الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس
في نوادر التيس المشرقي والكلب الافرقي
(قال) الشيخ أبو المحاسن من ماء معارفه غير آسن ومن لممدود أرض الفضل من فضائله رواس وفي مشحون بحر العلم من فواضله مواس فابتهج الملك بهذا الكلام وارتاح لما تضمنه من الحكم والأحكام واستزاد أخاه من عقود هذا النظام فقبل الأرض في مقام الخدام وقال بلغني يا ملك الأنام إن راعياً كان يرعى ثلة من الأغنام وحميلة من المعز الجسام وفي ماشيته تيس مطاع كلها له أتباع وهو قديمها وقائدها وزعيمها وأبو نتاجها وحمو نعاجها وأصله من الشرق لم يكن بينه وبين ابليس في الشيطنة فرق اسمه الذميم التيس الزنيم وكان بواسطة الفحول والكبر والتقدم في الحضر والسفر يستطيل ويصول وينطح الكباش والوعول ويكسر أصحاب القرون من الفحول فيجرح ضعيفها ويطرح نحيفها ويضرب بخالصها لفيفها إلى أن أباد أعيانها وأعجز رعيانها وطال منه العقوق فذهب به الراعي إلى السوق ليبيعه ويستريح ويخلص الماشية من شره ويريح فبينما هو يطوف إذا برجل مهول مخوف طويل القامة كبير الهامة كأنه زبنى القيامة شثن اليدين أزرق العينين أسود الخفين بثوب وسخ وطرطور سنخ وسطه محزوم بسير مبزوم فصادف الراعي وهو في السوق ساعي فمد يده إلى التيس وقال بكم هذا يا أبا الكيس فوقع بينهما الاتفاق ووقع الزنيم في شبكة الرباق فتأمل شكل القصاب وصورته القاضية بالعجاب فرأى رجلاً كأنه من الشياطين معلقاً في وسطه عدة سكاكين فدخله الرعب ورجف من الرهب وأدرك بالفراسة أنه سيهلكه ويحذف رأسه وقال ظني والظن يخيب
ويصيب أني وقعت مع هذا في يوم عصيب وأنه قاصد هلاكي ومقيم على البواكي فالأولى الاحتراز والتأهب قبل زمان الجزاز فان حصل خير فما في الاحتراز ضير وإن وقع على الإهلاك العزم فأتلقى سيفه بما أعددته من ترس الحزم فوزن الجزار الثمن وشحط الزنيم بالرسن وأتى به مطابخ فقطعها إلى مسالح فشم رائحة لزومه وأحس من الجزار نكده وشومه فلما دخل المسلخ ورأى القصابين هذا يذبح وهذا يسلخ واللحم شقات على الجدران معلقات وأنهر الدماء كدموع العشاق جاريه ورؤوس الغنم وجلودها وأكارعها كل كاشيه هذه الكاشية في ناحية وهذه الكاشية في زاوية فرجف قلبه وازداد رعبه والتجأ إلى الله تعالى وتاب إليه عما عليه من الذنوب مالا فما واطأ القصاب المصارع أن شد من المشرقي الاكارع وجدله على الجداله وأخرج لذبحه الآلة فلما رأى هذه الحالة تحقق ما كان ظنه فاستحضر باله وأيقن أنه هالك لا محالة فنظر إلى القصاب وذكر ما قيل في حق الساب:
نظروا إليك بأعين محمرة
…
نظر التيموس إلى شفار الجازر
فوجد السكين كليله ليس للذبح بها حيله فطلب المسن ليحدها ويريح ذبيحته أن حدها فتركه وذهب للمسن وقد تحقق الزنيم ما كان ظن فتنفس له البلاء وارتخى عنه القضاء فتمطى في رباط الأكارع فمزقه قاطع ثم وثب وقصد الهرب وخرج من الباب وصاحوا عليه هرب فلم يلتفت إلى الصوت وفر فرار من عاين الموت وطلب الخلاء وطريق الفضاء
فادى به الذهاب إلى بستان بجوار بيت القصاب فدخل البستان وامتد في الجريان والقصاب وراءه بهيئته المهولة والسكين في يده مسلولة وكان قبل هذا الزمان بين زوجة القصاب وصاحب البستان ما يكون بين الحرفاء والأخدان وكانت كلما وجدت فرصه جعلت للبستاني من نفسها حصة تنزل من بيتها إلى بيته وتغمس سراجها من فتيلة قنديله وزبته فاتفق أن في تلك الحال طلب كل من المحبين الوصال وكان زمان اشتعال اللحام بالمعاملة مع الخاص والعام فلاشتغال وهله لا يتردد فيه إلى أهله فاغتنمت الزوجة غفلة الرقيب ونزلت من بيتها إلى بيت الحبيب فكان المحبان آمنين وقد تعانقا تحت دوحة ياسمين فاتفق أن الهارب من الموت ودواهيه أخذ على مكان هما فيه والقصاب يتبعه رافعاً يده والسكين في يده مجردة فلم تشعر إلا وزوجها رافع الصوت واقف على رأسهما وبيده آلة الموت وما شعر بدواهيهما حتى عثر عليهما فقفز كلاهما من مكانهما مفتضحين في مكانهما فاشتغل القصاب بنفسه والتهى بنعجته عن تيسه وكان الناس تابعيه فوقفوا على ما وقع فيه وقامت الغوغاء وقعدت للعار من البلاء فتفرس النجاة من الردى فلم يزل في ميدان الجرى ذاهلاً عما جرى حتى وصل إلى ثغرة خرج منها إلى الصحراء فانقطع عن ذلك الجنى تابعه ولم يوجد من شياطين الأنس رائيه وسامعه فانتهى التيسار في تلك الصحاري والقفار إلى جبل فأوى فيه إلى غار كان يأوي إليه مع المواشي أو أن الأمطار فأمسى فيه تلك الليلة إلى وقت الأسفار:
فلما رأى الليل العبوس صنيعه
…
تبسم فافترت تباشير فجره
فلما أصبح الصباح خرج إلى السراح وهو في نشاط ومراح وجعل يرتاد أنيساً ليكون له جليساً أو رفيقاً صالحاً أو صديقاً ناصحاً يتأنس به في
الغربة ويمسح بأنامل مؤانسته ثقل الكربة وما يحصل على جبين راحته من عرق القرية وبينما هو ينشر البيداء ويطوي إذ سمع نباح كلب يعوي فترجى الخير وزوال ثم قصد نحوه فرآه مقبلاً من فجوه فناداه أهلاً بأحب الأحباب وأعز الأصحاب المفضل على كثير ممن لبس الثياب فلما دنا منه وتباكى لأليم فراقه فتعانقا تعانق المحبين وتبانا مباثة من مضه البين ثم قال له اعلم يا لطيف الحركات وكثيف البركات أن كلاً منا غريب وكل غريب للغريب نسيب وأنا قد تفرست فيك وما تكاد فراستي تخطيك أنك رفيق صالح وشقيق ناصح وأحسن مليح مما لح وفي طريقه أخوان الصفاء قيم وراجح وأن كانت الجنسية بيتنا مختلفة لكن القلوب بحمد الله تعالى مؤتلفة وكم لك من أياد سابقه وصدقات متناسقة وكم حططنا في المراعي وبتنا في الحظائر نائمين وأنت لحفظنا ساعي تحرسنا من الغداة إلى الروح ومن المساء إلى الصباح فاخبرني ما شأنك وأين مكانك وما اسمك وما صنعتك ورسمك ومجيئك من أين وما حاجتك في البين قال أما اسمي فيسار وأما مكاني فبلاد التتار وصنعتي راعي وسبب مجيئي ضياعي ولي صاحب اسمه أقرق من دشت قفجاق بن شقرق كنت في خدمته راعي مشيته فأضللت رعيتي وضيعت حق حرمتي فإذا أطلب ولي نعمتي لا محو من وصمة الجفاء سميتي فهذا شأني وجل بغيتي قال الزنيم أنا من حين شاهدت في وجهك الأنوار علمت أنك يسار
وأنك معدن الذكاء والألقاب تنول من السماء وأما طلبك لصاحبك ورعيتك فانه دال على كمال مروأتك ولا ينكر لكم الرفاء فان بينك وبينه الوفاء مقام الصدق والصفاء ولم يقع بينكما قط بعد ولا جفاء وشهرتك بحمد الله بجميل الصفات التي قلما يجتمع في زكى الذوات ولا تصفوا إلا للأولياء والبررة المبرزين الأصفياء من المسكنة والقناعة والجراءة والشجاعة وحفظ العهود والوفاء وكسر النفس والصفاء وعدم الحقد والحسد واطراح العجب والنكد والحراسة والسهر وقيام الليل إلى السحر والتودد إلى الناس حتى قال فيك ابن عباس كلب أمين خير من صديق خؤن وعندك من التهذيب وقبول التعلم والتأديب ما يصير صيدك مذكى وسنك كالشفرة مركى وفي شأنك يا ذا الوفاء والمنفعة قال الحرث بن صعصة:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني
…
ويحفظ عرسي والخليل يخون
فيا عجبا للخل يهتك حرمتي
…
ويا عجباً للكلب كيف يصون
ومن هذا الضرب ما رواه أحمد بن حرب عن ذي العتاب منادم الكلاب أن الكلب يكف عني أذاه ويكفيني أذى سواه ويشكر قليلي ويحفظ مبيتي ومقيلي فهو من بين الحيوان خليلي ثم قال أحمد ابن حرب تمنيت والله أن أكون مثل هذا الكلب لأحوز هذه الصفات وأرقى هذه الدرجات وأرجو الله تعالى أن يعطفك علي ويقلب قلبك ووجهك إلي بحيث
ترغب في صحبتي وتميل إلى صداقتي فترى إذ ذاك مني بحمد الله تعالى من الأخوة والصداقة والمروأة والرفاقه ما تنسى به كل صديق وتفضل به الصاحب الجديد على العتيق فتترك سائر أصحابك وتلتهي بي عن أعز أوليائك وأحبابك خصوصاً بني آدم الذين أنت يهم أعلم من أذهبت عمرك في خدمتهم والقيام بحقوقهم وحفظ حرمتهم وحراسة مواشيهم ودورهم وكمال فضلك في حياطة بيوتهم وقصورهم ورعاية رعيانهم وصيانة أهلهم وجيرانهم مع قناعتك منهم بما يفضل عنهم من كسرة خبز شعير أو عظم يابس كسير أو فضلة مرقه قد ير وأضعتهم حقوق خدمتك ونسيانهم موجبات شفقتك حتى لو وصل فمك إلى زادهم أو إلى شيء من عتيد عتادهم رموك بالحطب وضوا رأسك بالحجارة والخشب ولو ولغت في إنائهم أو شربت من مائهم ما قنعوا في تنظيفه وتطهيره وتشطيفه بمرة ولا مرتين ولا اكتفوا في إزالة ألعابك بالعين بل دونوا الغسل بالحساب وعفروا الوعاء بالتراب ويعدون ذلك من التعبد ولا يرغبون ما لك من تحبب وتودد وأنا أرجو أن ترتفع منزلتك وتعلو درجتك ويساعدك رب العرش حتى تسير سلطان السماع وملك الوحوش واجتهد في هذه القضية إلى أن ابلغ هذه الأمنية وأكون السبب في ذلك إلى أن تصير رئيس الممالك فان لك علي حقاً قديماً وفضلاً جسيماً طالما نمنا آمنين في ظل حراستك ورعينا مسرورين مكنوفين بحياطتك وأجلنا منك في الخاطر ما قال الشاعر:
بقاؤك فينا نعمة الله عندنا
…
فنحن بأوفى وفي شكرها نستديمها
قال يسار يا أخي جميع ما قررته صحيح مقبول داخل في الفضل خارج عن الفضول ولكن أنا من جنس السباع مجبول على ما لهم من الطباع ومع هذا فأنا عدوهم وبسببي يزول هدوهم وأنا لم أعادهم إلا فيكم ولا لي واد إلا في ناديكم فان ثر بيتي بينكم وعيني مقارنة عينكم وأنا إليكم أقرب مني إليهم ومعولي عليكم دون معولي عليهم وعلى هذا وجدت آبائي وأجدادي ونشأت من حين ميلادي والخروج عن طريقة الآباء دليل على العقوق والإباء وهو أمر مذموم وهذا شيء معلوم وقد قال صاحب الشرع الحب يتوارث والبغض يتوارث ولكن يا سليم الطباع وخصيب والرباع قولك تصير سلطان السباع سخرية مني واستهزاء ولا أستحق منك هذا الجزاه فان معنى هذا القيل أمر مستبعد بل مستحيل أن أبا طاهر نجس العين فأني من أين وهذا الهوس من أين فان أردت إعانتي على ذلك وتكفلت لي برياسة الممالكفكلانا في هذا الهوى سواء وإن صممنا على ذلك فما لجنوننا دواء وهذا الوسواس من خيالات الإفلاس وفي مثل هذا الحال قال:
من صدق في المقال
لا خيل عندك تهديها ولا مال
وأنا أعلم إنما نتكلم بما يطيب خاطري ويسر سرائري ويقربك في الحب من ضمائري قال المشرقي لا تقل ذلك يا تقي فأنا شاهدت في جبينك مخايل السيادة ومن شمائلك تقاطير السعادة وقد قيل يا فضيل المرء يطير يهمته كما يطير بجناحه أما بلغك يا خير عالم ما رواه الشيخ علاء الدين بن غانم ذو الفضل الكثير عن تاج الدين ابن الأثير قال يسار أخبرني بهذه الأخبار
(قال) قال ابن الأثير وهو بالرواية خبير محرز أيدي المعاني عن الأمير حسام الدين البركة خلق قال كنت في عصر الشباب أصحب من صالحي الشباب الملك المظفر الغضنفر وكان خشداشي وبرؤيته انتعاشي فكنا ونحن صبيان كأننا ظبيان غير أنا كنا في قلة فكنت أفلي قملة واسرح رأسه وأذهب باسه وتقدمت إليه بالشرط عليه أن يعطيني لكل قملة أو أصفعه صفعة ملساً ففي بعض الأوقات أخذت عنه قملاً كثيراً وصفعته صفعات وقلت في غضون ذلك ونحن في حال حالك أتمنى على الله عز وعلا أن يعطيني إمرة خمسين رجلاً فقال لي طيب خاطرك وسرائرك فإني أبلغك سؤالك وأعطيك مسؤلك وأجعلك أمير خمسين فارساً فابشر ولا تكن عابساً فصفعته صفعة وقلت ويلك أنت تعطيني إمرة ورفعه قال نعم وأغمرك بالنعم فصفعته أخرى وازددت فكراً فقال لي عله ونخس المسلة يا قليل اليقين أتريد غير أمر خمسين أنا والله أعطيك وأعليك على ذويك فقلت ومن أين لك تعطيني وترضيني فقال أملك هذه الديار وأكسر التتار وأحل الكفرة والعلوج دار البوار
فقلت له يا مفتون أنت مجنون أبقملك وقلك وفقرك وذلك تملك الديار المصرية وتصير سلطان البرية قال نعم ولا تعمل رغم فأني رأيت في المنام النبي عليه الصلاة والسلام وقال لي أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتر ولا شك فيما يخبر به النبي صلى الله عليك وسلم من خبر قال فامسكت عنه لأني كنت أعرف الصدق منه ئم تنقلت به الأحوال وتنقل إلى أن بلغ الكمال وتملك هذه الديار ثم كسر على عين جالوت التتار وأعطاني ما وعدني به وأرضاني (وإنما أوردت) هذه المثال لتعلم من سلطنتك غير محال وأنا أرجو الله تعالى أن ييسر لي القيام بجميع ما قلته لك يا إمام وأنا أجلسك على السرير وأقيم في خدمتك الكبير والصغير وارفع رأيه مراسيمك وانفذ أوامرها في ممالكك وأقاليمك واجعل جنود الوحش تحت رايتك وأقاليم القفار كلها تحت ولايتك ولكن بشرط أن تتبع ما أراه ولا تخرج عن طوره ولا تتعداه وتعمل بكل ما أشير إليه ومهما أرشدتك إليه تعول عليه فقال أنا طوع يديك وجميع أموري منك وإليك فقل فإني سامع ولأمرك طائع فانهض وعاني هذه الأماني عسى يصير هذا الباطل حقاً وينقلب هذا الكذب صدقاً وقل ما تقتضيه لاتبعه وارتضيه قال ترجع عما أنت عليه من الأخلاق السبعيه والأوصاف الكلبية من الحرص والشره والتكلب والتره والنفس المتنمرة والطبيعة
المذمرة وتصوم عن الدماء واللحوم وعن تمزيق الحيوانات وتفريق الجماعات وتحمل النفس على الأخلاق الجميلة والتلبس بالأوصاف الفضيلة من العفة والكرم والعفو عمن ظلم والقناعة بالنبات عن لحوم الحيوانات ومعاملة الكبير والصغير بالفضل الكثير والبذل الغزير وتلافي خاطر الخطير والحقير ليسهل العسير وينقاد لك المأمور منهم والأمير وهذا أمر عليك يسير وهذا لأنك طالما جرحت جوائحهم وكسرت جوارحهم واصطدت سارحهم وأبدت بارحهم فهم منك متخوفون وإلى الإيذاء والضر منك متشوقون وإذا رأوا شيا خلاف العادة وعلموا ولايتك فيها الحسنى وزيادة وأصابوا الخير من مواقع الضير ورأوا ما سر من مواضع الشر والضر تشرب محبتك منهم الكبير والصغير وأنهاك أن يراك من الوحوش العبر والنفير فيتخذك الغريبحبيباً ويصير البعيد منك قريباً فتصيد بالمحبة أرواحهم كما كانت أولا تبيد أشباحهم وإذا ضرب صيتك في الأرض ونثر دره بالطول والعرض وتسامعت بك الوفود وتحققوا انك عدلت عن خلقك المعهود أقبلت إليك منهم الجنود وزان جيد جنودهم من جواهر محبتك وانعقدت بينكم بالمحبة والولاء عقود العهود فتوفرت ذا ذاك جنودك وعلت على رؤس الأقران راياتك وبنودك وجعلوا دارك مأواهم وحماك مصيفهم ومشتاهم مع أن هيبتك في قلوبهم مركوزة وأسنة مخافتك في أحشائهم من قديم الزمان مغروزة وأعلى من فيهم يهابك ويخشاك ويتوقى مكانك ويتحاشاك
قال يسار أعلم يا خير سار أن حبال الآمال ومطامع الخيال ما لم تتعلق بمأمول ترتبط بأطراف سول فالنفس ساكنه
والروح مطمئنة هادنه والقلب فرح والخاطر منشرح إذا الطمع ذل وشين والياس إحدى الراحتين ومتى تعلقت بذيل المطامع مخاليب الآمال وبلغت إلى حصول ما مول الخيال. وقامت النفس في تحصيله وتحركت الجوارح لنيل ما موله وانبعثت الهمة إلى إدراكه وتعلق القلب بسير أفلاكه توزعت الأفكار وتفرقت وتمزقت الخواطر وتمزقت وركب لذلك كل صعب وذلول وتقاذفت النفس في كل مخوف ومهول وتقلدت بحمائل قول القائل:
إذا لم يكن عون من الله للفتى
…
فأول ما يجني عليه اجتهاده
ثم إذا لم يحصل المأمول ولم تبلغ والعياذ بالله النفس السول مع بذل هذا الجهد والمبالغة في السعي والكد ومقاساة التعب ومعاناة النصب ترادف النكد وتضاعف السهد وصارت النفس لهذا البدد وكان في جيد حياتها من فوات المقصود حبل من مسد فلا تزال بين تشويش شمائر وتقسيم خاطر وفكر غائب وهم حاضر وهذا الأمر الذي عرضت عليه وهممت بالترقي إلى الوصول إليه إلى عدم الحصول أقرب منه إلى الوصول وأنا أخاف وذا غير خاف أن يغرنا الطمع في هذه الحركة فينتزع من فراغ أوقاتنا البركة ولا نحصل إلا على مثل ما حصل لمالك الحزين من السمكة قال الزنيم نبئني أيها العليم بذلك المثل القويم (قال) بلغني أنه كان في مكان مكين ماوي لمالك وفي ذلك المكان غياض وغدران تضاهي رياض الجنان:
حكى بأنها قد الحبيب تمايلاً
…
فجن وفي هذا الجنون تفننا
فدار عليه النهر وهو مسلسل
…
فقيده إذ قد جتى وتجننا
وفي مياهه من السماك ما يفوق سابحات السماك فكان ذلك الطير في دعة وعير نرجى الأوقات بطيب الأقوات وكلما تحرك بحركة كان فيها بركة حتى لو غاص في تلك البحار والغدران لم يخرج إلا وفي منقاره سمكه فاتفق أنه في بعض الآناء تعسر عليه أسباب الغذاء وارتج لفوت قوته أبواب العشاء فكان يطير بين عالم الملك والملكوت يطلب ما يسد الرمق من القوت فلم يفتح عليه بشيء من أعلى السماك إلى أسفل الحوت وامتد هذا الحال عدة أيام وليال فخاض الرقراق يطلب شياً من الأرزاق فصادف سمكة صغيرة قد عارضت مصيره فاختطفها ومن بين رجليه التقفها ثم بعد اقتلاعها قصد إلى ابتلاعها فقد فتداركت زاهق نفسها قبل استقرارها في رمسها فنادت بعد أن كادت أن تكون بادت ما البرغوث ودمه والعصفور ودسمه اسمع يا جار الرضا ومن عمرنا في صونه انقضى لا تعجل في ابتلاعه ولا تسرع في ضياعي ففي بقائي فوائد وعوائد عليك عوائد وهو أن أبي قد ملك هذا السمك فالكل عبيده ورعيته وواجب عليهم طاعته ومشيئته ثم أني واحد أبوي وأريد منك الإبقاء علي فان أبي نذر النذور حتى حصل له بوجودي السرور فما في ابتلاعي كبير فائدة ولا أسد لك رمقاً ولا أشغل لك معده فتصير مع أبي الفضيل كما قيل فأفقرني فيمن أحب لا استغني فالأولى أن أقر عينك وأعرف ما بين أبيوبينك فاكون سبباً لعقود المصادقة وفاتحاً لإغلاق المحبة والمرافقة ويتحمل لك الجميلة والمنة التامة والفضيلة وأما أنا فأعاهدك أن أعتقتني ومننت وأطلقتني أن أتكفل كل يوم بعشر سمكات بياض سمان ودكات تأتيك مرفوعة غير ممنوعة ولا مقطوعة يرسلها إليك أبي مكافأة لما فعلت بي من غير نصب منك ولا وصب ولا كد تحمله ولا تعب
فلما سمع البلشون هذا المجون أغراه الطمع فما ابتلع فسها ولها ثم قال لها أعيدي هذه الرمزه فبمجرد ما فتح فاه بالهمزة أنملصت السمكة منه بجمزه وغاصت الماء وتخلصت من بين فكي البلاء ولم يحصل ذلك الطماع الأقطع الأطماع (وإنما أوردت) يا ذا الدراية هذه الحكاية لتتأمل عقبى هذا الأمر قبل الشروع فيه وتتدبر منتهى أواخره في مباديه فقد قيل أول الفكر آخر العمل (قال المشرقي) اعلم يا مرتقي إن مبنى الأمور في مجاريها وقواعد ما أسس عليه مبانيها تقدير خالقها وتدبير باريها وما حكمه وقضاه وأحكمه وأمضاه لكنه كتمة وأخفاه فلا تدركه العيون وإلا صار بل ولا البصائر والأفكار فانه علم غيب وجهلنا به ليس بعيب لأنه تنزه أحداً صمداً قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً كما قيل:
على المرء أن يسعى ويبذل جهده
…
وليس عليه أن يساعده الدهر
فإن نال بالسعي المنى تم أمر
…
وإن غلب المقدور كان له عذر
وإن الله العلي العظيم قد وضع أساس بنيان العالم على الأسباب وفتح لتعاطي الأسباب الأبواب فقال ذو الجلال والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا وقال فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وقال القائل:
إذا ما كانت في أمر مروم
…
فلا تقنع بما دون النجوم
يرى الجبناء أن العجز حزم
…
وتلك خديعة الطبع اللئيم
فطعم الموت في شيء حقير
…
كطعم الموت في شيء عظيم
وقال عليه الصلاة والسلام علوا الهمة من الإيمان والمرء يسعى في تحصيل مرامه ولا يترك شيأ من أسباب قيامه فان ساعده القدر بقدره إنقاذ إليه مرامه بشعره وكان مصادمة مساعده ومقامه ومعاضده كما قيل:
وإذا أراد الله نصرة عبده
…
كانت له أعداؤه أنصاراً
فيساعده إذ ذاك الكون والمكان ويمضي سهم أوامره رامي القضاء من قوس الزمان فيقيض له المساعد ويتعبد المقارب والمباعد وحسبك يا ذا الصوله ما اتفق من السعد لعماد الدولة فسأله يسار عن سرد هذه الأخبار (قال) كان رجل صياد له ثلاثة أولاد كأنهم حمك وقوتهم السمك تقلت بهم الأحوال حتى صاروا برياستهم على الدنيا أحمال وانتهوا في الرياسة وساسوا الحلق أحسن سياسه وانتشر أمرهم وطاب في الدهر ذكرهم ومما ملكوه العرافات والأهواز وفارس وسرتها شيراز
أكبرهم أبو الحسن علي بن بويه الملقب بعماد الدولة وكان في السلطانة ذا جولة وصوله ولما انتهت أيام خموله واتصل بالسعد أسباب وصوله حل ركابه بشيراز وصعد إلى حقيقة الملك من المجاز ووفدت عليه الوفود وأحاطت به جموع الجنود وطالبه أهل المراتب بالرواتب والروامك بالجوامك والرفاق بالأنفاق والأجناد بالأرفاد وأرباب الولايات بالخلع والجرايات وأصحاب الإقامات بالنفقات والأنعامات ولم يكن في خزائنه من ظاهر المال وباطنه ولا في ذخائره من ظاهر الرفد وضمائره ما يسد رمقهم ويرد شرقهم فتراكمت همومه وتصادمت غمومه وتوالت أفكاره وتجاذب به بحر الحيرة در دوره وتياره لأن أمره كان في مباديه وليل سعده في هواديه وقد قصرت عن طول الطول أياديه وأشرف أمره على الاختلال وملكه على الاضمحلال ووقع في يوم لا بيع فيه ولا خلال قد خل إلى مكان خال وهو مشغول البال فاستلقى فيه على ظهره وغرق في بحار فكره فبينما هو يلاحظ السقوف وأفكاره بين تردد ووقوف وإذا بحية عظيمة بجثة جسيمة من السقف خرجت ودرجت وفي مكان آخرولجت فوثب واقفاً ورقب خائفاً لئلا نسقط عليه ويصل أذاها إليه ودعا الفراشين وجماعة فتاشين بمعاول النباشين وأمرهم بنصب السلم والفحص عن الأرقم وتتبع آثارها وإطفاء سرارها فصعدوا الحيطان وحفروا ذلك المكان وخرقوا سقفه فانفتحت لهم غرفه كانت مخبأة لمن تقدمه وضع فيها ديناره ودرهمه وفيها عدة صناديق محكمات التوفيق والمعاليق فاطلعوه
على تلك الخبيه والتهوا عن طلب الحية والجبيه فأمرهم فنقلوها إليه ووضعوها بين يديه فإذا فيها من الذهب النضار خمسمائة ألف دينار فعرف أن ذلك عناية ربانية ومواهب صمدانية رحمانية فصرف المال في إصلاح حاله وبذره في مزارع قلوب خيله ورجاله فثبتت أوتاده واستقامت أجناده وقويت سواعده وأعضاده وكان أمره قد اشرف على الاختلال وعقد نظامه على الانفراد والانحلال وكان من تمام هذه السعادة وتعقيب هذه الحسنى بالزيادة أن الملك المذكور بعد هذه الأمور وحصول هذا السرور وانتظام مصالح الجمهور أراد تفصيل قماش وخياطة خلع ورياش فطلب خياطاً ثقة ليقلده هذه المنطقة فارشد إلى خياط ماهر شكله زاهر وفضله ظاهر وحذقه في صناعته باهر إلا أنه أطروش حقل سمعه بدبي الوقرمد بوش فما يصل ملك الكلام إلى سرير صماخه إلا بزمر وطبل وجاووش فدعاه فأجلسه بين يديه وطلب الثياب ليعرضها عليه فتصور الخياط أنه سعى به إليه بسبب وديعة كانت لصاحب البلد لديه وإنما طلبه ليطالبه فأما أن يؤديها أو يعاقبه فتقدم باليمن مثل المصارعين واقسم بالله خالق المخلوق ورازق المرزوق أنها اثنا عشر صندوق لم يشعر بها مخلوق وأنه لا يدري ما فيها وأنها مختومة بختم معطيها فتعجب عماد الدولة من كلامه وسجد لله شكراً على إنعامه
ثم وجه معه من أتى بها ودخل إلى بيوت ما فيها من أبوابها فكان ما فيها من الأموال ونفائس القماش العال جمل متكاثرة وأصناف متوافرة واستولى على ذلك كله وثبت بواسطة المال في ركاب الملك واطئ نعله (وإنما أوردت) هذا التنظير يا ذا الرأي والتدبير لتعلم أن سبب الأسباب وميسور الأمور الصعاب إذا دبر مصالح عبده وشمله بإحسانه ورفده هون عليه عسير وصغر عنده كل كبير وأنت بكل هذا بصير قال يسار صدقت صواباً نطقت ولكنني نظرت إلى الدنيا ورزت أحوالها السفلى والعليا ورأيت كلما زاد الشخص حرصاً وطمعاً ازداد لنفسه عبودية وتبعاً وللدنيا رقاً وللآخرة رشقاً فصارت قيوده أثقل وحسابه أشدو وأطول وهمومه أتم وغمومه أعم وأن الواثق بالدنيا والراكن إلى ما فيها من أشيا كالجاعل له من السحاب حصناً ومن الحباب كنا ورأى وقاية تحصل من السحاب وأي إيواء بصدر من الحباب ومن تأمل الدنيا بعين التبصير وتفكر في تقلباتها بمصيب العقل والتدبير عد جمعها شتاتاً ووصلها أنبتاتاً
ومجيئها ذهاباً وشرابها سرابا وإقبالها أدباراً ونسميها إعصاراً وعطاءهم أخذا وعهدها نبذا وصلتها فلذا ووهبها نهباً وايجابها سلباً وحربها سلماً ووجودها عدما وكثرتها فلا وعزها هاذلاً وضحكها نياحه وطلاقها راجة فلم يكن عنده أحسن من فراقها ولا أرصن من طلاقها والقناعة منها بالكفاف والرضا منها بالعفاف كما سلك الفلاح صاحب الماشية واستراح فقال الزنيم أخبرني كيف كان ذاك يا حكيم (فقال) إن مخدومي الذي كنت عنده أحفظ ما شيته وعبده كان ذائروة عظيمة وأموال كثيفة جسمه وكانت ماشيته لا تزيد عن
ألف رأس وأن حصل من النتاج المعهود ما يزيد على هذا القدر المعدود تصدق به أو باعه أو وهبه لبعض الجماعة ولو أراد لجعلها ألوفاً مؤلفة وأضعافاً مضاعفة وكان في الجيران والأصحاب والأخوان من هو أقل منه مالاً واقصر باعاً وأضيق مجالاً له الألوف من المواشي وكذلك من الخدام والحواشي وهم في كل وقت في ازدياد وتضاعف الأعداد من الأصول والأولاد ومخدومي لا يقصد الزيادة وأن زاد شيء أباده فقال له الراعي وكان عليها أشفق ساعييا مخدوم ما لك لا تريد أن تزيد مواشيك وحواشيك وتكثر بالرفق والرفد فواشيك وبالورد والإصدار غواشيك فان المواشي تزداد فوائدها وتتوفر عوائدها باعتبار زيادة أصولها وإدرار منافعها ومحصولها وجيراننا كانوا أقل عدداً من هذا المقدار فصاروا بالتوفير أكثر عدداً في الأغنام والأبقار فزادوا على مواشينا بعد أن كان أوساطهم كحواشينا ولا أعرف لهذا موجباً ولا أدري له سبباً غير الإهمال وقصد تضييع المال فقال له مخدومي هذا محيط به معلومي ولكن أيها الولد أعلم أن أنواع العدد آحاد وعشرات وألوف ومئات فألوف غاية الأعداد إذا اعتبرنا التعداد والشيء إذا جاوزنا غايته وتعدى نهايته أخذ في النقص وإذا بلغ مداه تراجع بالنكص وقد قيل الشيء إذا جاوز حده شاكل ضده ومن لم يقنع بالقليل لم يرض بالجزيل ولقد أحسن المقال وصدق فيما قال من قال:
وما الدهر إلا سلم فبقدر ما
…
يكون صعود المرء فيه هبوطه
وهيهات ما فيه يزول وإنما
…
شروط الذي يرقى إليه سقوطه
فمن كان أعلى كان أوفى تهشماً
…
وفاء بما قامت عليه شروطه
وكثيراً ما رأيت وسمعت ووعيت عن أصحاب الألوف القاصدين
لازدياد المألوف نزلت ألوفهم إلى الواحد من الآحاد فاستولى عليهم لذلك الهموم والإنكاد فتكدرت خواطرهم واشتغلت ضمائرهم وأما أنا فلم أعلم أن ألفى نقص ولا جاري حلبة مداه نكص فإذا عدا غايته ألزمته نهايته وكبحث جامح طرفه وكففت طامح طرفه طلباً للراحة ورغبة في الاستراحة:
فكم دقت ورقت واسترقت
…
فضول العيش أعناق الرجال
(وإنما) أوردت هذا التمثيل لتعلم يا ذا التفضيل أني ما دمت له خادماً وفي وصف الخدمة قائماً ولم أتعد طوري وهو مقام الخادمية إلى ما ليس لي وهو مقام المخدومية فأنا مستريح ولغيري مريح ونفسي مطمئنة وجوارحي عن طيش السعي مرجحنه وأصحابي أحبابي وأحبابي أصحابي والخواطر صافيه والمحبة وافيه والصداقة باقية ومياه المودة في رياض الأرواح صافيه وفي عروق الأشباح واقفة جاريه فإذا رمت مع وجود هذه الحسنى الزيادة وقصدت التعدي إلى ما ليس له به عاده فأنا بين أمرين متقلب على جمرتين أما عدم الحصول والانقطاع عن الوصول فتتضاعف المكدات وتترادف المقسمات وبحسبها تصل الهموم وتحصل الغموم كما مر سالفاً وذكر آنفاً وأما الظفر بالمراد على حسب ما يراد فبقدر ذلك يقع الصداع ويقوم التحاسد والنزاع وأول ذلك معاداة الأصحاب ومعاناة الأحباب ومقاسات الأتراب وحصول الضغائن وبروز المكامن بواسطة الترفع عليهم وصدور المراسم والتقدم بامتثالها إليهم فالأولى بحالي التفكر في مآلي واللائق بشورى أن لا أتعدى طوري ولا أتورط في هذا البحر العميق والبئر العميق ولا أخرج عن سواء الطريق فتهوي بي طير الهوان في مكان سحيق:
