المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: كيفية مبايعته رضي الله عنه بالخلافة - عقيدة أهل السنة في الصحابة لناصر بن علي - جـ ٢

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌الباب الثاني: أهل السنة والجماعة يثبتون إمامة الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الفضل

- ‌الفصل الأول: خلافة الصديق رضي الله عنه

- ‌المبحث الأول: الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه

- ‌المبحث الثاني: كيفية مبايعته رضي الله عنه بالخلافة

- ‌المبحث الثالث: ذكر النصوص التي فيها الإشارة إلى خلافته من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

- ‌المبحث الرابع: بيان الإجماع على خلافته رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: ذكر بعض شبه الشيعة الإمامية في أن الخليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبيان بطلانها

- ‌الفصل الثاني: خلافة الفاروق رضي الله عنه

- ‌المبحث الأول: استخلاف الفاروق بعهد من أبي بكر رضي الله عنهما

- ‌المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

- ‌الفصل الثالث: خلافة ذي النورين عثمان رضي الله عنه

- ‌المبحث الأول: كيفية تولية الخلافة

- ‌المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

- ‌الفصل الرابع: خلافة علي رضي الله عنه

- ‌المبحث الأول: كيف تمت له البيعة بالخلافة

- ‌المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: ذكر الحرب التي دارت بينه وبين بعض الصحابة وموقف أهل السنة منها

- ‌المبحث الخامس: خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه

- ‌الباب الثالث: سلامة قلوب وألسنة أهل السنة والجماعة للصحابة الكرام رضي الله عنهم

- ‌الفصل الأول: وجوب محبتهم والدعاء والاستغفار لهم والشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم

- ‌المبحث الأول: وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: الدعاء والاستغفار لهم

- ‌البحث الثالث: الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم

- ‌الفصل الثاني: إثبات عدالتهم رضي الله عنهم

- ‌المبحث الأول: معنى العدالة في اللغة والاصطلاح

- ‌المبحث الثاني: تعديل الله ورسوله للصحابة

- ‌المبحث الثالث: الإجماع على عدالتهم رضي الله عنهم

- ‌الفصل الثالث: تحريم سبهم رضي الله عنهم

- ‌المبحث الأول: تحريم سبهم بنص الكتاب العزيز

- ‌المبحث الثاني: دلالة السنة على تحريم سب الصحابة

- ‌المبحث الثالث: من كلام السلف في تحريم سب الصحابة

- ‌المبحث الرابع: حكم ساب الصحابة وعقوبته

الفصل: ‌المبحث الثاني: كيفية مبايعته رضي الله عنه بالخلافة

‌المبحث الثاني: كيفية مبايعته رضي الله عنه بالخلافة

لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص يحدد الكيفية التي يختار بها الإمام الذي يتولى أمر المسلمين ومع هذا لم يغفل أهل العلم هذه المسألة بل ذكروا طرقاً يتم بها اختيار إمام للمسلمين وبعض هذه الطرق استنبطوها من تولية الخلفاء الراشدين ولا شك في مشروعية طريقة تولي الخلفاء الراشدين لأن المصطفى عليه الصلاة والسلام حث المسلمين عامة على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وتلك الطرق التي يختار الإمام بها ذكرها أهل العلم ودونوها في كتبهم.

فقد قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "بعد ذكره لقول عمر رضي الله عنه "إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني" إلى آخره حاصله أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الوفاة وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا وإلا فقد اقتدى بأبي بكر وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة كما فعل عمر بالستة وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل"1.

وقال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى: "والإمامة تنال بالنص كما تقول طائفة من أهل السنة في أبي بكر أو بالإيماء إليه كما يقوله آخرون منهم أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كما فعله عمر، أو باجتماع

1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/205، وانظر تحفة الأحوذي 6/479-480.

ص: 520

أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع والله أعلم، أو يقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق، والاختلاف وقد نص عليها الشافعي"1.

وقد بين هذان الإمامان النووي وابن كثير الطرق التي تنال بها الإمامة وهي إما طريقة الاختيار، أو العهد من الإمام السابق إلى من يراه من المسلمين لائقاً بهذا المنصب من بعده، أو القهر والغلبة.

وأما الكيفية أو الطريقة التي تمت بها مبايعة الصديق رضي الله عنه فإنه لما قبض الرب ـ جل وعلا ـ نبيه صلى الله عليه وسلم ونقله إلى جنته ودار كرامته اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة2 بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا عقد الإمامة لسعد ابن عبادة وبلغ ذلك أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقصدا نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين ولما انتهوا إليهم حصل بينهم حوار في أمر الخلافة حيث اضطرب أمر الأنصار فجعلوا يطلبون الأمر لأنفسهم، أو الشركة فيه مع المهاجرين فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الأئمة من قريش" 3 فأذعنوا لذلك منقادين ورجعوا إلى الحق طائعين، وبايعوا أبا بكر رضوان الله عليه واجتمعوا على إمامته واتفقوا على خلافته وانقادوا لطاعته وانقطع الحوار في مسألة الخلافة باجتماعهم على أبي بكر رضي الله عنه وقد بين عمر رضي الله عنه كيفية بيعة أبي بكر رضي الله عنه في حديث طويل رواه البخاري وفيه أنه قال: "قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم

1ـ تفسير القرآن العظيم 1/125.

