المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: حكم ساب الصحابة وعقوبته - عقيدة أهل السنة في الصحابة لناصر بن علي - جـ ٢

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌الباب الثاني: أهل السنة والجماعة يثبتون إمامة الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الفضل

- ‌الفصل الأول: خلافة الصديق رضي الله عنه

- ‌المبحث الأول: الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه

- ‌المبحث الثاني: كيفية مبايعته رضي الله عنه بالخلافة

- ‌المبحث الثالث: ذكر النصوص التي فيها الإشارة إلى خلافته من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

- ‌المبحث الرابع: بيان الإجماع على خلافته رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: ذكر بعض شبه الشيعة الإمامية في أن الخليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبيان بطلانها

- ‌الفصل الثاني: خلافة الفاروق رضي الله عنه

- ‌المبحث الأول: استخلاف الفاروق بعهد من أبي بكر رضي الله عنهما

- ‌المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

- ‌الفصل الثالث: خلافة ذي النورين عثمان رضي الله عنه

- ‌المبحث الأول: كيفية تولية الخلافة

- ‌المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

- ‌الفصل الرابع: خلافة علي رضي الله عنه

- ‌المبحث الأول: كيف تمت له البيعة بالخلافة

- ‌المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: ذكر الحرب التي دارت بينه وبين بعض الصحابة وموقف أهل السنة منها

- ‌المبحث الخامس: خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه

- ‌الباب الثالث: سلامة قلوب وألسنة أهل السنة والجماعة للصحابة الكرام رضي الله عنهم

- ‌الفصل الأول: وجوب محبتهم والدعاء والاستغفار لهم والشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم

- ‌المبحث الأول: وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: الدعاء والاستغفار لهم

- ‌البحث الثالث: الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم

- ‌الفصل الثاني: إثبات عدالتهم رضي الله عنهم

- ‌المبحث الأول: معنى العدالة في اللغة والاصطلاح

- ‌المبحث الثاني: تعديل الله ورسوله للصحابة

- ‌المبحث الثالث: الإجماع على عدالتهم رضي الله عنهم

- ‌الفصل الثالث: تحريم سبهم رضي الله عنهم

- ‌المبحث الأول: تحريم سبهم بنص الكتاب العزيز

- ‌المبحث الثاني: دلالة السنة على تحريم سب الصحابة

- ‌المبحث الثالث: من كلام السلف في تحريم سب الصحابة

- ‌المبحث الرابع: حكم ساب الصحابة وعقوبته

الفصل: ‌المبحث الرابع: حكم ساب الصحابة وعقوبته

‌المبحث الرابع: حكم ساب الصحابة وعقوبته

اختلف أهل العلم في الحكم والعقوبة التي يستحقها من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جرحهم هل يكفر بذلك وتكون عقوبته القتل، أو أنه يفسق بذلك ويعاقب بالتعزير.

1-

ذهب جمع من أهل العلم إلى القول بتكفير من سب الصحابة رضي الله عنهم أو انتقصهم وطعن في عدالتهم وصرح ببغضهم وأن من كانت هذه صفته أباح دم نفسه وحل قتله، إلا أن يتوب من ذلك ويترحم عليهم.

وممن ذهب إلى هذا القول من السلف الصحابي الجليل عبد الرحمن بن أبزى1 وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي2 وأبو بكر بن عياش3 وسفيان بن عيينة4 ومحمد بن يوسف الفريابي5 وبشر بن الحارث المروزي6 ومحمد بن بشار العبدي7 وغيرهم كثير، فهؤلاء الأئمة صرحوا بكفر من سب الصحابة وبعضهم صرح مع ذلك أنه يعاقب بالقتل، وإلى هذا القول ذهب بعض العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.

1ـ انظر كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/23، فتاوى السبكي 2/580.

2ـ انظر الشرح والإبانة لابن بطة ص/162.

3ـ المصدر السابق ص/160.

4ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/24-25.

5ـ الشرح والإبانة ص/160، الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/570.

6ـ الشرح والإبانة ص/162.

7ـ المصدر السابق ص/160.

ص: 856

قال الإمام الطحاوية في عقيدته: "وحبهم ـ أي الصحابة رضي الله عنهم دين وإيمان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"1 ومن سبهم وطعن فيهم فقد زاد على بغضهم. وقال السرخسي2 وهو أحد كبار علماء الحنفية: "فأما من طعن في السلف من نفاة القياس لاحجاجهم بالرأي في الأحكام فكلامه كما قال الله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} 3 لأن الله تعالى أثنى عليهم في غير موضع من كتابه، كما قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 4 ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم خير الناس فقال: "خير الناس قرني الذي أنا فيهم"5، والشريعة بلغتنا بنقلهم، فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام، دواءه السيف إن لم يتب"6.

