الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث
في حكم ملك الأتراك مع ختنه الزاهد شيخ النساك
(قال) الشيخ أبو المحاسن حسان صاحب الحسن والمحاسن والإحسان ثم نهض الحكيم حسيب الأديب الأريب ووقف في مقام حده وقبل موطئ أخيه بشفاء خده وقال لقد بلغني أيها السلطان أن في قديم الزمان كان في الترك ملك يسمى خاقان من الملوك العادلين والسلاطين الفاضلين برسم العدل معروف وبقصم الجور موصوف كسر الأكاسره وقصر الأقاصره ونحر الجبابرة وثغر فم الذعار النبالة الفاغرة ملك بلاد الختن والخطأ واستولى على ممالك المغل والحنا وأطلع أوامره الترك والتتار واستسلم لرأيهسكان الدست والقفار وكان ياجوج من جملة خدمه ومأجوج من بعض عبيده وحشمه كأنه وارث لذرية يافث قوى في أخذ الملك من ممالك الصين وأخذ إلى أطرف الشمال باليمن ولم يكن له من البنين والبنات مع كثرة السراري والزوجات سوى بنت واحدة لطلعتها الأقمار شاهده:
شمس ولا كالشمس عند زوالها
…
بدر ولا كالبدر في نقصانه
بل بهرت الشمس جمالاً والبدر كمالاً وفاقت سلاح الدنيا شمائل وخصالاً وهي عزيزة في قلب أبيها كريمة على خواصها وذويها فصارت ملوك الأطراف يخطبونها ومن أبيها يطلبونها فكان أبوها يفوض
الأمر إليها ويعتمد في تزويجها عليها وهي لا ترغب في طالب ولا تصغي لخطبة خاطب إلى أن عنست وخطابها أيست وكان أبوها كما ذكر ذا فطنة بالغة وهيبة دامغة فخشي حوادث الزمان واختلى بها في مكان وقال أعلمي يا معدن اللطائف أن البنت في منزل أبيها الواقف إن مكثت يأسن وإن لم يستعمل أنتن ولا أقول ذلك ملالاً ولا عجزاً ولا استقلالاً بل لابد للمرأة من زوج فيسترها ويضمها ونعم الختن القبر وأحلى من البنت الصبر فإن رأيت الرغبة في الزواج طلبت لك كفؤاً من الأزواج وكان ذلك أستر لعرضك وأدنى لإقامة سنتك وفرضك وأفرغ لخاطر أبيك وأشرح لخدمك وذويك فقالت أحسن الله الرحمن إلى مولانا الخاقان وكفاه كل جان من الأنس والجان إن البنين من جملة النعم والبنات من أعداد النقم ونعم الدنيا عليها الحساب ونقمها سبب الأجر والثواب رب الأرباب فيما أنزله من الخطاب في محكم الكتاب المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً وقد جاء في بعض التفاسير أن الباقيات الصالحات هي البنات فمولانا الملك يعدو جودي نقمة عليه من معبودي واسأل الصدقات الملوكية والمراحم الوالديه أن لا يعجل في أمر تزويجي وأن لا يبادر كيفما اتفق إلى تزويجي فان التأمل في ذلك أولى وثناء في الدنيا وثواب في الأخرى وذلك لأن الكفاءة في الزواج معتبره وقد قرر ذلك الفقهاء البررة وإن لم يكن الزوج للمرأة كفؤاً فزوجها به يقع سخرية وهزؤا ولا يفيد سوى الغرامة والفضيحة والندامة
فقال الملك لا أزوجك إلا بكفء كريم يكون لك أدنى خديم وفي الناس أعلى مقام عظيم قالت يا مولانا الملك وقاك الله شر المنهمك لا تحمل اعتراضي على الإساءة وإنما أسأل عن كيفية الكفاءة فإن كانت بالملك والمال فإن ذلك في معرض الزوال وإن كانت بانشاب الإنسان فإن ذلك خطأ لا صواب قال منزل الكتاب العزيز الوهاب فإذا نفخ الصور فلا انساب وقال من لا يجوز عليه كذبه من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه وإنما الفقهاء حكموا بالظاهر والله يتولى السرائر ونحن في قيد الانقياد ولا يسعنا إلا ما أمر به الشرع وأراد وأما أنا فكفئ الكريم إنما هو الكامل الحليم الفاضل الرحيم قال الملك بارك الله في رأيك وعقلك أنا لا أزوجك إلا بملك أو ابن ملك مثل أبيك يرعاك ويكرم خدمك وذويك يعدل بالسوية ويحكم على سائر الرعية قالت أيها الملك الكبير صاحب التاج والسرير أنا ما أعرف الملك إلا من يعرف بملك الحكم على نفسه في سيره ويكون متحكماً متمكناً من الحكم على غيره فيحق أن يقال في ملكه ذي الجلال خلد الله سلطانه وشيد أركان ملكه وبنيانه قال الملك ومن هو ذاك بارك الله فيك وهداك
