الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن
في حكم الأسد الزاهد وأمثال الجمل الشارد
(قال) الشيخ أبو المحاسن من هو لجرعة الفضل أحسن حاسن فلما وعى الملك الجليل والقبل الفضيل ما جرى بين الأسد والفيل من القال والقيل وانجرار ذلك الضرب الوبيل وعلم أن عاقبة الظلم وخيمة وخاتمة التعدي والطمع مشومة أمر رؤساء المملكة وزعماء السلطنة بالكف عن الطمع وتجنب الجبن والهلع ومعاملة الأهل والجار بحسن الخلق والحوار وانتشار ذلك بالإشهار في الولايات والأقطار فالعاقل من اعتبر بغيره وكف كفه عن أذاه وضيره ونشر مهما استطاع من موائد إحسانه وخيره وعدى عن التعدي والعدوان لا سيما إذا كان ذا قدرة وإسكان وتحكم في الفقراء والضعفاء وسلطان فنهض الحكيم حسيب وقيل أرض العبودية بشفاه التأديب وقال وبلغني أيها الملك المفضال مما يطابق هذه الأحوال أنه كان في بعض الأزمان وأنزه الإسكان سلطان الحيوان أسد عظيم الخلقة جسيم الشفقة جليل المكارم سليل الأكارم قد بلغ في الزهد الغاية وفي الورع والعفة النهاية مع حسن الأوصاف والشمائل وكرم الأعطاف والفضائل قد جمع بين الهيبة والشفقة والصدق والصدقة وسورة الملك وسيرة العدل وسيمة الفضل وشمية الفضل هيبته ممزوجة بالرأفة وعاطفته مدموجة في الصوله قد عاهد الرحمن بالكف عن أذى الحيوان وأن لا يريق دماً ولا يتناول دسماً ولا يرتكب محرماً يتقوت بنبات القفار ويقوم الليل ويصوم النهار يرعى في دولته الذئب مع الغنم وينام في كنف ضمانه وكفالة مأمنة الثعلب والأرنب بعد الحرب والحرب في ظل الضال والسلم كما قيل:
ولي البرية عدله فتمازجت
…
أضدادها من كثرة الإيناس
تحنو على ابن الماء أم الصقر بل
…
يحمي أخو القصباء أخت كناس
وفي جواره دوحة كثيرة الثمار غزيرة الأنهار نضيرة الأزهار رائقة الماء والكلا فائقة النشور والنما شائقة النشر والهوى رياحينها طريه ومروجها بهية ومقاصفها شهية فكان الأسد ذو الزهاده إذا أطال اجتهاده وأراد أن يربح نفسه من مشاق العبادة يتوجه إلى ذلك الروض الأريض والمرج البهي الغريض والمرعى الطويل العريض فيتنزه في نواحيه ويسرح سوائم طرفه فيه ويشغل صادح لسانه بتسبيح خالقه ومنشيه فبينما هو في بعض الأوقات يتمشى في تلك الخضراوات صادف دباً عظيم الجسم مليح الوسم فقبل الأرض بين يديه وذكر أنه أقبل لينتمي إليه وأنه قد سمع بأوصاف عدله ومكارم شميه وفضله فقصده ليتشبث بأذياله وينتظم في سلك خيله ورجاله ويزجى في خدمته باقي عمره ممتثلاً بارز مرسومه ونافذ أمره فتلقاه بالقبول والإقبال وشمله بالفضل والافضال وقال له طب نفساً وقر عيناً لقيت زينا ووقيت شيئاً فانتظم في سلك خدمه وانغمر في بحر كرمه واشترط عليه أن يحتمي عن لحوم الحيوان ولا يتعرض لإيذاء طائر ولا إنسان فامتثل ذلك بالسمع والطاعة وسار على سنن السنة والجماعة ثم بعد مدة يسيرة قصد الأسد مسيرة وخرج يسير على باكر وحوله طائفة من العساكر فلقى جملاً ضل الطريق وتاه عن الصاحب والصديق ونسيه الجمال وتركه الرفيق فبادر إليه جماعة الأسد وهموا بتبضيعه بالناب واليد فانهم كانوا الشدة القرم ألهبت أحشاؤهم بالضرم فناداهم الأسد ويلكم كفوا وعن التعرض إلى إيذائه عفوا لئلا لئلا يصيبه من الكيد ما أصاب صاحب كسرى ذي الأيد من كسرى لما خرج صباحاً إلى الصيد فقبل الجماعة الرغام وسألوا الإمام عن بيان ذلك الكلام
(فقال) ذكر أن كسرى أراد يوماً الاصطياد فركب في جماعته وأهل طاعته وسار على الصباح وهو في نشاط ومراح وابنساط وانشراح فصادف رجلاً كريه المنظر مشوه الخلقة أعور فتشاءم بطلعته وتعوذ من رؤيته وتطير من صياحه وتكدرت صفو انشراحه ثمن أمر به فضرب ولولا تداركته الشفاعة لصلب ثم تركه وسار نحو صيد القفار فحاش الصيد واقتنصه من عسكره عمرو وزيد ورجع مسروراً فرحاً محبوراً وأدركه المساء فصادفذلك الرجل ملتفاً بكساء وكان ذا لب صحيح وعقل رجيح ولسان فصيح فأبدى كسرا ونادى كسرى واستوقفه بعدما استلطفه وقال أيها العادل والمالك الفاضل أسألك بالله الذي ملكك رقاب الأمم وحكمك في طوائف العرب والعجم أنعم على برد الجواب وبين لي الخطأ من الصواب فانك عادل حكيم فاضل كريم فوقف بعسكره واستنصت لخبره وقال هات مقالك وقل ما بدا لك فقال يا ملك ذا الأيد كيف كانت أحوالك اليوم في الصيد فقال على أتم ما نريد لقد حصله السادات والعبيد فقال هل حصل في أمور السلطنة وهن أو خلل أو في الخزائن المعمورة نقص وقلل قال لا بل أحوال السلطنة مستقيمة وديم الخزائن دارة مقيمة قال فهل ورد اليوم من الأطراف خبر يؤذن بتشويش واختلاف قال لا بل الجوانب مطمئنة والثغور من الأعداء والمخالف مستكنة قال فهل أصاب أحداً من الخدم والأصحاب والخول والحشم مصاب قال بل كلهم بخير آمنون من الضرر والضير قال فلم ضربتني وأهنتني وعلام كسرتني وطردتني قال لأن التصبح بك مشوم وهذا أمر مشهور معلوم قال سألتك بالله الذي تتقلب في مواهبه أينا كان أشأم على صاحبه أنا تصبحت بم وأنت تصبحت بي فأنت أصبت الذي
ذكرت وقد علمت ما حل بي ومع هذا فإنما عبت وعتبت على الصانع وذهلت عما أودعه في من أسرار وبدائع فانه لا اختيار لي فيما فطرني عليه ولا مدافع ولا حيله فيما قدره علي ولا ممانع واسمع ما قلت بعدما وصلت في إهانتي وجلت:
لقد كان قصدي أن أسود على الورى
…
بقد وطرف كامل الخلق بارع
ووجه يفوق البدر والشمس بهجة
…
فعاكسني تقدير ربي وصانعي
ثم خطر بالبال هذا المقال قلت:
وددت لو أني أحسن الخلق صورة
…
وأكمل من بدر السما وهو طالع
فأبدعني نقش المصور هكذا
…
ولا صنع لي فيما بي الله صانع
فتنبه كسرى لكلامه وأمر بإعزازه وأكرمه وتدارك ما فرط منه بإحسانه وإنعامه (وإنما أوردت) هذا المثل لئلا يكون هذا الجمل مثل ذلك الرجل لأنه قد تصبح بي فلا أبدأ مكروهاً بسببي بل يرى الخير ويكفي أذى الغير وكذلك كل من هو عندي ومنسوب إلى من خولي وجندي ثم عاد ذلك البعير وسأله عن جليل أمره والحقير فأخبره أنه تاه عن أصحابه وأنه من بعد يتعلق بغرز ركابه ويلازم خدمة بابه كأصحابه فاكرم مثواه وأحسن متبوأه ومأواه إلى أن صار من أكبر الخدم وذا خول وحشم ورأس الندماء ورئيس الجلساء وأمن النكد والبوس وسمن حتى صار كالعروس فحسده الدب لعدم اللب وعزم بمكره على إلقائه في الجب واشتد بذلك البرم إلى أكل لحم الجمل القرم فأخذ
