليه الصلاة والسلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات صلى الله عليه وسلم وقال تعالى أيضاً: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تبوك لهذا، ثم عطف سبحانه وتعالى عليهم أثر منعه إياهم من الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى:{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 3 فأخبر ـ تعالى ـ أنهم سيدعوهم غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم.
قال أبو محمد بن حزم: وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم، ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك4 فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلاً وإذ قد وجبت طاعتهم فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم"5.
1ـ سورة التوبة آية/83.
2ـ انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور 4/119-122.
3ـ سورة الفتح آية/ 16-17.
4ـ انظر الاعتقاد للبيهقي ص/173.
5ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/109-110.
2-
ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن"1.
هذا الحديث تضمن الإشارة إلى خلافة الشيخين رضي الله عنهما، كما تضمن الإشارة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه، وإلى كثرة الفتوح وظهور الإسلام في زمنه فهذا المنام النبوي مثال واضح لما حصل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما وكل ذلك مأخوذ عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وآثار صحبته فقد كان عليه الصلاة والسلام هو صاحب الأمر فقام به أكمل قيام حيث قرر قواعد الدين ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه ودخل الناس في دين الله أفواجاً وأنزل الله تعالى عليه قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 2.
ولما التحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى خلفه أبو بكر رضي الله عنه على الأمة سنتين وأشهراً وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "ذنوباً أو ذنوبين" ـ وهذا شك من الراوي والمراد ذنوبان كما جاء التصريح بذلك في رواية أخرى3 وقد حصل في خلافته رضي الله عنه قتال المرتدين وقطع دابرهم واتساع رقعة الإسلام ولما توفي الصديق رضي الله عنه خلفه عمر رضي الله عنه فانتشر الإسلام في زمنه أكثر وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله لطول ولايته واتساع بلاد الإسلام وكثرة الأموال من الغنائم وغيرها فالحديث اشتمل على حقية خلافة عمر رضي الله عنه وصحتها وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها.
1ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1860-1862.
2ـ سورة المائدة آية/3.
3ـ انظر صحيح مسلم 4/1861.
3-
روى الإمام أحمد وغيره بإسناده إلى حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر وتمسكوا بعهد عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه"1.
دل هذا الحديث دلالة صريحة على حقية خلافة عمر رضي الله عنه فقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين" بفتح الذال ـ أي الخليفتين اللذين يقومان من بعدي أبو بكر وعمر، فأمره صلى الله عليه وسلم بطاعتهما يتضمن الثناء عليهما لكونهما أهلاً لأن يطاعا فيما يأمران به وينهيان عنه المؤذن بحسن سيرتهما وصدق سريرتهما وإيماء لكونهما الخليفتين بعده وسبب الحث على الاقتداء بالسابقين الأولين ما فطروا عليه من الأخلاق المرضية والطبيعة القابلة للخير ولذلك كانوا أفضل الناس بعد الأنبياء وصار أفضل الخلق بعدهم من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين"2.
4-
روى الشيخان في صحيحيهما بإسناديهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله قال: العلم"3.
ففي هذا الحديث إشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه "والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسية إلى أبي بكر ـ وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن
1ـ المسند 5/385، 402، سنن الترمذي 5/271، ورواه الطحاوي في مشكل الآثار 2/83-84، ابن سعد في الطبقات 2/334، وروا أبو نعيم في الحلية 9/109، الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 12/20، الحاكم في المستدرك 2/75 وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/233-236.
2ـ انظر فيض القدير للمناوي 2/56.
3ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1859-1860.
مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها ـ مع طول مدته ـ الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله ـ واستخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافاً، والفتن إلا انتشاراً"1. فالحديث فيه إشارة واضحة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه.
4-
روى أبو داود وغيره من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
في هذا الحديث إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الفضل فأفضلهم أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم جميعاً كما أن الحديث تضمن الإشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي الخلافة بعد الصديق رضي الله عنه وقوله له في الحديث:"فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم""وذلك لما علم صلى الله عليه وسلم من أن تأويل رفع الميزان انحطاط رتبة الأمور وظهور الفتن بعد خلافة عمر"3.
6-
وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف4 السمن والعسل، فأرى الناس...........................
1ـ فتح الباري 7/46.
2ـ سنن أبي داود 2/512، ورواه أحمد في المسند 5/44، ورواه الترمذي في سننه 3/369.