وقال الحميدي القرشي تلميذ الشافعي وشيخ البخاري موضحاً العقيدة التي يجب على المسلم أن يلتزمها: "والسنة عندنا أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشره حلوه ومره".. إلى أن قال: "والترحم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم فإن الله عز وجل قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم فمن سبهم أو بعضهم أو أحداً منهم، فليس على السنة وليس له في الفيء حق أخبرنا بذلك غير واحد عن مالك بن أنس أنه قال: قسم الله الفيء فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ

1ـ شرح الطحاوية ص/528.

2ـ هو محمد بن أحمد بن سهل أبو بكر قاضي من كبار الأحناف مجتهد من أهل فارس سرخس "في خراسان" توفي سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة هجرية. انظر ترجمته في الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص/158-159، الأعلام للزركلي 6/208.

3ـ سورة الكهف آية/5.

4ـ سورة الفتح آية/29.

5ـ انظر صحيح البخاري 2/287-289، صحيح مسلم 4/1963-1965.

6ـ أصول السرخسي 2/134.

ص: 857

أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} ، ثم قال:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} الآية

فمن لم يقل هذا لهم فليس ممن جعل له الفيء"1.

وقد تقدم في المبحث الذي قبل هذا عن الإمام مالك أنه قال: "والذي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له سهم، أو قال: نصيب في الإسلام"2.

وقال القرطبي بعد أن ذكر قول مالك: "من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 3 قال: "لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين"4.

وقد ذكر القاضي عياض عن بعض المالكية أنه ذهب إلى أن عقوبة ساب الصحابة أنه يقتل حيث قال: "وقال بعض المالكية يقتل"5.

وذكر الألوسي أن القاضي حسين6 من علماء الشافعية ذهب إلى أن سب الشيخين كفر وإن لم يكن بما فيه إكفارهما ـ ثم قال ـ وإلى ذلك ذهب معظم الحنفية7.

1ـ مسند الحميدي 2/546.

2ـ الشرح والإبانة ص/162.

3ـ سورة الفتح آية/29.

4ـ الجامع لأحكام القرآن 16/297.

5ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/93.

6ـ هو أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد المروزي ويقال له أيضاً المرورذي بالذال المعجمة وتشديد الراء الثانية وتخفيفها ـ قال النووي: "وهو القاضي حسين من أصحابنا ويأتي كثيراً معرفاً بالقاضي حسين وكثيراً مطلقاً القاضي فقط كان كبير القدر مرتفع الشأن" توفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة رحمه الله. انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 1/164-165.

7ـ الأجوبة العراقية ص/50.

ص: 858

وقال الإمام الذهبي مبيناً حكم الطاعن في الصحابة والساب لهم: "فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم وإضمار الحقد فيهم وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وفضائلهم ومناقبهم وحبهم ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور والوسائط من المنقول والطعن في الوسائط طعن في الأصل والإزدراء بالناقل ازدراء بالمنقول وهذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق ومن الزندقة والألحاد في عقيدته"1.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر اختلاف أهل العلم في عقوبة ساب الصحابة ونص على أن بعض الشافعية يرى قتله، فقد قال رحمه الله:"واختلف في ساب الصحابي، فقال عياض: ذهب الجمهور إلى أنه يعزر، وعن بعض المالكية يقتل2 وخص بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسنين فيحكى القاضي حسين في ذلك وجهين: وقواه السبكي في حق من كفر الشيخين، وكذا من كفر من صرح النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانه أو تبشيره بالجنة إذا تواتر الخبر بذلك عنه لما تضمن من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم"3أ. هـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أن من علماء الحنابلة من ذهب إلى القول بتكفير من يعتقد سب الصحابة حيث قال: "وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم ـ ثم قال ـ وقال أبو بكر عبد العزيز4 في المقنع: فأما الرافضي فإن

1ـ الكبائر ص/235.

2ـ انظر شرح النووي 16/93.

3ـ فتح الباري 7/36، وانظر تحفة الأحوذي 10/368، وانظر فتاوى السبكي 2/580.

4ـ هو الإمام عبد العزيز بن جعفر بن أحمد يزداد بن معروف أبو بكر المعروف بغلام الخلال كان أحد أهل الفهم موثوقاً به في العلم، متسع الرواية مشهوراً بالديانة توفي سنة ثلاثة وستين وثلاثمائة =

ص: 859

كان يسب فقد كفر فلا يزوج ولفظ بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلى1 أنه إن سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم كفر بذلك، وإن سبهم سباً يقدح ـ مثل أن يسب أبا أحدهم أو يسبه سباً يقصد به غيظه ونحو ذلك لم يكفر"2.

