المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الأولفي ذكر ملك العرب الذي كان لوضع هذا الكتاب السبب - فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء

[ابن عربشاه]

الفصل: ‌الباب الأولفي ذكر ملك العرب الذي كان لوضع هذا الكتاب السبب

‌الباب الأول

في ذكر ملك العرب الذي كان لوضع هذا الكتاب السبب

ص: 31

(قال) الشيخ أبو المحاسن بلغني عن ذي فضل غير آسن أنه كان فيما غير من الزمان قيل من الأقيال غزير الأفضال عزيز الأمثال وارث المعارف حائز الفضائل واللطائف وافر السيادة كامل السعادة ذو حكم مطاع وجند وأتباع وممالك واسعة ذات أطراف شاسعة تحت أوامره ملوك عده ذو سطوات ونجده وله من الأولاد الذكور خمسة أنفار كل بالسيادة مذكور وبالعلم والحلم والحكم مشهور ومشكور متوشح للسلطنة متول من والده مكاناً من الأمكنة وكان أسعدهم عند أبيه وهو متميز على أخوته وذويه سمسي المنظر اياسي المخبر ذا فهم مصيب واسمه في فضله حسيب قد حصل أنواعاً من العلوم وأدركها من طريقي المنطوق والمفهوم وكان لهذا الفضل الجسيم يدعى بين الصغير والكبير الحكيم فلما دعا أباهم داعي الرحيل وعحك إلى دار البقاء أجمال التحميل استولى على السرير أكبر أولاده وأطاعه أخوته ورؤس أمرائه وأجناده وصار السعد يراقبه والملك بلسان الحال يخاطبه شعر:

نجوم سماء كلما انقض كوكب

بدا كوكب تأوي إليه كواكب

ص: 33

ثم عش واسلم وتيقن واعلم يا ملك الزمان أن أفضل شيء حل في وجود الإنسان وأحسن جوهرة تزين بها عقد تركيبه العقل الداعي إلى كيفية تهذيبه في أساليبه وأفضل درة ترصع بها تاج العقل في تزيينه وترتيبه الخلق الحسن الذي فضل الله به خير خلقه في تعليمه وتأديبه وخاطب بذلك نبيه الكريم فقال وأنك لعلى خلق عظيم وبالخلق الحسن ينال شرف الذكر في الدارين ولا يضع الله الخلق الحسن إلا فيمن اصطفاه من الثقلين وأفضل جنس الإنسان بعد رسول الله الرفيع الشان الملك الذي يحيى أحكام شريعته ويمشي على سنته وطريقته وإذا كان الملك حسن الخلق والفعال فهو الدرجة العليا من الكمال قال الرسول النجيب صاحب التاج والقضيب محمد المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم صلاة يتمسك بأذيالها الطبيب ويترنح لنسمات قبولها الغصن الرطيب ألا أخبركم على من تحرم النار على كل هين لين سهل قريب

ص: 39

وروى أن ذلك السيد السديد الكامل المكمل الرشيد أتى برجل فكامه فارعد فقال هون عليك فأني لست بملك ولا جبار وأنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ومن جملة حسن الخلقالعدل والشفقة على الرعية والفضل وإذا حسن خلق الملوك العلية صلحت بالضرورة الرعية طائعة وكارهة وسعت في ميدان الطاعة فارهة فان الناس على دين ملوكهم وسالكون طرائق سلوكهم واردل عادة الملوك الطيش والخفة وأن يكون ميزان عقله خالي الكفية وأن عدم الثبات والوقار من عادة الأطفال والصغار والرجل الخفيف القليل الحيلة لا يقدر على تدبير الأمور الجليلة ولا باب يوجد له ولا طاقة للدخول في الأشغال الشاقة ولا يستطيع أن يتحمل ثقل الرياسة ويتعاطى الايالة والسياسة ولا قدرة على فصل الحكومات المشكلة والقضايا العريضة المعضلة ولا الوصول إلى إثبات السيادة ولا الدخول في أبواب السعادة فان تدبير الممالك وسلوك هذه المسالك يحتاج إلى رجل كالجبل في السكون والوقار أو أن الثبات وكالبحر الهائج والسيل الهامر أو أن الحركات وأعلم يا ذا العلا والمالك المال والدما أنه يجب على الملك الكبير اجتناب الإسراف والتبذير فانه حافظ دماء الناس وأموالهم مراقب مصالحهم في حالتي حالهم وما آلهم والمال الذي في خزائنه قد اجتمع ومن وجوه مكانه ومن خراج مملكته ومن أعدائه ومعادنه إنما هو للرعية ليذهب عنهم البلية ويصرفه في مصالحهم وما يحدث من

ص: 40

حوائجهم وجوائحهم فهو في يده أمانة وصرفه في غير وجهه خيانة فكما لا ينبغي أن يتصرف في مال نفسه بالتبذير كذلك لا يتصرف في أموالهم بالأسراف والتقتير ومصداق هذا المقال قول ذي الجلال جل كلاماً وعز مقاماً والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً فينبغي للملك بل يجب أن لا يسترعن الرعية ولا يحتجب وأن لا يبادر بمرسوم إلا بعد تحقيق العلوم ولا يبرز مرسومه ما لم يتحقق فيه معلومه وذلك بعد التأمل والتدبر وستر عورة القضية والتفكر وهذا الآن مرسوم السلطان على فم أبناء الزمان وهو بمنزلة القضاء النازل من السماء وإذا نزل القضاء وفتحت أبواب السماء فلا يرد ولا يصد ولا يعوقه عن مضيه عدد ولا عد ولا حيلة في منعه لأحد وأمر أولى الأمر على زيد وعمرو كالسهم الخارج من الوتر بل شبه القضاء والقدر تعجز عن أدراك سره قوى البشر فكما أنه إذا نفذ سهم القضاء والقدر لا يمنعه ترس حيلة ولا يصده درع حذر فكذلك أمر السلطان لا يثبت لوده حيوان ولا يمكن تلقيه إلا بالإمضاء والإذعان فإذا لم يتدبر قبل إبرازه في عواقب ما آله وأعجازه ربما أدى إلى الندم والتأسف حيث زلت القدم ولا يفيد التلافي بعد التلاف ولا يرد السهم إلى القوس وقد خرق الشغاف وكما أن الملك سلطان الأنام كذلك كلامه سلطان الكلام وكل ما ينسب إليه فهو سلطان جنسه فيجب عليه حفظ كلامه كحفظ نفسه.

(وحسبك يا ملك الزمان لطيفة للملك أنوشروان) فبرزت المراسيم الشريفة ببيان تلك اللطيفة فقال الحكيم ذكر أهل السير ونقله الأثر أن الملك أنوشروان كان راكباً في السيران فجمع به فرسه وقوى عليه نفسه فاستخف شانه

ص: 41

وجبذ عنانه فهمزه ولكزه وضربه ووخزه فزاد جموحاً وماد جموحاً فتجاذبا العنان فانقطع وكاد أنوشروان أن يقع فلاطف الفرس فاستكان ونجا بعد أن كاد يدخل في خبر كان فلما وصل إلى محل ولايته واستقر راجف قلبه من مخافته دعا بسائس المركوب فلبى دعوته وهو مرعوب فلعنه وشمته وأراد أن يقطع يده وقدمه وقال تلجم هذه الداهية بلجام سيوره واهية فانقطعت في يميني وكاد الفحل يرميني ثم دعا بالمقارع وبالجلاد ليقطع منه الاكارع فقال السائس المسكين أيها الملك المكين وصاحب العدل والتمكين أسألك بالله الذي رفعك إلى هذا المقام أن تسمع لي هذا الكلام فقال قل ولا تطل قال كأن هذا العنان يقول وكلامه فصل لا فضول ومقوله قريب من العقول الملك أنوشران وأن سلطان الأنس وفرسه سلطان هذا الجنس وقد تجاذبني قوة سلطانين فاين لي طاقة هذا الثبات لهما ومن أين لا جرم ذهب مني الحبل فتمزقت بين سلطان الأنس والخيل فأعجبأنوشروان من السائس هذا البيان فانعم عليه وأطلقه ومن رق عقابه وعذابه أعتقه وإنما أوردت هذا البيان ليتحقق مولانا السلطان أن حركاته ملكه الحركات وصفاته سلطانه الصفات وكلامه ملك الكلام فلا يصرفه في كل مقام وليصنعه بالتأمل قبل القول وليحتط لبروزه ويحفظه بالصدق والطول وإذا أمر بأمر فلا يرجع فيه بل يستمر على ما أمر به لئلا يقال سفيه

ص: 42

ثم اعلم يا ملك الرقاب أن كلاً من الثواب والعقاب له حد ومقدار مفهوم ينبغي للملك أن لا يتعدى لذلك حداً وعلى الملك أن يصغي للنصيحة ممن مودته صحيحه وقد جرب منه الصدق وعلم منه الإخلاص في النطق لاسيما إذا كان ذا عقل صحيح وود صريح ولا ينفر من خشونة النصيحة ومرارتها فبرودة الخاطر وسلامة القلب حرقة حرارتها فان الناصح المشفق كالطبيب الحاذق فان المريض الكئيب إذا شكا إلى الطبيب شدة ألمه من مرارة يصف له دواء مراً فيزيد حرارته فلا يجد بداً من شربه وأن كان في الحال ينهض بكربه لعلمه بصدق الطبيب وأنه في الرأي مصيب وما قصد بالدواء المر الضر وإنما قصد بألمه عوداً الحلاوة إلى فمه ولا يستحقر النصيحة أن كانت صادقة صحيحة ولا الناصح خصوصاً الرجل الصالح فان سليمان وهو من أجل الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وأحد من ملك الدنيا وحكم على الجن والأنس والطير والوحش والهوام استشار نملة حقيرة فنجح في أمره وخالف وزيره آصف بن برخيا فابتلى بفقره وسلب من جميع ما ملك وصار كما قيل أجير الصياد السمك ثم قال الحكيم حسيب أيها الملك الحسيب وأنا لما رأيت أمور المملكة قد اختلت ومباشرى مصالح الرعية قلوبهم اعتلت ولعبوا بالثقيل والخفيف واستطال القوي منهم على الضعيف ومدوا أيديهم إلى الأموال بالباطل وأظهروا الحالي في حلية العاطل وخرجوا عن دائرة العدل واطرحوا أهل العلم والدين وتولى المناصب غير أهلها ونزلت المراتب إلى

ص: 43

غير محلها وحرم المستحقون وأبطل المحققون إلى أن وقع الاختلال وعم الفساد والضلال وقويت أعضاد الظلمة على العباد وسائر القرى والبلاد وهذا لا يليق بشرف مولانا الملك ولا بأصله ولا يجوز في شرع المروأة أن يكون الظلم طراز عدله إذ قدره العلي وأصله الزكي أعظم مقاماً من ذلك ولا يحسن أن ينتشر الأصيت رأفته في الممالك وعلى الخير مضى سلفه الكرام وانطوى على مآثرهم صحائف الأيام وقد قيل:

فان الظلم من كل قبيح

وأقبح ما يكون من التنبيه

وقيل:

ولم أر في عيوب الناس شيئاً

كنقص القادرين على التمام

ما وسعني إلا الانحياز إلى العزلة والتعلق بذيل الانفراد والوحدة وما أمكنني أن أعمل شيا ولا أقطع دون العرض على الآراء الشريفة وامتثال ما تبرزه مراسيمها المنيفة فغد قال الناصح في بعض النصائح لا تخاطب الملوك فيما لم يسألوك ولا تقدم على ما لم يامروك فلما أذن في الكلام قمت هذا المقام فقلت قطرة من بحور وذرة من طيور ورأيت ذلك واجباً عليّ ونفعه عائداً إليّ وذكرت بعض ما وجب على سائر الناصحين ولزم ذكره جميع المسلمين من طريق واحدة ولزمني أنا من طرق متعددة أدناها طريق المروة وأعلاها بل أغلاها وثيق الأخوة التي هي أقوى الأسباب وأعظم الوصلات في هذا الباب فان لحمة القرابة عي السبب الذي لا يقطعه سيف الحدثان والبنيان الذي لا يهدمه معول الزمان وأساس الأخوة عنوان الفتوة قال الله تعالى وعز وجمالاً وتقدس كمالاً سنشد عضدك بأخيك

ص: 44

وقال القائل:

أخاك أخاك أن من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

(وناهيك يا زين الملاح بقصة الولهى مع الضحاك) قال أخبرنا أيها الحكيم بذلك الحديث القديم

قال الحكيم بلغنا عن التاريخ الباذخ الشماريخ أن الضحاك كان من أحسن الناس سيرة وأصفاهم سريرةقد فاق الناس فضلاً وبلغ ذكره الآفاق عدلاً فتزياله ابليس في صورة الدهاء والتلبيس فزعم ذلك الطباخ انه طباخ وصار كل يوم يهيئ له من أطيب الأطعمة ولذيذ الأغذية ما يعجزه غيره ولا يقدر أحد أن يسير سيره ولم يأخذ على ذلك جراية فبلغت مرتبته عنده النهاية واستمر على ذلك مدة مديدة وأياماً عديدة والناس تكمره أن تخدم بغير أجرة خصوصاً في هذا الزمان رؤساء الأعيان فقال له الإمام في بعض الأيام لقد أوجبت علينا يدا وشكراً وما سألتنا على ذلك أجراً فاقترح ما تختار أكافئك يا مهار فقال تمنيت عليك أن أقبل بين كتفيك فأني لي بذاك أن يقال قبل بدن الضحاك فأعجبه ذلك وأجابه وحسر عن بدنه ثيابه وأدار ظهره إليه فاقبل لوحي كتفيه ثم غاب عن عينيه ولم يقف على أثره ولا عينه فبمجرد ما لثمه ومس فمه جسمه أخذته حكة وشكه موضع لثمه شكه ثم خرج من موضع فيه سلعة تلذعه شر لذعة وتلسعه أحر لسعة ثم صارا حيتين

