الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع
في ذكر القتال بين أبي الأبطال الريبال وأبي دغفل سلطان الأفيال
(قال) الشيخ أبو المحاسن من ليس له في الفضل مساو ولا مواس فلما أنهى الحكيم حسيب كلامه لأحلى من النسيب قبل أخوه بين عينيه وأفاض خلع الأنعام عليه استزاده وفتح لجامع فضله باب الزيادة وكان قد وقع بين ملك الأفيال وبين ملك الأسود المسمى بالريبال المكنى بأبي الأشبال وأبي الأبطال مقال أدى إلى جدال وأتصل بحرب وقتال فسأل الملك أخاه هل سمع من ذلك شيأ ووعاه فأجاب بالإيجاب وذكر في الجواب الأمر العجاب (فقال) كان يا ملك الزمان في بعض أطراف الهنود من عساكر الأفيال جنود في جزيرة عظيمة كبيرة من جنسهم وجلدتهم ونفسهم ملك عظيم ذو جسم جسيم وشكل وسيم منظره بديع وهيكله رفيع طويل الخرطوم واسع الحلقوم مبسوط الأذنين حديد العينين طويل الأنياب في جراب كثيف في المرأى خفيف في الموطأ عدد جيشه غزير ومدد جنده كثير وهو فيهم ملك كبير ذو قدر خطير منفرد بالسرير ورثه كابراعى كابر وكل جيشه رؤساء وأكابر لأوامر طائعون ولما يراه تابعون فبلغه في بعض الأيام أن في بعض الغياض والآجام مكاناً في غاية النزاهة معدن الفواكه والفكاهة ذا مياه عذبة ومروج رطبه أراضيها أريضه ورياضه طويلة عريضة أطيارها تسكر بألحانها وأشجارها
تخجل قدود الملاح بأغصانها وأزهارها زهره وأنوارها نضره ونسيم الصبا والشمال تنتشر إلى الآفاق طيب أنفاسها العطره وأنه يصلح أن يكون لملك الأفيال مقاماً مع أن من الجبال والحصون وعصاما غير أن فيه أسد هصورا جمع فيه جنداً كثيراً ولا زال الناقل يصف ريطنب ويعجم في حسن شمائلهم ويعرب حتى قال بعض الندماء الحاضرين من الكبراء لو قصد الملك ذلك المكان وجعله لنفسه من بعض الإسكان وتنقل إليه في بعض الأوقات وساعات التفرج في المتنزهات لا راح نفسه الخطيرة من وخم هذه الجزيرة ووجد لذة الطعام ونشوة الشراب على المدام والأسد الذي فيها وأن كان مالك نواحيها وبيد تصرفه زمام نواصيها وجماجم قلاعها وصياصيها لكنه ملك عادل وسلطان فاضل تمنعه شهامته وكرم نفسه وكرامته ورياسته وزعامته أن يضايق الملك في ذلك أو يضيق سلوكها على سالك وأن شرع في الممانعة وأخذ في أسباب المدافعة بالمقارعة والمنازعة فالعساكر المنصورة وأعدادهم الموفورة فيهم بحمد الله لذلك قوة وكفاية ولهم في بداية الحروب هداية وفقاهة ليس لشرحها غايةولا لفروع أصولها نهاية يحيون في مباحثها النفوس ويعيدون في مدارس الحرب بتكرار الضرب فأني الشجاعة بعد الدروس فيكفون الملك أمره ويكفون أذاه وشره ولا زال يفتل منه في المغارب والذروة ويقوى بتمويهاته دواعي الحرص والشهوة حتى اقتنصته إشراك المطامع وأوقعته في عبودية شهوة تلك المواضع ودعته النفس الأبية وحمية الجاهلية وباعث العصبية إلى الاستيلاء على تلك الأماكن البهية والولايات السنيه والمساكن الزهيه
وأسامة سوارح اللحاظ في مراعي نزهة تلك الغياض ومروج أراضي هاتيك الرياض وأزعج في ذلك المقتضى وأسلمه العدل والخلق الرضى على عليه سيئ الطباع واستولت عليه فوارغ الأطماع وعشقها على السماع وكان عنده إخوان هماً له عضدان هما وزيراه وفي مهامه مشيراه مسعداه في الأمور ومنجداه في أحوال السرور والشرور أحدهما واسطة خير قليل الشر عديم الضير قد جرب الزمان وعاناه وقالب قوالب وقائعه بالمقايسة ما قاساه اسمه مقبل وهو كاسمه مفضل والآخر بالعكس في جميع حركاته وكس وهو كاسمه مدبر بكل شيء مخبر قصد غبار فتن يثيره وعسكر بلاء يغيره وطالب أذى وعناء يعيره أو سر يذيعه أو مكر يشيعه أو متسوق شريبيعه وهما ملازمان الخدمة واقفان في مقام الحشمة والحرمة كالفتق والرتق والباطل والحق والكذب والصدق وفي الإفساد والإصلاح كالمراهم والجراح ومصلح الدرهم ومفسد الراح ومرشد العقل ومعتل الأقداح وفي الوفاق والشقاق كالسم والترياق وفي الحكم والقضاء كالداء والدواء وفيما يقع من الحوادث المفرجات والكوارث كالخر والبرد والشوك والورد فاختلى الملك بأخويه واستشارهم فيما أنهى إليه فقال أخوه المقبل يا مولانا أبا دغفل لو لم يكن بهذا المكان أحد من أدنى الوحوش فضلاً عن الأسد لكان عدم قصده ترفعاً وترفها والتوجه إلى الاستيلاء عليه موجهاً فكيف وذلك في ولاية مالك وهو مالك صعب كابي حفص الصعب ملك كبير عادل وسلطان خطير فاضل مطاع في
صاغيته متبوع في حاشيته عادل في رعيته سيرته شكورة ومحاسنه مأثورة
وهيبته وبسالته غير منكورة وهو جار حسن الجوار لم يضبط عليه ما يقتضي انتزاع ملكه من يديه ولم يتعرض إلى متعلقاتنا ولا آذى أحداً في ولايتنا وأن مولانا السلطان لم يصدر منه إلا العدل والإحسان إلى الأباعد والأجانب فضلاً عن الجيران لا سيما الملوك الأكابر ومن ورث الملك كابراً عن كابر ولقد تلقفت من أفواه الحكماء وتشنفت مسامعي من جواهر ألفاظ العلماء بثلاث نصائح هي من أحسن المنائح إحداهما أحذر أيها الموفق أن تقع في دم بغير حق ثانيتها إياك يا ذا التوفيق وأموال الناس بغير طريق ثالثتها إياك يا ذا الشيم الكريمة وهدم البيوت القديمة وأعلم أن الله تعالى عم رزقه وخص كل موجود بما يستحقه وقد أقام الأسد في تلك الأماكن وهو أن كان متحركاً فهو فيها ساكن ولو لم يستأهل لما اختص بتلك المناهل وما ينكر هذا الأجاهل أو من هو عن الحق ذاهل وحاشى أن تنسب يا رئيس الأخيار إلى حسد أسوء جوار وعظمتك تأنف عن ذميم الأخلاق وكيف وقد انتشر بالفضل صيتها في الآفاق وإذا كان للشخص ما يكفيه فينبغي أن يقتصر عما يطغيه ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقد أحسن في المقال من قال:
يا أحمد اقنع بالذي أوتيته
…
إن كنت لا ترضى لنفسك ذلها
واعلم بان الله جل جلاله
…
لم يخلق الدنيا لأجلك كلها
فالتفت الملك إلى المدبر وأشار إليه كالمستخبر ماذا تشير أيها الأخ والوزير فقال جميع ما قرره مولانا الوزير حق وجملة ما ذكره وحرره صدق نصائح ترشد العقول وتزين عقود المعقول والمنقول ولكن لا يخفي
على كريم العلوم أن الأسد حيوان ظلوم غالب طالب وخلاص الرعية من شره واجب ويلزم كل أحد أن يخلص الرعايا من ظلم الأسد ومولانا يبلغه ظلمه ولم يحط بأحوال الأسد علمه وأنه من أظلم البرية لمن تحت يده من الرعية وأنه يجب على مولانا السلطان خلاص الرعية منه على أي وجه كان وأيضاً فانانعامات مولانا البارة على كل أحد من الخلق دارة والخرج والكلف والكرم الذي بأنامله ائتلف كل يوم في ازدياد والعساكر المنصورة كل وقت نزداد وإذا لم تتسع الولايات وتكثراً الجهات والاقطاعات كان الخرج أكثر من الدخل والمصروف من الخزانة كالوابل والدخل كالطل وإذا زاد المصروف على الحاصل عجز الواصل وفرغ الحاصل ودل ذلك على ركاكة الهمة وقصور النهمة والملك يجب عليه والمندوب في شرع همته إليه أن يكون كل وقت جديد في فتح وترق ومزيد وتوسعه الممالك وتنزيه بساط السلطنة عن المنازع والمشارك والاستكثار من الجند والرعية واستجلاب خواطرهم الأبية بالجوائر السنية والانعامات السمية ولا يجوز في ملة الإسلام أن يتعدد الخلفية الإمام ولله در القائل العلي الشمائل:
إذا ما لم ثكن ملكاً مطاعاً
…
فكن عبد المالكه مطيعاً
فان لم تملك الدنيا جميعاً
…
كما تهواه فاتركها جميعاً
وناهيك يا مالك الممالك والمماليك في علو الهمة وصدق العزمة وغوص الأفكار في استخلاص ممالك الأقطار قضية فحلا الرجال تيمورلنك الأعرج الدجال مع نائبه الله داد أحد القواد ونواب البلاد فسأل أبو مزاحم أخاه عديم المراحم عن تلك القضية وإيضاحها عن جليه