يضرب في ذلك أخماساً لأسداس وأحتوشه في قضيته لسوء طويته القلق والوسواس فلم ير أوفق من إفساد صورته وأظهار سوء سريرته فيهلكه ويكيده ويفتنه ويبيده فيصل منه إلى ما يريده ويثمر بمكره الحسد ويصلح من شرهة ما فسد ويروج منه ما كسد فأدى فكره إلى أن يغري به الأسد فاختلى بالجمل وأبتدأ بالعمل وقال له لي معك كلام على كتمه منك ألام ولكنك لست موضعاً للسر لأنك لا تعرف هرامن بر وأنت ساذج ساكن سليم الفكر والباطن وقد قيل الحماقة في الطويل ولولا وفور شفقتي وحنوي عليك ومودتي ما فهمت لك بكلمة ولتركتك من التيه في ظلمه وقالت الحكماء ذو المعارف لا تفش سرك إلى طوائف منها سليم الفطرة ومنها مد من الخمرة ومنها الكثير الكلام ومنها المرأة والغلام فأنهم ليسوا محل الأسرار وأنهم يغشونها بلا اختيار وقد قيل كم إنسان أهلكه اللسان وكم حرف أدى إلى حتف قال الجمل وقد أثر فيه مكره ودخل يا أخي أتحقق شفقتك وصدقك وصداقتك وأعرف محبتك ونصحك ومودتك وأنت لا تحتاج في تجربتي إلى دليل في صحبتك زمان كقدى طويل وأنا أوكد قولي بالإيمان وأعقد على ما تلقيه إلى الجنان ولا أتفوه به لجماد ولا حيوان والشخص إذا لم يعرف منه ما يراد فلا فرق بينه وبين الجماد واذكر ما قلت لك في درب ابن تلك: ومن كان ذا عين ولا يبصر الذي أمامه فهذا والضرير سواء
وذو الجهل خير من عقول علومه
…
سراج ولكن ليس فيه ضياء
ثم أنشأ ايماناً غلاظاً أنه يبالغ فيما يسمع منه احتفاظاً ولا يبدي منه
لا ما ولا فاء ولا ظا فلما وقف الدب على جوابه وربطه بزمام تدبيره اختلى به وقال تعلم أيها الصديق المبين أن ملكنا في غاية العفة والدين وأعلى درجات العباد والزاهدين قد فطم نفسه عن الطعوم خصوصاً عن الدماء واللحوم ولكنه في ذلك كله غير معصوم فانه قد تربى بلحم الحيوان وتغذى بافتراس الأقران وتعد رضع الدماء وقطعت سرته على هذا الغذاء وتزهده إنما هو تكلف وتعسف وتصلف وتعففه مكابرة وتورعه مصابره ولا بد للنفس أن تفعل خاصيتها وتجذب شهواتها إليها ناصيتها وتطمح إلى مأزرها وتجمح إلى مركزها وقال الله تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله وإذا كان ذلك كذلك فاحتفظ لنفسك واحفظ نصيحتي وأمسك وتفكر أحوال غدك في أمسك فانك في صحبة الأسد على خطر عظيم وخطب جسيم فلا تغفل عما قلت لك ولا تظن أنه لن يقتلك فداخل الجمل من هذا الكلام الخور ولم يبق له طاقة ولا مصطبر ثم ثبته التوفيق وتخلل في هذا الأمر الجليل فكرة الدقيق واستحضر رأيه في أمره وأجال قداح فكره وقال للدب المشوم يا أخي فأي ضرورة دعت الأسد الغشوم حتى تعفف عن أكل اللحوم قال أنا لا اشك في دينه ولا أرتاب في حسن يقينه ولكن ربما تعود المياه إلى مجاريها وتعطي القوس باريها وتتحرك النفس الأبية والشهوة التي طالما ألقت صاحبها في بلية لأن الإنسان بل سائر الحيوان على ما يقتضيه الكون والمكان دائرة مع اختلاف أخلاق الزمان فان الزمان كالوعاء والشخص فيه كالماء فيعطيه من إخلافه ما يقتضيه من كدره وصفائه ولهذا قيل لون الماء لون إنائه وقد قيل الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم وناهيك يا ذا الكرامات
ما قيل في المقامات:
ولما تعامى الدهر وهو أبو الورى
…
عن الرشد في أنحائه ومقاصده
تعاميت حتى قيل أني أخو عمي
…
ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده
والأسد في هذا الأوان ماش على ما يقتضيه الزمان وإن الزمان يتحول وسير جمع الأسد إلى خلقه الأول أما بلغك يا ذا الفطنة الحية قصة الحائك مع الحية قال لا ورب البرية فأخبرني عن كيفية تلك القضية قال الدب الأفك ذكران حائكاً من الحياك كانت له زوجة تخجل شمس الأفلاك صورتها مليحة وسيرتها قبيحة فشم زوجها روائح ما هي عليه من القبائح وخاف أن يؤدي إلى الفضيحة فطلب تحقيق ذلك ليوصلها إلى المهالك فقال لها أريد ضيعه لأجل بيعه فأغيب أياماً يسيره لفائدة كثيرة فارصدي بابك وأسدلي حجابك واحفظي من الشر جنابك فقالت بيت أنت رئيسه ومثلي قعيدته وعروسه أنى يحوم حوله فساد فأدرك سوقك قبل الكساد وجزته أسرع جهاز كالمتوجه إلى الحجاز فسافر من غير مريه ثمن رجع إلى البيت في خفية واختبأ تحت السرير لينظر ما يجري فبادرت إلى النار ونفخت وأسرعت إلى الطعام وطبخت وخرجت تدو مرامها وقد هيأت طعامها فخرج زوجها من المخبأ وأتى على الطعام المهيأ ورجع إلى مكانه ونام بعد أكله الطعام فجاءت المرأة بحريفها وقصدت الطعام لمضيفها فصادفت يدها الحصير فعرفت أن البلاء تحت السرير فأخذت تطلب المخلص من ذلك المنقص واتفق أن الملك رأى مناماً هاله ولكن نسي هيئته وحاله فقصد من يخبره برؤياه ويعبر هاله فنادى في الورى يطلب لمنامه مخبراً ومعبراً وبينما تلك الفاجرة على حيلة الخلاص دائرة وفي بحر الأفكار حائرة سمعت المنادي ينادي في كل نادي من يدل الملك الهمام على معبر المنام فله
مزيد الإكرام والإنعام العام فسارعت المرأة إلى باب الأمير وقالت قد سقطت على الخبير أن لي زوجاً حكيماً بتعبير المنامات عليماً لكنه يتعزز وعن تعبيرها يتحرز فلا يفوه بالتعبير إلا بعد ضرب كثير وأنه ليس له في ذلك نظير فأرسل وراءه وأكرم لقاءه ثم قال له بعد إكرام أوصله ووعده بأنعام وصله رأيت مناماً راعني وفي الحيرةوالفكر أضاعني فدع عنك الاحتشام وأخبرني عن ذلك المنام ثم عبره لي فقد أخبرت أنك حبيب لله ولي فقال يا مولانا الملك أنا في الجهل منهمك حائك فقير ليس لي من العلم نقير ولقد كذب علي من نسب العلم إلي والعين تعرف العين أنا من أين وتعبير الرؤيا من أين فما صدقه ولا في كلام استوثقه وصدق قول المرأة فيه بإيصاله ما ينكيه ثم طلب المقارع وشدوا منه الأكارع وضربوه ضرباً أعسفه إلى أن كاد أن يتلفه فنادى الأمان الأمان أمهلني ثلاثة أيام من الزمان فتركوه وأمهلوه وقيده أطلقوه فصاروا بدور في الخرائب ويتضرع تضرع النائب ففي ثالث الأيام وقد أيقن بحلول الحمام دخل إلى مكان خراب وأخذ في البكاء والانتحاب فنادته حية من الشقوق مالك تنتحب يا ذا العقوق فأخبرها بحاله وما جرى عليه من نكاله فقالت ماذا تجعل لي من الأنعام إذا أخبرتك بما رآه الملك في المنام ثم فضضت عن تعبيره مسك الختام قال أكون لك عبدا وصيفا وأعطيك مما أعطى نصيفا قالت إن الملك رأى في منامه أن الجو يمطر من غمامه أسود ونمور وفهودا وببور وأن السماء في ذلك تمور وتعبير هذا المنام والله أعلم أنه يظهر في هذا العام للملك أعداء كواسر وحساد جواسر يقصدون هلكه ويريدون ملكه وسيطفئ نار كيدهم بمياه سيوفه ويسقيهم من رحيق فتوحه كاسات حتوفه فكشفت غمته