ص: 45

أشبهتا كيتين فصار يستغيث ولا مغيث فطلب الأطباء فأعياهم هذا الداء ثم لم يقوله قرار ولم يأخذه سكون ولا اصطبار إلا بدماغ الإنسان دون سائر الحيوان فمديد الفتك ولأجل الأدمغة استعمل السفك فضجر الناس لهذا البأس وصاحوا وناحوا وغدوا مستغيثين وراحوا فوقع الاتفاق بعد الشقاق على الاقتراع لدفع النزاع فمن خرجت قرعته كسرت قرعته وأخذ دماغه وحصل لغيره فراغه فعالجوا به الكيتين وغذوا به الحيتين فيبرد الألم ويخف السقم ففي بعض الأدوار خرجت القرعة على ثلاث أنفار فربطوا بالأغلال ودفعوا إلى الشكال ليجري عليهم ما جرى على الأمثال فبينما هم في الحبس بين طالع نحس وعكس وقف للضحاك امرأة وضيعة واستغاثت به في هذه القضية فأدناها وسأل ما دهاها فقالت ثلاثة أنفار من دار لا صبر لي عنهم ولا قرار وحاشى عدل السلطان أن يرضى بهذا العدوان ولدي كبدي وأخي عضدي وزوجي معتمدي وكل مسجون يسقي كأس المنون فرق لها الضحاك وقال لا يعمهم الهلاك فاذهبي يا مغاثة واختاري واحد من الثلاثة وجهزها إلى الحبس ليقع اختيارها على من يدفع اللبس فتصدى لها الزوج وتمنى الخلاص من ذلك البوج فتذكرت ما مضى من عيشها معه وانقضى واستحضرت طيب اللذات والأوقات المستلذات فأتت إليه ومالت عليه فتحركت الأنفس الإنسانية والشهوة الحيوانية فهمت بطلبه وتعلقت بسببه فوقع بصرها على ولدها فلذة كبدها فرأت صباحة خده ورشاقة قده فتذكرت طفوليته وصباه وترتيبها إياه وحمله وإرضاعه وتناغيه وأوضاعه فعطفت عليه جوارحها ومالت إليه جوانحها فقصدت أن تختاره وتريح

ص: 46

أفكاره فلمحت أخاها باكيا مطرقا عانيا قد أيس من نفسه وتيقن الإقامة بحبسه لأنه يعلم أنها لا تترك زوجها وابنها ولا تختاره عليهما ولا تميل إلا إليهما فأفكرت طويلا واستعملت الرأي الصائب دليلا ثم أداها الفكر الدقيق وأرشدها التوفيق وقالت أختار أخي الشقيق فبلغ الضحاك ما كان من أمرها واختيارها لأخيها بفكرها فدعاها وسألها عن سبب اختيارها أخاها وقال إن أتت بجواب صواب وهبتها إياهم مع زيادة الثواب وإن لم تأت بفائدة قاطعة وعائدة في الجواب نافعة كانت في قتلهم الرابعة فقالت اعلم واسلم إني ذكرت زوجي وطيب عشرته وأوقات معانقته ولذته وما مضى معه من حسن العيش وانقضى من خفة الأحلام والطيش فملت إليه وعولت في الطلب عليه ثم أبصرت ابني فتذكرت مقامه في بطني وما مضى عليه من عاطفة وشفقة عامة في الأيام السالفة فهيمني حبه القديم وشكله القويم فملت إلى اختياره وخلاصه من بواره ثم لمحت أخي المتقدم عليهما فقست مقامه بالنظر إليهما فقلت إني امرأة مرغوبة قينة عاقلة مطلوبة إن راح زوجي فعنه بدل وإن حصل الزوج وجد الولد وحصل فتهيأ الغرض ووجد عنهما العوض وأما الأخ الشقيق عما عنه عوض في التحقيق لأن أبوينا ماتا وفاتا وصارا تحت الأرض رفاتا فهذا الذي أدى إليه افتكاري ووقع عليه اختياري وأنشد لسان القال فيما قال (شعر) وكم أبصرت من حسن ولكن عليك من الورى وقع اختياري

قال فاستحسن الضحاك هذا الكلام ووهبها جماعتها مع زيادة الأنعام

(قال الحكيم) وإنما أوردت هذا المثل لمولانا الملك الأجل وعرضته على الحضار ومسامع النظار ليعلم أن لي عن كل شيء بدلا وأما عن مولانا السلطان فلا كما قال من أجاد في المقال:

ص: 47

وقد تعوضت عن كل بمشبه

فما وجدت لأيام الصبا عوضا

وليس لي عوض إلا في بقاء ذاتك المحروسة ودوام حياتك العزيزة المأنوسة ثم أني أخاف والعياذ بالله تعالى أن هذه الفتن قد أقبلت والحركات الداهية التي وجوه الخلاص منها قد أشكلت تستأصل شافة أسلافنا الكرام وتقرض شرف أجدادنا الملوك العظام فاخترت العزلة لذلك فإنها أسلم الطرق والمسالك (قال الملك) لقد صدقت إذ نطقت وتحريت الصواب في الخطاب وأنا أتحقق حسن نيتك وخلوص طويتك وحسن وفائك ويمن آرائك فإنك أخ شقيق وصدوق صديق ولكن تعلم أن هذا الوزير رجل خطير ورأيه مستنير وفضله غزير وهو من أصل كبير وله علينا حق كثير وأريد أن يقع ما عزمت عليه وفوضت فكرك المصيب إليه مع محاورته ومناظرته ومشاورته فإن كلا منكما ناصح مشفق وحكيم مدقق وعالم محقق وفي مثل هذه الأشياء إذا اتفقت الآراء وطال النفس تكاشف نور القبس وسعد البخت وتمكن التخت وصح الحق ووضح الصدق لا سيما إذا كان الكلام بين عالمين والسؤال والجواب من فاضلين كاملين (قال الحكيم) أيها الملك العظيم إذا قام الإنسان في صدد المعارضة وتصدى في البحث إلى المعاكسة والمناقضة لا سيما إن كان من أهل الفصاحة واللسن وساعده في ذلك الإدراك الحسن لا يعجزان يقابل الإيجاب بالسلب والاستقامة بالقلب والعكس بالطرد والقبول بالرد ويكفي في جواب المتكلم إذا أورد مسألة لا نسلم وقد قيل في الأقاويل لا تنفع الشفاعة باللجاج ولا النصيحة بالاحتجاج

ص: 48

أما أنا فقد بذلت جهدي وأديت في النصيحة ما عندي وكشفت عن مخدرات التحقيق أستار السبك وكررت على محك التصديق آثار الحك فإن وعيتم كلامي يسمع حي فقد تبين الرشد من الغي وإن أعرضتم عن عين اليقين فلا إكراه في الدين فتصدى الوزير للكلام وحسر عن ثغر بيانه اللئام وبرز في ملابس الملاينة والخداع وسلك بخبث طرق الملاطفة والاصطناع ودس السم في الشهد ونزل من اليفاع إلى الوهد وقال الحمد لله الكريم الذي من على مولانا الملك بهذا الأخ الحكيم الفاضل الحليم الكامل العليم الناظر في العواقب ذي الرأي المصيب والفكر الثاقب فلقد بالغ في النصيحة بعباراته الصحيحة وإشاراته المليحة وكل شيء أبداه إلى المسامع وأنهاه هو الذي يرتضيه العقل ويرضيه العدل ويقبله الطبع القويم إذ هو المنهج المستقيم يترتب عليه الذكر الجميل ويحصل به الثواب الجزيل لكن الذي نعرفه في حفظ الرياسة وإقامة ناموس السياسة هو الذي عليه القوم في هذا اليوم وجرت عليه عادات الأكابر وانخرط في سلكه الأصاغر فإن الزمان فسد والفضل فيد كسد وزاد الحقد والحسد وتشرب المكر والأذى الروح والجسد وكل في الروغان ثعلب وفي العدوان أسد وصار هذا مقتضى الحال والمحمود من الخصال والمطلوب من الرجال والناس يدورون

ص: 49

بزمانهم بقدر مكانهم وإمكانهم وقد قيل الناس بزمانهم أشبه بآبائهم وبعض السياسات عند أهل الرياسات يقتضي العقوبة معاقبة من لا ذنب له فإن وضع الأشياء في محلها وزمام الأمور والمناصب في يد أهلها هو أحد قوانين الشرع والسياسة ومقتضى العقل والكياسة والعدل والرياسة والعقل والفراسة والفضل والنفاسة وناهيك أيها الحكيم الفاضل قول القائل: ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم وما قيل:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم

ومن مقالات الملك أتابك أزدشير بن بابك رب إراقة دم تمنع من إراقة دم وفي أمثال العرب القتل أنفى للقتل وقيل:

لعل عتبك محمود عواقبه

وربما صحت الأجساد بالعلل

ص: 50

وهذا كله مصداق قوله تعالى ولكم في القصاص حياة (وناهيك يا ذا القدر الخطير قصة قابوس بن بشكمير) قال الحكيم للوزير أخبرني أيها الدستور الكبير بكيفية ما أنت إليه مشير قال الوزير ذكر أن قابوس بن بشكمير ذاك الأسد المنير قبض على جماعة كانوا جبذوا أيديهم من الطاعة من أركان دولته وبنيان صولته ثم قيدوه وحبسوه وأقاموا ولده مقامه وأجلسوه ثم إنهم لم يأمنوا غوائله وأفكاره الصائلة فتآمروا أن يسكبوه ويعمدوا إلى دمه فيسفكوه فأرسوا إليه قاتلا فوثب إليه سائلا وقال ما سبب قتلي وما نابهم من أجلي مع كثرة إحساني إليهم وانسبال ذيل ذيل إكرامي وإنعامي عليهم وتربيتي إياهم كالأولاد وفلذ الأكباد وصوني إياهم عن آذاهم فقال كثرة إراقة الدماء أهاجت عليك الغرماء وأكثرت لك الخصماء لما تغيرت خواطرهم عليك خافوا وقبل أن تحيف عليهم حافوا فقال قابوس والله ما سبب هذا النكد والبوس وإثارة هؤلاء الخصماء الأقلة إراقتي للدماء يعني لو أراق دماء القائمين عليه لما وصل هذا المكروه إليه فلما أبقى عليهم أفنوه وحين ترك آذاهم آذوه وإنما أوردت هذا التنظير ليقف خاطرك الخطير إن أمور الرياسة

ص: 51

وقواعد السياسة كانت تقتضي السبك وأحرى بالعفو والترك وأما الآن فذلك الحكم قد انتسخ والفساد في قلوب العباد رسخ وقد قيل:

تلجي الضرورات في الامور

سلوك ما لايليق بالأدب

ومزاج الزمان قد تغير والمعروف منه قد تنكر وقد أعرضوا عن طاعة السلطان واتبعوا مخادعة الشطان وكل منهم قد شرخ وباض الشيطان في أذنه وفرخ وتصور لخيالاته الفاسدة ومحالاته الكاسدة إنه بما يكيد يبلغ ما يريد وهيهات وشتان:

لقد هزلت حتى بدا من هزالها

كلاها وحتى سامها كل مفلس

وهذا كما قال الله تعالى يعدهم ويمنيهم الشيطان وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وما شعروا إن الملوك والسلاطين اختاره الله تعالى وألبسه من خلع جبروته كمالا وجلالا وجعلهم بأموره قائمين وبعين عنايته ملحوظين وكما إن الرسل والأنبياء والسادة الأعلام الأصفياء هم صفوة الله من خليقته ومختاروه من خير بريته من غير كد ولا جهد ولا سعي منهم ولا جد ما برطلوا على النبوة والرسالة ولا رشوا على نيل هذه الكرامة والنبالة إنما هو محض فضل من الله تعالى وعنايته والله أعلم حيث يجعل رسالته

ص: 52

كذلك الملوك والسلاطين والقائمون بإقامة شعائر الدين هم ممن اختاره الله على خلقه وأجرى على يديه لهم بحار كرمه ورزقه والسلطان ظل الله في أرضه يجري بين عباده شريعة نفله وفرضه قال من له الخلق والأمر أطيوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر وقد غفل أهل هذه الممالك عن السلوك في هذه المسالك وعن درك هذه الحقائق وأعرضوا عن الدخول في أحسن الطرائق وهي طريق المحاشمة والصفح والمكارمة وعدوا المكر من أحسن الرياسة والعقل والكياسة والتحيل لأكل أموال الناس من الذكاء ومظالم العباد من خلال الصدق والصفاء وتملقهم للملوك والسلاطين من أسباب الوصول إلى الأغراض مع تحسين الظواهر وفي البواطن أمراض فظواهرهم ظواهر الإنس تشمل على المودة والإنس وما فيهم تحت الثياب إلا كلاب وذئاب ولأجل هذا سلطنا الله عليهم ومد يد بطشنا إليهم معاملهم بالفراسة ونعمل بما تقتضيه الكياسة وتصوبه الآراء السلطانية من قواعد السياسة قال الحكيم حسيب بعد ما أدركما في هذا الكلام من نكر غير مصيب اعلم أيها الوزير النافع الناصح والدستور الشفيق المصالح أن الرعية بمنزلة السرج والملك لمنزلة الشمس في البرج وإذا تلألأ على صفحات الأكوان وأنار في وجه الزمان والمكان أشعة نور الشمس الوهاج فأي شعاع ووجود يبقى للسراج وإن أنوار قلوب الرعايا وما يحصل لها من إشراق ومزايا إنما هي من فيض أشعة ملوكهم وإن الرعية تتبع الملوك في سلوكهم فإذا صفت مرآة قلب السلطان أشرقت بالطاعة قلوب الرعايا والأعوان بل الزمان والمكان تابعان لما يضمره وينويه السلطان