(فقال) إن تيمورلنك رأس الفغساق الأعرج الذي أقام الفتنة على ساق لما حل بالممالك الرومية في شهور سنة خمس وثمانمية وأسر مالكها واستخلص ممالكها استمر في ممالك العرب يصول وفي فكره استخلاص ولايات الشرق يجول وكان أقصى ما انتهت إليه في الشرق مملكته ونفذت بسهام أحكامه فيه أقصيته بلداً يسمى أشباره قد أعده لشياطين النهب والغارة وبثى فيه قلعه ونقل إليه من ذوي المنعة جنداً منتخبا من كل يقعة وهو في بحر ممالك المغل والتتار والحد الفاصل بين ممالكه وولايات عباد الشمس والنار وأمر على أولئك الأجناد شخصاً يدعي الله داد وهو من خواض أمرائه ورؤساء جنده وزعمائه فمن جملة ما أمره به ذلك المشوم وهو مخيم ببلاد الروم أنه أبرز إليه مراسلة فيها أمور مجملة ومفصلة أمره بامتثالها وإرسال الجواب ببيان كيفية حالها منها أنه يبين له أوضاع تلك الممالك ويوضح كيفية الطرق بها والمسالك ويذكر له مدنها وقراها ووهدها وذراها وقلاعها وصياصيها وأدانيها وأقاصيها ومفاوزها وأعارها وصحاراها وقفارها وأعلامها ومنارها ومياهها وأنهارها وقبائلها وشعابها ومضايق دروبها ورحابها ومعالمها ومجالها ومراحلها ومنازلها وخاليها وآهلها بحيث يسلك في ذلك السبيل الأطناب الممل ويتجنب مأخذ الإيجاز وخصوصاً المخل ويذكر مسافة ما بين المنزلتين وكيفية المسير بين كل مرحلتين من حيث تنتهي إليه طاقته ويصل إليه علمه ودرايته من جهة الشرق وممالك الخطا وتلك الثغور وإلى حيث ينتهي إليه من جهة سمر قند علم تيمور وليعلم أن مقام البلاغة في معاني هذا الجواب هو أن يصرف فيه ما استطاع من حشو واطناب وتطويل وإسهاب وليسلك في بيانه الطريق الأوضح من الدلالة وليعدل عن الطريق الخفي في هذه الرسالة إلى أن يفوق في وصف الأطلال
وتعريف الرسوم وحدود ألد من صفة الشيخ القيصوم فامتثل الله داد ذلك المثال وصور له ذلك على أحسن هيئة وآنق تمثال وهو أنه استدعى بعدة أطباق من نقي الأوراق وأحكمها بالإلصاق وجعلها مربعة الأشكال ووضع عليها ذلك المثال وصور جميع تلك الأماكن وما فيها من متحرك وساكن فأوضح فيها كل الأمور حسبما رسم به تيمور شرقاً وغرباً بعداً وقرباً يميناً وشمالاً مهاداً وجبالاً طولاً وعرضاً سماء وأرضاً مرداء وشجراء غبراء وخضراء منهلاً منهلاً ومنزلاً ومنزلاً وذكر أسم كل مكان ورسمه وعين طريقه ووسمه بحيث بين فضله وعيبه وأبرز إلى عالم الشهادة غيبة حتى كأنه شاهده ودليله ورائده وجهز ذلك إليه حسبما اقترحه عليه كل ذلك تيمور في بلاد الروم يمور وبينهما مسيرة سبعة شهور وكذلك فعل ذلك البطل وهو بالبلاد الشامية سنة ثلاث وثمانميه مع القاضي ولي الدين عمدة المؤرخين أبي هريرة عبد الرحمن بن خلدون أغرقه الله في فلك رحمته المشحونوقد سأله عن أحوال بلاد العرب وما جرى فيها من صلح وحرب وما وقع فيها من خير وشر ونفع وضر ثم أنه اقترح عليه وتقدم بالأمر إليه يوضع أوضاعها ورسم مدنها وقلاعها وحصونها وضياعها وتخطيط ولاياتها وأشكالها وهيآنها فامتثل ذلك وأبداه وعلى حسب ما اختاره واقترحه أنهان وبين ذلك مثل ما ذكره أعلاه فشاهد أوضاعها وخبر وهادها وبقاعها كأن الحائل رفع من البين وعاين ذلك الإقليم بالعين فانظر إلى هذا الأعتمي وهو سطيح نصف آدمي وهمته العالية كالبرق تضرب تارة في الغرب وأخرى في الشرق
(وإنما أوردت) هذه القضية ليقف سامعها على مقدار الهمة العلية فلا يرضى الملك الهمام بالمنزلة الدينية ولا يقنع بالدرجة الوطية بل يجتهد في تكثير الجند والرعية وفتح الأقاليم العربية والعجمية ولا يقتصر على الحالة السوية وإنما يلازم طلب الارتقاء بكرة وعشية ويكون سعيه كالشكر يطلب المزيد وكما يستديم طلب الزيادة من مولاه يستديم زيادة العبيد والافينسب إلى قصور الهمة وإفلاس الذمة ونقصان الحرمة وبطلان الحشمه وأعظم بها من وصمه وبالعجز والتقصير يضيع حقوق الملك الخطير وتجد الرعية للطعن مقالاً وفي ميدان الأعراض عن الملك مجالاً وهذا خلاف موضع الإمامة وعكس ما تقتضيه
الرياسة والزعامة فان موضع السلطنة أن يتعاطى الملك مهما أمكنه من أسباب الفتح والفتوح وما يستميل به من الرعية القلب والروح وذلك بالإحسان والإكرام والبذل والإنعام فبه تقوى رغبتها وتزداد محبتها فإذا لم يكن ذلك فل المملوك عن الممالك واسمع قول الأديب ذي الرأي المصيب وهو:
إذا أهملت أمر العبد يوماً
…
وقصرت العليق عن الحمار
توقف في المسير أبو زياد
…
وقام العبد يجري للفرار
وقيل (والدر يقطعه جفاء الحالب) وقال أشرف جنس الإنسان علو الهمة من الإيمان فالرأي السديد عندي والذي بلغ إليه جهدي إنفاذ هذه العزيمة وسلوك طريقها القويمة وإبرازها من مكان القول إلى ظواهر العمل والحول والاعتماد على ما قيل:
فلا تثن عزمك خوف القتال
…
بسمر دقائق وبيض حداد
عسى أن تنال الغنى أو تموت
…
فعذرك في ذاك للناس باد
فان لم تنل مطلباً رمته
…
فليس عليك سوى الاجتهاد
فأقبل الملك على المقبل وقال توجه بكليتك علي وأقبل شعر:
ولا تبق مجهوداً برأيك أنه
…
سديد ومن يقف السديد سديد
فان القلب قد مال إلى العزم والأخذ في التوجه بالحزم وترجح جانب الوثوب إلى جهة هذا المطلوب فأمعن النظر وأجل قداح الفكر ولا تخف رأياً بسنح في أي جهة ترجح فقال افعل بشرط أن يقبل أعلم زدك الله علماً وفضلاً وكرماً وحلماً أن الذي رآه العلماء وأشار به ذوو الحنكة من الحكماء أن من طلب وفور خيره وفائدة نفسه في مضرة غيره لا يتمتع بتلك الفائدة ولا تثمر معه تلك العائدة وهو أعلى تقدير حصولها والاستيلاء على فروعها وأصولها وإن لم يظفر بها فلا تستفيد النفس غير كربها مع زيادة الحسرة وسوء الصيت في الشهرة ووفور الندم وزلة القدم وكل من أراد تمشية هواه ولم يلتفت إلى ما سواه ورأى نفسه أحق من غيره فلا تطمع أبداً في خيره ولا يكاد يسلم من الانكاد ولا يصفو له زمان ولا تدوم له أخلاء وأخوان ولا تزال ديم الهموم من غمام الغموم تهمي على حدائق آماله وتسقي مزارع أحواله إلى أن تحظل نخلات نيته وتيبس حقول طويته ويحصده حراث الفنا ويدرسه دارس الردى ويذري حبات وجوده الهوان
في الهوى وينقل عن بيدر الشقاء إلى طاحون البلاء فهناك يجدح سويق أفعاله ما يزيغه فيحسوه ويتجرعه ولا يكاد يسيغه ويصهر به ما في البطون ويقال له ذوقوا ما كنتم تكسبون هذا وإذا كان الدخل لا يفي بالخرج وخيف من ذلك وقوع هرج ومرج فبحسن التدبير يتصرف الملك الخبير وبكفاية الوزير وتوفير المشير يجل الحقير ويكثر النزر اليسيركما قيل:
قليل المال تصلحه فيبقى
…
ولا يبقى الكثير مع الفساد
وبالخلق الحس وحسن السياسة تملك رقاب أولي الرياسة فضلاً عن العوام وهذا بحسب المقام ولا يتصور أن مجرد المال هو شبكة صيد الرجال فان حفظ الممالك هو وراء ذلك وقد قال رسول خلاقكم أنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم وشيء يحتاج تحصيله والانقطاع إلى وصوله إلى بذل أموال وأرواح وكد نفوس وأشباح وأتعاب خيل ورجال وارتكاب شدائد وأهوال وبعد حصوله يتكلف في محافظته وحراسته وملاحظته إلى تحمل هموم وغموم وكلامه وكلوم وآخر الأمر يخرج من اليد ولا يبقى إلا النكد والكد فتزول في الدنيا اللذات معاناة الكدورات وتجرع الغصص والمشقات وتبقى في الآخرة التبعات لجدير بان لا يلتفت إليه ولا يعول عليه ولا يهتم له بشان ويستغني عنه وأن احتج إليه بقدر الإمكان والأفمثل الذي يعلق به فؤاده ويربط بدوامه وبقائه اعتقاده ويتصور ذلك بفكره الفاسد ونظره الكاسد كمثل كسرى لما مات ولده وتفتنت عليه كبده وحصل له عليه الاضطراب ورده عن خطئه الهلول إلى الصواب فسأل أبو الحجاج أخاه المحجاج عن بيان هذا الأمر وكيفية إطفاء هذا الجمر