وجاء في كتاب "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"3: "وقال في نهاية المبتدي: "من سب صحابياً كفر وإلا فسق، وقيل: وعنه يكفر"أ. هـ

وأما أبو محمد بن حزم الظاهري فإنه ذهب إلى أن ساب الصحابة لا بد من تعليمه وتعريفه أولاً بما يجب للصحابة، فإن تمادى بعد ذلك يكون فاسقاً، وأما إذا عاند ما جاء عن الله ورسوله فيهم، فهنا يكون كافراً مشركاً حيث قال:"حكمه ـ أي: ساب الصحابة ـ أن يعلم ويعرف، فإن تمادى فهو فاسق وإن عاند في ذلك الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك"أ. هـ4

فهذه النقول فيها توضيح أن طائفة من أهل العلم يرون كفر ساب الصحابة ومنهم من قرن هذا الحكم عليه أن يعاقب معه بقتله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة"5. وقد استدل أصحاب هذا القول بأمور منها:-

= انظر ترجمته في طبقات الحنابلة 2/119-127.

1ـ هو محمد بن الحسين بن خلف بن الفراء أبو يعلى عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون من أهل بغداد ارتفعت مكانته عند القادر والقائم العباسيين ولد سنة ثمانين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. انظر ترجمته في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 2/193-230، تاريخ بغداد 2/256، شذرات الذهب 3/306، الأعلام للزركلي 6/331.

2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/570.

3ـ 10/324.

4ـ الإحكام في أصول الأحكام 1/149.

5ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/569-570.

ص: 860

1-

إن سب الصحابة وانتقاصهم والطعن فيهم إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاص له وحط من مكانته عليه الصلاة والسلام، لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم وذكرهم بخير وأوصى بهم خيراً ومن المعلوم أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر فيكون سب أصحابه كفراً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأذى الله ورسوله كفر موجب للقتل، كما تقدم، وبهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة وأذى سائر الناس وبين أذاهم بعد صحبتهم له، فإنه على عهد قد كان الرجل ممن يظهر الإسلام يمكن أن يكون منافقاً ويمكن أن يكون مرتداً، فأما إذا مات مقيماً على صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مزنون1 بنفاق فأذاه أذى مصحوبه قال عبد الله بن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم، وقالوا:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

وقال مالك رضي الله عنه: "إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين، أو كما قال، وذلك أنه ما منهم رجل إلا كان ينصر الله ورسوله ويذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله ويعينه على إظهار دين الله وإعلاء كلمة الله وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة، وهو حينئذ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه، ومعلوم أن رجلاً لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم آذاه أحد لغضب له صاحبه، وعد ذلك أذى له وإلى هذا أشار ابن عمر، قال نسير بن ذعلوق2: سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول: "لا تسبوا أصحاب محمد، فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله" رواه اللالكائي، وكأنه أخذه من قول النبي صلى الله عليه وسلم:

1ـ أي: غير متهم. انظر النهاية في غريب الحديث 2/316.

2ـ هو نسير بن ذعلوق ـ بضم المعجمة واللام ـ بينهما مهملة ساكنة، الثوري مولاهم، أبو طعمة الكوفي صدوق لم يصب من ضعفه من الرابعة. التقريب 2/298.

ص: 861

"لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم أو نصيفه"1، وهذا تفاوت عظيم جداً2.

2-

إن الطعن في الصحابة والتجريح لهم مفاده إبطال جميع أحكام الشريعة الإسلامية إذ هم نقلتها والمبلغون لها.

قال عمر بن حبيب بن محمد العدوي مخاطباً هارون الرشيد عندما جرت مسألة في مجلسه تنازعها الحاضرون واحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، فقال قائلون منهم: لا يقبل الحديث لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، ودافع عنه عمر بن حبيب ومن ضمن ما قاله للرشيد:"إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول"3. فاقتنع الرشيد بقوله وأيده عليه.

وقال القرطبي: "فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين"4.

3-

إن الطعن في الصحابة يؤدي إلى إنكار ما قام عليه الإجماع "قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادمة المتواتر من الكتاب والسنة الدالين على أن لهم الزلفى من ربهم"5.

ولا شك أن من يعارض كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل ما دلا عليه فإنه على خطر عظيم، بل إنه لو أنكر حرفاً من القرآن فإن ذلك يخرجه من الإسلام، ويدخله في الكفر والعياذ بالله.

1ـ انظر صحيح البخاري 2/292.

2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/580.

3ـ الجامع لأحكام القرآن 16/299.

4ـ المصدر السابق 16/297.

5ـ الأجوبة العراقية ص/49.

ص: 862

قال محمد صديق حسن خان: "من خالف الله ورسوله في أخبارهما وعصاهما بسوء العقيدة في خلص عباده، ونخبة عباده فكفره بواح لا سترة عليه"1.أ. هـ

4-

ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار"2.