ص: 53

وقد قيل إذا تغير السلطان تغير الزمان (وهل أتاك أيها الدستور واقعة الرئيس مع بهرام جور) قال الوزير أخبرنا يا باقعة كيف كانت تلك الوقعة قال الحكيم أخبرني شيخ عليم بالفضل مشهور إن بهرام وكان ذا يد عزم على الصيد فخرج في عسكر جرار واستوى في الصحارى والقفار وبينما هم قد تفرقوا فما شعر إلا وقد حركت يد الشمال غربال المطر ثم تراكم من السحاب على وجه عروس السماء النقاب وانهل الغمام المدرار وصارت الدنيا جنات تجري من تحتها الأنهار وأقبلت سوابق السيول تجري في مضمارها الخيول فتشتت العساكر وتشوشت الخواطر فقصد بهرام جور كفرا من الكفور وطلب القرى من تلك القرى منفردا عن عسكره مخفيا من خبره فنزل بيت الرئيس وهو رجل خسيس فلم يقم من حقه بالواجب لأنه يعلم ذلك الراكب فتشوش خاطره وتكدرت ضمائره وتغيرت عليهم نيته وإن لم تتغير بشريته فلما أقبل الليل جاء الراعي وهو يدعو بالويل ويشكو كثرة المحن من قلة اللبن وذكر أن المواشي لم تدر ضرعا مع إن رعيتها كانت أحسن مرعى ولا وقف لذلك على سبب ولا درى كيف حال حالها وانقلب وكان للرئيس بنت تخجل الأقمار بخدها وتقصف الأغصان على قدها فلما سمعت كلام الراعي قالت والله أنا أعرف السبب والداعي وهو أن السلطان الذي نيته حفظ أوطاننا تغيرت نيته علينا وتقدم ضميره بالسوء إلينا فظهر النقص في ماشيتنا وسيتعدى ذلك إلى أنفسنا وحاشيتنا وقد قيل إذا هم

ص: 54

الحاكم بالجور على الرعايا أدخل الله النقص في أموالهم حتى الزروع والضروع قال أبوها فإذا كان الأمر كذلك فلا مقام لنا في هذه الممالك فالأولى أن نتحول عن هذا المكان إلى مقام لا يضمر فيه سوءا لرعيته السلطان ونستريح في ظل حاكمه ونرعى في مسارج مكارمه كل هذا وبهرام يصغي إلى هذا الكلام فقالت البنت إن كان ولا بد من الانتقال واقتعاد مطية الارتحال فما نصنع بهذه الأثقال والأزواد الثقال نقدم لهذا الضعيف منها يحصل التخفيف عنها ويقع بذلك فائدتان إحداهما حسن المضيف وثانيهما التخفيف فامتثل أبوها أمر ابنته ونقل إلى الضيف ما حواه بيته من طعام وشراب ونقل وكباب وبسط بساط النشاط وأخذ دواعي الانبساط وانتقل من

ص: 55

فتقدم بجأش صليب وقبل الأرض بين يدي الذيب وقال محبط الراعي لجنابك داعي يسلم عليك وقد أرسلني إليك يشكر صداقتك وشفقتك وحشمتك ومرافقتك ويقول قد تركت بحسن آدابك عادة أجدادك وآبائك فلم تتعرض لمواشيه وحفظت بنظرك حواشيه وقد حصل لضعافها الشبع وأمست بجوارك آمنة من الجوع والفزع وحصل لها الأمن من الجزع فالله يجعل جوارك وغياضك أحسن مجتمع لأن عجاف ماشيته شبعت ورويت واستنعشت وقويت فأراد مكافأتك وتطلب مصافاتك ومصادقتك فأرسلني إليك لتأكلني وأوصاني أن أطربك بما أغني فإني حسن الصوت في الغناء وصوتي يزيد في شهوة الغذاء فإن اقتضى رأيك السعد غنيتك غناء ينسي أبا أسحق ومعبد وهو شيء لم يظفر به آباؤك ولا أجدادك ولا يناله أعقابك وأولادك بقوى كرمك وشهوتك وقرمك وبطيب مأكلك

ص: 60

ويسني مأملك وإن صوتي للذيذ ألذ للجائع من جدي حنيذ بخبز سميذ وللعطشان من قدح نبيذ ورأيك أعلى وامتثالك أولى فقال الذئب لا بأس قد أجبت سؤالك فغن ما بدا لك فرفع الجدي عقيرته ورأى في الصياح خبرته وملأ الدنيا عياطا وأعقبه ضراطا وأنشد:

وعصفور الهوى يهوي جراده

كما عشق الخروف أبا جعاده

فاهتز الذئب طربا وتمايل عجبا وعجبا وقال أحسنت يا زين الغنم ولكن هذا الصوت من ألم فارفع صوتك في الزير فقد أخجلت البلابل والزرازير وزدني يا مغني قولي:

أقر هذا الزمان عيني

بالجمع بين المنى وبيني

وليكن يا سيدي المغني هذا من أوج الحسيني فاغتنم الجدي الفرصة وأزاح بعياطه الغصه وصرخ صرخة أخرى أذكره الطامة الكبرى ورفع الصوت كمن عاين الموت وخرج من دائرة الحجاز إلى العراق وكاد يحصل له من ذلك الانفتاق وقال:

قفوا ثم انظروا حالي

أبو مذقة أكالي

فسمعه الراعي يشدو فأقبل بالمطرق يعدو فلم يشعر الذئب الذاهل

ص: 61

وهو لحسن السماع غافل ألا والراعي بالعصا على قفاه نازل فرأى الغنيمة في النجاة وأخذ في طريق النجاة وترك الجدي وأفلت ونجا من سيف الموت المصلت وصعد إلى تل يتلفت بعد إذ تفلت فأقعى يأكل يديه ندامة ويخاطب نفسه بالملامة وقال أيها الغافل الذاهل والأحمق الجاهل متى كان على سماط السرحان الغناء والأوزان وأي جد لك فإني وأبي مفسد جاني كان لا يأكل إلا بالأغاني وعلى صوت المثالث والمثاني فلولا أنك ما عدلت عن طريقة آبائك ما فاتك لذيذ غذائك ولا أمسيت جائعا تتلوى وبجمر فوات الفرصة تتكوى وبات يحرك ضرسه ونابه ويخاطب نفسه لما نابه ويقول:

وعاجز الرأي مضياع لفرصته

حتى إذا فات أمر عاتب القدرا

وإنما أوردت هذا النظير لمولانا والوزير ليعلم أن العدول عن طرائق الأصول ليس إلا داعية الفضول ولا يساعد معقول ولا منقول وأمور ذميمة وعاقبته وخيمة وناهيك ما هو وكالعلم ومن يشابه أباه فما ظلم ويؤخذ من مفهوم هذه الحكم أن من لم يشابه أباه فقد ظلم خصوصا الملوك والسلاطين الذين اختار رفعتهم رب العالمين وذلك لئلا يدخل على قواعد المملكة من حركات الاختلال والاختلاف حركة ولله يا ذا الإحسان ما قيل في شأن الملك أنوشروان:

لله در أنوشروان من رجل

ما كان أعرفه بالوغد والسفل

نهاهم أن يمسوا عنده قلما

وأن يذل بنو الأحرار بالعمل

ص: 62

لنفسه المنفعة أن يرجع معه فربما ينجح ويسلب من الحمار وعيه فقال يا أخي شوقتني بهذه القضية إلى الاطلاع على تلك الوصية لاستفيد منها وآخذ حظي من الفضل عنها فلا بد من مصاحبتك والذهاب معك ومرافقتك فقال الحمار لا دافع ولا مشاقق ولا مانع أن تكون لي مرافقك فقال ابن آوى فهل في حفظك منها شيء فإن كان فألقه إلي لنتذاكر في الطريق ولا يؤثر فينا التعب والضيق فقال نصيحة واحدة هي بصدقي شاهدة وهي كلمة مجملة فوائدها فيها مجملة وهي أن أبي قال لي إياك أن تفارق هذه الوصية فإن فارقتها وقعت في بلية وسأخبرك بسائرها في المسير إذا تذكرت أيها البصير ثم سار قليلا وأفكر طويلا وقال وهذه أخرى سنحها ذكري وارتضاها فكري وهي إذا وقعت في شدة ورمت للخلاص منها عده فتصور أصعب منها يحصل لك التغصي عنها وتهن عليك وتعدها نعمة أسديت إليك فتشتغل بشكرها وتستأنس بذكرها فقال ابن آوى أحسنت يا حمار وهذا مقام الأخيار والصالحين والأبرار ثم سار سيرة رائثة وقال والله هذه نصيحة ثالثة فقال قل واسلم وطل فقال لا تحسب أن الصديق الجاهل

ص: 69

خير من العدو العاقل فإن علم العدو العاقل خير لك من جهل الصديق الجاهل فقال ابن آوى ما أحلى كلامك وأعلى في اللطف مقامك وأنزه منادمتك وأفكه مكالمتك بالله شنف المسامع فإني لك بقلبي وجوارحي سامع فقال مهلا حتى أتذكرها وأتصورها كما ينبغي وأتفكرها أمر ابن آوى على تعسه وساقه القضاء إلى رمسه فوصل إلى الضيعة وقد وقع ابن آوى في ضيعة فالح على الحمار فقال أخبرني فما بقي لي اصطباري فقال قال لي أبى بكلام فصيح عربي لا تجعل مقامك ومقيلك بمكان يكون فيه ابن آوى دليلك والذب فيه جارك وخليلك وأن جعلت لك في هذا المكان ساحه فما ترى يكون لك فيه من الراحة وأن أردت أن تخلص من هذا المكان فانصب الآذان وارفع ذكر الله بالأذان فانه ينجيك من الضيق ثم رفع عقيرته بالنهيق فسمعه معارفه من الكلاب فسارت إليه مستبشرة بحسن الإياب وسارعت إليه واجتمعت حواليه فما شعر ابن آوى إلا وهو متورط في البلوى فطفر للهرب فادركه من الكلاب الطلب فاحتموشته وانتوشته واختطفته واقتطفته ووزعته ومزعته ومرشته وقرشته فلم تبق منه عيناً ولا أثر واذهب دمه في تدبير هدراً وإنما أوردت هذا المثال وعرضته على الرأي العال ليعلم أن الاغترار بالكلام والإصغاء إلى الحكايات والقول البطال من غير تنقل من ألفاظها إلى معانيها وتأمل في مآكل مقاصدها وفحاويها والأعتماد على القضايا المزخرفة والركون إلى الأمور المسفسفة لا يفيد سوى الندم وزلة القدم

ص: 70

والأصل في الولايات والمناصب التفكر في الخواتيم والتأمل في العواقب والأفلبس في ذلك سوى إضاعة العمر والمصير إلى المهالك وقلت شعراً:

ص: 71

أن صحبة الأخيار كجرة النضار بطيئة الانكسار سريعة الأنجبار وصحبة الأشرار كجرة الفخار سريعة الانكسار بطيئة الأنجبار وبالجملة فما في صحبة الناس فائدة ولا في مخالطة الناس كبير عائده وقد قيل:

ولم تر من بني الدنيا سلاما

فان تراه فابلغه سلامي

وينبغي أن تكون غيبتكم وحضوركم وأجوالكم وأموركم وأجتماعاكم وفراقكم وصلحكم وشقاقكم في حالتي السراء والضراء والبؤس والرخاء على وتيرة واحدة وهي الخالية عن الأغراض الفاسدة أعني إذا رضيتم فبالحق وإذا غضبتم فالحق وإذا توجهتم فاللحق ولا تبطروا في حالة النعم ولا تضجروا في حالة النقم وعلى كل حال فلا يقع بينكم اختلال

ص: 78

وذلك بتفرق الكلمة واختلافها وتصادمها وعدم ائتلافها فانه قيل:

إن الدليل الذي ليست له عضد

مثل الوحيد بلا مال ولا عدد

(وقيل أيضاً) :

كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى

خطب ولا تتفرقوا أجنادا

تأبى القداح إذا جمعن تكسرا

وإذا افترقن تكسرت أفرادا

ولا تثقوا بأحد من الكبار والصغار إلا بعد الأختبار في الشدة والضعف والرفق والعنف والبؤس والرخاء والخوف والرجاء ولا تقدموا على قديم الأصحاب أحداً ولا على الموثوق بهم من لا جربتموه أبداً وقد قيل في المثل المشهور النحس المعروف خبر من الجيد المنكور وقيل أيضاً خير الأشياء جديدها الأصحاب قديمها وأسوأ قواعدكم أخراكم في دنياكم واغتنموا السعادة الباقية من الدار الفانية وعاملوا تجدوا وازرعوا تحصدوا وتفكروا من أول يومكم أحوال عزكم ومن أوائل عمركم أواخر دهركم ومن ليلة الهلال سرار أشهركم فكل من له صدق قدم يتفكر وهو موجود حالة العدم ومن زمان شبابه حالة الهرم كما فعل التاجر المراقب وما آل إليه العواقب فقبل الأرض الأولاد وقالوا مولانا السلطان أعظم من أفاد لو تصدق على عبيده الطائعه ببيان تلك الواقعة (قال الملك) ذكر الحكماء وذووا الفضل من العلماء أنه كان في بعض الأمصار تاجراً من أعيان التجار ذو مال جزيل وجاه عريض طويل ونعمة وافرة وجشم وخدم متكاثرة من جملتهم غلام مخابل السعادة من جبينه لائحة وروائح النجابة من أذيال شمائله فائحة قد أفتى عمره في خدمة مولاه ولم يقصر لحظة في طلب رضاه