2ـ بنو ساعدة: قوم من الأنصار من بني كعب بن الخزرج بن ساعدة ومنهم سعد بن عبادة وسهل بن سعد الساعديان رضي الله عنهما وسقيفتهم في المدينة بمنزلة دار الندوة التي كانت لقريش في مكة وكانت السقيفة مكاناً يجتمعون فيه حين يجد ما يدعو إلى تداول الرأي "انظر معجم البلدان" 3/228-229.

3ـ مسند أحمد 3/183.

ص: 521

أن الأنصار خالفوا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان1 فذكروا ما تمالأ عليه القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا فقالوا: هذا سعد بن عبادة فقلت: ماله؟ قالوا: يوعك2 فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم3 فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم ـ معشر المهاجرين ـ رهط وقد دفت دافة4 من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا5 من أصلنا وأن يخضونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم ـ وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ـ وكنت أداري منه بعض الحد6 فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال: ما ذكرتم فيكم

1ـ هما: عويم بن ساعدة ومعن بن عدي "انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/660، المصنف لابن أبي شيبة 15/565

2ـ الوعك: الحمى بنافض ولذلك زمل "فتح الباري" 12/151 وانظر النهاية في غريب الحديث 5/207.

3ـ كان خطيب الأنصار ثابت بن قيس فالذي يظهر أنه هو "فتح الباري" 12/151.

4ـ دافة: أي عدد قليل، وأصله من الدف وهو السير البطيء في جماعة

يريد أنكم قوم طرأة غرباء أقبلتم من مكة إلينا ثم أنتم تريدون أن تيتأثروا علينا "فتح الباري" 12/151-152، وانظر النهاية في غريب الحديث 2/124.

5ـ يختزلونا: أي: يقتطعونا عن الأمر وينفردوا به دوننا "النهاية في غريب الحديث" 2/29، فتح الباري 12/150.

6ـ الحد والحدة: سواء من الغضب

وبعضهم يرويه بالجيم من الجد ضد الهزل أهـ. النهاية في غريب الحديث 1/353.

ص: 522

من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسباً وداراً وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ـ فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ـ فلم أكره مما قال غيرها، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها1 المحكك وعذيقها المرجب. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش2 فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت3 من الاختلاف فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته4 وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا5 على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قلتم سعد بن عبادة فقلت: قتل الله سعد بن عبادة قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضي وإما نخالفهم فيكون فساداً فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه ثغرة أن يقتلا"6.

ولقد اعترف سعد بن عبادة رضي الله عنه بصحة ما قاله الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة من أن قريشاً هم ولاة هذا الأمر وسلم طائعاً منقاداً لما قاله

1ـ الجذيل: تصغير جذل ـ وهو في الأصل عود ينصب للإبل الجربى لتحتك به، والعذيق: تصغير العذق ـ وهو النخلة يحملها، والمرجب: اسم مفعول من قولهم: "رجب النخلة ترجيباً" إذا بنى حولها دكاناً تعتمد عليه وذلك إنما يضع إذا كثر ثمرها حتى خيف أن تسقط منه ولم يرد بالتصغير في الموضعين إلا المدح، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 1/251، 2/197، فتح الباري 7/31.

2ـ قائل هذا هو: الحباب بن المنذر "فتح الباري" 12/153.

3ـ الفرق: بالتحريك الخوف والفزع يقال: فرق يفرق فرقاً "النهاية في غريب الحديث" 3/438.

4ـ وفي رواية أخرى أخرجها ابن إسحاق أن عمر رضي الله عنه قال: "ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده ثم ضربت على يده وتابع الناس "ذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 5/278، وقد سمى ابن سعد هذا الرجل بأنه: بشير بن سعد والد النعمان بن بشير الطبقات الكبرى 3/182 وانظر: البداية والنهاية 5/278.

5ـ ونزونا على سعد أي: وقعوا عليه ووطئوه "النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/44.

6ـ صحيح البخاري 4/179-180.

ص: 523

المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد تذكير الصديق إياه بذلك.

فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في طائفة من المدينة قال: فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً مات محمد ورب الكعبة ـ وفيه ـ فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتوهم فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم من شأنهم ـ إلا ذكره وقال: لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو سلك وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار" ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ وأنت قاعد: "قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم" فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء1.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد إيراده لهذا الحديث: "فهذا مرسل حسن ولعل حميداً أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا ذلك وفيه فائدة جليلة جداً وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالإمارة فرضي الله عنهم أجميعن"2.

والبيعة التي حصلت للصديق رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة تعتبر بيعة أولى من كبار وفضلاء الصحابة من مهاجرين وأنصار وقد بويع رضي الله عنه بيعة عامة من الغد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتممت البيعة من المهاجرين والأنصار قاطبة صبيحة يوم الثلاثاء وهو اليوم الثاني من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل تجهيزه عليه الصلاة والسلام.

وروى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر

1ـ المسند 1/5.

2ـ منهاج السنة 1/143.

ص: 524

صامت لا يتكلم قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم ـ فإن يك محمد قد مات فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين فإنه أولى الناس بأموركم، فقوموا بايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكان بيعة العامة على المنبر قال الزهري عن أنس بن مالك: سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر فلم يزل حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة"1.

وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وخليفته من المهاجرين، ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلكم أما لو قلتم غير هذا لم نبايعكم وأخذ بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه فبايعه عمر وبايعه المهاجرون والأنصار قال: فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير قال: فدعا بالزبير فجاء فقال: قلت ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فبايعه ثم نظر في وجوه القوم فلم ير علياً فدعا بعلي بن أبي طالب فجاء فقال: قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين قال: لا تثريب با خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه"2.

قال ابن كثير: "فيه فائدة جليلة وهي: مبايعة علي بن أبي طالب إما

1ـ صحيح البخاري 4/248.

2ـ أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 5/280 ثم قال عقبه: "وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان المنذري وانظر الاعتقاد للبيهقي ص/178.

ص: 525

في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة وهذا حق فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه

وخرج معه إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهراً سيفه يريد قتال أهل الردة"1.

وأما ما جاء في الصحيحين في حديث عائشة رضي الله عنها من أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته2 فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك3 فقال أبو بكر: وما عساهم أن يفعلوا بي إني والله لآتينهم فدخل

1ـ البداية والنهاية 5/281.

2ـ قال النووي: "وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر رضي الله عنه فمعناه انقباضها عن لقائه وليس هذا من الهجران المحرم الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء وقوله في هذا الحديث "فلم تكلمه" يعني في هذا الأمر أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه ولم ينقل قط انهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته"أهـ. شرح النووي 12/73-74.

3ـ معنى قول عمر رضي الله عنه: "والله لا تدخل عليهم وحدك" خاف أن يغلظوا عليه في المعاتبة ويحملهم على الإكثار من ذلك لين أبي بكر وصبره عن الجواب عن نفسه وربما رأى من كلامهم ما غير قلبه فيترتب على ذلك مفسدة خاصة أو عامة وإذا حضر عمر امتنعوا من ذلك"أهـ. شرح النووي 12/78.

ص: 526

عليهم أبو بكر فتشهد علي بن أبي طالب ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ولكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نحن نرى لنا حقاً لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الحق ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته1 فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهد علي بن أبي طالب فعظم حق أبي بكر وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضله الله به ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيباً فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت فكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر المعروف"2.

فتأخر علي رضي الله عنه عن المدة المذكورة في الحديث عن بيعة الصديق رضي الله عنه أجاب عنه بعض أهل العلم بما يقنع الذين يسمعون، ويشفي من سلمت قلوبهم من الأحقاد والأضغان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد قال الإمام النووي: "أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة فقد ذكره علي في هذا الحديث واعتذر أبو بكر رضي الله عنه ومع هذا فتأخره ليس بقادح في البيعة ولا فيه أما البيعة فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من

1ـ ذكر البيهقي في كتابه "الاعتقاد" ص/179 أن الصديق رضي الله عنه قال في اعتذاره إلى علي وغيره ممن تخلف عن بيعته: "أما والله ما حملنا على إبرام ذلك دون من غاب عنه إلا مخافة الفتنة وتفاقم الحدثان وإن كنت لها لكارهاً لولا ذلك ما شهدها أحد كان أحب إلي أن يشهدها إلا من هو بمثل منزلتك"أهـ.

2ـ صحيح البخاري 3/55-56، صحيح مسلم 3/2380.

ص: 527

العلماء والرؤساء ووجوه الناس، وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له وأن لا يظهر خلافاً ولا يشق العصا وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته فإنه لم يظهر على أبي بكر خلافاً ولا شق العصا ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره فلم يجب عليه الحضور لذلك ولا لغيره فلما لم يجب لم يحضر وما نقل عنه قدح في البيعة ولا مخالفة ولكن بقي في نفسه عتب فتأخر حضوره في أن زال العتب وكان سبب العتب أنه مع وجاهته وفضيلته في نفسه في كل شيء وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك رأى أنه لا يستبد بأمر إلا بمشورته وحضوره وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهم الأمور كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله أو الصلاة عليه أو غير ذلك وليس لهم من يفصل الأمور فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء والله أعلم"1.