ثم أصلح لباسه وعمته وقصد باب الملك ونادى غير مرتبك وذكر المنام وعبره ووعد السلطان بالنصر وبشره فتذكر المنام وحققه واعتمد عليه وصدقه وأمر له بألف دينار وصار له عند الملك بذلك الاعتبار فأخذ الذهب مجبورا وانقلب إلى أهله مسرورا ثم افتكر ما اشترطه مع الحية فأبت عن الوفاء نفسه الشقية وخاف أن تطالبه بحصتها أو تفضحه بقصتها فلم ير أوفق من قتلها وسد ذريعة سلبها فأخذ عصا ورام بذلك مخلصا وقصد مأواها ووق فناداها فخرجت مسرعة إليه وأقبلت بالوداد عليه فرأت العصا بيمينه فعلمت أنه ناكث بيمينه فولت هاربة فضربها ضربة خائبة لكنه جرحها وعمد إلى نفسه ففضحها وتركها وذهب فائزا بالذهب فاتفق أن في العام الثان رأى السلطان مناما أقلقه وعن نومه أرقه ومن شدة أهواله محاه الوهم عن لوح خياله فدعا المعبر المعهود إليه وقص حاله عليه وطلب منه صورة المنام وما يترتب عليه من كلام فاستمهله الأيام المعدودات وقصد رئيسة الحيات وناداها عجلا ووقف في مقام الاعتذار خجلا فقالت أي غدر كيف استحليت ما مضى من فعلك ومر بأي وجه تقابلني
وتخاطب وقد قصدت عطبي بعد ما خلصتك من المعاطب وقابلت إحساني بالسوء ولكن غدرك بك يبوء فقال عفا الله عما سلف والصداقة بيننا من اليوم تؤتنف ثم أنشأ أيمانا أنه يبدل الإساءة إحسانا وأنه لا يخون ولا يمين فيما يقع عليه العهد واليمين بل يعود إلى العهود ومهما وقع عليه الاتفاق لا يمازجه خلف ولا نفاق فقلت أريد جميع الجائزة لأكون بها فائزة ولها حائزة فأجابها إلى ما سألت وعاهدها على ذلك فقبلت وقالت رأي الإمام في هذا المنام أن السماء تمطر قردة وفيرانا
وثعالب وجرذانا وتعبير هذه الرؤيا وكلمة الله هي العليا في هذا العام والشهور والأيام يكثر اللصوص والعيارون والمكرة والطرارون ويظهر في العساكر كل حسود ماكر وشيطان داعر ولكن صولة الملك تمحقهم وصواعق سيوفه تصعقهم فأسرع إلى السلطان وخبره بما رآه في منامه وعبره فقال بالحق أتيت هذا الذي كنت رأيت ثم أمر له بجائزة سنية وخلعة بهية فصار في عيشة مرضة وحياة هنية وسلك طريقته الدنية فلم يلتفت إلى عهوده القوية ونبذ عهد الحية الحبية وقال يكفيها مني كفي عنها فلا تطالب مني ولا أطلب منها ثم أن السلطان رأى في المنام في ثالث الأعوام مناما آخر ونسيه فأرسل إلى المعبرة فغشيه من يم الهم ما غشيه وسأله عما رآه وطلب منها تعبير رؤياه فطلب كما كان وأحاط به موج الهم من كل مكان ولم ير بدا من معاودة الحية فأتاها وبه من الحياء كية وناداها بصوت خاشع ووقف في مقام الذليل الخاضع فخرجت فرأته وزأرته وقالت يا خائن يا كذاب يا ناقص العهد يا مرتاب يا قليل الحياء يا كثير البذاء يا صفيق الوجه يا حقيق النجه ترى بأي لسان تخاطبنيوبأي وجه تقابلني وقد ختلت وفتلت وفعلت فعلتك التي فعلت فقال لم يبق للاعتذار مجال ولا للاستقالة مقال وما ثم طريق إلا معاملتك بالأفضل فأن أفضلت أتممت الإحسان وإن رددت فعذرك واضح البيان
وهذه المرة الثالثة لا تكون يمينها حانثة ولا عهودها ناكثة وأشهد الله وكفى به شهيدا أني بعد لا أنقض لك عهوداً ولا أجل مما بيننا عقوداً لا أخبرك بشيء أن لا تعهد إلى أن تعطيني جميع ما تعطي وتكف هما وقع منك من الخطأ فسمع مقالها وأجاب سؤالها فقالت رأى الملك في منامه كان الجو أمطر من غمامه ما ملأ الفضاء من خرافه وأغنامه وتعبير هذا المنام أنه يكون في هذا العام من الخيرات والأنعام ما يشمل الخاص والعام فتطيب الأوداء وتصالح الأعداء وتطيع العصاه وتذعن البغاة ويوافق المخالف ويكثر المحب والموالف فاحفظ ما قلت لك فقد حللت مشكلك فتوجه بصدر منشرح وخاطر مطمئن فرح وقص المنام وعبر ما فيه من الأحلام فطار الملك بالفرح وتم سروره وانشرح وأمر بالجوائز فصبت عليه وبالأموال فانهالت إليه فنعم بتلك العطبه والخلع السنية وقصد وكر الحية ثم وقف وناداها وقدم إليها كل ذلك وأعطاها وشكر لها إحسانها وتحمل جيلها وامتناعها فقالت له الحية أعلم يا أبلم أنه لا عتب عليك ولا ملام فيما جنيته أولا من الآثام ولا ما ارتكبته من العداوة والمين في العاملين الأولين ولا فضل لك في هذه السنة على ما فعلته من الحسنه فان ذينك العامين كانا مشتملين على قران النحسين فكان مقتضى حالهما فساد الزمان والعداوة بين الأصدقاء والأخوان ووقوع البغضاء والشرور والحنث والخلف وقول الزور فجريت على مقتضاهما حسب مرتضاها والناس في طباعهم وأيامهم أشبه بزمانهم منهم بآبائهم
وهذا الأوان قد انصلح الزمان واستقام الطالع وزال الحسد والتقاطع واقتضى الزمان الصلح والصلاح والموافقة والفلاح فمشيت على موجبة وتشبثت بذيل مذهبه فخذ مالك وانصرف بارك الله لك فيه فلا حاجة لي به ولا يد لي لتقلبه (وإنما) أوردت هذا المثل أيها الجمل لتعلم أن الزمان لتقلبه في الدوران يوقع بين الأصحاب والأخوان ويباين بين الأصدقاء والخلان والأسد المجتهد وإن كان قد زهد وترك من أخلاقه ما عهد فيمكن عوده إلى حاله الأولى فالاحتراز منه في كل حال أولى وها أنا قد أخبرتك ومن سوء العاقبة حذرتك وعلى ما وصل إليه فكري أطلعتك وفرط محبتي وشفقتي عليك اقتضى إفشاء السر إليك ومن أنذر فقد أعذر ومن بصر فما قصر قال الجمل يا أخي فنترك هذا المقام ونروح ونخدم من في خدمته نستريح قال الدب الجاحد إذا كان هذا العابد الزاهد الراكع الساجد الذي قد تعفف عن أكل اللحوم وليس له دأب إلا إغاثة المظلوم قد عف عن
الدماء وقنع بأكل الحشيش وشرب الماء لا تؤمن غائلته ولا تعتمد خاتلته فإلى اين نتحول وعلى من يكون المعول وأنى نذهب وفيمن نرغب قال الجمل فكيف يكون العمل فلقد ضاقت بنا الحيل وتقطعت بنا السبل لا طريق للمفر ولا قرار للمستقر فأفكر الدب طويلاً ثم رأى رأياً وبيلاً وقال أرى الرأي السديد والفكر المفيد أن نبادر الأسد قبل وقوع النكد فنقصده بما يقصده ولا نوصله إلى ما يعتمده فالعاقل يفتكر في عواقب الأمور ويقيس بفكره
السرور والشرور ويستعمل الحزم وإذا قصد أمراً يصمم العزم وناهيك قضية الثعبان مع ذلك الإنسان قال الجمل أخبرني عن تلك القضية ومن ذلك الإنسان وما تلك الحية (قال) أبو حميد الخبيث بلغني من رواة الحديث أن شخصاً من الصيادين كان مغرماً بصيد الثعابين يتسبب بصيدها ولا يبالي بكيدها فبينما هو يسعى إذ صادف أفعى شرها ناجز كما قال الراجز:
أرقش ظمآن متى غص لفظ
…
أمر من صبر ومقر وحظظ
