الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: ظهور علم الجرح والتعديل والأسباب التي أدت إلى ظهوره
تقدم القول في تحري الصحابة رضي الله عنهم والتابعين واحتياطهم في نقل الأخبار، ولاسيما بعد وقوع الفتن في آخر خلافة الخليفة الراشد عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وما أعقب ذلك من الفتن السياسية (1) .
وواكب تلك الفتن السياسية ظهور بعض البدع والأهواء، فـ "نبغ في آخر خلافة النبوة بدعتان متقابلتان تقابل المغضوب عليهم والضالين: الخوارج يُكفِّرون الخليفتين ومن تولاهما، ويحلُّون دماء أهل القبلة، ويفعلون بأهل الايمان فعل اليهود بالنبيين.
والروافض يَغْلُون فيمن يستحق الولاية والمحبة، فيطرونه إطراء النصارى، حتى وصفوا البشر بالإلهية، وألحقوا الأئمة بالمرسلين
…
" (2) .
وحدثت أيضاً بدعتان أخريان متقابلتان: القدرية الذين "عظَّموا أمر المعاصي حتى أوجبوا نفوذ الوعيد بجميع أهل الكبائر، أو جميع المذنبين، ومنعوا شفاعة الشفعاء ورحمة أرحم الراحمين، وأَعْظموا أن يكون الله قدَّرها أو شاءها أو يسرها، وسلبوا الإيمان بالكلية لمن اتصف بها من المسلمين"(3) .
والمرجئة الذين "استخفوا بأمر الواجبات والمحرمات، حتى استبعد بعضهم نفوذ الوعيد على الكبائر الموبقات
…
" (4) .
(1) انظر ما تقدم: (ص13) .
(2)
ضابط التأويل لشيخ الإسلام ابن تيمية: (ص37 المجموعة الخامسة من جامع المسائل) .
(3)
المصدر السابق.
(4)
المصدر السابق.
وقد تضافرت جهود الصحابة رضي الله عنهم والتابعين للتصدي لهؤلاء والتحذير منهم ومن بدعهم. روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن يَعْمَر قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجُهَني، فانطلقت أنا وحُمَيد بن عبد الرحمن الحِمْيري حاجَّين أو مُعْتَمِرَين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عمَّا يقول هؤلاء في القدر، فَوُفِّقَ لنا عبد الله بن عمر ابن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلَنا ناس يقرؤون القرآن، ويتقفرون العلم (1) - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُف (2) .
قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريءٌ منهم، وأنهم بُرآء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أُحُد ذهباً فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر" (3) .
فهذا الخبر يبين حسن تصرف هذين التابعيين رحمهما الله في الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم عن هؤلاء المبتدعة، ويبين أيضاً موقف عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في البراءة من هؤلاء حتى لا يُغْتَرَّ بهم، وهذا قدح فيهم، وتحذير منهم.
(1) يتقفرون العلم: أي يتطلَّبونه. (النهاية لابن الأثير 4/90) .
(2)
وأن الأمر أُنُف: أي مستأنف استئنافاً من غير أن يكون سبق به سابق قضاء وتقدير. (المصدر السابق 1/75) .
(3)
صحيح مسلم: باب بيان الإيمان والإسلام
…
(1/37 رقم 8) .
وتقدم قول ابن عباس رضي الله عنهما: "
…
فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف" (1) .
وقوله هذا رضي الله عنه كناية عمّا وقع فيه بعض الناس من الفتن والبدع والأهواء السابقة. والإعراض عنهم، وعدم السماع منهم قدح فيهم، لأنهم ليسوا أهلاً للأخذ عنهم.
ومثل هذا القولُ المتقدم عن ابن سيرين رحمه الله: "
…
فلما وقعت الفتنة قالوا سَمُّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم" (2) .
وهذا الفعل منهم نظر في أحوال الرواة وتمييز لمن يستحق القبول، فيقبل حديثه، ومن يستحق الرد فيرد حديثه.
وقال التابعي الجليل عروة بن الزبير بن العوام رحمه الله ورضي عن أبيه: "إني لأسمع الحديث أستحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به، وذاك أني أسمعه من الرجل لا أثق به، قد حدث عمن أثق به، أو أسمعه من رجل أثق به، عمن لا أثق به، فأدعه لا أحدث به"(3) .
وهكذا تكلم في الرواة من التابعين أيضاً عامر بن شراحيل الشعبي، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وطاوس بن كيسان وغيرهم (4) .
(1) تقدم: (ص12) .
(2)
تقدم: (ص12) .
(3)
رواه ابن عدي في الكامل: (1/66)، والخطيب البغدادي في الكفاية:(ص210) - واللفظ له- وإسناده صحيح.
(4)
انظر: الكامل لابن عدي: (1/64-70)، والكفاية للخطيب البغدادي:(ص210)، وذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للذهبي:(ص160) .
إلا أن كلامهم في الرواة قليل، لقلة الحاجة إليه في ذلك الزمان، لأن الرواية تدور على الصحابة وكبار التابعين، والطبقة الوسطى منهم (1) .
ثم نشط المحدثون في المائة الثانية وما بعدها في التنقيب عن أحوال الرواة، وفارقوا الأهل والأوطان، وآثروا الترحال لمشافهة الرواة، والتعرف على أحوالهم عن كثب، ولم يقتصروا على ذلك، بل كانوا يسألون عن أحوال الرواة ويتناقلون الكلام فيهم، ويروونه عن مشايخهم، كما يروون الأحاديث النبوية.
وهكذا نشأ علم الجرح والتعديل بتلك الجهود العظيمة التي بذلها علماء الحديث، وأصبح علماً قائماً بذاته، تفتخر به الأمة الإسلامية على غيرها من الأمم.
وفي الفصل الآتي عرض موجز لأهم تلك الجهود.
(1) انظر: توجيه النظر إلى أصول الأثر لطاهر الجزائري: (ص114) .