ص: 79

فقال له سيده في بعض الأيام لك على حق يا غلام وأنا أريد مكافأتك وأطلب موافاتك فتوجه هذه المرة في هذه السفرة فمهما ربحت فهو لك بعد أن أعتقك من قيد رق أشغلك ثمن أوسق مركباً وفسح له في السير شرقاً ومغرباً وصاه بأشياء امتثل مرسومها والتزم منطوقها ومفهومها فقال له مولاه سأرفعك على إضرابك وأغنيك عن أمثالكوأصحابك وأجعلك كأكبر من في الدنيا ولجميع رفقتك بمنزلة المولى ثم أخذ في تعبية البضائع وأوسق مركبه المتاجر والمنافع وسلمه إلى الهواء والماء بعد أن توكل على رب السماء فسار بعض أيام وهو في أهنى مرام وخضره الملاح وموسى وفتاة حافظ الألواح وبينهما السفينة من نسف العواصف أمينه تجاري السهم والطير وتبارى الدهم في السير فإذا بالرياح هاجت والأمواج ماجت وأشباح البحر تصادمت وأطواد الأمواج على العرفاء تلاطمت فعجز ذلك الملاح والحافظ ونشر مذهب ابنه أبو الجاحظ وترك سيمة الوقار والسكينة ورقم نقش الحروف في ألواح السفينة فشاهدوا من ذلك الهواء والأهوال وغدا قاع البحر كالجبال وصار في ذلك الغراب بمن فيه من الأصحاب كأحوال الدنيا بين صعود وهبوط وقيام

ص: 80

وسقوط طوراً يستأمنون الأفلاك ويناجون الأملاك وينهون أخبار ظلمات صاحب الحوت إلى السماك وطوراً يهبطون الغور وينظرون قرن الثور وربما قوامنه من تحت الزور فلم يزالوا عاجزين حيارى سكارى وما هم بسكارى يتناشدون:

وفلك كبناه والبحر ذو

هواء فثار وحار ومارا

فطوراً اعلونا السماء وطوراً

رمتنا أراضيه منها انحدارا

وآخر الأمر نسفت السفينة الرياح وألقى كاتب الحاصب إلى كل حرف من حروف الجبال لوحاً من الألواح وأوعر الله سهلها وخرقها فأغرقها وأهلها وذهب البحر بأموالها وأرواحها وتعلق الغلام بلوح من ألواحها واستمر تقذفه الأمواج وتصدم به أثباج البحر الهياج إلى أن وصل إلى ساحل فخرج وهو كئيب ناحل وصعد إلى جزيرة فواكهها غزيرة ووصفها عجيب ليس بها داع ولا مجيب فجعل يمشي في جنباتها إلى أن أداه التوفيق إلى فم طريق فسار تلك الجادة وهداية الله له مادة فانتهى به المسير إلى أن تراءى له سواد كبير وبلغ مملكة عظيمة ولاية جسيمة ورأى على بعد مدينة مسورة حصينه فعمد إلى ذلك البلد وتوجه نحوها وقصد فاستقبله طائفة من الرعال نساء ورجال يتبعهم جنود مجندة وطوائف محشدة مع طبول تضرب وفوارس تلعب رزمور تزعق

ص: 81

وألسنة بالثناء تنطق حتى إذا وصلوا إليه تراموا عليه وأكبوا بين يديه يقبلون يديه ورجليه مستبشرين برؤيته متبركين بطلعته ثم ألبسوه الخلع السنية وقدموا فرساً عليه بكنبوش ذهب وسرج مغرق ووضعوا له التاج على المفرق ومشوا في الخدمة بين يديه والجنائب في الموكب تجر لديه ينادون حاشاك واليك سلطان الناس قادم عليك حتى وصلوا إلى المدينة ودخلوا قلعتها الحصينة ففرشوا شقق الحرير ونثروا النثار والكثير وأجلسوه على السرير وأطلقوا مجامر الند والعبير ووقف في خدمته الصغير والكبير والمأمور والأمير والدستور والوزير وأشندوه:

قدمت قدوم البدر بيت سعوده

وأمرك فينا صاعد كصعوده

ص: 82

والنصوح الصديق جزاك الله خيرا وكفاك ضيماً وضيراً أني قد فكرت في شيء ينفع نفسي ويحيها ويدفع شر هذه البلية التي وقعت فيها وأريد معاونتك وأطلب مساعدتك فأني رأيتك في الفضل متميزاً بين أقرانك فاثقافي محاسن الشيم على أصحابك وإخوانك فقال افعل يا ذا الزعامة وحبالك وكرامه قال اعلم أيها الصاحب الأعظم أن الرجوع إلى هذاالمكان الذي كنت فيه خارج عن الإمكان والإقامة في هذا الملك المعهود إنما هي إلى أجل معدود ووقت محدود وانقضاؤه على البتات وكل ما هو آت آت وكيفية الخروج قد عرفت وطريقها قد تقررت ووصفت ولهذا قيل يا ذا الفضل الجزيل دخلنا مضطرين وأقنا متحيرين وخرجنا مكرهين ولم يتجه مخلص من هذا المقنص إلا طريق واحد وسبيل غير متعاهد وهي أن تأخذ طائفة من البنائين وجماعة من المهندسين والنجارين وتذهب بهم أيها الوزير إلى

ص: 85

مكان إليه نصير فتأمرهم أن يبنوا لنا هناك مدينة ويشيدوا لنا فيها أماكن مكينة ومخازن وحواصل وتملؤها من الزاد المتواصل من المآكل الطيبة والأطعمة والأشربة اللذيذة المستعذبة ولا تغفل عن الإرسال ولا تختر الإمهال والإهمال في الظهيرة والأسحار والغدوّ والآصال إذ أوقاتنا وأنفاسنا معدودة وساعة تمضي منها غير مردوده وإذا فات شيء من ذلك الوقت فلا نعوض عنه إلا الخيبة والمقت فننقل هناك ما يكفينا على حسب طاقتنا ومقدار قدرتنا واستطاعتنا فإذا تزودنا منها لم نرحل عنها بحيث إذا نقلنا من هذه الديار وطرحنا في تلك المهمة والقفار وجفانا الأصحاب وتخلى الإخلاء عنا والأحباب وأنكرنا المعارف والأوداء واحتوشتنا في تلك البيداء فنون الداء نجد ما نستعين به على إقامة الأود مدة إقامتنا في ذلك البلد فأجاب بالسمع والطاعة وأختار من المعمارية جماعة وأحضر المراكب وقطع البحر إلى ذلك الجانب وجعل الملك يمدهم بالآلات والأدوات على عدد الأنفاس ومدى الساعات إلى أن أعنى المعمارية العمارة وأكملوا حواصل الملك ودلره وأجروا فيها الأنهار وغرسوا فيها الأشجار فصارت تأوي إليها الطيور بالليل والنهار ويترنم فيها البلبل والهزار بأنواع

ص: 86

التسبيح والأذكار وغدت من أحسن الأمصار وبنوا إليها الضياع والقرى وزرعوا منها الوهاد والثرى ثم أرسل إليها ما كان عنده من الخزائن ونفائس الجواهر والمعادن وأرسل من ظريف التحف إليها ومن حاجاته المعول عليها بحيث لو أقام بها سنين قامت بكفايته وفضلت خزائنها عن حاجته وأكثر من إرسال ما يلزم من الأدوات والأشربة والمطعومات وجهز الخدم والحشم وصنوف الأستعدادات من النعم فما انقضت مدة ملكه ودنت أوقات هلكه إلا ونفسه إلى مدينته تاقت وروحه إلى مشاهدتها اشتاقت وهو مستوفز للرحيل ورابض للنهوض والتحويل فلما تكامل له في الملك العام لم يشعر إلا وقد أحاط به الخاص والعام ممن كان يفديه بروحه من خادمه ونصوحه ومن كان سامعاً لكلمته من أعيان خدمه وحشمته وقد تجردوا لجذبه من السرير ونزع ما عليه من لباس الحرير ومشوا على عادتهم القديمة وسلبوه الحشمة الجسيمة ومملكته العظيمة وزالت الحشمة والكلمة والحرمة وشدوا وثاقه وذهبوا به إلى الحراقة ووضعوه وقد ربطوه في المركب الذي هيئوه وأوصلوه إلى ذلك البز من البحر فما وصل إليه إلا وقد أقبلت خدمه عليه وتمثلت طوائف الحشم والناس لديه ودقت البشائر المقدمة وحل في سروره المقيم ونعمه واستمر في أتم سرور واستقر في أوفر حبور ثم قال الملك للأولاد فلذ الأكباد وإنما أوردت هذا المقال على سبيل المثال فأصغوا إلى حسن التنظير حتى أبين لكم النظير وعوامل ما أقول بآذان القبول وتأملوا رموز المعاني من هذه الألفاظ التي خجلت المثاني ثم تفكروا وتبصروا وبعد التذكير والتبصر تدبروا

ص: 87

أما ذلك العام المعهود فأنه الولد في أول الوجود وأما المركب الذي أودعه فهو بطن أمه الذي استودعه وانكسار السفينة هو انشقاق المشيمة والجزيرة التي خرج إليها فهي الدنيا التي دخل عليها والناس الذين استقبلوه فأقاربه وذووه وأهلوه يربونه بالملاطفة والعلال ويعاملونه بالإكرام والأفضال وذلك الشاب الذي هو وزيره فهو عقله ومن إيمانه نوره والسنة المضروبة أجله المحتوم وعمره المعدود المعلوم ونزوله عن سريره عبارة عن آخرته ومصيره وخروجه من الدنيا بالإكراه وشروعه في دخول إلى أخراه والبحر الثاني الذي طرح فيه هو أحوالما يعاينه عند الموت ويعانيه

إلى سفر طويل زاده قليل قفاره يابسة وطرقه دامسه لا أنيس فيه ولا رفيق ولا مصاحب ولا صديق ولا دليل ولا خليل ولا مغيث ولا مقيل ولا ماء ولا معين ولا صاحب ولا معين فيهيئ لهذا السفر بقدر

ص: 88

الإمكان ما قدر من الزاد وألما والمركب والكلا ونور الطريق والمسافر والرفيق والخادم والأنيس والمنادم والجليس ويمهد المضجع للمبيت ويهيئ والمقيل ويهيئ الموضع في النزول والرحيل وبالجملة لا يترك من أفعال الخير شيئاً إلا فعله ولا مجملاً إلا فصله ولا متأخر إلا قدمه ولا معاملاً في مبايعة إلا أسلفه وأسلمه وليعلم أن كل ذلك محتاج إليه ومصروف لديه إذا نقل إلى دار البقاء وأقبل عليه فإذا جاء وقت الرحيل ونادى منادي الانتقال والتحويل وجد ما كان في عمله حاضراً وكل ما قدمه إلى رياض الخير نزها ناضراً كما قال ذو الجلال وأخبر به الصادق في الوعد والمقال أن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون معنى أن لا تخافوا لا خوف عليكم فيما هو أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم فإذا دخل في قبره وجده روضته من رياض الجنة يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم وأما الشقي الغافل الغبي الذي أمهل أمره ونسي الله وذكره وأهمل ما خلق لأجله وتاه في بيداء الضلال وسبله فقد اغتر بهذه اللذة اليسيرة في تلك المدة القصيرة واستمر سكران في ميدان العصيان من خمرة الطغيان وتردى لباس الردى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فانهدمت عمارتهم ولا ربحت تجارتهم حتى إذا جاءه الوقت المعلوم ونزل به الأجل المحتوم ونظر أمام وتراءت الأعلام فإما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم نزل من دار الغرور إلى دار الشرور فندم ولا ينفعه الندم وقد زلت به القدم فخاب مآبا وقال يا ليتني كنت تراباً فانظروا يا أولادي وعدتي وعتادي حال الفريقين وتأملوا ما للطائفتين فقد بذلت في النصيحة جهدي وأستخلف الله عليكم من بعدي