وقد أثر فيه الحر بالحرق وهو نائم في مكان منطبق فاستبشر الحواء برؤيته وقبضه من عقصته فلم يفق الثعبان من رقدته إلا وهو من الحاوي في قبضته فتماوت وامتد وارتخى فأسبل بعد ما كان اشتد فظن الصياد أنه مات وإن مراده منه فات فتحرق لذلك وتألم عليه وتضرم وحرق عليه الأرم ورماهمن يده ثم دار في خلده أن في بطنه خرزة بهية مشرقة مضيه فاخرج الشفرة وقصده ومد لتبضيعه يده فلما تحقق الأرقم ما عزم عليه وصمم خدعه وختله وضربه فقتله (وإنما ذكرت) يا أبا أيوب هذا المثل المضروب لتتحقق أن المبادرة إلى اهلاك العدو أقر للعين وأجلب للهدو ومن فوت الفرصة وقع في غصة وأي غصة وهذا الأسد غفلنا عن أنفسنا أبادها وقصد دمارها وفسادها ولا يفيدنا إذ ذاك الندم بعد ما زلت القدم وتحكم في وجودنا من مخالبه العدم
فقال الجمل أعلم أيها الرفيق الصديق الشفيق إن هذا الملك آوانا وأكرم مثوانا ولم نشاهد منه سوأ ولا من ظلمة باطنة أنسناضوأ ولو قصد أذانا ما وجد دافعاً ولا ممانعاً وقد علمنا أنه ترك الأذى وكف عن الشر والبذا تعففاً لا تخونا وتكرما لا تكلفاً واختيار الاضطرار وجبر الكسر نالا إجباراً وأما أنا على الخصوص فلم أر منه إلا الجميل والفضل الجزيل والإحسان العريض الطويل فلأي شيء أشرع في أذى نفسي وأكدر في حدسي ولم يظهر لي منه أماره لا بمقتضى ولا بدلالة ولا بإشارة فضلاً عن سباق أو سياق بعبارة وأنا لو مت كمدا ما قصدته بأذى ولا رديته برداء ردى والصوفي ابن الوقت لا يتقيد بنكد ولا مقت فان قصدني بعد ذلك بشر أو تعرض لي بهلاك وضر لا يسعني معه إلا التفويض والتسليم والتوكل على العزيز العليم مع أني لا أقدر على مقاومته ولا قوة لي في دفع مصادمته ولا طاقة لكسر أنيابه ومخاليبه ولا خلاص من إشراك أساليبه غير أني وإن كنت منسوباً إلى التغفل لا أدع من يدي ذيل التوكل فبالتفويض يحصل النجاح وبالتوكل يظفر بالفلاح كما جرى لذلك الفلاح مع الذئب والشجاع حال التوكل على الله تعالى والانقطاع فسأل أبو سلمه إيضاح هذه الكلمة (قال) أبو صابر بلغني من أحد الأكابر أن شخصاً فلاحاً توجه إلى ضرورة صباحاً من غير رقيق ولا حامل سلاحاً فبينما هو في البيداء سائر صادفه ذئب داعر خاتل خاتر فقصده ليكسره ففر وصعد إلى شجره فترصد نزوله وانتظره تحتها ليغوله فانعصر وعن ضرورته انحصر وبينما هو في تلك البلية وقعت عينه على حية رديه ذات قرون صاعدة وهي على بعض الفروع راقدة فازداد همه وأحاط به لوهمه غمه فاستمر بين بليتين وانحصر في ديوان داهيتين دهيتين فلم يرأ وفق من التوكل
على الله والإعراض عما سواه فاعتمد متوكلا عليه وفوض أموره إليه وبينما هو في تلك الشدة وقد بلغ ضره حده وإذا برجل مقبل من الفلا وعلى عاتقه عصا فقصده الذيب من قريب فلما رأى السلاح فروله كلاح فنزل الفلاح من الشجرة وأزال الله تعالى همه وضرره (وإنما أوردت) هذا المثل لتعلم أن الله نعم المتكل فأخرج هذا الوسواس من القلب والراس ولا تبك سلفا ولا تعجل تلفا ولا تخلع الحذاء يا ذا الرياضة قبل أن تصل إلى المخاضة ولا تهتم لأمر ما وقع فإن ذلك من شر البدع فإن قصدنا بسوء فالله يكافيه ويكفينا بحوله وقوته فيه قال الدب ذو الضرر هذا رأي القاصر في النظر العاجز في الفكر فأما ذو الفكر الثاقب فلا يغفل عن العواقب فكل من قصر عن العواقب نظره ولم يسدد في الأمور فكره فهو كمن تعلقت النار بأهدابه والتهبت لإحراق ثيابه وهو مشغول عن إطفائها متساهل في كشف أنبائها فلم يفق إلا وقد نشبت وأعضاؤه بالنار التهبت فما تفيده الإفاقة وقد صار حراقة قال الجمل يا أخي أفق من محالك وعالج فساد تصورك وخيالك وانظر قوة جلدك وكيفية حالك أنا لحمي من صداقات الأسد وحبه في دمي وعظمي ثبت كيف أجحد نعمه أو أريق دمه وأنا غرس صدقاته وبنيان نفقاته ورفيق حضرته وعتيق منته مع إني لو نبذت عهده فقطعت ما قطعت وعزمت على مناوشته ما استطعت أما وعيت في معاني ما رويت:
هي العنقاء تكبر أن تصادا
…
فعاند من تطيق له عنادا
تريد صيد العقاب بفرخ الغراب أن تقتنص الذئاب بجرو الكلاب وتبغي بالقرود كسر الفهود أم بالسنانير تصيد الأسود ولا والله
لا أقصده بأذى ولا يطاوعني قلبي على ذلك أبدا ولو فعلت ذلك لسعيت في دماري وخراب دياري وجدعت أنفي بكفي وبحثت عن حتفي بظلفي وجززت بيدي رأسي وقطعتقدمي بفأسي وقلعت بإصبعي مقلتي واستحفظت ملك الموت مهجتي ولصرت من أكبر المعتدين وأفسدت ديني ودنياي والله لا يحب المفسدين قاطعوني هذا الكلام وارجع عن مفاوضتي بسلام ولا تشكك به جنانك ولا تحرك به لسانك وكان بالقرب منهما وكر فارة وقد سمعت ما جرى بينهما من عبارة ووعت كلامهما وما دار بينهما من كل منهما فلما رأى الدب المريد أن كلامه للجمل لا يفيد أمسك واحتشم وأخذه في ذلك الندم ولكن حال من الجمل الحال وأثر فيه هذا المقال واستولى عليه من الأوجال ما أداه إلى الهزل وصيره من الانتحال كالخلال وذهب ما كان عليه من النشاط وداخله الهم والاختباط وصار كل يوم في انحطاط ولم يزل بين نضو ورزاح ورازم ونازح فتعجب الأسد من حاله ولم يقف على سبب هزاله وكان عند السد غراب مقدم على الأصحاب هو وزيره ومعتمده وصاحب أخباره وعضده فعرض عليه حال الجمل وما شاهده منه من وجل وقال أنا عففت عن أكل اللحوم ورضيت من العيش بأدنى الطعوم وهذا أمر قد عرف واستقر فما بال هذا الجمل لا يأخذه مقر فأريد أن تعرف حاله وتخبرني صدقه ومحاله
فتوجه الغراب إلى منزل الجمل وقد اخلص في القول والعمل وسأله عن حاله وموجب هزاله وانتحاله وما سبب هذا الرزوح والرزوم المؤدي إلى النزوح فما أحار جوابا ولا ذكر خطأ ولا صوابا فصار الغراب يرتقبه وحيثما توجه يعتقبه ففي بعض الأيام كان الغراب على بعض الآكام رأى الجمل قد أقبل إلى الماء ليطفئ بشربه سورة الظمأ فتخفى الغراب واقتفى ظهره إلى أن قاربه وكمن خلف صخرة فسمعه يقول بعد ما شرب وقد رأى السميكات في اللعب لك الحمد يا رب ما أرحمك وطوبى لكن يا سمك لا من رئيسكن تخفن ولا من هيبته ترجفن لا ملك يهولكن ولا سلطان يغولكن ولكن البكاء على الجمل الذي ضاقت به الحيل قد وقع في دردور البلاء ولا يهتدي إلى طريق النجاء بل ولا يدري عاقبة أمره المهول ماذا تؤول إلى الغرق والندامة أم إلى النجاة والسلامة ثم أخذ في الانتحاب إلى أن أبكى الغراب فلما رأى أبو القعقاع هذه الأوضاع قضى من الأمر العجاب ما يستشيب منه الغراب ثم توجه إلى أسد الشمري وعرض عليه ما جرى بتخيير المشتري فتشوش فكره وتشور أمره وضاق بالهم صدره وقال أنا كففت عن الشر والشره وعففت عن ذاك كان يرني ولم أره وتركت القرم والأذى وفطمت نفسي عن لذيذ الغذا ليأمنني أصحابي ويأنس بي أحبابي فإذا لم يستقر خاطرهم ولم تطمئن على محبتي سرائرهم أي فائدة لي في الحياة وكيف أخلص في حرم المودة من كدر العيش إلى صفاه وكل ملك لا تصفو له رعيته ولا ترسخ في قلوب جنده محبته كيف يثبت سلطانه أو يساعده عند الشدائد أعوانه أنا بذلت جهدي وطاقتي وتشبثت بأذيال الصلاح على قدر استطاعتي ولم يبق إلا