(فقال) المقبل ذكر محدث معدل أن كسرى كان له ولد قد سكن منه سويداء الخلد يخجل البدر ليلة تمامه ويستميل الغصن حاله قيامه وكان يحبه حبا جاوز النهاية وتعدى الحد والغاية وكان لشدة شغفه استبعد حلول تلفه بل أحال وفاته وأذهله عن درك الحق وفاته فأدركه الأجل المحتوم واستوفى مداه المعلوم فاضطرب كسرى لونه واصطدم بصخور فراقه واصطلم ولم يقر له قرار ولا طاعة اصطبار فوعظه العلماء فما أفاد وثبته الحكماء بضرب الأمثال فأعياهم المراد وكان في بلده رجل بهلول يتردد إليه ويدخل في أكثر أوقاته عليه فيلاطفه في محاروته ويبتهج بكلماته في مخاطبته فدخل عليه البهلول وهو كئيب ملول لا تسر حاله صديقاً ولا يهتدي إلى السكون طريقاً فسأله عن حاله وما أوجب توزع باله وتغير أقواله فقال يا بهلول عدمت ولدى وقرة عيني وراحة روحي وجسدي (شعر) :
لا صبر يجدي على فراقه
…
ولا معين على احتراقه
وقلت:
أواه من فرقة الأحباب أواه
…
لقد كوى من حشا قلبي سويداه
قال البهلول نعوذ بالله من ساعات الذهول يا ملك الأنام أن عيسى عليه الصلاة والسلام شكا إليه بعض حواريه شيأ يشابه ما أنت فيه فقال عليه السلام كن لربك كالف الحمام يذبحون فراخه ولا يفارق مناخه ولا ينفر عنهم ولا يشكو منهم ثم أن البهلول قال وأنا إليك سؤال فاجبني بجواب شاف فانك ذو ألطاف فلا يكن فيه جراف
فقال سل فكلامك لا يمل قال أكنت ترجو أن ولدك لا يموت أبداً وأنه يصير في الدنيا مخلداً فقال لا ولكن أردت أن يبق مده ويتمتع بشبابه وبنعيمها عنده ويلتذ بطيب المآكل والمشارب ويقضي من أواطار الشباب المآرب ويؤنس أنداده وصحبه ثم يقضي بعد ذلك نحبه قال هب أنه عاش مهما رمت وقام وقعد في الدنيا كما قعدت وقمت وعاش العيش الطيب وهمي عليه من سما ملاذها الوابل الصيب وحصل له من العيش الهني والعمر السني أمثال الجبال وأعداد الرمال فعند مفارقة العيش وحلول الخفة والطيش هل يدفع عنه ذاك شراً أو يرفع عنه بؤساً وضراً أو يجلب له نفعه أو يذهب من ذلك شيء معه أو يفيده أدنى فائدة أو يعود عليه منع عائده قال لا قال فلا تاس على معاش يكون عقبى أمره إلى لاش وعمر ذاك مصيره وسواء طويله وقصيره وكثير تنعمه ويسيره (شعر) :
وإذا كان منتهى العمر موتاً
…
فسواء طويلة والقصير
(غيره) :
فعش ما شئت في الدنيا وأدرك
…
بها ما شئت من صيت وصوت
فحبل العمر موصول بقطع
…
وخيط العيش معقود بموت
فهب أنه عاش ونهب الملاذ وحاش وعلا في ارض التنعم وغلا وجاش كل ذلك في المقدار على حسبما تختار وأنه جاءه القضا وقد قضى وطره ومضى ثم قضى تحبه وقضى فجبر الكلام كسرا وسرى عنه همه وأسرى وقال الآن سكنت فنعم الناصح أنت
(وإنما أوردت) هذا التنبيه أيها الملك النبيه لا عرض على الخواطر السعيدة والآراء السديدة والآراء الرشيدة أن الأقتصار عن هذا أولى وأليق بالركون تحت إرادة المولى قال المدبر المفنن المعبر ثلاثة أشياء ينبغي لطالبها أن لا يفتكر في عواقبها الأول الأسفار في البحار والغوص فيها إلى القرار فان طالب الجواهر النفيسة ومن قصد أن يكون في صدر التجارة رئيسه لا يخشى من الغرق ولا عنده من ذلك فرق فهذا يعبى بضائع المال وذاك يغطس إلى قعر الأوحال وكل منهما لا يتفكر في العاقبة والمآكل الثاني المقدم على الحرب والرشق والطعن والضرب ومصارعة الأبطال ومباشرة أسباب القتال لا ينزعج لصوت ولا يفتكر في الهزيمة والجراح والموت والثالث طالب الرياسة والملك ذي السياسية لا يفتكر في الاقتحام ولا يتوانى في الأقدام ولا يتأمل في العواقب ولا يلتفت إلى المناقب ويلقي نفسه في الأخطار ويضرب إلى أعماق الأقطار ويجعل جل همه بلوغ الأوطار وقيل:
بقدر الكد تكتسب المعالي
…
ومن طلب العلى سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلاً
…
يغوص البحر من طلب اللآلي
وقيل:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمة
…
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
قال المقبل الحكيم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم أولوا الألباب المميزون بين الخطأ والصواب الناظرون من مبتدأ لأمور في أعقابها المستبصرون قبل وقوعها في مآلها ومآبها الآتون بيوت النوائب والنوازل من أبوابها قالوا إذا تحمن أبو الحصين وأغلق عليه من وراء
جدار بابين صم حاصره أسد من خارج ساوت قوة الخارج قوة الوالج ولا شك أن حركة العساكر وقطع الفيا في والدساكر والتوجه إلى قتال من هو ساكن في سربه محتاط في إقليمه ودربه متحصن في قلاعه متدرق بحجفة امتناعه يحتاج في الأموال إلى إخراج وفي الرجال إلى إزعاج وتحمل أخطار وتجشم أسفار وأخذ ضعفاء تحت أقدام وهدم دور وقطع أرحام ومع هذا كله حصول المقصود موهوم والظفر به غير معلوم فان حصل فقد مر أن لا ثبات ولا تمنع وأن احتجب فهو وراء ستر التمنع فكم من دماء حينئذ تراق وقد كانت مصونة وأموال تهدر وقد كانت مضمونه وأعراض تهتك وقد كانت محترمة وأنفس تذل وقد كانت عزيزة مكرمه والحق في هذا متضح ومن نجا برأسه فقد ربح وقد قدمت هذا التقرير وهندست هذا التقدير لأن العاقل الماهر في التجارة كما يحسب الربح يحسب الخسارة وكل هذا في العاجلة فصلا عن المحذورات الآجلة من غضب الله وعقابه وتوبيخه وأليم عذابه وإذا خرج الأمر عن اليد ودخل على القلب الاشتغال بالنكد وذهب المال والمنال ونقصت الأهبة والرجال وتناقص العدد والعدد وتناكص المدد والمدد فأي حرمة تبقى للملك عند الرعايا وقد قلت عنهم منه الأرفاد والعطايا وكيف يستقر ملكه أو يدور على فلك الثبات فلكه فلا تخافه الرعية ولا يرجونه ولا يسمعون كلامه ولا يطيعونه ويصير كالسحاب الخلب لا يوثق منه بوعد ولا يحصل منه مطلب أن تكلم عابوا كلامه وأن حكم نقضوا أحكامه وأن حلم قالوا عاجز وإن تقدم في الحرب قالوا مجنون مبارز
وأما الغني ذو المال فهو على عكس هذه الأحوال فان رأوا منه فضلاً كان لكل مكرمة أهلا فرفعوه إلى العيوق وكان العظم المرموق أن أعطى قليلاً استصغر واحتما عنده وأطنبوا بلسان الثناء في شكرهم رفده وأن يخل قالوا مدبر لا يضيع ماله وإن كذب صدقوا قيله وقاله وفي الجملة حركات الغنى مستصوبه وكلماته مترشفة مستعذبة وقد قيل:
إن ضرط الموسر في مجلس
…
قيل له يرحمك الله
أو عطس المعسر في مجمع
…
سبوا وقالوا فيه ما ساء
فمضرط الموسر عرنينه
…
ومعطس المفلس مفساه
وكما قيل:
الفقر يزري بأقوام ذوي حسب
…
وقد يسود غير السيد المال
ولقد رشفت من أفواه الحكماء ونصائح البلغاء بل شاهدت من النوائب وتلقفت من ذوي التجارب وتحققت في الدهر أبا العجائب أن الفقر شيب الفتيان وسقم صحيح الأبدان ومبعد الأقارب وجاعلهم أجانب وقاطع الأرحام ومانع السلام ومبغض الأحباب ومفرق الأتراب ومشتت شمل الأصحاب وبالجملة فالذي يجب على ولي الأمر التأمل في قصارى هذا الأمر والتفكر في عاقبة هذه الحركة وما يحدث فيها من شؤم وبركه وأن يجبل قداح التدبر والتبصر والتصبر ويثبت في صدر هذا المورد المضيق وما فيه من مجال أو ضيق ولا يعتمد فيه على القوة والحول وأسباب الطول وكثرة الشوكة والعدد وإمداد العدد والمدد مع عدم الاكتراث بالأخصام وقلة المبالاة بكل أسد ضرغام فان الأسد سلطان السباع وملك
عظيم كثير الجند والأتباع شجاعته مشهورة وشهامته مأثورة به يضرب المثل ويشيه كل بطل ونحن وإن كان لنا عساكر كالجبال تهدم الحصون وتدك القلال لكن ما جر بنا مصارعة الأسود ولا مارسنا مقارعة النمور والفهود ولا نعرف طريق بلادهم ولا طريقة جدالهم وجلادهم وأن لهم في الحروب أساليب وفي افتراس الفرائس أنياب ومخاليب أن لا تتم هذه الأمور وتقصر حبالنا عن مصادمة مالهم من قصور فيرجع وبال هذه الأمور علينا إذ ابتداؤه أو لا منسوب الينا ولا تحصل إلا على الندامة والتوبيخ والملامة ويخطبنا الجد الوبيل بما قيل:
تبني بأنقاض دور الناس مجتهداً
…
دار استنقض يوماً بعد أيام