ص: 89

فقال أكبر ولده وهو أسلك محاسنهم واسطة عقدهم جزى الله مولانا عن شفقته خيراً وأولاده على حسن النصيحة أجروا ذخراً فلقد أحييت قلوباً بزواهر حكمك وشنفت أسماعاً بجواهر كلمك ولكن أخوتي وإن كانوا من أولي العلم وأرباب النباهة والحلم والعقل الغزير والفضل الجم الكثير والرأي المصيب المنير غير أن حدة الشباب عليهم غالبه ودواعي النفس بشهواتها مطالبه لا سيما أن حصلوا على ملك عريض وكرعوا من ألبانه المخض والمخيض فان اتفق مع ذلك موافق منافق أو صاحب ممارق أو صديق خدوع أو مباطن مكار هلوع أضلهم عن سواء السبيل وصار إلى طريق المخالفة أوضح دليل فتتحول صداقتنا عداوة وتتبدل فيها بالمرارة الحلاوة الرخاء فينتزع الرخاء ويتمزع الإخاء ويبغي بعضنا على بعض وتعود الأخوة على موضعها بالنقض ويتولد من ذلك الفتن ويظهر من العداوة ما بطن فالرأي عندي أنه ما دام زمام التصرف في يد الإمكان يتصرف مولانا السلطان على مقدار جهده في مصلحة عبده بحيث لا أكون مضغة للماضغ ومشغلة لكل قلب فارغ ولا يسلمني لا سباب الحوادث ومخالب الدهر الكوارث فإنه بذلك يكفيني من نوائب الزمان ما يدهيني والعياذ بالله المنان من مفارقة مولانا السلطان جلعني الله تعالى فداءه ولا أراني فيه يوماً أساءه فليأخذ بيدي من هذه الورطة وليرحمنيمن شر هذه الخطه فانه قد قيل من لا يقبل المستقبل ولا يغيث المستغيث ولا يتقصد بمعنى الحديث ولار يدفع غصة هذه القصة ويفوت عند الأمكان الفرصة يصيبه من حوادث الزمان ما أصاب بعض الجرذان الذي لم يخلص الغزالة الواقعة في شرك الحبالة قال السلطان قل لي كيف كانت قصته وما كانت قضيته

ص: 90

(فقال) ذكر أن بعض الصيادين المحتالين الكيادين نصب حباله ليصيد غزاله فعلق بها مهاة من المها وطلبت مجالاً واضطربت يميناً وشمالاً فوقعت عينها على جرذ من الجرذان عنيد يتفرج عليها من بعيد فنادته بلسان زلق وأثنت عليه بلسان طلق وقالت يا فارس ميدان المروة والنجدة والفتوة والموصوف بالشطارة والقوة هذا وقت الكرم وأوان استعمال مكارم الشيم وفعل المعروف وإغاثة الملهوف وصرف الهمة إلى كشف الغمة نعم وأن كانت طرائق الصداقة بيننا معدومة ونقوش التنافر على صحف خواطرنا مرقومه ونقود المعرفة والإخاء في جنب التباين غير مبذولة ومرآة

ص: 91

فاشمأزت من الرشيق نفسه وزوى في رياض مصاحبته غرسه فأمر الحجار والبوابين أن يكونوا لدخوله على الملك آبين فلما أن جاء الرشيق وقصد الدخول بجاش وثيق منعوه من الدخول فرجع خائباً خاسراً وبقي حائراً بائراً ولم يشك أن هذا الضرب سهم غرب لأنه لم يعلم السبب فقضى من الزمان العجب فشرع يتفحص عن سبب البعاد ويتردد بين أغوار وانجاد ويذهب رائد فكره كل مذهب ويعزم على توابعه ليقفوا على موانع المطلب إلى أن وقف على السبب المضرم وعلم أنه الإحسان إلى ذلك المجرم وظهر لذلك البحر البر من قوله الإحسان إلى اللئيم سلف في الشر فاجتمع بجماعة من أصحابه وطائفة من خلص أحبابه وعرض عليهم

ص: 96

قصته واستدفع بآرائهم غصته ثم تعرى من لباسه عند الخواص من أناسه لينظروا إلى جسده وباسه فرأوا يدنا كسبائك الفضة وأطرافنا ناعمة غضه وأعضاء تحسبها من الحور غوانيها مسلمة لاشية فيها فأجمعوا على سلامتها وذكروا للملك محاسنها بعلامتها وشهدوا بحسن صفائها ورونق بهائها وأنها سليمة عن الأدواء بريئة من كل داء وكأنه في شأنه قيل:

وأعجب ما شاهدت في وصله وقد

نزعنا غلالات وثوب حياء

تلألؤ نور في ترقرق مائه

وصورة روح في مثال هواء

وإنما لشدة الحسد عاب ذلك الجسد فقال الملك صدقتم وبالحق نطقتم ولكن كيف وقد قيل:

قد قيل ذلك أن صدقاً وان كذباً

فما احتيالك في شيء وقد قيلا

ص: 97

واطمأن خاطره واستقرت أموره واستقامت حبوره فلما هجم جيش الليل أقبلت السباع من الوادي كأنها السيل وقصدت الوحوش والهوام ما لها من مأوى ومقام وعوت الذئاب وزأرت الأسود وهمزت النمور والنسور والفهود فساورت ابن الملك الهموم وأورثته

ص: 100

أصناف الغموم وأحتوشته المخاوف والوجوم فلجا إلى جناب الحي القيوم جناب قاصده ولا يصدر الابنيل الأمل وأرده وصار يحسس بيديه ويصغي إلى الحيوان بأذنيه ويتمشى إلى كل جانب ويهوى بيديه إلى الأطراف والجوانب ويتعلق بحبال الهواء كالغريق الغاطس في الماء فوقعت يده على شجره فعلق فيها يديه وظفره وصعد عليها وأوى إليها وتوجه بقلبه إلى خالقه وموجده ورازقه وقطع عما سواه أسباب علائقه واشتغل بالذكر والتسبيح وفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى بأمل فسيح واستمر في هذا الويل برهة من الليل وكان طائفة من الجان المهرة كل ليلة تأوي إلى هذه الشجرة فتيذاكرون ما جرى في العالم وما صدر في عالم السكون والفساد من أعمال بني آدم ويقيمون أفراحهم ويتعاطون انشراحهم فلما اجتمعوا تلك الليلة ذكر كل قوله وما جرى من الحوادث ومن المفرحات والكربات وما وقع من العجائب واتفق من واقعات الغرائب فقال واحد من القوم ومن أعجب ما وقع اليوم من الأمر الكريه ما فعله ملك بابل بابنأخيه وذكر لهم القضية وما تضمنه من بليه وجعل يتأرق ويتحرق ويتبرم ويتضرم ويحرق الأرم ويتعجب من عدم وفاء بني آدم فقال رئيس الجان وهذا غير بديع من طبع الإنسان فانه مجبول على الغدر مطبوع على الدهاء والمكر ألم تسمع قول قائلهم في وصف فضائلهم وقبيح شمائلهم ممن أنخرط في سلك الفضل بدون منع ولا حجز إذا كان الغدر طباعاً فالثقة بكل أحد عجز ثم قال الرئيس اعلم يا نفيس اني أعلم ما يزيل هذا الألم ويطفيء هذا الضرم ويشفي هذا السقم وهو أن هذه الشجرة النجيبة لها خاصية عجيبة

ص: 101

اسمها شجرة النور وفضلها في ذلك مشهور إذا أخذ من عصارة ورقها ووضعها الأعمى على حدقها انجلى عماها بدقرة رب براها وخلقها فسواها ورد إليها بصرها وزاد نظرها ثم أن الخرابة الغلانية فيها حجر حية بذيه وهي تابعة ملك بابل الفاعل هذا الفعل السافل وحياته متعلقة بحياتها وموته موقوف على مماتها لأن طالعه على طالعها وطبعه اللئيم مطبوع على طابعها فبمجرد ما تموت الحية يموت وينقل من درج الملك إلى درج الملكوت كل ذلك وابن الملك يسمع هذا القول فلجأ إلى ذي القوة والحول حتى من عليه بعد شديد العقاب بهذا الطول وجعل ينادي ويبتهل ويقول متى جبين الصبح يهل وينشد:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الأصباح منك بأمثل

فلما أصبح الصباح ونادى مؤذن السعد حي على الفلاح تميم ابن الملك وصلى وحمد الله على النهار إذا تجلى ورض بين حجرين من ورق الشجرة واكتحل بمائه فرد الله عليه بصره ثم وجه ذهابه إلى تلك الخرابة ورصد خروج تلك الحية اللاطئة وضربها ضربة غير خاطئة فاحاط بها نازل الهلك وفي الحال خر الملك ميتاً على سرير الملك وبينما العزاء عليه قائم وإاذا بصاحب السرير عليهم قادم وقد قصد ملك أبيه وتمكن من ملكه وذويه وتصرف فيه كما شاء وألبسه خلعة الملك من يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء وإنما أوردت هذا التمثيل خوفاً أن يكون صاحب مولانا الملك الجليل الذي بخراسان من هذا القبيل فتبدل المحبة بالبغض وترجع على موضوعها بالنقض

ص: 102

ثم أن بعض الصحاب والأخوان يفعل ما يفعله من الخير والإحسان على سبيل المكافاة لأعلى طريق والمصافاة فإذا كافأ بالإحسان عاد إلى ما كان عليه من العدوان فأسال الحضرة الشريفة والمراحم المنيفة ذات الفضل المشهور والإحسان المأثور التأمل في عواقب هذه الأمور لئلا يصيبنا ما أصاب المسافر ضعف الحداد المنافر من العفريت الملقى في المحافر قال أخبرني أيها الولد النجيب عن ذلك الأمر العجيب وقاك الله شر الواجيب (قال) بلغني من رواة الأخبار أن شخصاً من الأخيار لازم الأسفار وقطع القفار فجاب مشارق الأرض ومغاربها وبلغ أكنافها وجوانبها وشاهد عجائبها وقاسى حر الزمان وذاق حلوه ومره وعانى خيره وشره فأداه بعض المسير إلى بلد كبير فرأى في بعض نواحيه وطرف من بعض ضواحيه طائفة من الصبيان قد اجتمعوا في مكان فوصل إليهم ذلك الفقير فوجدهم واقفين على حفير يرمون فيه بالأحجار وهم يستغيثون بالستار من العدو المكار الغدار والحسود القديم والكافر الذميم والشيطان الرجيم فسألهم ما هذه المعضلة فقالوا عفريت وقع في هذه البئر المعطلة وهو عدو قديم نريد أن نقتله فقال أفسحوا حتى أنظر إليه وأساعدكم عليه ففسحوا عن ذلك الطوى فنظر في قعر الركى فرأى في جانب منها عفريتاً منزوياً

ص: 103

وقد هشموه وكسروه وحطموه وكاد يهلك مما رجموه فعند ما نظر إليه رق له وعطف عليه وقال أفضل المعروف إغاثة الملهوف وإن لم يكن بيننا سابقة صداقة ولا وشيجة محبة ولا علاقة بل عداوتنا جبلية ومباينتنا أزلية لكن فعل الخير لا يبور ولله عاقبة الأمور وإذا قصد الإنسان فعل الخير فلا عليه أن فعله مع أهله أو الغير وقد قيل للتمثيل أيها الإنسان قد عداك الذمأفعل الخير وألقه ثم منع عنه الكبير والصغير وساعده على الخروج من البير واستنفذه من أيديهم وأطلقه فكان كمن اشتراه وأعتقه فلما رأى العفريت هذا الإحسان من ذلك الإنسان من غير سابقة ولا عرفان قبل يده ورجله وشكر له هذه الفعلة وقال أني عاجز عن مكافأتك يا إنسان في هذا الأوان وأنا اسمي فلان فان وقعت في ضيق أو ضللت في طريق فنادي باسمي أحضر إليك بجسمي وأنفعك في ضيقك وأرشدك إلى طريقك وأكافئك أيها اللوذعي بما فعلته معي ثم ودع كل صاحبه وخالف في السير جانبه فوصل السياح إلى بلد من البلاد له فيها صديق حداد فنزل عنده فأكرمه ورحب به وخدمه وكان لتلك البلدة عادة حسنة أنهم في يوم معين في كل سنة يقربون من يقدم عليهم فيه ولا يسألون أخامل هو أم نبيه فان لم يقدم عليهم غريب في ذلك اليوم اقترع فيما بينهم القوم فمن خرجت قرعته سحبوه وكسروا قرعته وقربوه فوافق ذلك اليوم قدوم السائح ولم يرد سواه من غاد ورائح ولا شعر به أحد من أهل تلك البلد فاخذوا في القرعة بالاجتهاد فطرقت القرعة قرعة الحداد فقبضوا عليه وعزموا على تقريبه

ص: 104

فقال عندي غريب لم يكن أحد يدري به فلم يدر السائح إلا وقد أحاطت به الشوائخ فهجموا عليه وربطوا عنقه ويديه صم سحبوه وحبسوه وفي أضيق مكان أجلسوه وأشهروا النداء أنه حصل للحداد الفداء فعلم السائح القضية وتحقق أنه تورط في بلية فذكر اسم العفريت وقد علقه الهم علوق النار بالكبريت فحضر لساعته ووقته فرأى السائح في هوله ومقته واطلع على جملة الشان فقال لا تخش يا ذا الإحسان أعلم أن أمير هذه البلد له ولد هو واحد أبويه وأني الآن أصرعه بين يديه ثم أنادي في النادي أن رمتم شفاء هذا العليل فهو بدعاء ذلك الرجل الجليل السيد الصالح الزاهد السائح ضيف الحداد الذي بسببه حصلت هذه الأنكاد فأطلقوه والتمسوا دعاءه فان فيه لعليلكم شفاءه ولا تطلبوا