وإني يسار خائف أن يردني
…
زماني بما لاقى يسار الكواعب
قال المشرقي أبو زنمه ما أحسن هذه الكلمة وأيمن هذا النظر وأرصن هذه الفكر وأدق معاني هذه المباني ولكن إذا رفعك الله من يضعك وإذا أعطاك من يمنعك وقد قال ذو الجلال ما يفتح الله للناس من رحمة فلا يمسك لها وقال صلى الله عليه وسلم اللهم لا مانع لما أعطيت:
وكل الناس تطلب المعالي
…
ونفس الحر تأبى أن تضاما
فلما بلغ بهما الكلام إلى هذا المقام قال يسار أعلم يا فحل الفحول وإمام المعقول والمنقول أني ما بالغت في الامتناع إلا لأقف على ما فيك من طباع أسير ثبوت قدمك وثباتك وراء كلمك فلقد وجدتك في هذا الأمر الخطير فوق ما في الضمير وفي مواطن الاختبار أثبت جناباً من ابن الليث الصفار فانهض لقصدكوحركته على خيره الله تعالى وبركته فأني وضعت عنان جموح هذا المرام في بد تدبيرك وجعلت واسطة هذا العقد جوهرة تفكيرك وسلك نظامه ونظام قلادته جودة تصويرك فأنك أهل لذلك وبرأيك تقتدي المسالك فابتهج أبز زنمة بهذا المقال ووثب قائماً في مقام الخدمة وقال حيث انشرح صدرك لكلامي فسترى في وجهك مجالس قيامي وأنا أعلم أن معبودك سيبلغك مرامك ومقصودك ولكن يجب التيقظ وقبل الشروع التحفظ أما لتيقظ فلأمور يجعلها الملك مقتدى ولا يغفل عنها أبداً كما فعل الملك الظاهر الموفق أبو سعيد محمد جقمق حين اضطربت الأوامر واختلفت العساكر واصطدمت الأمور وخرج عليه من عساكره الجمهور وقل المعين وذلك في سنة اثنتين وأربعين فعصى تنكري وتترس في حلب وقام بالراكمة الجلب
واينال الحلمى بالشام وكاتبه الطغام والعظام وهرب بالقاهرة العزيز وأزت الشياطين فاشتد الأزيز وتخبط بالصعيد العربان وفشا في عساكر الإسلام الطربان فسفه الحليم وحار الحكيم وضل كل ذي رأي قويم فثبت الملك الظاهر جاشه وتعرف إلى الله تعالى فأزال استيحاشه وأصفى سرائره ولم نزل سيرته ظاهره فكان الله عونه وناصره فأطفأ بأدنى لطفه شواط تلك النائره وقد بسط ذلك في سيرته الظاهرة فتبدل الجحيم بالنعيم ورفع الله تعالى عن الإسلام والمسلمين العذاب الأليم كل ذلك بثبات القدم وعلو الهمم ولم تحصل هذه الفعلة الذكية الرائحة إلا بالطوية الطيبة والنية الصالحة وأما التحفظ فمن مواد شرور ملتبس بها الجمهور منها لحقد والملال والكذب في المقال والحسد والاحتيال فأن الحقود وقود والحسود لا يسود والكذوب يذوب والملول لا يطول والمحتال مغال وباقي النصائح الذكية والروائح تأتيك بالسعد فيما بعد وأنا الآن أقدم للبيان وأذكر الأهم وما فائدته أعم قبل الشروع أمام المقصود وهو تأكيد مواثيق العهود فأنه إذا حفتك الجنود وأحاط بك أرباب الرايات والبنود وأنت جالس على السرير وفي خدمتك المأمور والأمير والكبير والصغير يعسر على استيفاء الخطاب واستيعاب الجواب ولا يليق بعظمتك ومقام حرمتك إطالة الكلام ولو اقتضاه المقام خصوصاً بحضور الخاص والعام ولو كان المتكلم أعز الخدام وأقرب الإلزام فلا أقدر أن أتجرأ عليك وأنهي جميع ما أريده إليك لأن قصد الخادم إقامة حرمة مخدومه والمبالغة في حفظ ناموسة وتعظيمه وكثرة الكلام تمنعه عن هذا القصد وتدفعه وأما في هذا الوقت فأن كثير كلامي لا يورث شيأ من المقت فلا حرج على كلامي كيفما خرج
قال يسار بارك الله فيك وأبقاك لذويك فما أدق نظرك وأحسن في عواقب الأمور فكرك وأصوب غوصك على جواهر الانتقاد واغرب بوصك إلى زواهر الاعتقاد فقل ما بدا لك مما يزين حالي وحالك فان حرمتي حرمتك وحشمتي حشمتك فإن عظمتني عظمت نفسك وإن وفرت مالي فقد زدت كدسك والخادم إذا لم يقصد رفعة مخدومه ويعد ذلك من أكبر همومه ويسعى فيه ساعة فساعة وفي كل مكان وعند كل جماعه وإلا فيدل ذلك على خساسة مقداره وقصور نظره ولؤم نجاره وركاكة همته واستبذال حرمته فقال أبو زنمه أول شروطي يا ذا العظيمة أن لا تقرب المؤذين ولا تلتفت إلى الأشرار المغتابين ولا تضيع الأوقات في الإصغاء إلى القينات ولا تسمع كلام واش وتعد كلامه أقل من لاش ثانيها أن لا تعجل في فصل الحكومات بل تتعاطاه بالتفتيش والالتفات إلى أن تتجلى صورتها وتتعين حقيقتها فإذا وضحت لديك وتخلت مخدرة حقيقتها عليك أجهد فيها بالصدق وأعمل بما يقتضيه الحق ثالثها أن لا تعود لسانك الفحش والبذاءة فان في ذلك على الملك أسوأ إساءة فان الكلام يؤثر في القلوب وينفر من قبحه الطالب والمطلوب وقد قيل:
جراحات السنان لها التثام
…
ولا يلتام ما جرح اللسان وقد قيل إن عيسى عليه السلام مر بجماعة في بعض الأيام فصادفوا كلباً أجرب فقال له سلمك الله أذهب فقال كل من أصحابه مما كان معبي في جرابه من الاستيقاض وطلب البعد عنه والمناص وما سلموا إلى عيسى حاله بل سألوه عن كلامه له وما دعا له
فقال أني عودت لساني ببيان ما في جناني وهو المقاصد الحسنة وترك الألفاظ والعبارات الخشنة وقيل أنه مر في بعض الأوقات ومعه جماعات بكلب من الأموات ملقى على مزبلة في جملة القاذورات فوضع كل منهم يده على خطمه وتكلم في رائحته عند شمه فقال عيسى عليه السلام ما أحسن بياض أسنانه فقيل له عما سمع من بيانه فقال عودت لساني بلفظ الخير وإن لا يتكلم بما فيه ضير وكما يجب على الملك كف اللسان الفصيح عن الكلام البذي القبيح كذلك يجب عليه أن لا يصغي إليه ويتأمل قول الشاعر:
وسمعك صن عن سماع القبيح
…
كصون اللسان عن النطق به
فانك عند سماع القبيح
…
شريك لقائله فانتبه
ووجد في كتاب آداب الصحبة لأبي عبد الرحمن السلمي بيت ثالث:
وكم أزعج الحرص من طالب
…
يوافي المنية عن مطلبه
وهذا الأمر يا مخدوم لكل أحد معلوم على العموم وأما أكابر السلاطين والملوك الأساطين فهم أعلى مقاماً أن يكون الفحش لهم كلاماً وأن يجري في مجالسهم أو يسمع من محادثتهم ومجالسهم وكل ملك اعتاد مجلسه فاحش الكلام اختل نظامه ومقته الخاص والعام ونفرت عنه قلوب الرعية وبحسب رغبة الرعية تكون الممالك راضية مرضية وإذا نفرت
قلوب الرعية كرهوه وتوقعوا غيره ليقوموا معه وينصروه وإذا لم يوجد عقدوا الحقود واستمروا أذلاء كاليهود والبغضة كامنة والخسائف باطنه فتقدم العداوة وتتقدم وتنأكد وتتأزم وإذا قدمت العداوة ذهبت من الصداقة الحلاوة فلا بد يوماً من الأيام أن تبرز رأسها من جيب الانتقام وإذا وجدوا فرصة وثبوا عليه وقصد كما جرى للغريرة مع الهريرة قال بسار بين لي هذه الأخبار (فقال) ذكر شخص معتبر من رواة الخبر أن في القديم كان رجل عديم وعنده قط رباه وأحسن مرباه فكان عنده كالولد الأعز وأكرم من ابن الفرات عند ابن المعتز وكان القط قد عرف منه الشفقة وألف منه المودة والمقه فكان لا يبرح عن مبيته ولا يسعى لطلب قوته فحصل له هزال وتغير ما له من أمر وحال لا عند صاحبه ما يغذيه ولا هو ذو قوة عن الاصطياد تغنيه إلى أن عجز عن الصيد فصار يسخر به من أرذال الفيران كل عمرو وزيد وصار كما قيل:
خلت الرقاع من الرخا
…
خ وفرزنت فيها البيادق
وتسابقت عرج الحمي؟ ر فقلت من عدم السوابق
وسطا الغراب على العقا
…
ب وصاد فرخ البوم باشق
سكتت بلابلة الزما
…
ن وأصبح الخفاش ناطق
وأيضاً:
وإذا خلا الميدان من أسد
…
رقص ابن عرس ونومس النمس
وكان في ذلك المكان مأوى لرئيس الجرذان وفي جوار مخزن للسمان فاجتر الجرذان لضعف أبي غزوان وتمكن من نقل ما يحتاج إليه وصار يمر على القط آمنا ويضحك عليه إلى أن امتلأ وكره من أنواع المآكل والمطاعم وحصل له الفراغ من المخاوف والمزاحم واستطال على الجيران واستعان بطوائف الفيران على العدوان فافتكر الجرذان يوماً في نفسه فكراً أداه إلى حلول رمسه وهو أن هذا القط وإن كان عدواً قديماً ومهلكاً عظيماً لكنه قد وقع في الانتحال وضعف عن الاصطياد لقوة الهزال وقوتي إنما هي بسبب ضعفه وهذا الفتح إنما هو حاصل بحتفه ولكن الدهر الغدار ليس له علىحالة استمرار فربما يعود الدهر عليه وترجع صحته وعافيته إليه فان الزمان الكثير الدوران يتهب ويهب ويعطي ما ساب ويرجع فيما وهب كل ذلك من غيره وجب ولا سبب وإذا عاد القط إلى ما كان عليه يتذكر من غير شك إساءتي إليه فيثور قلقه ويفور حنقه ويأخذه لاذاى والانتقام سهره وأرقه فلا يقر لي معه قرار فاحتاج بالاضطرار إلى التحول عن هذا الديار والخروج عن الوطن المألوف ومفارقة السكن المعروف أمر صعب مشوم الكعب فلا بد من الاهتمام قبل حلول هذا الغرام والأخذ في طريقه الإخلاص قبل الوقوع في شرك الاقتناص ثم أنه ضرب أخماساً لأسداس في كيفية الخلاص من هذا البأس فاداه الفكر إلى إصلاح المعاش بينه وبين أبي خراش ليدوم له هذا النشاط ويستمر بواسطة الصلح بساط الانبساط فرأى أنه لا يفيد ما يريده إلا بزرع الجميل من كثير وقليل خصوصاً في وقت الفاقة فانه أجلب للصداقة وأبقى
في الوثاقة ثم بعد ذلك يترتب عليها العهود ويتأكد ما يقع عليه الاتفاق من العقود وهو أن يلتزم الجرذان أن يقوم لأبي غزوان في كل غداة من طيب الغذاء ما يكفيه لغداء وعشاء لأن الشيخ في الدرس قال خير المال وما وقيت به النفس إلى أن يصح جسده ويرد إليه من عيشه رغده ويكون ذلك سبباً لمعقود الصداقة وترك العداوة القديمة المساقة وأن تشترط دوام المحبة وازدياد الوداد والصحبة وأن لا يقصد أبو الهيثم أبار راشد بشيء من الأذى والشرور والمفاسد ويعمل هذا الهر بموجب ما قال الشاعر:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا
…
من كان يألفهم في المنزل الخشن
ثم إن الجرذان جمع من الأخباز والأجبان واللحم القديد والمطعم المزيد ما قدر على حمله ونهضت قوته بنقله وقصد مقام الهر وسلم عليه السلام مكرم مبر محب قديم وصديق حميم وقدم ما معه إليه وترامى بكثرة التودد والاشتياق عليه وقال يعز ويعظم لدي أني أراك يا خير جار في هذا الضرر والأضطرار ولكن العاقبة إلى خير وسيقبل السعد بأحسن طير فتقدم أيها الخيطل وكل من هذا المأكل فإذا سددت خلتك كلمتك بشيء أستشير به خدمتك فانه قد قيل:
أن الصداقة أولاها السلام ومن
…
بعد السلام طعام ثم ترحيب
وبعد ذاك كلام في ملاطفة
…
وضحك وثغر وإحسان وتقريب
وأصل ذلك أن تبغي شمائلها
…
بين الأحبة تأييد وتأديب
لم تنس غيباً ولم تملل إذا حضروا
…
قد زان ذلك تهذيب وترتيب
إن الكرام إذا ما صادقوا صدقوا
…
لم يثنهم عنه ترغيب وترهيب
فتناول القط من تلك السرقة ما سد رمقه وشكر للجرذان تلك الصدقة ولما أكل فمه استحيت الحدقة ثم قال له أنشد ما أنت ناشد يا أبا راشد قال إن لي عليك من الحقوق مثل ما للجار الصدوق على الجار الشفوق وأردت أن يتأكد الجوار بالصداقة وتتراقى إلى درجة المحبة بأوثق علاقة وأن كانت بيننا عداوة قديمة فنترك من الجانبين تلك الخصلة الذميمة ونستأنف العهود على خلاف الخلق المعهود وتدبير الأمور على مصلحة الجمهور ونبني القاعدة في البين على ما يعود نفعه على الجانبين وأذكر بك أشياء تحملك على ترك خلقك القديم وتهديك في طريق الإخاء إلى الصراط المستقيم وهو أن أكلي مثلا ما يغذي منك بدناً فضلاً عن أن يظهر فيك صحة وسمناً ولكن أن أمنتني مكرك وأعملت نظرك وفكرك ثم رغبت في صحبتي وعاهدتني على سلوك طريق مودتي وأكدمت أي أبا غزوان ذلك بمغلظات الأيمان إلى أن أستوثق باستصحابك وأبيت آمنا في مجيئك وذهابك ولو كنت بين مخالبك وأنيابك فأني ألتزم لك في كل يوم إذا استيقظت من النوم بما يسد خلتك ويبقي مهجتك صباحاً ومساء وغداء وعشاء وإن قلت أن ذلك شيء مجهول فأنا أقدره بنظير هذا المأكول فان هذا الغذاء يكفيك عشاء وغداء وماقصدت بذلك إلا رعاية لحق الجوار ولقد آنستني تسبيحك بالليل والنهار وأظن وظني لا يخيب أنك تبت إلى الله ورجعت من قريب وكففت عن أذى الجيران وعففت عن أكل الفيران ثم أعلم يا أسد الضياون أن لي من هذه المؤنة عشر مخازن قد أعددتها لمثلك وأنا أقدمها لمنزلك وادخرها لأجلك والقصد أن أكون آمناً من سطواتك ساكناً في صدمات حركاتك وذلك إنما يعلم بتأكيد الإخاء وتأييد المحبة والولاء فلما رأى الهر هذا البر أعجبته هذه النعم وأطربه هذا النغم وأقسم
طائعاً مختاراً ليس إكراهاً ولا إجباراً أنه لا يسلك مع الجرذان إلا طريق الأمان والإحسان وأنه لا ينوء إليه بقصد سوء بحيث تتأكد المحبة وتزداد الصداقة والصحبة فرجع الجرذان وهو بهذه الحركة جذلان وصار كل يوم يأتي أبا غزوان بما التزم به من الغداء والعشاء كل صباح وعشاء إلى أن صح القط واستوى وسلمت خلوات بدنه من الخو والخوا وصارت المحبة تنعه بكل يوم عقد مجدداً ويزداد كل منهما في الآخر محبة وتودداً وكان لهذا القط ديك وهو صاحب قديم وصديق نديم كل منهما يأنس بصاحبه ويحفظ خاطره بمراعاة جانبه للديك تعويق عن زيارة الصديق فغاب عنه مدة وكل منهما للفراق في شده فلم يتفق لهما إلا وقد حصل للقط الشفاء وزال الشقاء فسأل الديك صاحبه بماذا صارت علته ذاهبة وذاك الهزال بأي شيء زال فاخبره بأحوال الجرذ أبي جوال وأنهى أمره من الأول إلى الآخر وبالغ في الشكر في الباطن والظاهر وأنه كان سبب حياته ونجاته من مخاليب مهلكاته وأنه لم يكن مثله في الأصحاب وقد صار أعز الأصدقاء والأحباب فغار الديك على الصاحب القديم وأختشى أن يفسد ما بينهما المفسد الذميم فضحك مستغرباً وصفق بجناحيه متعجباً فقال له مم تضحك فقال من سلامة باطنك وانقيادك لمداهنك وحسن صنائعك مع المنافق مخادعك ومكارم أخلاقك مع ناقض ميثاقك وإصغائك لهذا الخبيث بمشوه الكلام ومموه الحديث ومن يا من لهذا البرم الواجب القتل في الحل والحرم المفسد لفاسق المؤذي المنافق الذي خدعك حتى أمن على نفسه واستطرق بذلك التمكن من أذاه ونحسه فتسلط الأذى كما يختار وانهمك في الشر آمناً منك البوار كل ذلك بسببك
