الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب التاسع
في ذكر ملك الطير العقاب والحجلتين الناجيتين من العقاب
(قال) الشيخ أبو المحاسن من هو لثوب الفضل كاس ولكاس الظرف حاس وفي حدائق الأدب أزكى آس ولا حداق الأدباء أذكى آس وفي عيون الأعداء أنكى آس فلما أنهى الحكيم حسيب كلامه الذي استعبد در النسيب وذكر من النصائح والحكم عن ملوك العرب والترك والعجم ومن مباحث الجن والأنس ما حصل للسامعين به النشاط والأنس ثم استطرد إلى فوائد البهائم والوحوش ورقم في دار ضرب البلاغة من حسن الصياغة والرقوش ما قعد له من زواهر كلامه على سكة دينار الفصاحة أحسن النقوش وعقد بجواهر نظامه لمفرق العدل في دار الملك اكليل العروش افتخر أخوه الفيل بوجوده وقدمه على جميع خواصه وجنوده وأفاض على حدائق آماله زلال إحسانه وجوده وقال له يا نديم الدير وعديم الضير وقديم المير ومديم الخير قد أفدت حكم سائر الحيوان فكر علينا من حكم منطق الطير فابتهج الحكيم في السعة وانتهض ملبياً بالسمع والطاعة ثم أنه قال أدام الله ذو الجلال أيام مولانا الإمام وشمل بذيل رأفته الخاص والعام بلغني أنه كان في ممالك اذربيجان جبل يسامي السماك في السمو ويعاني الأفلاك في العلو غزير المياه والأشجار كثير النبات والثمار وفي ذيله شجرة قديمة منابتها كريمة أغصانها مهدله وثمارها مسبلة كما قيل:
وفي أصلها وكر لزوج من الحجل
…
كان رباً رضوان ألبسها الحلل
هو وطنهما المألوف ومقرهم المعروف ورثاه من أسلافهما وهو في الشتاء والصيف مرجع أيلافها يدعى الذكر منهما النجدي والأنثى غرغرة بنت السعدي ولذلك الجبل جبل مقارن من جهة الشرق يسمى القارن لو قصد البدر دوره أو رفع رأسه لينظر سوره أو يحل فيه شعاعه ونوره لوقع عن قمة طرطوره في قلته سرير عقاب منيع الجناب هو ملك الطيور والجوارح وسلطان السوانح والبوارح وصافات تلك القلال وكواسر هاتيك الجبال كلها تحت أمره العادل العال متوج فوق رأسه باكليل ما يبرزه من مثال فكانت الحجلتان كلما فرختا وقاربت افراخها الطيران عزم أبو الهيثم الكاسر بما معه من عقابين كواسر وجوارح الطيور ومن تحت أمره من الجمهور على التنزه والاصطياد فتحيط عساكره بتلك النواحي والبلاد فكانوا كلما وطئوا ربوة مهودها وسلكوا ما بين كنافها وبطونها ونهودها تصل طراشة العساكر إلى الحيل الذي فيه وكر الحجل فتذهب أفراخها تحت السنابك وتضمحل تحت أقدام أولئك فتقع الحجلتين في النكد والأحزان وبالجهد والمشقة البالغة يخلصان هما من تلك الداهية الثالغه والنائبة الدامغة فلم يزالا في نكد على فقد الولد فافتكرتا في بعض الأيام وقد أثر فيهما هذا الإيلام فغيما هم فيه من النكد لفقد الولد المتجدد على طول الأمد فقال النجدي لبنت السعدي قد كبرنا وضاع العمر وحزنا وقاربت شمس عمرنا للأفول وأقدام بقائنا أن تزل وتزول (شعر) :
وليس لنا من يذكر الله بعدنا
…
إذا ما انتشبنا في مخالب فقدنا
ولا من يحي نشر آثارنا إذا طوى الموت بساط أعمارنا وقد قضينا العمر في الانكاد بفراق الأولاد ثم بعد الحياة ينمحي اسمعنا ويندرس بالكلية رسمنا فلا حياة هنية ولا أخرى رضيه وأي هناء مع فراق قرة العين خصوصاً على وجه المذلة والشين ومالنا نظير في هذا الدهر المبير إلا من جمع المال من حلهوغير حله وتركه بعد الكد البليغ والحرص إلى غير أهله فيصير كما قيل:
تؤديه مذموماً إلى غير حامد
…
فيأكله عفواً وأنت دفين
ولا طاقة لنا في دفع جيش العقاب ولا حيلة إلى الخلاص من عقاب هذا العقاب فذهب أكثر العمر في هذا الويل وأشبهنا النائم على طريق السيل وإن غفلنا عن أنفسنا ربما اجتاحونا وطرحونا إلى مهلكة تدير علينا من العدم طاحونا فالرأي عندي أن نترك هذا الوطن ونرحل إلى مكان لا نرى فيه هذه المحن فانه لم يبق طاقة على فراق الولد ولا قلب يحتمل هذا الحزن والنكد:
ذاب قلبي بين دمع وضرم
…
فارحموني أنا من لحم ودم
وذاك لأن المرء يحيا بلا رجل ويد ولا تلقاه يحيا بلا كبد قالت لقد أعربت عما في فكري وشرحت ما كان يجول في صدري وهذه محنة قد أعياني في دائها الدواء وبلاء عمنا فكلنا فيه سواء:
المرء يحيا بلا ساق ولا عضد
ولا يعيش بلا قلب ولا كبد
بي مثل ما بك يا حمامة فاندبي
وقد قلت:
ولم يعرف حرارة ما اعني
…
سوى قلب كواه ما كواني
وأنا لم أخل قط في وقت من هذا الفكر الذي أوجبه الهم والمقت وأعلم أن سهام آراء العقلاء ونبال أفكار ذوي النظر من الحكماء إنما تصدر من قوس واحدة وتتوجه إلى غرض طريقته غير متعددة وقال العقلاء
وأولو التجارب من الحكماء بل أطبق أرباب العقول وأئمة الدين وأصحاب الأصول إن قضايا العقل كلها صادقة وألسنتها فيما تحكمه بالصواب والأصالة ناطقة غير أن كثيراً ما تشتبه القضايا العقلية لسوء التصور بالقضايا الوهمية فيقع الخطأ بواسطة الوهم في الفهم وينسب إلى العقل ذلك السهم وإلا فاتفق العقلاء جمعاً أن القضايا العقلية لا يقع فيه الخطأ قطعاً وأن قضايا الحس لوقوع الاشتباه واللبس يتصور أنها حق ويقضي لها وعليها بالصدق وإذا وقع الخطأ لحصول الاشتباه وعدم التأمل والانتباه في القضايا الحسية والقضايا التي هي بحاسة البصر مرئية كما وقع ذلك في حادثة الطريقة البغدادية فوقوع الخطأ بالوهم أولى في القضايا العقلية لأن طرقها أخفى وأحكمها معنوية فسأل الذكر عن تلك البغدادية وما هذا الخبر (قالت) كان في مدينة السلام بعد أن امرأة من المتخذات أخدان اسم زوجها زيد وهي أم عمرو وذات كيد لها عدة أخدان تدعو لكل بالإخوان وكل ينشد في السر والإعلان قوله:
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن
…
أخاها ولم أرضع لها بلبان
فاتفق أن زوجها زيد دعاه أمير البلد إلى الصيد فركب معه وسار وخلت منه الديار فتسامع بذلك بعض أخدانها فتوجه منهم طائفة إلى مكانها فأول من سبق تاجر شبق فدخل بثياب بيض وشاش رحيض وهيئة نظيفة وصورة ظريفة فأسرع في الدخول ومعه ما يليق
من المأكول فتلقته بالترحاب وأخذ في لذيذ الخطاب فما استقر القرار حتى قرع باب الدار فظنته زوجها وحققته بوجهها فنهض خائفاً وتحير راجفاً وطلب مكاناً يخفيه وكناً يأويه فلم يكن في دارها مخباة زوارها سوى طقيسي لطيفه يصعد إليها من سقيفة فأرشدته إليها فرقي عليها وبادرت إلى الأتحاف فإذا هو حريف صراف ففتحت الإغلاق وتعانقا تعانق المشتاق فدخل بهيئة زهراء بلباس أخضر وعمامة خضراء ومعه من الحلوى مجمع ومن الزجاج أربع فجلسا يتذاكران الحوادث إذ طرق الباب ثالث فقالت هبط أوجي وجاء زوجي فوثب في رجفة كأنه ورقة سعفة فسأل عن مخباة وستر يغشاه فأرشدته ربة الكريسي إلى طريق الطقيسي فصعد اللاحق ولحق السابق وبادرت الرتاج ربة التاج وأم الأزواج فإذا هو أحد الظرفاء وثالث الحرفاء رجل زيات ومعه مجمع سكر نبات فتلقته بالتكريم وأجابته بالتسليم فدخل بثوب أصفر وشاش معصفر فشرعا في الملاعبة والملاطفة والمداعبة فدق الباب رابع الأصحاب فبادرت الزيات الفرار وطلب مختفي للقرار فدلتهفي المفر إلى المعهود المقر فصعد إليه ولحق بصاحبيه وتوجهت إلى الباب فإذا هو أحد الأحباب وهو رجل قصاب وعليه ثياب سود وخفة المعهود وعلى رأسه مئزر ثمين وبيده خروف سمين فقالت: أهلاً وسهلاً وارفع محلا بالحبيب النجيب والبعيد القريب فدخلا واستغلا بالخطاب والتهيا عن رتاج الباب
وكان في تلك المحلة شخص أحدب أبله يدخل البيوت ويتمسخر فلا يمنع من ذلك ولا يزجر ويلاطفه الأكابر والأعيان ولا يحتجب منه النسوان فمر على باب زيد فرآه لا إغلاق ولا قيد فدخل على غفلة ولم يستأذن أهله فلم يشعر به إلا بعد حلول ركابه فوجم لرؤيته القصاب وخاف من حلول مصاب ونشور وانحرف فقالت له المرأة لا تخف إنما هو أبله مسخرة في المحلة فأخذوا يتلاطفون ويتمازحون ويتظارفون إلى أن قرب الليل وفات النيل، فطرق الباب ووصل الزوج بالارتياب فلم يشعروا إلا والبلاء قد أقبل ومصابهم الأعظم في أكنافهم قد نزل، فخاتبطوا والتبطوا وانحلة قواهم وارتبطوا وطلب القصاب مخبئ فأرته للطقيسي درباً وطلب الأحدب من شر زيد المهرب فكان في أرض البيت تنور فنزل فيه وهو مضرور وغطته بغطائه وسترته ببعض وطائة وأراب زيد الفتح في إبطائه ثم توجهت إلى الباب وهي في اضطراب فدخل زيد وهو سكران ومن تأخير فتح الباب غضبان وكان قد تناول مع مخدوميه ولعبة بشيخ عقله بنت كرومه، فلما نزل عن السرج رأى الزوجة في هرج ومرج فأنكر حالها وسألها ما لها فقالت: كرهت فقدك وخاطري عندك فلا ذقت بعدك ولا عشت بعدك
فقال: تكذبين أي دفار بل تسخرين بي أي فجار إنما أنت في حركة فلا طرح الله فيك بركة فقالت: أنت مجنون وأي حركة عندي تكون؟ فشرع في حربها واستطرد من سبها إلى ضربها وعزم على تفتيش البيت والإطلاع على ما فيه من كيت وكيت فخشية أن يخرج أمرها عن دائرة الستر إلى لو كان وليت فتداركت التفريط قبل وقوعه وبادرت إلى تلافي التلاف بالهيت فتشكت من الأذى وقد تناولها بالضرب والبذى ورفعت يدها إلى الدعاء بالندى وقالت: إلهي وسيدي وسندي ومعتمدي إن كنت تعلم أني مظلومة وبراءة ساحتي عندك معلومة فانزل إلى أمتك ملكا من ملائكة رحمتك يخلصها من هذا الظلوم ويكشف ستر هذا السر الموهوم فبادر التاجر بالإنتهاض ونزل بثيابه البياض ودخل عليه وقبض على أذنيه وصفعه على خديه وقال أتركها يا ظالم فإنك معتد آثم وهي برية وشمائلها زكية وضربه ضربتين ولكمه لكمتين ثم أم الباب وترك الأصحاب وشرع في الذهاب فلما رأى هذا زيد عرف أنه خديعة وكيد وقال: يا أفحش الفواحش وأنهش النواهش تريدين خدعي وسخري وخذلي وختري وتبغين بما تبغين ختلي ومكري أولست بعريف أنه لك حريف ثم زاد في سبها وماد إلى كبها وضربها
فقالت يا إلهي وسيدي وجاهي إن كنت تعلم أن هذا الأظلم أنكر الحق ورآه وما صدق فانزل عليه ملكا آخر ذا جناح أخضر يأخذ بحقي منه ويكشف سترك عنه فقال الحرفاء وكانوا ضرفاء للصيرفي قم غير مختفي وشدد عليه وأوصد الألم إليه فنهض في ذلك المعلم وبادر إلى السلم ونزل إليه ودخل