ورويا أيضاً: من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"3.

وعند مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر"4.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فمن سبهم فقد زاد على بغضهم، فيجب أن يكون منافقاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وإنما خص الأنصار ـ والله أعلم ـ لأنهم هم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه ومنعوه، وبذلوا في إقامة الدين النفوس والأموال وعادوا الأحمر والأسود من أجله وآووا المهاجرين وواسوهم في الأموال، وكان المهاجرون إذ ذاك قليلاً غرباء فقراء مستضعفين، ومن عرف السيرة وأيام رسول الله عليه الصلاة والسلام وما قاموا به من الأمر، ثم كان مؤمناً يحب الله ورسوله، لم يملك أن لا يحبهم، كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم وأراد بذلك ـ والله أعلم ـ أن يعرف الناس قدر الأنصار لعلمه بأن الناس يكثرون

1ـ الدين الخالص 3/382.

2ـ صحيح البخاري 1/12، صحيح مسلم 1/85.

3ـ صحيح البخاري 2/310، صحيح مسلم 1/85.

4ـ صحيح مسلم 1/86.

ص: 863

والأنصار يقلون وأن الأمر سيكون في المهاجرين فمن شارك الأنصار في نصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بما أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة، كما تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} 1 فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق"أ. هـ2.

هذه بعض أدلة الفريق الأول من أهل العلم التي استدلوا بها على ما ذهبوا إليه من أن ساب الصحابة يكفر بسبه وانتقاصه لهم وطعنه في عدالتهم.

2-

ذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم بل يفسق ويضلل ولا يعاقب بالقتل، بل يكتفي بتأديبه وتعزيره تعزيراً شديداً يردعه ويزجره حتى يرجع عن ارتكاب هذا الجرم الذي يعتبر من كبائر الذنوب وفواحش المحرمات، وإن لم يرجع تكرر عليه العقوبة حتى يظهر التوبة.

فقد روى اللالكائي: عن الحارث بن عتبة، قال: إن عمر بن عبد العزيز أتي برجل سب عثمان، فقال: ما حملك على أن سببته؟، قال: أبغضه، قال: وإن أبغضت رجلاً سببته؟، قال: فأمر به فجلد ثلاثين سوطاً3.

وروى الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم4 الأحول قال: أتيت برجل قد سب عثمان، قال: فضربته عشرة أسواط، قال: ثم عاد لما قال، فضربته عشرة أخرى، قال فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطاً"5.

وممن ذهب من الأئمة إلى ما ذهب إليه عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول

1ـ سورة الصف آية/14.

2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/581-582.

3ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في المصدر السابق ص/569.

4ـ هو: عاصم بن سليمان الأحول أبو عبد الرحمن البصري ثقة من الرابعة لم يتكلم فيه إلا القطان وكأنه بسبب دخوله في الولاية، مات سنة أربعين ومائة هجرية. التقريب 1/384، التهذيب: 5/42-43.

5ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصارم المسلول ص/569.

ص: 864

الإمام مالك والإمام أحمد وكثير من العلماء ممن جاء بعدهما.

قال القاضي عياض مبيناً ما ذهب إليه الإمام مالك وبعض علماء المالكية في هذه المسألة: "وقد اختلف العلماء في هذا، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع، قال مالك رحمه الله: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ومن شتم أصحابه أدب" وقال أيضاً: من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال: كانوا على ضلال وكفر، قتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً.

وقال ابن حبيب1: "من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدباً شديداً ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم"أ. هـ2

قال إسحاق بن راهوية: "من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس"3.

وقال سحنون4: من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علياً أو عثمان أو غيرهما يوجع ضرباً.

وحكى أبو محمد بن أبي زيد عن سحنون فيمن قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إنهم كانوا على ضلال وكفر قتل، ومن شتم غيرهم

1ـ هو: عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمي الألبيري القرطبي أبو مروان عالم الأندلس، وفقيهها في عصره، ولد سنة أربع وسبعين ومائة وتوفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين. انظر ترجمته في الديباج المذهب ص/154-156، ميزان الاعتدال 2/652، الأعلام 4/302.

2ـ الشفاء 2/267.

3ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/568.

4ـ هو: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي من علماء المالكية، توفي سنة أربعين ومائتين هجرية. انظر: ترجمته في الديباج المذهب ص/160-166، وفيات الأعيان 3/180، 182، الأعلام 4/129.

ص: 865

من الصحابة بمثل هذا نكل النكال الشديد"1.

وقال الإمام أحمد رحمه الله: "ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن الذي جرى بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحداً منهم فهو مبتدع رافضي حبهم سنة، والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثم يستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يتوب ويراجع"2.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ساق قول أحمد هذا: "وحكى الإمام أحمد هذا عمن أدركه من أهل العلم وحكاه الكرماني عنه وعن إسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم.