وقال المدبر ولا شك أن جوهر هذا النظام وعقود هذا الكلام صادر عن فكر بعيد ورأي سديد وأمر رشيد وتأمل في العواقب مفيد أصله الحكمة وفرعه الشفقة وزهره المعرفة وثمره الفطنة ولكن من حين استولى على الملك كيومرث ومرث على سرير التحكم أصبع الولاية أبلغ مرث وسن قواعد السياسة وأسس بنيان الرياسة وذلك زمان الأبتداء وأول ما تملك على الدنيا وإلى هذا اليوم لم يزل القوم من الملوك في روم وطلب الزيادة والسوم ولا عتب في ذلك ولا لوم وقل لي أي ملك مالك تحكم في الممالك وسلك فيها المسالك ولم يقصد فيها الولايات الشاسعة ولا الأقاليم الواسعة ولم يطلب الترفع على الأقران وعلو المكان بقدر الإمكان والملك عقيم والعاجز سقيم وكيف يتصور أيها الملك الأكبر أن تكون همة الملك أدنى من همة تاجر في البحر ينهمك فان التاجر إذا افتكر في لذة الفائدة وما يعود عليه
العائدة وغرته كما يقال التسع أواق الزائدة يضع جميع ماله وما تصل إليه يده من خدمة ورجاله في الفلك المشحون ولا يرهب ريب المنون ويركب هو أيضاً فيه ولا يلتفت إلى عجائب دواهيه ولا يفتكر في الغرق ولا في جبر السفينة ولو نخرق ويسلم قياده إلى متصرف الهواء ونفسه وماله إلى حاكم الماء ودونك يا ذا الحشمة والوافر الحرمة ما قاله العاشق العالي الهمة:
إن تهو بدر فليكن
…
ابن الخليفة ذي السرير
أو ابن سلطان الورى
…
أو ذي الوزارة أو أمير
وتجنب الأوغاد والغوغا وذا القدر الحقير
إن الخطير هو الذي
…
قد قام بالأمر الخطير
وأما قولكم عساكرنا أغمار لا دراية لهم بتلك الديار ولا معرفة لهم بمصادمة الأسود ومقاومة تلك الجنود فاعلم أيها الوزير الفاضل الكبير إن الأسد ملك كاسر وعلى سفك الدماء حاسر وأن في رعيته من آذاه وأنكاه في ذويه وأبكاه وكسره جبراً واسترعاه قسراً واستولى عليه قهراً فهو منتظر تنفس الزمان مترقب انقلاب الحدثان متوقع أيها الفضيل معنى ما قيل:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ
…
نصيب ولا حظ تمنى زوالها
فإذا سمع بأحد خرج على الأسد ولو كان أقل الأعوان فضلاً عن ملك الأفيال بل قيل الأفيال الفاضل في ذاته الكامل في صفاته العادل في رعيته البار بأهل ولايته المحسن إلى أهل مملكته المشفق الحليم الرؤوف
الرحيم فبالضرورة يبادر إلى الملاقاة ويسارع إلى ما كان يتمناه ويغتنم عبودية الملك وبعدها غاية مرتجاه فيدل على عورات العدوة ومظان عثراته ويرشد إلى طرائق نكاياته ونكباته ويناديفي النادي نلت مرادي على رغم الأعادي ويعلن بإنشادي للحاضر والبادي:
إذا كان للإنسان في دولة امرئ
…
نصيب وإحسان تمني دوامها
وأيضاً في ذلك الإقليم من متشبث بأمر جسيم وهو ماله من مال وأولاد واقطاعات وعقار وبلاد وسوائم ومواش وأثقال وحواش فلا يمكنه التحول عن طريقنا ولا التحمل لوعودنا ويروقنا ولا قوة المقاومة ولا طاقة المصادمة فبالضرورة يصانع عن تعلقاته وينشبث بذيل سنتنا مع الجماعة فنستمد بآرائه وروائه ونستفيد فيما نحن بصدده دواء لدائه فقال الملك للمقبل ما الجواب عن هذا الخطاب فقال هذا المقال وإن كان لا يخلو عن الاحتمال ووقوعه غير محال لكن الأقرب إلى الذهن إن هذا لا يقع لأنه أمر مبتدع ولأن طبائعنا مخالفة لطبائعهم وأوضاعنا غير أوضاعهم وناهيك إن كلاب الحارة في النهب والغارة يمزق بعضهم بعضاً ويتناحرون فيما بينهم حرصاً وبغضاً حتى إذا دخل بينهم ذيب أو حيوان غريب توجهوا إليه واتفقوا عليه فمزقوا أديمه وهتكوا حربمه وجعلوا لحمه لجماعتهم وليمة وعند الأسد من الوحوش أنواع ما بين سباع وضباع ونمور وذئاب وقرود وذباب وفهود وكلاب كلهم على طباعه متفقون على اتباعه وإن اختلفت عليهم الثياب لكن الكل كلاب أولاد كلاب وكل من هؤلاء على ما هم عليه متفقوا الأهواء له على خصمه في مجادلته وخصمه دربة في المساورة ووثبة في المغوره وأنواع في الكر والفر
وروغان في الخير والشر ومداخل ومخارج ومدارك ومعارج وليس في عساكرنا سوى الصدمات والحطم بقوة النهضات والعزمات فأن أفاد هذا الاصطدام وإلا فما ثم إلا الأنهزام فلما بلغ المقبل في الكلام إلى هذا المقام وكان رسخ في قلب الملك من كلام المدير الوسخ فما أثر نصح المقبل وما أفاد لأن النفس بطبعها مائلة إلى الفساد فشرع الملك واعتمد على التوجه إلى بلاد الأسد وأمر رؤساء فيلة الهنود بجمع العساكر والجنود وأشيع ذلك في أطراف الممالك فاطلع على هذه الأحوال غراب يكنى أبا المر قال كان له وطن وولد وسكن في ممالك الأسد لكنه قدم جزيرة الأفيال للتنزه على سبيل التفرج والتفكه فشرع يتأمل في هذه الأمور ويستنتج من قضاياها ما يتولد من سرور وشرور فانتهى سابق أفكاره في ميدان مضماره إلى أن هذه القضايا تسفر عن بلايا ورزايا وإراقة دماء وخراب أماكن وهلاك رعايا سواء تمت للأفيال أو رجعت عليهم بالوبال فخاف على سكنه ودمار أهله ووطنه فادى فكره الأسد أن يطلع على ذلك الأسد ليتداركه بحسن آرائه ويعترف للغراب بحسن وفائه فبكر بكوره وقصد دوره فوصل في أقرب زمان ونادى الريبال أبا الزعفران وقال الله الله أني أنا النذير العريان وأطلع الأسد على هذا النكد وقرر معه حقيقة الأحوال وما عزم عليه ملك الأفيال فتشوشت لذلك الخواطر وتصدعت لخوفه الأكابر والأصاغر ثم أمر السباع وطوائف الوحوش بالاجتماع مع رؤساء مملكته وأساطين خاصته ورعيته وذكر لهم هذا الأمر المهول وما عزم عليه ملك الفيول وأذن لكل واحد منهم في ذلك بما يقول فوقع الاتفاق من أولئك الرفاق أن يتفق أعيان كل جنس من الحيوان على رئيس من جنسهم يقيمونه مقام نفسهم يرضون بأقواله ويقتفون
آثار أفعاله وليكن من أهل الحصافة والكفاية واللطافة والدراية والشفقة العامة والمعرفة التامة بعقد معهم للمؤامرة مجلس رأي ومشاورة فمهما وقع عليه الاتفاق واجمع عليه الرفاق واستثصوبه الأسد وارتضاه اتبعوه وعملوا بمقتضاه فتقدمت طائفة الآساد إلى تاج منها نهاد سبع يسود على طوائف الأسود طالما افترس الأقران وانغمس في دماء الشجعان وأضاف جوارح الصيد فضلات ما افترسه من عمرو وزيد كاسر جاسر باسل باسر حاسر قاسر ظاهره أبي وباطنه بالمكر غني:
أسد يسود على الأسود زئيره
…
رعد وعيناه بروق وتخطف
فقدموه واختاروه واستشاروا رأي رأيه وامتاروه واختارت النمور نمرايمور سريع الوثبة بديع الضربة لطيف الحركات خفيف النهضات قوى الشماس خفي الاختلاس كثيراً ما كسر أسامهوسامي اسود خفان فاسر ضرغامه كما قيل:
نمر تخاف الأسد من وثباته
…
وتحار في حركاته وثباته
وقدمت الثعالب ثعلباً لطيف الروغان ظريف الزوغان خفي الحيل قوي الميل طالما فر من طبل وأهل على الصيادين من أهوال وأحرق السلوقيات سلاحه ونفذ في غالب الأسود بالمكر سلاحه:
يضل بني سلوق من دهاء
…
فيخلص من مخالبها سليما
واعتمدت الذئاب في هذا الباب على ذئب فعله عجيب وأمره غريب سديد الختل والختر شديد المكر والكسر طالما أفسد ثله ودخل في قطيع ماشية فقطعه كله يعجز الأسود والنمور والفهود شيمته الغدر والخديعة ودأبه المكر وسوء الطبيعة شعر:
وقد جمع الضدين نوما ويقظة
…
يخاف الرزايا فهو ويقظان نائم
فاختلى بهم أبو الأشبال وشاورهم فيما دهمه من الأهوال ونوجه بالخطاب إلى الأسد وقال ما رأيك في هذا النكد فقال لا تطلب النصر في هذا الحصر إلا من مالك العصر ومصرف أحوال الدهر بين الفرج والقسر وهو الله سبحانه وتعالى وعز شأنه وجل جلاله فأنا مظلومون وهم ظالمون ونحن ما اعتدينا عليهم ولا تقدمنا بالظلم إليهم فسيرد الله كيدهم في نحرهم وسحيق بهم عاقبة مكرهم وهذا أمر مقرر وأظنه هو المقدر وأما ما يتعلق بنا وبهم من الفرار والصلح أو حربهم فاذكره على التفصيل وأخبر في ذلك الرأي الجميل أما الفرار فلا سبيل إليه ولا معول أبداً عليه وأني ذلك وهو عيب ما وصمت به الأسود ولا لهم به وصف معهود وبنا يضرب المثل في الشجاعة والبسالة وتتشبه بنا الأبطال في الأقدام لا محالة وكيف نترك بلادنا وأهلنا وأولادنا من أول وهلة ونعزم على الرحلة ولا صادمناهم ولا واقفناهم ولو فعلنا ذلك فهربنا وتركنا مالنا وذهبنا لفسدت أمورنا وخربت ممالكنا دورباً ولا نفرط نظامنا وتعوج قوامنا واستمرت هذه الملامة إلى يوم القيامة ولدام علينا هذا العار ولا يقر لنا بعد ذلك قرار وأعلم أيها الملك نو والله وجه السرير بك أن العمر السنى ما مر في العيش الهني وقد قيل:
ما العمر ما طال به الدهور
…
العمر ما طاب به السرور
والعمر الذي يمر في نكد لا يحتسبه من ذوي الكفاية أحد وحسبك ما ذكره المترجم من حكاية الملك المعزول مع النجم فسأله أبو الأشيال سرد هذا المثال (فقال) الأسد ذكر القائل أن أهل بابل كانت عادتهم في دينهم وسلوك طريقهم مع سلاطينهم أنهم إذا اعتنوا بشخص ملكوه واتبعوا طريق أمره وسلكوه وبذلوا في طاعته ما ملكوه فإذا أرادوا عزله تركوه ونشزوا عنه وفركوه وأهملوا إحسانه وفذلكوه وسكنوا غيره في سرير الملك وحركوه فاتفق أنهم ولوا واحداً وأعزوه ونصروه ثم خذلوه وأقبلوا عليه أولاً ثم قتلوه وكانت مدة ما بين ذلك يسيره وعمر أيامه في ولايته قصيرة فحصل له أولاً السرور ثم تراكمت عليه بالعزل الشرور فاحتوشته الفكر وبات يصارع القضاء والقدر ثم قال لو راقبت في أول الجلوس ما في الطالع من سعود ونحوس ثم اخترت لساعة ارتقائي وقتاً يطول فيه بقائي وذلك يكون نجمي في برج ثبت لما انقلبت كواكب سعدي عن الاستقامة ولا نبت ولكن حيث فات ذلك في الابتداء فاندراكه في الانتهاء فلعل ذلك يفيد ويردني إلى سرير السرور يعيد ثم طلب منجماً حاذقاً ماهراً فائقاً وقال انظر في طالع جدي وتأمل برج نحسي وسعدي واختر لي ساعة يصلح فيها النزول عن السرير ويكون العود إلى السرير بواسطة الناظر إليها غير عسير فان الناظر إلى الطالع هو الجالب والمانع فامتثل المنجم ما رسم وشرع في وضع الأشكال والقسم ثم قال أحسن ما نظر في الطالع المسعود من حين الميلاد فانه أول الوجود فإذا أخذ الطالع سن ساعة الميلاد ترتب عليه ما
يصدر على ذلك المولود من السعد والإسعاد ومن الخوف والرجاء في عالم الكون والفساد فهل اطلع الملك في أي ساعة وجد وكم أتى عليه من حين ولد قال نعم أعرف مدة عمري جزماً وهي اثنان وعشرون يوماً فتعجب المنجم من مقاله ولم يقف على حقيقة حاله فقال ليوضحالملك ما أشار لأقف على حقيقة هذه الأسرار فقال مدة استيلائي على السرير هو هذا القدر اليسير وأنا لا أحسب العمر ولا أعتد بوصال بيض ولا سمر إلا هذه الأيام والليالي ولا أحتسب سواها عمرا ولو بيع باللآلئ وقد قلت:
وعمر مضى بالهجر لست أعده
…
ولكنني أقضيه في زمن العمل
وإنما عرضت يا بطل على رأيك السعيد هذا المثل لتعلم أن أيام المحنة لا تعد عمرا ولو قضى الإنسان فيها زمانا طويلا ودهرا وأما الصلح يا ذا الركون فعلى أي وجه يكون ومن أين يقع بيننا وبينهم اتفاق وسكون وليسوا من جلدتنا ولا على ملتنا وفي عصر وأوان ذل الأسد واستكان وخضع للفيل ودان أو أعطى الغضنفر النباج والضرغام الصعب الناج لغيره الجزية والخراج وهو في الحقيقة سلطان الوحوش ووهاب التاج فلم يبق إلا الاستعداد للمصادمة والتأهب للمقاحمة والمقاومة ولنا من ذلك في البين إحدى الحسنين أما الظفر بهم وهو المرام وأما الشهادة فنموت ونحن كرام وقد قال السيد السديد من قتل دون ماله فهو شهيد وقيل يا حاتم طي: حسن الثناء على الميت خير من سوء الثناء على الحي والموت في مقام العزة مع النشاط والهزة أرفع من الحياة بذلة ووخزة وكسرة ونخزة وقد كنت أنشدت وقديما أرشدت:
هو الموت إن لم تلقه ضاحكا فمت
…
عبوسا بوجه أفتر اللون أغبرا
ومن لم يمت في ملتقى الخيل مقبلا
…
عزيزا يمت تحت السنابك مدبرا
فأقبل الريبال على أبي مرسال وقال أيها النمر وصاحب الخلق الزمر ماذا نشير في هذا المهم والمشكل الذي دهم فقال إن الأفيال أكبر جسوما وأعظم حلوما وأقوى في الضرب وأعدى في الحرب وقد استعدوا وأقبلوا واتقنوا أمورهم وأعملوا وأنا أخشى أن يكونوا أقوى بطشا وأن نعجز عن المقاومة في المصادمة فإن فينا العاجز والضعيف والذميم الجثة والخفيف ومن لا عرف الأفيال ولا رأى تلك الأشكال فينفر من مصادمة الجبال فيطؤننا تحت أخفافهم وتنكسر شوكتنا في أول مصافهم فلم يبق إلا الفرار ولا يقر لنا بعد ذلك قرار فيستولون عنوة وقسرا على هذه الديار وينفرط النظام ونرضى عند ذلك بالسلامة والسلام ونقع في البلاء العريض الطويل وانظر يا مولاي إلى ما قيل:
هل للمرائر من صون إذا وصلت
…
أيدي الرعاء إلى الخلخال والخدم
فعندي الرأي ذو الأصالة أن ينتخب الملك من يصلح للرسالة ويحسن السفارة ويحسن العبارة فيسكن من فوره شغبهم وثورة لهبهم وسورة غضبهم ويعدهم ويمنيهم ويحسن التقريب ويقصيهم وفي ضمن هذه الأوقات وأثناء هذه الحالات يراقب أوضاعهم ويخبر جمعهم وأجماعهم ويتوصل إلى أسرارهم ويواصلنا بأخبارهم ويطالعنا بمخامر أفكارهم ويكتب ما قدموا وآثارهم ونستمر على المراسلة والمقاومة والمطاولة فإن تيسر رجوعهم وانكشف بالهوينا جموعهم وإلا فنكون قد استعددنا عن الاستبصار فنتعاطى أمور قتالهم بعد التأمل والاختبار وإن أمكننا أن نأتيهم
بالليل ونحل بهم الدواهي والويل بعد أن يركنوا إلى جانبنا ويأمنوا من نوائب مصائبنا فربما نصل إلى بعض القصد أو يوافق بعض حركاتنا السعد فالتفت الدوكس إلى العلمس وقال أي سيد وذا الأمر الرشيد ماذا ترى فيما طرأ وكيف طريق القوم فيما جرى قال السمسام يا مولانا الضرغام الذي سمعته من أولي التجارب وتلقفته من الأصحاب والأجانب أنه من التوفيق إذا ابتلى الشخص بعداوة من لا يطيق أن يدافعه بالهدايا والتحف ويحابيه بشيء من الظرائف والنتف فإنه قيل في الأمثال إن خير الأموال ما ادخر لدفع البؤس ووقيت بنفائسه النفوس فأهب النهاب بأبي وثاب يا أبا الحصين ما رأيك في البين وأي آراء الأصحاب أقرب إلى الصواب فتقدم الثعلبان وتكلم فأبان وقال أسعد الله الأحد مولانا الأسد وجعل رأيه الأسد وفعله على أعدائه الأشد اعلم أيها الدلهاث أن أمورنا لا تخلو عن إحدى ثلاث أما المقابلة بالمقابحة وأما المهادنة والمصالحة وقد تقرر فيما تقدم وتحرر بيان كل منهما وما يصدر فيهما وعنهما وأما الفرار وتولية الأدبار وترك الأوطان والديار فأف لذلك من عار وسبة وشنار فما بقي إلا الحالة الثالثة وهي بعساكرهم عابثة
ولقلوبهم كارثة وهي طريقة الاحتيال والتوصل إلى لقائهم بطرائق المكر في جب الوبال فإن صائب الأفكار يعمل ما لا يعمله الصارم البتار فبشباك الحيلة تصاد كل فضيلة وتهون كل جليلة وأنا أفصل ما أجملت وأبين ما فصلت أما المقابلة والأخذ في أسباب المقاتلة فلا طاقة لنا به ولا باب لدخول قبابه لأنا عاجزون عن المصادمة قاصرون عن المقاومة محتاجون إلى الطعام والشراب وبعض عساكرنا لا يعيش إلا باللحم والكباب وجيشهم الذي قد ملا وسد الوهد والفلا يقنعون بالحشيش والكلا فلا يتكلفون لحمل زاد ولا يحتاجون إلى عدة وعتاد وأيضا أحوال عساكرنا المفرقة المضمومة لاختلاف أجناسها وأنواعها غير معلومة فلا اعتماد عليهم ولا يتحقق الركون إليهم فإنهم أجناس مختلفة وطوائف غير مؤتلفة وبينهم معاداة وفي جبلتهم النفرة والمنافاة وبعضهم غذاء بعض وفي قلبه منه العداوة وبغض لو ظفر به كسره وأكله وإن استبصر به خذله فهم كالقفل المجمع ولون اتفاقهم ملمع وأما عساكر الأفيال فبينهم اتفاق على كل حال لأنهم جنس واحد وما بينهم مخالف ولا مناكد ولهم اعتماد على قوتهم وعلى اتفاقهم وشوكتهم والمعتمد على مثل عساكرنا إن لم يضبط بطريقة كلية أمر عشائرنا ينفرط أمره ويخمد في إيقاده نار الحرب جمره ويعلوه من بحر النوائب غمره ويظفر به أعدائه زيده وعمره ويصيبه من الحطة ما أصاب الصياد من القطة فسأل أبو الحارث عن بيان هذا الحادث قال الثعلب ذكر أن رجلا ذا كيد كان مغرما بالصيد وكان عنده قط صياد يجترئ على النمس والفياد فكان يوما بين يديه فمر عصفور عليه فطفر كالنمور وحصل من الهواء العصفور فأعجب به