عليه وقال: أكفف يا ذا العار عن عفيفة الأستار فإنها برية وعما تضنه عرية ومد يده بكمه وبالغ في سبه وشتمه ثم خرج من الدار وبالغ في الفرار فقال يا للدربة من ذي القحبة الناس بواحد وأنت باثنين وقد جعلت زوجك ذا القرنين ثم أخذ العصا وضربها ضربة من عصى فقالت: يا إله العالمين تعلم أن هذا من الظالمين أمدني بالملك الأصغر صاحب الدرع والمغفر والثوب المعصفر يبرئ ساحتي ويهدئ راحتي فإني مظلومة وقصتي معلومة فقال الجزار للزيات قم أرنا الكرامات وقد صنعتك وهات فنهض الزيات ونزل إلى ذلك المفتات وقال أيها اللئيم كف عن الحريم وارجع عن لوم البري واقصر أيها المشتري المفتري ثم تناوله بعصاه إلى أن آلم قفاه ثم تركه في الحركة وخرج هاربا وقصد جانبا فقال زيد يا أوسخ القحاب وأوسخ ذوات السباب تعدين حرفائك واحدا واحدا وتعرضينهم علي صادرا وواردا ثم نهض بالعصا وتناولها مغليا ومرخصا
فمادت وآدت وبادت ونادت إلهي هذا لم يعتبر بملائكتك الكرام ولم ينزجر بهذا الضرموالإيلام فأمدني بملك النيران الزبني الأسود الغضبان يخبره بصدقي ويأخذ منه حقي ويفعل معه ما يجب فإن راجيك لم يخب فما عتم القصاب أن زمجر كرعد السحاب وأخذ في الاضطراب والاصطخاب وأسرع في السلم الانصباب فلما سمع زيد العياط والخباط وزماجر الهياط والمياط بهت وأخذه الضراط فدخل عليه في بعثرة وغدمرة وتزيا بصورة بشعة منكرة وخطف من يده العصا وضربه بها حتى شصا وقال أي أنحس ذميم وأتعس زنيم أما زجرك ونهاك وكفك وكفاك من تقدم من الأملاك أيم الله لأن لم تتركها وفي ما لك ومنالك تشركها لتدمرن ديارك ولتمحون آثارك ثم تركه وذهب وأودعه جمر اللهب فلما رأى الحال نسجت على هذا المنوال استكان وطلب الأمان ومعك عينيه وضم يديه ورجليه وجعل يتأوه من ألم الضراب وقال كان الدعاء في هذه الساعة مستجاب ثم قال من شدة كربه وحرقت قلبه إلهي ومولاي كما استجبت دعائها استجب دعائي وكما أنزلت من السماء لنصرها ملوكها فأخرج لها من الأرض عفريتا ينيكها وليكن ذلك بمرآى من عيني وأمامي
ويبرد أوامي فما صدق صاحب التنور حين سمع الدعاء المذكور والنداء المقبول المشكور حتى طفر من مجثمه كالشواظ المسجور وأقام أمام لهوه المصاب واستعمل من قواعد النحو الرفع والجر والانتصاب ورفع العمودين وأولجه المحراب ولا زال ذلك الإمام يتردد في البيت الحرام وقد نال في الحرم آمنا حتى رمى الجمرات وأمنى ثم قبل فاهها وخرج مسرعا من ذراها وخلى الدار تنعى من بناها ففتح زيد عينيه وحملق حواليه ثم قال: يا أقذر القحاب هكذا يكون الدعاء المستجاب (وإنما أوردت) هذا الكلام والتمثيل لك يا إمام ليتبين لكل عالم همام وليتبصر أولوا العقل والأفهام الفرق ما بين قضايا الحس والعقل والأوهام وقد شبه العقل بجل عال عزيز المنال وكل من قصد الصعود إليه والارتقاء عليه لا يصعده إلا من طريق واحدة منها يوصل منه إلى الفائدة وسلوك طريق المعاشرة مع العقلاء وذوي الآراء الأذكياء في العداوة وانصداقة والكدرة والزياقة واللطافة والكثافة والخوف والرجاء والابتداء والانتهاء إنما هو من باب متحد لا من طريق متعد ولأجل هذا يا متبصر سلوك مثل هذه الطريق معهم متيسر لا متعوج ولا متعسر ورأس خيط هذه السموط بالاستقامة والسلاح مضبوط بخلاف الجهال والخلعاء والحمقى والسفهاء فإن أمورهم منفرطة وأفكارهم وآرائهم غير منضبطة فتتكدر خوار العقلاء في تعليمهم ويعيا طبيب الفكر في تهذيب أحمقهم وتأديب سفيههم وقيل:
إني لآمن من عدو عاقل
…
وأخاف خلا يعتريه جنون
والعقل فن واحد وطريقه
…
أدرى وأرصد والجنون فنون
ولهذا قيل معاداة العاقل خير من مصافاة الجاهل ثم قالت غرغرة في أثناء هذه القرقرة وأما ما ذكرت من البيان من مفارقة الأوطان وترك هذا المكان أما سمعت حديث أشرف جنس الإنسان أن حب الوطن من الإيمان وقد ألفنا وطننا وحبه وقلع أصول محبته من قلوبنا صعبة وهو في معزل عن طرق الجوارح ومكمن عن السوائح والبوارح وإنما تعرض لأولادنا تلك الآفة من تراكم العساكر المصافة ومن يحصل من أقدامها من كثافة وأنا أخاف إن انتقلنا من هذا الوطن يخرج من أيدينا هذا السكن ولا نحصل على مأوى يليق أو لا توافقنا الغربة أو يمنع مانع في الطريق فنقصد الربح فيذهب رأس المال فنخسر ما في أيدينا في الحال ولا يحصل المأمول في الاستقبال وكيف وهو مسقط رأسنا ومحل أنسانا وأناسنا فالأولى بنا الرضا والانقياد لأوامر القضا وملازمة الوطن القديم والسكون تحت تقدير العزيز العليم وقد قيل إنما يشفي العليل إذا ترك مشتهيات نفسه وقيد متمنياته في قيد حبسه ولابد للمريد من ترك المراد وللقانع من قطع النظر عن الإزدياد والحرية في رفض الشهوات وكل ما هو آت آت
وأما وقائع الأولاد وحصول الانكاد وما يقع منهم بسببهم في كل أوان فنحسبها إحدى ما يحدث لنا من نوائب الزمن ونحن بل كل المخلوقات عرضة للنوائب والآفات وطعمة لسنابك المقدور ونهبة لحوادث الدهور ولو انتقلنا عن وطننا وتحولنا عن سكننا وبعدنا عن هذا الجانب ونزعنا عن الأهل والأقاربوحاورنا الأباعد لا يطيب لنا مقام وتتكدر أوقاتنا على مر الأيام فلا نزال بين تذكر الوطن المألوف وتحنن إلى الصاحب المعروف فيسهل عند هذه الأنكال مفارقة الأطفال ثم أعلم أيها الصاحب الأعظم أنه لو تيسر لنا مع الانتقال انتظام الأمور استقامة الأحوال وحفظت الأولاد وزالت الأنكاد وصفا الوقت وزال المقت فان الخاطر يشتغل ونار القلب بسببهم تشتغل فانه من حين وجود الولد يتقيد بتعهده القلب والجسد وتصرف الهمة إلى القيام بمصالح معاشه إلى حين ترعرعه وارتياشه ويزاد القلب تعلقاً بمحبته ويتقيد الخاطر بالالتفات إلى عمل مصلحته ويتضاعف ذلك يوماً فيوماً وشهراً فشهراً وعاماً فعاماً فان نابه والعياذ بالله نحو ألم أو أصابه ضراً وسقم التهبت عليه الجوارح وانقلبت الهموم على القلب والجوانح فان آل ذلك إلى الموت واستحال وجوده إلى عدم وفوت فهو المصيبة العظمى والطامة الكبرى وأن سلم من هذه العاهات وبلاغ سن الإدراك سالماً من الآفات ونجا إلى بر الشباب من بحر المخافات ازدادت كلفة وتضاعفت مؤنته وركب والداه في ذلك كل صعب وذلول وذهبا من مسالك الكد والكدح في كل عرض وطول وتحملا أنواع المشاق والآثام وارتكبا فيما اكتسبا أصنافاً من الحلال والحرام وهذا إذا كان مطيعاً ولأوامرهما منقاداً سميعاً وأما إذا ركب جموح العقوق ونسي ما لهما عليه من حقوق فهي مصيبة أحرى وداهية كبرى ويصير كما قيل:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
…
عدواً له ما من صداقته بد
وعلى كل تقدير وأنت بهذا خبير وبدقائقه عليم أن الأولاد بين الأبوين وبين الآخرة سد عظيم ما يخلص مع الالتفاف إليهم لله طاعة ولا على الانقطاع منهم إلى طريق الآخرة وناهيك يا ذا الذكاء والفطنة أخبار من أنقذك من هذه المحنة إنما أموالكم وأولادكم فتنه فاسمع هذا الكلام بأذن التحقيق واسلك في سبر معانيه أوضح طريق وحقق يا ذا الإرشاد إن وجود الأولاد عند ذوي البصيرة من النقاد مزيف ومتاع مزخرف وسم تحت حلوى وسرور فوق بلوى وعارية مردودة بعد أوقات معدودة وأيام محدودة بل لعبة من خشب مموهة بالذهب وطلاء من نضار على كوب من فخار وقد نبه على هذا رب العباد بقوله إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد وكما أن الأطفال الصغار الغافلين عن دقائق الأسرار إذا نظروا إلى اللعبة المزينة والخشيبات المصبقة المستحسنة التهوا بها عن اكتساب الآداب وملازمة العلماء والمشايخ والكتاب فيبلغون وهم جاهلون وعن طرق اكتساب الكمال ذاهلون ويشيبون وهم أحداث ويتصورون أنهم طاهرون وهم أخباث كذلك كل من التفت إلى غير الله خاطره والتهت بأموره الدنيا من المال والولد سرائره وضمائره وحرم من الأطلاع على دقائق الملك والملكوت وفاته لذات الوقوف على دقائق الرغبوت والرهبوت فهو عن الله تعالى محجوب وفي عساكر الأموات وأن كان حياً محسوب كما قيل:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
…
وأجسادهم دون القبور قبور
وإن امرأ لم يحي بالعلم قلبه
…
فليس له حتى النشور نشور
قال الله تعالى وكلمته العليا المال والبنون زينة الحياة الدنيا وهذا صريح بالشهادة على ما نقله وجلوت صدأ قلبك بتقريره وصقلته فلا تكونن لاه ولا تعلقن قلبك بغير الله قولاً واعتقاداً وعملاً فالباقيات الصالحات خير عند ربك وخير أملاً واجهد يا حبيب في إصلاح قلبك الكليم وأصغ لما قاله الحكيم الحليم متحرزاً من نكاية العذاب الأليم عاملاً بما يرضي السميع العليم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم وإذا علمت هذا وحققته وحررته وصدقته فاعلم إن الأولى بحالنا والأحسن للنظر في مآلنا أن نعد ما نحن من جملة النعم وإن هذا الذي قسم لنا من القسم في القدم ولا ننقل عن دائرة الرضا والتسليم قدماً عن قدم وننظر ما يتولد من حوادث الزمان ولا نرخي في ميدان الطمع العنان ونعرض على جامح الخاطر ما قال الشاعر: كم نار بادية شبت لغير قرى على بقاع وكم نور بلا ثمر
هون عليم أموراً أنت تنكرها
…
فالدهر يأتي بأنواع من العبر
قال النجدي جميع هذا المقول صادر من موارد المعقول موافق لما ورد به المنقول لقد غصت في بحر الفطنة على جواهر الحكمة فما تركت في ميدان المسائل مقالاً لقائل ولا مجالاً لجائل ولكن لا ينبغي للعاقل أن يغفل عن حوادث الدهر ولا يسند ظهره لكواذب العصر فان طوارق الآفات وخوارق العادات ومحن الزمان وفتن الدوران محتجبة وراء أستار ومستورة في أنواع أطوار والفلك الدوار له في علم الأدوار لعيبات أبكار يبرزها للنظار فتلعب بالأفكار ويذهب في سنا برق مخارفها أبصار الأبصار ويخطئ في حركاتها الرأي المصيب ويدهش في دجى
حندسها الفطن الأريب وقد بادت الفكر وعجزت القوى والقدر وحارت عقول البشر دون إدراك ما يبرزه كل وقت من الصور من وراء ستر الغيب مستعداً للقضاء والقدر ولم يعهد من الدهر الخؤن والزمان المجون إذا استقام أو قزل أو جد أو هزل أو أمر بنازل فنزل أو ولى أو عزل أو أقبل أو اعتزل أو غزل أن يرسل قبل ذلك منذراً أو مبصراً أو محذراً اليستيقظ النائم أو ينهض الجاثم أو يتحرك القائم وإنما يحطم بغته ويهجم في سكته ويأخذ على بهته فلا يفلت منه فلته ولا يهمل إلى لحظة ولا لفته وقد قيل:
يا راقد الليل مسروراً بأوله
…
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
لا تركنن لليل طاب أوله
…
فرب آخر ليل أوقد النارا
وعلى هذا لو وقع منا غفلة أو ذهول عند قدوم هذا الجيش المهول فاخترم والعياذ بالله واحداً منا ونحن أحسن ما نكون سكوناً وأمناً فكيف ترين يبقى حال الآخرون إلا كما قال الشاعر:
ما حال من كان له واحد
…
يؤخذ منه ذلك الواحد