وقال الميموني: سمعت أحمد يقول ما لهم ولمعاوية؟، نسأل الله العافية، وقال لي: يا أبا الحسن: إذا رأيت احداً يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء، فاتهمه على الإسلام" فقد نص رضي الله عنه على وجوب تعزيره واستتابته حتى يرجع بالجلد، وإن لم ينته حبس حتى يموت أو يراجع، وقال: ما أراه على الإسلام وقال: وأتهمه على الإسلام، وقال: أجبن عن قتله".

وقال رحمه الله بعد قول إسحاق بن راهوية المتقدم: "وهذا قول كثير من أصحابنا منهم ابن أبي موسى، قال: ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج، وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول وغيرهما من التابعين"3.

1ـ الشفاء للقاضي عياض 2/167.

2ـ السنة للإمام أحمد ص/17، الصارم المسلول ص/568، طبقات الحنابلة 1/30.

3ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/568.

ص: 866

وفي مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله أنه قال: سألته عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم؟ فقال أبي: أرى أن يضرب، فقلت له حد؟ فقال: فلم يقف على الحد إلا أنه قال: يضرب وقال: ما أراه إلا متهماً على الإسلام"1.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان: هذا زندقة، وقال في رواية المروزي:"من شتم أبا بكر وعمر وعائشة ما أراه على الإسلام".

قال القاضي أبو يعلى: فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله، وكمال الحد وإيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره، قال: فيحتمل أن يحمل قوله: "ما أراه على الإسلام" إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي قال: ويحتمل قوله: "ما أراه على الإسلام على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا، وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا الأمر بغير حق ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله: كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة، وكان فيهم شح ومحبة للدينا، ونحو ذلك، قال: ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان: إحداهما يكفر، والثانية يفسق، وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره، حكوا في تكفيرهم روايتين"2.

وقال ملا علي القاري حاكياً الإجماع في حكم سب الصحابة: "من سب أحداً من الصحابة فهو فاسق ومبتدع بالإجماع، إلا إذا اعتقد أنه مباح أو يترتب عليه ثواب كما عليه بعض الشيعة أو اعتقد كفر الصحابة فإنه كافر

1ـ مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ص/431، تحقيق: زهير الشاويش.

2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/571.

ص: 867

بالإجماع"أ. هـ1

فهذه النقول فيها توضيح أن طائفة من أهل العلم ومنهم عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول والإمام مالك وأحمد وكثير من الفقهاء ذهبوا إلى أن ساب الصحابة فاسق ومبتدع ليس كافراً، يجب على السلطان تأديبه تأديباً شديداً لا يبلغ به القتل.

واستدلوا لما ذهبوا إليه بأدلة منها: -

1-

ما رواه الشيخان في صحيحيهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد وقد سب عبد الرحمن بن عوف: "لا تسبوا أصحابي.. الحديث"2.

ووجه الدلالة من هذا الحديث أن سب الصحابة وقع على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وسمع ذلك، فلم يقل أن الساب كافر ولا أهدر دمه وإنما اكتفى صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك.

2-

ما رواه الإمام أحمد بإسناده إلى أبي برزة الأسلمي قال: "أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: فقال أبو برزة ألا أضرب عنقه، قال: فانتهره وقال: ما هي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"3.

3-

إن الله تعالى ميز بين مؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين فجعل الأول ملعوناً في الدنيا والآخرة، وقال في الثاني:{فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 4، ومطلق البهتان والإثم ليس بموجب للقتل وإنما هو موجب للعقوبة في الجملة، فتكون عليه عقوبة مطلقة، ولا يلزم من العقوبة جواز القتل،

1ـ ذكره ابن عابدين في كتاب تنبيه الولاة والحكام ضمن مجموعة رسائله 1/367.

2ـ صحيح البخاري 2/292، صحيح مسلم 4/1967.

3ـ المسند 1/9، مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ص/431، سنن النسائي 7/109.

4ـ سورة النساء آية/112.

ص: 868

ولأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "لا يحل دم امريء مسلم يشهد ن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو رجل قتل نفساً فيقتل بها"1.

ومطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر، لأن بعض من كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان ربما سب بعضهم بعضاً، ولم يكفر أحد بذلك ولأن أشخاص الصحابة لا يجب الإيمان بهم بأعيانهم، فسب الواحد لا يقدح في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"2.