قال الحافظ ابن كثير معللاً عدم اسجابة الصديق رضي الله عنه لما طلبته فاطمة رضي الله عنها من الميراث حيث ظنت أن ما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين الورثة قال: "فلم يجيبها إلى ذلك لأنه رأى أن حقاً عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق البار الراشد التابع للحق رضي الله عنه فحصل لها ـ وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة ـ عتب وتغضب ولم تكلم الصديق حتى ماتت واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر

1ـ شرح النووي 12/77-78.

ص: 528

رضي الله عنه

مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد ذلك صحة قول موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن ابراهيم: حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس وقال: ما كنت حريصاً يوماً ولا ليلة سألتها في سر ولا علانية فقبل مقالته وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار وإنا لنعرف شرفه وخيره ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي "إسناد جيد ولله الحمد والمنة ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع الصحابة ـ المهاجرين منهم والأنصار على تقديم أبي بكر وظهر له برهان قوله عليه الصلاة والسلام: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 1.

فبيعة علي رضي الله عنه للصديق بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها محمول على أنها بيعة ثانية أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث ومنعه إياهم ذلك بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا نورث ما تركناه فهو صدقة".

كما تقدم، ومن هذا يعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا حصل لهم بعض العتب على بعضهم فإنهم كانوا سريعي الرجوع عند مراجعة الحق وظهوره ولم يجعلوا للغل في قلوبهم سكناً بل كانت قلوبهم على قلب رجل واحد وحتى أم الحسنين رضي الله عنها رجعت عن عتبها على الصديق وعدلت عن مطالبته فيما أفاء الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال فدك بعد أن أبان لها الحكم فيه كما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم2 وهذا هو الصواب والمظنون بها واللائق بأمرها وسايداتها وعلمها ودينها رضي الله عنها3 ولم تطب نفس الإمام الأكبر والصديق الأعظم أبو بكر

1ـ البداية والنهاية 5/281.

2ـ المسند 1/4، سنن أبي داود 2/130، البداية والنهاية 5/352.

3ـ البداية والنهاية 5/325.

ص: 529

رضي الله عنه أن تبقى سيدة نساء العالمين عاتبه عليه بل ترضاها وتلاينها قبل موتها فرضيت رضي الله عنها على رغم أنف كل رافضي على وجه الأرض فقد روى الحافظ أبو بكر بإسناده إلى إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم! فأذنت له فدخل عليها يترضاها فقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضات الله ومرضات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرضاتكم أهل البيت ثم ترضاها حتى رضيت1.

ففي هذا الأثر صفعة قوية للرافضة الذين فتحوا على أنفسهم شراً عريضاً وجهلاً طويلاً وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم بسبب ما ذكر من هجران فاطمة رضي الله عنها لأبي بكر ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة وفرقة مرذولة يتمسكون بالمتشابه ويتركون الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين2.

ثم أن الصديق رضي الله عنه لم يقبل الإمامة حرصاً عليها ولا رغبة فيها وإنما قبلها تخوفاً من وقوع فتنة أكبر من تركه قبولها رضي الله عنه وأرضاه3، ولما بويع رضي الله عنه البيعة الثانية التي هي بيعة عامة الناس في مسجد رسول الله

1ـ أورده الحافظ ابن كثير "البداية والنهاية 5/325 ثم قال عقبه: وهذا إسناد جيد قوي والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8/27، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/121 وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري 6/139، وقال عقبه وهو وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح.

2ـ انظر البداية والنهاية 5/322.

3ـ انظر المصدر السابق 5/279.

ص: 530

صلى الله عليه وسلم خطب الناس خطبة عامة حيث قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله: "أما بعد: أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله"1.

وقوله رضي الله عنه: "قد وليت عليكم ولست بخيركم" من باب الهضم والتواضع إذ أنهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضي الله عنهم2.

ففي هذه الروايات المتقدمة بيان كيفية مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد انعقدت له الخلافة بعقد خيار هذه الأمة المحمدية وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة وبهم قهر المشركون وبهم فتحت جزيرة العرب. فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر وأما كون عمر أو غيره سبق إلى البيعة ففي كل بيعة لا بد من سابق"3.

1ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/661، والطبقات لابن سعد 3/182-183، البداية والنهاية 5/279-280 وقال:"هذا إسناد صحيح".

2ـ انظر البداية والنهاية 5/280.

3ـ منهاج السنة 1/142.

ص: 531