وإذا بقي أحدنا وانعزل متوحداً ماذا يفيده الوطن والجيران والسكن وهل تفي لذة وصال ألفي سنة بألم فراق تلك الساعة الخشنة كما قيل:
إن كان فراقنا على التحقيق
…
فذي كبدي أحق بالتمزيق
لو دام لنا الوصال ألفي سنة
…
ما كان يفي بساعة التفريق
وقال أيضاً:
لا كان في الدهر يوم لا أراك به
…
ولا بدت فيه لا شمس ولا قمر
وكل من لم يفتكر في العواقب قبل حلولها ويتأمل في تداركها بقدر الطاقة قبل نزولها ويطمئن إلى سكون الزمان ويسند ظهره إلى مسند الحدثان ويحيل الكوائن على القضاء والقدر ويرفع يد التدبير عن تعاطي أسباب الحذر كان كمن ترك إحدى زاملتيه فارغة وحشا الأخرى من الأحجار الثقيلة الدامغة فأنى يستقيم محملة أو يبلغ منزله فلا يزال حمله مائلاً وخطبه هائلاً فالعاقل يسعى فيما يظن نفعه ويبذل في ذلك غاية جهده ووسعه ولا يترك الطلب ولا يغفل عن السبب ويعمل بموجب ما قيل:
فلا وأبيك لا أدع احتياطي
…
ومالي في قضاء الله حيله
وعلى كل حال يا ربة الحجال تعاطي الأسباب لا يقدح في الاتكال وناهيك يا مليحة العمل حكاية الحمار مع الجمل فسالت غرغرة أن بين ذلك ويذكره (قال) بلغني أنه ترافق في المسير عبر مع بعير فكان الحمار كثير العثار مع أن عينيه تراقب مواطئ رجليه وكان الجمل على عظم هامته وعلو قامته وبعد عينيه عن مواطئ يديه ورجليه لا تزال له قدم ولا يصل إليه ألم فقال الحمار للبعير أيها الرفيق الكبير ما بالي في المسير كثير التعثير دائم الوقوع والزلل والعثار والخطل لا أخلو من حجر يدمى مني الحافر أو عثرة ترميني في حفرة حافر مع أن عيني تراقب يدي ولا تنظر سواهما إلى شيء وأنت لا تنظر مواطئ اخفافك ولا تعرف على ماذا تقع رؤس أطرافك لا حجر يصيب خفك ولا شوكة تخرق كفك ولا جورة تقع فيها ولا تختل عن طريق تمشيها ولا أدري هذا مماذا
قال أبو صابر يا أخي نظرك قاصر وفكرك غير باصر لا تراقب ما بينيديك ولا تنظر ما أمامك ألك أم عليك فإذا أدهمك ما دهاك عجز عنه نهاك فلا تشعر إلا وقد وقعت وانخرق ما راقعت فلا يمكنك التدارك والتلاف إلا وأنت رهين التلاف وأما أنا فأراقب ما يصير من العواقب وأنظر أمامي الطريق على بعد فأميز المسلوك من قبل ومن بعد فلا أصل إلى صعب إلا وقد أذللته ولا إلى وعر إلا وقد سهلته ولا إلى وهدة إلا وقد عرفت طريقها ولا إلى عقبة إلا وقد كشفت واسعها ومضيقها فاستعد للأمر قبل نزوله وأتأهب للخطب قبل حلوله واحتال لقطعة وصوله وأحله قبل أن يعقد وأقيمه دون أن يقعد وهذه قاعدة للفقهاء وأصل كبير للحكماء من العلماء أنهم قالوا أن الدفع أهون من الرفع ومن كلام الألباء وأصول حذاق الأطباء قوله:
الطب حفظ صحة برء مرض
…
من سبب في بدن إذا عرض
(وإنما أوردت) هذا المثل عن الحمار والجمل لتعلمي ياست الحجل أنه لا بد لنا من الأهبة قبل النكبه فما كل مره تسلم الجره وقد قرب وقت وضع البيض وبعده يدهمنا من سيل العسكر الفيض فلا بد من أعمال الفكر المصيب في وجه الخلاص من هذا الأمر العصيب كما قيل:
مهد لنفسك قبل النوم مضطجعاً
قالت غرغره الحكيمة المدبرة جميع هذه الأخبار لا تخلو عن دقيق الأنظار وتحقيق مصيب الأفكار وغامض معاني الأسرار وكل عاقل يقبله يديه ويقبل يديه ويمتثله ويقبل عليه وكل فكر مصيب يجثو للأقتباس بين يديه
ولكن طلاب الأغراض الدنيوية والمسارعون إلى نيل المرادات والأمنية على فرق شتى وأنا أفصلها حتماً منهم من يبلغ الآمال بقوة الجند وبذل الأموال ومنهم من يساعده الدهر ويعاضده معاون العصر وينهض له مسعد التقدير فيقوم معه كل كبير وصغير كما قيل:
وإذا أراد الله نصرة عبده
…
كانت له أعداؤه أنصارا
فيقبض له المساعد ويعضده المقارب والمباعد فلا يحتاج إلى كبير ولا في سعي ولا في استماع النصيحة ونفعها إلى وعي بل يصل إلى قصده بدون كده وبغير جهده وجده فمهما فعل أنجح قصد أفلح وحيثما توجه أربح وأينما مال أرجح ومنهم من يحتاج إلى جهد جهيد وسعي مديد وكد طويل عريض وجد عريض غير غريض مع مساعد ناصح ومعاون صالح وتعاطي أسباب وقرع أبواب وفكر دقيق ومسعد رفيق حتى يبلغ مراده ويصل إلى ما أراده ومنهم من تغلب عليه العجلة والطمع وشدة الحرص والهلع فيسارع إلى نيل ما يرومه فيلقب في هرة الحرمان حرصه وشومه فيقع من التعب والنصب في هوه ويحرم لكونه اعتمد على ماله من حول وقوة فيصير كما قيل:
الحرص فوتني دهري فوائده
…
فكلما زدت حرصاً زاد تفويتا
ومنهم من يتمنى ثم يتكاسل ويرجو ويترقب ويتساهل فيحرم مقصده ويرد عجزه من مراده يده وقد قيل في المثل تزوج التواني بنت الكسل فاولد الزوجان الفقر والحرمان فانظر يا ذا لركون والوقار والسكون نحن من أي هذه الفرق نكون وأنت تعلم أنا لا نقدر على مقاومة العقاب ولا أن ندفع عن أنفسنا ما ينزل بنا من عقاب فانه إذا طار العقاب يبلغ الثريا والسحاب ونحن إذا تحركنا في الهو افلا نقدر أن نرتفع عن وجه الثرى وقد قيل في المثل كما ترى أين الثريا من الثرى وقيل من تعلق بخصم
هو أقوى منه فلقد سعى في هلاك نفسه برجله ووضع تراب الدمار على رأسه بيده وكنت يا بدري أنشدتك من شعري:
ومن يتشبث في العداوة كفه
…
بأكبر منه فهو لا شك هالك
وكان مثله مثل النملة الخفيفة التي نبتت لها أجنحة ضعيفة فتحركها دواعي الطيران فتتصور أنها صارت كالنسور والعقبان فبمجرد ما ترتفع عن الثرى إلى الهواء التقمها عصفور أو خطفها أصغر الطيور ولهذا قيل:
إذا ما أراد الله أهلاك نملة
…
أطال جناحيها فسيقت إلى العطب
ونحن ما لنا اطلاع على مكان من الغيب فنزه نفسك عن هواجس الريب وليس لنا مساعد من الأقارب والأباعد ولا لنا مال ولا خيل ول رجال ونحن أقل من أن يساعدنا زمان أو يعيننا على العقاب أعوانفلم يبق إلا الركون والأتكال على حركات السكون فما تدري غداً ماذا يكون وأعلم أن حركاتنا مع العقاب والجامع لنا معه من الأسباب متحدة في الحقيقة وطريقتنا معه من جنس ماله من طريقه وهي الطيريه وكلنا فيها سويه وهو منها كاعجاز القرآن من الفصاحة في الطرف الأعلى ونحن منها كاصوات الحيوان في الأطراف الأدنى فالأولى يحالنا الأصطبار إلى أن يصل لكسرنا من عالم الغيب إنجبار كما قيل:
مهلاً أبا الصقر فكم طائر
…
خر صريعاً بعد تحليق
زوجت نعمي لم تكن كفأها
…
آذانها الله بتطليق
(وقيل) :
الأمر يحدث بعده الأمر
…
والعسر مقترن به اليسر
وحلاوة الصبيان من عسل
…
تلهى وأن حلاوتي الصبر
والصبر يعقب بعده شكر
…
من نعمة تأتيك أو أجر
فقال الذكر هذه الفكر من الصواب قريب وسهمها عند أولى البصائر والتجارب مصيب ولكن من يتكفل بوفاء العمر الغدار والأيصال إلى الأوطار ويقوم بالأمن من حوادث الليل والنهار وأنسبت انشادي في الوادي يا زين النادي وجمال الحاضر والبادي:
لئن بادرت في تسليم روحي
…
أتاني من ورائي من يعوق
وأن أسرعت نحو الوصل عذراً
…
فعمري من ورا ظهري يسوق
ثم قال النجدي والرأي السديد عندي والذي أعيده فيه وأبدي أن نتوجه إلى حضرة العقاب ونكشف عن وجه مرادنا لديه النقاب ونطلب منه الأمان من عوادي الدهر ونكبات الزمان ونستظل بجناح عاطفته وننتظم في سلك جماعته وخدمته فانه ملك الطيور وبيده أزمة الجمهور وهو أن كان سلطان الجوارح والكواسر وشيمته سفك الدمار والتمزيق بمخاليبه النواسر لكنه ملك عالي الهمة ومن شيم الملوك الشفقة والرحمة ولا تقتضي همته العالية إلا الشفقة الوافية خصوصاً على من يرتمي لديه وينتمي إليه ولا تدعه شميته الأبية وهمته العالية الحميه وشمائله الشهمة الملوكية أن يتعرض إلينا بضرر أو أن يطير إلينا منه شرر قالت غرغره بعد الاستغراب في الكركرة العجب كل العجب من رأيك المنتخب أنك تخلط منه الغث بالسمين وتسوق فيه الهجان مع الهجين فتارة تصيب حدقة الغرض وأخرى تصرف السهم حيث عرض فتصير كما قيل:
تلونت حتى لست أدري من الهوى
…
أريح جنوب أنت أم ريح شمأل
هذه المصائب التي نشكوها والنوائب التي نقر أسورها ونتلوها هل هي غير ما نقاسيه من العذاب ونعانيه من أليم العقاب في لحظة من ملاقاة عسكر العقاب ثم أنك أنت تحركت في آرائك وسكنت وشرقت في أفكارك وغربت وتباعدت وتقربت وارتفعت يا سلطان وامتنعت وسقطت وجلت
وحمت وقعدت وقمت ثم أسفر رأيك السديد وفكرك الرشيد وأمرك السعيد عن أن تجرنا بسلاسل الحديد إلى العذاب الشديد وتخلدنا فيه الدهر المديد ولا الله بل تريد أن نمشي بأرجلنا إلى الشكبة ونلقي بأيدينا أنفسنا إلى التهلكة وقد أشبهت في هذه الحركة مالكا الحزين والسمكة فقال النجدي لأبنه السعدي أريحي وغني (شكوى الجريح إلى العقبان والرخم) فقالت له أزل الغصة بقص هذه القصة (فقال) كان في بعض المروج من قرى سروج نهر كثير الحيتان شديد الجريان وفي مكان من مصون مأوى المالك الحزين البلشون فكان يتصرف في السمك نصرف المالك فيما ملك قضى في ذلك عمره وزجى أوقاته في طيب عيش ومشره إلى أن أدركه المشيب ورحل عنه العمر القشيب وكساه خياط الدهر دلق ومن نعمرة ننكسه في الخلق ورأى من الكبر أصناف العبر إلى أن ضعفت قوته عن الاصطياد وجرى عليه من الآلام والأنكاد ومن نوائب الدهر ما الزمان به معتاد فصار يمر عليه برهة من الأوقات وهو عاجز عن تحصيل الأقوات فتوجه في بعض الأحيان وقد علته كآبة الأحزان ووقف على النهر متفكراً في تصرفات الدهر فمرت به سمكة لطيفة الحركة فرأته في ذل الانكسار سابحاً في بحر الأفتكار لا قدرة له ولا حركة ولا نهضة لاختطاف السمكة فلم يلتفت إليها ولا عول عليها وقد أوطأته الحوادث أقدام الهمومالكوارث وبدل ربيع شبابه بخريف الهرم وحرارة حربه ببرودة السلم فوقفت لديه وسلمت عليه وسألته عن موجب تفكره وسبب تحزنه وتحيره
فقال تفكرت ما مضى من الزمان الناضر وما تقتضي فيه من طيب العيش وانشراح الخاطر وقد تبدل وجوده بالعدم ولم يحصل من ذلك سوى الذنوب والندم وقد وهنت العظام واستولى على الجسد السقام وتزلزلت أركان الأعضاء وتراكمت فنون الأدواء واشتعل الشيب وانقد وجر الآلام وقد:
عزمت على إخلاء جسمي روحه
…
من خرق شيب كل عنه الراقع
قلت اسكنيه يا عمارة عمره
…
قالت فكيف وبيت جسمك واقع
ثم قال ولم أفق من هذه السكرة ولا وقعت في هذه الفكرة إلا وسفينة العمر بالساحل قد أرست وأصيل شمس العيش على قلة الفناء أمست فما أمكنتي إلا التلافي بالتوبة والندم قبل حلول نوائب الأجل وزلة القدم والتطهر من جنابة المظالم بمياه الاستعبار والالتجاء إلى جانب الحق بالالظاظ في الاستغفار وغسل أوساخ الذنوب والمظالم بدموع الإنابة والاعتذار:
وما أقبح التفريط في زمن الصبا
…
فكيف به والشيب للرأس شامل
فاعلمي أن جامح هواي قلع ضرس الآمال والطمع وجارح متمناي خوافي الشره والهلع وقد قدمت إلى هذا المكان لا تحلل من الأسماك والحيتان فأني طالما أغرت على عشائرهم وأولادهم وخضت في دماء قلوبهم وأكبادهم وشتت شملهم وخوفت جلهم وقلهم. وأرعبتهم وأرهبتهم وأقلقتهم وفرقتهم وغربتهم وبالدماء شرقتهم فرأيت براءة الذمة في الأولى أولى والمبادرة بالتوبة قبل المصير إلى الأخرى أحرى فلعل أحمال الذنوب تخف وسحائب الغفران تكف
فلما سمعت السمكة هذه الخديعة ووعت ما فيها من حركة بديعة تشربتها أضلاعها ودعاها انخداعها إلى أن قالت فما ترى أيها العبد الصالح أن أتعاطاه من المصالح فقال ابلغني السمك هذا الكلام بعد إبلاغ التحية والسلام وأن يكون القوم من بعد اليوم آمنين من سطواتي سالمين من حملاتي ساكنين إلى حركاتي بحيث تتجلى الظلماء ويعود بيننا الحرب سلماً وينام السمك في الماء قالت لا بد من أخذ العهود على الوفاء بهذه العقود وأقلها المصافحة على المصالحة ثم تأكيد الأيمان بخالق الأنس والجان ولكن كيف أصافيك وأنا طعمتك وأني أتخلص من فيك إذا وضعت فيه لقمتك قال لها ابرمي هذا العلف واربطي به حنكي لتأمني التلف فأخذت قبضة من الحشيش وفتلت وإلى ربط فكه أقبلت فعندما مد منقاره إلى الماء وقربت منه السمكة العمياء لم يفتر أن اقتلعها ثم ابتلعها (وإنما أوردت) هذه اللطيفة يا ذا الحركات الظريفة لتعلم أن قربنا من العقاب ألقى بنا أنفسنا إلى أليم العقاب وأين عزب عنك نهاك حتى تسعى بنا إلى عين الهلاك ونحن قوت العقاب وغذاؤه ولداء جوعه شفاؤه ودواؤه وهل يركن إلى العقاب ويؤمن منه ضرب الرقاب وقد قيل:
أنفاسه كذب وحشو ضميره
…
دغل وقربته سقام الروح
وقد قيل:
أنهاك أنهاك لا آلوك معذرة
…
عن نومك بين ناب الليث والظفر
قال النجدي اسلمي يا قرينة الخير واعلمي أن الريح وقت الربيع تكسو أكناف الأشجار من أنواع الأزهار ووجه الصحاري والقفار من أنوار
الأنوار ما يدهش البصائر ويروق الأبصار وينعش الأجسام ويشفي الأسقام ويبرد الغليل ويبرئ العليل لا سيما وقت السحر ونسيم الصبا في ضوء القمر يربى القلب والروح وبحي الصب والجروح وكذلك المعرفات النشر واللواقح والمعطرات بطيب الروانح ودونك قول الحق في كلمته ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته وفي المصيف الجرور العسيف والسموم العصيف المذيب المذيف وفي الشتاء وأيام الخريف الصرصر المخيف يصفر اللوم ويغير الكون ويعرى الأشجار ويسقط الثمار ويثير الغبار وربما كانت إعصاراً فيه نار وتسقم الصحيح وتطبر الهشيم في الريح ومنها الأعجاز الموشحات والأيام النحسات والقواصف والعواصف والحواصبوالحراجف والصرصر والنكباء والزعرع والرخاء وقد قال فيها العزيز العليم فأرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أنت عليه إلا جعلته كالرميم ثم اعلمي يا ربة الحجال وفتنة الرجال إن النار تحرق من يقربها وتذهب ما يصحبها وتنشف الطراوة وتشوه الطلاوه وتنتقم ما تجده
وتلتهم وتزدرده وتسود بدخانها وتؤلم الأجساد بقربانها وتمحو الآثار وتهدم الديار مع أنها تنضج الأطعمة وتصلح الأغذية وتهدي النور وتد في المقرور وترشد الضال في القفار ورؤس الجبال قال من يقول للشيء كن فيكون أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين وكذلك الماء يا ذات الثغر الألمي يذهب الظما ويجلب النما ويبرد الصدور ويطفئ الحرور وينبت الزروع ويدر الضروع ويحمل المراكب وما فيها من مركوب وراكب وما فيها من مركوب وراكب قال القادر على كل شيء وجلعنا من الماء كل شيء حي وإذا طغت المياه والعياذ بالله أغرقت المراكب وخطفت الراجل والراكب واقتلعت الأشجار واقتطفت الحجار وأتلفت الزروع والثمار وإن تراكمت الأمطار قطعت سبل الأقطار وهدمت الديار وردت الآبار وسل عن ذلك ملابس الأسفار ومجالس الرتب من أهل الأمصار وإذا تكائف الرش غرقت مصر وآذى أهلها العطش ونعوذ بالله من هجوم السيل في ظلام الليل وكذلاك التراب يا زين الأحباب ينبت الحصرم والعنب والثمر والحطب والشوك والرطب ويشرع سنان الشوك المحدد وغصون السهم المسدد ويربى الورد والأزهار والرياحين والأنوار والأقوات والثمار والرياض النضرة والغياض الخصرة ثم إذا ثار وهاج الغبار خرج من تحت الحوافر فاعمى النواظر ففيه الحلو والمر والزوان والبر والناعم والخشن والقبيح والحسن والأرض مهاد وفراش وفيها أسباب المعاش
وهذه المضرة والمنفعة مركبة في هذه العناصر الأربعة التي هي أصل الكائنات وسنخ ما نشاهده من المخلوقات وإذا كان ذلك كذلك وقاك الله شر المهالك وأوضح لك أوضح المسالك فاعلمي بالتحقيق يا صاحبة الثغر العقيق إن هذا الملك الأعظم بل كل أولاد بني آدم مركبون من الرضا والغضب والحلم والصخب والرفع والحط والقبض والبسط والقهر واللطف والظرافة والعنف والخشونة واللين والتحريك والتسكين والبخل والسخاء والشدة والرخاء والوفاء والجفاء والكدورة والصفاء واعلمي يا نعم العون وقرينة الصون إن هذا الكون سروره في شروره مندمج ووروده في صدور مندرج وصفاؤه مع كدره مزدوج وجفاؤه بوفائه ممتزج فيمكن أن العقاب لكونه ملكاً مالك الرقاب مع وجود هيبته القاهرة وسطوته الباهره وخلقه الشرس الصعب الشكس إذا رأى ضعفنا وذلنا وانكسارنا وقلنا وترامينا لديه وتعولنا عليه يضمنا إلى جناح عاطفته ويسبل علينا خوافي مرحمته ويعاملنا بالألطاف ويسمج لنا بالإسعاف دون الأعساف ويعمل بموجب ما قيل:
لكل كريم عادة يستعدها
…
وأنت لكل المكرمات امام
والقادر على الكسر والجبر لا سيما إذا كان من ذوي النباهة والقدر لا يعامل ذوي الكسر بالكسر لانا في مقام الأبوة والتقوى على الضعيف ضعف في القوة وقالوا المصغر لا يصغر وسجدة السهو ولا تكرر قالت غرغرة ذات التبصرة هذا وأن كان داخلاً في حيز الإمكان لكن أخاف يا ذا الألطاف أنا بمجرد الوقوف بين يديه في الصفوف لا
نمهل بأداء الكلام ولا للثبات في المقام بل نعامل بالتمزيق والتخريق وننحر بعد في الطريق وتهوى بنا خواطف الطير في مكان سحيق فيفوتنا هذا المطلب إذ قيل الطبع أغلب وهذا وصلنا إليه وتمثلنا بين يديه وأما إذا اعترضنا دونه عارض وجرحنا من جوارح الطير معارض ولا حول يحمينا ولا قوة تنجينا فينتف ريشنا كل باغ ويتجاذب لحمنا كل طاغ فيصير مثلنا مثل النمس والزاغ فسأل اليعقوب تلك الرقوب كيف هذا المثل أخبريني يا ست الحجل (قالت) كان في بعض البساتين العاطرة والرياض الناضرة مأوى زاغ ظريف حسن الشكل لطيف في رأس شجرة عالية أغصانها سامية وقطوفها دانية فاتفق لنمس من النموس في وكره ضرر وبوسفانزعج عن وطنه واحتاج إلى مفارقة سكنه فقاده الزمان إلى هذا المكان فراقه منظره وشاقه نوره وزهره وأعجبه ظله وثمره وأطربه بخريره نهره فعزم على السكنى فيه وتوطن إلى أن توطن في نواحيه ذرآه أحسن منزل وإذا أعشيت فانزل ووقع اختيار ذلك الطاغ على وكر في أصل شجرة الزاغ فسوى له وكراً وحفره في أصل تلك الشجرة وألقى عصا التيسار واستقرت به هناك الدار فلما رأى لزاغ هذه الحال داخله الهم والاوجال وخشى أن يتدرج من أدناها ويتدحرج إلى أعلاها وينشد الأصحاب في هذا الباب:
ولما مضى الشوق
…
إلى نحو أبى طوق
تدحرجت لكني
…
من تحت إلى فوق
فيصل إلى وطنه القديم ويذيقه العذاب الأليم فليس له خلاص من هذا الاقتناص إلا مفارقة الوطن والانزعاج بالتحول عن السكن وكيف يفارق ذلك النعيم ويسمح بالبعد عن الوطن القديم وهو كما قيل:
بلاد بها نيطت على تمائمي
…
وأول أرض مس جلدي ترابها
فغلبت محبة وطنه على قلبه ولم يطاوله على فراقه لشدة حبه ثم اعتراه في ذلك الوسواس وأخذ يضرب أخماساً لأسداس في وجه الخلاص من هذا البأس فرأى المدافعة أولى الممانعة عن جوارحه لخاطره أجلى ثم افتكر في كيفية المدافعة وسلوك طريق الممانعة فلم ير أوفق من المصانعة وتعاطي أسباب المخادعة ليقف بذلك أولاً على حقيقة أمره ويعرف معيار خيره وشره ويصل إلى مقدار قوته وضعفه ورصانة عقله وفهمه وسخفه ويسبر حالتي غضبه ورضاه ويدرك غور أحواله ومننهاه ثم يبني على ذلك أساس دفعه وهدم ما يبنيه من قلعته لقلعه فهبط إلى النمس من الهواء وحفظ شيأ وغابت عنه أشياء وسلم عليه سلام المحب على الحبيب وجلس منه بيمكان قريب وخاطبه خطاب ناصح لا مريب وابتهج بجواره واستأنس بقرب داره وذكر له أنه كان وحيداً وعن الجليس الصالح والأنيس الناصح فريداً وقد حصل له الأنس بمجاورة النمس وأنه صدق من قال في هذا المقال:
انفراد المرء خير
…
من جليس السوء عنده
وجليس الخير خير
…
من جلوس المرء وحده
فاستمع النمس حديث الزاغ وما طغى بصر يصيرته عن سكايده وما زاغ ثم افتكر في نفسه ونظر في مرآة حدسه فرأى أن هذا الطير بخبث السيرة مشهور وبسوء السريرة مذكور ولا أصله زكي ولا فرعه على ولا غائلته مأمونة ولا صحبته ميمونة ولا خير عنده ولأمير بل يخشى منه الضرر والضير وكأنه فيه قيل:
وهو غراب البين في شؤمه
…
لكن إذا جئنا إلى الحق زاغ
ولم يكن بيننا وبينه قط علاقة ولا واسطة محبة ولا صداقة وأما العداوة فإنها مستحكمة وكل منا للآخر ما كلة ومطعمه ولا أشك أنه إنما قصد طريقة سوء ومكيدة نكد فأن أضعت فيه الفرصة أطلت الغصة ووقعت من الندامة في قصة وحصة ولا يفيدني إذ ذاك الندم أني وقد فات المطلوب وزالت القدم (وأحزم الحزم سوء الظن بالناس) فالذي يقتضيه الحزم والرأي السديد والعزم القبض عليه إلى أن يظهر ما لديه ثم وثب من مريضه وأنشب في الزاغ مخاليب مقبضه وقبضه قبضه أعمى لا كالقابض على ألما فلما رأى الزاغ هذا النكد وأنه قد صار كالفريسة في مخاليب الأسد ناداه يا كريم الخير ويا أيها الجار الحليم عن الضير أنا رغبت في مصادقتك وجئتك محباً في موافقتك ومرافقك وأردت إزالة وحشتك وموانستك بإبعاد دهشتك وحاشاك أن تخيب ظني فيك وتعامل بالجفاء من يوافيك وأنشده:
وحاشاك أن تمشي بوجهك معرضاً
…
وما يحسن الأعراض عن وجهك الحسن
والكرام لا يعاملون الجلساء إلا بالمؤانسة وحسن الوفاء والإبقاء على خير والبعد من الضير وأنا قد صرت جليسك وجارك وأنيسك وقد قيلوكنت جليس قعقاع بن شور ولا يشقى لقعقاع جليس مع أنه لم يسبق مني سبب عداوة ولا ما يوجب هذه الفظاظة والقساوة وهذه أول نظرة فما موجب هذه البدرة وما سبب هذه النفرة قال النمس أيها الزاغ الكثير الرواغ وانحس باغ وانجس طاغ اسمك ناطق انك منافق وهو خبر صادق إذ هو في الخارج للواقع مطابق ورؤيتك شاهده أنك تنقض المعاهدة وعين منظرك دل على مخبرك وقد قيل:
والعين تعرف من عبتي محدثها
…
إن كان من حزبها أن من أعاديها
من أين بيننا صداقة ومتى كان بين النموس والزاغ علاقة وكيف تنعقد بيننا صحابه وأنى يتصل لنا مودة أو قرابة بين لي كيفية هذا السبب ومن أين هذا الإخاء والنسب أما أنت فلي طعمه وأما أنا فلحمي لسدي غذائك لحمه يسوءني ما يسرك وينفعني ما يضرك:
الله يعلم أنا لا نحبكم
…
ولا نلومكم أن لا تحبونا
أنا واقف على ما في ضميرك وعالم بسوء فكرك وتدبيرك قد اطلعت منك على الهواجس كما اطلع ذلك الماشي على ما في خاطر ذلك الفارس قال الزاغ بين لي بلا جدل كيف هو هذا المثل (قال) النمس ذكر رواة الأخبار ونقلة الآثار أنه ترافق في بعض السباسب راجل وراكب وكان مع الراجل من البضائع رزمه وقد جعلها كارة وخرمها أوثق خرمه وقد أعياه حملها حتى أعجزه نقلها فقال للراكب أيها الرفيق الصاحب لو ساعدتني ساعة بحمل هذه البضاعة لكنت أرحتني ونفست عني وشرحتني:
كذى المجد يحمل أثقاله
…
قوى العظام حمول الكلف
قال الفارس لا أكل فرسي ولا أتعب نفسي ونفسي فان مركوبي لم يقطع البارحة عليقه وأنا خائف أن لا يقطع بي طريقه وإذا خفت تخلفي في سيري فأني أتكلف حمل أثقال غيري
فبينما هما في هذا الكلام إذ لاح في بعض الآكام فأطلق العنان وراء الأرنب وذهب وراءهما كرأي الزنادقة كل مذهب فوجد فرسه قوية النهضة سريعة الركضة فرأى أنه أضاع حزمه في عدم أخذه الرزمة وما ضره لو أخذها وساق وذهب إلى بعض الآفاق وأقام بها أوده وأنتفع بها وولده وترك الماشي بلا شيء ثم رجع بهذه النية الضارة ليحمل عن الماشي الكارة وقال له اعطني هذا الحمل المتعب لأريحك من حمله في هذا المذهب وابلغ ريقك واقطع طريقك فقال له قد علمت بتلك النية وما أضمرت من بليه فاتركني بحالي فلي حاجة بمالي فثم أن النمس كسر الزاغ وحصل له بأكله الفراغ (وإنما أوردت) هذا المثال لتعلم بأفحل الرجال إن العقاب لا يؤمن ولا يقطع فيه بالظن الحسن ولا يركن إلى خطفة بوارقه بمخاليب صواقعه وصواعقه ولا إلى غوائله وبواثقه وهذا إن سلمت شقة حياتنا من تشقيق غواشيه وتخلص برد وجودنا من تمزيق حواشيه وإن بينك وبين هذا المراد خرط القتاد والموانع التي هي دون سعاد فما الوصول إلى ملك الطير قريب التناول في السير ولا سهل المأخذ ولا سريع المنفذ وأين الحجل من العقاب ذاك في نعائم النعيم وهذا في عقاب العقاب فتدبر عاقبة هذا الأمر وتأمل في الفرق بين التمر والجمر والظاهر عندي وما أدى إليه فكري وجهدي إن عاقبة هذه الأمور ليس إلا القطوع والقصور دون الوصول إلى الملك في القصور
قال الذكر لقد كررت عليك مراراً وأسندت إلى سمعك إنشاء وأخبار أن علو همة هذا الملك وفضله الخالي عن شرك وكرم نجاره وأمن خادمه وجاره وفيض إحسانه وبسط كرمه وامتنانه وانتشار صيت حشمته واشتهار رأفته ورحمته لا يقتضي حرمان من قصده وأم جنابه وأعتمده ولجأ إلى جناح عاطفته وتشبث بذيل ملاطفته وحاشاه أن يصم مصون همته بابتذال دناءة ويشوه جمال وفائه لمن ترفق له بنكتة جفاء تخيب رجاءه خصوصاً إذا رأى مني خضوع العبودية والقيام بمراسيم الخدمات الأديبة والمقام بمراكز مرضيه والوقوف عند كل ما يعجبه ويرضيه فأني بحمد الله تعالى أعرف مداخل الأمور ومخارجها وعندي الاستعداد الكامل لصعود معارجها وأعلم طرق المجاز إلى حقائقها وسلوك دروبهاوطرائقها فالأولى أن نقتصر عن المحاورة ونكتفي بهذه المساورة في المشاورة ونتوكل على مقلب القلوب ونتوجه نحو هذا المطلوب بعزم شديد وحزم سديد فان تيسر لي ملاقاة حضرته والتمثل في مراكز خدمته وحصلت لي مشاهدته واتفقت مخاطبته ومعاهدته أنشأت خطبة تدفع الخطوب وتجمع القلوب وتؤلف بين المحب والمحبوب وأرجو أن تكون نافعه لمصالح الدين جامعة فان كلامي في مقامي كما قيل في المثل:
فأوجز لكنه لا يخل
…
وأطنب لكنه لا يمل
وآخر الأمر سلمت غرغرة زمام انقيادها إليه وعولت في عمل المصالح عليه ثم قالت له عيش واسلم وتيقن وأعلم انك إذا قصدت هدمة الملوك وأردت في طريق مصاحبتهم السلوك فانك محتاج في ذلك المنهاج إلى نور وسراج يهديك إلى صفات جميلة وتلبس بخصائل نبيلة تتحلى بجمالها وتتعلى بكمالها وتتجلى في شمائل جلالها
الأولى أن تقدم في جميع مصادرك ومواردك الملك على جميع مقاصدك الثانية أن تتلقى أموره بالتعظيم وتقيم أوامره بالاحترام والتفخيم الثالثة تحسن أقواله وتزين أفعاله بوجه لا يتطرق إليه تشويه ولا يحتاج فيه إلى تنبيه الرابعة تجتهد في صيانة عرضك عن الخنا وإياك أن تقول في حضرته أنا فتقع في العنا الخامسة أن تعد على الدوام ومرور الأيام خدماتك الوافرة وحقوقك المتكاثرة عن حقوق نعمه قاصرة السادسة إذا وقعت منك زلة فلا تتعد بها جمع القلة بل اطلب لتلك الهفوة في الحال محوه واقصد مراحمه وعفوه فان الذنوب إذا تراكمت وتجمعت وتزاحمت أشبهت المزبلة المدمنة وفاحت روائحها المنتنة والإنسان غير معصوم والآدمي بالخطأ موسوم السابعة احفظ وجهك في حضرته عن التقطيب وكلامك أن يفوح منه غير الطيب الثامنة إياك ومصادقة أعدائه ومعاداة أوليائه التاسعة كلما زادك رفعة وتقريباً مل إلى التواضع واعظامه تصويباً
العاشرة لا ندخر عنه نصيحة وانصحه في الخلوة لئلا يؤدي إلى الفضيحة وإذا أقامك في أمر ولو أنه المشي على الجمر لا تطلب منه أجراً ولا تبد لذلك ذكراً فأن الطمع يورث العقوق والمن يسود وجه الحقوق وأعلم أن حضرة الملوك عظيمة ومجالسهم جسمية تنزه عن الكذب والغيبة والنميمة والأقوال الوخيمة والأفعال الذميمة وإياك أن تتعدى القواعد الكسرويه وتتخطى القوانين السلطانية فان أعظمها كان أن يعرف كل إنسان تقصير نفسه في خدمة مخدومه ويعترف له من إحسانه بعمومه ويقيم واجب همة ملكه ومقام مرسومه قال النجدي أخبريني يا دعدي وحظي وسعدي وابنة السعدي ومزينة القواعد بشيء من تلك القواعد (قالت) من القواعد الكسرويه الدائرة بين البرية ما وضعها بعض الملوك وحمل رعيته فيها على السلوك وكان مشهوراً بالعدل والإحسان مذكوراً بإقامة البرهان متصافاً بالصفات الحميدة مكتنفاً بالشمائل السعيدة من الدين والعفة وعدم الطيش والخفة بعقل راجح الكفة والعلم الوافر والحلم العاطر وذلك أنه في بعض الأيام أمر أن يجتمع الخواص والعوام ما بين أمير ووزير وكبير وصغير وغني وفقير وجليل وحقير وعالم وجاهل ومعضول وفاضل ومذكور وخامل وناظر وعامل وحال وعاطل وحاكم وقاض وساخط وراض وجندي وتبع وأخرق وصنع ووضيع وشريف ولطيف وكثيف وثقيل وخفيف وقريب وبعيد ومقبول وطريد
وشقي وسعيد وسوقة وتاجر وسفيه وفاجر ودان وقاص وطائع وعاص وصالح وطالح وضاحك وكالح ومصيب ومخطئ ومسرع ومبطئ وصياد وملاح وسياح وسباح وبلدي وفلاح ومسلك وسالك ومملوك ومالك بحيث لا يتخلف عن الحضور أحد ولا يجزي في التقاعد والدعن ولد ثم مهد لهم في روض أرايض ومرج طويل عريض تصفق مياه أنهاره طرباً وتتناغى بأطيب الألحان فصحاء أطياره الخطباء وتتراقص بزهر الوقت أغصان أشجاره ويلتذ بفواكه الجنان جاني ثماره فهو كما قيل: يلتذ جانيه بأنعم مقطف ومنه ساكنه بأكرم معطف
والورق بين محلق في جوه
…
طرباً ومنحط عليه مرفرف
وأمر بفرش ذلك المكان بالفرش الحسان من الديباج والحرير وأطلق مجامر الند والعبير وبين لكل مقاماً معلوماً ومجلساً مقسوماً وأحل كلاً منهم محله واسبغ عليهم ذيل إحسانه وطله ثم أمر بأنواع الأطعمة المفتخرة وأصناف الملاذ الطيبة العطرة فأحضرت في أواني الفضة والنضار ووضعت بين يدي أولئك الحضار بحيث عمت الجميع ووسعت الشريف والوضيع وجلس الملك في مجلس السلطنة واكتنفه من العساكر الميسرة والميمنتة وأخذ كل مكانه ورتب أصحابه وأعوانه ثم أقام عليهم أرباب الديوان وأدخل جميعهم في دفاتر الحسبان وأمر منادياً سيداً يرفع بصوته الندا في ذلك الجمع بحيث شمله من الجميع النظر والسمع يا أهل هذا المكان برز مرسوم السلطان إن كل من هو فر مرتبه من
مرضاه أو معتبه لا يلاحظ من فوقه ولو أنه من أمير وسوقه بل يلاحظ حال من هو دونه فائزة كانت منزلته أو مغبونه فان ذلك أجمع للقلوب وأدعى للشكر المطلوب وأجلب للرضا بحوادث القضا فان من رأى نفسه في مقام ونظر غيره في أدنى من ذلك المقام استقام وكانت عنده منزلته عليه وعد لنفسه على غيره مزبه فتوطنت نفسه على الرضا واستقبلت بالشكر وارد القضا مثال ذلك الرئيس النازل في الصدر إذا رأى من هو دونه في القدر لم يشك في أن محله محل البدر وباقي الرؤساء كالنجوم فلا يأخذه لذلك وجوم وقد قال الحي القيوم في در كلامه المنظوم وما منا إلا له مقام معلوم وكذلك النائب بالنسبة إلى الحاجب والدوادار بالنسبة إلى البزدار والخزندار بالنسبة إلى جابي الدراهم والدينار والمهتار بالنظر إلى السائس والبرقدار وكذلك بالنسبة إلى الحارس وكاتب السر المرتفع بالنسبة إلى المدير والموقع والزمام بالنظر إلى سائر الخدام وأيضاً القاضي مع الفقيه والفقيه مع التاجر النبيه والتاجر مع السوقي السفيه والغنى والأمير بالنسبة إلى المأمول والفقير وعلى هذا القياس أوضاع جميع الناس من أرباب الصنائع وجلاب البضائع وأهل المدن والقرى وذوي البيع والشرا والوهد والذرا وأولى الوضاعة والشرف من أنواع المكتسبات والحرف إلى أن ينزلوا في المراتب
ويتدحرجوا من اليفاع إلى الحضيض في المناصب ويتعاونوا في المناصب والمناقب ويصل قدرهم ونظرهم في ذلك إلى كل ذي فعل سيئ حالك كأرباب العظائم وأصحاب الذنوب والجرائم فينظر المعتوب حاله بالنسبة إلى المضروب والمشتوم حاله بالقياس إلى حال المكلوم والصحيح بالنسبة إلى حال الجريح ويلاحظ مضروب العصا حال المسلوخ بالمقارع ومضروب المقارع أحوال مقطوع الأكارع وكذلك المقطوع بالنسبة إلى مصلوب الجذوع والمصاب بالمال بالنسبة إلى مصلوب الجذوع والمصاب بالمال بالنسبة إلى مصاب البدن والأعرج بالنسبة إلى المقعد الزمن وكذلك العوران بالنظر إلى مصاب العميان وليتأمل الناظر ما قاله في ذلك الشاعر:
سمعت أعمى مرة قائلاً
…
يا قوم ما أصاب فقد البصر
أجابه أعور من خلفه
…
عندي من ذلك نصف الخبر