ومكتوب في صحائف كتبك مع أنك بمشكور ولا بالخير مذكور وأن الذي شاع وذاع وملأ عنك الأسماع أنك ستحل عقده وتنكث عهده وتنقض الإيمان وتجازي بالسيئة الإحسان وأنه لم ير منك ما يسره وهو متوقع منك ما يضره وأعظم من هذا أنه آذى وحشر فنادى وبالشر بادي فقال أنه أحياك بعد الموت وردك بعد الفوت ولولا فضله عليك وبره الواصل إليك لمت هزالاً وجوعاً ولما عشت أسبوعاً ولكنه أشبع جوعك وجلب هجوعك واستنفذ من مخاليب المنية بعد ذهابك رجوعك فشفاك وعافاك وصفا لك وصافاك وكفاك وأنك كافيته مكافأة التمساح وجازيت حسناته بالسيآت القباح ولم يكن لإحسانه إليك ولا لما من به عليك سبب ولا علاقة سوى طهارة نفس زكت أخلاقه ولا لإساءتك إليه سبب تنقم به عليه إلا ما أسداه من مكارم شيمه الواصلة إليك وفوائد نعمه السابغة عليك وقد أشاع هذا كله في الشوارع والحارات خصوصاً في هذه المحلة ثم أقسم بمن عطفه عليك وساق
فضله إليك وجعلك محتاجاً إلى نواله وأسبل عليك لباس صدقاته وافضاله ليستوفين منك ما صنعته وليحفظن عليك ما عليه ضيعته وليوقعنك في طوى بليه يعجز عن خلاصك منها كل البرية فليريحن منك جنس الفار وليخلدن ذكر هذه القضية في بطون الأسفار وبالجملة فهل سمعت أن جرذناً صادق هره أو اتفق بينهما مرافقة في الدنيا ولو مره ومناصحة القط والفار كمصادقة الماء والنار:
فأنت كواضع في الماء جمراً
…
وأنت كمودع الريح الثرايا
فلما سمع القط هذا الكلام تألم باطنه بعض إيلام وما صدق ولكن ظن واشتغل خاطره لأمر عن وتلهبواشتغل ومن يسمع بخل وقال للديك جزاك الله عني خيرا وما أكثر شفقتك طيرا ولكن من قال لك هذا المقال
قال أنت محب وعلى مودة الجرذان مكب وقد قال سيدا لعرب والعجم صلى الله عليه وسلم حيك للشيء يعمي ويصم وقال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب عمية
…
كما أن عين السخط تبدى المساويا
ولقد غرك بلقيمات من الحرام والسحت المنغمس في الآثام وجعلها بمنزلة حبة الفج فلا تشعر بها إلا وأنت في السلخ وقد وقعت ولا رفيق ولا أخ هناك يعرف تحقيق هذا الكلام ولكن أنت الآن راقد مثل النيام والكلام ما يفيد ولا بد أن الله تعالى يجري ما يريد وما في إشاعة الكلام طائل وكأنك أنت القائل:
ظن العذول بان عذلي ينفع
…
قل ما تشأ فعلي أن لا أسمع
وما قلت لك هذا الكلام إلا من فرط الشفقة والضرام ورعاية لحق ما وجب علي من القيام وحفظاً للصداقة القديمة والمودة التي سحائبها ديمه وأنا لو غششت كل أحد ما خطر لي أن أغشك وأنا لا استشهد على صدقي إلا يقينك الساكن عشك فرجح جانب صدق الديك كفاك الله شر من يؤذيك وقال القط في خاطره بعد ما أجال قداح ضمائره هذا الديك من حين انفلقت عنه المبيضة وسرحت أنا وإياه من الصدقة في روضة ما وقفت له على كذب ولا سمعت عنه أنه لزور مرتكب مع أنه مؤذن أمين بين ظهور المسلمين وهو بالصدق قمين وما حمله على هذا إلا المحبة وقديم المودة والصحية وهو أبعد من أن يكذب ويخدع وأي قصد له في أن يغش ويتصنع
وتردد أبو هريرة في تيه الخيرة بين الديك والفريره ثم قال للديك وقاك الله شر أعاديك فكيف أعرف صدق هذا الحبر وهل للدلالة على سوء طويته علامة تنتظر قال نعم ورب الحرم علامة ذلك أنه إذا دخل عليك ونظر إليه أن يكون منخفض الرأس مجتمع الأنفاس متوقعاً حلول نائبه أو نزول مصيبة صائبة أو شمول بليه غائبة ملتفتاً يميناً وشمالاً متخوفاً نكالاً ووبالاً طائفاً يتنقب خائفاً يترقب وذلك لأنه خائن والخائن خائف وهذا بائن وبينما هما في المحاورة والمناظرة والمشاورة يتجاذبان القيل والقال دخل المفسد أبو جوال وهو غافل عن هذه الأحوال فرأى أبا القيظان يخاطب أبا غزوان فخنس وقهقر وتخوف وتشور وهو غافل عما قضاه الله وقدر فاشمأز لرؤيته الديك وابرأل وانتغض واشمعل فارتعد الجرذان من شيخ الديكة لما رأى منه هذه الحركة وانتفش وانزوى وتقبض وزوى وأشبه بغدادياً بلع الدوا ونظر يميناً وشمالاً كالطالب للمفر مجالاً والقط يراقب أحواله ويتميز حركاته وأفعاله فتحقق ما قاله أبو سليمان ونظر إلى الجرذان نظر الغضبان وهمز واكفهور ورقصت شواربه وابزأر فاضطر الجرذان وطلب الأمان فنسي السنور العهود والأيمان ونفض عرق العداوة القديمة والعدوان وطفر على الجرذان وأدخله في خبر كان وأخلى منه الزمان والمكان
(وإنما أوردت) هذا التنظير أيها الصاحب البصير لفائدتين جليلتين عظيمتين إحداهما الإعلام بالتحقيق إن العدو العتيق لا يتأتى منه صديق ثانيتهما الإعلام بان الواجب على الحكام أن لا يعجلوا بالانتقام فربما يورثهم الاستعجال الندامة في المآكل في حالة لا يفيد العذل والتنفيذ وعند ذلك لا يمكن التدارك بل إذا نقل إليهم وأورد عليهم ما يثير الغضب ويحمي سن نار السخط اللهب لا يفلتون زمام التثبيت والتفكر من أنامل التأني والتدبر خصوصاً السلاطين والملوك الأساطين فان قدرتهم واسعة وأطراف أوامرهم شاسعة وأوهاق اختيارهم طويلة ومراعي المراد لمرامهم منيله وآدان الكون لأوامرهم سميعة وعين المكان لمراسيمهم مراقبة مطيعة فمهما أرادوا من النفع أوصلوا ومهما اختاروا من الضر فعلوا وذلك في كل حسن ممسين أو مصبحين ولذلك قالوا القاضي لا يحكم حكماً إلا وهو راضي ولا يحكم وهو غضبان وهو مشغول الخاطر ولا غرثان فان وجدوا طريقاً إلى الخير بادرواإليه وإذا قصدوا إيقاع شر توقفوا لديه ولا يهملوه بل يسبروا غوره إلى أن يقفوا عليه فربما يكون من مداخله عدوا أو حاسد بتعاطي من له غرض فاسد ثم أعلم يا ذا التبصرة والتذكرة أنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره فلما وعى يسار هذا الحوار قال ما أزهى هذه النصائح وأزكى ما لها من روائح وأنا أقبل عليها وأقبلها ولا يزال مرتشف سمعي مقبلها وعلى ذلك أعاهدك ومهما رأيت غيره أعاقدك فانه للملك المصلحة وللملك زين ومسلحة وأيضاً فاشترط ما بدا لك مما يزين حالك ويصون مالك ومآلك
قال وأريد أن تكون حرمتي موفره وكلمتي معتبرة ومنزلي على أقراني مرتفعة ومكانني في الممالك متسعة بحيث تكون مزيتي ظاهره ومرتبتي لاكفائي باهرة وكلامي في محل الإصغاء والقبول متصلاً بالنجاح في السؤال والمسؤل فان حسن العهد وحفظ الود ورعاية الحقوق القديمة السابقة والخدمة المستمرة المتلاحقة دليل على كمال المروأة والوفاء ونهاية لعتوة والصفاء لا سيما من الملوك والأكابر في حق خدمهم الأصاغر ففي الحقيقة رفعة الخادم وكمال حرمته من رفعة مخدومه وعزته وكل من رفع قدر خدمه وحافظ على حفظ حشمه ومنع جانبهم ورعى حاضرهم وغائبهم إنما حفظ أطراف حشمته وراعي جانب عظمته وحرمته وكل كبير امتهن خدامه وأذل جماعته
وقوامه ولم ينزل منازلهم ولا عرف فضائلهم وساوى باواخرهم أوائلهم فإنما أضاع مكانة نفسه ولم يفرق في الفكر بين نومه وغده وأمسه وإذا لم يصغ الملك لكلام الوزير واستقل بأوضاع ناصحه والمشير فابتذله وانتهز واستقله واحتقره خصوصاً في المجامع والمحافل بين العساكر والجحافل فأي حرمة تبقي له عنده البقية من سائر الخدم والرعية وأي مرسوم كلام يسمع له عند العوام فيتكدر خاطره وتتغير سرائره فيدعوه ذلك والعياذ بالله إلى شق العصا إذ صار على باب مخدومه معلقاً كالخصي وقدره في المكانة وقوله في البلاغة صار كالزيف في الصاغه والغسو في الدباغة وناهيك أيها الخبير ما قالته لامها الزاغه قال يسار أخبرني بذلك يا جهينة الأخبار (قال) ذكر أن زاغه في بلد مراغه انتشى لها فرخه انتشر لها بين الطيور صرخه وكانت ذات بهجة لطيفه وصفات ظريفة وتربت بتيمة
بالدلال وجمعت بين فنون الكمال فلما بلغت مبلغ الزواج خطبها من صنوف الطير الأزواج وترادفت عليها الخطاب ودخلوا على أمها في ذلك من كل باب فكانت تأبى عليهم ولا تلتفت إلى بذلهم ولا إليهم إلى أن بلغ خبرها إلى بومة كريهة الوجه مشومه بينها وبين أم الزاغه صداقة قديمه فخطبتها لأبنها وأبانت للطير مزيد غبنها فاستشارت الأم ابنتها وأظهرت في ابن البومة رغبتها وقالت أي ربيبة الخير قد رغب فيك أصناف الطيور فكنت أدافعهم وأسوف بهم وأمانعهم وقد اشتهر صيتك بين الكبراء وخطبك مني الأمراء والوزراء وأنا على المطاولة والرد والمقاولة وقد استحييت منهم واختشيت غائلة ما يصدر عنهم ولم أفعل ذلك إلا عارية لحالك وخوفاً من زوج ظالم بقدرك غير عالم يستضعف جانبك ويكره أهلك وأقاربك ثم لا نقدر على مقاومته ونتعب في مرافقته ومفارقته لا سيما أن صار بينكما معاشقه فيصير نكاحكما الدماشقه كل يضمر السوء لصاحبه حالة المعانقة كل يا أحسن معنى بما قال الشاعر:
رأيت الذي لأكله أنت قادر
…
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ونعوذ بالله من اختلاف الوداد وأن يصبر نكاح السنة كنكاح أهل بغداد فأن صادفتما في محله مثلي أبي بكر الرباني ودله أو مثل الفرغاني وعلى أو جارة تشبه عيشة تلي خرجتما من يدي وزدتما نكدي فكنت لهذه الأمور أخشى تقلبات الدهور وأرد خطاب الجمهور وقد خطبك يا كريمة ابن صاحبة قديمة وهي البومة الفلانية وهي صاحبة هنيه وأخلاق ابنها رضيه وهو شخص فقير الحال حقير نقلبه في أيدينا كما نريد ونتصرف فيه تصرف الموالي في العبيد لا في الطير جنس يحبه بل كلهم يكرهه ويسبه ولا لهناصر علينا ولا جارح يدلي به إلينا فهو تحت طاعتك كما تحبين وفي ربقة إرادتك كما تريدين لا كالحمام يتطوق بطوق
الفخر ولا كالهدهد يتتوج بتاج الكبر فما رأيك في هذا الأمر فقالت الزويغة مقالة بليغة حفظت شيا وغابت عنك أشيا ما أصنع بزوج ممتهن وبغض الأجناس ممتحن مكسور مهجور يتطير بين الطيور هذا يخطفه وهذا يلقفه وهذا ينقره وهذا ينئره وهذا يأثره وهذا يكسره وإذا لم يكن للزوج حرمه ولا تسمع له كلمه خصوصاً عند زوجته وأهل بيته وعثرته فأي قدر يكون له عند غيرها وأني ينشر بالسعد جناح طيرها وقد قال رب السموات والأرض ومالك الطول والعرض والبسط والقبض والرفع والخفض الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وقال من جعلهم قوامين وذواتنا منعوجه وللرجال عليهن درجة ومقدار المرأة بين جيراني وأهلها إنما يعرف بقدر حرمة بعلها وأنا كيف يبقى حالي وبالي وما على ومالي بين جيراني وصواحبي وأهلي وأقاربي إذا كان زوجي ذليلاً مهيناً محتقراً بين الناس خربنا والله لا يكون لي زوجاً ولو بلغ رأسه الأوج ولا أمد إليه باعي ولا يرفع له في مركب الزوجية شراعي (وإنما) أوردت هذا المثال يا شبه الغزال لا بين أنه إذا لم يكن لي في دارك عزه ولا يرفع مكانتي ومكاني نشاط وهزه فلا يرجوني الصديق الموافق ولا يخافني العدو المنافق فيختل أمري ويضيع في غير حاصل عمري وإذا ما أهمل مرسومي تعدى الوهم إلى مخدومي قال يسار أبشر أيها الوزير المشفق والكبير المحقق والحكيم الماهر المدفق بالدرجة العلية والمرتبة السنية والكلمة المقبولة والوظيفة الفاضلة لا المفضوله ولكن أنا أيضاً لي عليك شروط تزين عقودها الملتفات
في المروط هن لدار السعادة أبواب وللترقي إلى درج السيادة أسباب ومثلك لا يدل على صواب وهي أن تتقلد العمل مبسوط الأمل بجميع ما قررته وتتعاطى ملازمة كل ما حررته من إقامة ناموس المملكة المبجلة ورعاية شرائط السلطنة المفضلة ومحافظة جانب مخدومك والإنهاء إلى مسامعه جميع ما في معلومك وتقديم مصالحه على مصالحك ومعاملة رعيته بالجهد في نصائحك وكفه عن المظالم والعدول به عن طريق المآثم والغيرة على دينه واعتقاده ويقينه أكثر من الغيرة على دنياه وفي الجملة لا يكون الملك إلا لله بحيث لا تكون من قبيل لم تقولون ما لا تفعلون وإياك والرشا والبرطيل والدخول لعرض الدنيا في الأباطيل وتوق ظلم الرعية للأغراض الدنيه أو الأعراض الدنويه واتق دعوة المظلوم وإن يصل سهامها إلى مولانا المخدوم وأعلم أننا إن بنينا أساس الأمور على قواعد الظلم والشرور فنحن من الخاسرين ومن الذين ظلموا والله لا يحب الظالمين وسيقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين بل ابن الأمور على أساس التقوى فانك بالتقوى تقوى وبروايتها تروى فمن تحلى بالقضايا العاطلة وتشبث بأذيال الأمور الباطلة ولم يقصد وجه الله في حركاته وسكناته وأدخل شوائب الرباء والسمعة في أعماله وطاعاته لا يمشي له حال ولا يصلح له مال ولا مآل ويصيبه ما أصاب السائح الذي ادعى إخلاص العمل الصالح ثم شرع في حركته وأخلص فظهرت آثار براءته فلما قصد الأعراض الدنيه فسد ظاهره بفساد النيه فسأل المشرقي عن حال ذلك الشقي (قال) كان في أقصى بلاد الصين طوائف غير ذي عقل رصين
أنبت لهم في بعض الجبال زراع القدرة ذو الجلال في رياض النزاهة والكمال شجرة ذات بهجة وجمال أصلها في أرض الملاحة ثابت وفرعها في أصل المحاسن نابت وغصنها إلى سماء العلى واصل وورقها كعقود الجمان بالبهاء متواصل لا سموم الصيف يزيل زهرتها ولا عواصف الخريف تذهب خضرتها ولا صرصر الشتاء يعري أغصانها ولا لواقح الربيع تذري أفنانها فاعجب بحسنها أهل تلك الديار وأشربوها إشراب بني إسرائيل عجلاً جسد إله خوار ثم تفانوا