التضرع والاستكانة والتخشع إلى مقلب القلوب وعلام الغيوب ليكشف هذه الغمة ويصلح هذه الأمة ويجلو عن جبين الحق بهيم هذه الظلمة ثم تضرع إلى عالم الأسرار ليطلعه على حقيقة هذه الأخبار ثم أمر باجتماع جماعته المقيمين على محبته وطاعته وعرض عليهم هذه الأحوال وطلب منهم استكشاف ما فيها من الأهوال وقال اعلموا أني أمنتكم من مخافتي وبذلت لكم بدل عنفي لطافتي وقد حققتكم مرامي وصدقتم كلامي وعرفتم أخلاقي وشدى أعلاقي كل ذلك لتطيب خواطركم وتصفو لي سرائركم ولم أفعل ذلك عجزا ولا خورا ولا تهاونا ولا ضجرا وأنا الآن آمركم بواحدة هي أجلى فائدة أن لا تكتموا عني شيئا تكرهونه مني بل أوقفوني عليه وأرشدوني إليه ثم اجهدوا إني أمنعه عني فإن فيكم أجل محبوبي من أهدى إلى عيوبي وقد قال سيد الأنام عليه افضل الصلاة والسلام اللهم أبلغه أفضل التحيات عنا من غشنا فليس منا وإنما أوردت هذا الكلام في هذا المقام بحضور الخواص والعوام على سبيل التحذير والإعلام والتنذير وأقسم بالله العلي الكبير اللطيف الخبير الذي منه المبدأ وإليه المصير لم يكن في خاطري من أحد حقد ولا حسد ولا هجس بخاطري له إيذاء ولا نكد وهاأنا قد أخبرتكم وبإطلاعي أمرتكم فلم يبق لي ذنب يستغفر منه ولا لكم في
الإخفاء ما يعتذر عنه وإن الله تعالى لا يعذب بضلال الأسافل بل يهب للأعالي الأراذل فإذا
فسد الرأس تغيرت الناس فحل البأس ولقد قال خالق البرية وباريهاوإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فقام الحاضرون في مقام العبودية والولاء وبسطوا ألسنتهم بأنواع الثناء والدعاء ونادوا بكلمة واحدة متفقة متأكدة حاشا الله ما علمنا عليك من سو ولم تزل تطيب علل تقصير ناوتاسو وتستر بذيل عفوك كل عارمنا وتكسوو كان هذا الكلام للأكابر وقد اجتمع المبادي والحاضر وأبو حميد المفتن فيما بينهم حاضر فأدرك بهذا العمل أن الأسد شعر بشيء من جهة الجمل فاستدرك فارطه وسلك المغالطة ثم اختلى بالأسد ولم يكن معهما أحد وقال كان مولانا الملك وقاه الله شر المنهمك أحس بشيء أوجب تقرير كلامه لطائفة جنده وخدامه وأنا عندي كلام لم يطلع عليه أحد من الأنام ولم أبده للملك بحضرة الجماعة لأنه ربما لا يقصد الملك به الإذاعة ولا يمكنني إخفاؤه وقد كان إبداؤه فاعلم أيها الملك الهمام كفاك الله شر اللئام أنه كما يستحقر العالم الجاهل كذلك يزدري الجاهل العاقل وذلك لقصور فهمه وعدم علمه ومهما أحاط الخادم بمرتبة مخدومه وزاد علو قدره في معلومه ازداد في قلبه وجوارحه مقدار تعظيمه واستقرت هيبته في قلبه وروحه وصارت كوش خشيته تنادمه في عبوقه وصبوحه وقد قال رب الأرض والسماء إنما يخشى الله من عباده العلماء وقول النبي عليه الصلاة والسلام أنا أعرفكم بالله وأخساكم لله إشارة إلى هذا المقام وكلما ضعفت معرفة الخادم بالمخدوم قلت قيمته عنده وهذا أمر معلوم
ثم اعلم يا ملكا أعظم أن الجمل الطويل الأمل قد اغتر بالملك حين كان في ذرى أمنه سلك وأحسن إليه غاية الإحسان وصار في عدم الوفاء كالإنسان وحصل له من سورة غضبه الأمان فجهل قدره وتعدى طوره وقد قيل:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
…
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندى في موضع السيف بالعلى
…
مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقال الله تعالى إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى وكل نفس لا تحتمل الجميل وحوصلة العصفور لا تسع لقمة الفيل وناهيك ما قد قيل في الأقاويل عن حماقة كل طويل فلا حرم فسد دماغه حين حصل فراغه وتطاولت نفسه في مسارها إلى أشياء لا يمكن أفشاها ولا يتفوه بها مسلم ولا يرضاها لأن ذكرها قبيح والكناية أبلغ من التصريح فلما سمع الأسد هذا المقال علم ببديهة العقل أنه زور ومحال ثم أرسل إلى الغراب وذكر له هذا الخطاب ليميز خطأه من الصواب ويبين القشر من اللباب فلما أتى الغراب إلى حضرته وجلا صورة هذا القول على مرآه فكرته قال له ضميرك المبارك في حل هذا المشكل لا يشارك فانه حلال المشكلات موضح المعضلات وأما أنا فلا أسمع هذا الكلام ولا أقبل في الجمل الملام فأني أعرف تواضعه ومسكنته وصبره وطاعته وإخلاصه وقناعته وأنه صادق في محبته مخلص في عبوديته وأعرف أن خوفه من الملك غالب على رجائه وأنه مع ذلك مقيم على سنن وفائه وعقود عهوده وصفائه ولو أراد الذهاب لذهب بسلام ولا في وظيفته قيد ولا في تبرته خطام
ثم قال الغراب والغالب على ظن ذوي اللب إن هذه الفتن أصلها وأصلاها الدب لأنه قد تقرر وتحقق واتفق كل حكيم موفق أنه إذا نقل ناقل محمق عن عاقل ابتدأ بالإحسان إساءة فلا يصدق فالملك لا يبادر في هذه القضية حتى يتبصر الأمر عن جليه وحاشاه أن يفرط في خدمة المخلصين من غير أن يتدبر أمورهم بيقين ويختلي بعبده الجمل ويتحقق منه أصل هذا العمل بعد استجلاب خاطره وتطييب سرائره وضمائره فاستصوب الأسد هذا الفصل واختلى بالجمل ليقف منه على هذا الأصل وسكن حاشه وأزال بلطيف الكلام استيحاشه وشكر في خدمته مساعيه وطلب بملاطفته مراضية ثم طلب من الجمل تفصيل ما بلغه من جمل وأكد قوله بالأيمان أنه لو صدر منه تقصير ونقصان ولو كان مهما كان فانه قد عفا عما هفا ولا يكدر من عيشه ما صفا ولا يمزق رقيق حاشية وفائه بالجفا ولا يتقيد بهفواته ولا يطالبه أبداً بزلاته فليطلعه على جلية الحال وليذكر ما وقع منه من أقوال وأفعال فافتكر الجمل في معاهدته مع الدب وأنه لا يفشي سر ذلك العديم اللب وكيف ينقذه من غضبي جمرشب وقضاء عمرة صب فقال إن أضعت صاحبي وإنسكت قصرت في جانبي ثم اختار كتم الأسرار وسلك طريق الأحرار والوفاء بالعقود وعدم نكث العهود وقال اسعد الله مولانا الذي بوجوده أحبانا أنى أتفكر في عواقب الأمور وأنظر في تقلبات الدهور وأخشى سطوات السلطان وأخاف من حوادث الزمان فلا أزال من هذا الخيال في انتحال وهزال إلى أن صرت إلى هذا الحال فان كان هذا ذنباً يوجب العقوبة فإن إزالته عن خاطري فيها صعوبة وهذه أوهام لا يمكن دفعها ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها
قال الأسد فهل اطلعت على ما يوجب ذلك أو يدل على الإلقاء في المهالك وتضييق المسالك من حركات أفعالي أو من فلتات أقوالي أو تقلبات أحوالي أو نقل إليك ناقل من جاهل أو عاقل فأفحم الجمل الجواب وأطرق فلم ينطق بخطأ أو صواب فقال الغراب لا ينجيك إلا الصدق وكشف أستار الريب عن جبين الحق وكان حاضر هذه الفحوى خلد أعمى وهم عنه غافلون وعن استماعه ذاهلون ففي الحال توجه إلى الدب وقال صورة ما جرى بتخيير المشترى فعلم الدب إنه افتضح وأمره اتضح فنهض وما قعد ودخل على الأسد فرأى الجمل مطرقا لا يلوك منطقا فمد صولجان اللسان وخطف كرة البيان وسابق بالكلام خوفا من الملام وقال بلسان طلق كلام فاجر مختلق اعلم أيها الطويل الأبلم أنك لو أمسكت عن كلامك القبيح في وقتك الفسيح لكان أصوب وأحسن وأعجب لكن لما فهت بالعبر وأتيت بإحدى الكبر وصادمت القضاء والقدر وخنت ولي نعمتك وقصدت إهلاك الملك بقبح شيمتك أزال الله سترك وأبدى أمرك وفضحك وقبحك وبلجام الخزي كبحك لا جرم جرمك حسبك وإثمك العظيم أخرسك فأبهت الضرغام من هذا الكلام وشاب الغراب من هذا الأمر المشاب ووقعوا في الاضطراب والشك والارتياب واشتبه الخطأ بالصواب وقالوا إن هذا الشيء عجاب فقال الجمل للدب يا فقيد اللب يا قليل النصفة وعديم المعرفة وأنحس أفاك وأنجس سفاك وأبخس بتاك أتظنني خائفا من كلامك وخطابك عاجزا عن ملامك وجوابك أما كفى أني قصدت ستر
عوارك وإطفاء نارك ومفتكر في تلافي قضيتك وإخماد لهيب فتنتك وإهماد شرار مصيبتك وعلي تقدير التسليم وإني فهت بالكبر والأمر العظيم أكنت معك منفردا أم
رأيت بيننا أحدا فغن كان بيننا أحد فأحضره إلى حضرة الأسد فإني أرضى به وبما بين ولا أدافع فيما يشهد ولا مطعن وإن كنت أنت وحدك فما منعك عن نصح الملك وصدك فأنت إذا أما خائن وإما مائن وهذا أمر محقق بائن ولولا أيماني التي ربطت بها لساني لكنت أظهرت البريء والجاني ولكن تحليفي إلى الكتم والسكوت ألجأني وسيظهر الله الحق ويفصل وللباطل صولة ثم يضمحل ووالله ما لك مثل مع المسكين الجمل إلا امرأة النجار لما أغلقت باب الدار قال أبو الحرث الغضوب أخبرنا يا أبا أيوب كيف كان هذا الحديث لنطلع على هذا الفعل الخبيث (قال) ذكر رواة الأخبار أنه كان هناك رجل نجار له زوجة تخجل الأقمار وتكسف شمس النهار كأنها الدنيا تخدع بملامح صورتها وتصرع بروائح سيرتها فكانت كلما رقد زوجها وهو تعبان انسابت إلى الأخدان انسياب الثعبان فتقضي الليل بانشراح في عناق وشرب راح إلى أن ينفجر الصباح ثم تنثني عائدة فلا يستيقظ الزوج إلا وهي عنده راقدة ففطن في بعض الأوقات لفعلها وراقب ليلة خيال خلتها فتراقد في الفراش وذهبت لطلب المعاش فنهض وراءها البحار وأوصد لما خرجت باب الدار واستمرت هي وصاحبها وزوجها مستيقظ يراقبها فلما عادت راجعة وجدت الأبواب مانعة فطرقت الباب من غير اكتراث واكتئاب فناداها يا خائنة اذهبي حيث كنت كامنة فقالت استر هذه الذنوب فإني من بعد أتوب فقال لها لا والله الرحمن حتى تفضحي بين الجيران فقالت
الموت أهون من الفضيحة فاغفر لي هذه القبيحة وأنا أحلف ياودود بالله الرب المعبود أني أتوب ولا أعود ثم ألحت عليه وتضرعت لديه فلم يفتح لها بابا ولا رد عليها جوابا فقالت والله اللطيف الخبير لئن لم تفتح الباب لألقين نفسي في هذا البير ولأرمينك بقتيل بين الحقير والجليل ثم عمدت إلى حجر كبير وطرحته في تلك البير ثماختفت عند الباب لتنظر ما يبرزه القضاء من الحجاب فلما سمع زوجها خبطة الحجر تصور أنها تلك البغي فابتدر وفتح الباب وإلى نحو البئر طفر ولم يشك أن تلك البغي ألقت نفسها في الطوى فما وصل إلى البير ذلك الرجل الغرير إلا وقد دخلت في وسط الدار ثم أوصدت الباب واستغاثت بالجيران والأصحاب وأحكمت الرتاج وأوقدت السراج وملأت الدنيا بالعياط وأخذت في الهياط والمياط فاجتمع الجيران لينظروا ما هذا الشان فقالت هذا الرجل الظلام يتركني كل ليلة حتى أنام ثم يتوجه إلى الزواني ويدعني أقاسي القلق وأعاني وأتقلب في أرقي وأشجاني فأخذ الرجل يحلف بالله ذي الجلال ويذكر للحاضرين حقيقة الحال فتارة يصدق وأخرى يكذب وهو بين مصدق منهم ومذبذب فلم يزالا في عويل وصياح إلى أن ظهر تباشير الصباح فحضرا إلى القاضي واختصما وشهد بعفة الرجل الصلحاء والعلماء وأظهر الله الحث وثبت على المرأة الخيانة والفسق ولولا ذلك لذهب البريء غلطا وانقلب صواب المحق الصادق خطأ
(وإنما أوردت) هذا المثل لتعلم أيها الملك البطل خيانة الدب وبراءة الجمل والرجل إذا عن فعل الشجعان يتشبث بحبائل الشيطان ويستعمل مكر النسوان ونظير هذا الكياد ما وقع بين صادق دمشق وفاسق بغداد وهي قضايا جليلة الأبواب طويلة الذيول والأذناب قد دونت في مجلدة لا يسعها هذا الكتاب ففكر الريبال في هذه الأحوال ثم أمر بهما إلى الاعتقال وكان للملك سجان ذكي كنيته أبو الحصين واسمه ذكي فتسلمهما واحتفظ بهما فلما استقرا في قبضة الحبس واستمر أمرهما تحت أذيال اللبس توجهت الفارة التي كانت سمعت سر مناجاتهما واطلعت من أول الأمر على حكاياتهما إلى السجان وهما في أضيق مكان وسألته عم ماذا آل إليه أمرهما من شأن فأخبرها بحالهما وجهل عاقبة مآلهما وأنه ليس بعالم من المظلوم منهما والظالم فقالت الفارة أسألك يا ذا الشطارة والذكاء والمهارة إذا ترجح لأحدهما الجانب وتبين الصادق والكاذب وتعين المرضي عنه والغضوب عليه تطلعني على ذلك لأنظر إليه قال السجان للفارة لقد فهمت عنك بالإشارة وأدركت من فحوى العبارة أن لك اطلاعا على هذا الأمر وفرقا جليا بين تمرة والجمر فإن كنت شممت من ذلك روائح فبادري بأداء تلك النصائح فإن قولك مقبول ولك الفضل لا الفضول ولا تقصدي بهذا الإرشاد إلا مصلحة العباد وكشف الغمة وبراءة الذمة وردع الظالم وخلاص ذمة الحاكم قالت الفارة وأنا لا أقصد إلا إصلاح ذات البين وشمولهما بعاطفة الملك بحيث يصيران كالمحبين ويرتفع
النكد ويحصل رضا الأسد ويحسم
الضرر والضير وتختم عاقبتها بخير وأيضا فإني سمعت من العلماء وضبطت من نصائح الحكماء ومقالات ذوي الآراء أنهم قالوا إياك والتكلم في أمور الملك ببيضاء أو سوداء وأين بنت الجرد من ملك الوحوش الأسد قال السجان لا تقولي ذاك ولا تستحقري جدواك وما ترين في فتواك ودونك القول الصادر من نظم الشاعر الماهر وهو:
لا تحقرن الرأي وهو موافق
…
حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أجل شيء يقتنى
…
ما حط قيمته هو إن الغائص
وإن النصيحة كالعسل والحق يصدع كالأسل فالعسل يعطي حلاوة ذوقه سواء كان في صحاف الذهب أو في زفة وقاصد الصواب والنصيحة ومن أغراضه لدفع الفساد صحيحة يخاطر بنفسه وماله ويراقب ما فيه حسن مآله وأفضل المعروف إغاثة الملهوف سمعت في المثل السائر أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وهذا هو الطور عند ملوك الجور وملكنا أعد ل الحكام وناصر دين الإسلام متصف بمكارم الأخلاق والشيم ومعاملة الكبير والصغير بالمراحم والكرم فإن كنت تدرين بجهة الانتفاع أو لك على قضايا الدب والجمل اطلاع فقومي وانصحي وقولي تفلحي كما فعل الوزير المنتخب مع كسرى في حالة الغضب فسألت الفارة هذا المثل وأخباره
(قال) أبو الحصين السجان ذكر أنه كان لانوشروان زوجة فاقت النسوان يخجل قدها الأغصان وخدها البدر حيث لا نقصان كان أبوها منالسلاطين وملوك الأساطين وكان أنوشروان قتل أباها وأخاها واتخذها لنفسه واصطفاها وكان مشغوفاً بحبها متخوفاً من قربها لئلا تتذكر قتيليها فيستولي طلب الثار عليها فلم يزل متحرزاً من أفعالها مراقباً تقلب أحوالها فاتفق أنه كان جالساً معها على السرير وحولهما من الجواري الحسان بدر منير وظبي غرير فتاقت نفسه إليها فمد يده ووضعها عليها فنظرت إلى الجواري فرأت أعينهن إليها ناظره فصارت بين طرفي الانقياد والامتناع حائرة وكانت قد سمعت من أبيها ما رأته من أقاربها وذويها معنى ما قيل:
وأني لأستحي من النرجس الذي
…
يراقبنا أني أقبل من أهوى
فخطر ببالها أنه إذا استحيا من عيون النرجس وهي جامدة فكيف لا أستحي منت عيون إنسان في مراقبتنا غير راقدة فغلبت عليها الحيرة وإن جدع الحلال أنف الغيرة فانكمشت من كسرى وزادها الحياء والهيبة انقباضاً وكسراً فجذبها بقوته إليه فانفلتت منه لما استعصت عليه فوقع عن سريره العالي وعلا حلقه التمر الغالي وتبسم بعض تلك الجواري من غير اختيار فاضطرب لما اضطرم فيه النار وتذكر ما كان توهمه من أخذ الثار وفار دم قلبه لما غار فدعا وزيره الكبير ودفع إليه ربة السرير وأمره بإزهاق نفسها وإسكانها في رمسها من غير مراجعة ولا شفاعة ولا مدافعه فحملها إلى منزله صعب الأمر ومشكله ولم ير بداً من إمضاء مرسومة وامتثال أوامر مخدومه ثم تدبر في المآكل ونادته ربة الحجال مهلاً أيها الوزير الناصح المشير ذو الرأي والتدبير هبني أني
أخطأت وعن مرضاة الملك أبطأت فما ذنب الذي في بطني المودع من الملك ولم يجني فلا بأس أنك تستشيره فانك ناصحه ومشيرة وإن كان لا بد من قتلى واستقر الرأي على نبلي وبتلي فاستمهله إلى أن أضع ثم تهلك الأم وتبقى التبع فانه كان يعطي النذور والأموال ويطلب الولد في ظلمات الليال ويدعو بذلك ربه ذا الجلال فعرض الوزير على الملك ذلك فأبى واستعمل في ضروب ضربة أحد عبارة وترفق فنبا فعرف إن أخلاقه ثائرة وأنه لا بد أن تطفأ تلك النائره فإذا برد قلبه وهمد كربه يطالبه بالفرع أن لم يطلب الأصل وبعد القطع لا يمكن الوصل كما قيل:
طوى الموت ما بيني وبين أحبتي
…
وليس لما تطوي النية ناشر
فرأى الوزير الرأي في التأخير فأودعها عند الحريم وسلك في الحزم الرأي القويم وجعل نفسه لها وقاية إلى أن أخذت مدتها النهاية فوضعت ولداً ذكراً غصن بان مثمراً قمراً فقام الوزير بتربيته وإصلاح رضاعه وأغذيته إلى أن بلغ سبع سنين وهو كبدر الأفق المبين مربي بالدلال مغذي بالكمال فكأنه فيه قيل:
جبين تحار الشمس من لمعاته
…
وقد يغار الغصن من حركاته
وخد تعالى الله لست مشيها
…
ولا مشركاً أضداده في صفاته
رمى مهجة المضني باسهم لحظه
…
فنام عليلاً وهو في سكراته
فركب كسرى في بعض الأوقات وخرج يصطاد في بعض الجهات فتبدد العسكر وصار كالحجيج إذا نفر ووقع كسرى في ناحية عن العسكر منفرداً فصادف غزالين يسوقان ولداً ويذكران في ذلك القاع ما قاله عدي ابن الرقاع:
تزجي أغن كان إبرة روقه
…
قلم أصاب من الدواة مدادها
فهجم عليهما ودنا إليهما فلما قصدهما تركا ولدهما ففوق السهم الخفيف نحو الخشف الضعيف فلما رأت أمه السهم داخلها الوله والهم فقصدت للسهم دون ولدها واستقبلت نصل كبد القوس بكبدها فأراد طلاق السهم من الكبد ليصيب به نحر أم الولد فاعترضه الفحل بصدره وتلقاه دون نحرها بنحره وجعل نفسه وقاية لأم ولده وفداهما بروحه وجسده فتذكر كسرى ولده وأمه وضاعف حزنه عليهما همه وغمه وتذكر ما سلف منه في حق زوجته وما عاملها به حين وقع به من الغضب في سورته وتأمل ما قالته في حق قرة مهجته وما أجاب في ذلك إلى أن وردت إلى المهالك وقال إذا كان هذا الحيوان الباغم المائق حمى حقيقته برمحه كحماة الحقائق فلم لم يفعل ذلك الحيوان الناطق ثم فاضتدموع عينيه فرمى القوس والسهم من يديه ورجع متفكراً وعلى ما فرط منه متحسراً ودعا الوزير الناصح المجير والمستجير وذكر له ذلك النكد وما رآه من الغزالين والولد وتحرق فقد حظيته وتألم لمصاب فلذة كبدته فدعا له الوزير وقال الصبر نعم النصير كان قد سبق مني اشارة ولكن المفرط أولى بالخسارة الصديق الصادق والرفيق الموافق يقول ما أصنع نصحت فلم يسمع والخبيث المنافق والحسود المماذق يقول أردت أن أقول ولكن تركت الفضول ولا حيلة للملك والوزير فيما جرى به قلم التقدير ثم دعا له وانصرف وعبى حملا من الهدايا والتحف وألبس ابن الملك أفخر ملبوس وجهز أمه كما تجهز العروس وأضاف إلى ذلك من المراكب الملوكية والخدمات السلطانية وأقبل بهما إليه وعرض كل ذلك عليه
وقال يا ملك الزمان أنا رأيت هذا اليوم في ذلك الأوان وعلمت أن الندم سيعم من الرأس إلى القدم وها قد قدمت إليك من التحف الدر مع الصدف والورد والزهر والغصن والتمر والفرع والشجر والشمس والقمر متعك الله بها ومتعها بك وحرس من الأسواء منيع حرمك وجنابك فأنجبر بذلك كسرى ونال بشرى ويسرى وطاب سيراً ومسرى وسر صدره وانشرح وأغمى عليه من شدة الفرح وأنشد:
طفح السرور علي حتى أنه
…
من عظم ما قد سرني أبكاني
يا عين قد صار البكالك عادة
…
تبكين من فرح ومن أحزان
ثم أمر ببساط السرور وجلس في النشاط والحبور وأنشد:
أهلاً وسهلاً بالتي
…
جادت علي بمهجتي
أهلاً بها وبوصلها
…
من بعد طول الهجرة
أدر المدام وغنني
…
أهلاً وسهلاً بالتي