ولتكن هذه القواعد مستمرة العوائد بين الصادر والوارد ليعلم أن مصائب قوم عند قوم فوائد فاستمرت هذه القوانين مستعملة غير منسية ولا مهملة من زمان ذلك السلطان إلى هذا الزمان وانظر أيها الفضيل إلى معنى ما قيل في هذا القبيل وهو:
على كل حال ينبغي الشكر للفتى
…
فكم من شرور عن سرور تجلت
وكم نقمة عند القياس بغيرها
…
ترى نعمة فاشكر لدى كل نقمة
(وإنما) أوردت هذه الأمثال وأطلت النفس في بيان هذه الأحوال لتأخذ منها حظك وتكررها فيما أودعته حفظك وتجري بها ليلاً ونهاراً لفظك حتى تصلح المنادمة الملك ولا يعلق بذيل مكانتك من الحساد مرتبك وترضى بأي مقام أقامك فيه وتعلم انه أعلى مقام ترتضيه حيث هولك يرتضيه وتجعل: مورد لسانك ومقعد جنابك في طلبك رضاه ما كنت أنشدتك إياه من قديم الزمان وأنا عليه الآن وهو:
وأعلى مقاماتي وأسنى وظائفي
…
وأحسن أسمائي أنت ترضاه
فقال الذكر ما أحسن عقد هذه الدرر لقد أفصحت إذ نصحت وزينت بما بينت فجزاك الله خيراً وكفاك ضيراً فحقيق على أن أقتدي بآثارك واهتدي بأنوارك فما أرجح ممزانك وأغرز حسنك وإحسانك لقد جمعت بين فصاحة النقل ورجاحة العقل ومزجت روح الحصافة الظرافه وجلوت صورة النصيحة في خلعة اللطافة ثم أنهما توكلا على العزيز الوهاب وقصدا حضرة ملك الطير العقاب فواصلا السير بالسرى واستبدلا السهر بالكرى ولم يزالا في سير مجد وطلب مكد بين الادلاج والدلجة مقارن مقارن حتى وصلا إلى جبل قارن وكان عند العقاب أحد المقربين من الحجاب بؤبؤ نقي الجؤجؤ تقي البؤبؤ أحسن منظراً من اللؤلؤ صورته مسعودة وسيرته محمودة وهو بين أولئك الطير مشكور الأحوال مشهور الخير وفيه من المعرفة والدين والعقل الرصين والرأي المتين ما يصلح أن يكون به مقتدى السلاطين وعنده من الوقوف على دقائق الأمور ما فاق به الجمهور وساد به على سائر الطيور وكان صيته قد اشتهر حتى ملأ البدو والحضر فترك النجدي بنت السعدي في مكان وقصد اليؤيؤ لعرض عليه ماله من شان فوصل إلى جنابه وأتى بيت مقصده من بابه حتى دخل عليه وقبل يديه وتمثل لديه فتوجه اليؤيؤ إليه وأشار بتقريبه منه وأزال دواعي الوحشة عنه وأقبل
عليه بكليته وزاد في إكرامه وطلابه فانشده بديها ولم يقل أيها مفصحاً معلناً مستعيناً مضمناً:
لقد قص ريشي الدهر عن كل مطلب
…
وألهمني سعدي بأنك رائش
ففي سمري مد كهجرك مفرط
…
وفي قصتي طول كصدك فاحش
ثم قال اعلم أيها الرئيس المحتشم النفيس أن مولدي في جبل من جبال أذربيجان في مكان يضاهي الجنان ويباهي روضة رضوان أنزه من عنصر الشباب وأفكه من معاقرة الأتراب وأرفه من منادمة الأحباب على رقيق الشراب نشأت فيه مع قرينه جميلة أمينة فقضيت فيه غض العمر وزجيت فيه بض الدهر قانعا بما تيسر من الرزق فأرغما عما في أيدي الخلق متمسكا بذيل العزلة أعد الانفراد نعمة جزلة مكرراً درس ثلاثة نجم النفس القرينة الصالحة الجار المؤنس والكفاف من القوت ومما كنت أنشدت وفي مبدأ أمري أرشدت:
وحسب الفتى قوت وخل وزوجة
…
ليرتاح في الدنيا ويكتسب الأخرى
وكنت من الدهر على هذا اقتصرت ومن لذيذ العيش على القناعة اختصرت ولكن كان مأوانا ومصيفنا ومشتانا محل الحوادث وممر العوائث والعوابث ومعبر المصائب ومورد الصيد ومورد الموطئ عمرو وريد فكنا كلما ولد لنا مولود وتحدد لنا بالبهجة والابتهاج عهود حصل للعين قره وللروح مسرة نقول هذا يبقى ذكرنا بعدنا ويحيى آثارنا عند حلولنا لحدنا فلم يكن أسرع من هجوم خاطف أو هبوب ريح نكبة عاصف يخطفه من بيننا ويجذبه من قبلنا وعيننا فان سلم من تلك المكايد وتخلص من سهم
المصائب والمصايد حطمته عساكر الملك المنصورة وملأت الأقطار الجنود الموفورة فلا يخلو منها مكان قدم إلا وقد غص بمواطئ تلك الأمم فتذهب مناقرة العين وتدهك غلطاً تحت الرجلين وهذا هو البلاء الطام والمصاب العام ولا بد منه في كل عام فكأنه أيها النبيه النبيل في شأننا قد قيل:
أيا ابن آدم لا يغررك عافية
…
عليك شاملة فالعمر ممدود
ما أنت إلا كزرع عند خضرته
…
بكل شيء من الآفات مقصود
فان سلمت من الآفات أجمعها فأنت عند كمال الأمر محصود فضاق منا لهذا العطن فلم أر أوفق من مفارقة السكن والمهاجرة من الوطن فعرضت على القرينة هذه الحال وأسرت عليها بالارتحال وقلت لها المرء من حيث يوجد لا من حيث يولد فأبت وكبت وشاقت في: ذلك ونبت فلا زلنا نتحاور ونتشاور ويرمى كل منا سهم رأيه إذ يساور حتى لانت أخلاقها الصعبة بعد أن ثلث ما في الجعبة ثم أعطت القوس باريها وسلمت الدار بانيها وأدركت ملامح مقاصدي معانيها وسمحت بالانتقال من تلك البلاد وسلمت إلى يد تدبيري زمام الانقياد فرحلنا بعيده وقاسينا شدة شديدة وقصدنا هذا الحرم إذ رأيناه مشتملاً على اللطف والكرم وقطعنا شباك مصايد وخلصنا من إشراك كل صائد وفطمنا أنفسنا عن حبات الطمع وتجرعنا من كاسات الجزع وأقداح الفزع جرعاً بعد جرع فوصلنا بحمد الله إلى جنابك الأمين وبشرنا مبشر الإقبال أنك لكل خبر ضمين فحمدنا عند صباح الفلاح السرى وأنشدنا لسان السعد مبشرا:
وجدت من الدنيا كريماً نؤمه
…
لدفع ملم أو لنيل جزيل
وإن لم يكن بيننا سابقة خدمة لكن تعارف أرواحنا له قدمه مع أن كرم ذاتك الجميلة وما جبلت عليه من صفات نبيلة يغني قاصد صدقاتك عن
واسطة ووسيلة ووالله أني لواثق بان ظني بوفاء مكارمك صادق فاسأل إحسانك يا ذا الخير إيصالي إلى خدمة ملك الطير وإن كانت رفعة مكانه في العيوق ودون الوصول إليه بيض الأنوق لكن بواسطة الوسيلة يحصل هذا الشرف والفضيلة ولا زالت الرؤساء والأكابر يأخذون بيد الضعفاء والأصاغر ولرأيك العلو والشرف والسمو والعف والحنو فاهتز اليؤيؤ لهذا الكلام وارتاح وظهر في وجهه تباشير المسرة والأرتياح وأنشد:
قدمت بأنواع المسرة والهنا
…
على خير منزول وأيمن طائر
فأهلاً وسهلاً ثم أهلاً ومرحبا
…
وبشرى ويسرى بالعلى والبشائر
أعلم أن قدومك صدق ومرافقتك سبب الرفق ورؤيتك فتح باب الفتوح وروايتك غذاء القلب وراحة الروح أبشر بكل ما تؤمل وتختار فقد ذهب العثار وجاء الأمن واليسار أصبت مرامك وزينت مقامك وآنست منزلك وأويت مأملك خاطرك وبشر أهلك وعشائرك وأخبر غائبك وحاضرك ولقد قادك الرأي السديد والأمر الرشيد والفال السعيد حتى أويت إلى ركن شديد وملك كريم خلقه عظيم وفضله جسيم وجوده عميم ونظيره عديم رؤف برعيته لا يخيب أمله ولا يريب سائله ولا يقطع واصله ولا يمنع حاصلة لقد أنبتت ساعيك أزهار الأمن والأمان وتفتحت لورودك في رياض سعد الزمان نواظر نرجس النعمة وشقائق فضل النعمان
فاعلم أن هذا الملك ذو جناب منيع وقدر رفيع وبيان معانيه بديع عزير المنال جامع لصفتي الجمال والجلال قد اختار العزلة في رؤس الجبال فلذلك طبعه لا يخلو من جساوة وقلبه من قساوة وأن غذاءه من اللحوم ومن الحيوانات مشروبه والمطعوم مخاليبه كالاسل ويلجأ إلى الله تعالى إذا نسر منقاره ونسل وحقيقة أمره أن كنت عنه تسل:
ممقر مر على أعدائه
…
وعلى الأدنين حلو كالعسل
فإذا التجأ إليه فقير أو آوى إليه ضعاف أو كسير أو قصده محتاج أو سلك إلى باب مرضاته منهاج فلا يمكن ألطف منه ولا أشفق ولا أقرب من عطفه على مؤمليه ولا أرفق فهو كما قيل (بيض قطاً يحضنه أجدل) وسبب ذلك أن ضميره المنير خال من المكر طاهر من التزوير لا يعرف ختلاً ولا خديعة ولا خيانة ولا وضيعة ولا كذباً ولا قطيعة ولا في خاطره فساد ولا عنده سوء اعتقاد ولا يعرف غير الحق ولا يقول إلا الصدق وذلك لبعده من مخالطة الناس وعزلته عن كل ذي وسواس وخناس فلقد اتفق العالم أن صحبة بني آدم سم قاتل وهم باتل فان دأبهم المكر والتلبيس والخداع والتدليس وحسبك قول شاعرهم في كشف ضمائرهم وشرح حقيقة سرائرهم:
صن من الناس جانباً
…
كي يظنون راهباً
قلب الناس كيف شئ؟
…
ت نجدهم عقارباً
ولقد أرشد من أنشد:
بنو آدم إن رمت من خيرهم جنى
…
فأحلى الذي تجنيه من وصلهم صبر
مكارمهم مكر ورؤيتهم ريا
…
وودهم مؤذ وجبرهم كسرفإن كان فيهم صالح أفسدوه وإلى سبل الضلال أرشدوه والكلام في هذا المقام لا يبلغ التمام فيكتفي بالقليل عن الجليل وشمس النهار ولا يحتاج في وجودها إلى دليل فانهض الآن فقد آن التوجه إلى خدمه السلطان فما كل زمان يحصل هذا الإمكان فان الاجتماع به كل وقت مشكل فتوكل على الله بأحسن متوكل فإذا دخلت عليه وتمثلت بين يديه فاعرف كيف تقف وانظر يا ذا الكمال ماذا يناسب الحال ويقتضيه المقام من فعل وكلام فاسلك طريقته وراع مخارجه وحقيقته وادخل معه من ذلك الباب ومثلك لا يدل على صواب فما أسرع اللطف وأقرب العنف من حركات الملوك والكبراء وأبعد الرفق وأشرد الخلق من ملكات السلاطين والخلفاء وأقصى مدانيهم إذا غضبوا وأوحش مؤانسهم إذا صخبوا وأقرب مباعدهم إذا عطفوا وأعجب مناددهم إذا لطفوا ويكفيك يا ذا العقل المتين ما قيل في شأن الملوك والسلاطين:
إن الملوك بلاء أينما حلوا
…
فلا يكن لك في أكنافهم ظل
ماذا تؤمل من قوم إذا غضبوا
…
جاروا عليك وأن أرضيتهم ملوا
وإن مدحتهم ظنوك تدعهم
…
واستثقلوك كما يستثقل الكل
فاستغن بالله عن أبوابهم كرماً
…
إن الوقوف على أبوابهم ذل
وقال سيد الأنام طرا لا تجاور ملكاً أو بحراً فان رضوا رفعوك فوق الأفلاك وإن غضبوا والعياذ بالله فهو الهلاك وناهيك من تقلبات الملوك
يا ذا الإرشاد في السلوك أطفأ الله غضبهم عنك قضية صدرت من تيمورلنك فسأل فحل الحجل الوزير الأجل بيان ذلك المثل الصادر من الأعرج الأشل (فقال) الدستور مما حكى عن تيمور من وقائع الأمور وشدة عزمه وحزمه وثباته على ما يقصده وحزمه وحلول نقمته بمن يعارضه ويعاكسه فيما يرسم به ويناقضه أنه لما توجه بالجنود إلى بلاد الهنود وذلك في سنة ثمانمائة وصل بجيوش الطاغية إلى قلعة شاهقة أقراط الدراري بآذان مراميها عالقة والرجوم المارقة من النجوم الخارقة تتعلم الأصابة من رشاقة سهامها الراشقة كان بهرام في مهواه أحد سواطيرها وكيوان في مسراه خادم نواطيرها والشمس في استوائها غرة جبينها وقطرات السحاب في الأنكساب تترشح من قعر معينها وشقة الشفق الحمراء على آذانها مراميها وأنوف أبدانها سرداق وكريات النجوم في القبة الخضراء لعيون مكاحلها وأفواه مدافعها طابات وبنادق وكان الثريا في انتصابها قنديل معلق على بابها لا يحوم طائر الوهم عليها فأنى يصل طائش السهم إليها ولا يتعلق خدم خدمتها خلخال خيال وافتكار فضلاً عن أن يحلق على معصم عصمتها من عساكر الأساورة سوار وفيها من الهنود طائفة ثابتة الجنان غير خائفة جهزت أهلها وما