في حبها وتهالكوا على قربها فعبدوها كما عبدوه واعتقدوها كما اعتقدوه واستولى على عقولهم الشيطان وصار يخاطبهم من الشجرة واحد من الجان فزادهم فيها اعتقاداً وعمهم بعبادتها كفراً وعناداً فقدم تلك البلاد فقير من السائحين وهو من عباد الله الصالحين فلما رأى تلك الحالة أفزعه ذلك وهاله وأخذته غيرة الإسلام وغضبة دعته ليالقيام فأخذ فأساً وقصدها ليقطع ساقها وعضدها فلما قرب إليها وأراد وضع الفأس عليها سمع منها صوتاً خوفه وعن مراده أوقفه فقال أيها الرجل الصالح والقادم السائح فيم ذي الهمة وعلام هذه العزمة المهمة وما قصدك بهذه الصدمة فقال غيرة لله أيها المضل اللاه شجرة تعبد من دون الرحمن ولا يغار لهذا الشان إنسان فلاقطعنك أيتها الشجرة المضلة ولا جعلنك حطباً ومثله فانك قد أضللت كثيراً من الناس وفعلت ما لم يفعله الوسواس الخناس وأنك لا تنفيع ولا تضرين سوى إنك إلى النار تجرين
فقالت أيها الرجل الزاهد الصالح العابد أنا ما آذيتك ولا ضار رتك وإن رأيت نفعتك وبررتك وحاشاك أن تؤذي من لا آذاك وأنا أعلم أيها الرجل الكبير أنك غريب وفقير وما أقدمك على هذا البأس إلا الغربة والأفلاس فكف عن هذا الأمر وأطفئ فائرة هذا الجمر وارجع إلى منزلك واشتغل بطاعتك وعملك وأنا أوصلك كل نهار ديناراً ذهباً نضاراً كاملاً وافياً معياراً يأتيك هينا ميسراً كحل صباح مبكراً إذا استيقظت من رقدتك تجده موضوعاً تحت وسادتك وهذا هو الأليق بحالك وأفرغ لخاطرك وبالك وأخلص لك من ورطات المهالك وإذا أصلحت مع الله سريرتك وطهرت من أدناس الدنيا سرك وسريرتك فاترك الناس ولو كانوا جيرتك أو أهلك وعشيرتك وعليك بخويصة نفسك فإذا أنقذتها من الورطات فأمسك وقد قال منزل القرآن ليحرسكم يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فلما سمع بالدينار ألهاه الطمع والاغترار فبردت همته وضعفت في الله قوته وتركها ورجع وترك القيام وهجع فلما أصبح الصباح وحاز بالصلاة الفلاح بادر إلى الفراش وطلب المعاش فوجد الدينار كما ذكره الشيطان وأشار فالتفقه وابتهج وتحقق أنه فتوح باب الفرج واستمر على ذلك أسبوعاً والذهب عنده مجموعاً ثم بعد ذلك قصد الفراش بسرور وأهتشاش فلم يجد شيأ من الذهب فتحرق قلبه والتهب فأخذه الحنق والقلق وأخذ الفأس وانطلق فلما قرب من الشجرة نادته بألفاظ عكره قف مكانك واذكر شانك وقل لي في ماذا جيت فلا حبيت ولا حبيت فقال جئت لأقطعك ومن الأرض أقلعك غيرة على الدين وقياماً بحق رب العالمين
فقالت كذبت إنما غرت وسيبت وقمت وقعدت وبرقت ورعدت لفقدك الذهب الذي عنك ذهب وإنما كانت الغيرة الصحيحة والقومة المليحة الناهضة النجيحة القومة الأولى فإنها كانت والحق قد تجلى فلو قامت الجلائق لردك واجتهد وافي منعك وصدك لما ظفر وابك ولا قاموا بحروبك وأما الآن فهذه الغضبة غضبة الفاجرة لقحبة التي حصلت بواسطة عدم الدينار فهي التي أثارت منك ما أثار فلو دنوت مني خطوه وتقدمت من مقامك رتوه دققت عنقك وشققت زقك وقد قلت أني لا أضر ولا أنفع ولا أجلب ولا أدفع فأما المنفعة يا صلمعة بن قلمعة فأنك رايتها في الدنانير التي لقينها فتقرر النفع يا مستحق الصفع وأما المضرة فقسها على المنفعة يا أبا مره فان الذي له قدرة على المبرة ربما يقتدر على الإيذاء والمضرة وإن شئت تقدم وجرب لتعلم واخبر واسبر وانظر كيف أنثر منك لراس بهذا الفأس وحقق وصدق أن كتفك حملت حتفك فبهت الرجل وتحير وخاف وخار وقهقر وانقطع حبل رجائه وأفلت يتلفت إلى ورائه (وإنما ذكرت) هذا لتعلم أيها الوزير المكرم إن كل أمر لا يقصد به وجه الله فان عقباه الندم وإن حسن أولاه وكل قصد ليس لغرض صالح فان شجرة غراسه لا تثمر الفضائح فترك الشروع فيه أولى ومحو صورته من لوح الضمير أجلى ومن لم يترك مالاً يعنيه وقع فيما يعنيه وحل به من الفضيحة والأيام ما حل بذلك المفسد في مدينة السلام فسأل الزنيم المشرقي البصير الأفريقي كيف كانت تلك الفضيحة ليأخذ منها لنفسه النصيحة
(قال) كان في مدينة بغداد صانع حرير أستاذ خبير له جارسني الجوار وزوجة تخجل البدر عند الكمال والشمس قبل الزوال وذاك الجار الجاني يدعى ابن الفرغاني ففي بعض مطارده لمح زوجة جاره فتعلق قلبه بها واشتغل من هواها نار أحشائه بهبوبها فأخذ يلهو بها إلى أن أفسدها وإلى الضلال أرشدها وكان الزوج
مغرماً بها فوجد على حالها منبهاً فصار يراقبها من كلفه ولا يغفل عنها لشدة شغفه ويجتهد فيكفها عن الخيانة وأن تحفظ الغيب وتؤدي الأمانة ففي بعض الأوقات رأى في بعض الطرقات صياداً ومعه طير أوثق رجليه بسير فسأله عن طيره وإلى أين قصده في سيره فقال هذا من الجوارح السوانح لا البوارح يحاكي الصوادح ويباكي النوائح وفيه سر عجيب وأمر غريب وهو أنه إذا كان في بيت ورأى فيه على صاحبه كيت وكيت أخبر زوجها خبره وقص عجره ويجره وقد رغب فيه رئيس يشتريه فأنا ذاهب به إليه أقدمه لديه وامتن به عليه فرغب فيه الحريري واشتراه وأتى به إلى داره وقال لزوجته أكرمي مثواه وأحسني مأواه فانه يخبر بكل ما رآه وهو من أحسن صفاته وأعجب أموره وحكاياته ومهما فعلت زوجة الإنسان ذكره على وجهه كما كان فقالت نحن بحمد الله في بركه آمنون مما ينقل عنا من حركه فان رأى شيأ يهوله لا يكتمه عنا بل يقوله فتركه إلى الزوج وذهب فدخل الحريف الملتهب فرأى المرأة وحدها والطير عندها فأخذ في المهارشه ومديدة للمناوشة فقالت كف يدك واحفظ الذمام فانه قد حصل علينا رقيب نمام فكف يدك يا حبيب لئلا نصاب ولا نصيب وتفكر في قول الشاعر المصيب:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
…
خلوت ولكن قل على رقيب
فقال وأين الرقيب يا ست الجار والحبيب قالت هذا الطير ليس غير فان له خواص عجيبة وفيه أشياء لطيفة نجيبه منها أنه تمام ومهما رآه أو سمع من الكلام فانه يفض عنه الختام ويذكره لصاحب البيت على التمام فقهقه بصوت عال وسخر منها وقال صدق سيد المرسلين الذي قال النساء ناقصات عقل ودين ثم أقسم بحياتها وحسن ذاتها وصفاتها ليولجن القضيب في الكثيب بمرأى من ذلك الرقيب حتى إذا فرغ من أمره يمسح في منقاره رأس ايره ليعملها صحة ما أوهمها ثم حاورها وغلبها وساورها وقلبها وحل الصدر بالتكمه وتعلقت الحلقة بالسكة وامتزجت الألف العربية بالكاف الكوفية والتهم زر الوردة الثصبيبة شفاه الوردة النسرينينه واستمر في أخذ وعطاء ولا وطاء كأنهما أفواج الحجاج أو ثباج الأمواج في شيل وحط وقبض وبسط وهرج ومرج ودخل وخرج واستمر من نحو هذا التصريف في بحث الرفع والجر ومن علم المطاردة والركوب في صنعة الكر والفر ومن علم الزندقة والإلحاد في عالم الحلول والاتحاد إلى أن دفق الإبريق العقيق في قدح اللجين شراب الرحيق وقد أنشد الحريف هذا النظم الظريف وهو:
لو تنظر الرقبا وقد عانقه
…
والشمع مشتعل وبابي مقفل
طور أشاهده وأرشف تارة
…
وأضمه من بعد ما أتأمل
وإذا تعشى ذيل ثوبي بادلى
…
من جيبه شيء عليه المقتل
فلما سال الميزاب بما جرى وقضى زيد منها وطرا نهض ليبر قسمه حسبما ميزه وقسمه وأدنى من منقاره غرموله وكان للطائر مدة لم يتناول مأكوله فتصوره قطعة لحمه صدمها إليه طعمه فانشب مخاليبه فيه فاستغاث بملء فيه وكاد أن يغمى عليه واستعان بحبيبة قلبه إليه فأقبلت المرأة كالحدأة فأشار عليها أن تكشف عن ساقيها وترى الطير بظرها وحمرته فربما يلتهي ويترك آلته فتكشفت وأدنته إليه وعولت في خلاص صاحبها عليه فوثب لشدة قرمه وتأثير الجوع وألمه ليلهم ذاك الفلهم فانشب مخاليب رجله الأخرى في فلهم تلك البظرا فاشتبكوا في البلاء اشتركا وبينما هما في تعاظل الكلاب وإذا بالزوج قد دخل من الباب فرآهما على تلك الحال من الاشتباك والاعتظال ونقل الطير ما قال بالأفعال دون الأقوال فصح قوله وفعله وفعل مهما ما يجب فعله (وإنما أوردت) هذا البيان لا علم أشرف جنس الحيوان إن الشروع فيما ليس فيه منفوع يجب الأبعاد عنه والفرار منه وعدم الإصغاء إليه والتوجه والإقبال عليه ولهذا قال النبي النبيه صلى الله عليه وسلم عليه من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه قال المشرقي ما بقي إلا أن ترتقي فلقد طال البيان وضاع الزمان (شعر) :
فانهض هديت إلى ما رمته عجلاً
…
فالدهر عات وللتأخير آفات
وكانت هذه المحاورة تحت ظل شجرة فيها وكر حمامة وكان لها
بالبلد إقامة في برج رجل من أهلالزعامة ثم اختارت العزلة واحتسبتها نعمة جزلة فاختارت هذا المقام ولها فيه عدة أعوام فسمعت جميع ما قالا من مبدئه إلى منتهاه فلما وعت ما اتفقا عليه وتداعيا إليه أخذت تضرب أخماساً لأسداس وتتأمل فيما يتجلى من عرائس معانيه من القدم إلى الرأس وتجيل في صور مبانيه قداح النظر وتلاحظ سيرة فحاويه بلوامح الفكر وتجوز مذاهبه وتروز عواقبه وتقيس مداركه بمعرجه وتميس في مداخله ومخارجه فادى قائد فكرها ورائد نظرها إلى أنه ربما يكون لهما شأن وعلو مكانة ومكان فان محاورتهما وما مر من مناظراتهما كانت منطوية على ذكاء وفطنه وتجارب وحكمة وعلو همه صادرة عن فكره مصيب ورأى له في السداد أوفر نصيب ولم يبق لهما في القدر إلا مساعدة القضاء والقدر وإذا كان الأمر كذلك قالا ليق في قطع هذه المسالك المبادرة إلى التعرف بهما وإعانتهما والتقرب إلى خواطرهما ومساعدتهما على ما هما فيه ومساعفتهما بما تصل إليه اليد وتحويه لأنهما في حالة الشدة وزمان الانفارد والوحده محتاجان إلى المساعدة والمساعفة والمرافده وفي مثل هذه الحالة تظهر الفضيلة ويتحملان المنة والجميلة وتقع مساعدتي أحسن موقع ويتميز لي عندهما أرفع موضع فأنه إذا علا شأنهما وارتفع بدون معاونتي قدرهما ومكانهما واجتمع عليهما الجنود وأقبل إليهما الوفود وكثرت الحفدة والأتباع وتكاتفت العساكر والأشياع فما يظهر لمن يتقرب إليهما ويترامى لديهما إذ ذاك كبير فائدة ولا كثير عائده
ثم أنها توكلت على الرحمن وصدحت على الأغصان بقولها:
على الطائر الميمون والبشر والسعد
…
سموت إلى العليا نهدا على نهد
ثم هبطت وبين أيديهما سقطت فاذكرت قول الرئيس هذا الشعر النفيس:
هبطت إليك من المحل الأرفع
…
ورقاء ذات تعزز وتمنع
وقبلت الأرض ووقفت في مقام العرض ولزمت شرائط الحشمة وأدت مواجب الخدمة وهنأت نفسها والكون بسلطنة الملك يسار ذات الصون وقالت أني لكما نعم العون وموطني في هذه الشجرة وأنا لأوامركم مؤتمرة وقد وعيت ما قلتماه وما دار بينكما وذكرتماه ورأيته صادراً من مشكاة السعادة مشرقاً بأنوار السيادة سهامه نافذة في قلب الغرض وسيتعبد جواهر الرعايا بأدنى عرض فان حسامه مطيق لفصل القصد وشأنه سيبلغ أعلى اليمن والسعد وها قد جئت مبادرة واردة منهل الطاعة وصادره فأمر الأمتثل وانظر الأحتفال وتحكما لا طيع وتكلما فأني سميع فأن أشرتما فالقصد قاف وأن استشر فالرأي كاف وإن خبرتما فالحزم وإن استنهضتما فالعزم شاف وإن استخدمتما فالعبد خادم صاف مصاف فلما رأيا من الحمامة هذه الكرامة تبسم الزنيم وتفاءل وأشرق وجهه وتهلل وتيمن بطلعة الورقا وعلم أن أمرهما برقى وقال يسار هذا من علامات اليسار وجبر الانكسار والخروج إلى اليمن من اليسار وعنوان السعود وحصول النجح والمقصود فان مسبب الأسباب العزيز الوهاب
تبارك وتعالى وجل جلالاً هو مسهل الصعاب ومفتح الأبواب وإذا أراد أمراً هيأ أسبابه وفتح على الضعيف طاقته وبأنه ووسع رحابه وسدد إلى مرامي المرام لراميه نشابه وحصول مثل هذا الصاحب الصادق والرفيق الموافق والمعين المصادق أدل دليل على أن الله الجليل ييسر هذا المطلوب ويظهر هذا النجح المحجوب ثم أنهما استشار الحمامة في كيفية نيل الزعامة والشروع في هذا الأمر والتوصل إلى دعوة زيد عمرو وطريقة اشتهاره وتعاطي أسباب انتشاره فقالت أنا من جنس الطير مشهورة بينهم بالخير ولهم إلى سكون وعلى مناصحتي اعتماد وركون فالصواب في فتح هذا الباب دعوة الجمهور من الطيور أنابه زعيم وفي الرسالة حكيم فان اقتضى الرأي الرفيع توجهت ودعوت الجميع بعد التخيير والتشهير بين الكبير منهم والصغير أن أبا الجراء السلطان وأبا الجداء الوزير وقد وقع الاتفاق في الآفاق على هذا الوفاق فليبتهج سائر الطيور بهذا الفرح والسرور وليقرأ على رؤوس الجمهور هذا المقال المنشور ولبيادر إلى الخدمة بالحضور ولا يتخلى أحد من آمر ومأمور والحذر الحذر من المخالفةوعدم الانقياد والمؤالفة فقد طاب الوقت وراق وزال المقت والشقاق والمسارعة في أقرب زمان ليأخذ والأنفسهم الأمان ولا يركبوا من التعويض سوى متن مسافة الطريق فاعجب الملك والوزير من الهديل هذا الهدير فكتب بذلك بطاقة وحملتها الحمامة بأحكم وثاقة ثم أخذت إلى الجو ووقيت من الجوارح السو ثم هبطت إلى مجمع الطير وهو نادي الندى والخير فرأت منها خلقاً كثيراً وجمعاً غزيراً فسلمت سلام المشتاق وعانقت عناق العشاق