ثم أفاض خلع الأنعام والرضا والإكرام على الوزير وشكر له حسن التدبير وارتفعت عنده منزلته وتضاعفت في الارتقاء مرتبته (وإنما أوردت) هذه الأمثال لتحذي على هذا المثال فان كان عندك ما يزيل الشك والأغاليط ويحق الحق ويميز الأخاليط فان في إبدائها منة عظيمة ونعمة على الملك جسيمة ستبلغني بذلك العيش الهني وترقيني به إلى المقام السمي السني وإن أخرت النصيحة فقد شاركت الخائن في الأفعال القبيحة قالت الفارة ما أدق ما نظرت وأحق ما أشرت لا تردد للعقل في صحة هذا النقل ولكن من أنا في الرقعة ومن يقبل للفارة حتى تطلب الرفعة فلا أنا في العير ولا في النفير وأني من مبدأ أمري وطول عمري
في زوايا الخمول أنحرز من فضلات الفضول لا لصحبة الملوك لي صورة جميلة ولا في طريقة السلوك سيرة نبيله لا أمينة ولا ثقة وأصدق أسمائي الفويسقه فكيف أصير مصدقة وقد أباح سيد العرب والعجم معدن اللطف والكرم والمبعوث بمكارم الأخلاق والشيم صلى الله عليه وسلم قتلى في الحل والحرم فلو طلبت مصاحبة من فوقي لخرجت عن دائرة طوقي وصيرت نفسي ضحكة للناظرين وهرأة للساخرين خصوصاً ملك الأسود وسلطان الوحوش من النمور والفهود ورحم الله أمر أعرف قدره ولم يتعد طوره ومن أعجب العجب أن يجني من الشوك العنب ولو فعلت ذلك لكنت كقرد حالك ذميم هالك ادعى رياسة الممالك ومن أحسن الأمثال ما يقال إن السلطان للأنام بمنزلة الحمام البعيد عنه يطلب قربه والداخل فيه يشكو كربه فالا يليق بحالي أن لا أشغل بالي الخالي بما لا يليق بي ولا بأمثالي وحيث أشرت على بأداء النصيحة وبيان الحالة الفاسدة من الصحيحة طالباً لمرضاة الملك وصوناً لخاطره عن الأمر المشتبه المشتبك والفكر المريب المرتبك فأنا أمتثل مرسومك وأودع ذلك معلومك بشرط أن لا تذكرني بشفه ولا تشير إلى اسمي بنكرة ولا معرفة فعاهدها على ما اشترطت فمدت لسان القول وبسطت ثم ذكرت ما جرى بين الدب والجمل من فصول وقررت براءة ساحة الجمل بالمعقول والمنقول فلما اتضح لأبي الحصين السنجان نزاهة عرض الجمل وأن الدب هو الذي أغراه على قصد الأسد وحمل وتحقق ذلك بالبرهان القاطع والدليل الساطع توجه إلى حضرة الأسد وأخبره بما صلح من الأمر وما فسد وأنه إنما تأخر عن خدمة مخدومه ليصل إلى ما في جيب الغيب من
مكتومة فلما تحقق الليث ما في هذا الأمر من صلاح وعيثومن هو الصالح من الدب والجمل والطالح أرسل إلى الغراب وعرض عليه هذا الأمر العجاب وطلب منه الإرشاد إلى هدم ما بناه الدب من الإيقاع وشاد فقال الرأي عندي أن تجمع العساكر وتنادي للبادي والحضر ويحضر الدب والجمل وبعرض على الجميع هذا العمل فإذا ظهر الحق وانكشف سجاف الباطل عن جبين الصدق وتبين الظالم من المظلوم وتعين الصحيح من المثلوم يرى رأيك السعيد ما يقتضيه ويسلك ما يأمر به ويرتضيه ويجري على كل منهما ما يحكم بتنفيذه ويمضيه بحيث لا ينتطح في ذلك عنزان ولا يختلف عليك فيه اثنان فلما كان ثاني يوم أمر الأسد بجمع القوم وإحضار الحمل البري والدب المفتري فخضر الكبير والصغير واجتمع الأمير والوزير ثم علا الملك على السرير وأثنى على الله وذكر فضله هذه الأمة وما لها من رقة وجلاله وأنها لا تجتمع على ضلاله ثم قال ما تقولون في رفيقين شفيقين صديقين لم يكن بينهما سبب مكاحله ولا موجب منازعة ولا مجالحه سوى المحبة المليحة والممالحة والمودة الصافية الصالحة ببيتان في فراش ويستعينان على حسن المعاش حسد أحدهما رفيقه وخان من غير سبب صديقه وسعى في إراقة دمه وعدم وجوده بوجوب عدمه فماذا يجب على هذا الحاسد المنافق في عمله الفاسد الطالب ترويج باطله الكاسد وقصده ذلك البري الصالح الغافل السري والسعي به إلى الحكام والقائهم بسببه في الآثام وارتكاب هذه الجرائم وتحمل مثل هذه
العظائم فأجاب الجمهور إن من أكبر الكبائر قول الزور وقد قال رب الكائنات أن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم وأن مرتكبه الأثيم استوجب العذاب الأليم ومن هو هذا الجرى الكذاب المفتري الذي يرتكب مثل هذه الأمور الهائلة والكبائر الوخيمة القاتلة والعظائم المؤذية الغائلة خصوصاً في مثل هذه الدولة العادلة ولأي شيء يؤخر جزاؤه ولا يحسم داؤه ولا يضرب ولا يشهر ولا يؤمر بالمعروف في هذا المنكر قال الأسد
فاكتبوا بما قلتم محاضر وليعلم الغائب الحاضر حتى إذا وقع الاتفاق بين الأصحاب والرفاق وارتفع في ذلك النزاع والشقاق وأجمع على ذلك العقل والسمع فعلنا فيه ما يقتضي السياسة والشرع فاتبعوا شروطهم وكتبوا بذلك خطوطهم فعند ذلك طلب الأسد أم راشد وأقامها في ذلك المحفل لحاشد واستنطقها بما تعلم واستشهدها على الدب بما أجرم فشهدت في وجهه بما سمعت ورقمت بذلك خطها ووضعت وزكاها الحاضرون وشهد بعفتها وزهدها الناظرون واتفقت الكلمة من الكملة على صدقها وحقيقة نطقها فتهلل وجه الجمل بهذا القول والعمل وظهرت على صفحات وجه الدب العديم الدين واللب علامة الانكسار والفضيحة والخسار ولم يسمعه إلا أنته أذعن واعترف أن لا دافع له في الشاهد ولا مطعن وأنه قد اجترم وطلب العفو والكرم فعند ذلك غضب الريبال ولم يبق للعفو مجال فزأر وزفر وغضب الغضنفر وهمر وزمجر وتطاير من أشداقه الزبد ومن عينيه الشرر ومن شمائل حركاته ممضيات القضاء والقدر ونعوذ بالله من غضب الملوك خصوصاً على الفقير الصعلوك ومن أحاطت به أوزاره وقلت أعوانه
وفنيت أنصاره ثم أمر الأسد بالدب أن يلقى من البلاء في جدب وأن السباع تحتوشه والضباع تنوشه ففي الحال من غير إهمال ولا توان ولا إمهال نهشته الذئاب وافترسته الكلاب وتخاطفته النمور وتناقضته الببور والتقمته السباع والتهمته الضباع فقطعوه وبضعوه ووزعوه ومزعوه وخزقوه وحزقوه وخرقوه ومزقوه ولم يكتفوا بعظمه وإهابه حتى لحسوا من دمه يابس ترابه وكان قد اشتد بهم القرم فاطفؤا بلحمه ودمه بعض الضرم وزال عن أبي أيوب الضر وارتفعت مغزلة ذلك الحر وضاعف الله تعالى عن براءة ساحته أنواع الحمد والكشر وفائدة هذا المثل الجاري بين الدب والجمل معرفة فضيلة الأمانة ووخامة المكر والخيانة فان الله تعالى غير مضيع أهله ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله كما قيل:
لا بناء هذا الدهر في الغدر أسهم
…
وضرب خيانات وطعن مكيدةوما للفتى منها طريق سلامة سوى ترس تفويض لرب البرية
وكل امريء رهن بنيته وفي
…
كفالة ما ينوي وما في العقيدة
(وليكن) هذا آخر باب الأسد الصالح والجمل الأمين الناصح والعاقبة للمتقين والله الموفق والعين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خير الخلائق أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.