قالت أما الحاكم على نفسه فهو المالك الزمام جوارحه وحسه قد جعل خزائن القلب والسمع معدناً لجواهر العقل والشرع فمهما اقتضاه العقل مضاه وعمل بمقتضاه وما ارتضاه الشرع وقضاه كان فيه انقياد ورضاه قد تحلى بعقود مكارم الأخلاق ولو كان في أسمال أخلاق وشغل نفسه بتهذيبها واجتهد في خلاصها من شرك عيوبها وأهتم بعيوبه عن بعيده وقريبه ويغيضه وحبيبه فذلك الحاكم على نفسه المميز على أبناء جنسه وأما حكمه على غيره فهو أن يكون في سلوكه وسيره منعزلاً عن الناس في زوايا البأس لا يسأل عن أحوالهم وعيوبهم ولا ينظر إلى ما تحتأيديهم وجيوبهم مالكاً لزمام العز له متنعماً بهذه النعمة الجزلة قد اتخذ التقوى والقناعة أحسن حرفة وأربح بضاعه قد سلم الناس من يده ولسانه لا يدري بشأنهم ولا يدرون بشأنه فذلك الحاكم على غيره الفائز من ملك الدارين يخبره فهو الذي خلد ملكه وسلطانه واتضح للعاملين برهانه فان وجد بهذه الصفات موافي فانه لي كفء مكافي وأنه كالبدر جلى تقي الصدر لله ولي فإذا أنعم الزمان بمثل هذا منالاً فنعم نعم والافلالا فجعل ملك الختن يتطلب مثل هذا الختن وأرسل القصاد إلى أطراف البلاد يساون سكان الأكناف وقطان الأطراف عن موصوف بهذه الأوصاف واستمروا على ذلك مده كل باذل جهده حتى أرشدوا بعد زمان أن المكان الفلاني فيه فلان رجل أعرض عن العرض فلم يكن له في
الدنيا غرض وهو بحسن الصفات موصوف وفي
كرخ العبادة والاجتهاد معروف جامع لهذه الصفات ليس له إلى الدنيا وأهلها التفات مشغول باكتساب الآخرة وطلب نعمتها الفاخرة وهو من نسل الملوك وقد ترك وراءهم السلوك وسلك في العلم والعمل السبيل الأقوم حتى كأنه محمد بن الحسن أو إبراهيم بن أدهم ولشدة ما هو لنفسه مجاهد سماه الناس الملك الزاهد فأجمع الخاقان على مصاهرته وجعل التقرب إليه قربة لآخرته فاخبر ابنته به وكان حبل مطلوبها ومطلوبه وعقد بينهم النكاح وحصل الفلاح والصلاح فوافق شن طبقة وصار لعين مرامها كالحدقة ومضى على ذلك برهه وهما في طيب عيش ونزهه فاشتاق الخاقان في بعض الأزمان إلى رؤية ابنته وسرور مهجته فقام لدارها بقصد مزارها لينظر حالها وما عليها وما لها فوجدها في عيش هني وأمر سنى فسألها عن أحوال زوجها الزاهد وكيف صبرها على حالها الجاهد فاتت خيراً وكفت ضراً وضيراً وقالت جميع ما يبرزه ويأتيه على حسب ما أريده وأرتضيه وارتفاعات أحوالنا بسعادة مولانا في دفاتر إلا من منضبطة وعقود حياتنا بميين صدقاته في نحور الرفاهية غير منفرطة غير أن بيتنا واحد وبسبب ذلك يتضرر هذا العابد فيه نبيت وفيه نقيل وبجوانبه مالنا من خفيف وثقيل وقوت ونقود وخادم ومولود فلا
يتفرع من الغوغاء للعبادة لأنها تستدعي عزلة العابد وانفراد، وتخيله لمناجاة معبوده ليظفر من حلاوة الطاعة بمقصود فاسأل مولانا الخاقان ذا الفضل والإحسان بيتاً يتخلى فيه للعبادة ومكاناً يضع فيه خرثي البيت وعتاده فقال حباً وكرامة وقرباً وسلامه (ثم) اجتمع الملك بصهره الذي به فاخر وذكر له أنه إعطاء بيتاً آخر أحدهما يكون لخلوته ومبيته والآخر يضع فيه ما يحتاجه من عتاده وقوته فقال الزاهد أيها الملك الماجد فعلت ذلك لتقسيم خاطري وتوزع فكري ومرائري ولا طاقة لي أن أتعلق بمكانين وما جعل الله لرجل من قلبين وإنما الزاهد من همه في الدنيا واحد فانه على عدد التعليقات يتوزع القلب الشتات وإذا تعددت الأماكن يحتاج كل منها إلى ساكن أو حافظ أو ضابط أو حارس أو رابط وأنا لا اعتماد لي بحفظ نفسي أيها الولي فكيف يكون لي اقتدار على حفظ الأغيار وإذا انقسمت أفكاري وفسد بالي فكيف أقدر على صلاح حالي وأني يصلح مع فسادي أمور معاشي ومعادي ثم أني إذا وزعت نفسي فقد نبهت راقد حرصي والحرص أفعى قاتل وأسد صائل يقتلني بسهمه بل بمجرد شمه فقال أيها الملك الكبير لا تهتم لذلك أيها الزاهد الخطير فإن لي أماكن وقصوراً مشيدة وحواصل مصونة وخزائن مكنونة الكل تحت تصرفك تصرفك واختيارك لا منازل لك فيه ولا مشارك فاجعل لكل جنس من قماشك وأثاثك ورياشك وما يقوم بأودك ومعاشك مكاناً على حده وناحية حفظ منفردة واتخذ لنفسك مقاماً خاصاً بك لا عاماً وأنا أقيم على كل مكان حارساً إن شئت راجلاً وإن شئت فارساً فعند احتياجك إلى شيء أتاك هنا مبسراً من غير كد ولا عي وتفرغ أنت لعبادتك واشتغالك بأمور آخرتك
(قال) الزاهد أيها الملك المجاهد الاغترار بالقصور من جملة القصور والاعتماد على الحصون من دواعي الجنون وإذا ورد من الملك الغفور طلب على يد القبور فإذا تجدي الدور والقصور وماذا تنفع الحصونأو يدفع كل مكان مصون وإذا آذن بالجلول ذلك الخطب الهول تود النفس لو كانت القصور الممهدة والبروج المشيدة أذل من أفحوض قطاه وأقل من عطش بزاه وقد قيل:
قميص من القطن أو حلة
…
وشربة ماء قراح وقوت
ينال بها المرء ما يرتجي
…
وهذا كثير على من يموت
وأعلم أيها الخاقان أن النفس لها خادمان مطيعان مجببان ولما تأمر به سميعان وهما الشهوة والحرص الشديد الدعوه أما الشهوة فرائد الأكل الكثير والشرب وأما الحرص فعايد الرعونة والعجب وقد قيل:
فهذا يقود إلى طبعه
…
وهذا يسوق إلى ربعه
فهما ليلا ونهارا وسرا وجهارا يزينان لها ما طبعا عليه ويجذبانها إلى ما جبلا إليه وينقاضيانهما حقهما ويطالبانها مستحقهما ولا بد للمخدوم من إقامة أود خادمه واسترضاء أنيسه ومنادمه وقد قال من أتقن المقال:
أن اللبيب أخا اللبيب هو الذي
…
مع تيهه يحنو على عشاقه
وكذا الرئيس وأنت أكبر جنسه
…
من فاض في الخدم من أرزاقه
يهتم إن حضروا له بنوا له
…
يغتم إن غابوا على أشواقه
مع إن حشمته وفائض عمله
…
ترقى بكل متنهى استحقاقه
ولكن رضا هذين الخادمين غاية لا تدرك وفقد مقصود يهما نهاية عميقة المسالك وقد قال سيد الأنام عليه الصلاة والسلام يوما وهو بين الأصحاب كالشمس ليس دونها حجاب والبدر لا يحجبه سحاب لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب والحرض مهلك والشهوة قاتلة وكل منهما في الدمار والبوار علة كاملة وناهيك يا ذخر الحق وغياثه أخبار اللصوص الثلاثة فطلب الملك من الزاهد إيضاح هذا الشاهد (فقال) : ذكر أهل الوراثة أن لصوصا ثلاثة كانوا على سبيل الاشتراك متعاطين أسباب التحرم والهلاك واستمروا على ذلك مده حتى استولوا من الأموال على عده ففي بعض الليال ظفروا بجملة من الأموال ودخلوا إلى مكان داثر خال بنية الاقتسام وكانوا محتاجين إلى الطعام فوجدوا في ذلك المكان الدائر صندوقا مملوءا من الجواهر ففرحوا وانشرحوا وتصوروا لأولئك الخاسرين أنهم ربحوا فقالوا إن اشتغلنا بقسمة هذا المجموع كلبنا وأهلكنا كلب الجوع فأولى طلب الطعام قبل الاقتسام ولو بأدنى التهام ويسير التقام ثم أرسلوا مع أحدهم إلى المدينة ورقهم ليأتيهم بما يسد رمقهم فلما انفصل عن مكانهما وغاب عن أعينهما تحركت نفسه الخبيثة بشهوة أحجبت تاريثه وقواها الحرص المشوم لشدة الشره الملوم ودعاه داعي الفساد إلى الاستيلاء على المال بالانفراد فعزم على ختلهما فوضع في الطعام