فترحبوا بمقدمها وسألوا عن معرب أحوال ومعجمها وقدموا موائد الضيافة وأظهروا السرور واللطافه فبثتهم كثرة الأشواق وما عانته من ألم الفراق وقد حرضها شدة الشوق وساقها إليهم أشد سوق وبعثها أيضاً باعث وهو من أحسن الوقائع وأيمن الحوادث وذلك أن شخصاً من أصلاء بني سلاق الحاكم على بني زغار وبني براق تولى سلطنة السباع ومالكيه الذئاب والضباع مضافاً إلى ذلك الحكم على الطيور والقيام بسياسة أمور الجمهور وأقام له في ذلك وزيراً كافياً ناصحاً مشيراً يدعى أبا زنمه المشرقي من نسل تكابك الأرتقى وهو من الفحول وكباش الوعول وقد أرسلوني إلى الجماعة يأمرونهم بالدخول في رياض الطاعة ليحصل لهم الرعي والرعاية والرفاهية والحماية ويأمنوا صيد الكائد وكيداً لصائد ثم شرعت نبت للكبير والصغير ما شاهدت من مخابل الملك والوزير وحسن شمائلها ويمن خصائلهما وما هما عليه ونسبا إليه من الشجاعة والدين والعقل المتين والفضل المبين والقناعة والعفه والمجد الذي لا تدرك وصفه وأن الملك المعلوم قد عف عن تناول اللحوم وقد قنع بما يسد الرمق من حشيش النبات والورق وقد تكفل برفع المظالم وردع الظالم وأجراء مراسم العدل وأحياء مواسم الفضل فان أنابوا وأجابوا ربحوا وأصابوا وطالوا وطابوا وأن أبو وصبوا واهتز وللمخالفة وربوا ثم كسهم الدمار وأركسهم فلا يلوموا إلا أنفسهم فصدقوها من أول وهله والرائد لا يكذب أهله لأنهم كانوا بها واثقين ولكلامها في الحوادث مصدقين فما وسعهم إلا الطاعة والتوجه إلى خدمة
الملك في تلك الساعة وبعد ما تبادروا بالتصديق طاروا بالفرح ودخلوا الطريق واستصحبوا من الخدام
والتقادم ما يصلح للمخدوم من الخادم فلما قربت الديار ودنوا من ولاية الملك يسار تقدمت الحمامة وسبقت وأخبرت الملك والوزير بما فتقت ورتقت فاستبشروا بما تقدم وبادر الوزير لملاقاة المقدم فتلقاهم بالاحترام والتوقير وأكرم الكبير والصغير ومشى معهم بالإكرام والحرمة وأوقف كلاً منهم في مقام الخدمة وحين استقر بهم المقام افتتح الوزير الكلام فأثنى على الله تعالى وضاعف التحية على نبيه ووالي ثم امتدح الملك الذكي بثناء يخجل المسك الزكي وذكر بعد ذلك ما يتعلق بسياسة الممالك وأن الله من بالملك عليه وساق سلطنة الوحش والطيور إليه وذكر مقام كل من الطيور وما وظيفته بين أولئك الجمهور فأطاع الكل وتابعوا وعلى ما اقترحه عليهم بايعوا وأنشدوا فارشدوا:
ونحن أتينا ظائعين ولم نكن
…
عصاة فرم غير الطيور عساكرا
ولما انقضى الوطر من قضايا الطير أخذوا في استدعاء جموع الغير من الوحوش الكواسر والبهائم الجواسر والهوام النواشر والجوارح النواسر وأرسلوا في تلك الجماعة الحمامة وقلدوها فيه طوق الزعامة فتوجهت نحو الوحش وإلى كل فارح من الصيد وجحش وكانوا بذلك قد سمعوا وللمشاورة فيه قد اجتمعوا فبلغت الحمامة الرسالة وأظهرت ما فيها من بسالة وكان آخر ما وقع عليه الاتفاق الوفاق وعدم النفاق وقصد الارتقاء والتوجه إلى خدمة الملك يسار صحبة الرفاق وقالوا لا شك أن الكلب بالوفاء مشهور وبحسن الرعاية والحراسة مذكور ويقدر أن يرعانا من الإنسان ويجمينا من السباع ومؤذيات الحيوان وأوصافه مذكورة في الكتاب وناهيك بفضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب
فتقدم خزز من بين تلك البزز يدعى رئيس الأرانب محبب إلى الأقارب والأجانب وهو مشهور بالحصافة موصوف بالذكاء والظرافه والمعرفة التامة والتجربة المفيدة العامة بعيد الفكر في العواقب سديدالرأي حازم مراقب وقال يا معشر الأصحاب وأولي الأبصار والألباب كيف خفي عليكم ولم يتضح لديكم عاقبة هذه الأمور وما فيها من عكوس وشرور وهل بصلح للرياسة وإقامة السلطنة والسياسة أهل النذالة والخساسه المنصف بالقذارة والنجاسة أو ما علمتم أن من أفحش السباب الشتم باخس من الكلاب أو ما سمعتم في كلام مالك أزمة القلب في حق عامله بالسلخ والسلب فمثله كمثل الكلب أو ما قال صاحب الشرع في حق ما ولغ فيه الكلب بالسبع ثم التعفير بالتراب وهو مذهب كثير من الأصحاب وأن يطهر بالدباغة منه الإهاب لا أصلي تقي ولا وصف نقي ولا نسب طاهر ولا حسب ظاهر ولا وجه زاهر ولا شكل باهر فان كنتم نائمين انتبهوا واعرضوا فما قصدتم إليه وانتهوا فلعن الله زماناً صار فيه التيس وزيراً والكلب سلطاناً ولقد أرشد من أنشد:
لقد جار صرف الدهر في كل جانب
…
من الأرض واستولت علينا الأراذل
هل المسخ إلا أن ترى العرف منكراً
…
أو الخسف إلا حين تعلو الأسافل
فتصدى الهديل للجواب وقال لا شك ولا ارتياب أن المستحق للسلطنة الإمام العادل والشخص الكامل الفاضل ولا يقدح في هذا الفصل دناءة الأصل فقد قال القيوم الحي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وكل من اتصف بالهمة العلية والأوصاف السنية
ومكارم الأخلاق والشيم وانتشر بها صيته بين الأمم يستحق أن يرأس بين العرب والعجم وأما الأنساب ففي نص الكتاب قال من بقوله يهتدي المهتدون فإذا نفخ في الصور فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون وقال الشاعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً
…
فسوف يغنيك ذا عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
…
ليس الفتى من يقول كان أبي
وقال أيضاً:
لعمرك ما الإنسان إلا ابن يومه
…
على ما تجلى يومه لأبن أمسه
وما الفخر بالعظم الرميم وإنما
…
فخار الذي يبقى الفخار بنفسه
وأما الأوصاف فلا شك ولا خلاف في أن الكلاب فضلت على كثير ممن لبس الثياب وما ذاك إلا لأوصاف اختصتها وآثار اقتفتها واقتضتها وهي مشهورة وعن الكلاب مسطوره ومن جملة محاسنهم مأثورة وأما الأوصاف الذميمه فيمكن صيروتها مستقيمة وذلك بحسن التأديب والتربية والتهذيب والتمرين والتشذيب حتى يصيرنا به مديه وهذا ليس فيه مريه ويجتزي بالفاكهة والبطيخ عن اللحم السليخ وبالخبز الشعير عن أكل لحم الحمير وناهيك يا أبا وثاب ما قيل في الكلاب ولا بسبي الثياب (شعر) :
وما ضر أهل الكهف إيمان كلبهم
…
ولكنهم زادوا يقيناً على هدى
وماذا أفاد العلم بلعام وهو من
…
بني آدم لما إلى الأرض أخلدا
وهذا السلطان قد عاهد الرحمن إن لا يمزق حيوان ولا يذوق لحمان وأن يقنع بالكفاف ويسلك طريف العفاف وما ذاك لعجز ينسب إليه ولا لوهن طرأ عليه بل سمت همته عن ذلك ترفعاً وسلك طريق الملوك في أحياء هممها ومعاليها تطبعاً وبضدها تتبين الأشياء فان أحببتم كان لكم الحظ الأوفر وإن امتنعتم فقد أعذر من أنذر وبلغ من حذر وما قصر من بصر والعاقل من يتبصر عيوبه ويسلك من الخلق الجميل دروبه وقد قيل لأمير النجل ذاك الأسد الفحل كرم الله وجهه وجعل له إلى الرضوان أحسن وجهه يا أمير الامؤمنين وابن عم سيد المرسلين ممن تعلمت الأدب قال من قليل الأدب يعني إذا رأيت في أحد خلقاً ذميماً أو وصفا فسد بادرت إلى افتقاد نفسي وتأملت في حدسي وحسي هل أبا محلى بذلك الوصف أم لا فان لم يكن اجتهدت أن لا يكون وأن كان أبعد عنه عرضي وأصون وحسبك يا ذا الرتبة العالية استنكاف اللص العاقل من قول تلك الزانية فقالت الخزز للحمامة:
أخبريني بذلك الاستنكاف يا ذات الكرامة
…
قالت الحمامة ذكر رواة الأخبار عن شاطر من الشطار
قد بلغ في الشطارة واللصوصية غاية المهارة يسرق الوهم من الخاطر والرائحة من الطيب العاطروالنوم من أجفان الوسنان واللماطة من أسنان الجيعان ويأتي على كوامن الغيوب فضلاً عن خزائن الجيوب ويلف الرخيص والغالي والوضيع والعالي وقد أعجز المقدم والوالي ففي بعض الأوقات قصد جهة من الجهات فبينا هو في المناهضة
والمناهزة غشيه الوالي مع العسس والجلاوزه ومعهم امرأة بغى قد خرجت عن الصراط السوى وهم يضربونها وعلى أفظع حالة يسحبونها وهي تستصرخ المسلمين وتستغيث أئمة الدين فلما أحس اللص بهم نكب عن دربهم وولاهم عطفه ونزوى في عطفه وانتظر حتى يمروا فسمع المرأة وهم بها قد أضروا وهي تصيح بلسان فصيح وتقول يا أهل الإسلام وأمة خير الأنام أنجدوني وارحموني وأسعدوني لا سرقت ولا نقبت ولا اختلست ولا سلبت ولا ظمعت في مال أحد ولا نهبت ولا وقفت لأحد في درب وإنما استنفق من حاصل دار الضرب وذلك ملكي وحوزي وثمرة لوزي وجوزي باشارة سهام الحاظي الملوزة من قسى حواجب بالجمال متوزة وسفارة نظام الفاظي المعززة المشبه باب طريقها درراً في العقيق والرفيق مغرزه فما لي على أحد ولا طمعت في مال أحد فيحصل له منى ملل فلما سمع قاصد الحرام هذا الكلام أفاق خاطره وراق وتنبه لقبح صنعته وأن الزواني تانف من حرفته وتستنكف مما هو مفتخر بفضيلته فقال لعن الله فعلاً تنتقصه الخواطي وتباً وسحقاً لمتعاطيه من متعاطي ثم عاهد الله التواب ورجع إليه عن صنعة الحرام وتاب (وإنما أوردت) هذه المناقب يا شيخ الأرانب لتعلم أن العاقل من يتصفح جرائد أعماله ويتأمل صحائف حركاته وأحواله وأن هذا الملك صفى شراب صفاته من كدورات الهوى براورق للراقبة ونقى رياض ذاته من شوك الأخلاق الذميمة بمنكاش المعاتبة بقدر طاقته وإمكانه وهو مثابر على ذلك في غالب ازمانه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها وليس لك أن تعترض بان النفس لا تغير طبعها وليس
الأكمة كالأرمد ولا السطيح كالمقعد، ولا سحبان كباقل ولا العاقل كالتعاقل، ليس التكحل في العينين كالكحل وتخرج يا مسكين.
بواقعة السلطان محمود بن سبكتكين مع وزيره حسن الميمندي بسبب القضية الواقعة لأبن الجندي فسأل أبو عكرشة أبا عكرمة عن هذه الواقعة ليتبين من التمثيل مواقعه (فقال) إن السلطان محمود ذا الطالع المسعود الذي فتح بلاد الهنود جرى بينه وبين وزيره مباحثه وقع فيها عن دقيق العلوم منابئه في أن الطباع هل تقبل التغيير أم لا تستحيل عما جلبها عليه الفاطر الخبير فقال الوزير نعم تقبل التغيير بواسطة التأديب وحسن التهذيب وحسن التشذيب والتهذيب وقد شاهدنا الطباع من الوحوش والسباع بواسطة التعليم تركت الخلق الذميم واكتسبت الوصف المستقيم فجريان هذا الإمكان أحرى أن يوجد في جنس الإنسان فقال السلطان المظفر لا تتحول الطباع ولا تتغير ولا يمكن صرفها عما جبلت عليه ولا يتصور فال من ليس في كلامه اشتباه فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله
وقال القائل وتأبى الطباع على الناقل واستمر هذا الكلام بينهما عدة أيام إلى أن ركب السلطان وقصد السيران والوزير في ركابه من خدمه وأصحابه فرأيا من بعد شاباً من أولاد أحد الجند وهو جالس على فرع شجرة يابس يريد قطعه لما عدم نفعه وقد جعل ظهره إلى طرف الفرع وهو عمال بالمنشار في أصله للقطع فتأمل السلطان والوزير في هيئة ذلك الظبي الغرير ثم قال السلطان للوزير بين الأعيان وطبع هذا أيضاً داخل في الأمكان وهو يقبل التغيير والتعليم ويمكن استحالته بالتأديب والتفهيم فلم يجر الوزير جواباً لا خطأ ولا صواباً ثم أشار إلى بعض خوله أن يذهب بذلك الشاب إلى منزله فلما نزل من الركوب أحضر ضلك الشاب المرعوب الغافل المحبوب ثم طلب له مؤدباً حاذقاً مهذباً وأمره أن يجتهد في تعليمه ويبالغ في تأديبه وتقويمه ويوقفه من العلوم على دقائقها ويسلك به إلى خفايا طرقها وطرائقها فاشتغل بتربيته ليلاً ونهاراً وبذل مجهوده في سراً واجهاراً إلى أن برع في أنواع العلوم وضبطها من طربقى المنطوق والمفهوم ولما فرغ من العلوم أدناها وأنهارها من مبتدئها إلى منتهاها شرع به في علم إدريس وهو علم النجوم النفيس واستطرد منه إلى علم الرمل المنير ونوسل بهإلى أن توصل إلى إخراج الضمير فأتقن هذه العلوم لا سيما إخراج الضمير الموهوم فلما أتقن ذلك وسلك فيه أدق المسالك أحسن الوزير إليه واستصحبه إلى الملك ودخل به عليه فقبل الأرض وأدى من شرائط الخدمة النافلة والفرض وقال للسلطان محمود أن هذا هو ذاك الشاب المعهود وقد برع
في العلوم ووصل إلى استخراج الضمير المكتوم وقد بدلت بلادته بالذكاء وصار فؤاده كابن ذكاء فان اقتضت الآراء السلطانية سبرته واعتبرت فهمه بعدما اختبرته فادخل السلطان يده في كمه ونزع خاتمه من بصمه وأطبق يده عليه ليسبر منتهى علمه وينظر ما قاله الوزير في كيفية هذا التبديل والتغيير ثم أخرج يده من كمه وقال ليظهر نتائج علمه ليخبرنا بما في كفي وعن حواس العيون مخفي فتقدم الشاب ورفع الإصطرلاب ووضع أوضاع الحساب وخط ذلك النقي أشكال لحيان والنقي وسائر الأوضاع من الطريق والاجتماع ثم نظر وسبر وعبس وبسر وقدر وافتكر وقال دل الشكل والله أعلم أن ما حواه الكف المكرم شيء من المعادن محفوف بسودد أسواد بائن وهو في أفضل الأشكال لأنه مستدير وفي أحسن الألوان لأنه مستنير وفي دائرته قطر ومركزه وفي وسطه ثقب لمغرز وهو ثقيل أما في الثمن أو في التحميل ثم تأمل بعد الوقوف في أن هذا الموصوف ماذا يكون فقال كان والله أعلم فردة طاحون فضحك السلطان الكبير وخجل لذلك الوزير ثم قال السلطان أبي والله وله السبحان أن يكون بأقل كسحبان:
إذا كان الطباع طباع سوء
…
فليس بنافع أدب الأديب
(وإنما أوردت) هذه المسائل لئلا يعترض قائل ويستدل بمثل هذا الدليل على أن الطباع لا تقبل التغيير والتحويل بل الطباع تتغير:
ومن ذا الذي يا عز لا يتغير
…
فسبحان من لا يحول ولا يزول
الذي وضع عالم الكون على الانتقال والحلول وكل لجلال عظمته مخبت يمحق ما أراد
بثبت ويمحو ما يشاء ويثبت ومذهب أهل الثبات في المحو والإثبات أن الكافر قبل الإسلام كافر عند الملك العلام وبعد ما انخرط في سلك المؤمنين صار مؤمناً عند رب العالمين وعلى هذا التقدير والتقرير أيها الفاضل الكبير والعالم النحرير فالملك يسار نظر بعين الاعتبار وتنصل من رذائل الأوصاف وتخلق بأخلاق الأشراف من التلبس بالعدل والأنصاف ولولا نيته الصالحة ما صارت صفقته في المبايعة رابحه ولا كانت كفة فضله راجحة ولا زايله النكد ولا أطاعه أحد والأعمال بالنيات وعلى مقدار النيات العطيات وجنس هذا الملك في الأوصاف المتباينة مشترك فانه قد جمع بين خصائص الحيوان حتى كأنه سبع بهيمة إنسان كما قيل:
جمع الكلب في حلاه صفات
…
فهو سبع بهيئة إنسان