هذه أدلة من ذهب من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة غير كافر ولا مهدور الدم وإنما يفسق ويضلل ويبدع، هذا ما قرره أهل العلم في حكم ساب الصحابة، فقد اختلفوا في حكمه كما تقدم على قولين، فمن قائل بأنه كافر يجب قتله ومن قائل بأنه فاسق مبتدع يعاقب بما دون القتل، وكل له أدلة على ما ذهب إليه، والقول الذي تطمئن إليه النفس ويرتاح إليه قلب المؤمن أن من أبغضهم جميعاً أو أكثرهم أو سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم، فإنه يكفر بهذا لأن هذا يؤدي إلى إبطال الشريعة بكاملها، أو أكثرها لأن الصحابة هم الناقلون لها، ومن اعتقد أنهم مجروحون وغير عدول فقد طعن في تلك الواسطة التي تلقت الشريعة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن المستحيل أن تطمئن النفوس إلى شريعة نقلتها مطعون فيهم مجروحون.

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم تقدم علياً، وكفرت علياً إذ لم يتقدم ويطلب حقه في التقديم فهؤلاء قد كفروا من وجوه لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها، إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن إذ ناقلوه

1ـ انظر صحيح البخاري 4/188، صحيح مسلم 3/1302-1303.

2ـ الصارم المسلول ص/578-579.

ص: 869

كفرة على زعمهم وإلى هذا والله أعلم أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة، ثم كفروا من وجه آخر بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى قولهم وزعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه وهو يعلم أنه يكفر بعده على قولهم1 لعنة الله عليهم وصلى الله على رسوله وآله"2أ. هـ

وكذا يكفر من أبغض واحداً من الصحابة أو أكثر لأمر يرجع إلى الصحبة أو النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو الجهاد معه إذ هذا يؤدي إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما إذا كان البغض لأمر لا يرجع إلى الصحبة ولا إلى النصرة فحكم هذا أنه فاسق مبتدع على الحاكم أن ينكل به نكالاً شديداً لا يبلغ به القتل حتى يظهر التوبة ويرجع عن طعنه في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرف لهم حقهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من لعن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كمعاوية وعمرو بن العاص أو من هو أفضل من هؤلاء كأبي موسى الأشعري وأبي هريرة أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة والزبير وعثمان أو علي أو أبي بكر أو عمر أو عائشة أو نحو هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم فإنه يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين"أ. هـ3.

مطلب في حكم ساب أزواجه صلى الله عليه وسلم وعقوبته:

إن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن داخلات في عموم الصحابة رضي الله عنهم لأنهن منهم، وكل ما جاء في تحريم سب الصحابة من آيات قرآنية وأحاديث نبوية فإن ذلك يشملهن ولما لهن من المنزلة العظيمة وقوة قرابتهن من

1ـ تكفير جميع الأمة من عقائد الكاملية إحدى فرق الشيعة أتباع رجل من الرافضة يعرف بأبي كامل. انظر "مقالات الإسلاميين" 1/89 التبصير في الدين للإسفراييني ص/35، الفرق بين الفرق للبغدادي ص/54-56، اعتقاد فرق المسلمين والمشركين للرازي ص/60، الملل والنحل للشهرستاني 1/174-175.

2ـ الشفاء للقاضي عياض: 2/247-248.

3ـ مختصر فتاوي ابن تيمية لبدر الدين البعلي ص/478-479.

ص: 870

سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لم يغفل أهل العلم حكم سابهن وعقوبته بل بينوا ذلك أوضح بيان في أقوالهم المأثورة ومؤلفاتهم المختلفة، وفي هذا المطلب أجمع شتات بعض ما ورد في ذلك وليكن البدء بذكر حكم من سب عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها فنقول: إن أهل العلم من أهل السنة والجماعة أجمعوا قاطبة على أن من طعن فيها بما برأها الله منه وبما رماها به المنافقون من الإفك فإنه كافر مكذب بما ذكره الله في كتابه من إخباره ببراءتها وطهارتها، وقالوا إنه يجب قتله.

وقد ساق أبو محمد بن حزم الظاهري بإسناده إلى هشام بن عمار، قال: سمعت مالك بنت أنس يقول: من سب أبا بكر وعمر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم يقتل في عائشة؟، قال: لأن الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.

قال مالك: فمن رماها فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل.

قال أبو محمد رحمه الله: "قول مالك ههنا صحيح وهي ردة تامة وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها"أ. هـ2

وحكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر بن الطيب قال: إن الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه كقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} 3 في آي كثيرة وذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} 4 سبح نفسه في تبرئتها من السوء كما سبح نفسه في تبرئته من

1ـ سورة النور آية/17.

2ـ المحلى 13/504، وانظر أحكام القرآن لابن العربي 3/1356، الشفاء للقاضي عياض: 2/267.

3ـ سورة الأنبياء آية/26.

4ـ سورة النور آية/16.