تخاف عليه إلى الأماكن المعجزة وتثبتت هي في القلعة حافظة لها متحرزة مع أنها شر ذمة وطائفة قليلة وطائفة ذليلة لا خير عندهم ولا مير ولا فائدة سوى الضرر والضير ولا للقتال عليها سبيل ولا حواليها مبيت ولا مقيل بل هي مطلة على المقاتلة مستمكنة على المقاتلة فأبى تيمور أن يجاوزها دون أن يجاورها بالحضار ويناجزها واللبيب العاقل لا يترك وراءه لخصمه معاقل فجعلت المقاتلة تناوشها من بعيد ويصب كل من أهلها عليهم من أسباب المنايا ما يريد وكان كل يوم مقتل من عسكره ما لا يحصى والقلعة تزداد بذلك إباء واستعصا وهو يأبى الرحيل عنها إلا أن يصل إلى غرضه ففي بعض أيام المحاصرة مطرواً وبواسطة المطر وانحصروا وصار يحثهم على القتال ثم ركب لينظر ماذا يصنعون في تلك الجمال فلم يرتض أفعالهم لما عكست أو حالهم أحوالهم فدعا رؤس الأمراء وزعماء العساكر والكبراء وأخذ يمزق أديم عصمتهم بشفار شتمه وبشق ستر حرمتهم بمخاليب لعنه وذمه ونفخ الشيطان في خيشومه وألهب فيه نار غضبه وشومه وقال يا لئام وأكله الحرام تتقلبون في نعمائي وتتوانون عن أعدائي جعل الله نعمتي عليكم وبالاً وألبسكم بكفرانها خيبة ونكالاً يا نابذي لذمم وكافري النعم وساقطي الهمم ومستوجبي النقم ألم تطؤا أعناق الملوك بأقدام إقدامي ألم تطيرواإلى الآفاق بأجنحة إحساني وإكرامي ألم تفتحوا مغلقات الفتوح بحسام صولتي أما سرحتم في منتزهات الأقاليم سوائم تحكمكم بترعية دولتي بي ملكتم مشارق الأرض ومغاربها وأذبتم جامدها وأجمدتم ذائبها:
ألم أك ناراً يصطليها عدوكم
…
وحرزاً لما ألجئتم من ورائيا
وباسط خيري فيكم بيمنيا
…
وقابض شرعتكم بشماليا
ولا زال يهمهم ويغمغم ويهذرم ويبرطم وهم مطرقون لا يحيرون جواباً ولا يملكون منه خطاباً ثم ازداد حنقاً وكاد أن يموت خنقاً فاخترط السيف بيده اليسرى وهمز به على قمم أولئك الأسرى وهم أن يجعل رقابهم قرابة ويسقي من دمائهم نمل فرنده وذبابه وهم على تلك الحال في الخزي والإذلال باذلو أنفسهم ناكسو رؤسهم ثم تراجع وتماسك وملك نفسه قليلاً أو ثمالك فاغمد عن تشريقهم حسامه ولم يلق لأمره دبرة ولا قبلة أمامه فغلف غربه وشامه ثم نزل عن مركبه واستدعى على الشطرنج الكبير ليلعب وكان عنده ممن فاق جنده شخص يدعى محمد قاوجين ذو مكان مكين ومقام أمين مقدم على كل الوزراء مبجل دون سائر الأمراء وافر الطول مقبول القول مسعود الرأي ميمون الفصل مرغوب الفضل محبوب الشكل فتشفع الوزراء إليه وتراموا في حل هذا الأشكال عليه وقالوا ساعدنا ولو بلفظه وراقبنا ولو بلحظة واعمل معنا بهذا المعنى وهو:
ساعد بجاهك من يغشاك مفتقراً
…
فالجود بالجاه فوق الجود بالمال
فأجابهم والتزم أن برده عما تأزم به وأزم وراقب مجال المقال وراعى فرص المجال وشرعت أفكار تيمور تغور في أمر القلعة وتفور وجعل يستضوي أضواءهم ويستوري آرائهم ولا يسع كلاً منهم إلا القبول لما يستصوبه
رأيه ويقول ففي بعض الأحايين اتفق أن قال محمد قاوجين وقد زل به القضاء وأحاطت به نوازل البلاء أطال الله بقاء مولانا الأمير وفتح بمفاتيح آرائه وراياته حصن كل أمر عسير هب أنا فتحنا هذه القلعة بعد أن أصيب منا جانب من أهل النجدة والمنعة هل يفي هذا بذا أم هل يوازن هذا النفع بهذا الأذى فما احتفل بخطابه ولا اشتغل بجوابه بل استدعى شخصاً من البر قد أريه قبيح المنظر إلا أنه في هيئة ذرية يدعى هراً ملك إذا عرف سهك ووجه في السواد سدك أوسخ من في المطبخ واسنخ من في المسلح لعاب الكلب طهور عند عرقه وعصارة القبر حليب بالنسبة إلى مرقه فعند ما حضر لديه ووقع نظره عليه أمر بثياب محمد قاوجين فنزعت وبخلقان هراملك فخلعت ثم ألبس كلاً ثياب صاحبه وشد وسطه بحياصته ودعا دواوين محمد وباشريه وضابطي ناطقة وصامته وكاتبيه ثم نظر ماله من ناطق وصامت ونام وجامد وملك وعقار وأهل وديار وحشم وخدم من عرب وعجم وأوقاف وإقطاع وبساتين وضياع وخول واتباع وخيل وجمال وأحمال وأثقال حتى زوجاته وسراريه وعبيده وجواريه فانعم بذلك كله على ذلك الوسخ وأمسى نهار وجود محمد قاوجين الزنخ وهو من ليل تلك النعمة منسلخ
ثم قال تيمور وهو كالنمور يمور اقسم بالله وآياته وذاته وصفاته ووحيه وكلماته وأرضه وسمواته وكل نبي ومعجزاته وولي وكراماته وبرأس نفسه وحياته لئن آكل محمد قاوجين أحداً أو شاربه أو ما شاه أو صاحبه أو كلمه أو صافاه أو أوى إليه أو آواه أو راجعني في أمره أو شفع عندي فيه أو فاه بعذره لا جعلنه مثله ولا صيرنه مثله ثم طرده وأخرجه وقد سلبه نعمته وأخرجه فسار مسلوب النعم قد حلت في لحظة نوائب النقم فسحبوه بالولق ورآى نعمته على أقل الخلق واتصل غيره بالحلق وقطع منه الحلق ففلقت حبة قلبه أشد فلق ولم يزل على ذلك في عيش مر وعمر حالك وحاشا أن تشبه قضيته قصة كعب بم مالك فكان يستحلي مرارة الموت ويستبطي إشارة الفوت وكل لحظة من هذا الحيف أشد عليه من ألف ضربة بالسيف فلما هلك تيمور أحياه ورد عليه خليل سلطان ما كان سلبه جده إياه (وإنما أوردت) هذه السيرة لتقيس على هذا المثل نظيره وتعرف أخلاق الملوك ومعاملاتهم الغني والصعلوك وأن نظرهم نضار وأعراضهم بوار ودمار ومن أراد أن يطلععلى سر القضاء والقدر فليراقب شفتي الملك إذا نهى وأمر وقال من أحسن المقال:
قرب الملوك يا أخا القدر السمى
…
حظ جزبل بين شدقي ضيغم
وأعلم يا أبا الفضائل أن هذا الملك له شمائل وصفات وفضائل يستدل بظاهرها على باطنها ويتوصل بظهور باديها على حركات كامنها فإياك أن تغفل عن مراقبتها وتهمل حال عاقبتها بل أجعل شواهدها نصب عينك لتقرب من حياتك وتبعد عن حينك منها إذا رأيته رجع من الاصطياد ظافراً منه بالمراد وقد اقتنصه وحصله وملأ منه الحوصلة وسكنت منه بواعث الشره التي هي منفخ لواعج الطيش والسفه ومنها إذا رايته جلس في مجلس السرور وبسط لجبهة الكرم جناح النشاط والحبور وضم عن مطامح الحرص القوادم والخوافي وطلب من رؤساء المملكة الأنيس المصافي ومن ندماء الحضرة الجليس الصافي ومن مطر بي الأطيار البلبل والهزار ومن رقص بدفوف الأزهار صفق من ذي عود وطار فاستمع لهذا وباسط ذاك وطفق جلساؤه ما بين منصت وحاك فان هذه الأوقات لما فيها من علامات هي الانبساط وأيام الفرح والنشاط فاعمل فيها ما بدا لك وأطنب مقالك وكرر جوابك وسؤالك فانك في كعبة الأمن فاستلمها وقد هبت رياحك فاغتنمها والعب بإبطيك وصفق بجناحك وأهدر في قننقتك واسجع في تقبقتك فأن الوقت لك لا عليك والسعد الطالع ناظر إليك ومنها إذا رأيته جالساً صامتاً أو إلى الأرض باهتاً أو محمرة عيونه أو مضطر باسكونه أو أفعاله على غير استواء أو أقواله دائرة مع
الهواء قاياك والدخول عليه والمثول بين يديه فانه إذ ذاك يجعل ديار جسدك بلاقع ولو أنك النسر الطائر فتصير في مخاليبه اتعس واقع وعلى كل حال فليكن عندك لكل مقام من هذه المقامات مقال وإن كان السكوت أصلح فاغلق باب الكلام قطعاً ولا تفتح فكثيراً ما تخلص الساكت من البلاء وأفلح وناهيك النصيح بقوله الفصيح وهو:
وراقب مقام القول في كل مجلس
…
خصوصاً مقامات الملوك الأكابر
فكم من بليغ فوق ذروة منبر
…
رمته أفاعي النطق تحت المقابر
قال المفلح النجدي للمرشد المجدي جزى الله مولانا عن صدقاته أوفر صلاته وواصله بموائد إكرامه في عشيته وغداته فما أشمل إحسانه وحسناته وأسعد حركاته وسكناته وأوفر شفقته على قاصدي عتباته طالب أنت دليله كيف لا يفتح إلى الخير سبيله ويرجع إلى حصول المقام مبيته ومقيلة ثم إن اليؤيؤ والشفوق تركهم وطار إلى العيوق ثم رجع على الفور ووجهه يرف كالنور فدعا اليعقوب وتوجه وهو معه مصحوب وأخذا في السير إلى خدمة ملك الطير وفرعا في جبل يسامي في المثل قبة الفلك أو مركز الملك يستمد السحاب من ماء واديه وتسبح سماك السماء في بحر ناديه بعرق جبين الوهم من صعود عقباته ويقصر ساعد الفكر في سلم الهواء عن الترقي إلى أدنى درجاته ويستريح راقي الخيال في عدة مواضع عند قصده فروع هضباته فهو كما قيل:
وطود تلوح الشمس من تحت ذيله
…
إذا هي في كبد السماء استقرت
فلا زال يسيران وفي الجو يطيران اليؤيؤ أمام قائد الزمام والخجل وراءه ينشد هذا الكلام:
لكل إمام أسوة يقتدى به
…
وأنت لأهل المكرمات إمام
فوصلا من تلك المدارج إلى أعلى المعارج وانتقلا في تلك المسالك عن دركات المهالك وانتهيا إلى أوج رأيا ملكة النيران جاريه في حضيضه ودرر الدراري راكدة في قعر مغيضه يشتمل على مروج ورياض ومراع وغياض وبحار وحياض تنادي خبراتها سكان ربع المسكون انصبابها عليهم وفي السماء رزقكم وما توعدون رياض تلونت ومرج بازاهير تحسنت وأرض قال لها صانع القدرة إذا تمكنت تكوني كأخلاق الكرام فتكونت وأخذت زخرفها من رضوان خازن الجنان وازينت فولجا دار سلطنة العقاب بعد مقاسات عقاب العقاب كما قيل
مكاناً فيه سلطان الطيور
…
تصدر بالسرور على السرير
أطاف به صنوف الطير طرا
…
عكوفاً بالحضور وبالحبور
لكل في مباشرة مقام
…
يقوم به جليل أو حقير
قد اكتنفته الميمنة والميسرة وأحدقت به المقدمة والمؤخرة كل واقف في مقامه شاهينه مع كركيه وبازيه مع حمامه فالأنيس صاحب الظرف والكيس حامل القبر كالأوزان يترنم في مقابلة الإيوان ويمدح ملك الأطيار والأمراء والحضار والكبراء والنظار وينشدهم جليل الأوصاف ورقيق الأشعار فمما أنشده الأوزان من مناقب السلطان ووجه الخطاب إلى العقاب قوله:
مقامك أعلى أن يقوم يقوم بوصفه
…
بيان بليغ أو لسان فصيح
أجلتك عنقاً مغرب فاختفت فما
…
تلوح لطرف في البلاد طموح
والنسر الطائر المقدم على العساكر قد أظله بالجناح وليس عليه في طلبة سيادة الطير جناح رافع اللواء صاف في جو السماء رئيس الدير حامل القبة والطير كما قيل:
ونسر تفر الطير من قرب ظله
…
وفي ظله للسعد مأوى ومنزل
والسنقر في ثوبه الفهري وخلقة وخلقه النمري أمير سلاح الجوارح ورأس عساكر السوانح والوارح كما قيل:
هو السنقر العالي بهمته التي
…
تعلت على أيدي الملوك بها يده
والشاهين الدوادار عليه المصالح المملكة المدار قد تصدى لقضاء الحوائج لكل داخل وخارج ينظر في الولاية والعزل ويتعاطى الأمور بالجد لا بالهزل فيقضي المآرب ويوصل المطالب إلى الطالب كما قيل:
طويل العنق رحب الصدر ضخم
…
له في آل قسطنطين ضبط
تغشى من سواد العين ثوباً
…
عليه من دم الأحشاء نقط