وكما قيل أيضاً:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً
…
يكلمه من حبه وهو أعجم
وأنا يا مولاي أعرض عليكم هذا الرأي وهو شاهد عدل وحكم فصل وهو أن يقع الاتفاق على واحد منكم من خلص الرفاق من تحققتم حسن آرائه وصدقه في أنبائه وصحة دينه ورصانة عقله ويقينه فانطلق في ركابه إلى حضرة الملك وجنابه فيكتحل بأنوار طلعته ويشمله ميامن رؤيته ويطالع جميل صفاته ليسكن إلى فضيل حركاته وينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين فيزول باليقين الشك ويظهر خلاصة الذهب بالحك ثم يأخذ لكم العهد والميثاق بما يقع عليه الاتفاق وما ترضونه وترونه من الصواب ويرد عليكم بذلك الجواب فان وافق قصدكم توكدون عليه عهدكم وتتوجهون بقلوب مطمئنة وخواطر في حصول المرام مستكنة والأفترون رأيكم فيما عليكم ومالكم
فاستصوبوا هذا الرأي واسترضوه واستعذبوا لطيف معناه واستحسنوه وانتدبوا لهذا الأمر الخطير من يصلح أن يكون عند الملوك السفير فوجدوا ظبياً طيب العناصر قد عقدت على غزارة فضله الخناصر من أعقل الجماعة وأذكاها وأحسنها رأياً وأدهاها فقلدوه الزعامة وأرسلوه مع الحمامة على أن يجتمع بالملك يسار ويعاهده على ما يقع عليه الاختيار ثم يسمع أقواله ويشاهد أفعاله ويميز أحواله ثم يرد عليهمالجواب فيميزوا ما فيه من خطا وصواب فيبينوا عليه ويرجعوا إليه فتوجه الظبي والحمامة مستصحبين الأمن السلامة فلما قربت الديار سبقت الحمامة إلى خدمة الملك يسار وأخبرته بصورة الأخبار وأن الظبي في العقب مقبل بما يحبه الملك ويجب فأمر الملك الوزير أن يتلقى الظبي الغرير مع جمع الطير الكثير فتقدم الوزير وقال أسأل مولانا الملك المفضال أن صدر من هذا القاصد خطاب أن يشار إلى برد الجواب فان ذلك أعلى للحرمة وأدنى للحشمة وأقوى لناموس الملك والرياسة وأزهى لطاوس البسوق والسياسة فان كان ذلك الجواب متحلياً جيده بعقود الصواب كانت سعادة الملك الملهمة وفي خدم الملك من تصدى للأمر وأبرمه فان خرج عن طريق الجادة فلا ينسب إلى الملك تلك المادة بل يتلقاه الملك بكرسه ويكون الخطأ منسوباً إلى خدمه فأجابه إلى ما سأل وتقدم الوزير للملاقاة مع سائر الخول فتلقوا الظبي بالترحاب وفتحوا في وجهه للكرامة أوسع باب ومشوا معه حتى وصل إلى الحضرة وشاهد تلك الحشمة والنضرة فقبل الأرض ووقف وعرف مقدار الملك وأعترف وأدى الرسالة وبين للملك ما فيها من رقة وجلاله فقابله الملك بما يليق بحشمته وأجلسه بالقرب من حضرته وخاطبه بما أذهب دهشته وآنسه بملاطفات جلت وحشته وسأله عمن خلف وراءه واستقصى في التفحص أحواله وأنباءه فبلغ عبوديتهم وطاعتهم وأن
الإخلاص والطاعة شملت جماعتهم وفتح فم الدعاء بلسان ذلق وخطاب طلق وكلام غير معقد ولا قلق وأطال في الدعاء وأطنب في الشكر والثناء وسال شمول المراحم وكف كف المتعدي والمزاحم فانهم انبسطوا وانشرحوا وابتهجوا باستيلاء هذا الملك وفرحوا وشكروا الله هذه النعمة وأنى يفون بشروط العبودية والخدمة ثم سأل أخذ الميثاق وتأكيد العهد بالإيثاق بالأمان والاطمئنان لمن وراءه من الوحوش والغزلان فأعطاهم الأمان وشملهم بالإحسان على أن لا يراق لهم دم ولا يهتك لهم حرم وأنهم يرعون حيث شاؤا ويسرحون حيث ذهبوا وجاؤا وأن الملك يسار حاكم سلوق وزغار وخليفة براق وكوباك والتتار قد عاهد الملك الجبار أن لا يتعرض لوحش القفار ولا لأحد من أجناس الأطيار حتى ولا لحيتان البحار ولا يريق لهم دماً ولا يقصد لهم أذى ولا ألماً ويرعى جانبهم ويقضي مآربهم ويحفظ شاهدهم وغائبهم ويمنعهم من مناويهم ولا يسلط عليهم من يؤذيهم ما داموا تحت طاعتي وفي جواري وذمتي فقبلت الغزالة بشفاه العبودية خداً لجداله وقالت هذا كان المأمول وجل القصد من الصدقات والمسؤل والذي جيء لأجله فقد حصل من صدقات الملك وفضله ولكن العلم العالي محيط بان وحوش البسيط أقوام ضعاف ليس بينهم ائتلاف وهم طوائف كثير والاختلاف أجناس متفرقة وأنواع متمزقة ليسوا كقطائع الغنم مجتمعين ولا كحشار الخيل ممتنعين ولا بعضهم لبعض متبعين ثم لم تزل العداوة بينهم قائمة وعيون الصلح والاتفاق عنهم نائمة لا يضبطهم ديوان ولا يحصرهم حسبان ولا يمتعهم من التعدي سلطان القوى يكسر الضعيف ويمزقه والشاكي يستطيل على الأعزل ويفرقه ولأجل هذا المعنى لا يمكن اجتماعهم في مغنى بل البعض في قلل الجبال متوطن والبعض في
سرب التلال متحصن والبعض متشتت بذيل الكهوف
والمغارات والبعض الآخر في الآجام والآكام خوف الغارات وكل يخاف حلول البلاء قد اتخذ لذلك القاصعاء والنافقاء واستعد بفنون الكيد خوفاً من جوارح الصيد وإذا كان الأمر كذلك فاجتماعنا متعسر وحفظنا في الملك غير متيسر فلا بد من ترتيب قاعدة تعم منها جميع الوحوش الفائدة ويشمل أمنها غائب الملك وشاهده وإلا فالحاضر آمن وقلب الغائب غير مطمئن ولا ساكن فليفتكر للرعية في ضابطة تكون الحرمة فيها للقريب والنائي باسطه فالتفت الملك للوزير وقال أجب هذا السفير فقال الزنيم يا أحسن ريم هذه الأفكار من قصور الأنظار وعدم التأمل والاستبصار وإلا فان السلطان في كل مكان كلمته عليا ووجوده كالشمس في الدنيا فكما أن الشمس إذا استوت وعلى سرير كبد السماء احتوت عم فيض شعاعها الجبال والآكام والتلال والآجام وانتشر على البحر والبر واشتهر على الفاجر والبر فرست الأزهار والأثماروشبت مشاعل الكلا في القفار وطبخت الغلال وفواكه الأشجار وصبغت في كوامن المعادن جواهر الأحجار كما قيل:
كالشمس في كبد السماء محلها
…
وشعاعها في سائر الآفاق
كذلك الملك العظيم إذا انتشر صيت عظمته وعدله في سائر الأقاليم شمل فضله الشريف والوضيع وبلغ جود جوده والرفيع وردع عدله الطائع والعاصي ووسع نواله الداني والقاصي وأنه كالغمام الصيب الصبيب على الربيع الخصيب والديمة المطبقة والمزنة المغدقة إذا انتشرت في
الآفاق وصارت لام عهد عاهدها للأستغراق فروت الحضيض والبقاع وعمت الوهاد والتلال والبقاع وخاطبها ظمآن الرياض وعطشان الغياض شعر:
أمطر على سحاب جودك مرة
…
وانظر إلي برحمة لا أغرق
هذا ومتى انتشر في الأطراف أنكم التجأتم إلى هذه الأكناف وتطرز بشمول الصدقات السلطانية من ملابس طاعتكم الطراف والأطراف منعت العواطف الملوكية والخواطر الشريفة السلطانية عوادي المعادي وكفت أكف المصادم والمصادي فلا يجترئ أحد على التعرض لكم ولا يخطر ببال مخالف أن يقطع سبلكم قال الرسول الأمر كما يقول مولانا الأمير وما أحسن هذا التقرير ولكن مع المراحم السلطانية وصدقات العواطف الملوكية وحسن الطوية وإحسان النية فلا بد للسياسة وضبط الرياسة وقواعد الملك في الحراسة من ضابط يبني عليه الملك لأمره أساسه لا يتميز به كبير دون صغير ولا يختص برعايته جليل غير حقير فان من أحسن أوصاف الملوك والأكابر أن لا يغفلوا عن تفقد أحوال الصعاليك والأصاغر ولا يقتصر وافي ذلك على نوع دون جنس كما يفعله لغلبة الهوى بعض حكام الأنس مع أنهم مسؤلون عن جليلها وحقيرها ومحاسبون على كبيرها وصغيرها وفي شأنهم قد قال من في ضبط حركاتهم وملكاتهم استقصاها ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقد تنبه لهذا الفعل الرجيح أيها الوزير النصيح والمنطق الفصيح أنوشروان وهو من الكفار واشتهر عنه قضية الحمار فسال الوزير بيان هذا التقرير
(فقال) الريم بلغنا أيها الكريم أن أنوشروان بالغ في نشر العدل والإحسان ومعاملة الرعية كبيراً وصغيراً بالسوية وبذلك في ذلك جهده واستنهض لمساعدته وكده وكده واختشى أن يمنع المتظلم الفقير الأبواب بسبب حاجب أو كبير لغرض أو عرض أو ارتشاء من في قلبه مرض فيمشي مدلس البراطيل من خوف الأباطيل ويضيع بحث صارخ الحق في أوقات التعطيل فاداه قائداً اجتهاده وانتهى به رائد مراده إلى أن يعقد في طاق مبيته ومجتمع خاطره عن تشتيته من محاذي السرير حبل من الحرير ويربط طرفه الأدنى في حلقة الباب حيث لا حاجب ولا بواب وهو مكان مجتمع الجمهور ولا يمنع أحد فيه من الوقوف والمرور وأن ينشد فيه أجراس من خالص الذهب لا النخاس بحيث إنه إذا حرك الحبل صوتت الأجراس صوتاً أخرس الطبل ثم أمر منادياً أن يرفع صوتاً عالياً بان من كان شاكاً فعليه بتحريك ذلك الحبل ليقع الظالم في الكبل أو ينتصر المظلوم من بعد ومن قبل فاشتهرت هذه العادة ونال بها في الدنيا السعادة وعظم صيته وخمدت عفاريته وانتصف صفاريته ففي بعض الظهائر عند قائلة الهواجر وأنوشروان في مبيته قد طاب اضطربت الحبل والأجراس أشد اضطراب ففز أنوشروان مذعوراً وتصور المحرك مظلوماً مقهوراً فابتدر بطلبه لينظر في ظلمه وسببه فتبادروا إلى إحضاره واستكشاف أخباره وإذا هو حمار حرب جنب جسمه من الجرب خرب ومتن ظهره من الحكة نقب وقد هد عمارة عمره هادم الهرم وألهت حشيش حشاشته من
الجوع ماضي الضرم يحمله صاحبه ما لا يطيقه ويقطع عنه قوته وعليقه يؤذيه ولا يداويه ولا يداريه فطلب مالكه وعتبة ثم زخره وضربه ثم أمر بالنداء في الأسواق وامتد ذلك حتى بلغ الآفاق وعم الضواحي والرزداق أن يسلك بما ملكت اليمين الإرفاق ولا يفتر عليها في الأنفاق وكل من عنده دابة قد استعلمها في صباها واستوفى في خدمته قواها يراعي حقوقها إذا كبرت ولا يضيع ما قدمت بما أخرت وصك وجهذلك الرجل صكا وكتب عليه بفرض حماره صكا (وإنما ذكرت) هذا المثال في معرض ما يقال من أن عدل السلطان خير من خصب الزمان وأيضاً فان قصد الملك إذا كان صالحاً كان أمره في جميع الأزمان ناجحاً وسخر الله له من يرشده إلى قصده ويعينه على أمور شعائره ويحيي ذكره من بعده وتدر على يده سحائب البركات ويجري منها على غير قصده أبحر الخيرات وحفظ كل من إليه ينتسب ورزقه كل ذلك من حيث لا يحتسب وحاصل هذه المقدمة أن المسؤل من الصدقات المعظمة انه إذا ترامى على أبواب عدلها شاكي أو تعلق بأسباب معدلتها متظلم باكي تتصدى هي بنفسها لكشف ظلامته ولا تترك الغير في فصلها لإقامته وأن الفقير من جماعتنا والضعيف من أهل طاعتنا إذا مست الحاجة به إلى بث شكوى أو رفع بلوى يتقدم إلى شكواه بلا واسطه ليأمن في أمره المغالطة ويصادف مقسطه لاقاسطه ويتساوى في كل من مشرب العدل والأنصاف ومراعي الفضل والألطاف الظباء والأسود والذئب والعتود والعقاب والعصفور والحمام والصقور ولا يتقدم في الدعاوي من حيث التساوي الوجيه على الجاهل ولا
النبيه على الخامل ولا الكبير على الصغير ولا الجليل على الحقير
فان اقتضت الآراء العالية توليه عامل في ناحية فليكن ممن له شفقة تامة ورحمة في أمر الرعية عامه ويعرف ذلك بمن حربته العلوم الكريمه وتحققت أن نيته في رعاية الرعية مستقيمة قد صارت له الشفقة ملكه وكل من العدل والأنصاف قد ملكه ولا تولى أحد الغرض أو من في قلبه من أذى المساكين مرض وأن الطبيعة إذا اعتادت عاده والمسجية إذا جعلت لها بعض الأوضاف قلادة سواء كان ذلك مذموماً أو محموداً مقبولاً عند العقل والشرع أو مردوداً فإنها فإنها تبرزه في غالب الأوقات ولا نتخلف عن ملابسته في أكثر الحالات (شعر) :
العين تعرف من عيني محدثها
…
إن كان من خربها أو من أعاديها
وكل قضية لا يساعدها القلب فمنتها على العكس والقلب ونظيرها يا رئيس المدارة قضية من زوجته أمه وهو كاره فسأل الوزير من السفير تقرير هذا النظير (فقال) كان شاب من العراب قصدت أمه تأهله فزوجته بامرأة أرملة ولم يكن له احتياج ولا رغبة في الزواج واختار التخلي للصلاة على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله ولكن فر من العقوق وكتب على نفسه الحقوق فلما عقدت الوليمة وصممت العزيمة وجمعت النساء والرجال أرسلت أمه إلى جار لهم قوال أستاذ في صنعته ماهر في حرفته فدعته إلى الجمع ليبتهج بحسن غنائه السمع فيشغل الوقت ويذهب المقت ويحصل للحضور النشاط والسرور فتخلف وأبي وعن الحضور بنا فسئل عن تصلفه وسبب تخلفه
فقال بلغني أن الزوج الخاطب غير طالب ولا راغب وإذا كان كذلك فلا بغني الغناء إلا العناء ولا يؤثر في القلوب والأسماع بل تنغر عند سماعه الطباع فكل شيء لا يصدر عن رغبة القلب فان أيجابه لا يفيد إلا السلب فيضحك على القائم والقاعد ويسخر مني الصادر والوارد ويروح تغزلي في البارد وإنما ذكرت ذلك لأعراض على آراء المالك أنه إذا أولج أمر الرعية إلى أحد من الخاصكية ينظر إلى شفقته ويسير وفور مرحمته ثم يوليه عليهم ويتقدم بالطاعة إليهم فيستقيم إذ ذاك فعلهم وفعله ويظهر في حركاته وسكناته عدله وليس العدل في القضايا تساويها ولا إجراؤها على نسق واحد يحويها بل معرفة مقاديرها وبيان تقريرها في المبادي وتحريرها ثم أجراؤها على مقتضى مدلولها ورد فروع كل مسئلة إلى أصولها ووضع الأشياء في محلها وإيصال الحقوق إلى أهلها ومعرفة منازل أربابها وأوضاع أصحابها ومراتب طلابها فمن لم يحقق هذه الأمور أضاع مصالح الجمهور فأعطى غير المحق ما لا يستحق ومنع الحق عن المستحق وقد قيل يا أبا السعود أن حقيقة الجود إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وإلا كان كالباذر في السباخ وأشبه في أمره أجير الطباخ الذي لم يعرف معنى العدل فقصده فوقع في الجدل فسأل الغزال شيخ الأوعال عن هذا المثال (فقال) كان عند بعض الأشياخ من الطباخين أجير طباخ له رغبة منهمه على معرفة طبخ الأطعمة وكيفية ترتيبها وصنعة تركيبها