سما لقتلهما وأما هما فعلى قلته عزما واستعدا لذلك بعد ما حزما ليصير المال بينهما نصفين ويصيرا في ذلك كالأخوين الألفين ويكون ذلك كأنه وراثة لأن شر الرفقاء ثلاثة ولم يدعهما إلى ذلك غير داعي الشهوة وأكد ذلك داعي الحرص وأبخس بها من دعوه فلما فصل ذلك بالأكل بادرا إليه بالقتل ثم بعدما قتلاه عمدا إلى الطعام فأكلاه، فبردا في الحال وتركا ذلك المال، ولحقا بصاحبهما التالف وسيبا تليد المال والطارف وإنما أوردت هذه الموعظة لأنها على أحوال الدهر موقظة، وإن كان مولانا الخاقان في أموره يقظان لكن قد قال رب العالمين وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
واعلم يا مولانا الخاقان كفاك الله مكايد الشيطان وأنجح مقاصدك على ممر الزمان أن الدرجة العلية والمرتبة السنية لا تنال بقوة ولا عزمه ولا شجاعة ولا همه وإنما هي عناية ربانية وأسرار رحمانية لأقوام سبقت لهم من الله وزيادة وانتظموا في سلك أهل السعادة فهم أهل الفضل والسيادة أسبغ الله عليهم سواطع الأنوار وقطعهم عن قواطع الأشرار فهم السادة الأخيار والقادة الأبرار قاموا بأداء ما وجب عليهم وتركوا ما خلفهم واستبشروا بما لديهم فأنوارهم ساطعة وأسرارهم لجميع الأوهام قاطعة تركوا زخارف هذه الداروأرادوا دار القرار وجوار الملك الغفار فهم الهداة إلى الله الدالون على الله لا يعتريهم كدر الأوهام ولا يشتغلون عن خدمة خالقهم مدى الأيام هم العباد المكرمون، العباد المقربون، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين في كتابه المكنون:
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون.
وأعلم أن أعدى عدوك بين جنبيك وهي نفسك التي قط ما ركنت إليك فاعص هواها ولا تعطها مناها فإن في اتباعها الندم عاجلا والحسرة آجلا لا بقليل تقنع ولا بكثير تشبع ولا تظن أنها إذا أعطيت مناها شكرت أو إذا ذكرتها من برأها ذكرت بل متى أمنتها كفرت أو آنستها نفرت أو أرخيت عنانها بطرت وأشرت وإن نالت مطلبا أو تناولت مأربا انتقلت عنه وطلبت أعلى منه فليس لها دوا إلا القمع عن دواعي الهوى كما قيل:
النفس راغبة إذا رغبتها
…
وإذا ترد إلى قليل تقنع
وكما قيل أيضا:
وما النفس إلا حيث يكعلها الفتى
…
فإن أهملت تاقت وإلا تسلت
وكما قيل أيضا:
قنع النفس بالقليل وإلا
…
طلبت منك فوق ما يرضيها
وإياك وطول الأمل فإنه مفسدة للعلم والعمل قال الحكماء وعقلاء العلماء الأمل شبكة الشيطان وموجب الحرمان فاجهد ما دام لك على النفس ملكه أن تخلص نفسك من هذه الشبكة ولا تهتم للأوقات فكل ما قسم ما فيه فوات وكل ما هو آت آت وكل ما رقمه القلم في القدم وأثبته قضاء الله تعالى عليك وأنت في العدم سواء كان خيرا أم شرا نفعا أم ضرا فأنت ملاقيه وعلى كل حال موافيه فاقطع دواعي الطمع عمن لا يضر ولا ينفع لا عمن إن شاء نفع. ولا تجتمع إلا بمثلك في الجماعات والجمع ولا تتعب لجوع وعرى واكتساء
وشبع فقد قيل إذا شبعت فلا تهتم للجوع فكم من شبعان مات قبل أن يجوع وإذا اكتسيت فلا تهتم للعرية فكم من مكتس مات وثيابه جديدة مطوية واعلم أن طبع الدنيا بالمخالفة كأنها على المخالفة محالفة فإذا ضممت عنها يدك إليك أقبلت عليك وجاءت تهوى تحت قدميك وإذا طلبتها هربت منك وكلما ارتبطت إليها انحلت عنك وقد قيل أيها الملك الجليل:
مثل الرزق الذي تطلبه
…
مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه مستعجلا
…
وإذا وليت عنه تبعك
ثم اعلم أيها الخاقان إنك وإن كنت ذا التصرف والسلطان وأن هذه الخلائق رعيتك نافذة فيها بمراسيمها منيتك إلا أنك في الحقيقة واحد منهم لا تزيد عنهم بشيء في الذات والصفات عنهم ولكن الله القديم العالم الحكيم سلطان السلاطين بل خلق الأولين والآخرين رفعك عليهم وتقدم بأمره أن يطيعوك إليهم فقال من له الخلق والأمر: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.