ص: 871

السوء، وهذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة ومعنى هذا والله أعلم، أن الله لما عظم سبها كما عظم سبه وكان سبها سباً لنبيه وقرن سب نبيه وأذاه بأذاه تعالى وكان حكم مؤذيه تعالى القتل كان مؤذي نبيه كذلك"أ. هـ1

وقال أبو بكر بن العربي: "إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب"2.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعض الوقائع التي قتل فيها من رماها رضي الله عنها بما برأها الله منه حيث قال: "وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق أتى المأمون بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة والآخر عائشة، فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر، فقال إسماعيل: ما حكمهما إلا أن يقتلا لأن الذي شتم عائشة رد القرآن.

قال شيخ الإسلام: وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم.

قال أبو السائب القاضي: "كنت يوماً بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان، وكان بحضرته رجل فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فقال: يا غلام اضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 3.

فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه،

1ـ الشفاء للقاضي عياض 2/267-268.

2ـ أحكام القرآن لابن العربي 3/1356.

3ـ سورة النور آية/26.

ص: 872

فضربوا عنقه وأنا حاضر". رواه اللالكائي.

وروى عن محمد بن زيد أخي الحسن بن زيد أنه قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء فقام إليه بعمود فضرب به دماغه، فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا ومن بني الآباء، فقال: هذا سمى جدي قرنان1، ومن سمى جدي قرنان استحق القتل فقتلته"2.

هذا هو موقف أهل البيت من نسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرهم ممن أطلق لسانه بالنيل من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إنه موقف الغيور على الدين الذي لم يرض الله لعباده سواه فمن نال من عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فإنما ذلك معاندة للقرآن وتكذيب لله رب العالمين وطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عقوبة أنجع مع من أقدم على مثل هذا العمل المناقض لدين الإسلام لأن من كذب الله في أخباره وطعن بقول السوء في سيد الخلق عليه الصلاة والسلام لا يختلف اثنان في أنه خرج من ملة الإسلام إلى الكفر.

قال القاضي أبو يعلى: من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم3.

وقال ابن أبي موسى4: "ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه

1ـ قرنان: على وزن سكران، وهو الذي لا غيرة له، قال الأزهري: هذا قول الليث وهو من كلام الحاضرة ولا يعرفه أهل البادية. المصباح المنير 2/501.

2ـ الصارم المسلول ص/566-567.

3ـ المصدر السابق.

4ـ هو عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن جعفر الهاشمي، إمام الحنابلة ببغداد في عصره كان ثقة زاهداً درس بجامع المنصور وبجامع المهدي وصنف كتاباً منها "رؤوس المسائل" و"أدب الفقه" وكان شديداً على أهل البدع، ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وتوفي سنة سبعين وأربعمائة. انظر ترجمته في طبقات الحنابلة 2/237-241، الذيل على طبقات الحنابلة 1/15-26، مناقب الإمام أحمد ص/521-523، الأعلام 4/63.

ص: 873

فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة"1.

وقال ابن قدامة المقدسي: "ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء أفضلهن خديجة بنت خويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم"أ. هـ2.

وقال الإمام النووي في صدد تعداده الفوائد التي اشتمل عليها حديث الإفك: "الحادية والأربعون براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز، فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافراً مرتداً بإجماع المسلمين، قال ابن عباس وغيره: لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهذا إكرام من الله تعالى لهم"أ. هـ3.

وقد حكى العلامة ابن القيم اتفاق الأمة على كفر قاذف عائشة رضي الله عنها حيث قال: "واتفقت الأمة على كفر قاذفها"4.

وقال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 5 قال: "أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن"أ. هـ6

وقال بدر الدين الزركشي: "من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببرائتها"7.

1ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/568.

2ـ لمعة الاعتقاد ص/29.

3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 17/117-118.

4ـ زاد المعاد في هدي خير العباد 1/106.

5ـ سورة النور آية/23.

6ـ تفسير القرآن العظيم 5/76.

7ـ الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص/45.

ص: 874

وقال السيوطي عند آيات سورة النور التي نزلت في براءة عائشة رضي الله عنها من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيات قال: نزلت في براءة عائشة فيما قذفت به، فاستدل به الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن.

قال العلماء: قذف عائشة كفر لأن الله سبح نفسه عند ذكره1 فقال سبحانك هذا بهتان عظيم، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد"أ. هـ2

هذه الأقوال المتقدمة عن هؤلاء الأئمة كلها فيها بيان واضح أن الأمة مجمعة على أن من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقذفها بما رماها به أهل الإفك فانه كافر حيث كذب الله فيما أخبر به من براءتها وطهارتها رضي الله عنها، وأن عقوبته أن يقتل مرتداً عن ملة الإسلام.

وأما حكم من سب غير عائشة من أزواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان:

أحدهما: أنه كساب غيرهن من الصحابة على حسب ما تقدم ذكره.