صاحبه ثم قصد الصيد وهو مصاحبه وحمله تحت إبطه وبالغ في حفظه وضبطه وركب جواده وتوجه يروم اصطياده فرقى سفح جبل فخرج من وراء صخرة طائفة من الحجل فتوجه إليه وألقى القط عليه فطار الطير وخاف القط وقصد رجوعه إلى تحت الإبط فطفر إلى جبهة الجواد وأنشب فيها مخاليبه الحداد فجفلت الفرس من القطة وخبطت بفارسها الأرض شر خبطة أزهقت فيها نفسه وأبطلت حسه (وإنما أوردت) هذا المثل ليحترز أيها البطل في هذا الأمر من وقوع الخلل ويتفكر في أمر هؤلاء الجماعة وكيف ثباتهم في دعواهم السمع والطاعة فإنهم لا يصلحون للقتال خصوصا مصادمة عساكر الأفيال فالملك لا يعتمد على مثل هذا العسكر اللهم أن يتقرر أمرهم على صدق اللقاء ويتحرر وأما ذكره مولانا أبو سهيل في تبييت عساكر الأفيال بالليل فهو رأي معتبر ولكن فيه نظر لأن ذلك إنما يكون إذا كان العدو
في سكون وعن توقع النكبات في ركون فبينما هم في غفلة ذاهلون جاءهم باسنا بياتا وهم قائلون وأما إذا كانوا مستعدين يقظين مجدين وقد توجهوا للقتال وانتصبوا للمناضلة على هذه الحال فلا شك أنهم اتقنوا أمرهم وأخذوا أسلحتهم وحذرهم فأعدوا لكل نائبة نابا ولكل نائفة بابا ولكل حرب حرابا ولكل ضرب ضرابا ولكل شدة سدة ولكل عُدة عِدة ولكل جزة جمزة ولكل وفزة فزة ولكل نفرة طفرة ولكل فرة كرة ولكل أزمة حزمة ولكل كسرة جزمة فربما يكونون افتكروا منا هذه المكيدة وأعدوا في مقابلتها داهية نصبوا لها مصيدة فنتوجه إليها غافلين فنشب في شركها
ذاهلين فيصيبنا من النكل ما أصاب الجمل من الجمال فقال الريبال هات يا أبا الترهات أخبرنا يا أبا نوفل أخبار الجمل المغفل (قال) كان جمال فقير ذو عيال له جمل يتعيش عليه ويتقوت هو وعياله بما يصل منه إليه فرأى صلاحه في نقل ملح من الملاحة فحد في تثقيل الأجمال وملازمته بإثقال الأثقال إلى أن آل حال الجمل إلى الهزال وزال نشاطه وحال والجمال لا يرق له بحال ويجد في كده بالاشتغال ففي بعض الأيام أرسله مع السوام فتوجه إلى المرعى وهو ساقط القوة عن المسعى وكان له أرنب صديق فتوجه إليه في ذلك المضيق ودعاه وسلم عليه وبث عظيم اشتياقه إليه فلما رأى الخزر هزاله وسأله أحواله فاخبره بحاله وما يقاسيه من عذابه ونكاله وأن الملح قد قرحه وجب سنامه وجرحه وأنه قد أعيته الحيلة وأضل إلى الخلاص سبيله فتألم الأرنب وتأمل وتفكر في كيفية عصر هذا الدمل ثم قال يا أبا أيوب لقد فزت بالمطلوب وقدظهر وجه الخلاص من شرك هذا الاقتناص والنجاة من الأرتهاص والأرتصاص تحت حمل كالرصاص فهل يعترضك يا ذا الرياضة في طريق الملاحة مخاضة فقال كثير وكم من نهر وغدير فقال إذا مررت في خوض ولو أنه روض أو حوض فابرك فيه وتمزق وتنصل من جملك وتفرغ واستمر يا أبا أيوب فان الملح في الماء يذوب وكرر هذه الحركة فانك ترى فيها البركة فأما أنهم يغيرون حملك أو يخففوه أو تستريح بذوبه من الذي أضعفوه فتحمل الجمل للأرنب المنة وشنف
بدر هذه الفائدة أذنه فلما حمله صاحبه الحمل المعهود ودخل به في طريقه المورود ووصل إلى المخاضه برك فضربوه فما قام ولا احترك وتحمل ضربه وعسفه حتى أذاب من الحمل نصفه ثم نهض انتهاضه وخرج من المخاضه ولازم هذه العادة إلى أن أفقر صاحبه وأباده فأدرك الجمال هذه الحيلة فافتكر له في داهية وبيله وعمد إلى عهن منفوش وغير في مقامرته شكل النقوش وأوسق للجمل منه جملاً بالغ فيه تعبية وثقلاً وسلط عليه الظمأ ثم دخل به إلى الماء فلما توسط الماء برك وتغافل عنه صاحبه وترك فتشرب الصوف من الماء ما يملؤه البرك ثم أراد النهوض فنأى به الربوض فقاسى من المشاق مالا يطاق ورجع هذا الفكر الوبيل على الجمل المسكين بإضعاف التثقيل فساء مصيره وكان في تدبيره تدميرء وما استفاد إلا زيادة النصب وأمثال ما كان يجده من التعب والوصب (وإنما أوردت) هذا المثل عن الجمل ليعلم الملك والحضار إن العدو الغدار والحسود المكار يتفكر في أنواع الدواهي ويفرع أنواع البلايا والرزايا كما هي الحال ويبذل في ذلك جده وجهده ولا يقصر فيما تصل إليه من ذلك يده فتارة تدرك مكايده وتعرف مصايده وتارة يغفل عن دواهيها فلا يشعر الخصم إلا وقد تورط فيها وعلى كل حال لا بد للشخص له وعليه من الأحتيال وأما طلب الصلح وإرسال الهدايا فمن أعظم المصائب وأكبر الرزايا فان ذلك يدل على عجزنا والخور وينادي على هواننا في البدو والحضر ويجرئ علينا الغريب ويذهب حرمتنا عند القريب ودونك
يا أبا العباس ما أنشدتك في المقياس:
وما أنا ممافر من نار خصيمه
…
لظل حسود أو إلى فيء شامت
ولكن الرأي الأنور أيها الورد الغضنفر أن ترسل إليهم رسولاً عاقلاً فصيحاً جميلاً بصيراً بعواقب الأمور قد مارس تقلبات الدهور وقد ربى وتربى وعن الرذائل تأبى وبأنواع الفضائل تعبى وأحرم إلى كعبة محاسن الشيم ولبى ولولا أن باب النبوة استدلتني برسالة فحاله تسفر عن بسالة جزله تتضمن سؤالهم عما أوجب ارتحالهم وسبب قصدهم لبقعتنا وتوجههم لدخول رقعتنا وما موجب هذا الاعتداء ولم يصدر منا لهم إلا المحبة والولا وحسن الجوار والإحسان إلى الكبار والصغار ومعاملة الغريب والقريب بالفضل المجيب والكرم الذي لا يخيب ويذكر لهم بسالتنا وشجاعتنا وفي معاملات المضاربة بضاعتنا ويكشف لهم في ملابسه الحرب والضرب صناعتنا ويحقق عندهم ما عندنا من أسود الحرب وفوارس الطعن والضرب وأجناس الوحوش الكواسر والسباع الجواسر وأصناف الفراعل والعسابر ويتكلم بكلام يراه مقتضى المقام ومناسباً للحال ويوسع في ذلك المجال ويميز أوضاعهم وعساكرهم ويسبر بمشبار العقل أمورهم ويسمع الجواب وما فيه من خطأ وصواب ويورده إلينا ويعرضه علينا فنعمل بمقتضاه وينظر الرأي السديد فيه ما ارتضاه ونبني على ذلك الأساس ونفصل على ذلك القياس فاستصوبوا هذا الرأي من الآراء وطلبوا له كفؤاً من الأكفاء فوجدوا ذئباً هو من خواص الحضرة ومن ذوي النباهة والشهرة له في
ميدان الفضائل كروفر وفي مظان النفع والضر خير وشر قد جرب في المصايد ودرب في المكايد وهذب في المصادر والموارد ورتب في المطارف والمطارد أدنى فضائله حسن السفارة وإحدى فواضله ترتيب العبارة حلال المشكلات كشاف المعضلات فوقع عليه اختيارهم ورضى به كبارهم وضغارهم فحمله الأسد كلامه وجعل البسملة مبدأه والحسبلة ختامه ومن مضمونها بعد إبلاغ التحية والأثنية السنية إلى الحضرة العلية ملك الأفيال أبي مزاحم المفضال ألهمه الله هداه وصرف عنه رداه وبصره مواقع الخير وهداه ولا شمت به أعداه وحفظه بالعشي والغداهوجعل عقباه خيراً من مبتداه نحيط علومه الكريمة وآراءه العلية الجسمية أن قوتنا من قديم الزمان ظاهره وهيبتنا باهرة وصولتنا قاهره لم نزل نفترس الفوارس ونكرم أصناف الأضياف من الوحش والطير بالفرائس ويضرب بنا في الشجاعة والكرم الأمثال ويفر من بين أيدينا أسود الأبطال ولا عار على من فر من بيد يدي الريبال وقد اتصل بنا أن ملك الأفيال توجه إلينا بجنوده وهيأ في ذلك أجناس عساكره وبنود وما علمنا لذلك موجباً ولا تقدمنا بعداوة تنشئ حرباً وحرباً بل ولا تعرضنا لأحد في الذكر الجميل عنا فأنعموا برد الجواب وميزوا من الصواب قبل أن يكشر الشر نابه ويفتح جرابه ويحرش للهرير كلابه ويسلخ ليله اهابه ويكسر رائد الفتنة بابه فتتفاقم الأمور وتتعاظم الشرور وتتلاطم بحارها وتمور عند التهاب شواظ الغيظ من الأسود والنمور مع أن اعتمادنا على الله العظيم وتوكلنا على العزيز الرحيم