وكان مغرماً بذلك يسلك فيه كل المسالك ويرد فيه الموارد ويتبع كل صادر ووارد ففي بعض الآناء وقف على طبيب منت الأطباءفسمعه يقول أن أصلاً من الأصول العدل والتسوية بين الأطعمة والأغذية والعقاقير والأدوية فمن لم يستعمل الأستوا في درجات الغذاء والدواضل عمله وغوى وأصل هذا المزاج ولا ينكره إلا ذو لجاج فان العناصر الأربعة منها المضرة والمنفعة وقد تولد منها السوداء والبلغم والصفراء والدم فمتى اعتدلت هذه المتولدات صحت الأبدان واللذات ومتى عن الاعتدال عدلت أمرضت وقتلت وكذلك النير الأعظم والكوكب المضيء في العالم إذا حل في مركز الاعتدال استقام للعالم الحال وطاب الزمان واعتدل وذلك عند نزوله في برج الحمل فتصور ذلك الولهان أن المقصود التسوية في الأوزان فانصرف وهو فرحان وقصد طعام الزبر باج وعبى من مفرداته ما يحتاج ثم أنه ساوى بين أوزانها وقصد العدل في ميزانها وخلط كعقله أخلاطها ووضعها في قدر وساطها فخاب عمله في عدله وبان نقصه في فضله فلما رعى الملك والوزير ما سلكه السفير في نظام هذا التقرير شكراً له مساعيه وأخصبا في الإكرام والإعزاز مراعيه وقالا جزاك الله خيراً عن شفقتك وحسن صنيعك لمرسليك ورفقتك فمثلك من يصلح للسفارة بين الملوك وتولى أمور الرعية من الغنى والصعلوك فانك ناصح لمن فوقك شفيق على من دونك
ثم قال الوزير أن هذا الملك الكبير مقاصده العظيمة أن تكون الأمور مستقيمة وأن يصلح العباد والبلاد ويطمئن المستفيد والمستفاد فاحتفظ أيها السفير المنير الضمير بما سمعت ورأيت وشاهدت ووعيت واجعله من عنوان أنبائك ومقدمات أفعالك وآرائك وأبلغه من يحفك من أمامك وورائك ومهما وصلت إليه قدرتك وأحاطت به يدك وكلمتك من إبلاغ الخير إلى مسامع الوحش والطير عن هذا الملك وأوصافه وتطلعه إلى مراقي السير والإحسان واستشرافه وما تسكن به الخواطر وتطمئن به الضمائر وتقر به العيون بالسرور وتستقر به القلوب في الصدور فلا تأل فيه جهداً وأوسع فيه جداً ولا تنه في إنهائه حداً فان المجال واسع وميدان المقال شاسع وقد أذن لك فيه وأن أخفيته في نفسك فالله مبديه ثم كتب له بذلك مراسيم عن ثغر الأماني
مباسيم وأفيض عليه خلع الكرامة وأضيف إليه الحمامة ورجع إلى أهله مغموراً بفضله مسروراً بقوله مشكوراً بفعله فائزاً بالمطلوب ظافراً بكل مرغوب فارغ البال طيب الحال فاتصل بأهله في دياره وهم في انتظاره فبادروا بالسلام وقابلوه بالاستلام وقالوا ما وراءك يا عصام فبلغ الجواب بارشق عبارة وأليق خطاب وذكر لهم ما رأى وسمع ووعى فانتشرت هذه الأخبار حتى ملأت الأقطار وتسامع بها وحوش القفار وفاح بطيب نشرها الأزهار فكان جميع البر معطار ثم اجتمع رؤساء الوحوش والبهائم رعرفاء الصوادح والبواغم وكل ساكن في القفار من سائم وحائم وأرسل كل إلى أمته رسوله يدعوها إلى ما يحصل سولها وسوله فلبت كل أمة دعوة رسولها وأقبلت
لاستماع المراسيم وقبولها فاجتمعوا في رياض مرج أخضر وحلقوا لاستماع المراسيم حول المنبر وأطرقوا وسكتوا واستمعوا وأنصتوا وتناول المرسوم الصادح من الباغم وصعد على الغصن الناعم مطوق الحمائم وابتدأ باسم الكريم الغفور وقرأ على رؤس الأشهاد مضمون المنشور ودعاهم إلى الطاعه والدخول في سنن السنة والجماعه وأنهم لا يتاخرون عن الحضور بعد الأطلاع على مضمون المنشور فانه فرمان أمان لكل من أجناس الحيوان ولم يبق مقالاً لمتخلف ولا مجالاً لمتأخر ومسوف كما قيل:
فمن جاءنا طوعاً أقمنا بمجده
…
ومن يأب لا يعتب علينا فعالنا
إلى آخر الرسالة مع ما تحمله الرسول من مشافهة ومقاله ومن ملاطفات تشرح الصدر وتستنزل البدر وتوضح ما للملك من جلالة وقدر فتلقى الكل هذا الكلام بآذان القبول والأكرام واتفقوا على التأهب والمسير والأحتفال بالكبير وأخذوا في تعبية التقادم والخدم وفرضوا ذلك على ما لكل من طوائف وحشم وتصدعوا عن هذا المرسوم على أن يجتمعوا في يوم معلوم ثم أعد كل عتاده وأكمل خدمته وزاده واجتمعوا لذلك اليوم الموعود وتوجهوا إلى الخدمة في الطالع المسعود ولما دخلوا الدرب وضربوا في الأرض أيمن ضرب توجهت الحمامة بالبطاقة بهذه البشارة والطلاقة فانتشر هذاالخبر وملأ البدو والحضر فلما وصل الطائر دقت البشائر وسرت الأهل والعشائر ثم إن الملك دعا الوزير وقال اعلم أيها الناصح الخبير والبحر النحرير أن الوحوش واصلة إلى منزلك وبخفها وحافرها نازلة في ساحلك وإن راية سلطاننا بعون الله بالنصر نتشرت ووحوش الجنود والعساكر بحمد الله تعالى على بساط بسيط الطاعة حشرت وفي هذه الجيوش أصناف الوحوش وطوائف السباع
وأنواع الذئاب والضباع وفيهم الفراعل والثعالب والعسابر والأرانب ولا شك أن هيبة الملك صادعة وحرمة السلطنة باسطة فارعه وحضرة السلطان ذات جلال وإن كانت جامعة لصفتي الجلال والكمال وما عند كل أحد مسكة للملاقاة ولا ثبات جنان عند المشاهدة لملك إذا رآه فمن لم يكن بيننا وبينه اجتماع فقد وقرت هيبتنا في قلبه على السماع ومن تصدينا له في ميادين الصيد وأفلت بعد معافاة الكد والكيد قد رأيته على العيان ولا يحتاج في معرفة قوة سلطاننا إلى ترجمان وعلى كل تقدير فمشاهدتنا على غالبهم أمر عسير لأنه ربما يتذكر منهم متذكر أو يتفكر منهم متفكر واقعة أو سابقة وقعت أنجرح فيها من نصل أنيابنا مفاصل عراقيبه أو تعلق بها من أشعاره وأوباره مشاطة جلابيبه ومن لم ينجه منا ضباحه ولم يكن سلاحه من كلاليب مخاليبنا إلا سلاحه فبمجرد ما يقع نظره علينا أو تمثل بالوقوف لدينا يرجف فؤاده وينفض عيبة كرشه زاده فينكص من الخوف على عقبيه ولا يعرف أمره من حواليه فيتبعونه ويحصل الفشل ويقع الخباط والخلل فيبهم ما أوضحناه ويفسد أضعاف ما أصلحناه وينهدم من أول الأمر إلى آخره ما بنيناه ويتعوج من مستقيم السلطنة ما سويناه فلا يحصل من عزة المملكة إلا على مثل ما حصل لأبي الحصين من شيخ الديكه فقال الوزير ينعم مولانا الأجل بتقرير هذا المثل (قال الملك) سمعت مخبراً أنه كان في بعض القرى الرئيس ديك حسن الخلق وديك مرت به التجارب وقرأ تواريخ المشارق والمغارب ومضى عليه من العمر سنون واطلع من حوادث الزمان على فنون
وقاسى حلوه ومره وعانى حره وقره وقطع للثعالب شباك مصايد وتخلص لأبن آوى من ورطات مكايد ورأى من الزمان وبنيه نوائب وشدائد وحفظ وقائع لبنات آوى وثعالب وطالع من كتب حيلها طلائع كتائب وأحكم من طرائقها عجائب وغرائب فاتفق له في بعض الأحيان أنه وقف على بعض الجدران فنظر في عطفيه وتأمل في نقش برديه فرأى خيال تاجه العقيقي ونظر إلى خده الشقيقي ونفض بزائله المنفش وسراويله المنقش والثوب الذي رقمه نقاش القدرة من المقطع والمبرقش فأعجبته نفسه وأذن فاطريه حسه وتذكر ما قاله الأسعد المادح في المعتصم بن صمادح وهو:
كأن أنوشروان أعطاه تاجه
…
وناطت عليه كف مارية القرطا
سبى حلة الطاوس حسن لباسه
…
ولم يكفه حتى سبي المشية البطا
فصار يتيه ويتبختر ويتقصف ويتخطر فاستهواه التمشي سويعة حتى أبعد عن الضيعة فصعد إلى جدار وكان قد انتصف النهار فرفع صوته بالأذان فأنسى صوته الكناني والدهان فسمعه ثعلب فقال مطلب وسارع من وكره وحمل شبكة مكره وتوجه إليه فرآه فسلم عليه فلما أحس به أبو اليقظان طفر إلى أعلى الجدران ثم حياه تحية مشتاق وترامى لديه ترامي العشاق وقال أنعش الله بدنك وروحك وروى من كاسات الحياة غبوقك
وصبوحك فانك أحييت الأرواح والأبدان بطيب النغم والصياح في الآذان فان لي زماناً لم أسمع بمثل هذا الصوت وقاك الله نوائب الفوت ومصائب الموت وقد جئت لأسلم عليك وأذكرك ما أسدى من النعم إليك وأبشر ببشارة وهي أربح تجارة وأنجح من الولاية والأمارة لم يتفق مثلها في سالف الدهر ولا يقع نظيرها إلى آخر العصر وهي أن السلطان أيد الله بدولته أركان الإيمان أمر منادياً فنادى بالإيمان والأطمئنان وأجراء مياه العدل والإحسان من حدائق الصحبة والصداقة في كل بستان وأن تشمل الصداقة كل حيوان من الطير والوحوش والحيتان ولا يقتصر فيها على جنس الإنسان فيتشارك فيها الوحوش والسباع والبهائم والضباع والأروى والنعام والصقروالحمام والضب والنون والذباب وأبو قلمون ويتعاملون بالعدل والأنصاف والإسعاف دون الأعساف ولا يجري بينهم إلا المصادقة وحسن المعاشرة والمرافقة فتمحى من لوح صدورهم نقوش العداوة والمنافقة فيطير القطا مع العقاب وببيت العصفور مع الغراب ويرعى الذئب مع الأرنب ويتآخى الديك والثعلب وفي الجملة لا يتعدى أحد على أحد فتأمن الفارة من الهرة والخروف من الأسد وإذا كان الأمر كذا فقد ارتفع الشر والأذى فلا بد أن يتمثل هذا المرسوم ويترك ما بيننا من العداوة والخلق المذموم ويجري بيننا بعد اليوم المصادقة وتنفتح أبواب النمحبة والمرافقة ولا ينفر أحد منا صاحبه بل يراعي مودته ويبالغ في حفظ جانبه وجعل الثعلب يقرر هذا المقال والديك يتلفت إلى اليمين والشمال ويحتاط غاية الاحتياط ولا يلتفت إلى هذا الهذيان الخياط فقال الثعلب يا أخي مالك عن سماع كلامي مرتخي أنا أبشرك ببشائر عظمه لم تنفق في
الأعصر القديمة وإنما برزت بها مراسيم مولانا السلطان الجسيمة وأراك لا تلتفت إلى هذا الكلام ولا تسر بهذا اللطف العام ولا تلتفت إلي ولا تغول علي وتستشرف على بعد الشيء فهلا أخبرتني بما أضمرت ونويت وتطلعني فيما تتطاول إليه على ما رأيت حتى أعرف في أي شيء أنت وهل ركنت إلى أخباري وسكنت فقال أرى عجاجاً ثائراً ونقعاً إلى العنان فائراً وحيواناً جارياً كأنه البرق سارياً ولا عرفت ما هو ولكنه أجرى من لهوا فقال أبو الحصين وقد نسي المكر والمين بالله يا أبا نبهان حقق لي هذا الحيوان فقال حيوان رشيق له آذان طوال وخصر دقيق لا الخيل تلحقه ولا الريح تسبقه فرجفت قوائم الثعلب وطلب المهرب فقال أبو المنذر تلبث يا أبا الحصين وأصبر حتى أحقق رؤيته وأتبين ما هيته فانه يا أبا الحصين يسبق طرف العين ويكاد أبا النجم يخلف النجم في الرجم فقال أخذني فؤادي وما هذا وقت التمادي ثم أخذ يسلح وولى وهو يصدح بقوله:
لابس التاج العقيقي
…
لا تقف في طريقي
إن يكن ذا الوصف حقاً
…
فهو والله السلوقي
فقال الديك وإذا كان وقد قلت إن السلطان رسم بالصلح بين سائر الحيوان فلا بأس منه عليك فتلبث حتى يجيء ويقبل يديك وتعقد بيننا عقود الصداقة ويصير رفيقنا ونصير رفاقه فقال ما لي برؤيته حاجة فدع عنك المحاجة واللجاجة فقال أو ما زعمت يا أبا وثاب إن السلطان رسم الأعداء والأصحاب أن يسلكوا طرائق
الأصدقاء والأحباب فلو خالف المرسوم هذا الكلب لما قابله الملك إلا بالقتل والصلب قال لعل هذا المشوم لم يبلغه المرسوم ثم ولى هارباً وقصد للخلاص جانباً (وإنما أوردت) يا نفيس هذا المثال لتقييس أحوال من دان لك من هذا الحيوان ولا تشقها بعصا واحدة واحسب حال كل واحد على حده فربما يكون في هذه البهائم من لا هو بأحوال الصلح عالم ولم تبلغه الدعوة وإنما انضاف بسبب رجوه أو آمن على سبيل التبعية والتقليد ولم يطلع على موارد الوعد والوعيد ولا وقف على ما وقع من الأتفاق ولا يثبت لمصادمة اللقاء وقت التلاق فيصدر منكم حركة تؤدي إلى قلة بركة وتستطرد إلى نفرة جفول فيدهمنا هدم ما أسسناه على غفول ويقع من الفساد ما لا يمكن تلافيه ويضيع نقود جواهر جهدنا وكدنا فيه وإذا كانت الدنيا محل العوارض والغالب أنه عند مشارفة المقصود يحصل العارض والعاقل لا يغفل عن هذا الخطر فعند صفو الليالي يحدث الكدر وقد كفاك من ناداك بقوله:
إذا قربت يداك إلى مرام
…
وقلت تخولت نفسي مناها
فلا تأمن من الدهر اختلاسا
…
بحول فمكره في ذاتنا هي
كجان لم يصبه الشوك إلا
…
وقد وصلت يداه إلى جناها
فالرأي السديد يا أبا سعيد يقتضي أن تمضي الحمامة المطوقة إلى تلك الجموع المفرقة وتنادي في كل نادي بين الحاضر والبادي والرائح والغادي بحقائق الأمور وتطيب خاطر الجمهور وما هم قادمون عليه ومن هو الواصلون إليه ليعلموا أنهم في صفقتهم رابحون وأنهم على هدى من ربهم وانهم مفلحون
فتوجهت الحمامة بهذه النقوش وشهرت النداء في طوائف الوحوش بما هم عليه قادمون وأنهم للملك يسار خادمون ثم تبعها الوزير ومعه كل أمير وكبير من خواص المباشيرن والأعيان الملازمين وكبراءالأطيار ورؤساء الأخيار واستقبلوا ملوك الوحوش والهوام ورؤساء السوائم والسوام وقابلوا ملتقاهم بالإعزاز الإكرام ووعدوهم بكل خير وإحسان ووصلوا بهم إلى ميدان الأمان وحين حل عليهم نظر السلطان قبلوا الأرض ووقفوا في مقام العرض وأدوا من واجب العبودية النفل والفرض فانزل كلاً في مقامه بعد أن أحله في محل إكرامه وأفاض عليه خلع إحسانه وإنعامه وعلت منزلة الوزير وتقدم كما تقدم وأشير وصفا لهم الزمان وعاش في ظل عدلهم كل ضعيف من الحيوان وتقلبوا في رياض الأماني على بساط الأمان (وفائدة هذه الحكايات تنبيه أشرف جنس المخلوقات وألطف طائفة المكونات وهو نوع الإنسان الذي اختصه الله تعالى بأنواع الإحسان وأيده بالعقل وأمده بالنقل على انه إذا كان هذا الفعل الجليل يصدر في التنظير والتمثيل من أخس الحيوانات وما لا يعقل من الموجودات فلأن يصدر من أولى النهى وأولى الفضل والمكارم والعلى أولى وأحرى لا سيما من رفع الله في الدنيا مقداره وأعلى على فم الخلائق منارة وحكمه في عبيده المستضعفين واسترعاه على رعية سامعين مطيعين وسلطه على دمائهم وأموالهم وبسط يده ولسانه في رفاهيتهم ونكالهم والأصل في هذا كله قول من عم عبيده بفضله وبقوله اهتدى العالمون وتلك الأمثال نضر بها للناس وما يعقلها إلا العالمون) آخر الباب السادس والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين آمين.