من غيره دواءه فإذا طلبوك وأعزوك وأرغبوك وأكرموك واحترموك فادع بما يرفع نكدهم فغاني إذ ذاك أترك ولدهم فإذا رأوا منك هذه الكرامة بالغوا وسلموك الزعامة وخيروك بين الرحيل والإقامة وأقل ما يفعل معك السلامة ثم ذهب إلى ابن الملك وخبط. وحل في أعضائه وربطه فتخبط الصبي وتخيل وتكسل وتخبل وكادت روحه تخرج ويدرج مع من يدرج فاشتغلوا بشأنهم عن أمر قربائهم فطلبوا الأطباء فأعياهم علاج هذا الداء ولم يقدروا على علاجه وتعديل مزاجه وتقويم اعوجاجه واشتعلت الخواطر وتنكد البادي والحاضر فعند ذلك نادى العفريت من ذلك البيت يسمعون كلامه ولا ينظرون مقامه أن زوال هذا العارض ومنع هذا الداء المعارض عند رجل قدوة مستجاب الدعوة رجل صالح زاهد سائح عالم

ص: 105

عامل كامل فاضل هو بركة البلاد والعباد مادة الصلاح وقاطع الفساد وهو ضيف الحداد الذي فرط منكم في حقه سوء الأدب فأدركوه بالطلب وأسرعوا نحوه والتمسوا منه دعوة وإلا فولدكم هالك عنوه وبادروا باللحوق لئلا يخرج السهم من فوق فان السهم هذا المصاب بسبب ذلك أصاب فركب الملك بنفسه وسارع إلى باب حبسه ودخل عليه وأكب على رجليه وطلب دعاءه ورام لولده شفاءه فتوضا وصلى وأعرض منهم وتولى وتوجه ودعا فحصل للولد الشفا ونهض في الحال كأنما نشط من عقال ثم أن العفريت الجائح أتى الرجل السائح وقال لا تحسب أني إذا كافيتك صادقتك أو صافيتك كيف وعداوتنا مغروزة وغروس التباغض في حدائق ذواتنا مركوزة أنا من نار وأنت من تراب شيمتك الترابية وشيمتي الإحراق والخراب ومتى استقام أعوج مع قوام أو وجد بين المتباينين التئام وإنما كان هذا الوفاء لئلا ينسب إلى الجفاء ونحن على الكدر دون الصفاء وعلى ما نحن عليه من العدوان وأن لم يصر بيننا معرفة ولا كان صار شعلة لهب وترك السائح وذهب (ثم قال ابن الملك) ومن أنواع المحبة والصداقة وما يتأكد فيها من العلاقة نوعمحبة تتوفر فيه الرغبة ينشأ من فرط الشهوة ويركب من صاحبه على الصهوة وتميل إليه النفس والطبيعة ولكن تكون استحالته سريعة فيزول بأدنى سبب ويشبه شواظ اللهب يتلهب ساعة وقد ذهب وربما أدى إلى الهلاك والعطب كما فعل بالبطة الثعلب حيث كانت محبتها

ص: 106

غير صادقة ومودتها بالشهوة ممازقه وشتان ما بين المحبة الخالصة والمحبة المنافقة لا جرم أدت إلى عكسها وإزهاق نفسها قال الملك أخبرني أيها الخبير كيف هو هذا النظير (قال ابن الملك) ذكر أن زوجاً من البط كان له مأوى على شط جار بين رياض ومروج وغياض أزاهيرها عطره ورياحينها نضرة وقريب من وكر البطتين مأوى لأبي الحصين فحصل لذلك الثعلب المرض المسمى بداء الثعلب فسقط وبره وتمعط صوفه وشعره وذاب جسمه وتهرى لحمه وقارب التلف واللحاق بمن سلف وصار كما قيل:

أصبح في أمراضه يعذب

كخرقه بال عليها الثعلب

فلما أنحله السقم وأضناه قالت له سلحفاة لما زاد به المرض واشتط دواء دائك كبد البط فان أكلت كبد بطه نصلت من هذه البلاء البتة فقال ومن لي بهذا الدواء إذ ليس لي حراك والبط في الهواء فشفاء هذا الداء العضال من باب التعليق بالمحال وكأن الشاعر يعنيني إذ سمع أبني ورأى سكوني تحت أحمال شجوني بقوله:

فقال قم قلت رجلي لا تطاوعني

فقال خذ قلت كفى لا توانيني

ثم استنهض همته واستنخى نهمته وصمم عزيمته واستعمل فكره واستورى مكره وقال لنفسه لا ينجيك من هذا الأنكال إلا التشبث بذيل

ص: 107

المحال لعل الله واهب العطية يظفرني بهذه الأمنية ثم توجه وهو يتشحط إلى صوب البط وصار يتلظى في جنبات الشط إلى أن لاح له بعد الأين أنثى هاتين البطتين فتخفي إلى أن قاربها ثم وأثبها فما ساعدته القوة فهوى في هوه فما وأسعه إلا أن غالط وأظهر المودة وخالط وعبرت عيناه وبالط وأرى من نفسه أن تلك الوثبة إنما هي من داعية المحبة ونهضة الاشتياق إلى الأحبة ثم بادر وقال مرحباً بالجارة الصالحة ومن نعوتها بمسك العفة فائحة وأخلاقها غادية ببشر الخير رائحة المخدرة المحببة الحبيبة النجيبة حياك الله من قرينة رضية جميلة الأوصاف بهية فما أكثر إحسانك وفضائلك وأوفر متنانك وفواضلك لقد عممت بإحسانك جميع معارفك وجيرانك وأطعت زوجك وحلالك وتحقق كل أحد لحسن الشيم جلالك وما زال ينفق عليها من حواصل هذه الخزعبلات ويفعم أردان عقلها من معادن هذه التمويهات حتى سكنت بعض السكون وركنت إليه أدنى ركون ثم أخذ في الإيناس وتمهيد قواعد الأساس حتى اطمأنت واستكانت واستنكنت ثم قال إنا لله ولا حول ولا قوة إلا بالله ترين ما رأى فيك زوجك من الخلل ولاح له من عيب حتى فعل ما فعل قالت وما فعل ذلك الجعل قال لولا أن الغيبة ريبة والنمنمة مشؤمة ونقل المجالس القبيحة وإن كانت وقائعها صحيحة أمر مذموم وهذا معلوم لكنت أفصحت وأشبعت القول ونصحت ولكن الصبر

ص: 108

على الضرائر فعل الحرائر والورد لا يخلو عن شوك ولا الشباب عن نوع نوك فلما سمعت هذه النجوة حماتها المحبة الممزوجة بالشهوة أن ألحت عليه وسألت إيضاح ما لديه وأقسمت عليه بحق الجوار إلا ما أطلعها على هذه الأسرار فقال لولا أن الجوار ذمه لما فهمت بكلمة خصوصاً وقد ألحت بالقسم وتشفعت بالجوار والذمم وأيضاً لولا وفور الشفقة وعظم المحبة والمقه واعتمادي عليك أنك ثقة وإن صدرك مخزن الأسرار وأنك سيدة الأحرار ما أطلعتك على شيء مما كان وصار اعلمي أن زوجك المشتط قد خطب بنت ملك البط وله في هذه المكيدة مدة مديدة آخرها اليوم كان قد أرسل إلى القوم المشاية والخطابة أن يهيؤا أسبابه فلما سمعت هذا الكلام ساورها من الغيرة الضرامولا نشك في أنه صادق وذهلت عن التبين في خبر الفاسق وجميع الأخبار عن الأزواج يتوقف فيها النساء إلا خبر الزواج تم إنها تماسكت وأرت تجلداَ وتمالكت وقالت أحل الله له من الأزواج ما طاب له لا حيلة إلا الانقياد وترك المراد وموافقة السنة والجماعة والدخول تحت الأمر بالسمع والطاعة وماذا يفيد التدله والحيرة أن الحلال جدع أنف الغيرة قال والأمر كما

ص: 109

ذكرت وما أحسن ما افتكرت وصبرت وما يمكن الطعن في الحلال ولكن هذا دليل الملال وكل من ادعى هواك وتخلل في طريق سواك ولو بخلال من سواك فلا شك أنه قلاك وبنار الهجر والجفاء سلاك وليس هذا ساعة وتمضي ولا حادثة تقع ثم تنقضي إنما هو أمر دائم ونزاع أبد الدهر وأنا ما أخشى إلا عليك بما يصل من النكد إليك فان حقك ثابت علي وضررك عائد إلي فأنك جارة قديمة معروفة بحسن الشيمة لم أر منك الإحسان وعدم التعرض إلى إيذاء الجيران وكل منا قد اعتاد بالآخر وباهى بصحبته وجواره وفاخر وأخاف أن يتجدد لي في الجوار من يتصدى لي بالأضرار ويؤذي ولا يعرف حق الجار لا يعرفني ولا أعرفه ولا ينصفني ولا أنصفه فيتكدر لي الوقت ولا أخلو من نكد ومقت لا سيما وأنا ضعيف مبتلى نحيف فلا يستقيم الحال على الارتجال ولا زال يسدد المشارب ويفتل منها في الذروة والغارب حتى أثر فيها سمه ونفذ في سويدائها من مكره سهمه فاسترشد إلى وجه الحيلة في هذه النازلة الوبيلة فقال الرأي السديد الرشيد أنه إذا بفعله وأتبع في أذاه فرضه بنفله واختار غيرك عليك طلقيه وألف زوج لديك وأرض الله واسعة وهو المعتدي في المقاطعة وأنا أكون السفير في زوج يخجل البدر المنير يعمر دارك ويعرف مقدارك ويخدم كلبك وحمارك ويملأ وكرك خيراً وبطنك طيراً ودارك شعيراً وبراً مع كونه وافر الحشمة مسموع الكلمة قد جمع بين طرفي الأصالة والحرمة

ص: 110

فقالت هذا الذي تقول أكر معقول وإلى الآن ما وقع وعلى تقديران يقع أن حصل الشقاق والنفاق وترجح الأنذال المستجدة على الكرام العتاق فيكون بيننا هذا الاتفاق وأن وقعت بيننا المعادلة ولم يحصل

في حقي منه مساهمله ولا للضرة عليّ مفاضلة كيف أشافقه وعلى فعل مباح أضايقه فضلاً عن أني أفارقه وكيف أخرب داري وأضر بحبي وجاري وأشمت بي الأعداء ويحتاط بي من كل جهة البلاء ولكن الرأي المحمود عندي يا ودود الصبر في كل حال على الدهر الكدود وتجرع الغصص لئلا يشمت الحسود كما قيل في التمثيل ما بي دخول جهنم ولكن بي شماتة اليهود فلما رأى الخبيث أنه لم يفده هذا الحديث ولم تتم له الحيلة وأفكاره الوبيلة قال أقول الحق الذي حصحص ولا عنه محيد ولا مخلص أن زوجك قد نقل إليه أنك اخترت غيره عليه وأنك عاشقة وصحبتك له مخادعة ومماذقه وثبت ذلك لديه وعقد اعتقاده عليه وعزمه على الزواج إنما هو تعلل واحتياج لفتح باب الشر وتعاطي أسباب النكد والضر وقد ثبت عندي أن ذاك الأفاك الأثيم السفاك يريد أن يجرعك كأس الهلاك فتيقظي لنفسك وتداركي غدك في أمسك قبل حلولك في رمسك واستقيمي قبل عكسك وأنا منذ سمعت هذه الأخبار لم يقر لي قرار وذلك لوفور المشفقة وحسن الجوار وقد زدت ضعفاً على ضعفي وكدت لهذا الغم أسقى كاس حتفي وأنت يا غرض الحاسد تعلمين أن ليس لي غرض فاسد وهذا بديهي التصور لا يحتاج إلى تدبير ولا تفكر ولقد غرت عليك والأمر في هذا كله منك وإليك

ص: 111

فتكدر خاطرها وتشوشت ضمائرها وضاقت بها الحيل وتاه منها العلم والعمل ومن يسمع بخل وصالت أفكارها وحالت ويدر منها إن قالت والله لو أمكنني لقتلته وأوجدت فرصة لاغتلته واسترحت من نكد الدهر المغبر وهذا العيش الوحش المكدر فالتقط الثعلب هذه الكلمة من فيها وعلم أن سهم ختله نفذ فيها لأن عقود المحبة انحلت وصورة المودة القديمة زالت واضمحلتوتلاشت الصداقة بالكلية وانمحت شهواتها بأدنى جزئية فقال لا تهتمي لذلك يا ضرة هند فعندي عقار من عقاقير الهند أحلى في المذاق منت ساعة التلاق وأمضى من السيف في حكم الفراق اسمه كسير الموت وتدبير الفوت وسم ساعة وتفريق الجماعة لو أكل منه ذرة أو شم منه نشره لقتل في الحال وفرق الأوصال من غير إمهال فان اقتضى رأيك الأسد أن تخلصني من هذا النكد ناولتك منه شذره تكفيك ذرة منه أمره فان شئت أطعمته وأن شئت أشممته ولولا أنك عزيزة علي لم أفه لك من هذه الأمور بشيء ولقد فضلتك على روحي فاكتمي هذا السر ولا تبوحي فتحملت منه جميلته وعرفت قدرته وفضيلته وطلبت منه الدوا لتذهب به عن قلبها الجوا وتقتل زوجها المسكين وتسلم من نكده وتستكين وزالت تلك المحبة القديمة ونسيت الصحبة والصداقة القويمة ووعدها الثعلب أن يأتيها بالعقار وفارقها على هذا القرار ثم أنها انتظرته