3ـ انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 13/387.
4ـ أي: تقطر: النهاية في غريب الحديث 5/75.
يتكففون1 منها: فالمستكثر والمستقل وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلاً به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل. فقال أبو بكر: يا رسول بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعبرها قال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء في الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله ثم يأخذ به رجل فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله ـ بأبي أنت ـ أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً" قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت. قال لا تقسم" 2.
تضمن هذا الحديث الإشارة إلى حقية عمر رضي الله عنه وأرضاه. ووجه ذلك أن قوله في الحديث: "ثم أخذ به رجل آخر فعلا به" هو أبو بكر رضي الله عنه وقوله ثانياً: ثم أخذ به رجل آخر فانقطع إشارة إلى خلافة الفاروق رضي الله عنه.
7-
روى أبو داود بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان يحدث أن ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط 3 برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم"4.
دل هذا الحديث بالإشارة الواضحة إلى ترتيب الثلاثة في الخلافة وإلى حقية
1ـ أي: يأخذون منها بأكفهم انظر: النهاية في غريب الحديث 4/190.
2ـ صحيح البخاري 4/219، صحيح مسلم 4/1777-1778.
3ـ أي: علق انظر النهاية في غريب الحديث 5/141.
4ـ سنن أبي داود 2/513.
11-
وروى الشيخان في صحيحيهما عن ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقول: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه1 الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم قال: فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذاك أني كنت أكثر أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما2.
12-
ومما دلَّ على حقية خلافته رضي الله عنه اجتماع الصحابة على أنهم لا يقدمون إلا أفضلهم وأخيرهم مع قول أبي بكر وعلي رضي الله عنهما فيه.
فأما قول أبي بكر رضي الله عنه فيه فهو قوله: "اللهم أمرت عليهم خير أهلك"3. وأما قول علي رضي الله عنه فيه فهو ما رواه البخاري عن محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر وخشيت أن يقول: عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين"4.
فهذه الأحاديث التي أوردناها في هذا المبحث كلها فيها الدلالة الواضحة على حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه.
قال السفاريني رحمه الله تعالى: "اعلم أن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه مرتبة ولازمة لحقية خلافة الصديق الأعظم أبي بكر
1ـ أي: أحاطوا به.
2ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1858-1859.
3ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/276، وانظر الطبقات لابن سعد 3/274.
4ـ صحيح البخاري 2/291.
رضي الله عنه وقد قام الإجماع وإشارات الكتاب والسنة على حقية خلافته فما ثبت للأصل الذي هو الصديق من حقية الخلافة يثبت لفرعه الذي هو عمر بن الخطاب فيها فلا مطمع لأحد من فرق الضلال في الطعن والنزاع في حقية الخلافة وقد علم أهل العلم علماً باتاً ضرورياً أن الصحابة الكرام أجمعوا على تولية الصديق الخلافة ومن شذ لا يقدح في ذلك من غير مرية"1.
1ـ لوامع الأنوار البهية 2/326.
المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه
…
خلافتهم رضي الله عنهم وهذا ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الرؤيا ولذلك عبروا تنوط بعضهم ببعض بولاية الأمر بعده عليه الصلاة والسلام.
8-
روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من ندفع صدقاتنا بعدك قال: فأتيته فسألته فقال: "إلى أبي بكر" فأتيتهم فأخبرتهم فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بأبي بكر حدث فإلى من؟ فأتيته فسألته فقال: "إلى عمر" فأتيتهم فأخبرتهم.. الحديث1.
اشتمل هذا الحديث على الإشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي أمر المسلمين بعد وفاة الصديق رضي الله عنه.
9-
روى البزار والطبراني كما في مجمع الزوائد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان يعني في الخلافة"2 وهذا أيضاً: من الآثار التي إشارتها واضحة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه.
10-
وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: وسمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه قالت: أبو بكر فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا"3. يعني وقفت على أبي عبيدة وهذا الحديث من أدلة أهل السنة والجماعة على تقديم أبي بكر ثم عمر للخلافة مع إجماع الصحابة"4.
1ـ المستدرك 3/77 وقال عقبة: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2ـ مجمع الزوائد 5/177 وقال عقبه: "رواه البزار والطبراني ورجال البزار رجال الصحيح.
3ـ صحيح مسلم 4/1856.
4ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/154.