فهم قد أذعنوا لك وأطاعوك فراعهم كما هم مراعوك واطلب لهم أسنى المراعي وأبهاها وأوردهم أعذب المشارب وأصفاها فإن الملك الذي سلمهم إليك سوف يتقدم بالسؤال عنهم إليك وقد قال من أنت خليفته على أمته: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
فكن لهم كما تريد أن يكون نوالك ودن لهم كما تحب أن يدينوا لك واعلم أيها الملك الودود أن هذه النقود إن لم تصرف في مصارفها
وترفل في وجوه الطاعة في مطارفها فإنها جمر يضرم في نار جهنم كما قال من يقول للشيء كن فيكون. يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون. فاسمع أيها الملك الصالح نصيحة مشفق ناصح ولا تغتر بالدنيا وزهرتها ولا تنظر إلى حلاوتها وخضرتها وإياك والميل إلى نزهتها ونضرتها فإنك إن ملت إليها أسرتك أو جبرت على الركون إليها كسرتك وحسبك من كلام الرب الغفور ومن بيده مقاليد الأمور: إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.
(قال) الراوي لهذه الحكم والفتاوي فلما وعى ما قال هذه النصائح الصادقة من الخنن أمر بها فسطرت ثم نشرت وشهرتوعلى المنابر قرئت وعلى رؤوس الأشهاد ذكرت وأبلغها ابنته وقرر لها مقدار زوجها وحكمته وميله عن الدنيا ورغبته فقالت هذا الذي كنت أردته وعلى مسامع مولانا الخاقان سردته ثم إنها أقبلت على طاعة ربها وبعلها وإصلاح أحوالها في قولها وفعلها وقضايا عمرهما في أنواع العبادة واكتسبا بطاعتهما في الدارين الحسنى وزيادة ثم اقتدى بهما الملك وعسكره حتى انتشر في آفاق المملكة بالعدل بالعدل والصلاح خبره إلى أن اندرج إلى رحمة الله تعالى ذلك الرعيل وبقي ذكره مخلدا على صفحات الأيام جيلا بعد جيل وقد قيل في ذلك ممن أحسن القيل:
كانوا شموسا تضيء الدهر طلعتهم
…
وفي طريق المعالي يقتدى بهم
غابت فلولا سناهم كالبدور اضا
…
من بعدهم أهل الفضل في الظلم
هكذا يكون طالب السعادة الأبدية والكرامة السرمدية إذا ملكه الله زمام الرعية يحسن سيره في الدنيا ويتيقظ لتحصيل السعادة الكبرى ويشتغل بما يرضي عنه المولى وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(تمت بحمد الله تعالى) نوادر ملوك العرب والعجم والأتراك ويلي ذلك مباحث زاهد الإنس العالم مع شيطان الجن الآثم الأفاك ونسأل الله المسؤول أن يحقق لنا من كرمه وإحسانه المأمول ويعصمنا بفضله من عثرات الفضول والصلاة والسلام على أعظم بني وأكرم رسول وعلى آله وأصحابه وأكرم بالصديق والفاروق وذي النورين وزوج البتول واخوانه من الأنبياء والمرسلين وسلاما يشتملان العفو هنا والقبول ويمن بالكرم والفضل على قطوعنا بالوصول آمين والحمد لله رب العالمين.