ص: 112

ليفي بوعدها واحترق صبرها من نار سمها ووقدها وتقاعد الثعلب عنها ينتظر ما يتأتى فحملها مثير الوجد إليه وساقها الأجل المحتوم إلى أن قدمت عليه فدخلت وكره وقبلت يده وصدره فتمكن منها ذلك الغادر ومزقها كما يريد فصارت كالأمس الغابر وإنما أوردت هذا التمثيل لئلا يكون أصحاب مولانا السلطان من هذا القبيل فيكون المعتمد عليهم والمستند إليهم كالنائم على تيار الأنهار والمؤسس بنيانه على شفا حرف هار قال الملك معاذ الله يا ولدي وقرة عيني وكبدي أن يكون صاحبي ومعتمدي من هذا النمط وسبيهاً بالعفريت والثعلب والبط بل كل من أصحابي وسائراً أوليائي وأحباني ما منهم إلا الصديق المهذب والرفيق المؤدب والشفيق المدرب والعتيق المجرب وقد جربته في المودة والإخاء والشدة والرخاء والمروأة والسخاء كما جرى ذلك للتاجر المجرب صديقه في الشدة والارتخاء قال الولد ينعم مولانا الإمام بتقرير هذا الكلام (قال الملك) بلغني أن بعض التجار الأكرمين الأخيار والكرماء الأبرار كان له جزيل وولد صالح جليل سعيد الطالع سديد المطالع عالي الهمة متوالي الحشمة ميمون الحركات جميل الصفات حسن الصورة مشكور السيرة طاهر السريرة وكان أبوه قد تخيل فيه مخايل السعادة وتفرس فيه آثار النجابة والإجادة فكان لا يصبر عن تأديبه وإرشاده إلى سبيل الخير وتهذيبه وتربيته بمكارم الأخلاق وتربيته فقال له يا بني إن الإنسان يحتاج إلى كل شيء وأعظم ما يحتاج إليه ويعول في التحصيل عليه الصاحب الصافي والصديق المصافي والرفيق المساعد في وقت الشدائد

ص: 113

فان المال ميال والذهب ذاهب والفضة منفضة والملبوس بوس والمأكل متآكل والخيل خيال والفواضل شواغل والدهر قاصي والعصر عاصي والأقارب عقارب والوالد معاند

والولد كمد والأخ فخ والعم غم والخال خيال والدنيا وما عليها لا يركن إليها وما ثم إلا رفيق ذو وفاء مجبول على الصدق والصفاء إن غبت ذكرك وإن حضرت شكرك مأمون على نفسك ومالك وأهلك وعيالك في حالك ومالك إن غاب صانك وإن حضر زانك فهو أفضل موجود يقتني وأحسن مودود يصطفي فان ظفرت به فتشبث بسببه ثم قال يا بني قد أقمت في الحضر وانقضى لك فيه ما ذقت مما حلا ومر فلا باس أن تحيط علماً بأحوال السفر فان السفر محك الرجال ومجلبة الأموال ومكسبه التجارب ومرآة العجائب والغرائب فاعزم على بركة الله تعالى وتوكل عليه واصحب معك فيه ما تحتاج إليه ثم أفاض عليه المال وأضاف إليه صالحي الرجال وحين ودعه ووصاه واستودعه قال يا بني لا تجعل دأبك وطلبك واكتسابك الاستجلاب الصاحب النافع دون سائر المنافع فانه أوفر بضاعة وأربح تجارة وليس على الصديق أبداً خسارة واجعله في سفرك نصب عينك واشتره بنفسك ومالك ونقدك ودينك وقد قيل:

أخاك أخاك إن من لا أخاً له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح والمراد به الصديق وأعلم أن الأخ الصلبي ربما يضرك وأما الصديق الصالح فأنه يسرك والصاحب الشقيق خير من الأخ الشقيق وقد قيل رب أخ لم تلده أمك

ص: 114

فقبل الشاب وصية أبيه ثم توجه في حشمه وذويه بقصد جميل ومال جزيل فمكث غير بعيد ثم عاد وهو سعيد فقال له أبوه حبيت وحييت ما أسرع ما جبت قل لي أين ذهبت وماذا اكتسبت فقال يا أبت امتثلت مرسوك الكريم واكتسبت بالمال كل ولي حميم وقد جئت بهم زمراً وعدتهم خمسون نفراً كل منهم صديق صادق ورفيق موافق في الفضل بارع وإلى الخير مسارع وفي الرخاء صادق الإخاء وفي الشدة أوفى عده قال أبوه يا بني كيف تصفهم بهذه الصفة وتعرفهم بهذه المعرفة ولم تجربها في قضية ولا واقعة صعبة أو رخيه وقد قيل:

لا تمدحن امرأ حتى تجربه

ولا تذمه من غير تجريب

وقد قيل أيضاً:

إذا رمت تصفي لنفسك صاحباً

فمن قبل أن تصفي له الود أغضبه

فان كان في وقت التغاصب راضياً

وإلا فقد جربته فتجنبه

(وقيل أيضاً) :

الناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً

ما لم يروا عنده آثاراً حسان

واعلم يا ذا اللطائف أني خائف أن يكون أصحابك وأصدقاؤك وأحبابك مثل أصحاب الرئيس المدير الخامل النفيس الذين رعوه في روض وفره وتركوه في قفر قفره قال ابنه يا أبت كيف ورد ذلك وثبت قال التاجر ذكر رواة الأخبار أنه كان في بعض الأمصار رجل رئيس كبير نفيس له أموال وافرة وجهات متكاثرة وأماكن عامرة وضياع ومزدرعات وبساتين واقطاعات وعقار له ارتفاعات فكان ولده يمد يده إلى كل معصية ومفسده ويجترئ ذلك السفيه على كل ما يلوح له

ص: 115

من جهات أبيه والتف عليه جماعه من عبيد البطن والمجاعة كأنهم طير قر لي أن رأى خيراً تدلى وأن رأى شراً تعلى ومديد الإسراف في التبذير والإتلاف وصار أبوه ينصحه ويردعه عن جموعه ويكبحه وقال له يا بني استعمل الارتفاق في النفاق واستخلص من الرفاق ذوي الإشفاق واعلم أن هذا المال هو لك مدخر لتصرفك فيه منتظر وإنما أنا لك خازن والله تعالى مجاز على فعالى من مساو ومحاسن وتيقن أن المال هو عزك في الدنيا وزادك إلى الأخرى وأن له وجوهاً ومصارف وعوارف ومعارف فإذا صرف في غير محله ودفع إلى غير أهله كان أثماً ووبالاً وفي الآخرة عذاباً ونكالاً وأحمق الناس المستحق لنزول الباس من اكتسب من اكتسب المال حلالاً وبذرة في الفساد يميناً وشمالاً وادخر به إثماً وخبالاً فصرفه إلى من لا يحمده وعليه حسابه ونكده وأنت إذا صرفت مالك ووزعته وفي غيره مواضعه زرعته وأنفقته على من لا يعرف فضيلتك ولا يحمل حملتك ولا يشكر صنعك ولا يقصد نفعك ولا يجلب لك خيراً ولا يكشف عنك ضيراً خرجت من عز الدنيا وفوت زاد الأخرى وهؤلاء الذين قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين ثمرة صحبتهم الندامة وعاقبة أمرهم الخيبة والملامة والبعد عنهم غنيمة وسلامة وإذا كان الأمر كذاك فإياك يا ولدي ثم إياك من صحبة هؤلاء الأحداث والمكوث بقربهم فإنهم اخباث واحتفظ بصوت ما لك ولا تنفقه إلا على نفسك وعيالك وفيما يبقى ماء وجهك في حالك ومالك ولا زال أبوه قابض عنانه بقدر طاقته وإمكانه يذكره هذه الوصية بكرة وعشية حتى أدركته المنية وخلف ذلك المال العريض لذلك الولد المريض فمد يده كما كان إلى كل مفسدة ونسي

ص: 116

يومه وغده وشرح في مناه متن اللهو وقرر بحديث من كتاب الزهو باب الأنجاس وسجود السهو واجتمع عليه قرناء السوء وحضروا وخلاله ولهم الجو فباضوا في الفساد وصفروا وغابوا عن الرشاد وما حضروا وصاروا يظمونه ويكرمونه ويحترمونه فإذا كذب صدقوه وإذا ضرط سمتوه وشمتوه وإذا نهق طربوا وإذا أخطأ صوبوا وإذا قعد قاموا وإذا قام ناموا يفدونه بالمهج والأرواح ويلازمون خدمته في المساء والصباح وكان له أم مدبره عاقلة مفكرة فقالت له يا بنيلا تكن صبي وتذكر وصايا أبيك وإياك ومن يليك وتأمل ما لديك واحفظ مالك وما عليك ودبر معاشك وصن ماء وجهك ورياشك وأعلم أن أصحابك وعشراءك وأحبابك وندماءك ورفقاءك وأخصاك وأصدقاءك كلهم عبيد البطن ولورقات بذي شيق أو حصن لا خير عندهم ولا مير جميعهم كسير وعوير فإياك إياك وصحبة من لا يتولاك لاتركن إلى صداقتهم ولا تعتمد على موافقتهم فانهم في الرخاء يأكلونك وفي البلاء يتركونك وإلى مخالب القضاء يسلمونك رأس مال محبتهم ما في يديك وأساس بنيان مودتهم ما يرونه من النعماء عليك فإن قلت والعياذ بالله فلوا وخلوك في عقد النوائب مربوطاً وانحلوا وأقل الأقسام يا ذا الأصل السام أن تجرب أصحابك وتختبر من يلازم بابك ويقبل بشفاه المودة أعتابك في شيء نابك أعجز عن حمله نابك من حوادث القضاء أو في حالة من أحوال الغضب

ص: 117

والرضاء أو السعة والضيق أو التكذيب والتصديق فمن وجدته ناصحاً صادقاً أو مطاوعاً مصادقاً وفي كل الأحوال موافقاً وفي الرخاء والشدة مرافقاً يوثق به في الغيبة والحضور وحالتي السرور والشرور يؤدي الأمانة ويجتنب الخيانة ويغار على دينك وعرضك ويساعدك على أداء مسنتك وفرضك فاركن إليه واعتمد في أمورك عليه ومن وجدته منافقاً وفي إخلاصه ممازقاً ينسج شقة الوداد بوجهين ويتكلم كخائض المداد بلسان فلا تقربه ولا تصحبه فان بعده غنيمة والخلاص منه نعمة جسيمة وانظر بعين الثبات ما في هذه الأبيات من حسن الصفات فمن كان بها متصفاً فتمسك بأذياله فانه من أهل الصفا وهي هذه:

وقد قيل قول المرء يكشف عقله

وببدي سجاياه وما كان يكتم

فهذا كلامي مظهر ما أكنه

وأكثر هذا الخلق عن عيبهم عموا

فمن شيمتي أني مطيع لصاحبي

وأصلح عن خصمي وإن كنت أخصم

وأرضى لنفسي ديون ما هو حقها

وألزمها للخل ما ليس يلزم

إذا قال أصغى للمقال وأنني

لا علم منه بالمقال وأفهم

ولم أشك من خل لئلا يملني

ومن لي بخل لا يمل ويسأم

وأقطع في بحثي وأن كنت غالباً

واسكت حتى قيل ذا ليس يعلم

لا بقي وداد الناس لي لا أضيعه

ومن لا يداري الناس يرمى ويرغم

وفي كل ذا تقوى إلا له شعائري

ولا بد من لا يتقي الله يندم

ولا نقص في عقلي وأسباب نعمتي

وأني وأنى بالكمال مكرم

ولي همة يسموا لي الأوج قدرها

ولكن خمول المرء للدين أسلم

ووجه اعتقادي مثل عرضي أبيض

وديني متين واعتمادي مقوم

وحسبي من دنياي قوت وخرقة

يبلغني آثار من قد تقدموا

فهذي عزيزات لدي وإنني

لادعو إلى هذي الخصال وأعزم

ص: 118

فاثر هذا الكلام فيه وتأمل ما تضمنته فحاويه ثم أراد أن يجرب ملازميه ومن بر وجه جسده يفديه فقال يوماً من الأيام وقد اجتمعوا على منادمه المدام اتفق أمر عجيب وشأن غريب وهو أنه كان عندنا هاون في زاوية مخزون زنته ربع قنطار أتى البارحة عليه الفار فقرضه وأكله وعمه بالأكل وشمله فلم يدرك من ذلك النحاس في مكانه من برادة أضراسه وأسنانه فترشفت ثغور آذانهم منطقة واستحلى كؤسها كل منهم وصدقه وقالوا هذا وقع بغير شك لأن الهاون كان فيه ودك والفار أسنانه باضعه وأضراسه لجن حرافيش بغداد قاطعه فلما رأى أنهم وافقوه وصوبوا كلامه وصدقوه ازدادت فيهم محبته وقويت إليهم رغبته حيث رفعوا رتبه وستروا في جيب عيبه وحققوا محالة وصدقوا مقاله فأسرع إلى أمه مسروراً فرحاً محبور منشرحاً وقال يا أماه انظري كلام أصحابي وأخبري مقام أحبابي ذكرت لهم كلاماً باطلاً ومن حلية الصدق والإمكان عاطلاً فحققوا بلا مريه واثبتوا حقيقته من غير فريه وصاغوا من جواهر التوجيه أبهى حلية وذكر ما جرى لهم وله من الجنون والخباط والوله فقالت أمه يا ولدي ومهجة كبدي هذا أمر يضحك منه الجاهل ويبكي على حالك الحالك منه العاقلكما قيل:

أمور تضحك السفهاء منها

ويخشى من عواقبها اللبيب

ص: 119

أعلم أيها الداهل الغافل أنك لست من أصحابك على طائل وهؤلاء أعداء في صورة أو داء وهم في التمثيل كما قيل:

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو في ثياب صديق

وتيقن أن هؤلاء في النعمة خداعون وفي النقمة لذاعون وأنت شاب غرير وبأعقاب الأمور لست ببصير لا مارست الخلق ولا فرقت بين الصادق من ذوي الملق لأخبرتهم ولأسبرتهم ولا دخلت مداخلهم ولا ميرت خارجهم وداخلهم إن الصادق والرفيق الفائق من بصرك عيوبك وغفر لك بعد نصيحتك ذنوبك وأطلعك على حقائق الأشياء ونهيك على ما خفي من أمور الدنيا وأرشدك إلى ما يزينك ويصلح به دنياك وأبكاك إذا نصحك لا من أضحك وفضحك وأما الذي يدلس ويلبس ويوسوس ويهوس وبروج الباطل وبحلى العاطل فذاك بصديق على التحقيق وإنما هو عدو فلا يكن لك معه قرار ولا هدو فلم يلتفت الشاب إلى هذا الخطاب حيث كان مصادماً لغرضه غير شاف لعلته ومرضه وقال صديق من نطق وفاه بالكلام الحق من قال إفشاء السر إلى النساء فعل الأحمق ثم تركها ترغوا واستمر هو مع أقرانه بلهو وداوم على تلك الحال حتى إذا دنت لنفادها الأموال وبيع الرخيص والغال فما استفاق من سكرته واستيقظ من رقدته إلا والأموال قد ذهبت والديون قد ركبت وهو ينشد وإلى مذهبه يرشد:

ليذهبوا في ملامي أينما ذهبوا

في الخمر لا فضة تبقى ولا ذهب

ص: 120

إلى أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة ونفقت البيضاء والصفراء في الحمراء والخضراء وأصبح ملقى على الأرض السوداء وأتعس من فوق الغبراء وأفلس من تحت الزرقاء وتراجع عنه الأصحاب وعاداه الأصدقاء والأحباب ورجعوا عنه بعدما سئموا منه صار ناديه ينادي:

كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وصارت محبتهم له تكلفاً ورؤيتهم إياه تعسفاً فاتفق له في بعض الأيام أن قال في أثناء الكلام لذلك الجمع بعينه الذين كانوا أجمعوا على صدق منيه الفار الغدار أكل لنا في الدار البارحة رغيفاً كاملاً فاتى على أكله شاملاً فما أبقى منه لبابه ولا غادر من غدير وجوده صبابة فتنادوا للحال بالمحال والكذب في الأقوال الفار الضعيف كيف يأكل كل الرغيف وهو عاجز نحيف وتناولوه بالطعن وتناوشوه بالسنة السب واللعن وزيغوا أقواله وسفهوا أفعاله وإنما ذكرت هذا الكلام يا أيمن غلام وأحسن من البدر التمام لتعلم أن أكثر من يدعي صدق الصحابة من ذوي المعارف والقرابة إنما دعواه كذابة كسحاب صيف لا يديم انسكابه وأن الشخص مع الناس الأوغاد والأكياس بمنزلة الفقاع أن رأوا فيه حلاوة الانتفاع استلموه

ص: 121

وبالأيدي رفعوه وقبلوه ورشفوه وإذا مصوا محصوله وفرغوه ورموه تركوه وتحت الأقدام طرحوه ثم قال التاجر لولده راحة روحه وجسده وأن كان من صحبتهم وفي سفرك أكتسبتهم مثل هؤلاء الأصحاب فإياك أن تفتح لهم الباب وترفع بينك وبينهم الحجاب (فقال الولد) معاذ الله الواحد الأحد يا أبت عندي ثبت أنهم يدور كرام وصدور عظام يقومون لقيامي وينصتون لكلامي ويجيبون ندائي ويؤمنون على دعائي وهم أخلاء في السراء والضراء (فقال أبوه) أعلم يا ابني وقرة عيني أني عمرت سبعين وعاينت من الأمور الخشنة والحسنة وبلوت الأصحاب وتلوت الأعداء والأحباب ورأيت الدنيا وأهلها وقلبت وعرها وسهلها ولم أترك من جنس بني آدم في أكنافها الآفاق وأطراف العالم من أمم العرب والعجم نوعاً لم أخبره وصنفاً لم أسيره فلم يصف لي على التحقيق غير صديق ونصف صديق فأنت يا بني العزيز الغالي كيف قدرته بالتوالي في هذه المدة اليسيرة على جمع هذه الطائفة الكثيرة وها أنا يا إمام أريك مصداق هذا الكلام وأطلعك من بين الأصحاب على ما لهم من مقام ثم عمد إلى شاة فذبحها وبدمها في ثياب طرحها ثم دمجهاوفي كفن أدرجها وقال لأبنه قم يا ذا الارتقاء أرني هؤلاء الأصدقاء واحداً بعد واحد لتحقيق غيب عيبهم بالشاهد وتعرف طرائقهم وتتبين حقائقهم ثم وضع الشاة في عدل وأخفى كل هذا الفعل وحمل العدل على ظهر غلام وخرج ليلاً والناس نيام وقصد أحد الأصحاب وطرق عليه الباب فخرج مسرعاً إليه وترامى متواضعاً بين

ص: 122

يديه وأظهر البشر والسرور والابتهاج والحبور وبالغ في الاحتشام والإكرام والاحترام وشكر مساعي الأقدام ثم بادر إلى دعوته للدخول وتعاطي إنجاح ما له من سؤل ومأمول فقال له الشاب يا زين الأصحاب وعين الأحباب دع الكلام لضيق المقام فقد دهتني دهيه وعرتني بليه وأعظم بها من قضيه ويا لها من رزية فقال ما هي وقيت الدواهي فقال كان بيني وبين واحد من أهل الشقاوة خصومة قديمة وأسباب عداوة اسمه معروف وذكره موصوف لشخص مفقود لم يكن له حقيقة في الوجود وهو من أكابر الزمان وأحد الرؤساء والأعيان فتلاقينا وتداعينا ما بيننا من جفوه وتنابشنا الأسباب وتناوشنا باللعن والسباب وتناولنا في الشقاق شق الأعراض وتأذت القلوب من الأغراض بالأمراض وتنقلنا من المكالمة إلى المشاتمة ومن المواصمة للملاكمة وترقينا من الكفاح إلى الجراح فثارت النفس المشؤمة إلى إيقاع حركة ذميمة فضربته فجرحته وقتيلاً طرحته ولم يشعر بنا أحد من أهل البادية والبلد وندمت غاية الندم وأني يفيد وقد زلت القدم وجرى قلم القضاء بما حكم ثم أفكرت بمن أستعين على هذا الأمر اللعين وأدرت في خاطري كل مساعد ومعين فلم يمل القلب إلا إليك ولا استقر الخاطر في ركونه إلا عليك وقد قصدت جنابك ويممت بابك إذا أنت أعز مخدوم والسر عندك مكتوم وهاهو مقتولاً أتيتك به محمولاً فاحفر لهذه الجثة حفيره وأخفي عندك أيا ما يسره إلى أن تطفأ هذه النائرة وتسكن الفتنة الثائرة وهذا وقت المروه وزمان الفتوة والقيام بحق الصداقة والأخوة

ص: 123

فلما سمع الصاحب اللبق هذا الكلام القلق تضجر وتضرر وتنكد وتضور وقال يا أخي بيتي عتيق مع أنه حجر مضيق لا يسع أولادي ولا زادي وعتادي وإذا ضاق عن الأحياء فكيف بالأموات وهذه بلية من أوحش البليات وأظنها لا تخفى على الناس ويدركها أولو الفراسة والأغبياء فضلاً عن الأكياس لأن قضاياكم قبل اليوم مشهورة وبلغني أن عداوتكم قديمة مذكورة وفي التواريخ وصدور الكتب مسطورة ولكم وقعات ونوازل وله أيتام كأنهم

الزغب الجوازل وأما أنا فلا يمكنني الدخول فيها ولا تعاطيها بوجه من الوجوه ولا تلافيها فاكفني شر ضيرها واندبني إلى غيرها وأني أكتم سرها فلا تخف من جهتي شرها فالح عليه فما أقاد ورده غير ظافر بما أراد فلما أيس منه تركه وانتقل عنه ودار على سائر أصحابه وذكر لهم مثل الأول وخطابه فكان جواب الجميع مثل جوابه إلى أن أتى على الجميع واستوفى شريفهم والوضيع ورأى ما هم عليه من طبع بديع كأنهم كانوا متواردين على شرب هذا الصنيع فعاد إلى دار أبيه ورجع إلى صحة بيسان التنبيه فقال له بمدير الفلك أحققت صدق ما قلت لك وتبيات ما هية أصدقائك وحقيقة أوليائك وأنهم نقش حيطان ورقش غيطان وغمام بلا مطر وأكمام بلا زهر وأجام بلا ثمر

ص: 124

(ثم قال) ثم يا زين الأحباب أريك ما قلت لك من حقيقة الأصحاب ثم دخلا الطرق وقصد نصف الصديق وطرقا الباب فخرج وتلقاهما بالترحاب فقال له ذلك المقال وقصد بمعونته الخلاص من ذلك العقال فقال حباً وكرامه حللتما بمنزل السلامة أنابكم نشيط وأجلبكم بي بسيط غير أني أعلمكم أن منزلي غير فسيح حتى أدفن فيه هذا الذبيح وليس لي مخبأة ولا مخدع ولا سكن في مطاويه ولا مصنع وأخاف أن أمركم لا يختفي وبهذا المقدار في أمركم لا أكتفي ويدي لا تملك غيره وقد وقعت بهذا السبب في حيرة وبالجملة والتفصيل أنا أكفيكما شر هذا القتيل فقالا لا نقنع بذلك ولكن سد عنا المسالك فقال توجهاً حيثشئتما فلا أنا سمعت ولا أنتما قلتما فتوجها إلى الصديق الكامل وذكرا له الأمر الحامل وقصدا بتلاقيه كرمه الشامل فقال لهما أو شيء غير ذلك وقاكما الله شر المهالك فقالا لا الادفن هذا المقتول وإخفاء هذا الأمر المهول وأن نكون تحت أذيالك الساترة حتى تسكن هذه الفتنة الثائرة فان أهله يطلبونا فان وجدونا يسلبونا ولا يرضون إلا بالدمار وخراب الديار ولا يقنعون بالمال والعقار وهذه قضية عظيمة وداهية جسيمة فان كنت تنهض بإطفائها وحمل أعبائها وتسعى في إخفائها فقد قصدناك ودون الأصحاب أردناك فان عجزت عن سدها فلا عتب عليك في ردها ولا تتكلف فوق طاقتك ولا تتجشم لا جلنا غير استطاعتك فقال سبحان الله وا سوأتاه هذا يوم المروأة والوفاء وتذكر وسائل إخوان الصفاء فلكم الفضل إذ قصدتموني والجميلة التامة حيث أردتموني

ص: 125

أما والله لو كان ألف قتيل لو أريته وكل ما كان من أمر غيره جاريته وداريته لا يسمع أبداً خبره ولا ترى عينه ولا أثره وأما أنتما فأفديكما وبروحي وأولادي وطريقي وتلادي وعندي ديار أنزه من جنان الأبرار وأفيح من كل دار فادخلوها بسلام آمنين فأنها نشرح كل قلب حزين ولو أقمتم بها سنين ما شعر بكم أحد من العالمين فيها أرغب نديم وأقرب خديم وأحسن جليس وأيمن أنيس فلن تملوا مقامها ولا تعدموا إكرامها فانتم عند من لا يمل أبداً أنزليه ولكم في ذلك الفضل والجميلة قال التاجر شكر الله سعيك وحفظ على أصحابك مودتك ورعيك ثم ودعه وانصرف وقد عرف الولد من حقيقة الأمر ما عرف (ثم قال) لولده يا بني وأعز عندي من كل شيء أن اتخذت الصديق فليكن صديقك على هذا الطريق وإلا قالا نفراد أحسن والعزلة أوفق إن أمكن كما قيل:

فاق حبي كل الملاح كمالاً

هكذا هكذا والافلالا

ولقد أرشد من أنشد حيث قال هذا المقال:

ما في زمانك من ترجو مودته

ولا صديق إذا جار الزمان وفى

فعض فريداً ولا تركن إلى أحد

أني نصحتك فيما قد جرى وكفى

(ثم أن الملك) قال لأولاده يا ذوي الأفضال إن غالب أصحابي من الأمراء والرؤساء الكبراء خصوصاً فلان أمير مماليك خراسان هم من هذا القبيل وأنا عودتهم هذا الجميل فكونوا في الحقيقة متمسكين بأسباب هذه الطريقة (فلما) أكمل وصيته أولاده هيا لسفره عتاده وذكراً لله وزاده ثم ودعهم من دار الشرور وأنتقل إلى دار الحبور والسرور وقد عهد إلى أكبر أولاده واستودعهم الله وهو القاهر فوق عباده من لا تضيع الودائع لديه ولا يخيب من توكل عليه فسمعوا الوصية وأطاعوا وتعلقوا بأذيال أهدابها فما ضاعوا

ص: 126

واستمروا تحت أمر أخيهم كما كانوا في حياة أبيهم كأن أباهم ما مات ولم يقع بينهم شتات فدام لهم السرور وانحسمت عنهم مواد الشرور وأشرقت بهم ممالكهم وأملاكهم ودارت بالسعود أفلاكهم ثم أن الحكيم حسيب انتقل من كلامه العجيب بعد فراغه من حكم الاعجام إلى فوائد ملك الأتراك الهمام فشنف المسامع وشرف كل راء وسامع وشرع في القافل والقيل وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ص: 127