الثاني: وهو الأصح من القولين على ما سيتضح من أقوال أهل العلم أن من قذف واحدة منهن فهو كقذف عائشة رضي الله عنها وإلى ما قرره أهل العلم في هذه المسألة.

فقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير3 والطبراني وابن مردوية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ سورة النور ففسرها، فلما أتى على هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} قال: هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير

1ـ الضمير يعود على قصة الإفك.

2ـ الإكليل في استنباط التنزيل ص/190.

3ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 18/104.

ص: 875

أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا} ، ولم يجعل لمن قذف امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة ثم تلا هذه الآية:{لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، فهم بعض القوم أن يقوم إلى ابن عباس فيقبل رأسه لحسن ما فسر"1.

"فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه، فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لابنها، لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه، فإن زناء امرأته يؤذيه أذى عظيماً ولهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت ودرء الحد عنه باللعان ولم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال"2.

وقد قال كثير من أهل العلم أن بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لهن حكم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

فقد أبو محمد بن حزم بعد أن ذكر أن رمي عائشة رضي الله عنها ردة تامة وتكذيب للرب ـ جل وعلا ـ في قطعه ببراءتها، قال:"وكذلك القول في سائر أمهات المؤمنين ولا فرق لأن الله تعالى يقول: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} 3 فكلهن مبرآت من قول إفك والحمد لله رب العالمين"4.

وذكر القاضي عياض عن ابن شعبان5 أنه قال: "ومن سب غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ففيها قولان:

1ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/165.

2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/45.

3ـ سورة النور آية/26.

4ـ المحلى 13/504.

5ـ هو محمد بن القاسم بن شعبان أبو إسحاق ابن القرطبي ويقال له ابن شعبان من نسل عمار بن

ص: 876

أحدهما: يقتل لأن سب النبي صلى الله عليه وسلم بسب حليلته.

والآخر: أنها كسائر الصحابة يجلد حد المفتري، قال:"وبالأول أقول"1.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما من سب غير عائشة من أزواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان:

أحدهما: أنه كساب غيرهن من الصحابة.

والثاني: وهو الأصح أنه من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها

وذلك لأن هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن"أ. هـ2

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3 "هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات، وخرج مخرج الغالب المؤمنات، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ولا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنها إلى أن قال ـ "وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي والله أعلم"أ. هـ4

ومما يرجح القول بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة مثل عائشة في الحكم وجوه:-

= ياسر، رأس الفقهاء المالكيين بمصر في وقته مع التفنن في التاريخ والأدب ولد سنة سبعين ومائتين، وتوفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة هجرية. انظر ترجمته في ترتيب المدارك 5/274-275، الديباج المذهب ص/248.

1ـ الشفاء للقاضي عياض 2/269.

2ـ الصارم المسلول ص/567.

3ـ سورة النور آية/23.

4ـ تفسير القرآن العظيم 5/76.

ص: 877

الوجه الأول: أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد القذف أن اللام في قوله: {الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} لتعريف المعهود والمعهود هنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأن الكلام في قصة الإفك ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة ـ أو قصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك.

الوجه الثاني: أن الله ـ سبحانه ـ رتب هذا الوعيد على قذف محصنات غافلات مؤمنات، وقال في أول ـ سورة النور ـ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 1 الآية، فترتب الجلد وردّ الشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات، فلا بد أن تكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات وذلك ـ والله أعلم ـ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مشهود لهن بالإيمان لأنهن أمهات المؤمنين وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان ولأن الله سبحانه قال في قصة عائشة:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2 فتخصيصه بتولي كبره دون غيره دليل على اختصاص بالعذاب العظيم وقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3 فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف وإنما يمس متولي كبره فقط وقال هنا {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فعلم أنه الذي رمى أمهات المؤمنين ويعيب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى كبر الإفك وهذه صفة المنافق ابن أبي.

الوجه الثالث: لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم لعن صاحبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس: "ليس فيها توبة، لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاماً جديداً وعلى هذا فرميهن

1ـ الآية رقم: 4.

2ـ سورة النور آية: 11.

3ـ سورة النور آية 14.

ص: 878

نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة، فإنه ما لعنت امرأة نبي قط.

ومما يدل على أن قذفهن أذىً للنبي صلى الله عليه وسلم ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري، فقال:"أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك"1.

فهذه الوجوه الثلاثة فيها تقوية وترجيح لقول من ذهب إلى أن قذف غير عائشة رضي الله عنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حكمه كقاذف عائشة رضي الله عنها لما فيه من العار والغضاضة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أن في ذلك أذى عظيماً للنبي عليه الصلاة والسلام.

1ـ صحيح البخاري 3/163، صحيح مسلم 4/2129-2136.

ص: 879