فلما بلغ الذئب الرسالة وأدى ما فيها من شجاعة وبسالة وبين لملك الأفيال ما تضمنته من عظمة وجلال استشاط ملك الأفيال وتغيرت لاضطرابه الأحوال ونظر من تلك الفيول إلى فيل ظلوم جهول وبدر إليه من غير تدبر ولا تأمل في الأمور وتفكر وقال اذهب إلى هذا العتمد على كلامه الراقد في غفلة منامه وفل له متى مارست معركة الشجعان أو صارعت رجال الميدان وأنى لك طاقة بمصادمة الجبال ومن أين تعرف مقامة الأفيال فاستيقظ لنفسك فعن قريب تحل برمسبك واستعد لجنود لا قبل لك بها فستشاهد ما لم تسمعه من ضربها في حربها فلقد أتاك عسكر القضاء وبنوده وليحظمنكم سليمان الأفيال وجنوده فلير يقن ولسيتأسرن الحرائر كالإماء وليدوسن الأطفال ولترين منه الإنكاد والأنكال وليظهرن آثار الدمار والبوار بمالك من ممالك ومساكن وديار وليفعلن بولاياتك ما فعله بممالك الإسلام التتار وأنت بين أمرين وبخير النظرين إما أن تطيع لأمرنا وتنقاه وتسلم إلينا ما بيدك من بلاد وأما أن تختار طرق الفراق والفرار وتنجو منا منجا الذباب وتتنحى عن طريقنا بما معك من كلاب وذئاب وقد بالغنا في النصيحة بعبارات الصحيحة وأقوالنا الفصيحة قبل إفشاء الفضيحة فوصل الفيل الرسول وأدى هذا القول فتشوش الأسد وداخله الغيظ والنكد فأراد الإيقاع بالرسول الظلوم الجهول ثم تمالك وعن ذلك تمامك وقال لولا أن عادة الملوك ودرب السياسة المسلوك أن لا تهاج الرسل ولا
تضيق عليهم السبل لقابلتك على كلامك الفج بما يجب من العج والثلج
ثم التفت إلى الثعلب وقال يا أبا الحصين ما عندك في جواب هذين النحسين قال الثعلب أنت الأغلب هذا القيل أقوى دليل وأوضح سبيل على عدم عقل الفيل وإن فكره وبيل وبصيرته قد عميت وطرق هدايته قد خفيت وأنه غوى وأضل قومه وما هدى وكل من اعتمد على قواه وحوله واستحل غرور فعله وقلوه فقد وزال وزل وفي عقد البلاء حال وحل وهذا الجاهل السخيف الكثيف الثقيل الجثة الخفيف قد استحقرنا في عينه فيرى منا حلول حينه كل من استحقروا ستخف بعدوه فسيعدم حلاوة هدوه وسيحرم مواصلة مرجوة وقد قالت الحكماء الأخيار العقلاء ذوو الاعتبار وأولو التجارب والاستبصار لا تستحتقر السقم والنوم والدين والعدو والنار فالملك أعز الله نصره وأعلى مناره وقدره وسلط على الأعداء قهره لا يلتفت إلى هذا الكلام ولا يتزعزع لهذه الأوهام ولا يخف من جهامة الأفيال فكل ما هم فيه باطل ومحال بل يعتمد على الله العزيز الجبار ويصفي نيته بالعدل والخير مع الكبار والصغار ويقوي جنانه على الملاقاة وقد وافاه النصر وأتاه ولاغاه السعد ولاقاه فان هؤلاء اعتدوا على ولايته وأتوها فسينزل الله تعالى عليهم جنوداً لم يروها فكم من مستضعف حقير صدر منه بالحيلة أمر خطير وبحسن التدبير ومساعدة التقدير تم له أمر كبير وناهيك قصة الفارة مع رئيس الحارة وما فعلته إذ ختلته إلى أن قتلته فسال حيدره عن تلك المأثرة (فقال) بلغني النفيس أنه كان رئيس ضيق العطن خسيس له زوجة ذات صيانة ودين وأمانة لم تزل تتجنب الخيانة وتتعاطى
العفة والرزانة وله دجاجة تبيضعلى الدوام فيسرق بيضتها أبو راشد وهم نيام فإذا افتقد الرئيس بيضته طالب زوجته فتحلف إنها ما رأتها ولا تعرف يداً أخذتها فيؤلمها سباً ويوجعها ضرباً ولا يصدق قولها ولا يرحم عولها ففي بعض الأحيان رأت المرأة الجرذان وهو يجر البيضة إلى حجره وقد بلغ بها باب وكره فدعت بعلها لتريه الفار وفعلها فعلم براءة ساحتها وعمل على راحتها واعتذر إليها وطلب الفارة وحنق عليها وأعمل المكيدة ونصب للفارة دون البيضة مصيدة فلما رأت الفارة علمت أن وراءه الدرك فشعرت بما وضع عليه فلم تقدم إليه إلى أن زار الجرذان أحد أقاربه من الفيران فلم يجد شيأ يضيفه فاعتذر إلى الضيف بما هو مخيفة وأراه البيضة سعاد وأن دونها خرط القتاد وكان الضيف الغر لا يعرف هراً بر فحمله السفه والحرص والشره على أن قال أنا أخوض هذه الأهوال وأرد من الموت حوضه وأصل إلى هذه البيضة ثم قصد المصيدة فقبضت وريده وفجعت وليده ووديده فتنكدت الفارة وتكدرت والتظت أحشاؤها وتسعرت وتألمت لموت ضيفها وبلغ جيرانها حديث ضيفها فخجلت منهم واختفت عنهم وشاعت قضيتها وذاعت بليتها فلم تجد لبرد النار سوى أخذ الثار فأخذت تفتكر في وجه الخلاص فرأت أنها لا تخلص من عتب الجيران إلا بالقصاص فشرعت في تعاطي أخذ الثار من صاحب الدار وكان لها صاحبة قديمة عقرب خبيثة
لئيمة معدن السموم في زبان إبرتها وطعم المنايا مودع في شوكتها فتوجهت إليها وترامت عليها وقالت إنما تدخر الأصحاب للشدائد ولدفع الضرر والمكائد وإنزال الداء بساحة الأعداء ولأخذ الثار والانتقام من المعتدين اللئام وقصت عليها القصة وطلبت إزاحة هذه الغصة وأن تأخذ لها بضرباتها القصاص ليحصل لها بين جيرانها من العتب الخلاص فأجابتها إلى ما سألت وأقبلت إلى وكر الفارة بما اقتبلت وأخذا في أعمال الحيلة قادت أفكارهما الوبيلة إلى أن تخدعا صاحب البيت بالذهاب وتلقياه بذلك في اللهب تم أمهلا إلى أن دخل الليل وشرعا في إيصال الويل فأخرجت الفارة ديناراً وألقته في صحن الدار ووضعت آخر عند حجر الفار وأظهرت نصف دينار من ذلك الذهب وسترت النصف الآخر عند العقرب واستترت العقرب بجناح السكون تحت ذيل الكمون وقد عبت في زبانها ريب المنون فلما أصبح الصباح ونودي بالفلاح وجد صاحب الدار في وسطها الدينار فتفاءل بسعد نهاره ولم يعلم أنه علامة دماره ففتح عينيه ونظر حواليه فرأى عند حجر الفار أخا الدينار ففرح وطار ونشط واستطار وزاد في الطلب على بقية الذهب فرأى نصف دينار داخل حجر الفار فمد يده إليه وأعمى القضاء عينيه عما قدره الله عليه فضربته العقرب ضربه قضى منها نحبه فبرد مكانه ولاقى هوانه وأخذت الفارة ثأرها وقضت من عدوها
أوطارها (وإنما أوردت) هذه القصة الأحبار ليعلم الملك أن حيلة صائب الأفكار تفعل ما لا يفعله العسكر الحرار بالسيف البتار والرمح الخطار وبقليل الحيلة
تتم الأمور الجليلة فلا يهتم الملك بجثث الأفيال ويشرع فيما هو بصدده من دقيق الاحتيال وأنا أرجو من الله تعالى الظفر بعدونا وحصولنا على غاية ما مولنا ونهاية مرجونا فأول ما نعاملهم بالوهم وإظهار الصوله والتخويف والإرهاب بقوة الدولة فان الوهم قتال والعاقل المدبر يحتال وطائفة الفيول عديمة العقول وبالوهم يبلغ الشخص مراده كما بلغ الحمار من الأسد ما أراده فسأل ملك الآساد بيان حكاية أبي زياد (فقال) أبو الحصين أخبرني أبو الحسين ذو المفاخر ناصر انه كان في بعض الإعصار والمعاصر حمار في مدار يستعملونه بالليل والنهار إلى أن حصل له الكبر ورمى بالعبر وابتلى باطناً بالجوع وظاهراً بالدبر وعجز عن العمل وانقطع منه الأمل فتركه أصحابه واعتقوه وفي بعض المراعي أطلقوه فصار يمرح وفي تلك المروج يسرح إلى أن خرج إلى الصحرا وانفرد في رياض الفلا فوصل إلى بعض الآجام وحصل له النشاط التام إلى أن صح بدنه وسمن وبرأ دبره وأمن وأخذه البطر واستولى عليه الأشر واستخفه الطيش وطيب العيش وصار في تلك المراعي يتردد ذهاباً وإيابا كالساعي فيسدي ويلحم في شقتها ويفصل مهما اختار من مزهرخرقتها وينهق على عادة الحمير فيملأ تلك الأماكن من الشهيق والزفير وكان في تلك الآجام أسد متخبس يسمى الشبل بن المتأنس كان أبوه ملك تلك الأماكن قد نشأ بها وهو فيها ساكن شاب غرير لم يكن يعرف الحمير ولا طرق سمعه شهيق ولا زفير بل ولا خرج من تلك
