الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: أثر علم الجرح والتعديل في حفظ السنة النبوية
هذه الجهود العظيمة - التي سبقت الإشارة إليها في المباحث السابقة - التي قام بها علماء الحديث المقصود منها هو حماية السنة النبوية والمحافظة عليها، وقد تحقق لهم بفضل الله عز وجل ما أرادوه، وكان لعلم الجرح والتعديل وعلمائه دور كبير في ذلك، ويمكن إجمال هذا الدور في النقاط الآتية:
1.
كلام العلماء في الرواة والتمييز بين الثقات والضعفاء مكَّن للأحاديث الصحيحة من الانتشار، وقلل من انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة، لأن كثيرا من المحدثين كانوا يتجنبون الرواية عن أولئك الضعفاء والكذابين وأهل البدع، وقد تقدم قول ابن سيرين رحمه الله: "
…
فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم".
وقال العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله في بيان جهود العلماء في حفظ الأخبار ونقدها: "
…
وعمدوا إلى الأخبار فانتقدوها وفحصوها، وخلصوا لنا منها ما ضمنوه كتب الصحيح، وتفقدوا الأخبار التي ظاهرها الصحة وقد عَرفوا بسعة علمهم ودقَّة فهمهم ما يدفعها عن الصحة، فشرحوا عللها، وبَيَّنوا خللها، وضمنوها كتب العلل، وحاولوا مع ذلك إماتة الأخبار الكاذبة فلم ينقل أفاضلهم منها إلا ما احتاجوا إلى ذكره؛ للدلالة على كذب راوية أو وهنه، ومن تسامح من متأخريهم فروى كل ما سمع، فقد بين ذلك ووكَلَ الناس إلى النقد الذي قد مُهدت قواعده، ونُصبت معالمه.
فبحقٍ قال المستشرق المحقق مرجليوث: ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم" (1) .
(1) مقدمة تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل: (ص أ-ب) .
2.
المهابة العظيمة التي جعلها الله عز وجل في قلوب الناس لعلماء الجرح والتعديل، فكانوا يتحرزون من الكذب، ويتحفظون من الوقوع في الخطأ في الرواية، خوفاً من أن يتكلم فيهم أحد أئمة الجرح والتعديل، فيسقطوا من أعين الناس بتلك الكلمة، وتسطر تلك الكلمة في كتب الجرح والتعديل، ويتناقلها الناس في كتبهم قرناً بعد قرن.
لذلك كانوا يحتاطون فيما يروونه أشد الاحتياط، وكان بعضهم لا يروي إلا من كتابه، خوف الوقوع في الخطأ، ومنهم من يمتنع من التحديث إذا أحس من نفسه تغيراً، أو يحجبه أبناؤه، فلا يمكنون أحداً من السماع منه، قال عبد الرحمن بن مهدي:"جرير بن حازم اختلط، وكان له أولاد أصحاب حديث، فلما خشوا ذلك منه حجبوه، فلم يسمع منه أحد في اختلاطه شيئاً"(1) .
إنما خشوا أن يخطئ في روايته بسبب الاختلاط فَيُنقل عنه الخطأ، فيتكلم فيه المحدثون.
وهكذا جعل الله عز وجل أئمة الجرح والتعديل حراسا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فحفظ الله عز وجل بهم السنة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره في كلامٍ له على أخبار بني إسرائيل: "
…
وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وُضِِعَ فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد، الذين دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه من
(1) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: (2/505) .
حسنه من ضعيفه من منكره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي، والمقام المحمدي خاتم الرسل، وسيد البشر صلى الله عليه وسلم، أن ينسب إليه كذب، أو يُحدَّثَ عنه بما ليس منه.
فرضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم
…
" (1) .
1.
معرفة علماء الجرح والتعديل الدقيقة بأحوال الرواة من حيث مواليدهم ووفياتهم، والشيوخ الذين سمعوا منهم، ومتى سمعوا منهم، ومعرفة الأحاديث التي سمعوها من كل شيخ
…
كل ذلك حال بين الكذابين وبين إدخال الأحاديث المكذوبة في السنة النبوية، وإن فعل واحد منهم ذلك كُشِفَ أمرهُ وافتضح (2) ، وذُكِرَ حديثه في الكتب المصنفة في الأحاديث الموضوعة.
وكذلك كان علماء الجرح والتعديل يعرفون مواطن الخطأ في الروايات من وصل مرسل، أو رفع موقوف، أو إدخال حديث في حديث
…
ويبينون ما فيها من خلل، ومن نظر في كتب العلل وكتب الجرح والتعديل وجد أمثلة كثيرة لذلك (3) ، فحفظ الله عز وجل السنة النبوية من كذب الكذابين وخطأ المخطئين، فلله الحمد والمنة.
(1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير:(3/89 تفسير الآية رقم 50 من سورة الكهف) .
(2)
انظر: علم الرجال نشأته وتطوره: (ص215-216) .
(3)
انظر: شرح علل الترمذي لابن رجب: (2/ 756-778) .