والكركي الراطن بالتركي يتجلى في ثوبه المسكي كاتب الأسرار وصاحب الأخبار لسان المملكة ومحور الفلكه مستخدم السيف والقلم وفي الفضائل والفوضل نار على علم كما قيل:
وكركي يحيد الصقر عنه
…
شطر ثانيلهيبه بطشه وشديد بأسه
والتم المشهور ناظر الجيش المنصور صدر الديوان وقاضي الجند والأعوان كما قيل:
وتم تم دست الطير منه
…
كقاض زان أرباب الكتاب
عليه من المهابة ثوب مجد
…
كوجه الطائعين لدى الحساب
والطاوس كأزهى عروس في أفخر ملبوس مقدم على الخواص كالناظر الخاص ناشر مروجه الأرتياح يتجلى بجمال هيئة الفائق على الوجوه الملاح كما قيل:
ثوبه قد حار فيه
…
كل صباغ عليم
ولسان الحسن نادى
…
صبغة الله الحكيم
فيروق العين منه
…
فوق أوصاف الكليم
والبازي الأمير الكبير صاحب الرأي والتدبير أمير الميمنة قد رتب صفه وزينه كما قيل:
وباز أشهب عيناه حمر
…
يضيء وفي جناحيه النجاح
والصقر الشهم السابق في الطيران الوهم أمير الميسرة قد فاق بشهامته عسكرة كما قيل:
وصقران يلح في القفر ظبي
…
أتيح له من الجو أنصاباً
أقام بمخلب عن شهم سهم
…
ونسر عن قوى الناب نابا
والباشق الجاووش ورأس نوبة العساكر والجيوش
كما قيل:
نظر إلى الباشق في صيده
…
ينقض كالسهم من الراشق
يقفو حماماً مثل معشوقة
…
اتبعها الحب حشا العاشق
والببغاء تتجلى في الحلة الخضراء وتنثر من الخاتم الياقوت درر الثناء وتخبر بعجائب الهند وتسرد غرائب رغائب السند كما قيل:
تسمت درة لكن كساها
…
حكيم الصنع ثوباً من زبرجدومن لها بمنقار عقيق وخاط شعارها من عين عسجد
والهدهد لابس التاج ينهى إلى موقع الدراج أخبار المارة والأحوال السارة كما قيل:
وهدهد ألبس ثوب ألبها
…
فعم إذ خص بصدق النبا
أغرب إذ شرق في حسنه
…
ففاق أهل التاج حتى سباد
والحمام مقدم البريديه يتردد في مواقف العبودية والعصافير كالمماليك الأجلاب في الكتاب يدرسون العلم والآداب والبلبل والهزار ومطوقات الأطيار وساجعات الأشجار مسبحات الواحد القهار يتناشدون ويرددون نغمات الأوتار ومطربات رنات الأوطار وضروب الموسيقاه من حنك المنقار والشجر ورق الزرزور وذوات الهديل من الطيور حتى جناح الزنبور تغرد فتخجل العود والطنبور وزواجر الطير تبشر بالفرح والخير وأنواع الجوارح في الحافات والطير في الجو صافات كل يفدي ويقدم جسده وروحه ويسبح من آتاه الملك كل قد علم صلاته وتسبيحه
فتقدم اليؤيؤ إلى الحضرة والملك في أبهى نضره وقبل مواطئ سلطانه ووقف من مقام خدمته في مكانه وقال شخص عارف بطرائق السلوك يليق لخدمة الملوك واقف بالباب يروم تقبيل الأعتاب يطلب لذلك الدستور والأنعام بآذان الحضور ليشمله النظر الشريف ويحظى بحظ وريق وريف هل يرجع كالمصروف عن خدمته أو يدخل كالدولة والإقبال فعطف بالقبول وأذن له بالدخول وسمح بالمثول فتوجه اليؤيؤ على عجل إلى الحجل فدخل وهو من الحياء متأثر وفي ذيل الدهشة والهيبة متعثر وعليه غلالة سابوريه وخلعة نيسابوريه ستشملا بشمله كافورية كأنه شيخ الصوفية فلما وقع نظره على العقاب قوى جأشه ورفع الحجاب وحل عقدة لسانه من لكنة الخطاب ثم قبل الأرض ووقف وأنشد بديهاً وما وقف:
ولو أن فقفوراً وكسرى وتبعاً
…
رأوك لخروا بين أيديك سجدا
وما إن وفوا حقاً عليهم وإنما
…
على قدر ما في الوسع مد الفتى يدا
فابتدر اليؤيؤ بلفظ يخجل اللؤلؤ للحجل يريد إزالة الدهشة والخجل وطيب المقام ببسط الكلام أيها الغريب الأريب الأديب النجيب رأيناك روحاً ملخصاً وعقلاً مشخصاً صحبتك مرغوبة ومنادمتك مطلوبة لقد حللت محل الأمن والأماني وعقدة السعد والتهاني فدع دهشتك وذر
وحشتك وأفصح بكلامك عن كمالك وعن مقامك بمقالك فعباراتك عقيلة العقل وواسطة عقود النقل فان كان عندك نصيحة تصلح للملوك أو وصية ترشد أهل السلوك بين العدل بنورها طرائقه ويزين العقل بمجازها حقائقه وتستقيم بها الأمور ويستفيد منها الجمهور أو نوع رفع مظلمة أو حط مأثمة أو كشف بلوى أوبت شكوى أو حاجة في نفسك وما قاسيته في يومك وأمسك أو لطيفة تشرح بها الصدور وتبسط بإيرادها الحضور فهذا وقت تشنيف المسامع بجواهرها ونثر دررها على بادي الحاضرين وحاضرها فان المحل قابل وعنك الإصغاء إلى أطواق لطائفك مائل ومحال الحلم لذاك واسع وسجال الكرم داسع وفاعل الصنيعة صانع وكف اللطف معط لا مانع فقال الحجل بعد أن زل الخجل وحال الوجل وجال الزجل من غير ريث ولا عجل الحمد لله الذي آسى جراحنا وأحيا بعد التلف أرواحنا قد كنا في بيداء الحيرة والهلاك وظلماء الضر والخوف في انهماك ومرت علينا سنون ونحن في الخسار والغبون ونار الاشتياق تضطرم وبواعث تقبيل الأعتاب الشريفة السلطانية في الفوائد تزدحم إذ قد انتشر جناح عدلها ونجاح ظلها وسماح وابلها وطلبها وكرر كل لسان محامد فضلها واشتهر لكل حيوان مآثر نبلها فهي أمان كل مخوف وملجأ كل ملهوف لكن كانت العوادي تقرع تلك الدواعي وغواشي الحوادث تعترض دون المساعي تارة باكتناف المخلوف وطوراً باحتفاف الخواطف وحيناً يضعف المباني وآونة بعدم المعاون والمعاني والآن يا ملك الزمان بحمد الله المنان أزحنا المهالك والمهاوي واسترحنا من ضرب المسالك والمساوي إذ قد طرنا بجناح النجاح من جنح الجناح وصرنا إلى محل السماح والرباح فزالت
العلل والسد الخلل وحللنا في عقوه منيفة وسدة شريفة فأمنا شرك المكايد وشرر المصايد وتوسدنا مهاد الدعة واستظللنا جناح الأمن والسعه وانه قد قيل عدل السلطان خير من خصب الزمان وقيل الملك العادل والإمام الفاضل كالأب الشفيق والوالد الرفيق يعامل بالسوية ويحفظ الرعية ويحرسها من برد الماء وحر النار كما يحرس الوالد الولد من هبوب الهواء وشم الغبار وقلت:
نزلنا في ذرى ملك كريم
…
يرانا مثل أولاد الكرام
أضل نوائب الأيام عنا
…
فلم ترنا ولا في الاحتلام
ولا مطر السماء يصيب منا
…
كأن مقامنا فوق الغمام
فقال الملك أهلاً وسهلاً وناقة ورجلاً طب قلباً ونفساً واهنأ معنى وحساً لقد حللت بساحة الاستراحة وباحة للأمن مباحة وقاحة ليس لصائد بها وقاحة ولا لجارحة جارح بها جراحه وقد حصلت من جواسر الكواسر ومناسر النواسر ونزلت بوادي الخير ونادى ملك الطير فأكرمت صدر منزلك ونلت غاية أملك فاذهب بسلام وأت بما لك من خادم وغلام وأهل وثقل وفرس وحمل وأثاث وقماش ومعاش ورياش وتخير مكانا تختار وجار احسن الجوار فقال أيها الملك السعيد أنا شخص فقير غريب فقير لا ابرق لي ولا حصير وقلت:
أنا لولا الحيا وخوف العار
…
لم أكن في الأنام إلا عاري
من رآني فقد رآني وبيتي
…
ودثاري ومركبي وشعاري
غير أن لي قرينه مثلي فقيرة مسكينة صابرة على السراء والضراء قضينا معاً ماضي الصباح والمساء لم يترك عقيل الحوادث لنا داراً ولا بد العوابث عقالاً ولا عقاراً ولا مخلب العوائث جاراً ولا جواراً ولا ناب الكوارث ولداً ولا قراراً والويل كل الويل لمن كان مستقره في طوارق الليل ومن حوادث الدهر على طويق السيل وقد طال الكلام في كيت وكيت وقضايا ذيت وذيت إلى أن لم يبق في البيت سوى البيت ولما بلغ العرم الزبى وحزام الهم الطبي وما حال من يرى أفلاذ كبده تتقطع ويشاهد كل وقت قرة عينه بمخاليب الجوارح تتبضع ولا يد للمدافعة تمتد ولا نهضة للممانعة تشتد فينشد:
كفى حزناً أني أرى من أحبه
…
رهين الردى يرنوا لي بطرفه
أود بمالي لو يفدي ومهجتي
…
ولكن يد التقدير غالت بحتفه
ولما تكرر ضر أيوب وتضاعف حزن يعقوب تركنا تلك بالاضطرار وعلى أبوابك الشريفة وقع الاختيار فرصدنا للتحويل أيمن الساعات واخترنا للرحيل أحسن الأوقات ثم صممنا العزيمة ونادانا هاتف السعد أسرعا نديمي جذيمه فقطعنا المهامه والقفار وسرينا الليل والنهار فكم رغنا عن أبي الحصين ولقينا مالا قى الحسين بكربلاء من الكرب والبلاء وكم لجأنا من بني زغار إلى كهف وأجم وغار
واحترزنا من قنافذ وأفعوان ذي سم نافذ ونفرنا من حبات أسراك وحدنا عن أوهاك شباك واخترنا الجوع وعدم الهجوع على الحب المبذور لاصطياد الطيور كل ذلك في المسالك والسعد قائدنا والفلاح رائدنا واليمن دليلنا وظلال أمنك ظليلنا وفي تهاني سعدك مبيتنا وكنف فضلك مقيلنا حتى حللنا بدار الأمان ونزلنا بحرم مولانا السلطان فنادانا فضل خالق الورى لا تخافا أنني معكما أسمع وأرى ألقيا عصا التسيار وانزلا عند خير جار فتركت القرينة في منزلة حصينة وكل بلادك أمينة وأممت مقامك الشريف وجنابك المنيف مقاماً عظيماً وجناباً كريماً ومجلساً عالياً وباباً سامياً فتوخيت ثم نوديت:
هذا هو الملك الذي من بابه
…
يعطي المخوف أمانة لزمانه
عم الورى إحسانه فكأنما
…
أرزاقهم كتبت على إحسانه
ثم نهض اليعقوب من مكانه وقبل الأرض بين يدي سلطانه وتوجه فائزاً بأمنيته حتى وصل إلى حليلته فأخبرها بما جرى بتخيير المشتري وكيف رأي اليؤيؤ والملك وصورة ما فعل به وسلك وكيف تلقى مقدمة وأكرمه الملك بما أكرمه وقرر كيف كان خطابه وعلى أي صورة حسناً رد جوابه فسرصدرها وانشرح وطارت بهذا الأمر من الفرح ثم توجها إلى حضرة السلطان وحصل لهما من الأنعام والإحسان ما نسيا به الأوطان وسلكا بنفس مطمئنة في خدمة الملك مع الجماعة وأهل السنة وخوطب اليعقوب من الملك أسكن أنت وزوجك الجنة فلما استقرت بهما الدار وتبدل انكسارهما بالأنجبار أفيض عليهما من الصدقات والادرارات والنفقات ما لم يخطر ببالهما ولا دار على خيالهما وحصل لهما الأمن والأمان والسلامة والاطمئنان وانشرحت
خواطرهما وابتهجت بالسكون سرائرهما واستمر النجدي ملازم الخدمة وتوفرت عند الملك وابتاعه له الحرمة وسمعت كلمته وتزايدت حشمته ولم يزل صبيح الطلعة نجيح السعي والنجعه وضئ المنظر مقضي الوطر يرتع على بساط النشاط ويطير في رياض الأمن والانبساط مؤدياً شرائط الخدمة على الوجه الأحسن قائماً بمواجب العبودية مهما أمكن إلى أن تميز على سائر الخدم وتقدم على السابقين في الخدمة وثبات القدم ناشراً ألوية النصيحة ناثراً الأثنية الصريحة منادماً باللطائف الصحيحة والنوادر المليحة بالعبارات الفصيحة والإشارات الرجيحة حافظاً زمام الاحتشام مراعياً مقامات الكلام على مر الأيام وكر الشهور والأعوام ثم ختم لكلام في هذا المقام بأعظم ختام وهو حمد الله الملك العلام وشكره المستدعي لمزيد الأنعام والصلاة والسلام على سيد الأنام وآله وأصحابه السادة الكرام عليه وعليهم التحية والسلام وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.