الآجام ولا عرف تصرفات الأيام وكان أبوه قتل في الاصطياد وتفرقت عنه العساكر والأجناد فنشأ وحيداً يتيماً واسمر فيها مقيماً فلما سمع صوت الحمار أخذته الرعدة والاقشعرار واستولى عليه الهلع فقعد عن الاصطياد وانقطع وصار كلما نهق هرب واختفى من الفرق وغلب عليه الدهش إلى أن كاد يموت من الجوع والعطش وصار الحمار يتردد إلى عين كان الأسد يسكن منها سورة الظمأ فما اجتر أبعد ذلك على الورود وأضر به الخوف والانقطاع والقعود فلما كاد العطش أن يقتله توجه إلى العين محفوفاً بالحيرة والوله فوجد الحمار واقفاً عندها وأدرك الحمار خوفه منه بالدها فتقدم إليه وصوب نحوه أذنيه وحملق عينيه فبدر من الأسد صرخة ابتعها من بوله شخه وقال للحمار ايش أنت ولأي شيء ههنا سكنت وجعل يرجف وفي قيد الخوف يرسف فعلم الحمار أن الأسد خار فقال بجنان جرى وبيان قوى أنا في هذا المكان أفرق رزق الحيوان وقد أقمت أحوش أرزاق الوحوش ثم أقسمها بينهم وأملأ جوفهم وعينهم فقال الأسد أني جيعان ولي مدة عطشان فاعطني من الأكل رزقي وافرز لي من الماء حقي فقال بوجه مقطب ادن إلى الماء واشرب فدنا وشرب وهو خائف مضطرب ثم قال أنا جائع فأطعمني وعجل ولا تحرمني فلي مدة من الجوع لا قرار لي ولا هجوع فقال الحمار تعالى معي إلى موضعي لتعرف مكاني وتقرر جرايتك في ديواني فذهبا في طريق حتى وصلا إلى نهر ماء عميق فأراد العبور فقال الأسد الهصور هذا الماء عميق وكم فيه من
غريق فاحملني في الذهاب وأنا أحملك في الإياب فأجابه الحمار وحمله وخاض به ونقله فانشب الأسد الأظافر في كاهل الحمار وثقل عليه فلم يتأثر ولم يلتفت إليه فزاد وهمه من الحمار وقال هذا رأس الدعار ثم سارا ساعة أخرى فرأيا في طريقهما نهراً فطلب الحمار الوثوب وقال هذه نوبتي في الركوب ثم طفر على الأسد وثقل عليه الجسد وتمكن عليه وأرخى يديه ورجليه فتضرر من ثقله وابتلى بشر عمله ثم تورك عليه وانشب في كاهله مسامير نعليه فماج ومار وقد أثرت فيه حوافر الحمار فقال له أثبت وآلك فما حولك تحت وأحالك فقال يا أخي حرت في أمري لقد أوجعتني وقصمت ظهري وكان يكفيني جوعي وقلتي وخضوعي وما أدري هذا الضرر البلا من أين أقبلا فقل لي ما الذي انشبته في كاهلي ونزلت به من حافرك في ساحلي فقال هذه مسامك لطلاب الجرايات والجوامك وهي أربعون مسماك لا بد أن تثبت كلها في قفاك حتى يترصع لك اسم في الديوان وإلا فالرزق لا يحصل بالهو ينابل بالهوان يا أخاه اتركني لوجه الله وارفق بي رفق وما أريد منك رزقاً ودعني بالأمانة ووفر الجراية على الخزانة ولا رأيتك ولا أريتني ولا عرفتك ولا عرفتني فأني أتقوت من حشيش الأرض
وخشاشها واستعد لمعاد نفسي بالرفق في معاشها فنزل عنه الحمار وتركه وسار فهرب منه بعد ما ودعه وولى يلتفت يميناً وشمالاً لئلا يتبعه
وإنما صورت هذا النقش لتعلم يا ملك الوحش أن الوهم يصدر كالسهم وهو عند براهمة الهند وحكماء السند أحد طرق العلم رقاك الله إلى سلم السلم والوهم غالب على الأفيال بل سهم الوهم يقتل كثيراً من الرجال فنرجو من الله أن يبلغنا مقصودنا وننال من طالع الجد والحظ مسعودنا وإن يرجع أعداؤنا بالخيبة وفراغ العيبه وهذا المثل الذي ضربته والتقريب الذي قربته إنما هو مثل العاجز الضعيف مع القوى العسوف لا العسيف وأما نحن بقوة الله وحوله ومساعدة نصره وطوله فقوتنا قاهرة قائمة وصدمتنا بعون الله دعائمها داعمة لم يحصل منا خوف ولا خور ولا فزع ولا جزع ولا جور ففينا بحمد الله قوة لمصادمتهم وقدرة لمقاومتهم فامض لأمرك فكأني بك وقد رجعت فائزاً بنصرك مجبوراً بكسر عدوك محبوراً بيسرك ثم أنه اقتضى رأي أبي الضرغام إعادة الذئب إلى أبي مزاحم برسالة مضمونها بصرك الله بعيوب نفسك وأراك عاقبةغدك في صبح أمسك وجعلك ممن اتبع الهدى وامتنع عن موارد الردى أعلم أن علماء الهند وحكماء البراهمة والسند امتازوا عن حكماء الأقاليم ووضعوا رقعة الشطرنج للتعليم وأن واضع ذلك صور الرقعة بصورة الممالك وقسمها بالسوية جعل لكل قسم جنساً من الرعية ووضع له نوعاً من السير لا يتعداه وبين لكل منهم مكاناً لا يتخطاه وأنا أخاف أن تتعدى مكاناً هو
مقامك وتقصد بيت الشاه ويفوت مرامك ويناديك فرزين العقل وأنت راحل في النقل يا ذا الهوس ماذا بيت الفرس فتقع وأنت تصرخ في لعبك بالنفس مع الرخ فلا يفيدك الندم وقد زلت بم القدم وخرجت في لعبة من رفعة الوجود إلى العدم وترى تلاقي الموافاة فات ويقول خصمك وقد رأى كلاحة وجهك شاه مات فلا تعتمد على جهامة جسدك وكف عن حقدك وحسدك ولا تقصد حرم كعبة غيرك بالفكر الوبيل فيصيبك مثل ما أصاب أصحاب الفيل حين أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل وتصير بعد وقوع الملاحم وصدوع المقاحم أبا حرمان بعد أن كنت أبا مزاحم فلما قرأ الفيل هذه المطالعة غطت حمية الجاهلية منه الباصرة والسامعة فأراد يأمر بايطاء الرسول تحت أخفاف الفيول لكن راجع عقله وأحضر وهله ورد الذيب بجواب مخيب وسهم غير مصيب وقال استعدوا للقتال ومصادمة الأبطال ومقارعة الأفيال ثم أمر بالعساكر فتجهزت وبأمور الحرب فتنجزت وثار بغضب أحمى منت جمر الغضا وسار بالعساكر الجرارة فملأ الفضا فبلغ الملك المظفر أبا الحرث الغضنفر ما فعله الأكلب فاستشار الثعلب فقال أعلم أيها الملك وقاك الله شر المنهمك أن الأفيال لا يعرفون إلا المصادمة والأندفاع مرة واحدة في المخاصمة وليس لهم في الحرب حراب إلا الخرطوم والأنياب لا يعرفون الكر والفر ولا يفرقون بين
النصب والجر ولكن بعض العساكر له في ذلك معارف ومناكر منها المواجهة والمشافهة والمصارعة والمقارعة والمدافعة والممانعة والمخاتلة والمخادعة والمناوشة والمهاوشه والمعانشة والمهارشه والمكافحة والملاطحه والمطارحة والمرامحه والمراوسه والممارسة والمعاكسة والوثوب والمساورة والروغان والمصادرة والاحتيال والكيد والاغتيال للصيد والربوض في الكمين والنهوض من ذات المشال وذات اليمين وكل أرباب هذه الملاعب وأصحاب هذه المخارق والمذاهب في عساكرنا موجودون ومن أبطالنا معدودون معدون فلا بد من ترتيب كل في مكانه وإيقافه بين إضرابه وأقرانه وتعبيتهم ثم تخبيتهم وكان بالقرب من ميدان النطاح وموضع جولان الكفاح وهو برية قفراء وأرض غبراء انهر مياه جاريه وعليها جسور وقناطر عالية فاقتضى رأي الأسد والفكر الأسد أن يطلقوا ثغور المياه على البرية ويتركوا فيها العساكر هم طرقاً ودر وبامخفيه ثم أنهم عبروا تلك المياه وصفوا العساكر للملاقاة فقدموا أمامهم الثعالب والكلاب وكل سريع المجيء خفيف الذهاب وصفوا وراءهم الذئاب والنمور والفهود والببور ووقف الأسد بين الأسود في قلب الجنود بعد أن عبى الأطلاب وعرف مقام كل من القرانيص والأجلاب ثم إن الثعالب ونظراءها دخلت من الأفيال
وراءها وصارت تروغ بينها وتلاعب على عينها حينها وثتعلق بأذنابها وتتشبث بعراقيبها وكعابها فزاد حنقهم وثار قلقهم وتقدموا واصطدموا وحطموا واضطرموا وبنار الحرب اصطلموا
فناوشهم الببور البواسر وهاوشهم النمور الجواسر وهارشهم الأسود الكواسر ثم ولوا أمامهم مدبرين وقصدوا الطرق المخفية عابرين فتصور الأفيال أن جيش الأسد فر وجنده انحطم وانكسر وأن عسكرهم غلب وانتصر فحطموا يداً واحدة بهمة متعاضدة ونهمة متعاقدة وصدمة متآكدة ففي الحال ارتدموا وفي الأوحال ارتطموا وقطع دابر القوم الذين ظلموا ثم كرت عليهم الأسود والنمور والفهود وسائر السباع والذئاب والضباع فوقعوا في تلك الفرائس وقوع الجياع على الهرائس وعانقوهم معانقة الأحباب للعرائس وأكلوا وادخروا وحمدوا الله تعالى شكوراً ومن بعد ما ظلموا انتصروا واظهر العدل للحق مناره وظهر سر قوله عليه الصلاة والسلام من آذى جاره ورثه الله داره والله لا يهدي القومالظالمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خير خلقه وآله وصحبه أجمعين.